id
int32 0
61k
| text
stringlengths 4
31.7k
| text_type
stringclasses 7
values | context
stringlengths 4
31.7k
| context_type
stringclasses 6
values | source_language_name
stringclasses 1
value | source_language_code
stringclasses 1
value | source_title
stringlengths 0
80
| source_url
stringlengths 0
620
|
---|---|---|---|---|---|---|---|---|
1,900 |
أصل المصطلح فرنسي يُطلق على الجنود الذين يتقدمون إلى مناطق جديدة.
|
sentence
|
كان يُعتقد في بعض الأوساط الفكرية المؤثرة أنّ الفن يتقدم نحو هدف؛ وهذا المضمون يشتمل عليه مصطلح «الطليعية» (Avant-garde)، الذي يُوصف به الفنّانون الذين يبتكرون أرضية جمالية جديدة. أصل المصطلح فرنسي يُطلق على الجنود الذين يتقدمون إلى مناطق جديدة.
|
paragraph
|
Arabic
|
ar
|
الفنّ التجريدي: بين الماضي والحاضر - منصة معنى الثقافية
|
https://mana.net/abstract-art/
|
1,901 |
يُعدّ غرينبيرغ شخصية مهمة في تاريخ الفن التجريدي، وذلك لأمرين: بوصفه مناصرًا رائدًا في مسألة تفوق الفن التجريدي على غيره من أنواع الرسم، وتأكيده للقوة التي امتلكها هذا الفن. كان ناقدًا في اللجنة الأمريكية للحريّة الثقافية التي تمولها الدولة، وهي مجموعة تم إنشاؤها لتعزيز الفن الأمريكي على المستوى الدولي.
|
paragraph
|
لا توجد منتجات في سلة المشتريات.
No Result
عرض جميع النتائج
الثلاثاء, سبتمبر 10, 2024
No Result
عرض جميع النتائج
No Result
عرض جميع النتائج
# الفنّ التجريدي: بين الماضي والحاضر
## ترجمة: أنطونيوس نادر
AA
AA
إعادة تعيين
فنٌ مليء بالتحديات
ثمّة خطٌ رفيع يفصل بين الفن التجريدي ومجرد الزخرفة، ولوحة «رقم 32» (نُشرت عام 1950)، لجاكسون بولوك تتأرجح بين هذا الخطّ. فهي لا تشير إلى معنىً واضح، ولكن لا يمكن القول إنّها بلا معنى على الإطلاق. كما أنّها ليست معبّرة بشكلٍ مباشر، ولا يعني هذا أنها لا تعبّر عن مدلولٍ ما. تحمل هذه اللوحة الكثير من المضامين عن الفن الغربي بالنسبة إلى شخصٍ خبيرٍ في تاريخ الفن؛ أما بالنسبة إلى شخصٍ عادي، فقد يراها عملًا مبتذلًا بالكاد يعبّر عن أمرٍ ما.
اللوحة شبكة من الخطوط وبقعٍ من الألوان، رُسمت عن طريق صبّ طلاءٍ رخيص بعشوائيةٍ مباشرة على القماش. تتكون اللوحة من طلاءٍ أسود فقط وقماشٍ خام. واللوحة ضخمة؛ إذ يبلغ طولها تسعة أقدام وعرضها خمسة عشر قدمًا، وتغطي مجال رؤية المشاهد أثناء اقترابه منها. تقليديًّا، حتى اللوحات التجريدية تتكون من أجزاءٍ مترابطة مع بؤر تركيز (emphases) وعمقٍ يُنقل من خلال اللون والظلال، ولكن «رقم 32» ليس لها أجزاء؛ إنّها تتكون من تعالقات، والبؤرة فيها تكمن عبر امتداد سطح القماش المستطيل.
يمنحها ما سبق عمقًا سطحيًا، وربما لا عمق فيها: مجرّد طلاء على قماش. إنّها عبث بالشكل واللون. حتى اسمها، ببساطة رقمٌ معيّن – رقم 32 – يجعلها تنأى بنفسها عن أي فكرة مفادها أنها تعكس مدلولًا محدّدًا. تشير عناوين أعمال بولوك الأخرى إلى نوعٍ من الاختبار الشخصي، وإلى الاستخدام السمفوني المتعدد الطبقات للون والملمس؛ خذ مثلًا لوحاته التي تحمل اسم: «إيقاع الخريف»، و«الضباب الأرجواني»، و«الأقطاب الزرقاء»، و«انعكاس الدنقلة الكبير».
هذا لا ينطبق على لوحة «رقم 32»؛ شكلها الخام وبساطتها دليل على أنّ الفنان لم يخطط مسبقًا لرسمها؛ أيّ أنّه لم ينتق الألوان ولا الطبقات. يبدو بولوك هنا أكثر حضورًا، من خلال لمساته الحادة. بالنسبة إلى مؤيديّ عمل بولوك، تختصر هذه اللوحة خلاصة نظرة الفنان الجمالية. أما بالنسبة للبعض الآخر، فهي لوحة مبتذلة.
وصف جوزيف بويس -النحات الألماني في فترة ما بعد الحرب- الفنَّ التجريدي الأمريكي بأنه مجرد «تغليف»، أيّ سطح بلا محتوى. في هذا الصدد، قد يتفق البعض أن لوحة «رقم 32» تجسد فراغ الفكر والشعور ذاك. فقد رأى الروائي والناقد الفني روبرت كوتس أن فن بولوك لم يكن سوى «انفجارات» غير منظمة من الطاقة العشوائية. غير أنّ طائفة كبيرة من متذوقي الفن التجريدي لا تروق إليهم أعمال بولوك ويرونها فنًّا محيرًا، حتى إنّ بعضهم يراها إهانةً للذوق أو الحسّ السليم.
عُرف بولوك بلقب: «جاك فنان النقط» (Jack the Dripper) [1] في الأوساط الإعلامية المشككة بعمله حيث ادعى كثر أن أيّ شخص يمكنه أن يرسم كما يرسم بولوك إلّا أنّ أحدًا لم يتجرأ على فعل ذلك.
«رقم 32» - جاكسون بولوك«رقم 32» – جاكسون بولوك
بيد أنّ هذا هو مغزى الفن التجريدي في التقليد الغربي: إنّه تحدّ. وفي ظل الكثير هذه التحديات، تُعد لوحة « رقم 32» اللوحة الأكثر تمثيلًا لهذا الفن.
قصة الفنّ التجريدي
مسار قصة الفن التجريدي مضمّنة في الدراسات التاريخية الفنية، إلّا أنّ المحطات الرئيسة لهذا المسار كانت محط تغييرات مفاجئة كلما اكتشف مؤرخوّ الفن حقائق جديدة.
انطلق مسار الفن التجريدي بدءًا من القرن التاسع عشر وما تلاه؛ حيث استفاد الفنانون من مادة الطلاء والجوانب الشكلية للرسم مثل اللون والدرجة والخطوط. يُعرف هذا الانشغال بالجوانب غير التمثيلية (non-representative) للفن باسم «الشكلانية»، لأنّه انشغال «بالشكل»، أيّ بتوسل شكل المحتوى بدلًا من المحتوى في ذاته. بالنسبة إلى الفنانين في القرن التاسع عشر، صُنّف الفن التجريدي على أنّه «فنٌّ من أجل الفنّ»، وكانت الفكرة الشائعة مفادها أنّ المتذوق للفن يمكنه الاستمتاع بالعمل دون اللجوء إلى معنى أو حتى أي شيء آخر يمثل أمرًا ما.
تمثّل لوحة «الموسيقى الهادئة باللّونين الأسود والذهبي – الصاروخ الساقط» (1872)، للفنان جيمس مكنيل ويسلر هذا الاتجاه الذي تبلور لاحقًا في الفن التجريدي. إنّ مشهد ويسلر الغامض من الناحية المكانيّة يقترب إلى التجريد، وذلك بمحاولته نقل الشعور أو الانطباع الخاص بالمشهد بدلًا من إعادة إنتاجه بحذافيره.
«الموسيقى الهادئة باللونين الأسود والذهبي - الصاروخ الساقط» (1872-1877) - جيمس أبوت مكنيل ويسلير«الموسيقى الهادئة باللونين الأسود والذهبي – الصاروخ الساقط» (1872-1877) – جيمس أبوت مكنيل ويسلير
في عام 1877، انتقد جون روسكين – أبرز نقّاد بريطانيا في ذلك الوقت – عمل ويسلير هذا نقدًا لاذعًا فشبهه «بمن قام برمي الطلاء في وجه الجمهور». تأثر ويسلر بهذا الكلام، فرفع دعوى قضائية ضد روسكين، بيد أنّه خسرها لأن المسؤولين عرضوا اللوحة -خطأً- مقلوبةً على المحكمة. أفلس ويسلير بسبب هذه القضية، لكن مسيرة تطور الفن التجريدي استمرت.
من ناحيةٍ أخرى، تحديد أول فنان تجريدي في العالم موضوع نزاع. في نظر أبحاث تاريخ الفن التقليدية، كان فاسيلي كاندينسكي – فنان روسي الجنسية رسم لوحات تجريدية بالكامل في مطلع عام 1911- هو أول فنان تجريدي.
لم ينل الفن التجريدي الرائد لهيلما أف كلينت تقديرًا إلا قبل سنوات قريبة. هذه صورة للمعرض الشهير في متحف غاغينهايم، عام 2018 .لم ينل الفن التجريدي الرائد لهيلما أف كلينت تقديرًا إلا قبل سنوات قريبة. هذه صورة للمعرض الشهير في متحف غاغينهايم، عام 2018 .
ولكن في الآونة الأخيرة، وبفضل المعرض الرائد في متحف مقاطعة لوس أنجلوس للفنون في عام 1986 الذي حمل اسم «الروحانية في الفن: الرسم التجريدي 1890 – 1985»، وقع الاختيار على هيلما أف كلينت كأول رسامة تجريدية. بدأت كلينت في رسم لوحات تجريدية بدءًا من عام 1906، وحملت مجموعتها عنوان «الفوضى البدائية». كانت الفنانة متكتمة في ما يتعلق بأعمالها التجريدية، ولم تُعرض أيّ منها في معارض عامة، وبقيت غير معروفة حتى أزيح عنها الستار مؤخرًا.
ولعل الجدال حول هوية أول من مارس الفن التجريدي سيستم، لكن الحقيقة الأكثر أهمية هي أن العديد من الفنانين الأوروبيين البارزين قد توصّلوا في أعمالهم إلى التجريد بحلول الحرب العالمية الأولى. لقد وجد كل منهم طريقته الخاصة في التخلي عن الفن التشخيصي (figurative painting). وجديرٌ بالذكر أنّه لم تكن هناك حركة «تجريدية» دولية ذات رؤية أو بيان مشترك.
في ضوء ذلك، فإن السؤال الملحّ حقًا هو: لمَ لمْ يتبنى الفنانون الغربيون الفن التجريدي على امتداد قرون عديدة؟ لماذا كان التجريد غير ضروري أو لا معنى له أو غير مناسب أو حتى لا يمكن تقبّله لقرونٍ متوالية في الفن الغربي؟
ظهرت العديد من التفسيرات لشرح ذلك. إحدى النظريات الأكثر وضوحًا هي أن ظهور التصوير الفوتوغرافي بوصفه شكلًا من أشكال الفن، إضافةً إلى تطور الفن الحديث، سببان رئيسان لإزاحة الرسم التشخيصي.
ثمّة إجابات أخرى غير ملموسة لاستكشاف الأسباب: ربما عندما أصبحت الأعمال الفنية قابلة للاستهالاك بشكل متزايد، مثل السلع، بات من السهولة فصل اللوحات والمنحوتات عن التجارب المحددة لمبدعيها. ربما أدت الحداثة في الغرب إلى إفراغ الفن من المحتوى التشخيصي؛ مما دفع الفنانين أيضًا إلى التخلي عن التمثيل التشخيصي.
كل من هذه الإجابات معقدة وتتطلب الكثير من الشرح، ولا يمكن إلا أن تكون تخمينات. لا توجد إجابة واضحة لهذه المسألة. ربما يكون من الأفضل طرح السؤال حول سبب تقبّل الفن التجريدي فنًّا من الفنون الرسمية في تاريخ الفن الغربي في مرحلة معينة على علماء الأنثروبولوجيا بدلًا من طرحها على مؤرخي الفن. فما هو واضح أن الفن التجريدي كان موجودًا دائمًا في مناطق أخرى من العالم.
ما جعل الفن التجريدي فنًّا حديثًا على وجه التحديد في العالم الغربي هو نظام المعارض، الذي أعطى القيمة الفنية للأعمال المعروضة. وكما هو واضح فقد ازدهر التجريد لآلاف السنين المناطق الشرقية والجنوبية من العالم، دون عناء التحقق من مكانة الأعمال المعروضة في الصالونات [والمعارض، كما هو في العالم الغربي].
الواقع الافتراضي و«الافتراضية»
يتبنى بيبي كرمل وهو مؤرخ فني، في كتابه « الفن التجريدي: تاريخ عالمي»، فكرة أنّ الفن التجريدي كان دائمًا موجودًا بشكل طبيعي عندما ننظر إليه نظرة شاملة وعالمية، بيد أنّه يتحاشى طرح نظرية عن تطور الفن التجريدي. بالنسبة إلى كرمل، فإنّ هذا الفنّ متجذر في العالم الحقيقي، وهو ليس فنًّا «مجردًا» على الإطلاق، كما أنّه تقليد عالمي وليس محليًا.
في دراسته حول الفن التجريدي يقسم العمل الفني إلى خمس فئات واسعة تنتمي إلى العالم الحقيقي: الأجسام، والمناظر الطبيعية، والكون، والبنى، والعلامات والأنماط. من خلال فحص الفن التجريدي بهذه الطريقة، يرى كرمل في اللوحات التجريدية موضوعات قابلة للتحليل، بعكس النقاد والمؤرخين الأرثوذكسيين الذين رأوا فيها مجرّد توليفات شكلية مكوّنة من لون وشكل.
ربما يكون من الأفضل أن يطلق على الفن التجريدي: فن ما تم تجريده (abstracted art)؛ لأنّ الفنانين التجريديين عادةً ما يستخلصون ويجرّدون تعبيرات التجارب في شكل ولون، أكثر من كونها توليفات مكونة من شكل ولون. ومرّد ذلك الطبيعة الجوهرية للرسم والنحت؛ فهما (الشكل اللّون) وسيطان للتعبير، مثل الشاشة أو المسرح لخيال الفنان. كما هو الحال في المسرح أو السينما، فإنّ جمهور اللوحة أو المنحوتة يعلّق معتقداته من أجل أن يتقبل المشهد.
من المفيد التفكير في اللوحة التشخيصية التقليدية أو النحت على أنها حقيقة افتراضية. إذْ استخدم الفنانون لقرون عديدة الحيل البصرية -مثل المنظور الخطي، والتقصير المسبق، والتظليل- لمحاكاة الطريقة التي ندرك بها الأشياء في الفضاء الحقيقي. إنّ المشاهد تُنشأ في فضاء افتراضي – سواء كانت القاعدة التي تدعم التمثال أو القماش – ليراها المشاهدون بوصفها خدعة بصرية.
«القديس بطرس شفاء أحد الأشخاص وبعث تابيثا من الموت» ماسولينو دي بانيكال. اعتمد الرسم الغربي قبل القرن العشرين على الحيل البصرية لخلق واقع افتراضي. إحدى هذه الحيل هي المنظور الخطي، وهذه اللوحة هي أول مثال لاستخدام نقطة تلاشٍ متسقة.«القديس بطرس شفاء أحد الأشخاص وبعث تابيثا من الموت» ماسولينو دي بانيكال. اعتمد الرسم الغربي قبل القرن العشرين على الحيل البصرية لخلق واقع افتراضي. إحدى هذه الحيل هي المنظور الخطي، وهذه اللوحة هي أول مثال لاستخدام نقطة تلاشٍ متسقة.
يستمتع مشاهدوّ الأعمال الفنية العظيمة معنى ما يُرسم، ويقدرون الطريقة التي يتجلّى فيها الوهم عبر تمازج اللون والشكل.
يبقى الفن التجريدي، إلى حدٍ ما، ضمن إطار التجربة الجمالية. فقد سعت حركات الفن الحديث التي أدت إلى التجريد -أيّ «مدارس الفن»، مثل الانطباعية والفاوفية والتكعيبية- إلى تمثيل العالم بشكل مختلف عن كل الفنون التي سبقتها. إذْ ادعوا الاقتراب من الحقيقة الذاتية عبر تهميش جميع الحيل الوهمية التقليدية التي حاولت إعادة إنتاج الواقع بحذافيره كحقيقة موضوعية.
«الأحمر والأصفر والأزرق» (1925) واسيلي كاندينسكي. كان كاندينسكي يعدّ لفترةٍ طويلة أب الرسم التجريدي الغربي.«الأحمر والأصفر والأزرق» (1925) واسيلي كاندينسكي. كان كاندينسكي يعدّ لفترةٍ طويلة أب الرسم التجريدي الغربي.
بالنسبة إلى هذه المدارس، أصبح الفن أقل من أن يوصف بأنّه واقع افتراضي، لكنه مع ذلك احتفظ بالافتراضية، وأصبح افتراضيًا. لقد أخذ الفن التجريدي مسار التطور هذا إلى أقصاه: من الواقع الافتراضي إلى الافتراضية.
ماذا تعني «الافتراضية» هنا؟ إنّها الوجود كجوهر وتأثير، ولكن بدون اللجوء إلى الواقع. اللوحة التجريدية التي رسمها كاندينسكي، على سبيل المثال، ما زالت تُعدّ علاقة متبادلة بين الشكل واللون، و تعتمد على الرسم كمستوى تخطيطي: إنها نافذة تطلّ على «الواقع» الفردي الذي تصوّره كاندينسكي.
وما تزال العناصر في لوحات كاندينسكي تحظى بعلاقة متبادلة، كما هو الحال في فضاء الواقع الافتراضي للوحة التشخيصية؛ فجوهر الرسم سليم إذ إنّ ذلك الفضاء الافتراضي ما زال موجودًا. عندما يكون الفن التجريدي بناءً خالصًا، ويتخلص من المساحة الافتراضية الملازمة للرسم والنحت، يصبح متميزًا عنهما.
وصف دونالد جود الفنان التخفيفي (minimalist) مثل هذه الأعمال الفنية بأنها «أجسام محدّدة» (Specific Objects). إنّه مصطلح غير دقيق، ولكنه يصلح لإظهار أن مثل هذه الأعمال الفنية ليست رسمًا ولا نحتًا، ولكنها فئة أخرى تمامًا.
رأى دونالد جود أن أعماله وأعمال العديد من معاصريه تشغل مساحة هجينة، لا هي لوحات ولا هي نحت. عمل دون عنوان لدونالد جود.
استخدم جود هذا المصطلح لوصف أعماله الخاصة، ولكنه ينطبق على لوحات كازيمير ماليفيتش وفرانك ستيلا أحادية اللون، والتي تجعل اللوحة تندمج مع نفسها بالكامل، من أجل الوصول للتأثير الذي يأمل العمل في تحقيقه.
في مثل هذه الأعمال، لم يعد قماش اللّوحة (أو القاعدة) سطحًا تتفاعل فيه الأشكال والألوان في الفضاء الافتراضي. بدلاً من ذلك، تتفاعل الأشكال والألوان في الفضاء الحقيقي، في فضائنا.
تختلف معايير النجاح أو الفشل لهذه الأعمال عن الخصائص التقليدية للرسم والنحت. رأى جود أنّ خصائص الرسم والنحت تقف في طريق ما أراد تحقيقه من خلال اللون والشكل. في رأيه، كان لـ «أجسامه المحددة» تأثيرًا أحدّ من غيرها.
الواقع والأشكال الجديدة للإدراك الحسّي
الرسم نفسه له ثلاثة أنواع عامة من التجريد؛ أولًا، ثمّة أسلوب تعبيري تُرسم فيه الأشكال بحركاتٍ غير مقيدة؛ ثم هناك التجريد الهندسي حيث يتم هيكلة الأشكال؛ أما النوع الثالث، فهو تجريد مجال اللون حيث يتم عرض مساحات من الألوان بطريقةٍ لا شكل واضح لها.
لم تكن هذه «الأنماط» (styles) أنماطًا عرضيةً أو تعتمد على ذوق أو ميل الرسام كوسيلة لتحقيق هدفٍ ما من البحث الفني. وخير مثال على ذلك هو الفنان الذي غالبًا ما ينظر إلى عمله على أنّه ذروة التجريد الهندسي: بيت موندريان. إنّ لوحات بيت موندريان المكونة من شبكات (grids) ذات الخطوط السوداء والأجزاء الملونة على خلفية بيضاء؛ تهدف إلى استحضار «حقيقة أعلى».
بالنسبة إلى موندريان، كان الفن في جوهره معارضًا للواقع؛ «لأن الواقع يتعارض مع الروحي». بغض النظر عن هذه اللوحة الأشهر لموندريان، فإنّ جوانب الرسم التي تهم هذا الفنان حقًا لم تكن الجوانب المحددة للموضوع -أيّ ماذا أو ما يتم تصويره في اللوحة مثلًا- بل الجوانب القابلة للفهم عالميًا للشكل والخط واللون. إنّ لوحات موندريان، مثلها مثل لوحات الفنانين الآخرين، هي محاولة لاستخلاص الشكل واللون من أجل الاقتراب من ذلك الجوهر العالمي والروحي للفن.
عبّر موندريان عن رغبته في الوصول إلى «أساس» الأشياء من خلال الحدس، كالعديد من الفنانين التجريديين الآخرين في النصف الأول من القرن العشرين الذين رغبوا في الوصول إلى قوى غير مرئية حولنا، ولكنها معروفة أو محدوسة.
«التكوين الثاني باللون الأحمر والأزرق والأصفر» (1930) - بيت موندريان«التكوين الثاني باللون الأحمر والأزرق والأصفر» (1930) – بيت موندريان
في أواخر القرن التاسع عشر، لاحظ العلماء بشكلٍ أفضل مما سبق القوى غير المرئية مع انتشار التقنيات الجديدة، وأصبح من الواضح أن العالم أرحب مما يبدو للعين. في الوقت نفسه، ظهرت حركات روحية بديلة جمعت بين الأفكار الأفلاطونية والتصوف.
كان كلينت وموندريان من بين العديد من الفنانين الذين انغمسوا في أشكال الروحانية خارج العوالم التقليدية للدين. اعتقدت كلينت أن لوحاتها هي وحي عالم روحي، وأن مهمتها كانت العمل «على مستوى روحاني» لتمثيل روح الإنسان، بدلًا من صورته الفانية.
بحلول عشرينيات القرن الماضي، كانت نظرية فرويد عن للعقل البشري قد تغلغلت أيضًا في عالم الفن. كذلك السريالية، وهي حركة منظمة بإحكام بدأت مع بعض الفنانين الذين سعوا إلى التنقيب عن الإمكانات الإبداعية للعقل الباطن، وهي الحركة الثقافية التي كانت سائدة في أوروبا بين الحربين العالميتين.
لم تكن السريالية دوغمائية في محاولتها لاستكشاف اللاوعي، ولذلك ظهر عدد من الأساليب والطرق لمحاولة إخراج اللاوعي إلى السطح. إحدى هذه الأساليب كان الرسم الآلي (Automatism)، وهي عملية يتخلى فيها الفنان عن السيطرة الواعية لليد التي ترسم أو تصور. في هذا المجال، تبنى الفنانون مثل أندريه ماسون وخوان ميرو الفرصة لبناء صورهم باستخدام حركات حرّة، وحتى إلقاء الطلاء على القماش.
طور أرشيل غوركي -هو مهاجر أرمني عاش في الولايات المتحدة- أسلوبًا في الرسم يدمج بين الرسم الآلي وتجريد مجال الألوان. لوحاته في الأربعينيات حجمُها ضخم – ومرد ذلك تأثره بأعماله السابقة كفنان جداري مُعيّن من الدولة خلال السنوات الأخيرة من الكساد الكبير – لكنها معبّرة وغنائية في الرسم بالفرشاة.
ألهم إدماج غوركي للأنماط جيلًا واسعًا من الفنانين الأمريكيين في فترة ما بعد الحرب لاحتضان التجريد الواسع النطاق. ما نسميه الآن «التعبيرية التجريدية»، وكان ذاك الجيل في الواقع مجموعة فضفاضة من الفنانين الذين يستخدمون أنماطًا متعدّدة من أنماط التجريد.
ربما كان القاسم المشترك بين هؤلاء الفنانين – على الأقل في السنوات الأولى – هو دعم جيل جديد من النقاد بقيادة كليمنت غرينبيرغ، الذي كان يعتقد أن التجريد هو التعبير الأسمى للفن الغربي.
«الكبد هو مشط الديك» (1944) - أرشيل جوركي.«الكبد هو مشط الديك» (1944) – أرشيل جوركي.
الحداثة ومصير الفنّ الغربي
كان يُعتقد في بعض الأوساط الفكرية المؤثرة أنّ الفن يتقدم نحو هدف؛ وهذا المضمون يشتمل عليه مصطلح «الطليعية» (Avant-garde)، الذي يُوصف به الفنّانون الذين يبتكرون أرضية جمالية جديدة. أصل المصطلح فرنسي يُطلق على الجنود الذين يتقدمون إلى مناطق جديدة.
بالنسبة إلى غرينبيرغ، لم يكن هؤلاء الفنّانون يوسّعون حدود إمكانات الفن؛ بل كانوا يتقدمون نحو الهدف الحقيقي والمفرد لكل شكل فني.
يُعدّ غرينبيرغ شخصية مهمة في تاريخ الفن التجريدي، وذلك لأمرين: بوصفه مناصرًا رائدًا في مسألة تفوق الفن التجريدي على غيره من أنواع الرسم، وتأكيده للقوة التي امتلكها هذا الفن. كان ناقدًا في اللجنة الأمريكية للحريّة الثقافية التي تمولها الدولة، وهي مجموعة تم إنشاؤها لتعزيز الفن الأمريكي على المستوى الدولي.
أصبحت أفكار غرينبيرغ مؤثرة عندما كانت الولايات المتحدة جزءًا من الحرب على الفاشية والنازية، وخلال الحرب الباردة اللاحقة ضد الشيوعية السوفيتية. كانت معايير الفن الفاشي والسوفياتي واضحة، وهي ما تحددها السلطات الثقافية أنها كذلك، بيد أنّه ما لم يكن واضحًا هو معايير الفن «الجيد» وتحديدًا في الغرب الديمقراطي.
كان الماركسيون هم من تعاطف مع غرينبيرغ في البداية، لكن ارتبط تفكيره بشكلٍ متزايد بالهيمنة الثقافية الأمريكية. بالنسبة إليه، كان التجريد في أعمال بولوك فنًا مثاليًا لمجتمع ديمقراطي. تتجلى الحداثة في الفن، وفقًا لغرينبيرغ، في إطار التنوير الأوروبي؛ أيّ في فترة ازدهار الأفكار الفلسفية والعلمية التي أعطت الأولوية للعقل.
في مقالته المؤثرة « الرسم الحداثي» (1961)، وصفَ غرينبيرغ إيمانويل كانط – الفيلسوف الألماني في عصر التنوير – بأنّه «أول حداثي حقيقي». كان أسلوب كانط في «النقد» هو استخدام العقل لنقد العقل بغرض توضيحه، ومنحه استقلالية عن أنواع التفكير الأخرى.
«أولمبيا» - إدوارد مانيه (1863). بالنسبة إلى كليمنت غرينبيرغ، كان مانيه أول رسام حداثي. لقد رسم مانيه لوحاته بأسلوبٍ مسطّح بشكلٍ متعمد.«أولمبيا» – إدوارد مانيه (1863). بالنسبة إلى كليمنت غرينبيرغ، كان مانيه أول رسام حداثي. لقد رسم مانيه لوحاته بأسلوبٍ مسطّح بشكلٍ متعمد.
بالطريقة نفسها، كان الرسامون الحداثيون – من إدوارد مانيه في القرن التاسع عشر إلى موريس لويس، وهو رسام يعمل ينتمي إلى رسامي أسلوب مجال ألوان في الولايات المتحدة في الوقت الذي كتب فيه غرينبيرغ مقالته – يعملون على ترسيخ الفن التعبيري «بشكل صارم في مجال تخصصه».
رأى غرينبيرغ أن وضوح الفن التجريدي -الذي كان صادقًا بالنسبة إلى الوسيط الذي يُعبّر من خلاله- معارضٌ لـ«الفن الشعبي المبتذل [الكيتش]» الذي ينُتج على نطاق واسع في الثقافة الشعبية. إن إزالة «الكيتش» كانت مسألة استجلاء وتوضيح تحتاجها جميع الفنون لكي تصبح تعبيرًا عن إمكاناتها الجمالية الكامنة.
اللوحات مسطّحة، وإيهام العمق الذي نجده في معظم الفن الغربي كان انحرافًا عن جوهر فن الرسم ذاته. كانت استقلالية الشكل الفني في جميع خصائصه دون أن تتلوث بأشكال فنية أخرى. وفقًا لغرينبيرغ، يعدّ الشكل واللون من أهم خصائص الرسم، و أفضل تمثيل لها يكون بشكلٍ مسطّح.
وهكذا دافع غرينبيرغ عن «التسطيح» الذي تجلّى في لوحات الفنانين الأمريكيين التجريدية مثل جاكسون بولوك باعتباره تحقيقًا لهذا الوضوح الحداثي. لقد ضم هؤلاء الفنانين معًا ضمن فريق واحد، وهم يمثّلون المرحلة التالية في الحداثة، وقد حلّت رؤيتهم الأمريكية المميزة محلّ الفن الأوروبي الطليعي.
وفي الوقت الذي أصبح فيه الفن التجريدي الأمريكي مهيمنًا، تراجعت هيمنة غرينبيرغ النقدية، وظهرت أشكال جديدة من الفن الطليعي، مستوحاة مباشرة من الثقافة الجماهيرية، وحلّت محلّ التعبيرية التجريدية في المخيال العام. تبنى فنانوّ «البوب» مثل: آندي وارهول، وريتشارد هاميلتون هذا النوع من «الفن الشعبي المبتذل» الذي رآه غرينبيرغ تلويثًا للفن الحقيقي.
استمرت الأعمال الفنية التجريدية، ولكن تخلّى الفنّانون التجريديون الأكثر جرأة عن الفكرة الصارمة «للنقد الحداثي»، وعن الوضوح المتعلق بخصوصية الوسيط الفني، وذلك لصالح أشكال أخرى من التعبير.
نظر فنانوّ «ما بعد الحداثة» إلى السخرية وعملية الرسم نفسها، كطرق لتجاوز الطريق المسدود للحداثة. تبنى الألماني غيرهارد ريختر كلا النهجين؛ فبعض أعماله التجريدية في الستينيات كانت مصنوعة بممسحاتٍ بدلًا من الفرشاة، حتى يتمكن من لفت الانتباه إلى عملية صنع اللوحة نفسها.
كانت «اللوحات التجريدية» البارزة الأخرى التي رسمها ريختر في الواقع صورًا واقعية مرسومة بعناية تعكس لوحاته التجريدية الأخرى. أصبحت طلائعية الرسم التجريدي مفهومية أكثر، ما جعل ضمنيًّا قضية الرسم تحظى باستقلالية أقل مما كان كان يعتقد النقاد الحداثيون.
قلّد فنانوّ «نيو جيو»، مثل: الرسام بيتر هالي، والنحات أشلي بيكرتون اللغة البصرية للتجريد الهندسي، لكنهما دمجاها مع السلع الاستهلاكية بألوانٍ تجارية فاتحة وأحيانًا فلورية.
منذ ذلك الجيل ما بعد الحداثي من الرسامين والنحاتين الممتد من الستينيات إلى التسعينيات، ازدهر التجريد متفرّعًا إلى عددٍ لا يُحصى من الأساليب والمقاربات بجوار الفن التشخيصي. هنا يمكن القول إنّ التجريد المتحرّر من عبء التوقعات الحداثية هو ببساطة نهج للتعبير مثل أيّ نهج آخر.
وتجدر الإشارة إلى أنّ بعض الفنانين التجريديين استخدموا الحيل البصرية المستعملة في الفن التشخيصي – مثل المنظور والتظليل – في لوحاتهم. ولاستخدامهم هذا أهداف فريدة و غالبًا لا تهتم بالنظرية.
قلّد فنانوّ «ما بعد الحداثة» مثل: بيتر هالي اللغة البصرية المستعملة في الفن التجريدي الحديث (في حالة بيتر، التجريد الهندسي)، للتعليق على طبيعة الفن والمعنى نفسه. تمثّل هذه الكتل الملونة «الخلايا» و«الأنابيب».قلّد فنانوّ «ما بعد الحداثة» مثل: بيتر هالي اللغة البصرية المستعملة في الفن التجريدي الحديث (في حالة بيتر، التجريد الهندسي)، للتعليق على طبيعة الفن والمعنى نفسه. تمثّل هذه الكتل الملونة «الخلايا» و«الأنابيب».
هذا هو التحرّر نحو الأفضل بين الرسامين التجريديين الذين يمكنهم الالتزام برؤيةٍ فريدة بالرسم على القماش. لكن فكّ ارتباط الفن التجريدي عن إطاره الفلسفي الأوسع أدى أيضًا إلى انتشارٍ يثير التساؤل لأعمال تجريدية متنوعة قابلة للاستهلاك – بمعنى أنّها فقدت قيمتها، وباتت تُباع وتُشترى سريعًا بأسعارٍ مربحة – يشتريها المشترون المتضاربون.
دفع هذا التحول الناقد جيري سالتز إلى كتابة: « الزومبي على الجدران: لماذا يبدو الكثير من التجريد الجديد متشابهًا؟». وقد شبه اللّوحات التجريدية بصورة «الزومبي»، تحقيرًا لأعمال عددٍ من الرسامين التجريديين البارزين، الذين استخدموا الفنّ وجماليته لتقديم أعمال مبتذلة.
ومن المفارقات أن هؤلاء الفنانين نظروا إلى الشكلانية بوصفها فنًّا حداثيًّا متبنّين منظور غرينبيرغ، لكنهم بالطبع قدّموا أعمالًا في ظلّ فراغ تاريخي وبعد فترةٍ طويلة حين لم يُصبح التجريد مثيرًا للاهتمام أو راديكاليًا بأي وجه من الوجوه.
في الواقع، لم يصل مشروع الحداثة في الفن التجريدي إلى نهايته، بل النقد. إنّ النقد -أيّ الإطار الفلسفي الواسع الذي يصادق على الأعمال الفنية ويثمّنها لأهميتها الثقافية والتاريخية- هو ما فقد التوجه والسلطة.
كان مسار الفن الغربي منذ عصر التنوير يتأرجح بين قطبي الدوغمائية النقدية والإبداع. تكمن المشكلة أنه في العقود الأخيرة، وفي ظلّ غياب أي مشروع نقدي متماسك، انجرف الفن نحو إرضاء اهتمامات دقيقة ومتنوعة تزداد باستمرار.
في حين كانت هناك «حركات» و«مدارس» فنية -مصطلحان يشيران إلى الوجهة والانضباط- لم يعد لدينا الآن سوى «مشاهد».
هذا ليس بالضرورة أمرًا سيئًا. ولكن في عالم حيث «كل شيء مقبول – anything goes»، لا يوجد مجال لهذا النوع من الابتكار والتجاوز الذي أدى إلى ظهور الفن التجريدي في الغرب، وهذا ما جعل الفن الحديث فنًّا مثيرًا للغاية.
من الصعب في هذه اللحظة التاريخية أن ندرك ما الذي جعل لوحة بولوك «رقم 32» مثيرة للانقسام، ومخلخلةً جدًا للمعايير، وفي الوقت نفسه محتفظةً بقيمةٍ عالية جدًا لأولئك الذين يعتقدون أن للفنِّ مكانًا في المجتمع يتجاوز المتعة.
[divider style=”solid” top=”20″ bottom=”20″]
[1] واللقب كذلك يُلمح إلى القاتل المتسلسل في لندن آخر القرن التاسع عشر: جاك السفّاح
Jack the ripper (مدير التحرير).
### خارج عقلك | توم تشاتفيلد – ت: محمد السعيد
عندما يكون هاتفي النقال بين يديّ، هل أكون أنا الشخص نفسه لو كان الهاتف في غرفة أخرى؟ من ناحية،...
### الدراما في التعليم: مقاربات وتطبيقات | نعيم حيماد
افتتاحيّة حظي استخدام الدراما في التعليمفي السنوات الأخيرة باهتمام كبير من قبل نخبة من المنظرين والممارسين للدراما في مجال التعليم....
### الحقائق المخفية | دي بي سي بيير – ت: محمد السعيد
يحمل جبل كلسي خشن في غرب إيران عددًا من النقوش البارزة، من بينها لوحة طولها خمسة وعشرين مترًا منقوشة...
### التغلُّب على كاشف الكذب | كلاريسا سيباغ-مونتِنفيوري – ت: محمد السعيد
حين اتُّهِمَتْ مربية الأطفال البريطانية لويز وودورد بهزِّ رضيع حتى الموت في مدينة نيوتن بولاية ماساتشوستس، لم تكتفِ بإعلان...
### عن منصة معنى
«معنى»، مؤسسة ثقافية تقدّمية ودار نشر تهتم بالفلسفة والمعرفة والفنون، عبر مجموعة متنوعة من المواد المقروءة والمسموعة والمرئية. انطلقت في 20 مارس 2019، بهدف إثراء المحتوى العربي، ورفع ذائقة ووعي المتلقّي المحلي والدولي، عبر الإنتاج الأصيل للمنصة والترجمة ونقل المعارف.
### روابط سريعة
### التصنيفات
### مرحبا بك!
قم بتسجيل الدخول إلى حسابك
تذكرني
### قم بإنشاء حساب جديد!
املأ النموذج أدناه للتسجيل
### طلب إعادة تعيين كلمة المرور
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان البريد الإلكتروني لإعادة تعيين كلمة المرور الخاصة بك.
### Add New Playlist
- Select Visibility -PublicPrivate
No Result
عرض جميع النتائج
-
00:00
00:00
-
00:00
00:00
|
article
|
Arabic
|
ar
|
الفنّ التجريدي: بين الماضي والحاضر - منصة معنى الثقافية
|
https://mana.net/abstract-art/
|
1,902 |
يُعدّ غرينبيرغ شخصية مهمة في تاريخ الفن التجريدي، وذلك لأمرين: بوصفه مناصرًا رائدًا في مسألة تفوق الفن التجريدي على غيره من أنواع الرسم، وتأكيده للقوة التي امتلكها هذا الفن.
|
sentence
|
يُعدّ غرينبيرغ شخصية مهمة في تاريخ الفن التجريدي، وذلك لأمرين: بوصفه مناصرًا رائدًا في مسألة تفوق الفن التجريدي على غيره من أنواع الرسم، وتأكيده للقوة التي امتلكها هذا الفن. كان ناقدًا في اللجنة الأمريكية للحريّة الثقافية التي تمولها الدولة، وهي مجموعة تم إنشاؤها لتعزيز الفن الأمريكي على المستوى الدولي.
|
paragraph
|
Arabic
|
ar
|
الفنّ التجريدي: بين الماضي والحاضر - منصة معنى الثقافية
|
https://mana.net/abstract-art/
|
1,903 |
كان ناقدًا في اللجنة الأمريكية للحريّة الثقافية التي تمولها الدولة، وهي مجموعة تم إنشاؤها لتعزيز الفن الأمريكي على المستوى الدولي.
|
sentence
|
يُعدّ غرينبيرغ شخصية مهمة في تاريخ الفن التجريدي، وذلك لأمرين: بوصفه مناصرًا رائدًا في مسألة تفوق الفن التجريدي على غيره من أنواع الرسم، وتأكيده للقوة التي امتلكها هذا الفن. كان ناقدًا في اللجنة الأمريكية للحريّة الثقافية التي تمولها الدولة، وهي مجموعة تم إنشاؤها لتعزيز الفن الأمريكي على المستوى الدولي.
|
paragraph
|
Arabic
|
ar
|
الفنّ التجريدي: بين الماضي والحاضر - منصة معنى الثقافية
|
https://mana.net/abstract-art/
|
1,904 |
أصبحت أفكار غرينبيرغ مؤثرة عندما كانت الولايات المتحدة جزءًا من الحرب على الفاشية والنازية، وخلال الحرب الباردة اللاحقة ضد الشيوعية السوفيتية. كانت معايير الفن الفاشي والسوفياتي واضحة، وهي ما تحددها السلطات الثقافية أنها كذلك، بيد أنّه ما لم يكن واضحًا هو معايير الفن «الجيد» وتحديدًا في الغرب الديمقراطي.
|
paragraph
|
لا توجد منتجات في سلة المشتريات.
No Result
عرض جميع النتائج
الثلاثاء, سبتمبر 10, 2024
No Result
عرض جميع النتائج
No Result
عرض جميع النتائج
# الفنّ التجريدي: بين الماضي والحاضر
## ترجمة: أنطونيوس نادر
AA
AA
إعادة تعيين
فنٌ مليء بالتحديات
ثمّة خطٌ رفيع يفصل بين الفن التجريدي ومجرد الزخرفة، ولوحة «رقم 32» (نُشرت عام 1950)، لجاكسون بولوك تتأرجح بين هذا الخطّ. فهي لا تشير إلى معنىً واضح، ولكن لا يمكن القول إنّها بلا معنى على الإطلاق. كما أنّها ليست معبّرة بشكلٍ مباشر، ولا يعني هذا أنها لا تعبّر عن مدلولٍ ما. تحمل هذه اللوحة الكثير من المضامين عن الفن الغربي بالنسبة إلى شخصٍ خبيرٍ في تاريخ الفن؛ أما بالنسبة إلى شخصٍ عادي، فقد يراها عملًا مبتذلًا بالكاد يعبّر عن أمرٍ ما.
اللوحة شبكة من الخطوط وبقعٍ من الألوان، رُسمت عن طريق صبّ طلاءٍ رخيص بعشوائيةٍ مباشرة على القماش. تتكون اللوحة من طلاءٍ أسود فقط وقماشٍ خام. واللوحة ضخمة؛ إذ يبلغ طولها تسعة أقدام وعرضها خمسة عشر قدمًا، وتغطي مجال رؤية المشاهد أثناء اقترابه منها. تقليديًّا، حتى اللوحات التجريدية تتكون من أجزاءٍ مترابطة مع بؤر تركيز (emphases) وعمقٍ يُنقل من خلال اللون والظلال، ولكن «رقم 32» ليس لها أجزاء؛ إنّها تتكون من تعالقات، والبؤرة فيها تكمن عبر امتداد سطح القماش المستطيل.
يمنحها ما سبق عمقًا سطحيًا، وربما لا عمق فيها: مجرّد طلاء على قماش. إنّها عبث بالشكل واللون. حتى اسمها، ببساطة رقمٌ معيّن – رقم 32 – يجعلها تنأى بنفسها عن أي فكرة مفادها أنها تعكس مدلولًا محدّدًا. تشير عناوين أعمال بولوك الأخرى إلى نوعٍ من الاختبار الشخصي، وإلى الاستخدام السمفوني المتعدد الطبقات للون والملمس؛ خذ مثلًا لوحاته التي تحمل اسم: «إيقاع الخريف»، و«الضباب الأرجواني»، و«الأقطاب الزرقاء»، و«انعكاس الدنقلة الكبير».
هذا لا ينطبق على لوحة «رقم 32»؛ شكلها الخام وبساطتها دليل على أنّ الفنان لم يخطط مسبقًا لرسمها؛ أيّ أنّه لم ينتق الألوان ولا الطبقات. يبدو بولوك هنا أكثر حضورًا، من خلال لمساته الحادة. بالنسبة إلى مؤيديّ عمل بولوك، تختصر هذه اللوحة خلاصة نظرة الفنان الجمالية. أما بالنسبة للبعض الآخر، فهي لوحة مبتذلة.
وصف جوزيف بويس -النحات الألماني في فترة ما بعد الحرب- الفنَّ التجريدي الأمريكي بأنه مجرد «تغليف»، أيّ سطح بلا محتوى. في هذا الصدد، قد يتفق البعض أن لوحة «رقم 32» تجسد فراغ الفكر والشعور ذاك. فقد رأى الروائي والناقد الفني روبرت كوتس أن فن بولوك لم يكن سوى «انفجارات» غير منظمة من الطاقة العشوائية. غير أنّ طائفة كبيرة من متذوقي الفن التجريدي لا تروق إليهم أعمال بولوك ويرونها فنًّا محيرًا، حتى إنّ بعضهم يراها إهانةً للذوق أو الحسّ السليم.
عُرف بولوك بلقب: «جاك فنان النقط» (Jack the Dripper) [1] في الأوساط الإعلامية المشككة بعمله حيث ادعى كثر أن أيّ شخص يمكنه أن يرسم كما يرسم بولوك إلّا أنّ أحدًا لم يتجرأ على فعل ذلك.
«رقم 32» - جاكسون بولوك«رقم 32» – جاكسون بولوك
بيد أنّ هذا هو مغزى الفن التجريدي في التقليد الغربي: إنّه تحدّ. وفي ظل الكثير هذه التحديات، تُعد لوحة « رقم 32» اللوحة الأكثر تمثيلًا لهذا الفن.
قصة الفنّ التجريدي
مسار قصة الفن التجريدي مضمّنة في الدراسات التاريخية الفنية، إلّا أنّ المحطات الرئيسة لهذا المسار كانت محط تغييرات مفاجئة كلما اكتشف مؤرخوّ الفن حقائق جديدة.
انطلق مسار الفن التجريدي بدءًا من القرن التاسع عشر وما تلاه؛ حيث استفاد الفنانون من مادة الطلاء والجوانب الشكلية للرسم مثل اللون والدرجة والخطوط. يُعرف هذا الانشغال بالجوانب غير التمثيلية (non-representative) للفن باسم «الشكلانية»، لأنّه انشغال «بالشكل»، أيّ بتوسل شكل المحتوى بدلًا من المحتوى في ذاته. بالنسبة إلى الفنانين في القرن التاسع عشر، صُنّف الفن التجريدي على أنّه «فنٌّ من أجل الفنّ»، وكانت الفكرة الشائعة مفادها أنّ المتذوق للفن يمكنه الاستمتاع بالعمل دون اللجوء إلى معنى أو حتى أي شيء آخر يمثل أمرًا ما.
تمثّل لوحة «الموسيقى الهادئة باللّونين الأسود والذهبي – الصاروخ الساقط» (1872)، للفنان جيمس مكنيل ويسلر هذا الاتجاه الذي تبلور لاحقًا في الفن التجريدي. إنّ مشهد ويسلر الغامض من الناحية المكانيّة يقترب إلى التجريد، وذلك بمحاولته نقل الشعور أو الانطباع الخاص بالمشهد بدلًا من إعادة إنتاجه بحذافيره.
«الموسيقى الهادئة باللونين الأسود والذهبي - الصاروخ الساقط» (1872-1877) - جيمس أبوت مكنيل ويسلير«الموسيقى الهادئة باللونين الأسود والذهبي – الصاروخ الساقط» (1872-1877) – جيمس أبوت مكنيل ويسلير
في عام 1877، انتقد جون روسكين – أبرز نقّاد بريطانيا في ذلك الوقت – عمل ويسلير هذا نقدًا لاذعًا فشبهه «بمن قام برمي الطلاء في وجه الجمهور». تأثر ويسلر بهذا الكلام، فرفع دعوى قضائية ضد روسكين، بيد أنّه خسرها لأن المسؤولين عرضوا اللوحة -خطأً- مقلوبةً على المحكمة. أفلس ويسلير بسبب هذه القضية، لكن مسيرة تطور الفن التجريدي استمرت.
من ناحيةٍ أخرى، تحديد أول فنان تجريدي في العالم موضوع نزاع. في نظر أبحاث تاريخ الفن التقليدية، كان فاسيلي كاندينسكي – فنان روسي الجنسية رسم لوحات تجريدية بالكامل في مطلع عام 1911- هو أول فنان تجريدي.
لم ينل الفن التجريدي الرائد لهيلما أف كلينت تقديرًا إلا قبل سنوات قريبة. هذه صورة للمعرض الشهير في متحف غاغينهايم، عام 2018 .لم ينل الفن التجريدي الرائد لهيلما أف كلينت تقديرًا إلا قبل سنوات قريبة. هذه صورة للمعرض الشهير في متحف غاغينهايم، عام 2018 .
ولكن في الآونة الأخيرة، وبفضل المعرض الرائد في متحف مقاطعة لوس أنجلوس للفنون في عام 1986 الذي حمل اسم «الروحانية في الفن: الرسم التجريدي 1890 – 1985»، وقع الاختيار على هيلما أف كلينت كأول رسامة تجريدية. بدأت كلينت في رسم لوحات تجريدية بدءًا من عام 1906، وحملت مجموعتها عنوان «الفوضى البدائية». كانت الفنانة متكتمة في ما يتعلق بأعمالها التجريدية، ولم تُعرض أيّ منها في معارض عامة، وبقيت غير معروفة حتى أزيح عنها الستار مؤخرًا.
ولعل الجدال حول هوية أول من مارس الفن التجريدي سيستم، لكن الحقيقة الأكثر أهمية هي أن العديد من الفنانين الأوروبيين البارزين قد توصّلوا في أعمالهم إلى التجريد بحلول الحرب العالمية الأولى. لقد وجد كل منهم طريقته الخاصة في التخلي عن الفن التشخيصي (figurative painting). وجديرٌ بالذكر أنّه لم تكن هناك حركة «تجريدية» دولية ذات رؤية أو بيان مشترك.
في ضوء ذلك، فإن السؤال الملحّ حقًا هو: لمَ لمْ يتبنى الفنانون الغربيون الفن التجريدي على امتداد قرون عديدة؟ لماذا كان التجريد غير ضروري أو لا معنى له أو غير مناسب أو حتى لا يمكن تقبّله لقرونٍ متوالية في الفن الغربي؟
ظهرت العديد من التفسيرات لشرح ذلك. إحدى النظريات الأكثر وضوحًا هي أن ظهور التصوير الفوتوغرافي بوصفه شكلًا من أشكال الفن، إضافةً إلى تطور الفن الحديث، سببان رئيسان لإزاحة الرسم التشخيصي.
ثمّة إجابات أخرى غير ملموسة لاستكشاف الأسباب: ربما عندما أصبحت الأعمال الفنية قابلة للاستهالاك بشكل متزايد، مثل السلع، بات من السهولة فصل اللوحات والمنحوتات عن التجارب المحددة لمبدعيها. ربما أدت الحداثة في الغرب إلى إفراغ الفن من المحتوى التشخيصي؛ مما دفع الفنانين أيضًا إلى التخلي عن التمثيل التشخيصي.
كل من هذه الإجابات معقدة وتتطلب الكثير من الشرح، ولا يمكن إلا أن تكون تخمينات. لا توجد إجابة واضحة لهذه المسألة. ربما يكون من الأفضل طرح السؤال حول سبب تقبّل الفن التجريدي فنًّا من الفنون الرسمية في تاريخ الفن الغربي في مرحلة معينة على علماء الأنثروبولوجيا بدلًا من طرحها على مؤرخي الفن. فما هو واضح أن الفن التجريدي كان موجودًا دائمًا في مناطق أخرى من العالم.
ما جعل الفن التجريدي فنًّا حديثًا على وجه التحديد في العالم الغربي هو نظام المعارض، الذي أعطى القيمة الفنية للأعمال المعروضة. وكما هو واضح فقد ازدهر التجريد لآلاف السنين المناطق الشرقية والجنوبية من العالم، دون عناء التحقق من مكانة الأعمال المعروضة في الصالونات [والمعارض، كما هو في العالم الغربي].
الواقع الافتراضي و«الافتراضية»
يتبنى بيبي كرمل وهو مؤرخ فني، في كتابه « الفن التجريدي: تاريخ عالمي»، فكرة أنّ الفن التجريدي كان دائمًا موجودًا بشكل طبيعي عندما ننظر إليه نظرة شاملة وعالمية، بيد أنّه يتحاشى طرح نظرية عن تطور الفن التجريدي. بالنسبة إلى كرمل، فإنّ هذا الفنّ متجذر في العالم الحقيقي، وهو ليس فنًّا «مجردًا» على الإطلاق، كما أنّه تقليد عالمي وليس محليًا.
في دراسته حول الفن التجريدي يقسم العمل الفني إلى خمس فئات واسعة تنتمي إلى العالم الحقيقي: الأجسام، والمناظر الطبيعية، والكون، والبنى، والعلامات والأنماط. من خلال فحص الفن التجريدي بهذه الطريقة، يرى كرمل في اللوحات التجريدية موضوعات قابلة للتحليل، بعكس النقاد والمؤرخين الأرثوذكسيين الذين رأوا فيها مجرّد توليفات شكلية مكوّنة من لون وشكل.
ربما يكون من الأفضل أن يطلق على الفن التجريدي: فن ما تم تجريده (abstracted art)؛ لأنّ الفنانين التجريديين عادةً ما يستخلصون ويجرّدون تعبيرات التجارب في شكل ولون، أكثر من كونها توليفات مكونة من شكل ولون. ومرّد ذلك الطبيعة الجوهرية للرسم والنحت؛ فهما (الشكل اللّون) وسيطان للتعبير، مثل الشاشة أو المسرح لخيال الفنان. كما هو الحال في المسرح أو السينما، فإنّ جمهور اللوحة أو المنحوتة يعلّق معتقداته من أجل أن يتقبل المشهد.
من المفيد التفكير في اللوحة التشخيصية التقليدية أو النحت على أنها حقيقة افتراضية. إذْ استخدم الفنانون لقرون عديدة الحيل البصرية -مثل المنظور الخطي، والتقصير المسبق، والتظليل- لمحاكاة الطريقة التي ندرك بها الأشياء في الفضاء الحقيقي. إنّ المشاهد تُنشأ في فضاء افتراضي – سواء كانت القاعدة التي تدعم التمثال أو القماش – ليراها المشاهدون بوصفها خدعة بصرية.
«القديس بطرس شفاء أحد الأشخاص وبعث تابيثا من الموت» ماسولينو دي بانيكال. اعتمد الرسم الغربي قبل القرن العشرين على الحيل البصرية لخلق واقع افتراضي. إحدى هذه الحيل هي المنظور الخطي، وهذه اللوحة هي أول مثال لاستخدام نقطة تلاشٍ متسقة.«القديس بطرس شفاء أحد الأشخاص وبعث تابيثا من الموت» ماسولينو دي بانيكال. اعتمد الرسم الغربي قبل القرن العشرين على الحيل البصرية لخلق واقع افتراضي. إحدى هذه الحيل هي المنظور الخطي، وهذه اللوحة هي أول مثال لاستخدام نقطة تلاشٍ متسقة.
يستمتع مشاهدوّ الأعمال الفنية العظيمة معنى ما يُرسم، ويقدرون الطريقة التي يتجلّى فيها الوهم عبر تمازج اللون والشكل.
يبقى الفن التجريدي، إلى حدٍ ما، ضمن إطار التجربة الجمالية. فقد سعت حركات الفن الحديث التي أدت إلى التجريد -أيّ «مدارس الفن»، مثل الانطباعية والفاوفية والتكعيبية- إلى تمثيل العالم بشكل مختلف عن كل الفنون التي سبقتها. إذْ ادعوا الاقتراب من الحقيقة الذاتية عبر تهميش جميع الحيل الوهمية التقليدية التي حاولت إعادة إنتاج الواقع بحذافيره كحقيقة موضوعية.
«الأحمر والأصفر والأزرق» (1925) واسيلي كاندينسكي. كان كاندينسكي يعدّ لفترةٍ طويلة أب الرسم التجريدي الغربي.«الأحمر والأصفر والأزرق» (1925) واسيلي كاندينسكي. كان كاندينسكي يعدّ لفترةٍ طويلة أب الرسم التجريدي الغربي.
بالنسبة إلى هذه المدارس، أصبح الفن أقل من أن يوصف بأنّه واقع افتراضي، لكنه مع ذلك احتفظ بالافتراضية، وأصبح افتراضيًا. لقد أخذ الفن التجريدي مسار التطور هذا إلى أقصاه: من الواقع الافتراضي إلى الافتراضية.
ماذا تعني «الافتراضية» هنا؟ إنّها الوجود كجوهر وتأثير، ولكن بدون اللجوء إلى الواقع. اللوحة التجريدية التي رسمها كاندينسكي، على سبيل المثال، ما زالت تُعدّ علاقة متبادلة بين الشكل واللون، و تعتمد على الرسم كمستوى تخطيطي: إنها نافذة تطلّ على «الواقع» الفردي الذي تصوّره كاندينسكي.
وما تزال العناصر في لوحات كاندينسكي تحظى بعلاقة متبادلة، كما هو الحال في فضاء الواقع الافتراضي للوحة التشخيصية؛ فجوهر الرسم سليم إذ إنّ ذلك الفضاء الافتراضي ما زال موجودًا. عندما يكون الفن التجريدي بناءً خالصًا، ويتخلص من المساحة الافتراضية الملازمة للرسم والنحت، يصبح متميزًا عنهما.
وصف دونالد جود الفنان التخفيفي (minimalist) مثل هذه الأعمال الفنية بأنها «أجسام محدّدة» (Specific Objects). إنّه مصطلح غير دقيق، ولكنه يصلح لإظهار أن مثل هذه الأعمال الفنية ليست رسمًا ولا نحتًا، ولكنها فئة أخرى تمامًا.
رأى دونالد جود أن أعماله وأعمال العديد من معاصريه تشغل مساحة هجينة، لا هي لوحات ولا هي نحت. عمل دون عنوان لدونالد جود.
استخدم جود هذا المصطلح لوصف أعماله الخاصة، ولكنه ينطبق على لوحات كازيمير ماليفيتش وفرانك ستيلا أحادية اللون، والتي تجعل اللوحة تندمج مع نفسها بالكامل، من أجل الوصول للتأثير الذي يأمل العمل في تحقيقه.
في مثل هذه الأعمال، لم يعد قماش اللّوحة (أو القاعدة) سطحًا تتفاعل فيه الأشكال والألوان في الفضاء الافتراضي. بدلاً من ذلك، تتفاعل الأشكال والألوان في الفضاء الحقيقي، في فضائنا.
تختلف معايير النجاح أو الفشل لهذه الأعمال عن الخصائص التقليدية للرسم والنحت. رأى جود أنّ خصائص الرسم والنحت تقف في طريق ما أراد تحقيقه من خلال اللون والشكل. في رأيه، كان لـ «أجسامه المحددة» تأثيرًا أحدّ من غيرها.
الواقع والأشكال الجديدة للإدراك الحسّي
الرسم نفسه له ثلاثة أنواع عامة من التجريد؛ أولًا، ثمّة أسلوب تعبيري تُرسم فيه الأشكال بحركاتٍ غير مقيدة؛ ثم هناك التجريد الهندسي حيث يتم هيكلة الأشكال؛ أما النوع الثالث، فهو تجريد مجال اللون حيث يتم عرض مساحات من الألوان بطريقةٍ لا شكل واضح لها.
لم تكن هذه «الأنماط» (styles) أنماطًا عرضيةً أو تعتمد على ذوق أو ميل الرسام كوسيلة لتحقيق هدفٍ ما من البحث الفني. وخير مثال على ذلك هو الفنان الذي غالبًا ما ينظر إلى عمله على أنّه ذروة التجريد الهندسي: بيت موندريان. إنّ لوحات بيت موندريان المكونة من شبكات (grids) ذات الخطوط السوداء والأجزاء الملونة على خلفية بيضاء؛ تهدف إلى استحضار «حقيقة أعلى».
بالنسبة إلى موندريان، كان الفن في جوهره معارضًا للواقع؛ «لأن الواقع يتعارض مع الروحي». بغض النظر عن هذه اللوحة الأشهر لموندريان، فإنّ جوانب الرسم التي تهم هذا الفنان حقًا لم تكن الجوانب المحددة للموضوع -أيّ ماذا أو ما يتم تصويره في اللوحة مثلًا- بل الجوانب القابلة للفهم عالميًا للشكل والخط واللون. إنّ لوحات موندريان، مثلها مثل لوحات الفنانين الآخرين، هي محاولة لاستخلاص الشكل واللون من أجل الاقتراب من ذلك الجوهر العالمي والروحي للفن.
عبّر موندريان عن رغبته في الوصول إلى «أساس» الأشياء من خلال الحدس، كالعديد من الفنانين التجريديين الآخرين في النصف الأول من القرن العشرين الذين رغبوا في الوصول إلى قوى غير مرئية حولنا، ولكنها معروفة أو محدوسة.
«التكوين الثاني باللون الأحمر والأزرق والأصفر» (1930) - بيت موندريان«التكوين الثاني باللون الأحمر والأزرق والأصفر» (1930) – بيت موندريان
في أواخر القرن التاسع عشر، لاحظ العلماء بشكلٍ أفضل مما سبق القوى غير المرئية مع انتشار التقنيات الجديدة، وأصبح من الواضح أن العالم أرحب مما يبدو للعين. في الوقت نفسه، ظهرت حركات روحية بديلة جمعت بين الأفكار الأفلاطونية والتصوف.
كان كلينت وموندريان من بين العديد من الفنانين الذين انغمسوا في أشكال الروحانية خارج العوالم التقليدية للدين. اعتقدت كلينت أن لوحاتها هي وحي عالم روحي، وأن مهمتها كانت العمل «على مستوى روحاني» لتمثيل روح الإنسان، بدلًا من صورته الفانية.
بحلول عشرينيات القرن الماضي، كانت نظرية فرويد عن للعقل البشري قد تغلغلت أيضًا في عالم الفن. كذلك السريالية، وهي حركة منظمة بإحكام بدأت مع بعض الفنانين الذين سعوا إلى التنقيب عن الإمكانات الإبداعية للعقل الباطن، وهي الحركة الثقافية التي كانت سائدة في أوروبا بين الحربين العالميتين.
لم تكن السريالية دوغمائية في محاولتها لاستكشاف اللاوعي، ولذلك ظهر عدد من الأساليب والطرق لمحاولة إخراج اللاوعي إلى السطح. إحدى هذه الأساليب كان الرسم الآلي (Automatism)، وهي عملية يتخلى فيها الفنان عن السيطرة الواعية لليد التي ترسم أو تصور. في هذا المجال، تبنى الفنانون مثل أندريه ماسون وخوان ميرو الفرصة لبناء صورهم باستخدام حركات حرّة، وحتى إلقاء الطلاء على القماش.
طور أرشيل غوركي -هو مهاجر أرمني عاش في الولايات المتحدة- أسلوبًا في الرسم يدمج بين الرسم الآلي وتجريد مجال الألوان. لوحاته في الأربعينيات حجمُها ضخم – ومرد ذلك تأثره بأعماله السابقة كفنان جداري مُعيّن من الدولة خلال السنوات الأخيرة من الكساد الكبير – لكنها معبّرة وغنائية في الرسم بالفرشاة.
ألهم إدماج غوركي للأنماط جيلًا واسعًا من الفنانين الأمريكيين في فترة ما بعد الحرب لاحتضان التجريد الواسع النطاق. ما نسميه الآن «التعبيرية التجريدية»، وكان ذاك الجيل في الواقع مجموعة فضفاضة من الفنانين الذين يستخدمون أنماطًا متعدّدة من أنماط التجريد.
ربما كان القاسم المشترك بين هؤلاء الفنانين – على الأقل في السنوات الأولى – هو دعم جيل جديد من النقاد بقيادة كليمنت غرينبيرغ، الذي كان يعتقد أن التجريد هو التعبير الأسمى للفن الغربي.
«الكبد هو مشط الديك» (1944) - أرشيل جوركي.«الكبد هو مشط الديك» (1944) – أرشيل جوركي.
الحداثة ومصير الفنّ الغربي
كان يُعتقد في بعض الأوساط الفكرية المؤثرة أنّ الفن يتقدم نحو هدف؛ وهذا المضمون يشتمل عليه مصطلح «الطليعية» (Avant-garde)، الذي يُوصف به الفنّانون الذين يبتكرون أرضية جمالية جديدة. أصل المصطلح فرنسي يُطلق على الجنود الذين يتقدمون إلى مناطق جديدة.
بالنسبة إلى غرينبيرغ، لم يكن هؤلاء الفنّانون يوسّعون حدود إمكانات الفن؛ بل كانوا يتقدمون نحو الهدف الحقيقي والمفرد لكل شكل فني.
يُعدّ غرينبيرغ شخصية مهمة في تاريخ الفن التجريدي، وذلك لأمرين: بوصفه مناصرًا رائدًا في مسألة تفوق الفن التجريدي على غيره من أنواع الرسم، وتأكيده للقوة التي امتلكها هذا الفن. كان ناقدًا في اللجنة الأمريكية للحريّة الثقافية التي تمولها الدولة، وهي مجموعة تم إنشاؤها لتعزيز الفن الأمريكي على المستوى الدولي.
أصبحت أفكار غرينبيرغ مؤثرة عندما كانت الولايات المتحدة جزءًا من الحرب على الفاشية والنازية، وخلال الحرب الباردة اللاحقة ضد الشيوعية السوفيتية. كانت معايير الفن الفاشي والسوفياتي واضحة، وهي ما تحددها السلطات الثقافية أنها كذلك، بيد أنّه ما لم يكن واضحًا هو معايير الفن «الجيد» وتحديدًا في الغرب الديمقراطي.
كان الماركسيون هم من تعاطف مع غرينبيرغ في البداية، لكن ارتبط تفكيره بشكلٍ متزايد بالهيمنة الثقافية الأمريكية. بالنسبة إليه، كان التجريد في أعمال بولوك فنًا مثاليًا لمجتمع ديمقراطي. تتجلى الحداثة في الفن، وفقًا لغرينبيرغ، في إطار التنوير الأوروبي؛ أيّ في فترة ازدهار الأفكار الفلسفية والعلمية التي أعطت الأولوية للعقل.
في مقالته المؤثرة « الرسم الحداثي» (1961)، وصفَ غرينبيرغ إيمانويل كانط – الفيلسوف الألماني في عصر التنوير – بأنّه «أول حداثي حقيقي». كان أسلوب كانط في «النقد» هو استخدام العقل لنقد العقل بغرض توضيحه، ومنحه استقلالية عن أنواع التفكير الأخرى.
«أولمبيا» - إدوارد مانيه (1863). بالنسبة إلى كليمنت غرينبيرغ، كان مانيه أول رسام حداثي. لقد رسم مانيه لوحاته بأسلوبٍ مسطّح بشكلٍ متعمد.«أولمبيا» – إدوارد مانيه (1863). بالنسبة إلى كليمنت غرينبيرغ، كان مانيه أول رسام حداثي. لقد رسم مانيه لوحاته بأسلوبٍ مسطّح بشكلٍ متعمد.
بالطريقة نفسها، كان الرسامون الحداثيون – من إدوارد مانيه في القرن التاسع عشر إلى موريس لويس، وهو رسام يعمل ينتمي إلى رسامي أسلوب مجال ألوان في الولايات المتحدة في الوقت الذي كتب فيه غرينبيرغ مقالته – يعملون على ترسيخ الفن التعبيري «بشكل صارم في مجال تخصصه».
رأى غرينبيرغ أن وضوح الفن التجريدي -الذي كان صادقًا بالنسبة إلى الوسيط الذي يُعبّر من خلاله- معارضٌ لـ«الفن الشعبي المبتذل [الكيتش]» الذي ينُتج على نطاق واسع في الثقافة الشعبية. إن إزالة «الكيتش» كانت مسألة استجلاء وتوضيح تحتاجها جميع الفنون لكي تصبح تعبيرًا عن إمكاناتها الجمالية الكامنة.
اللوحات مسطّحة، وإيهام العمق الذي نجده في معظم الفن الغربي كان انحرافًا عن جوهر فن الرسم ذاته. كانت استقلالية الشكل الفني في جميع خصائصه دون أن تتلوث بأشكال فنية أخرى. وفقًا لغرينبيرغ، يعدّ الشكل واللون من أهم خصائص الرسم، و أفضل تمثيل لها يكون بشكلٍ مسطّح.
وهكذا دافع غرينبيرغ عن «التسطيح» الذي تجلّى في لوحات الفنانين الأمريكيين التجريدية مثل جاكسون بولوك باعتباره تحقيقًا لهذا الوضوح الحداثي. لقد ضم هؤلاء الفنانين معًا ضمن فريق واحد، وهم يمثّلون المرحلة التالية في الحداثة، وقد حلّت رؤيتهم الأمريكية المميزة محلّ الفن الأوروبي الطليعي.
وفي الوقت الذي أصبح فيه الفن التجريدي الأمريكي مهيمنًا، تراجعت هيمنة غرينبيرغ النقدية، وظهرت أشكال جديدة من الفن الطليعي، مستوحاة مباشرة من الثقافة الجماهيرية، وحلّت محلّ التعبيرية التجريدية في المخيال العام. تبنى فنانوّ «البوب» مثل: آندي وارهول، وريتشارد هاميلتون هذا النوع من «الفن الشعبي المبتذل» الذي رآه غرينبيرغ تلويثًا للفن الحقيقي.
استمرت الأعمال الفنية التجريدية، ولكن تخلّى الفنّانون التجريديون الأكثر جرأة عن الفكرة الصارمة «للنقد الحداثي»، وعن الوضوح المتعلق بخصوصية الوسيط الفني، وذلك لصالح أشكال أخرى من التعبير.
نظر فنانوّ «ما بعد الحداثة» إلى السخرية وعملية الرسم نفسها، كطرق لتجاوز الطريق المسدود للحداثة. تبنى الألماني غيرهارد ريختر كلا النهجين؛ فبعض أعماله التجريدية في الستينيات كانت مصنوعة بممسحاتٍ بدلًا من الفرشاة، حتى يتمكن من لفت الانتباه إلى عملية صنع اللوحة نفسها.
كانت «اللوحات التجريدية» البارزة الأخرى التي رسمها ريختر في الواقع صورًا واقعية مرسومة بعناية تعكس لوحاته التجريدية الأخرى. أصبحت طلائعية الرسم التجريدي مفهومية أكثر، ما جعل ضمنيًّا قضية الرسم تحظى باستقلالية أقل مما كان كان يعتقد النقاد الحداثيون.
قلّد فنانوّ «نيو جيو»، مثل: الرسام بيتر هالي، والنحات أشلي بيكرتون اللغة البصرية للتجريد الهندسي، لكنهما دمجاها مع السلع الاستهلاكية بألوانٍ تجارية فاتحة وأحيانًا فلورية.
منذ ذلك الجيل ما بعد الحداثي من الرسامين والنحاتين الممتد من الستينيات إلى التسعينيات، ازدهر التجريد متفرّعًا إلى عددٍ لا يُحصى من الأساليب والمقاربات بجوار الفن التشخيصي. هنا يمكن القول إنّ التجريد المتحرّر من عبء التوقعات الحداثية هو ببساطة نهج للتعبير مثل أيّ نهج آخر.
وتجدر الإشارة إلى أنّ بعض الفنانين التجريديين استخدموا الحيل البصرية المستعملة في الفن التشخيصي – مثل المنظور والتظليل – في لوحاتهم. ولاستخدامهم هذا أهداف فريدة و غالبًا لا تهتم بالنظرية.
قلّد فنانوّ «ما بعد الحداثة» مثل: بيتر هالي اللغة البصرية المستعملة في الفن التجريدي الحديث (في حالة بيتر، التجريد الهندسي)، للتعليق على طبيعة الفن والمعنى نفسه. تمثّل هذه الكتل الملونة «الخلايا» و«الأنابيب».قلّد فنانوّ «ما بعد الحداثة» مثل: بيتر هالي اللغة البصرية المستعملة في الفن التجريدي الحديث (في حالة بيتر، التجريد الهندسي)، للتعليق على طبيعة الفن والمعنى نفسه. تمثّل هذه الكتل الملونة «الخلايا» و«الأنابيب».
هذا هو التحرّر نحو الأفضل بين الرسامين التجريديين الذين يمكنهم الالتزام برؤيةٍ فريدة بالرسم على القماش. لكن فكّ ارتباط الفن التجريدي عن إطاره الفلسفي الأوسع أدى أيضًا إلى انتشارٍ يثير التساؤل لأعمال تجريدية متنوعة قابلة للاستهلاك – بمعنى أنّها فقدت قيمتها، وباتت تُباع وتُشترى سريعًا بأسعارٍ مربحة – يشتريها المشترون المتضاربون.
دفع هذا التحول الناقد جيري سالتز إلى كتابة: « الزومبي على الجدران: لماذا يبدو الكثير من التجريد الجديد متشابهًا؟». وقد شبه اللّوحات التجريدية بصورة «الزومبي»، تحقيرًا لأعمال عددٍ من الرسامين التجريديين البارزين، الذين استخدموا الفنّ وجماليته لتقديم أعمال مبتذلة.
ومن المفارقات أن هؤلاء الفنانين نظروا إلى الشكلانية بوصفها فنًّا حداثيًّا متبنّين منظور غرينبيرغ، لكنهم بالطبع قدّموا أعمالًا في ظلّ فراغ تاريخي وبعد فترةٍ طويلة حين لم يُصبح التجريد مثيرًا للاهتمام أو راديكاليًا بأي وجه من الوجوه.
في الواقع، لم يصل مشروع الحداثة في الفن التجريدي إلى نهايته، بل النقد. إنّ النقد -أيّ الإطار الفلسفي الواسع الذي يصادق على الأعمال الفنية ويثمّنها لأهميتها الثقافية والتاريخية- هو ما فقد التوجه والسلطة.
كان مسار الفن الغربي منذ عصر التنوير يتأرجح بين قطبي الدوغمائية النقدية والإبداع. تكمن المشكلة أنه في العقود الأخيرة، وفي ظلّ غياب أي مشروع نقدي متماسك، انجرف الفن نحو إرضاء اهتمامات دقيقة ومتنوعة تزداد باستمرار.
في حين كانت هناك «حركات» و«مدارس» فنية -مصطلحان يشيران إلى الوجهة والانضباط- لم يعد لدينا الآن سوى «مشاهد».
هذا ليس بالضرورة أمرًا سيئًا. ولكن في عالم حيث «كل شيء مقبول – anything goes»، لا يوجد مجال لهذا النوع من الابتكار والتجاوز الذي أدى إلى ظهور الفن التجريدي في الغرب، وهذا ما جعل الفن الحديث فنًّا مثيرًا للغاية.
من الصعب في هذه اللحظة التاريخية أن ندرك ما الذي جعل لوحة بولوك «رقم 32» مثيرة للانقسام، ومخلخلةً جدًا للمعايير، وفي الوقت نفسه محتفظةً بقيمةٍ عالية جدًا لأولئك الذين يعتقدون أن للفنِّ مكانًا في المجتمع يتجاوز المتعة.
[divider style=”solid” top=”20″ bottom=”20″]
[1] واللقب كذلك يُلمح إلى القاتل المتسلسل في لندن آخر القرن التاسع عشر: جاك السفّاح
Jack the ripper (مدير التحرير).
### خارج عقلك | توم تشاتفيلد – ت: محمد السعيد
عندما يكون هاتفي النقال بين يديّ، هل أكون أنا الشخص نفسه لو كان الهاتف في غرفة أخرى؟ من ناحية،...
### الدراما في التعليم: مقاربات وتطبيقات | نعيم حيماد
افتتاحيّة حظي استخدام الدراما في التعليمفي السنوات الأخيرة باهتمام كبير من قبل نخبة من المنظرين والممارسين للدراما في مجال التعليم....
### الحقائق المخفية | دي بي سي بيير – ت: محمد السعيد
يحمل جبل كلسي خشن في غرب إيران عددًا من النقوش البارزة، من بينها لوحة طولها خمسة وعشرين مترًا منقوشة...
### التغلُّب على كاشف الكذب | كلاريسا سيباغ-مونتِنفيوري – ت: محمد السعيد
حين اتُّهِمَتْ مربية الأطفال البريطانية لويز وودورد بهزِّ رضيع حتى الموت في مدينة نيوتن بولاية ماساتشوستس، لم تكتفِ بإعلان...
### عن منصة معنى
«معنى»، مؤسسة ثقافية تقدّمية ودار نشر تهتم بالفلسفة والمعرفة والفنون، عبر مجموعة متنوعة من المواد المقروءة والمسموعة والمرئية. انطلقت في 20 مارس 2019، بهدف إثراء المحتوى العربي، ورفع ذائقة ووعي المتلقّي المحلي والدولي، عبر الإنتاج الأصيل للمنصة والترجمة ونقل المعارف.
### روابط سريعة
### التصنيفات
### مرحبا بك!
قم بتسجيل الدخول إلى حسابك
تذكرني
### قم بإنشاء حساب جديد!
املأ النموذج أدناه للتسجيل
### طلب إعادة تعيين كلمة المرور
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان البريد الإلكتروني لإعادة تعيين كلمة المرور الخاصة بك.
### Add New Playlist
- Select Visibility -PublicPrivate
No Result
عرض جميع النتائج
-
00:00
00:00
-
00:00
00:00
|
article
|
Arabic
|
ar
|
الفنّ التجريدي: بين الماضي والحاضر - منصة معنى الثقافية
|
https://mana.net/abstract-art/
|
1,905 |
أصبحت أفكار غرينبيرغ مؤثرة عندما كانت الولايات المتحدة جزءًا من الحرب على الفاشية والنازية، وخلال الحرب الباردة اللاحقة ضد الشيوعية السوفيتية.
|
sentence
|
أصبحت أفكار غرينبيرغ مؤثرة عندما كانت الولايات المتحدة جزءًا من الحرب على الفاشية والنازية، وخلال الحرب الباردة اللاحقة ضد الشيوعية السوفيتية. كانت معايير الفن الفاشي والسوفياتي واضحة، وهي ما تحددها السلطات الثقافية أنها كذلك، بيد أنّه ما لم يكن واضحًا هو معايير الفن «الجيد» وتحديدًا في الغرب الديمقراطي.
|
paragraph
|
Arabic
|
ar
|
الفنّ التجريدي: بين الماضي والحاضر - منصة معنى الثقافية
|
https://mana.net/abstract-art/
|
1,906 |
كانت معايير الفن الفاشي والسوفياتي واضحة، وهي ما تحددها السلطات الثقافية أنها كذلك، بيد أنّه ما لم يكن واضحًا هو معايير الفن «الجيد» وتحديدًا في الغرب الديمقراطي.
|
sentence
|
أصبحت أفكار غرينبيرغ مؤثرة عندما كانت الولايات المتحدة جزءًا من الحرب على الفاشية والنازية، وخلال الحرب الباردة اللاحقة ضد الشيوعية السوفيتية. كانت معايير الفن الفاشي والسوفياتي واضحة، وهي ما تحددها السلطات الثقافية أنها كذلك، بيد أنّه ما لم يكن واضحًا هو معايير الفن «الجيد» وتحديدًا في الغرب الديمقراطي.
|
paragraph
|
Arabic
|
ar
|
الفنّ التجريدي: بين الماضي والحاضر - منصة معنى الثقافية
|
https://mana.net/abstract-art/
|
1,907 |
كان الماركسيون هم من تعاطف مع غرينبيرغ في البداية، لكن ارتبط تفكيره بشكلٍ متزايد بالهيمنة الثقافية الأمريكية. بالنسبة إليه، كان التجريد في أعمال بولوك فنًا مثاليًا لمجتمع ديمقراطي. تتجلى الحداثة في الفن، وفقًا لغرينبيرغ، في إطار التنوير الأوروبي؛ أيّ في فترة ازدهار الأفكار الفلسفية والعلمية التي أعطت الأولوية للعقل.
|
paragraph
|
لا توجد منتجات في سلة المشتريات.
No Result
عرض جميع النتائج
الثلاثاء, سبتمبر 10, 2024
No Result
عرض جميع النتائج
No Result
عرض جميع النتائج
# الفنّ التجريدي: بين الماضي والحاضر
## ترجمة: أنطونيوس نادر
AA
AA
إعادة تعيين
فنٌ مليء بالتحديات
ثمّة خطٌ رفيع يفصل بين الفن التجريدي ومجرد الزخرفة، ولوحة «رقم 32» (نُشرت عام 1950)، لجاكسون بولوك تتأرجح بين هذا الخطّ. فهي لا تشير إلى معنىً واضح، ولكن لا يمكن القول إنّها بلا معنى على الإطلاق. كما أنّها ليست معبّرة بشكلٍ مباشر، ولا يعني هذا أنها لا تعبّر عن مدلولٍ ما. تحمل هذه اللوحة الكثير من المضامين عن الفن الغربي بالنسبة إلى شخصٍ خبيرٍ في تاريخ الفن؛ أما بالنسبة إلى شخصٍ عادي، فقد يراها عملًا مبتذلًا بالكاد يعبّر عن أمرٍ ما.
اللوحة شبكة من الخطوط وبقعٍ من الألوان، رُسمت عن طريق صبّ طلاءٍ رخيص بعشوائيةٍ مباشرة على القماش. تتكون اللوحة من طلاءٍ أسود فقط وقماشٍ خام. واللوحة ضخمة؛ إذ يبلغ طولها تسعة أقدام وعرضها خمسة عشر قدمًا، وتغطي مجال رؤية المشاهد أثناء اقترابه منها. تقليديًّا، حتى اللوحات التجريدية تتكون من أجزاءٍ مترابطة مع بؤر تركيز (emphases) وعمقٍ يُنقل من خلال اللون والظلال، ولكن «رقم 32» ليس لها أجزاء؛ إنّها تتكون من تعالقات، والبؤرة فيها تكمن عبر امتداد سطح القماش المستطيل.
يمنحها ما سبق عمقًا سطحيًا، وربما لا عمق فيها: مجرّد طلاء على قماش. إنّها عبث بالشكل واللون. حتى اسمها، ببساطة رقمٌ معيّن – رقم 32 – يجعلها تنأى بنفسها عن أي فكرة مفادها أنها تعكس مدلولًا محدّدًا. تشير عناوين أعمال بولوك الأخرى إلى نوعٍ من الاختبار الشخصي، وإلى الاستخدام السمفوني المتعدد الطبقات للون والملمس؛ خذ مثلًا لوحاته التي تحمل اسم: «إيقاع الخريف»، و«الضباب الأرجواني»، و«الأقطاب الزرقاء»، و«انعكاس الدنقلة الكبير».
هذا لا ينطبق على لوحة «رقم 32»؛ شكلها الخام وبساطتها دليل على أنّ الفنان لم يخطط مسبقًا لرسمها؛ أيّ أنّه لم ينتق الألوان ولا الطبقات. يبدو بولوك هنا أكثر حضورًا، من خلال لمساته الحادة. بالنسبة إلى مؤيديّ عمل بولوك، تختصر هذه اللوحة خلاصة نظرة الفنان الجمالية. أما بالنسبة للبعض الآخر، فهي لوحة مبتذلة.
وصف جوزيف بويس -النحات الألماني في فترة ما بعد الحرب- الفنَّ التجريدي الأمريكي بأنه مجرد «تغليف»، أيّ سطح بلا محتوى. في هذا الصدد، قد يتفق البعض أن لوحة «رقم 32» تجسد فراغ الفكر والشعور ذاك. فقد رأى الروائي والناقد الفني روبرت كوتس أن فن بولوك لم يكن سوى «انفجارات» غير منظمة من الطاقة العشوائية. غير أنّ طائفة كبيرة من متذوقي الفن التجريدي لا تروق إليهم أعمال بولوك ويرونها فنًّا محيرًا، حتى إنّ بعضهم يراها إهانةً للذوق أو الحسّ السليم.
عُرف بولوك بلقب: «جاك فنان النقط» (Jack the Dripper) [1] في الأوساط الإعلامية المشككة بعمله حيث ادعى كثر أن أيّ شخص يمكنه أن يرسم كما يرسم بولوك إلّا أنّ أحدًا لم يتجرأ على فعل ذلك.
«رقم 32» - جاكسون بولوك«رقم 32» – جاكسون بولوك
بيد أنّ هذا هو مغزى الفن التجريدي في التقليد الغربي: إنّه تحدّ. وفي ظل الكثير هذه التحديات، تُعد لوحة « رقم 32» اللوحة الأكثر تمثيلًا لهذا الفن.
قصة الفنّ التجريدي
مسار قصة الفن التجريدي مضمّنة في الدراسات التاريخية الفنية، إلّا أنّ المحطات الرئيسة لهذا المسار كانت محط تغييرات مفاجئة كلما اكتشف مؤرخوّ الفن حقائق جديدة.
انطلق مسار الفن التجريدي بدءًا من القرن التاسع عشر وما تلاه؛ حيث استفاد الفنانون من مادة الطلاء والجوانب الشكلية للرسم مثل اللون والدرجة والخطوط. يُعرف هذا الانشغال بالجوانب غير التمثيلية (non-representative) للفن باسم «الشكلانية»، لأنّه انشغال «بالشكل»، أيّ بتوسل شكل المحتوى بدلًا من المحتوى في ذاته. بالنسبة إلى الفنانين في القرن التاسع عشر، صُنّف الفن التجريدي على أنّه «فنٌّ من أجل الفنّ»، وكانت الفكرة الشائعة مفادها أنّ المتذوق للفن يمكنه الاستمتاع بالعمل دون اللجوء إلى معنى أو حتى أي شيء آخر يمثل أمرًا ما.
تمثّل لوحة «الموسيقى الهادئة باللّونين الأسود والذهبي – الصاروخ الساقط» (1872)، للفنان جيمس مكنيل ويسلر هذا الاتجاه الذي تبلور لاحقًا في الفن التجريدي. إنّ مشهد ويسلر الغامض من الناحية المكانيّة يقترب إلى التجريد، وذلك بمحاولته نقل الشعور أو الانطباع الخاص بالمشهد بدلًا من إعادة إنتاجه بحذافيره.
«الموسيقى الهادئة باللونين الأسود والذهبي - الصاروخ الساقط» (1872-1877) - جيمس أبوت مكنيل ويسلير«الموسيقى الهادئة باللونين الأسود والذهبي – الصاروخ الساقط» (1872-1877) – جيمس أبوت مكنيل ويسلير
في عام 1877، انتقد جون روسكين – أبرز نقّاد بريطانيا في ذلك الوقت – عمل ويسلير هذا نقدًا لاذعًا فشبهه «بمن قام برمي الطلاء في وجه الجمهور». تأثر ويسلر بهذا الكلام، فرفع دعوى قضائية ضد روسكين، بيد أنّه خسرها لأن المسؤولين عرضوا اللوحة -خطأً- مقلوبةً على المحكمة. أفلس ويسلير بسبب هذه القضية، لكن مسيرة تطور الفن التجريدي استمرت.
من ناحيةٍ أخرى، تحديد أول فنان تجريدي في العالم موضوع نزاع. في نظر أبحاث تاريخ الفن التقليدية، كان فاسيلي كاندينسكي – فنان روسي الجنسية رسم لوحات تجريدية بالكامل في مطلع عام 1911- هو أول فنان تجريدي.
لم ينل الفن التجريدي الرائد لهيلما أف كلينت تقديرًا إلا قبل سنوات قريبة. هذه صورة للمعرض الشهير في متحف غاغينهايم، عام 2018 .لم ينل الفن التجريدي الرائد لهيلما أف كلينت تقديرًا إلا قبل سنوات قريبة. هذه صورة للمعرض الشهير في متحف غاغينهايم، عام 2018 .
ولكن في الآونة الأخيرة، وبفضل المعرض الرائد في متحف مقاطعة لوس أنجلوس للفنون في عام 1986 الذي حمل اسم «الروحانية في الفن: الرسم التجريدي 1890 – 1985»، وقع الاختيار على هيلما أف كلينت كأول رسامة تجريدية. بدأت كلينت في رسم لوحات تجريدية بدءًا من عام 1906، وحملت مجموعتها عنوان «الفوضى البدائية». كانت الفنانة متكتمة في ما يتعلق بأعمالها التجريدية، ولم تُعرض أيّ منها في معارض عامة، وبقيت غير معروفة حتى أزيح عنها الستار مؤخرًا.
ولعل الجدال حول هوية أول من مارس الفن التجريدي سيستم، لكن الحقيقة الأكثر أهمية هي أن العديد من الفنانين الأوروبيين البارزين قد توصّلوا في أعمالهم إلى التجريد بحلول الحرب العالمية الأولى. لقد وجد كل منهم طريقته الخاصة في التخلي عن الفن التشخيصي (figurative painting). وجديرٌ بالذكر أنّه لم تكن هناك حركة «تجريدية» دولية ذات رؤية أو بيان مشترك.
في ضوء ذلك، فإن السؤال الملحّ حقًا هو: لمَ لمْ يتبنى الفنانون الغربيون الفن التجريدي على امتداد قرون عديدة؟ لماذا كان التجريد غير ضروري أو لا معنى له أو غير مناسب أو حتى لا يمكن تقبّله لقرونٍ متوالية في الفن الغربي؟
ظهرت العديد من التفسيرات لشرح ذلك. إحدى النظريات الأكثر وضوحًا هي أن ظهور التصوير الفوتوغرافي بوصفه شكلًا من أشكال الفن، إضافةً إلى تطور الفن الحديث، سببان رئيسان لإزاحة الرسم التشخيصي.
ثمّة إجابات أخرى غير ملموسة لاستكشاف الأسباب: ربما عندما أصبحت الأعمال الفنية قابلة للاستهالاك بشكل متزايد، مثل السلع، بات من السهولة فصل اللوحات والمنحوتات عن التجارب المحددة لمبدعيها. ربما أدت الحداثة في الغرب إلى إفراغ الفن من المحتوى التشخيصي؛ مما دفع الفنانين أيضًا إلى التخلي عن التمثيل التشخيصي.
كل من هذه الإجابات معقدة وتتطلب الكثير من الشرح، ولا يمكن إلا أن تكون تخمينات. لا توجد إجابة واضحة لهذه المسألة. ربما يكون من الأفضل طرح السؤال حول سبب تقبّل الفن التجريدي فنًّا من الفنون الرسمية في تاريخ الفن الغربي في مرحلة معينة على علماء الأنثروبولوجيا بدلًا من طرحها على مؤرخي الفن. فما هو واضح أن الفن التجريدي كان موجودًا دائمًا في مناطق أخرى من العالم.
ما جعل الفن التجريدي فنًّا حديثًا على وجه التحديد في العالم الغربي هو نظام المعارض، الذي أعطى القيمة الفنية للأعمال المعروضة. وكما هو واضح فقد ازدهر التجريد لآلاف السنين المناطق الشرقية والجنوبية من العالم، دون عناء التحقق من مكانة الأعمال المعروضة في الصالونات [والمعارض، كما هو في العالم الغربي].
الواقع الافتراضي و«الافتراضية»
يتبنى بيبي كرمل وهو مؤرخ فني، في كتابه « الفن التجريدي: تاريخ عالمي»، فكرة أنّ الفن التجريدي كان دائمًا موجودًا بشكل طبيعي عندما ننظر إليه نظرة شاملة وعالمية، بيد أنّه يتحاشى طرح نظرية عن تطور الفن التجريدي. بالنسبة إلى كرمل، فإنّ هذا الفنّ متجذر في العالم الحقيقي، وهو ليس فنًّا «مجردًا» على الإطلاق، كما أنّه تقليد عالمي وليس محليًا.
في دراسته حول الفن التجريدي يقسم العمل الفني إلى خمس فئات واسعة تنتمي إلى العالم الحقيقي: الأجسام، والمناظر الطبيعية، والكون، والبنى، والعلامات والأنماط. من خلال فحص الفن التجريدي بهذه الطريقة، يرى كرمل في اللوحات التجريدية موضوعات قابلة للتحليل، بعكس النقاد والمؤرخين الأرثوذكسيين الذين رأوا فيها مجرّد توليفات شكلية مكوّنة من لون وشكل.
ربما يكون من الأفضل أن يطلق على الفن التجريدي: فن ما تم تجريده (abstracted art)؛ لأنّ الفنانين التجريديين عادةً ما يستخلصون ويجرّدون تعبيرات التجارب في شكل ولون، أكثر من كونها توليفات مكونة من شكل ولون. ومرّد ذلك الطبيعة الجوهرية للرسم والنحت؛ فهما (الشكل اللّون) وسيطان للتعبير، مثل الشاشة أو المسرح لخيال الفنان. كما هو الحال في المسرح أو السينما، فإنّ جمهور اللوحة أو المنحوتة يعلّق معتقداته من أجل أن يتقبل المشهد.
من المفيد التفكير في اللوحة التشخيصية التقليدية أو النحت على أنها حقيقة افتراضية. إذْ استخدم الفنانون لقرون عديدة الحيل البصرية -مثل المنظور الخطي، والتقصير المسبق، والتظليل- لمحاكاة الطريقة التي ندرك بها الأشياء في الفضاء الحقيقي. إنّ المشاهد تُنشأ في فضاء افتراضي – سواء كانت القاعدة التي تدعم التمثال أو القماش – ليراها المشاهدون بوصفها خدعة بصرية.
«القديس بطرس شفاء أحد الأشخاص وبعث تابيثا من الموت» ماسولينو دي بانيكال. اعتمد الرسم الغربي قبل القرن العشرين على الحيل البصرية لخلق واقع افتراضي. إحدى هذه الحيل هي المنظور الخطي، وهذه اللوحة هي أول مثال لاستخدام نقطة تلاشٍ متسقة.«القديس بطرس شفاء أحد الأشخاص وبعث تابيثا من الموت» ماسولينو دي بانيكال. اعتمد الرسم الغربي قبل القرن العشرين على الحيل البصرية لخلق واقع افتراضي. إحدى هذه الحيل هي المنظور الخطي، وهذه اللوحة هي أول مثال لاستخدام نقطة تلاشٍ متسقة.
يستمتع مشاهدوّ الأعمال الفنية العظيمة معنى ما يُرسم، ويقدرون الطريقة التي يتجلّى فيها الوهم عبر تمازج اللون والشكل.
يبقى الفن التجريدي، إلى حدٍ ما، ضمن إطار التجربة الجمالية. فقد سعت حركات الفن الحديث التي أدت إلى التجريد -أيّ «مدارس الفن»، مثل الانطباعية والفاوفية والتكعيبية- إلى تمثيل العالم بشكل مختلف عن كل الفنون التي سبقتها. إذْ ادعوا الاقتراب من الحقيقة الذاتية عبر تهميش جميع الحيل الوهمية التقليدية التي حاولت إعادة إنتاج الواقع بحذافيره كحقيقة موضوعية.
«الأحمر والأصفر والأزرق» (1925) واسيلي كاندينسكي. كان كاندينسكي يعدّ لفترةٍ طويلة أب الرسم التجريدي الغربي.«الأحمر والأصفر والأزرق» (1925) واسيلي كاندينسكي. كان كاندينسكي يعدّ لفترةٍ طويلة أب الرسم التجريدي الغربي.
بالنسبة إلى هذه المدارس، أصبح الفن أقل من أن يوصف بأنّه واقع افتراضي، لكنه مع ذلك احتفظ بالافتراضية، وأصبح افتراضيًا. لقد أخذ الفن التجريدي مسار التطور هذا إلى أقصاه: من الواقع الافتراضي إلى الافتراضية.
ماذا تعني «الافتراضية» هنا؟ إنّها الوجود كجوهر وتأثير، ولكن بدون اللجوء إلى الواقع. اللوحة التجريدية التي رسمها كاندينسكي، على سبيل المثال، ما زالت تُعدّ علاقة متبادلة بين الشكل واللون، و تعتمد على الرسم كمستوى تخطيطي: إنها نافذة تطلّ على «الواقع» الفردي الذي تصوّره كاندينسكي.
وما تزال العناصر في لوحات كاندينسكي تحظى بعلاقة متبادلة، كما هو الحال في فضاء الواقع الافتراضي للوحة التشخيصية؛ فجوهر الرسم سليم إذ إنّ ذلك الفضاء الافتراضي ما زال موجودًا. عندما يكون الفن التجريدي بناءً خالصًا، ويتخلص من المساحة الافتراضية الملازمة للرسم والنحت، يصبح متميزًا عنهما.
وصف دونالد جود الفنان التخفيفي (minimalist) مثل هذه الأعمال الفنية بأنها «أجسام محدّدة» (Specific Objects). إنّه مصطلح غير دقيق، ولكنه يصلح لإظهار أن مثل هذه الأعمال الفنية ليست رسمًا ولا نحتًا، ولكنها فئة أخرى تمامًا.
رأى دونالد جود أن أعماله وأعمال العديد من معاصريه تشغل مساحة هجينة، لا هي لوحات ولا هي نحت. عمل دون عنوان لدونالد جود.
استخدم جود هذا المصطلح لوصف أعماله الخاصة، ولكنه ينطبق على لوحات كازيمير ماليفيتش وفرانك ستيلا أحادية اللون، والتي تجعل اللوحة تندمج مع نفسها بالكامل، من أجل الوصول للتأثير الذي يأمل العمل في تحقيقه.
في مثل هذه الأعمال، لم يعد قماش اللّوحة (أو القاعدة) سطحًا تتفاعل فيه الأشكال والألوان في الفضاء الافتراضي. بدلاً من ذلك، تتفاعل الأشكال والألوان في الفضاء الحقيقي، في فضائنا.
تختلف معايير النجاح أو الفشل لهذه الأعمال عن الخصائص التقليدية للرسم والنحت. رأى جود أنّ خصائص الرسم والنحت تقف في طريق ما أراد تحقيقه من خلال اللون والشكل. في رأيه، كان لـ «أجسامه المحددة» تأثيرًا أحدّ من غيرها.
الواقع والأشكال الجديدة للإدراك الحسّي
الرسم نفسه له ثلاثة أنواع عامة من التجريد؛ أولًا، ثمّة أسلوب تعبيري تُرسم فيه الأشكال بحركاتٍ غير مقيدة؛ ثم هناك التجريد الهندسي حيث يتم هيكلة الأشكال؛ أما النوع الثالث، فهو تجريد مجال اللون حيث يتم عرض مساحات من الألوان بطريقةٍ لا شكل واضح لها.
لم تكن هذه «الأنماط» (styles) أنماطًا عرضيةً أو تعتمد على ذوق أو ميل الرسام كوسيلة لتحقيق هدفٍ ما من البحث الفني. وخير مثال على ذلك هو الفنان الذي غالبًا ما ينظر إلى عمله على أنّه ذروة التجريد الهندسي: بيت موندريان. إنّ لوحات بيت موندريان المكونة من شبكات (grids) ذات الخطوط السوداء والأجزاء الملونة على خلفية بيضاء؛ تهدف إلى استحضار «حقيقة أعلى».
بالنسبة إلى موندريان، كان الفن في جوهره معارضًا للواقع؛ «لأن الواقع يتعارض مع الروحي». بغض النظر عن هذه اللوحة الأشهر لموندريان، فإنّ جوانب الرسم التي تهم هذا الفنان حقًا لم تكن الجوانب المحددة للموضوع -أيّ ماذا أو ما يتم تصويره في اللوحة مثلًا- بل الجوانب القابلة للفهم عالميًا للشكل والخط واللون. إنّ لوحات موندريان، مثلها مثل لوحات الفنانين الآخرين، هي محاولة لاستخلاص الشكل واللون من أجل الاقتراب من ذلك الجوهر العالمي والروحي للفن.
عبّر موندريان عن رغبته في الوصول إلى «أساس» الأشياء من خلال الحدس، كالعديد من الفنانين التجريديين الآخرين في النصف الأول من القرن العشرين الذين رغبوا في الوصول إلى قوى غير مرئية حولنا، ولكنها معروفة أو محدوسة.
«التكوين الثاني باللون الأحمر والأزرق والأصفر» (1930) - بيت موندريان«التكوين الثاني باللون الأحمر والأزرق والأصفر» (1930) – بيت موندريان
في أواخر القرن التاسع عشر، لاحظ العلماء بشكلٍ أفضل مما سبق القوى غير المرئية مع انتشار التقنيات الجديدة، وأصبح من الواضح أن العالم أرحب مما يبدو للعين. في الوقت نفسه، ظهرت حركات روحية بديلة جمعت بين الأفكار الأفلاطونية والتصوف.
كان كلينت وموندريان من بين العديد من الفنانين الذين انغمسوا في أشكال الروحانية خارج العوالم التقليدية للدين. اعتقدت كلينت أن لوحاتها هي وحي عالم روحي، وأن مهمتها كانت العمل «على مستوى روحاني» لتمثيل روح الإنسان، بدلًا من صورته الفانية.
بحلول عشرينيات القرن الماضي، كانت نظرية فرويد عن للعقل البشري قد تغلغلت أيضًا في عالم الفن. كذلك السريالية، وهي حركة منظمة بإحكام بدأت مع بعض الفنانين الذين سعوا إلى التنقيب عن الإمكانات الإبداعية للعقل الباطن، وهي الحركة الثقافية التي كانت سائدة في أوروبا بين الحربين العالميتين.
لم تكن السريالية دوغمائية في محاولتها لاستكشاف اللاوعي، ولذلك ظهر عدد من الأساليب والطرق لمحاولة إخراج اللاوعي إلى السطح. إحدى هذه الأساليب كان الرسم الآلي (Automatism)، وهي عملية يتخلى فيها الفنان عن السيطرة الواعية لليد التي ترسم أو تصور. في هذا المجال، تبنى الفنانون مثل أندريه ماسون وخوان ميرو الفرصة لبناء صورهم باستخدام حركات حرّة، وحتى إلقاء الطلاء على القماش.
طور أرشيل غوركي -هو مهاجر أرمني عاش في الولايات المتحدة- أسلوبًا في الرسم يدمج بين الرسم الآلي وتجريد مجال الألوان. لوحاته في الأربعينيات حجمُها ضخم – ومرد ذلك تأثره بأعماله السابقة كفنان جداري مُعيّن من الدولة خلال السنوات الأخيرة من الكساد الكبير – لكنها معبّرة وغنائية في الرسم بالفرشاة.
ألهم إدماج غوركي للأنماط جيلًا واسعًا من الفنانين الأمريكيين في فترة ما بعد الحرب لاحتضان التجريد الواسع النطاق. ما نسميه الآن «التعبيرية التجريدية»، وكان ذاك الجيل في الواقع مجموعة فضفاضة من الفنانين الذين يستخدمون أنماطًا متعدّدة من أنماط التجريد.
ربما كان القاسم المشترك بين هؤلاء الفنانين – على الأقل في السنوات الأولى – هو دعم جيل جديد من النقاد بقيادة كليمنت غرينبيرغ، الذي كان يعتقد أن التجريد هو التعبير الأسمى للفن الغربي.
«الكبد هو مشط الديك» (1944) - أرشيل جوركي.«الكبد هو مشط الديك» (1944) – أرشيل جوركي.
الحداثة ومصير الفنّ الغربي
كان يُعتقد في بعض الأوساط الفكرية المؤثرة أنّ الفن يتقدم نحو هدف؛ وهذا المضمون يشتمل عليه مصطلح «الطليعية» (Avant-garde)، الذي يُوصف به الفنّانون الذين يبتكرون أرضية جمالية جديدة. أصل المصطلح فرنسي يُطلق على الجنود الذين يتقدمون إلى مناطق جديدة.
بالنسبة إلى غرينبيرغ، لم يكن هؤلاء الفنّانون يوسّعون حدود إمكانات الفن؛ بل كانوا يتقدمون نحو الهدف الحقيقي والمفرد لكل شكل فني.
يُعدّ غرينبيرغ شخصية مهمة في تاريخ الفن التجريدي، وذلك لأمرين: بوصفه مناصرًا رائدًا في مسألة تفوق الفن التجريدي على غيره من أنواع الرسم، وتأكيده للقوة التي امتلكها هذا الفن. كان ناقدًا في اللجنة الأمريكية للحريّة الثقافية التي تمولها الدولة، وهي مجموعة تم إنشاؤها لتعزيز الفن الأمريكي على المستوى الدولي.
أصبحت أفكار غرينبيرغ مؤثرة عندما كانت الولايات المتحدة جزءًا من الحرب على الفاشية والنازية، وخلال الحرب الباردة اللاحقة ضد الشيوعية السوفيتية. كانت معايير الفن الفاشي والسوفياتي واضحة، وهي ما تحددها السلطات الثقافية أنها كذلك، بيد أنّه ما لم يكن واضحًا هو معايير الفن «الجيد» وتحديدًا في الغرب الديمقراطي.
كان الماركسيون هم من تعاطف مع غرينبيرغ في البداية، لكن ارتبط تفكيره بشكلٍ متزايد بالهيمنة الثقافية الأمريكية. بالنسبة إليه، كان التجريد في أعمال بولوك فنًا مثاليًا لمجتمع ديمقراطي. تتجلى الحداثة في الفن، وفقًا لغرينبيرغ، في إطار التنوير الأوروبي؛ أيّ في فترة ازدهار الأفكار الفلسفية والعلمية التي أعطت الأولوية للعقل.
في مقالته المؤثرة « الرسم الحداثي» (1961)، وصفَ غرينبيرغ إيمانويل كانط – الفيلسوف الألماني في عصر التنوير – بأنّه «أول حداثي حقيقي». كان أسلوب كانط في «النقد» هو استخدام العقل لنقد العقل بغرض توضيحه، ومنحه استقلالية عن أنواع التفكير الأخرى.
«أولمبيا» - إدوارد مانيه (1863). بالنسبة إلى كليمنت غرينبيرغ، كان مانيه أول رسام حداثي. لقد رسم مانيه لوحاته بأسلوبٍ مسطّح بشكلٍ متعمد.«أولمبيا» – إدوارد مانيه (1863). بالنسبة إلى كليمنت غرينبيرغ، كان مانيه أول رسام حداثي. لقد رسم مانيه لوحاته بأسلوبٍ مسطّح بشكلٍ متعمد.
بالطريقة نفسها، كان الرسامون الحداثيون – من إدوارد مانيه في القرن التاسع عشر إلى موريس لويس، وهو رسام يعمل ينتمي إلى رسامي أسلوب مجال ألوان في الولايات المتحدة في الوقت الذي كتب فيه غرينبيرغ مقالته – يعملون على ترسيخ الفن التعبيري «بشكل صارم في مجال تخصصه».
رأى غرينبيرغ أن وضوح الفن التجريدي -الذي كان صادقًا بالنسبة إلى الوسيط الذي يُعبّر من خلاله- معارضٌ لـ«الفن الشعبي المبتذل [الكيتش]» الذي ينُتج على نطاق واسع في الثقافة الشعبية. إن إزالة «الكيتش» كانت مسألة استجلاء وتوضيح تحتاجها جميع الفنون لكي تصبح تعبيرًا عن إمكاناتها الجمالية الكامنة.
اللوحات مسطّحة، وإيهام العمق الذي نجده في معظم الفن الغربي كان انحرافًا عن جوهر فن الرسم ذاته. كانت استقلالية الشكل الفني في جميع خصائصه دون أن تتلوث بأشكال فنية أخرى. وفقًا لغرينبيرغ، يعدّ الشكل واللون من أهم خصائص الرسم، و أفضل تمثيل لها يكون بشكلٍ مسطّح.
وهكذا دافع غرينبيرغ عن «التسطيح» الذي تجلّى في لوحات الفنانين الأمريكيين التجريدية مثل جاكسون بولوك باعتباره تحقيقًا لهذا الوضوح الحداثي. لقد ضم هؤلاء الفنانين معًا ضمن فريق واحد، وهم يمثّلون المرحلة التالية في الحداثة، وقد حلّت رؤيتهم الأمريكية المميزة محلّ الفن الأوروبي الطليعي.
وفي الوقت الذي أصبح فيه الفن التجريدي الأمريكي مهيمنًا، تراجعت هيمنة غرينبيرغ النقدية، وظهرت أشكال جديدة من الفن الطليعي، مستوحاة مباشرة من الثقافة الجماهيرية، وحلّت محلّ التعبيرية التجريدية في المخيال العام. تبنى فنانوّ «البوب» مثل: آندي وارهول، وريتشارد هاميلتون هذا النوع من «الفن الشعبي المبتذل» الذي رآه غرينبيرغ تلويثًا للفن الحقيقي.
استمرت الأعمال الفنية التجريدية، ولكن تخلّى الفنّانون التجريديون الأكثر جرأة عن الفكرة الصارمة «للنقد الحداثي»، وعن الوضوح المتعلق بخصوصية الوسيط الفني، وذلك لصالح أشكال أخرى من التعبير.
نظر فنانوّ «ما بعد الحداثة» إلى السخرية وعملية الرسم نفسها، كطرق لتجاوز الطريق المسدود للحداثة. تبنى الألماني غيرهارد ريختر كلا النهجين؛ فبعض أعماله التجريدية في الستينيات كانت مصنوعة بممسحاتٍ بدلًا من الفرشاة، حتى يتمكن من لفت الانتباه إلى عملية صنع اللوحة نفسها.
كانت «اللوحات التجريدية» البارزة الأخرى التي رسمها ريختر في الواقع صورًا واقعية مرسومة بعناية تعكس لوحاته التجريدية الأخرى. أصبحت طلائعية الرسم التجريدي مفهومية أكثر، ما جعل ضمنيًّا قضية الرسم تحظى باستقلالية أقل مما كان كان يعتقد النقاد الحداثيون.
قلّد فنانوّ «نيو جيو»، مثل: الرسام بيتر هالي، والنحات أشلي بيكرتون اللغة البصرية للتجريد الهندسي، لكنهما دمجاها مع السلع الاستهلاكية بألوانٍ تجارية فاتحة وأحيانًا فلورية.
منذ ذلك الجيل ما بعد الحداثي من الرسامين والنحاتين الممتد من الستينيات إلى التسعينيات، ازدهر التجريد متفرّعًا إلى عددٍ لا يُحصى من الأساليب والمقاربات بجوار الفن التشخيصي. هنا يمكن القول إنّ التجريد المتحرّر من عبء التوقعات الحداثية هو ببساطة نهج للتعبير مثل أيّ نهج آخر.
وتجدر الإشارة إلى أنّ بعض الفنانين التجريديين استخدموا الحيل البصرية المستعملة في الفن التشخيصي – مثل المنظور والتظليل – في لوحاتهم. ولاستخدامهم هذا أهداف فريدة و غالبًا لا تهتم بالنظرية.
قلّد فنانوّ «ما بعد الحداثة» مثل: بيتر هالي اللغة البصرية المستعملة في الفن التجريدي الحديث (في حالة بيتر، التجريد الهندسي)، للتعليق على طبيعة الفن والمعنى نفسه. تمثّل هذه الكتل الملونة «الخلايا» و«الأنابيب».قلّد فنانوّ «ما بعد الحداثة» مثل: بيتر هالي اللغة البصرية المستعملة في الفن التجريدي الحديث (في حالة بيتر، التجريد الهندسي)، للتعليق على طبيعة الفن والمعنى نفسه. تمثّل هذه الكتل الملونة «الخلايا» و«الأنابيب».
هذا هو التحرّر نحو الأفضل بين الرسامين التجريديين الذين يمكنهم الالتزام برؤيةٍ فريدة بالرسم على القماش. لكن فكّ ارتباط الفن التجريدي عن إطاره الفلسفي الأوسع أدى أيضًا إلى انتشارٍ يثير التساؤل لأعمال تجريدية متنوعة قابلة للاستهلاك – بمعنى أنّها فقدت قيمتها، وباتت تُباع وتُشترى سريعًا بأسعارٍ مربحة – يشتريها المشترون المتضاربون.
دفع هذا التحول الناقد جيري سالتز إلى كتابة: « الزومبي على الجدران: لماذا يبدو الكثير من التجريد الجديد متشابهًا؟». وقد شبه اللّوحات التجريدية بصورة «الزومبي»، تحقيرًا لأعمال عددٍ من الرسامين التجريديين البارزين، الذين استخدموا الفنّ وجماليته لتقديم أعمال مبتذلة.
ومن المفارقات أن هؤلاء الفنانين نظروا إلى الشكلانية بوصفها فنًّا حداثيًّا متبنّين منظور غرينبيرغ، لكنهم بالطبع قدّموا أعمالًا في ظلّ فراغ تاريخي وبعد فترةٍ طويلة حين لم يُصبح التجريد مثيرًا للاهتمام أو راديكاليًا بأي وجه من الوجوه.
في الواقع، لم يصل مشروع الحداثة في الفن التجريدي إلى نهايته، بل النقد. إنّ النقد -أيّ الإطار الفلسفي الواسع الذي يصادق على الأعمال الفنية ويثمّنها لأهميتها الثقافية والتاريخية- هو ما فقد التوجه والسلطة.
كان مسار الفن الغربي منذ عصر التنوير يتأرجح بين قطبي الدوغمائية النقدية والإبداع. تكمن المشكلة أنه في العقود الأخيرة، وفي ظلّ غياب أي مشروع نقدي متماسك، انجرف الفن نحو إرضاء اهتمامات دقيقة ومتنوعة تزداد باستمرار.
في حين كانت هناك «حركات» و«مدارس» فنية -مصطلحان يشيران إلى الوجهة والانضباط- لم يعد لدينا الآن سوى «مشاهد».
هذا ليس بالضرورة أمرًا سيئًا. ولكن في عالم حيث «كل شيء مقبول – anything goes»، لا يوجد مجال لهذا النوع من الابتكار والتجاوز الذي أدى إلى ظهور الفن التجريدي في الغرب، وهذا ما جعل الفن الحديث فنًّا مثيرًا للغاية.
من الصعب في هذه اللحظة التاريخية أن ندرك ما الذي جعل لوحة بولوك «رقم 32» مثيرة للانقسام، ومخلخلةً جدًا للمعايير، وفي الوقت نفسه محتفظةً بقيمةٍ عالية جدًا لأولئك الذين يعتقدون أن للفنِّ مكانًا في المجتمع يتجاوز المتعة.
[divider style=”solid” top=”20″ bottom=”20″]
[1] واللقب كذلك يُلمح إلى القاتل المتسلسل في لندن آخر القرن التاسع عشر: جاك السفّاح
Jack the ripper (مدير التحرير).
### خارج عقلك | توم تشاتفيلد – ت: محمد السعيد
عندما يكون هاتفي النقال بين يديّ، هل أكون أنا الشخص نفسه لو كان الهاتف في غرفة أخرى؟ من ناحية،...
### الدراما في التعليم: مقاربات وتطبيقات | نعيم حيماد
افتتاحيّة حظي استخدام الدراما في التعليمفي السنوات الأخيرة باهتمام كبير من قبل نخبة من المنظرين والممارسين للدراما في مجال التعليم....
### الحقائق المخفية | دي بي سي بيير – ت: محمد السعيد
يحمل جبل كلسي خشن في غرب إيران عددًا من النقوش البارزة، من بينها لوحة طولها خمسة وعشرين مترًا منقوشة...
### التغلُّب على كاشف الكذب | كلاريسا سيباغ-مونتِنفيوري – ت: محمد السعيد
حين اتُّهِمَتْ مربية الأطفال البريطانية لويز وودورد بهزِّ رضيع حتى الموت في مدينة نيوتن بولاية ماساتشوستس، لم تكتفِ بإعلان...
### عن منصة معنى
«معنى»، مؤسسة ثقافية تقدّمية ودار نشر تهتم بالفلسفة والمعرفة والفنون، عبر مجموعة متنوعة من المواد المقروءة والمسموعة والمرئية. انطلقت في 20 مارس 2019، بهدف إثراء المحتوى العربي، ورفع ذائقة ووعي المتلقّي المحلي والدولي، عبر الإنتاج الأصيل للمنصة والترجمة ونقل المعارف.
### روابط سريعة
### التصنيفات
### مرحبا بك!
قم بتسجيل الدخول إلى حسابك
تذكرني
### قم بإنشاء حساب جديد!
املأ النموذج أدناه للتسجيل
### طلب إعادة تعيين كلمة المرور
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان البريد الإلكتروني لإعادة تعيين كلمة المرور الخاصة بك.
### Add New Playlist
- Select Visibility -PublicPrivate
No Result
عرض جميع النتائج
-
00:00
00:00
-
00:00
00:00
|
article
|
Arabic
|
ar
|
الفنّ التجريدي: بين الماضي والحاضر - منصة معنى الثقافية
|
https://mana.net/abstract-art/
|
1,908 |
كان الماركسيون هم من تعاطف مع غرينبيرغ في البداية، لكن ارتبط تفكيره بشكلٍ متزايد بالهيمنة الثقافية الأمريكية.
|
sentence
|
كان الماركسيون هم من تعاطف مع غرينبيرغ في البداية، لكن ارتبط تفكيره بشكلٍ متزايد بالهيمنة الثقافية الأمريكية. بالنسبة إليه، كان التجريد في أعمال بولوك فنًا مثاليًا لمجتمع ديمقراطي. تتجلى الحداثة في الفن، وفقًا لغرينبيرغ، في إطار التنوير الأوروبي؛ أيّ في فترة ازدهار الأفكار الفلسفية والعلمية التي أعطت الأولوية للعقل.
|
paragraph
|
Arabic
|
ar
|
الفنّ التجريدي: بين الماضي والحاضر - منصة معنى الثقافية
|
https://mana.net/abstract-art/
|
1,909 |
بالنسبة إليه، كان التجريد في أعمال بولوك فنًا مثاليًا لمجتمع ديمقراطي.
|
sentence
|
كان الماركسيون هم من تعاطف مع غرينبيرغ في البداية، لكن ارتبط تفكيره بشكلٍ متزايد بالهيمنة الثقافية الأمريكية. بالنسبة إليه، كان التجريد في أعمال بولوك فنًا مثاليًا لمجتمع ديمقراطي. تتجلى الحداثة في الفن، وفقًا لغرينبيرغ، في إطار التنوير الأوروبي؛ أيّ في فترة ازدهار الأفكار الفلسفية والعلمية التي أعطت الأولوية للعقل.
|
paragraph
|
Arabic
|
ar
|
الفنّ التجريدي: بين الماضي والحاضر - منصة معنى الثقافية
|
https://mana.net/abstract-art/
|
1,910 |
تتجلى الحداثة في الفن، وفقًا لغرينبيرغ، في إطار التنوير الأوروبي؛ أيّ في فترة ازدهار الأفكار الفلسفية والعلمية التي أعطت الأولوية للعقل.
|
sentence
|
كان الماركسيون هم من تعاطف مع غرينبيرغ في البداية، لكن ارتبط تفكيره بشكلٍ متزايد بالهيمنة الثقافية الأمريكية. بالنسبة إليه، كان التجريد في أعمال بولوك فنًا مثاليًا لمجتمع ديمقراطي. تتجلى الحداثة في الفن، وفقًا لغرينبيرغ، في إطار التنوير الأوروبي؛ أيّ في فترة ازدهار الأفكار الفلسفية والعلمية التي أعطت الأولوية للعقل.
|
paragraph
|
Arabic
|
ar
|
الفنّ التجريدي: بين الماضي والحاضر - منصة معنى الثقافية
|
https://mana.net/abstract-art/
|
1,911 |
في مقالته المؤثرة « الرسم الحداثي» (1961)، وصفَ غرينبيرغ إيمانويل كانط – الفيلسوف الألماني في عصر التنوير – بأنّه «أول حداثي حقيقي». كان أسلوب كانط في «النقد» هو استخدام العقل لنقد العقل بغرض توضيحه، ومنحه استقلالية عن أنواع التفكير الأخرى.
|
paragraph
|
لا توجد منتجات في سلة المشتريات.
No Result
عرض جميع النتائج
الثلاثاء, سبتمبر 10, 2024
No Result
عرض جميع النتائج
No Result
عرض جميع النتائج
# الفنّ التجريدي: بين الماضي والحاضر
## ترجمة: أنطونيوس نادر
AA
AA
إعادة تعيين
فنٌ مليء بالتحديات
ثمّة خطٌ رفيع يفصل بين الفن التجريدي ومجرد الزخرفة، ولوحة «رقم 32» (نُشرت عام 1950)، لجاكسون بولوك تتأرجح بين هذا الخطّ. فهي لا تشير إلى معنىً واضح، ولكن لا يمكن القول إنّها بلا معنى على الإطلاق. كما أنّها ليست معبّرة بشكلٍ مباشر، ولا يعني هذا أنها لا تعبّر عن مدلولٍ ما. تحمل هذه اللوحة الكثير من المضامين عن الفن الغربي بالنسبة إلى شخصٍ خبيرٍ في تاريخ الفن؛ أما بالنسبة إلى شخصٍ عادي، فقد يراها عملًا مبتذلًا بالكاد يعبّر عن أمرٍ ما.
اللوحة شبكة من الخطوط وبقعٍ من الألوان، رُسمت عن طريق صبّ طلاءٍ رخيص بعشوائيةٍ مباشرة على القماش. تتكون اللوحة من طلاءٍ أسود فقط وقماشٍ خام. واللوحة ضخمة؛ إذ يبلغ طولها تسعة أقدام وعرضها خمسة عشر قدمًا، وتغطي مجال رؤية المشاهد أثناء اقترابه منها. تقليديًّا، حتى اللوحات التجريدية تتكون من أجزاءٍ مترابطة مع بؤر تركيز (emphases) وعمقٍ يُنقل من خلال اللون والظلال، ولكن «رقم 32» ليس لها أجزاء؛ إنّها تتكون من تعالقات، والبؤرة فيها تكمن عبر امتداد سطح القماش المستطيل.
يمنحها ما سبق عمقًا سطحيًا، وربما لا عمق فيها: مجرّد طلاء على قماش. إنّها عبث بالشكل واللون. حتى اسمها، ببساطة رقمٌ معيّن – رقم 32 – يجعلها تنأى بنفسها عن أي فكرة مفادها أنها تعكس مدلولًا محدّدًا. تشير عناوين أعمال بولوك الأخرى إلى نوعٍ من الاختبار الشخصي، وإلى الاستخدام السمفوني المتعدد الطبقات للون والملمس؛ خذ مثلًا لوحاته التي تحمل اسم: «إيقاع الخريف»، و«الضباب الأرجواني»، و«الأقطاب الزرقاء»، و«انعكاس الدنقلة الكبير».
هذا لا ينطبق على لوحة «رقم 32»؛ شكلها الخام وبساطتها دليل على أنّ الفنان لم يخطط مسبقًا لرسمها؛ أيّ أنّه لم ينتق الألوان ولا الطبقات. يبدو بولوك هنا أكثر حضورًا، من خلال لمساته الحادة. بالنسبة إلى مؤيديّ عمل بولوك، تختصر هذه اللوحة خلاصة نظرة الفنان الجمالية. أما بالنسبة للبعض الآخر، فهي لوحة مبتذلة.
وصف جوزيف بويس -النحات الألماني في فترة ما بعد الحرب- الفنَّ التجريدي الأمريكي بأنه مجرد «تغليف»، أيّ سطح بلا محتوى. في هذا الصدد، قد يتفق البعض أن لوحة «رقم 32» تجسد فراغ الفكر والشعور ذاك. فقد رأى الروائي والناقد الفني روبرت كوتس أن فن بولوك لم يكن سوى «انفجارات» غير منظمة من الطاقة العشوائية. غير أنّ طائفة كبيرة من متذوقي الفن التجريدي لا تروق إليهم أعمال بولوك ويرونها فنًّا محيرًا، حتى إنّ بعضهم يراها إهانةً للذوق أو الحسّ السليم.
عُرف بولوك بلقب: «جاك فنان النقط» (Jack the Dripper) [1] في الأوساط الإعلامية المشككة بعمله حيث ادعى كثر أن أيّ شخص يمكنه أن يرسم كما يرسم بولوك إلّا أنّ أحدًا لم يتجرأ على فعل ذلك.
«رقم 32» - جاكسون بولوك«رقم 32» – جاكسون بولوك
بيد أنّ هذا هو مغزى الفن التجريدي في التقليد الغربي: إنّه تحدّ. وفي ظل الكثير هذه التحديات، تُعد لوحة « رقم 32» اللوحة الأكثر تمثيلًا لهذا الفن.
قصة الفنّ التجريدي
مسار قصة الفن التجريدي مضمّنة في الدراسات التاريخية الفنية، إلّا أنّ المحطات الرئيسة لهذا المسار كانت محط تغييرات مفاجئة كلما اكتشف مؤرخوّ الفن حقائق جديدة.
انطلق مسار الفن التجريدي بدءًا من القرن التاسع عشر وما تلاه؛ حيث استفاد الفنانون من مادة الطلاء والجوانب الشكلية للرسم مثل اللون والدرجة والخطوط. يُعرف هذا الانشغال بالجوانب غير التمثيلية (non-representative) للفن باسم «الشكلانية»، لأنّه انشغال «بالشكل»، أيّ بتوسل شكل المحتوى بدلًا من المحتوى في ذاته. بالنسبة إلى الفنانين في القرن التاسع عشر، صُنّف الفن التجريدي على أنّه «فنٌّ من أجل الفنّ»، وكانت الفكرة الشائعة مفادها أنّ المتذوق للفن يمكنه الاستمتاع بالعمل دون اللجوء إلى معنى أو حتى أي شيء آخر يمثل أمرًا ما.
تمثّل لوحة «الموسيقى الهادئة باللّونين الأسود والذهبي – الصاروخ الساقط» (1872)، للفنان جيمس مكنيل ويسلر هذا الاتجاه الذي تبلور لاحقًا في الفن التجريدي. إنّ مشهد ويسلر الغامض من الناحية المكانيّة يقترب إلى التجريد، وذلك بمحاولته نقل الشعور أو الانطباع الخاص بالمشهد بدلًا من إعادة إنتاجه بحذافيره.
«الموسيقى الهادئة باللونين الأسود والذهبي - الصاروخ الساقط» (1872-1877) - جيمس أبوت مكنيل ويسلير«الموسيقى الهادئة باللونين الأسود والذهبي – الصاروخ الساقط» (1872-1877) – جيمس أبوت مكنيل ويسلير
في عام 1877، انتقد جون روسكين – أبرز نقّاد بريطانيا في ذلك الوقت – عمل ويسلير هذا نقدًا لاذعًا فشبهه «بمن قام برمي الطلاء في وجه الجمهور». تأثر ويسلر بهذا الكلام، فرفع دعوى قضائية ضد روسكين، بيد أنّه خسرها لأن المسؤولين عرضوا اللوحة -خطأً- مقلوبةً على المحكمة. أفلس ويسلير بسبب هذه القضية، لكن مسيرة تطور الفن التجريدي استمرت.
من ناحيةٍ أخرى، تحديد أول فنان تجريدي في العالم موضوع نزاع. في نظر أبحاث تاريخ الفن التقليدية، كان فاسيلي كاندينسكي – فنان روسي الجنسية رسم لوحات تجريدية بالكامل في مطلع عام 1911- هو أول فنان تجريدي.
لم ينل الفن التجريدي الرائد لهيلما أف كلينت تقديرًا إلا قبل سنوات قريبة. هذه صورة للمعرض الشهير في متحف غاغينهايم، عام 2018 .لم ينل الفن التجريدي الرائد لهيلما أف كلينت تقديرًا إلا قبل سنوات قريبة. هذه صورة للمعرض الشهير في متحف غاغينهايم، عام 2018 .
ولكن في الآونة الأخيرة، وبفضل المعرض الرائد في متحف مقاطعة لوس أنجلوس للفنون في عام 1986 الذي حمل اسم «الروحانية في الفن: الرسم التجريدي 1890 – 1985»، وقع الاختيار على هيلما أف كلينت كأول رسامة تجريدية. بدأت كلينت في رسم لوحات تجريدية بدءًا من عام 1906، وحملت مجموعتها عنوان «الفوضى البدائية». كانت الفنانة متكتمة في ما يتعلق بأعمالها التجريدية، ولم تُعرض أيّ منها في معارض عامة، وبقيت غير معروفة حتى أزيح عنها الستار مؤخرًا.
ولعل الجدال حول هوية أول من مارس الفن التجريدي سيستم، لكن الحقيقة الأكثر أهمية هي أن العديد من الفنانين الأوروبيين البارزين قد توصّلوا في أعمالهم إلى التجريد بحلول الحرب العالمية الأولى. لقد وجد كل منهم طريقته الخاصة في التخلي عن الفن التشخيصي (figurative painting). وجديرٌ بالذكر أنّه لم تكن هناك حركة «تجريدية» دولية ذات رؤية أو بيان مشترك.
في ضوء ذلك، فإن السؤال الملحّ حقًا هو: لمَ لمْ يتبنى الفنانون الغربيون الفن التجريدي على امتداد قرون عديدة؟ لماذا كان التجريد غير ضروري أو لا معنى له أو غير مناسب أو حتى لا يمكن تقبّله لقرونٍ متوالية في الفن الغربي؟
ظهرت العديد من التفسيرات لشرح ذلك. إحدى النظريات الأكثر وضوحًا هي أن ظهور التصوير الفوتوغرافي بوصفه شكلًا من أشكال الفن، إضافةً إلى تطور الفن الحديث، سببان رئيسان لإزاحة الرسم التشخيصي.
ثمّة إجابات أخرى غير ملموسة لاستكشاف الأسباب: ربما عندما أصبحت الأعمال الفنية قابلة للاستهالاك بشكل متزايد، مثل السلع، بات من السهولة فصل اللوحات والمنحوتات عن التجارب المحددة لمبدعيها. ربما أدت الحداثة في الغرب إلى إفراغ الفن من المحتوى التشخيصي؛ مما دفع الفنانين أيضًا إلى التخلي عن التمثيل التشخيصي.
كل من هذه الإجابات معقدة وتتطلب الكثير من الشرح، ولا يمكن إلا أن تكون تخمينات. لا توجد إجابة واضحة لهذه المسألة. ربما يكون من الأفضل طرح السؤال حول سبب تقبّل الفن التجريدي فنًّا من الفنون الرسمية في تاريخ الفن الغربي في مرحلة معينة على علماء الأنثروبولوجيا بدلًا من طرحها على مؤرخي الفن. فما هو واضح أن الفن التجريدي كان موجودًا دائمًا في مناطق أخرى من العالم.
ما جعل الفن التجريدي فنًّا حديثًا على وجه التحديد في العالم الغربي هو نظام المعارض، الذي أعطى القيمة الفنية للأعمال المعروضة. وكما هو واضح فقد ازدهر التجريد لآلاف السنين المناطق الشرقية والجنوبية من العالم، دون عناء التحقق من مكانة الأعمال المعروضة في الصالونات [والمعارض، كما هو في العالم الغربي].
الواقع الافتراضي و«الافتراضية»
يتبنى بيبي كرمل وهو مؤرخ فني، في كتابه « الفن التجريدي: تاريخ عالمي»، فكرة أنّ الفن التجريدي كان دائمًا موجودًا بشكل طبيعي عندما ننظر إليه نظرة شاملة وعالمية، بيد أنّه يتحاشى طرح نظرية عن تطور الفن التجريدي. بالنسبة إلى كرمل، فإنّ هذا الفنّ متجذر في العالم الحقيقي، وهو ليس فنًّا «مجردًا» على الإطلاق، كما أنّه تقليد عالمي وليس محليًا.
في دراسته حول الفن التجريدي يقسم العمل الفني إلى خمس فئات واسعة تنتمي إلى العالم الحقيقي: الأجسام، والمناظر الطبيعية، والكون، والبنى، والعلامات والأنماط. من خلال فحص الفن التجريدي بهذه الطريقة، يرى كرمل في اللوحات التجريدية موضوعات قابلة للتحليل، بعكس النقاد والمؤرخين الأرثوذكسيين الذين رأوا فيها مجرّد توليفات شكلية مكوّنة من لون وشكل.
ربما يكون من الأفضل أن يطلق على الفن التجريدي: فن ما تم تجريده (abstracted art)؛ لأنّ الفنانين التجريديين عادةً ما يستخلصون ويجرّدون تعبيرات التجارب في شكل ولون، أكثر من كونها توليفات مكونة من شكل ولون. ومرّد ذلك الطبيعة الجوهرية للرسم والنحت؛ فهما (الشكل اللّون) وسيطان للتعبير، مثل الشاشة أو المسرح لخيال الفنان. كما هو الحال في المسرح أو السينما، فإنّ جمهور اللوحة أو المنحوتة يعلّق معتقداته من أجل أن يتقبل المشهد.
من المفيد التفكير في اللوحة التشخيصية التقليدية أو النحت على أنها حقيقة افتراضية. إذْ استخدم الفنانون لقرون عديدة الحيل البصرية -مثل المنظور الخطي، والتقصير المسبق، والتظليل- لمحاكاة الطريقة التي ندرك بها الأشياء في الفضاء الحقيقي. إنّ المشاهد تُنشأ في فضاء افتراضي – سواء كانت القاعدة التي تدعم التمثال أو القماش – ليراها المشاهدون بوصفها خدعة بصرية.
«القديس بطرس شفاء أحد الأشخاص وبعث تابيثا من الموت» ماسولينو دي بانيكال. اعتمد الرسم الغربي قبل القرن العشرين على الحيل البصرية لخلق واقع افتراضي. إحدى هذه الحيل هي المنظور الخطي، وهذه اللوحة هي أول مثال لاستخدام نقطة تلاشٍ متسقة.«القديس بطرس شفاء أحد الأشخاص وبعث تابيثا من الموت» ماسولينو دي بانيكال. اعتمد الرسم الغربي قبل القرن العشرين على الحيل البصرية لخلق واقع افتراضي. إحدى هذه الحيل هي المنظور الخطي، وهذه اللوحة هي أول مثال لاستخدام نقطة تلاشٍ متسقة.
يستمتع مشاهدوّ الأعمال الفنية العظيمة معنى ما يُرسم، ويقدرون الطريقة التي يتجلّى فيها الوهم عبر تمازج اللون والشكل.
يبقى الفن التجريدي، إلى حدٍ ما، ضمن إطار التجربة الجمالية. فقد سعت حركات الفن الحديث التي أدت إلى التجريد -أيّ «مدارس الفن»، مثل الانطباعية والفاوفية والتكعيبية- إلى تمثيل العالم بشكل مختلف عن كل الفنون التي سبقتها. إذْ ادعوا الاقتراب من الحقيقة الذاتية عبر تهميش جميع الحيل الوهمية التقليدية التي حاولت إعادة إنتاج الواقع بحذافيره كحقيقة موضوعية.
«الأحمر والأصفر والأزرق» (1925) واسيلي كاندينسكي. كان كاندينسكي يعدّ لفترةٍ طويلة أب الرسم التجريدي الغربي.«الأحمر والأصفر والأزرق» (1925) واسيلي كاندينسكي. كان كاندينسكي يعدّ لفترةٍ طويلة أب الرسم التجريدي الغربي.
بالنسبة إلى هذه المدارس، أصبح الفن أقل من أن يوصف بأنّه واقع افتراضي، لكنه مع ذلك احتفظ بالافتراضية، وأصبح افتراضيًا. لقد أخذ الفن التجريدي مسار التطور هذا إلى أقصاه: من الواقع الافتراضي إلى الافتراضية.
ماذا تعني «الافتراضية» هنا؟ إنّها الوجود كجوهر وتأثير، ولكن بدون اللجوء إلى الواقع. اللوحة التجريدية التي رسمها كاندينسكي، على سبيل المثال، ما زالت تُعدّ علاقة متبادلة بين الشكل واللون، و تعتمد على الرسم كمستوى تخطيطي: إنها نافذة تطلّ على «الواقع» الفردي الذي تصوّره كاندينسكي.
وما تزال العناصر في لوحات كاندينسكي تحظى بعلاقة متبادلة، كما هو الحال في فضاء الواقع الافتراضي للوحة التشخيصية؛ فجوهر الرسم سليم إذ إنّ ذلك الفضاء الافتراضي ما زال موجودًا. عندما يكون الفن التجريدي بناءً خالصًا، ويتخلص من المساحة الافتراضية الملازمة للرسم والنحت، يصبح متميزًا عنهما.
وصف دونالد جود الفنان التخفيفي (minimalist) مثل هذه الأعمال الفنية بأنها «أجسام محدّدة» (Specific Objects). إنّه مصطلح غير دقيق، ولكنه يصلح لإظهار أن مثل هذه الأعمال الفنية ليست رسمًا ولا نحتًا، ولكنها فئة أخرى تمامًا.
رأى دونالد جود أن أعماله وأعمال العديد من معاصريه تشغل مساحة هجينة، لا هي لوحات ولا هي نحت. عمل دون عنوان لدونالد جود.
استخدم جود هذا المصطلح لوصف أعماله الخاصة، ولكنه ينطبق على لوحات كازيمير ماليفيتش وفرانك ستيلا أحادية اللون، والتي تجعل اللوحة تندمج مع نفسها بالكامل، من أجل الوصول للتأثير الذي يأمل العمل في تحقيقه.
في مثل هذه الأعمال، لم يعد قماش اللّوحة (أو القاعدة) سطحًا تتفاعل فيه الأشكال والألوان في الفضاء الافتراضي. بدلاً من ذلك، تتفاعل الأشكال والألوان في الفضاء الحقيقي، في فضائنا.
تختلف معايير النجاح أو الفشل لهذه الأعمال عن الخصائص التقليدية للرسم والنحت. رأى جود أنّ خصائص الرسم والنحت تقف في طريق ما أراد تحقيقه من خلال اللون والشكل. في رأيه، كان لـ «أجسامه المحددة» تأثيرًا أحدّ من غيرها.
الواقع والأشكال الجديدة للإدراك الحسّي
الرسم نفسه له ثلاثة أنواع عامة من التجريد؛ أولًا، ثمّة أسلوب تعبيري تُرسم فيه الأشكال بحركاتٍ غير مقيدة؛ ثم هناك التجريد الهندسي حيث يتم هيكلة الأشكال؛ أما النوع الثالث، فهو تجريد مجال اللون حيث يتم عرض مساحات من الألوان بطريقةٍ لا شكل واضح لها.
لم تكن هذه «الأنماط» (styles) أنماطًا عرضيةً أو تعتمد على ذوق أو ميل الرسام كوسيلة لتحقيق هدفٍ ما من البحث الفني. وخير مثال على ذلك هو الفنان الذي غالبًا ما ينظر إلى عمله على أنّه ذروة التجريد الهندسي: بيت موندريان. إنّ لوحات بيت موندريان المكونة من شبكات (grids) ذات الخطوط السوداء والأجزاء الملونة على خلفية بيضاء؛ تهدف إلى استحضار «حقيقة أعلى».
بالنسبة إلى موندريان، كان الفن في جوهره معارضًا للواقع؛ «لأن الواقع يتعارض مع الروحي». بغض النظر عن هذه اللوحة الأشهر لموندريان، فإنّ جوانب الرسم التي تهم هذا الفنان حقًا لم تكن الجوانب المحددة للموضوع -أيّ ماذا أو ما يتم تصويره في اللوحة مثلًا- بل الجوانب القابلة للفهم عالميًا للشكل والخط واللون. إنّ لوحات موندريان، مثلها مثل لوحات الفنانين الآخرين، هي محاولة لاستخلاص الشكل واللون من أجل الاقتراب من ذلك الجوهر العالمي والروحي للفن.
عبّر موندريان عن رغبته في الوصول إلى «أساس» الأشياء من خلال الحدس، كالعديد من الفنانين التجريديين الآخرين في النصف الأول من القرن العشرين الذين رغبوا في الوصول إلى قوى غير مرئية حولنا، ولكنها معروفة أو محدوسة.
«التكوين الثاني باللون الأحمر والأزرق والأصفر» (1930) - بيت موندريان«التكوين الثاني باللون الأحمر والأزرق والأصفر» (1930) – بيت موندريان
في أواخر القرن التاسع عشر، لاحظ العلماء بشكلٍ أفضل مما سبق القوى غير المرئية مع انتشار التقنيات الجديدة، وأصبح من الواضح أن العالم أرحب مما يبدو للعين. في الوقت نفسه، ظهرت حركات روحية بديلة جمعت بين الأفكار الأفلاطونية والتصوف.
كان كلينت وموندريان من بين العديد من الفنانين الذين انغمسوا في أشكال الروحانية خارج العوالم التقليدية للدين. اعتقدت كلينت أن لوحاتها هي وحي عالم روحي، وأن مهمتها كانت العمل «على مستوى روحاني» لتمثيل روح الإنسان، بدلًا من صورته الفانية.
بحلول عشرينيات القرن الماضي، كانت نظرية فرويد عن للعقل البشري قد تغلغلت أيضًا في عالم الفن. كذلك السريالية، وهي حركة منظمة بإحكام بدأت مع بعض الفنانين الذين سعوا إلى التنقيب عن الإمكانات الإبداعية للعقل الباطن، وهي الحركة الثقافية التي كانت سائدة في أوروبا بين الحربين العالميتين.
لم تكن السريالية دوغمائية في محاولتها لاستكشاف اللاوعي، ولذلك ظهر عدد من الأساليب والطرق لمحاولة إخراج اللاوعي إلى السطح. إحدى هذه الأساليب كان الرسم الآلي (Automatism)، وهي عملية يتخلى فيها الفنان عن السيطرة الواعية لليد التي ترسم أو تصور. في هذا المجال، تبنى الفنانون مثل أندريه ماسون وخوان ميرو الفرصة لبناء صورهم باستخدام حركات حرّة، وحتى إلقاء الطلاء على القماش.
طور أرشيل غوركي -هو مهاجر أرمني عاش في الولايات المتحدة- أسلوبًا في الرسم يدمج بين الرسم الآلي وتجريد مجال الألوان. لوحاته في الأربعينيات حجمُها ضخم – ومرد ذلك تأثره بأعماله السابقة كفنان جداري مُعيّن من الدولة خلال السنوات الأخيرة من الكساد الكبير – لكنها معبّرة وغنائية في الرسم بالفرشاة.
ألهم إدماج غوركي للأنماط جيلًا واسعًا من الفنانين الأمريكيين في فترة ما بعد الحرب لاحتضان التجريد الواسع النطاق. ما نسميه الآن «التعبيرية التجريدية»، وكان ذاك الجيل في الواقع مجموعة فضفاضة من الفنانين الذين يستخدمون أنماطًا متعدّدة من أنماط التجريد.
ربما كان القاسم المشترك بين هؤلاء الفنانين – على الأقل في السنوات الأولى – هو دعم جيل جديد من النقاد بقيادة كليمنت غرينبيرغ، الذي كان يعتقد أن التجريد هو التعبير الأسمى للفن الغربي.
«الكبد هو مشط الديك» (1944) - أرشيل جوركي.«الكبد هو مشط الديك» (1944) – أرشيل جوركي.
الحداثة ومصير الفنّ الغربي
كان يُعتقد في بعض الأوساط الفكرية المؤثرة أنّ الفن يتقدم نحو هدف؛ وهذا المضمون يشتمل عليه مصطلح «الطليعية» (Avant-garde)، الذي يُوصف به الفنّانون الذين يبتكرون أرضية جمالية جديدة. أصل المصطلح فرنسي يُطلق على الجنود الذين يتقدمون إلى مناطق جديدة.
بالنسبة إلى غرينبيرغ، لم يكن هؤلاء الفنّانون يوسّعون حدود إمكانات الفن؛ بل كانوا يتقدمون نحو الهدف الحقيقي والمفرد لكل شكل فني.
يُعدّ غرينبيرغ شخصية مهمة في تاريخ الفن التجريدي، وذلك لأمرين: بوصفه مناصرًا رائدًا في مسألة تفوق الفن التجريدي على غيره من أنواع الرسم، وتأكيده للقوة التي امتلكها هذا الفن. كان ناقدًا في اللجنة الأمريكية للحريّة الثقافية التي تمولها الدولة، وهي مجموعة تم إنشاؤها لتعزيز الفن الأمريكي على المستوى الدولي.
أصبحت أفكار غرينبيرغ مؤثرة عندما كانت الولايات المتحدة جزءًا من الحرب على الفاشية والنازية، وخلال الحرب الباردة اللاحقة ضد الشيوعية السوفيتية. كانت معايير الفن الفاشي والسوفياتي واضحة، وهي ما تحددها السلطات الثقافية أنها كذلك، بيد أنّه ما لم يكن واضحًا هو معايير الفن «الجيد» وتحديدًا في الغرب الديمقراطي.
كان الماركسيون هم من تعاطف مع غرينبيرغ في البداية، لكن ارتبط تفكيره بشكلٍ متزايد بالهيمنة الثقافية الأمريكية. بالنسبة إليه، كان التجريد في أعمال بولوك فنًا مثاليًا لمجتمع ديمقراطي. تتجلى الحداثة في الفن، وفقًا لغرينبيرغ، في إطار التنوير الأوروبي؛ أيّ في فترة ازدهار الأفكار الفلسفية والعلمية التي أعطت الأولوية للعقل.
في مقالته المؤثرة « الرسم الحداثي» (1961)، وصفَ غرينبيرغ إيمانويل كانط – الفيلسوف الألماني في عصر التنوير – بأنّه «أول حداثي حقيقي». كان أسلوب كانط في «النقد» هو استخدام العقل لنقد العقل بغرض توضيحه، ومنحه استقلالية عن أنواع التفكير الأخرى.
«أولمبيا» - إدوارد مانيه (1863). بالنسبة إلى كليمنت غرينبيرغ، كان مانيه أول رسام حداثي. لقد رسم مانيه لوحاته بأسلوبٍ مسطّح بشكلٍ متعمد.«أولمبيا» – إدوارد مانيه (1863). بالنسبة إلى كليمنت غرينبيرغ، كان مانيه أول رسام حداثي. لقد رسم مانيه لوحاته بأسلوبٍ مسطّح بشكلٍ متعمد.
بالطريقة نفسها، كان الرسامون الحداثيون – من إدوارد مانيه في القرن التاسع عشر إلى موريس لويس، وهو رسام يعمل ينتمي إلى رسامي أسلوب مجال ألوان في الولايات المتحدة في الوقت الذي كتب فيه غرينبيرغ مقالته – يعملون على ترسيخ الفن التعبيري «بشكل صارم في مجال تخصصه».
رأى غرينبيرغ أن وضوح الفن التجريدي -الذي كان صادقًا بالنسبة إلى الوسيط الذي يُعبّر من خلاله- معارضٌ لـ«الفن الشعبي المبتذل [الكيتش]» الذي ينُتج على نطاق واسع في الثقافة الشعبية. إن إزالة «الكيتش» كانت مسألة استجلاء وتوضيح تحتاجها جميع الفنون لكي تصبح تعبيرًا عن إمكاناتها الجمالية الكامنة.
اللوحات مسطّحة، وإيهام العمق الذي نجده في معظم الفن الغربي كان انحرافًا عن جوهر فن الرسم ذاته. كانت استقلالية الشكل الفني في جميع خصائصه دون أن تتلوث بأشكال فنية أخرى. وفقًا لغرينبيرغ، يعدّ الشكل واللون من أهم خصائص الرسم، و أفضل تمثيل لها يكون بشكلٍ مسطّح.
وهكذا دافع غرينبيرغ عن «التسطيح» الذي تجلّى في لوحات الفنانين الأمريكيين التجريدية مثل جاكسون بولوك باعتباره تحقيقًا لهذا الوضوح الحداثي. لقد ضم هؤلاء الفنانين معًا ضمن فريق واحد، وهم يمثّلون المرحلة التالية في الحداثة، وقد حلّت رؤيتهم الأمريكية المميزة محلّ الفن الأوروبي الطليعي.
وفي الوقت الذي أصبح فيه الفن التجريدي الأمريكي مهيمنًا، تراجعت هيمنة غرينبيرغ النقدية، وظهرت أشكال جديدة من الفن الطليعي، مستوحاة مباشرة من الثقافة الجماهيرية، وحلّت محلّ التعبيرية التجريدية في المخيال العام. تبنى فنانوّ «البوب» مثل: آندي وارهول، وريتشارد هاميلتون هذا النوع من «الفن الشعبي المبتذل» الذي رآه غرينبيرغ تلويثًا للفن الحقيقي.
استمرت الأعمال الفنية التجريدية، ولكن تخلّى الفنّانون التجريديون الأكثر جرأة عن الفكرة الصارمة «للنقد الحداثي»، وعن الوضوح المتعلق بخصوصية الوسيط الفني، وذلك لصالح أشكال أخرى من التعبير.
نظر فنانوّ «ما بعد الحداثة» إلى السخرية وعملية الرسم نفسها، كطرق لتجاوز الطريق المسدود للحداثة. تبنى الألماني غيرهارد ريختر كلا النهجين؛ فبعض أعماله التجريدية في الستينيات كانت مصنوعة بممسحاتٍ بدلًا من الفرشاة، حتى يتمكن من لفت الانتباه إلى عملية صنع اللوحة نفسها.
كانت «اللوحات التجريدية» البارزة الأخرى التي رسمها ريختر في الواقع صورًا واقعية مرسومة بعناية تعكس لوحاته التجريدية الأخرى. أصبحت طلائعية الرسم التجريدي مفهومية أكثر، ما جعل ضمنيًّا قضية الرسم تحظى باستقلالية أقل مما كان كان يعتقد النقاد الحداثيون.
قلّد فنانوّ «نيو جيو»، مثل: الرسام بيتر هالي، والنحات أشلي بيكرتون اللغة البصرية للتجريد الهندسي، لكنهما دمجاها مع السلع الاستهلاكية بألوانٍ تجارية فاتحة وأحيانًا فلورية.
منذ ذلك الجيل ما بعد الحداثي من الرسامين والنحاتين الممتد من الستينيات إلى التسعينيات، ازدهر التجريد متفرّعًا إلى عددٍ لا يُحصى من الأساليب والمقاربات بجوار الفن التشخيصي. هنا يمكن القول إنّ التجريد المتحرّر من عبء التوقعات الحداثية هو ببساطة نهج للتعبير مثل أيّ نهج آخر.
وتجدر الإشارة إلى أنّ بعض الفنانين التجريديين استخدموا الحيل البصرية المستعملة في الفن التشخيصي – مثل المنظور والتظليل – في لوحاتهم. ولاستخدامهم هذا أهداف فريدة و غالبًا لا تهتم بالنظرية.
قلّد فنانوّ «ما بعد الحداثة» مثل: بيتر هالي اللغة البصرية المستعملة في الفن التجريدي الحديث (في حالة بيتر، التجريد الهندسي)، للتعليق على طبيعة الفن والمعنى نفسه. تمثّل هذه الكتل الملونة «الخلايا» و«الأنابيب».قلّد فنانوّ «ما بعد الحداثة» مثل: بيتر هالي اللغة البصرية المستعملة في الفن التجريدي الحديث (في حالة بيتر، التجريد الهندسي)، للتعليق على طبيعة الفن والمعنى نفسه. تمثّل هذه الكتل الملونة «الخلايا» و«الأنابيب».
هذا هو التحرّر نحو الأفضل بين الرسامين التجريديين الذين يمكنهم الالتزام برؤيةٍ فريدة بالرسم على القماش. لكن فكّ ارتباط الفن التجريدي عن إطاره الفلسفي الأوسع أدى أيضًا إلى انتشارٍ يثير التساؤل لأعمال تجريدية متنوعة قابلة للاستهلاك – بمعنى أنّها فقدت قيمتها، وباتت تُباع وتُشترى سريعًا بأسعارٍ مربحة – يشتريها المشترون المتضاربون.
دفع هذا التحول الناقد جيري سالتز إلى كتابة: « الزومبي على الجدران: لماذا يبدو الكثير من التجريد الجديد متشابهًا؟». وقد شبه اللّوحات التجريدية بصورة «الزومبي»، تحقيرًا لأعمال عددٍ من الرسامين التجريديين البارزين، الذين استخدموا الفنّ وجماليته لتقديم أعمال مبتذلة.
ومن المفارقات أن هؤلاء الفنانين نظروا إلى الشكلانية بوصفها فنًّا حداثيًّا متبنّين منظور غرينبيرغ، لكنهم بالطبع قدّموا أعمالًا في ظلّ فراغ تاريخي وبعد فترةٍ طويلة حين لم يُصبح التجريد مثيرًا للاهتمام أو راديكاليًا بأي وجه من الوجوه.
في الواقع، لم يصل مشروع الحداثة في الفن التجريدي إلى نهايته، بل النقد. إنّ النقد -أيّ الإطار الفلسفي الواسع الذي يصادق على الأعمال الفنية ويثمّنها لأهميتها الثقافية والتاريخية- هو ما فقد التوجه والسلطة.
كان مسار الفن الغربي منذ عصر التنوير يتأرجح بين قطبي الدوغمائية النقدية والإبداع. تكمن المشكلة أنه في العقود الأخيرة، وفي ظلّ غياب أي مشروع نقدي متماسك، انجرف الفن نحو إرضاء اهتمامات دقيقة ومتنوعة تزداد باستمرار.
في حين كانت هناك «حركات» و«مدارس» فنية -مصطلحان يشيران إلى الوجهة والانضباط- لم يعد لدينا الآن سوى «مشاهد».
هذا ليس بالضرورة أمرًا سيئًا. ولكن في عالم حيث «كل شيء مقبول – anything goes»، لا يوجد مجال لهذا النوع من الابتكار والتجاوز الذي أدى إلى ظهور الفن التجريدي في الغرب، وهذا ما جعل الفن الحديث فنًّا مثيرًا للغاية.
من الصعب في هذه اللحظة التاريخية أن ندرك ما الذي جعل لوحة بولوك «رقم 32» مثيرة للانقسام، ومخلخلةً جدًا للمعايير، وفي الوقت نفسه محتفظةً بقيمةٍ عالية جدًا لأولئك الذين يعتقدون أن للفنِّ مكانًا في المجتمع يتجاوز المتعة.
[divider style=”solid” top=”20″ bottom=”20″]
[1] واللقب كذلك يُلمح إلى القاتل المتسلسل في لندن آخر القرن التاسع عشر: جاك السفّاح
Jack the ripper (مدير التحرير).
### خارج عقلك | توم تشاتفيلد – ت: محمد السعيد
عندما يكون هاتفي النقال بين يديّ، هل أكون أنا الشخص نفسه لو كان الهاتف في غرفة أخرى؟ من ناحية،...
### الدراما في التعليم: مقاربات وتطبيقات | نعيم حيماد
افتتاحيّة حظي استخدام الدراما في التعليمفي السنوات الأخيرة باهتمام كبير من قبل نخبة من المنظرين والممارسين للدراما في مجال التعليم....
### الحقائق المخفية | دي بي سي بيير – ت: محمد السعيد
يحمل جبل كلسي خشن في غرب إيران عددًا من النقوش البارزة، من بينها لوحة طولها خمسة وعشرين مترًا منقوشة...
### التغلُّب على كاشف الكذب | كلاريسا سيباغ-مونتِنفيوري – ت: محمد السعيد
حين اتُّهِمَتْ مربية الأطفال البريطانية لويز وودورد بهزِّ رضيع حتى الموت في مدينة نيوتن بولاية ماساتشوستس، لم تكتفِ بإعلان...
### عن منصة معنى
«معنى»، مؤسسة ثقافية تقدّمية ودار نشر تهتم بالفلسفة والمعرفة والفنون، عبر مجموعة متنوعة من المواد المقروءة والمسموعة والمرئية. انطلقت في 20 مارس 2019، بهدف إثراء المحتوى العربي، ورفع ذائقة ووعي المتلقّي المحلي والدولي، عبر الإنتاج الأصيل للمنصة والترجمة ونقل المعارف.
### روابط سريعة
### التصنيفات
### مرحبا بك!
قم بتسجيل الدخول إلى حسابك
تذكرني
### قم بإنشاء حساب جديد!
املأ النموذج أدناه للتسجيل
### طلب إعادة تعيين كلمة المرور
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان البريد الإلكتروني لإعادة تعيين كلمة المرور الخاصة بك.
### Add New Playlist
- Select Visibility -PublicPrivate
No Result
عرض جميع النتائج
-
00:00
00:00
-
00:00
00:00
|
article
|
Arabic
|
ar
|
الفنّ التجريدي: بين الماضي والحاضر - منصة معنى الثقافية
|
https://mana.net/abstract-art/
|
1,912 |
في مقالته المؤثرة « الرسم الحداثي» (1961)، وصفَ غرينبيرغ إيمانويل كانط – الفيلسوف الألماني في عصر التنوير – بأنّه «أول حداثي حقيقي».
|
sentence
|
في مقالته المؤثرة « الرسم الحداثي» (1961)، وصفَ غرينبيرغ إيمانويل كانط – الفيلسوف الألماني في عصر التنوير – بأنّه «أول حداثي حقيقي». كان أسلوب كانط في «النقد» هو استخدام العقل لنقد العقل بغرض توضيحه، ومنحه استقلالية عن أنواع التفكير الأخرى.
|
paragraph
|
Arabic
|
ar
|
الفنّ التجريدي: بين الماضي والحاضر - منصة معنى الثقافية
|
https://mana.net/abstract-art/
|
1,913 |
كان أسلوب كانط في «النقد» هو استخدام العقل لنقد العقل بغرض توضيحه، ومنحه استقلالية عن أنواع التفكير الأخرى.
|
sentence
|
في مقالته المؤثرة « الرسم الحداثي» (1961)، وصفَ غرينبيرغ إيمانويل كانط – الفيلسوف الألماني في عصر التنوير – بأنّه «أول حداثي حقيقي». كان أسلوب كانط في «النقد» هو استخدام العقل لنقد العقل بغرض توضيحه، ومنحه استقلالية عن أنواع التفكير الأخرى.
|
paragraph
|
Arabic
|
ar
|
الفنّ التجريدي: بين الماضي والحاضر - منصة معنى الثقافية
|
https://mana.net/abstract-art/
|
1,914 |
«أولمبيا» - إدوارد مانيه (1863). بالنسبة إلى كليمنت غرينبيرغ، كان مانيه أول رسام حداثي. لقد رسم مانيه لوحاته بأسلوبٍ مسطّح بشكلٍ متعمد.«أولمبيا» – إدوارد مانيه (1863). بالنسبة إلى كليمنت غرينبيرغ، كان مانيه أول رسام حداثي. لقد رسم مانيه لوحاته بأسلوبٍ مسطّح بشكلٍ متعمد.
|
paragraph
|
لا توجد منتجات في سلة المشتريات.
No Result
عرض جميع النتائج
الثلاثاء, سبتمبر 10, 2024
No Result
عرض جميع النتائج
No Result
عرض جميع النتائج
# الفنّ التجريدي: بين الماضي والحاضر
## ترجمة: أنطونيوس نادر
AA
AA
إعادة تعيين
فنٌ مليء بالتحديات
ثمّة خطٌ رفيع يفصل بين الفن التجريدي ومجرد الزخرفة، ولوحة «رقم 32» (نُشرت عام 1950)، لجاكسون بولوك تتأرجح بين هذا الخطّ. فهي لا تشير إلى معنىً واضح، ولكن لا يمكن القول إنّها بلا معنى على الإطلاق. كما أنّها ليست معبّرة بشكلٍ مباشر، ولا يعني هذا أنها لا تعبّر عن مدلولٍ ما. تحمل هذه اللوحة الكثير من المضامين عن الفن الغربي بالنسبة إلى شخصٍ خبيرٍ في تاريخ الفن؛ أما بالنسبة إلى شخصٍ عادي، فقد يراها عملًا مبتذلًا بالكاد يعبّر عن أمرٍ ما.
اللوحة شبكة من الخطوط وبقعٍ من الألوان، رُسمت عن طريق صبّ طلاءٍ رخيص بعشوائيةٍ مباشرة على القماش. تتكون اللوحة من طلاءٍ أسود فقط وقماشٍ خام. واللوحة ضخمة؛ إذ يبلغ طولها تسعة أقدام وعرضها خمسة عشر قدمًا، وتغطي مجال رؤية المشاهد أثناء اقترابه منها. تقليديًّا، حتى اللوحات التجريدية تتكون من أجزاءٍ مترابطة مع بؤر تركيز (emphases) وعمقٍ يُنقل من خلال اللون والظلال، ولكن «رقم 32» ليس لها أجزاء؛ إنّها تتكون من تعالقات، والبؤرة فيها تكمن عبر امتداد سطح القماش المستطيل.
يمنحها ما سبق عمقًا سطحيًا، وربما لا عمق فيها: مجرّد طلاء على قماش. إنّها عبث بالشكل واللون. حتى اسمها، ببساطة رقمٌ معيّن – رقم 32 – يجعلها تنأى بنفسها عن أي فكرة مفادها أنها تعكس مدلولًا محدّدًا. تشير عناوين أعمال بولوك الأخرى إلى نوعٍ من الاختبار الشخصي، وإلى الاستخدام السمفوني المتعدد الطبقات للون والملمس؛ خذ مثلًا لوحاته التي تحمل اسم: «إيقاع الخريف»، و«الضباب الأرجواني»، و«الأقطاب الزرقاء»، و«انعكاس الدنقلة الكبير».
هذا لا ينطبق على لوحة «رقم 32»؛ شكلها الخام وبساطتها دليل على أنّ الفنان لم يخطط مسبقًا لرسمها؛ أيّ أنّه لم ينتق الألوان ولا الطبقات. يبدو بولوك هنا أكثر حضورًا، من خلال لمساته الحادة. بالنسبة إلى مؤيديّ عمل بولوك، تختصر هذه اللوحة خلاصة نظرة الفنان الجمالية. أما بالنسبة للبعض الآخر، فهي لوحة مبتذلة.
وصف جوزيف بويس -النحات الألماني في فترة ما بعد الحرب- الفنَّ التجريدي الأمريكي بأنه مجرد «تغليف»، أيّ سطح بلا محتوى. في هذا الصدد، قد يتفق البعض أن لوحة «رقم 32» تجسد فراغ الفكر والشعور ذاك. فقد رأى الروائي والناقد الفني روبرت كوتس أن فن بولوك لم يكن سوى «انفجارات» غير منظمة من الطاقة العشوائية. غير أنّ طائفة كبيرة من متذوقي الفن التجريدي لا تروق إليهم أعمال بولوك ويرونها فنًّا محيرًا، حتى إنّ بعضهم يراها إهانةً للذوق أو الحسّ السليم.
عُرف بولوك بلقب: «جاك فنان النقط» (Jack the Dripper) [1] في الأوساط الإعلامية المشككة بعمله حيث ادعى كثر أن أيّ شخص يمكنه أن يرسم كما يرسم بولوك إلّا أنّ أحدًا لم يتجرأ على فعل ذلك.
«رقم 32» - جاكسون بولوك«رقم 32» – جاكسون بولوك
بيد أنّ هذا هو مغزى الفن التجريدي في التقليد الغربي: إنّه تحدّ. وفي ظل الكثير هذه التحديات، تُعد لوحة « رقم 32» اللوحة الأكثر تمثيلًا لهذا الفن.
قصة الفنّ التجريدي
مسار قصة الفن التجريدي مضمّنة في الدراسات التاريخية الفنية، إلّا أنّ المحطات الرئيسة لهذا المسار كانت محط تغييرات مفاجئة كلما اكتشف مؤرخوّ الفن حقائق جديدة.
انطلق مسار الفن التجريدي بدءًا من القرن التاسع عشر وما تلاه؛ حيث استفاد الفنانون من مادة الطلاء والجوانب الشكلية للرسم مثل اللون والدرجة والخطوط. يُعرف هذا الانشغال بالجوانب غير التمثيلية (non-representative) للفن باسم «الشكلانية»، لأنّه انشغال «بالشكل»، أيّ بتوسل شكل المحتوى بدلًا من المحتوى في ذاته. بالنسبة إلى الفنانين في القرن التاسع عشر، صُنّف الفن التجريدي على أنّه «فنٌّ من أجل الفنّ»، وكانت الفكرة الشائعة مفادها أنّ المتذوق للفن يمكنه الاستمتاع بالعمل دون اللجوء إلى معنى أو حتى أي شيء آخر يمثل أمرًا ما.
تمثّل لوحة «الموسيقى الهادئة باللّونين الأسود والذهبي – الصاروخ الساقط» (1872)، للفنان جيمس مكنيل ويسلر هذا الاتجاه الذي تبلور لاحقًا في الفن التجريدي. إنّ مشهد ويسلر الغامض من الناحية المكانيّة يقترب إلى التجريد، وذلك بمحاولته نقل الشعور أو الانطباع الخاص بالمشهد بدلًا من إعادة إنتاجه بحذافيره.
«الموسيقى الهادئة باللونين الأسود والذهبي - الصاروخ الساقط» (1872-1877) - جيمس أبوت مكنيل ويسلير«الموسيقى الهادئة باللونين الأسود والذهبي – الصاروخ الساقط» (1872-1877) – جيمس أبوت مكنيل ويسلير
في عام 1877، انتقد جون روسكين – أبرز نقّاد بريطانيا في ذلك الوقت – عمل ويسلير هذا نقدًا لاذعًا فشبهه «بمن قام برمي الطلاء في وجه الجمهور». تأثر ويسلر بهذا الكلام، فرفع دعوى قضائية ضد روسكين، بيد أنّه خسرها لأن المسؤولين عرضوا اللوحة -خطأً- مقلوبةً على المحكمة. أفلس ويسلير بسبب هذه القضية، لكن مسيرة تطور الفن التجريدي استمرت.
من ناحيةٍ أخرى، تحديد أول فنان تجريدي في العالم موضوع نزاع. في نظر أبحاث تاريخ الفن التقليدية، كان فاسيلي كاندينسكي – فنان روسي الجنسية رسم لوحات تجريدية بالكامل في مطلع عام 1911- هو أول فنان تجريدي.
لم ينل الفن التجريدي الرائد لهيلما أف كلينت تقديرًا إلا قبل سنوات قريبة. هذه صورة للمعرض الشهير في متحف غاغينهايم، عام 2018 .لم ينل الفن التجريدي الرائد لهيلما أف كلينت تقديرًا إلا قبل سنوات قريبة. هذه صورة للمعرض الشهير في متحف غاغينهايم، عام 2018 .
ولكن في الآونة الأخيرة، وبفضل المعرض الرائد في متحف مقاطعة لوس أنجلوس للفنون في عام 1986 الذي حمل اسم «الروحانية في الفن: الرسم التجريدي 1890 – 1985»، وقع الاختيار على هيلما أف كلينت كأول رسامة تجريدية. بدأت كلينت في رسم لوحات تجريدية بدءًا من عام 1906، وحملت مجموعتها عنوان «الفوضى البدائية». كانت الفنانة متكتمة في ما يتعلق بأعمالها التجريدية، ولم تُعرض أيّ منها في معارض عامة، وبقيت غير معروفة حتى أزيح عنها الستار مؤخرًا.
ولعل الجدال حول هوية أول من مارس الفن التجريدي سيستم، لكن الحقيقة الأكثر أهمية هي أن العديد من الفنانين الأوروبيين البارزين قد توصّلوا في أعمالهم إلى التجريد بحلول الحرب العالمية الأولى. لقد وجد كل منهم طريقته الخاصة في التخلي عن الفن التشخيصي (figurative painting). وجديرٌ بالذكر أنّه لم تكن هناك حركة «تجريدية» دولية ذات رؤية أو بيان مشترك.
في ضوء ذلك، فإن السؤال الملحّ حقًا هو: لمَ لمْ يتبنى الفنانون الغربيون الفن التجريدي على امتداد قرون عديدة؟ لماذا كان التجريد غير ضروري أو لا معنى له أو غير مناسب أو حتى لا يمكن تقبّله لقرونٍ متوالية في الفن الغربي؟
ظهرت العديد من التفسيرات لشرح ذلك. إحدى النظريات الأكثر وضوحًا هي أن ظهور التصوير الفوتوغرافي بوصفه شكلًا من أشكال الفن، إضافةً إلى تطور الفن الحديث، سببان رئيسان لإزاحة الرسم التشخيصي.
ثمّة إجابات أخرى غير ملموسة لاستكشاف الأسباب: ربما عندما أصبحت الأعمال الفنية قابلة للاستهالاك بشكل متزايد، مثل السلع، بات من السهولة فصل اللوحات والمنحوتات عن التجارب المحددة لمبدعيها. ربما أدت الحداثة في الغرب إلى إفراغ الفن من المحتوى التشخيصي؛ مما دفع الفنانين أيضًا إلى التخلي عن التمثيل التشخيصي.
كل من هذه الإجابات معقدة وتتطلب الكثير من الشرح، ولا يمكن إلا أن تكون تخمينات. لا توجد إجابة واضحة لهذه المسألة. ربما يكون من الأفضل طرح السؤال حول سبب تقبّل الفن التجريدي فنًّا من الفنون الرسمية في تاريخ الفن الغربي في مرحلة معينة على علماء الأنثروبولوجيا بدلًا من طرحها على مؤرخي الفن. فما هو واضح أن الفن التجريدي كان موجودًا دائمًا في مناطق أخرى من العالم.
ما جعل الفن التجريدي فنًّا حديثًا على وجه التحديد في العالم الغربي هو نظام المعارض، الذي أعطى القيمة الفنية للأعمال المعروضة. وكما هو واضح فقد ازدهر التجريد لآلاف السنين المناطق الشرقية والجنوبية من العالم، دون عناء التحقق من مكانة الأعمال المعروضة في الصالونات [والمعارض، كما هو في العالم الغربي].
الواقع الافتراضي و«الافتراضية»
يتبنى بيبي كرمل وهو مؤرخ فني، في كتابه « الفن التجريدي: تاريخ عالمي»، فكرة أنّ الفن التجريدي كان دائمًا موجودًا بشكل طبيعي عندما ننظر إليه نظرة شاملة وعالمية، بيد أنّه يتحاشى طرح نظرية عن تطور الفن التجريدي. بالنسبة إلى كرمل، فإنّ هذا الفنّ متجذر في العالم الحقيقي، وهو ليس فنًّا «مجردًا» على الإطلاق، كما أنّه تقليد عالمي وليس محليًا.
في دراسته حول الفن التجريدي يقسم العمل الفني إلى خمس فئات واسعة تنتمي إلى العالم الحقيقي: الأجسام، والمناظر الطبيعية، والكون، والبنى، والعلامات والأنماط. من خلال فحص الفن التجريدي بهذه الطريقة، يرى كرمل في اللوحات التجريدية موضوعات قابلة للتحليل، بعكس النقاد والمؤرخين الأرثوذكسيين الذين رأوا فيها مجرّد توليفات شكلية مكوّنة من لون وشكل.
ربما يكون من الأفضل أن يطلق على الفن التجريدي: فن ما تم تجريده (abstracted art)؛ لأنّ الفنانين التجريديين عادةً ما يستخلصون ويجرّدون تعبيرات التجارب في شكل ولون، أكثر من كونها توليفات مكونة من شكل ولون. ومرّد ذلك الطبيعة الجوهرية للرسم والنحت؛ فهما (الشكل اللّون) وسيطان للتعبير، مثل الشاشة أو المسرح لخيال الفنان. كما هو الحال في المسرح أو السينما، فإنّ جمهور اللوحة أو المنحوتة يعلّق معتقداته من أجل أن يتقبل المشهد.
من المفيد التفكير في اللوحة التشخيصية التقليدية أو النحت على أنها حقيقة افتراضية. إذْ استخدم الفنانون لقرون عديدة الحيل البصرية -مثل المنظور الخطي، والتقصير المسبق، والتظليل- لمحاكاة الطريقة التي ندرك بها الأشياء في الفضاء الحقيقي. إنّ المشاهد تُنشأ في فضاء افتراضي – سواء كانت القاعدة التي تدعم التمثال أو القماش – ليراها المشاهدون بوصفها خدعة بصرية.
«القديس بطرس شفاء أحد الأشخاص وبعث تابيثا من الموت» ماسولينو دي بانيكال. اعتمد الرسم الغربي قبل القرن العشرين على الحيل البصرية لخلق واقع افتراضي. إحدى هذه الحيل هي المنظور الخطي، وهذه اللوحة هي أول مثال لاستخدام نقطة تلاشٍ متسقة.«القديس بطرس شفاء أحد الأشخاص وبعث تابيثا من الموت» ماسولينو دي بانيكال. اعتمد الرسم الغربي قبل القرن العشرين على الحيل البصرية لخلق واقع افتراضي. إحدى هذه الحيل هي المنظور الخطي، وهذه اللوحة هي أول مثال لاستخدام نقطة تلاشٍ متسقة.
يستمتع مشاهدوّ الأعمال الفنية العظيمة معنى ما يُرسم، ويقدرون الطريقة التي يتجلّى فيها الوهم عبر تمازج اللون والشكل.
يبقى الفن التجريدي، إلى حدٍ ما، ضمن إطار التجربة الجمالية. فقد سعت حركات الفن الحديث التي أدت إلى التجريد -أيّ «مدارس الفن»، مثل الانطباعية والفاوفية والتكعيبية- إلى تمثيل العالم بشكل مختلف عن كل الفنون التي سبقتها. إذْ ادعوا الاقتراب من الحقيقة الذاتية عبر تهميش جميع الحيل الوهمية التقليدية التي حاولت إعادة إنتاج الواقع بحذافيره كحقيقة موضوعية.
«الأحمر والأصفر والأزرق» (1925) واسيلي كاندينسكي. كان كاندينسكي يعدّ لفترةٍ طويلة أب الرسم التجريدي الغربي.«الأحمر والأصفر والأزرق» (1925) واسيلي كاندينسكي. كان كاندينسكي يعدّ لفترةٍ طويلة أب الرسم التجريدي الغربي.
بالنسبة إلى هذه المدارس، أصبح الفن أقل من أن يوصف بأنّه واقع افتراضي، لكنه مع ذلك احتفظ بالافتراضية، وأصبح افتراضيًا. لقد أخذ الفن التجريدي مسار التطور هذا إلى أقصاه: من الواقع الافتراضي إلى الافتراضية.
ماذا تعني «الافتراضية» هنا؟ إنّها الوجود كجوهر وتأثير، ولكن بدون اللجوء إلى الواقع. اللوحة التجريدية التي رسمها كاندينسكي، على سبيل المثال، ما زالت تُعدّ علاقة متبادلة بين الشكل واللون، و تعتمد على الرسم كمستوى تخطيطي: إنها نافذة تطلّ على «الواقع» الفردي الذي تصوّره كاندينسكي.
وما تزال العناصر في لوحات كاندينسكي تحظى بعلاقة متبادلة، كما هو الحال في فضاء الواقع الافتراضي للوحة التشخيصية؛ فجوهر الرسم سليم إذ إنّ ذلك الفضاء الافتراضي ما زال موجودًا. عندما يكون الفن التجريدي بناءً خالصًا، ويتخلص من المساحة الافتراضية الملازمة للرسم والنحت، يصبح متميزًا عنهما.
وصف دونالد جود الفنان التخفيفي (minimalist) مثل هذه الأعمال الفنية بأنها «أجسام محدّدة» (Specific Objects). إنّه مصطلح غير دقيق، ولكنه يصلح لإظهار أن مثل هذه الأعمال الفنية ليست رسمًا ولا نحتًا، ولكنها فئة أخرى تمامًا.
رأى دونالد جود أن أعماله وأعمال العديد من معاصريه تشغل مساحة هجينة، لا هي لوحات ولا هي نحت. عمل دون عنوان لدونالد جود.
استخدم جود هذا المصطلح لوصف أعماله الخاصة، ولكنه ينطبق على لوحات كازيمير ماليفيتش وفرانك ستيلا أحادية اللون، والتي تجعل اللوحة تندمج مع نفسها بالكامل، من أجل الوصول للتأثير الذي يأمل العمل في تحقيقه.
في مثل هذه الأعمال، لم يعد قماش اللّوحة (أو القاعدة) سطحًا تتفاعل فيه الأشكال والألوان في الفضاء الافتراضي. بدلاً من ذلك، تتفاعل الأشكال والألوان في الفضاء الحقيقي، في فضائنا.
تختلف معايير النجاح أو الفشل لهذه الأعمال عن الخصائص التقليدية للرسم والنحت. رأى جود أنّ خصائص الرسم والنحت تقف في طريق ما أراد تحقيقه من خلال اللون والشكل. في رأيه، كان لـ «أجسامه المحددة» تأثيرًا أحدّ من غيرها.
الواقع والأشكال الجديدة للإدراك الحسّي
الرسم نفسه له ثلاثة أنواع عامة من التجريد؛ أولًا، ثمّة أسلوب تعبيري تُرسم فيه الأشكال بحركاتٍ غير مقيدة؛ ثم هناك التجريد الهندسي حيث يتم هيكلة الأشكال؛ أما النوع الثالث، فهو تجريد مجال اللون حيث يتم عرض مساحات من الألوان بطريقةٍ لا شكل واضح لها.
لم تكن هذه «الأنماط» (styles) أنماطًا عرضيةً أو تعتمد على ذوق أو ميل الرسام كوسيلة لتحقيق هدفٍ ما من البحث الفني. وخير مثال على ذلك هو الفنان الذي غالبًا ما ينظر إلى عمله على أنّه ذروة التجريد الهندسي: بيت موندريان. إنّ لوحات بيت موندريان المكونة من شبكات (grids) ذات الخطوط السوداء والأجزاء الملونة على خلفية بيضاء؛ تهدف إلى استحضار «حقيقة أعلى».
بالنسبة إلى موندريان، كان الفن في جوهره معارضًا للواقع؛ «لأن الواقع يتعارض مع الروحي». بغض النظر عن هذه اللوحة الأشهر لموندريان، فإنّ جوانب الرسم التي تهم هذا الفنان حقًا لم تكن الجوانب المحددة للموضوع -أيّ ماذا أو ما يتم تصويره في اللوحة مثلًا- بل الجوانب القابلة للفهم عالميًا للشكل والخط واللون. إنّ لوحات موندريان، مثلها مثل لوحات الفنانين الآخرين، هي محاولة لاستخلاص الشكل واللون من أجل الاقتراب من ذلك الجوهر العالمي والروحي للفن.
عبّر موندريان عن رغبته في الوصول إلى «أساس» الأشياء من خلال الحدس، كالعديد من الفنانين التجريديين الآخرين في النصف الأول من القرن العشرين الذين رغبوا في الوصول إلى قوى غير مرئية حولنا، ولكنها معروفة أو محدوسة.
«التكوين الثاني باللون الأحمر والأزرق والأصفر» (1930) - بيت موندريان«التكوين الثاني باللون الأحمر والأزرق والأصفر» (1930) – بيت موندريان
في أواخر القرن التاسع عشر، لاحظ العلماء بشكلٍ أفضل مما سبق القوى غير المرئية مع انتشار التقنيات الجديدة، وأصبح من الواضح أن العالم أرحب مما يبدو للعين. في الوقت نفسه، ظهرت حركات روحية بديلة جمعت بين الأفكار الأفلاطونية والتصوف.
كان كلينت وموندريان من بين العديد من الفنانين الذين انغمسوا في أشكال الروحانية خارج العوالم التقليدية للدين. اعتقدت كلينت أن لوحاتها هي وحي عالم روحي، وأن مهمتها كانت العمل «على مستوى روحاني» لتمثيل روح الإنسان، بدلًا من صورته الفانية.
بحلول عشرينيات القرن الماضي، كانت نظرية فرويد عن للعقل البشري قد تغلغلت أيضًا في عالم الفن. كذلك السريالية، وهي حركة منظمة بإحكام بدأت مع بعض الفنانين الذين سعوا إلى التنقيب عن الإمكانات الإبداعية للعقل الباطن، وهي الحركة الثقافية التي كانت سائدة في أوروبا بين الحربين العالميتين.
لم تكن السريالية دوغمائية في محاولتها لاستكشاف اللاوعي، ولذلك ظهر عدد من الأساليب والطرق لمحاولة إخراج اللاوعي إلى السطح. إحدى هذه الأساليب كان الرسم الآلي (Automatism)، وهي عملية يتخلى فيها الفنان عن السيطرة الواعية لليد التي ترسم أو تصور. في هذا المجال، تبنى الفنانون مثل أندريه ماسون وخوان ميرو الفرصة لبناء صورهم باستخدام حركات حرّة، وحتى إلقاء الطلاء على القماش.
طور أرشيل غوركي -هو مهاجر أرمني عاش في الولايات المتحدة- أسلوبًا في الرسم يدمج بين الرسم الآلي وتجريد مجال الألوان. لوحاته في الأربعينيات حجمُها ضخم – ومرد ذلك تأثره بأعماله السابقة كفنان جداري مُعيّن من الدولة خلال السنوات الأخيرة من الكساد الكبير – لكنها معبّرة وغنائية في الرسم بالفرشاة.
ألهم إدماج غوركي للأنماط جيلًا واسعًا من الفنانين الأمريكيين في فترة ما بعد الحرب لاحتضان التجريد الواسع النطاق. ما نسميه الآن «التعبيرية التجريدية»، وكان ذاك الجيل في الواقع مجموعة فضفاضة من الفنانين الذين يستخدمون أنماطًا متعدّدة من أنماط التجريد.
ربما كان القاسم المشترك بين هؤلاء الفنانين – على الأقل في السنوات الأولى – هو دعم جيل جديد من النقاد بقيادة كليمنت غرينبيرغ، الذي كان يعتقد أن التجريد هو التعبير الأسمى للفن الغربي.
«الكبد هو مشط الديك» (1944) - أرشيل جوركي.«الكبد هو مشط الديك» (1944) – أرشيل جوركي.
الحداثة ومصير الفنّ الغربي
كان يُعتقد في بعض الأوساط الفكرية المؤثرة أنّ الفن يتقدم نحو هدف؛ وهذا المضمون يشتمل عليه مصطلح «الطليعية» (Avant-garde)، الذي يُوصف به الفنّانون الذين يبتكرون أرضية جمالية جديدة. أصل المصطلح فرنسي يُطلق على الجنود الذين يتقدمون إلى مناطق جديدة.
بالنسبة إلى غرينبيرغ، لم يكن هؤلاء الفنّانون يوسّعون حدود إمكانات الفن؛ بل كانوا يتقدمون نحو الهدف الحقيقي والمفرد لكل شكل فني.
يُعدّ غرينبيرغ شخصية مهمة في تاريخ الفن التجريدي، وذلك لأمرين: بوصفه مناصرًا رائدًا في مسألة تفوق الفن التجريدي على غيره من أنواع الرسم، وتأكيده للقوة التي امتلكها هذا الفن. كان ناقدًا في اللجنة الأمريكية للحريّة الثقافية التي تمولها الدولة، وهي مجموعة تم إنشاؤها لتعزيز الفن الأمريكي على المستوى الدولي.
أصبحت أفكار غرينبيرغ مؤثرة عندما كانت الولايات المتحدة جزءًا من الحرب على الفاشية والنازية، وخلال الحرب الباردة اللاحقة ضد الشيوعية السوفيتية. كانت معايير الفن الفاشي والسوفياتي واضحة، وهي ما تحددها السلطات الثقافية أنها كذلك، بيد أنّه ما لم يكن واضحًا هو معايير الفن «الجيد» وتحديدًا في الغرب الديمقراطي.
كان الماركسيون هم من تعاطف مع غرينبيرغ في البداية، لكن ارتبط تفكيره بشكلٍ متزايد بالهيمنة الثقافية الأمريكية. بالنسبة إليه، كان التجريد في أعمال بولوك فنًا مثاليًا لمجتمع ديمقراطي. تتجلى الحداثة في الفن، وفقًا لغرينبيرغ، في إطار التنوير الأوروبي؛ أيّ في فترة ازدهار الأفكار الفلسفية والعلمية التي أعطت الأولوية للعقل.
في مقالته المؤثرة « الرسم الحداثي» (1961)، وصفَ غرينبيرغ إيمانويل كانط – الفيلسوف الألماني في عصر التنوير – بأنّه «أول حداثي حقيقي». كان أسلوب كانط في «النقد» هو استخدام العقل لنقد العقل بغرض توضيحه، ومنحه استقلالية عن أنواع التفكير الأخرى.
«أولمبيا» - إدوارد مانيه (1863). بالنسبة إلى كليمنت غرينبيرغ، كان مانيه أول رسام حداثي. لقد رسم مانيه لوحاته بأسلوبٍ مسطّح بشكلٍ متعمد.«أولمبيا» – إدوارد مانيه (1863). بالنسبة إلى كليمنت غرينبيرغ، كان مانيه أول رسام حداثي. لقد رسم مانيه لوحاته بأسلوبٍ مسطّح بشكلٍ متعمد.
بالطريقة نفسها، كان الرسامون الحداثيون – من إدوارد مانيه في القرن التاسع عشر إلى موريس لويس، وهو رسام يعمل ينتمي إلى رسامي أسلوب مجال ألوان في الولايات المتحدة في الوقت الذي كتب فيه غرينبيرغ مقالته – يعملون على ترسيخ الفن التعبيري «بشكل صارم في مجال تخصصه».
رأى غرينبيرغ أن وضوح الفن التجريدي -الذي كان صادقًا بالنسبة إلى الوسيط الذي يُعبّر من خلاله- معارضٌ لـ«الفن الشعبي المبتذل [الكيتش]» الذي ينُتج على نطاق واسع في الثقافة الشعبية. إن إزالة «الكيتش» كانت مسألة استجلاء وتوضيح تحتاجها جميع الفنون لكي تصبح تعبيرًا عن إمكاناتها الجمالية الكامنة.
اللوحات مسطّحة، وإيهام العمق الذي نجده في معظم الفن الغربي كان انحرافًا عن جوهر فن الرسم ذاته. كانت استقلالية الشكل الفني في جميع خصائصه دون أن تتلوث بأشكال فنية أخرى. وفقًا لغرينبيرغ، يعدّ الشكل واللون من أهم خصائص الرسم، و أفضل تمثيل لها يكون بشكلٍ مسطّح.
وهكذا دافع غرينبيرغ عن «التسطيح» الذي تجلّى في لوحات الفنانين الأمريكيين التجريدية مثل جاكسون بولوك باعتباره تحقيقًا لهذا الوضوح الحداثي. لقد ضم هؤلاء الفنانين معًا ضمن فريق واحد، وهم يمثّلون المرحلة التالية في الحداثة، وقد حلّت رؤيتهم الأمريكية المميزة محلّ الفن الأوروبي الطليعي.
وفي الوقت الذي أصبح فيه الفن التجريدي الأمريكي مهيمنًا، تراجعت هيمنة غرينبيرغ النقدية، وظهرت أشكال جديدة من الفن الطليعي، مستوحاة مباشرة من الثقافة الجماهيرية، وحلّت محلّ التعبيرية التجريدية في المخيال العام. تبنى فنانوّ «البوب» مثل: آندي وارهول، وريتشارد هاميلتون هذا النوع من «الفن الشعبي المبتذل» الذي رآه غرينبيرغ تلويثًا للفن الحقيقي.
استمرت الأعمال الفنية التجريدية، ولكن تخلّى الفنّانون التجريديون الأكثر جرأة عن الفكرة الصارمة «للنقد الحداثي»، وعن الوضوح المتعلق بخصوصية الوسيط الفني، وذلك لصالح أشكال أخرى من التعبير.
نظر فنانوّ «ما بعد الحداثة» إلى السخرية وعملية الرسم نفسها، كطرق لتجاوز الطريق المسدود للحداثة. تبنى الألماني غيرهارد ريختر كلا النهجين؛ فبعض أعماله التجريدية في الستينيات كانت مصنوعة بممسحاتٍ بدلًا من الفرشاة، حتى يتمكن من لفت الانتباه إلى عملية صنع اللوحة نفسها.
كانت «اللوحات التجريدية» البارزة الأخرى التي رسمها ريختر في الواقع صورًا واقعية مرسومة بعناية تعكس لوحاته التجريدية الأخرى. أصبحت طلائعية الرسم التجريدي مفهومية أكثر، ما جعل ضمنيًّا قضية الرسم تحظى باستقلالية أقل مما كان كان يعتقد النقاد الحداثيون.
قلّد فنانوّ «نيو جيو»، مثل: الرسام بيتر هالي، والنحات أشلي بيكرتون اللغة البصرية للتجريد الهندسي، لكنهما دمجاها مع السلع الاستهلاكية بألوانٍ تجارية فاتحة وأحيانًا فلورية.
منذ ذلك الجيل ما بعد الحداثي من الرسامين والنحاتين الممتد من الستينيات إلى التسعينيات، ازدهر التجريد متفرّعًا إلى عددٍ لا يُحصى من الأساليب والمقاربات بجوار الفن التشخيصي. هنا يمكن القول إنّ التجريد المتحرّر من عبء التوقعات الحداثية هو ببساطة نهج للتعبير مثل أيّ نهج آخر.
وتجدر الإشارة إلى أنّ بعض الفنانين التجريديين استخدموا الحيل البصرية المستعملة في الفن التشخيصي – مثل المنظور والتظليل – في لوحاتهم. ولاستخدامهم هذا أهداف فريدة و غالبًا لا تهتم بالنظرية.
قلّد فنانوّ «ما بعد الحداثة» مثل: بيتر هالي اللغة البصرية المستعملة في الفن التجريدي الحديث (في حالة بيتر، التجريد الهندسي)، للتعليق على طبيعة الفن والمعنى نفسه. تمثّل هذه الكتل الملونة «الخلايا» و«الأنابيب».قلّد فنانوّ «ما بعد الحداثة» مثل: بيتر هالي اللغة البصرية المستعملة في الفن التجريدي الحديث (في حالة بيتر، التجريد الهندسي)، للتعليق على طبيعة الفن والمعنى نفسه. تمثّل هذه الكتل الملونة «الخلايا» و«الأنابيب».
هذا هو التحرّر نحو الأفضل بين الرسامين التجريديين الذين يمكنهم الالتزام برؤيةٍ فريدة بالرسم على القماش. لكن فكّ ارتباط الفن التجريدي عن إطاره الفلسفي الأوسع أدى أيضًا إلى انتشارٍ يثير التساؤل لأعمال تجريدية متنوعة قابلة للاستهلاك – بمعنى أنّها فقدت قيمتها، وباتت تُباع وتُشترى سريعًا بأسعارٍ مربحة – يشتريها المشترون المتضاربون.
دفع هذا التحول الناقد جيري سالتز إلى كتابة: « الزومبي على الجدران: لماذا يبدو الكثير من التجريد الجديد متشابهًا؟». وقد شبه اللّوحات التجريدية بصورة «الزومبي»، تحقيرًا لأعمال عددٍ من الرسامين التجريديين البارزين، الذين استخدموا الفنّ وجماليته لتقديم أعمال مبتذلة.
ومن المفارقات أن هؤلاء الفنانين نظروا إلى الشكلانية بوصفها فنًّا حداثيًّا متبنّين منظور غرينبيرغ، لكنهم بالطبع قدّموا أعمالًا في ظلّ فراغ تاريخي وبعد فترةٍ طويلة حين لم يُصبح التجريد مثيرًا للاهتمام أو راديكاليًا بأي وجه من الوجوه.
في الواقع، لم يصل مشروع الحداثة في الفن التجريدي إلى نهايته، بل النقد. إنّ النقد -أيّ الإطار الفلسفي الواسع الذي يصادق على الأعمال الفنية ويثمّنها لأهميتها الثقافية والتاريخية- هو ما فقد التوجه والسلطة.
كان مسار الفن الغربي منذ عصر التنوير يتأرجح بين قطبي الدوغمائية النقدية والإبداع. تكمن المشكلة أنه في العقود الأخيرة، وفي ظلّ غياب أي مشروع نقدي متماسك، انجرف الفن نحو إرضاء اهتمامات دقيقة ومتنوعة تزداد باستمرار.
في حين كانت هناك «حركات» و«مدارس» فنية -مصطلحان يشيران إلى الوجهة والانضباط- لم يعد لدينا الآن سوى «مشاهد».
هذا ليس بالضرورة أمرًا سيئًا. ولكن في عالم حيث «كل شيء مقبول – anything goes»، لا يوجد مجال لهذا النوع من الابتكار والتجاوز الذي أدى إلى ظهور الفن التجريدي في الغرب، وهذا ما جعل الفن الحديث فنًّا مثيرًا للغاية.
من الصعب في هذه اللحظة التاريخية أن ندرك ما الذي جعل لوحة بولوك «رقم 32» مثيرة للانقسام، ومخلخلةً جدًا للمعايير، وفي الوقت نفسه محتفظةً بقيمةٍ عالية جدًا لأولئك الذين يعتقدون أن للفنِّ مكانًا في المجتمع يتجاوز المتعة.
[divider style=”solid” top=”20″ bottom=”20″]
[1] واللقب كذلك يُلمح إلى القاتل المتسلسل في لندن آخر القرن التاسع عشر: جاك السفّاح
Jack the ripper (مدير التحرير).
### خارج عقلك | توم تشاتفيلد – ت: محمد السعيد
عندما يكون هاتفي النقال بين يديّ، هل أكون أنا الشخص نفسه لو كان الهاتف في غرفة أخرى؟ من ناحية،...
### الدراما في التعليم: مقاربات وتطبيقات | نعيم حيماد
افتتاحيّة حظي استخدام الدراما في التعليمفي السنوات الأخيرة باهتمام كبير من قبل نخبة من المنظرين والممارسين للدراما في مجال التعليم....
### الحقائق المخفية | دي بي سي بيير – ت: محمد السعيد
يحمل جبل كلسي خشن في غرب إيران عددًا من النقوش البارزة، من بينها لوحة طولها خمسة وعشرين مترًا منقوشة...
### التغلُّب على كاشف الكذب | كلاريسا سيباغ-مونتِنفيوري – ت: محمد السعيد
حين اتُّهِمَتْ مربية الأطفال البريطانية لويز وودورد بهزِّ رضيع حتى الموت في مدينة نيوتن بولاية ماساتشوستس، لم تكتفِ بإعلان...
### عن منصة معنى
«معنى»، مؤسسة ثقافية تقدّمية ودار نشر تهتم بالفلسفة والمعرفة والفنون، عبر مجموعة متنوعة من المواد المقروءة والمسموعة والمرئية. انطلقت في 20 مارس 2019، بهدف إثراء المحتوى العربي، ورفع ذائقة ووعي المتلقّي المحلي والدولي، عبر الإنتاج الأصيل للمنصة والترجمة ونقل المعارف.
### روابط سريعة
### التصنيفات
### مرحبا بك!
قم بتسجيل الدخول إلى حسابك
تذكرني
### قم بإنشاء حساب جديد!
املأ النموذج أدناه للتسجيل
### طلب إعادة تعيين كلمة المرور
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان البريد الإلكتروني لإعادة تعيين كلمة المرور الخاصة بك.
### Add New Playlist
- Select Visibility -PublicPrivate
No Result
عرض جميع النتائج
-
00:00
00:00
-
00:00
00:00
|
article
|
Arabic
|
ar
|
الفنّ التجريدي: بين الماضي والحاضر - منصة معنى الثقافية
|
https://mana.net/abstract-art/
|
1,915 |
بالطريقة نفسها، كان الرسامون الحداثيون – من إدوارد مانيه في القرن التاسع عشر إلى موريس لويس، وهو رسام يعمل ينتمي إلى رسامي أسلوب مجال ألوان في الولايات المتحدة في الوقت الذي كتب فيه غرينبيرغ مقالته – يعملون على ترسيخ الفن التعبيري «بشكل صارم في مجال تخصصه».
|
paragraph
|
لا توجد منتجات في سلة المشتريات.
No Result
عرض جميع النتائج
الثلاثاء, سبتمبر 10, 2024
No Result
عرض جميع النتائج
No Result
عرض جميع النتائج
# الفنّ التجريدي: بين الماضي والحاضر
## ترجمة: أنطونيوس نادر
AA
AA
إعادة تعيين
فنٌ مليء بالتحديات
ثمّة خطٌ رفيع يفصل بين الفن التجريدي ومجرد الزخرفة، ولوحة «رقم 32» (نُشرت عام 1950)، لجاكسون بولوك تتأرجح بين هذا الخطّ. فهي لا تشير إلى معنىً واضح، ولكن لا يمكن القول إنّها بلا معنى على الإطلاق. كما أنّها ليست معبّرة بشكلٍ مباشر، ولا يعني هذا أنها لا تعبّر عن مدلولٍ ما. تحمل هذه اللوحة الكثير من المضامين عن الفن الغربي بالنسبة إلى شخصٍ خبيرٍ في تاريخ الفن؛ أما بالنسبة إلى شخصٍ عادي، فقد يراها عملًا مبتذلًا بالكاد يعبّر عن أمرٍ ما.
اللوحة شبكة من الخطوط وبقعٍ من الألوان، رُسمت عن طريق صبّ طلاءٍ رخيص بعشوائيةٍ مباشرة على القماش. تتكون اللوحة من طلاءٍ أسود فقط وقماشٍ خام. واللوحة ضخمة؛ إذ يبلغ طولها تسعة أقدام وعرضها خمسة عشر قدمًا، وتغطي مجال رؤية المشاهد أثناء اقترابه منها. تقليديًّا، حتى اللوحات التجريدية تتكون من أجزاءٍ مترابطة مع بؤر تركيز (emphases) وعمقٍ يُنقل من خلال اللون والظلال، ولكن «رقم 32» ليس لها أجزاء؛ إنّها تتكون من تعالقات، والبؤرة فيها تكمن عبر امتداد سطح القماش المستطيل.
يمنحها ما سبق عمقًا سطحيًا، وربما لا عمق فيها: مجرّد طلاء على قماش. إنّها عبث بالشكل واللون. حتى اسمها، ببساطة رقمٌ معيّن – رقم 32 – يجعلها تنأى بنفسها عن أي فكرة مفادها أنها تعكس مدلولًا محدّدًا. تشير عناوين أعمال بولوك الأخرى إلى نوعٍ من الاختبار الشخصي، وإلى الاستخدام السمفوني المتعدد الطبقات للون والملمس؛ خذ مثلًا لوحاته التي تحمل اسم: «إيقاع الخريف»، و«الضباب الأرجواني»، و«الأقطاب الزرقاء»، و«انعكاس الدنقلة الكبير».
هذا لا ينطبق على لوحة «رقم 32»؛ شكلها الخام وبساطتها دليل على أنّ الفنان لم يخطط مسبقًا لرسمها؛ أيّ أنّه لم ينتق الألوان ولا الطبقات. يبدو بولوك هنا أكثر حضورًا، من خلال لمساته الحادة. بالنسبة إلى مؤيديّ عمل بولوك، تختصر هذه اللوحة خلاصة نظرة الفنان الجمالية. أما بالنسبة للبعض الآخر، فهي لوحة مبتذلة.
وصف جوزيف بويس -النحات الألماني في فترة ما بعد الحرب- الفنَّ التجريدي الأمريكي بأنه مجرد «تغليف»، أيّ سطح بلا محتوى. في هذا الصدد، قد يتفق البعض أن لوحة «رقم 32» تجسد فراغ الفكر والشعور ذاك. فقد رأى الروائي والناقد الفني روبرت كوتس أن فن بولوك لم يكن سوى «انفجارات» غير منظمة من الطاقة العشوائية. غير أنّ طائفة كبيرة من متذوقي الفن التجريدي لا تروق إليهم أعمال بولوك ويرونها فنًّا محيرًا، حتى إنّ بعضهم يراها إهانةً للذوق أو الحسّ السليم.
عُرف بولوك بلقب: «جاك فنان النقط» (Jack the Dripper) [1] في الأوساط الإعلامية المشككة بعمله حيث ادعى كثر أن أيّ شخص يمكنه أن يرسم كما يرسم بولوك إلّا أنّ أحدًا لم يتجرأ على فعل ذلك.
«رقم 32» - جاكسون بولوك«رقم 32» – جاكسون بولوك
بيد أنّ هذا هو مغزى الفن التجريدي في التقليد الغربي: إنّه تحدّ. وفي ظل الكثير هذه التحديات، تُعد لوحة « رقم 32» اللوحة الأكثر تمثيلًا لهذا الفن.
قصة الفنّ التجريدي
مسار قصة الفن التجريدي مضمّنة في الدراسات التاريخية الفنية، إلّا أنّ المحطات الرئيسة لهذا المسار كانت محط تغييرات مفاجئة كلما اكتشف مؤرخوّ الفن حقائق جديدة.
انطلق مسار الفن التجريدي بدءًا من القرن التاسع عشر وما تلاه؛ حيث استفاد الفنانون من مادة الطلاء والجوانب الشكلية للرسم مثل اللون والدرجة والخطوط. يُعرف هذا الانشغال بالجوانب غير التمثيلية (non-representative) للفن باسم «الشكلانية»، لأنّه انشغال «بالشكل»، أيّ بتوسل شكل المحتوى بدلًا من المحتوى في ذاته. بالنسبة إلى الفنانين في القرن التاسع عشر، صُنّف الفن التجريدي على أنّه «فنٌّ من أجل الفنّ»، وكانت الفكرة الشائعة مفادها أنّ المتذوق للفن يمكنه الاستمتاع بالعمل دون اللجوء إلى معنى أو حتى أي شيء آخر يمثل أمرًا ما.
تمثّل لوحة «الموسيقى الهادئة باللّونين الأسود والذهبي – الصاروخ الساقط» (1872)، للفنان جيمس مكنيل ويسلر هذا الاتجاه الذي تبلور لاحقًا في الفن التجريدي. إنّ مشهد ويسلر الغامض من الناحية المكانيّة يقترب إلى التجريد، وذلك بمحاولته نقل الشعور أو الانطباع الخاص بالمشهد بدلًا من إعادة إنتاجه بحذافيره.
«الموسيقى الهادئة باللونين الأسود والذهبي - الصاروخ الساقط» (1872-1877) - جيمس أبوت مكنيل ويسلير«الموسيقى الهادئة باللونين الأسود والذهبي – الصاروخ الساقط» (1872-1877) – جيمس أبوت مكنيل ويسلير
في عام 1877، انتقد جون روسكين – أبرز نقّاد بريطانيا في ذلك الوقت – عمل ويسلير هذا نقدًا لاذعًا فشبهه «بمن قام برمي الطلاء في وجه الجمهور». تأثر ويسلر بهذا الكلام، فرفع دعوى قضائية ضد روسكين، بيد أنّه خسرها لأن المسؤولين عرضوا اللوحة -خطأً- مقلوبةً على المحكمة. أفلس ويسلير بسبب هذه القضية، لكن مسيرة تطور الفن التجريدي استمرت.
من ناحيةٍ أخرى، تحديد أول فنان تجريدي في العالم موضوع نزاع. في نظر أبحاث تاريخ الفن التقليدية، كان فاسيلي كاندينسكي – فنان روسي الجنسية رسم لوحات تجريدية بالكامل في مطلع عام 1911- هو أول فنان تجريدي.
لم ينل الفن التجريدي الرائد لهيلما أف كلينت تقديرًا إلا قبل سنوات قريبة. هذه صورة للمعرض الشهير في متحف غاغينهايم، عام 2018 .لم ينل الفن التجريدي الرائد لهيلما أف كلينت تقديرًا إلا قبل سنوات قريبة. هذه صورة للمعرض الشهير في متحف غاغينهايم، عام 2018 .
ولكن في الآونة الأخيرة، وبفضل المعرض الرائد في متحف مقاطعة لوس أنجلوس للفنون في عام 1986 الذي حمل اسم «الروحانية في الفن: الرسم التجريدي 1890 – 1985»، وقع الاختيار على هيلما أف كلينت كأول رسامة تجريدية. بدأت كلينت في رسم لوحات تجريدية بدءًا من عام 1906، وحملت مجموعتها عنوان «الفوضى البدائية». كانت الفنانة متكتمة في ما يتعلق بأعمالها التجريدية، ولم تُعرض أيّ منها في معارض عامة، وبقيت غير معروفة حتى أزيح عنها الستار مؤخرًا.
ولعل الجدال حول هوية أول من مارس الفن التجريدي سيستم، لكن الحقيقة الأكثر أهمية هي أن العديد من الفنانين الأوروبيين البارزين قد توصّلوا في أعمالهم إلى التجريد بحلول الحرب العالمية الأولى. لقد وجد كل منهم طريقته الخاصة في التخلي عن الفن التشخيصي (figurative painting). وجديرٌ بالذكر أنّه لم تكن هناك حركة «تجريدية» دولية ذات رؤية أو بيان مشترك.
في ضوء ذلك، فإن السؤال الملحّ حقًا هو: لمَ لمْ يتبنى الفنانون الغربيون الفن التجريدي على امتداد قرون عديدة؟ لماذا كان التجريد غير ضروري أو لا معنى له أو غير مناسب أو حتى لا يمكن تقبّله لقرونٍ متوالية في الفن الغربي؟
ظهرت العديد من التفسيرات لشرح ذلك. إحدى النظريات الأكثر وضوحًا هي أن ظهور التصوير الفوتوغرافي بوصفه شكلًا من أشكال الفن، إضافةً إلى تطور الفن الحديث، سببان رئيسان لإزاحة الرسم التشخيصي.
ثمّة إجابات أخرى غير ملموسة لاستكشاف الأسباب: ربما عندما أصبحت الأعمال الفنية قابلة للاستهالاك بشكل متزايد، مثل السلع، بات من السهولة فصل اللوحات والمنحوتات عن التجارب المحددة لمبدعيها. ربما أدت الحداثة في الغرب إلى إفراغ الفن من المحتوى التشخيصي؛ مما دفع الفنانين أيضًا إلى التخلي عن التمثيل التشخيصي.
كل من هذه الإجابات معقدة وتتطلب الكثير من الشرح، ولا يمكن إلا أن تكون تخمينات. لا توجد إجابة واضحة لهذه المسألة. ربما يكون من الأفضل طرح السؤال حول سبب تقبّل الفن التجريدي فنًّا من الفنون الرسمية في تاريخ الفن الغربي في مرحلة معينة على علماء الأنثروبولوجيا بدلًا من طرحها على مؤرخي الفن. فما هو واضح أن الفن التجريدي كان موجودًا دائمًا في مناطق أخرى من العالم.
ما جعل الفن التجريدي فنًّا حديثًا على وجه التحديد في العالم الغربي هو نظام المعارض، الذي أعطى القيمة الفنية للأعمال المعروضة. وكما هو واضح فقد ازدهر التجريد لآلاف السنين المناطق الشرقية والجنوبية من العالم، دون عناء التحقق من مكانة الأعمال المعروضة في الصالونات [والمعارض، كما هو في العالم الغربي].
الواقع الافتراضي و«الافتراضية»
يتبنى بيبي كرمل وهو مؤرخ فني، في كتابه « الفن التجريدي: تاريخ عالمي»، فكرة أنّ الفن التجريدي كان دائمًا موجودًا بشكل طبيعي عندما ننظر إليه نظرة شاملة وعالمية، بيد أنّه يتحاشى طرح نظرية عن تطور الفن التجريدي. بالنسبة إلى كرمل، فإنّ هذا الفنّ متجذر في العالم الحقيقي، وهو ليس فنًّا «مجردًا» على الإطلاق، كما أنّه تقليد عالمي وليس محليًا.
في دراسته حول الفن التجريدي يقسم العمل الفني إلى خمس فئات واسعة تنتمي إلى العالم الحقيقي: الأجسام، والمناظر الطبيعية، والكون، والبنى، والعلامات والأنماط. من خلال فحص الفن التجريدي بهذه الطريقة، يرى كرمل في اللوحات التجريدية موضوعات قابلة للتحليل، بعكس النقاد والمؤرخين الأرثوذكسيين الذين رأوا فيها مجرّد توليفات شكلية مكوّنة من لون وشكل.
ربما يكون من الأفضل أن يطلق على الفن التجريدي: فن ما تم تجريده (abstracted art)؛ لأنّ الفنانين التجريديين عادةً ما يستخلصون ويجرّدون تعبيرات التجارب في شكل ولون، أكثر من كونها توليفات مكونة من شكل ولون. ومرّد ذلك الطبيعة الجوهرية للرسم والنحت؛ فهما (الشكل اللّون) وسيطان للتعبير، مثل الشاشة أو المسرح لخيال الفنان. كما هو الحال في المسرح أو السينما، فإنّ جمهور اللوحة أو المنحوتة يعلّق معتقداته من أجل أن يتقبل المشهد.
من المفيد التفكير في اللوحة التشخيصية التقليدية أو النحت على أنها حقيقة افتراضية. إذْ استخدم الفنانون لقرون عديدة الحيل البصرية -مثل المنظور الخطي، والتقصير المسبق، والتظليل- لمحاكاة الطريقة التي ندرك بها الأشياء في الفضاء الحقيقي. إنّ المشاهد تُنشأ في فضاء افتراضي – سواء كانت القاعدة التي تدعم التمثال أو القماش – ليراها المشاهدون بوصفها خدعة بصرية.
«القديس بطرس شفاء أحد الأشخاص وبعث تابيثا من الموت» ماسولينو دي بانيكال. اعتمد الرسم الغربي قبل القرن العشرين على الحيل البصرية لخلق واقع افتراضي. إحدى هذه الحيل هي المنظور الخطي، وهذه اللوحة هي أول مثال لاستخدام نقطة تلاشٍ متسقة.«القديس بطرس شفاء أحد الأشخاص وبعث تابيثا من الموت» ماسولينو دي بانيكال. اعتمد الرسم الغربي قبل القرن العشرين على الحيل البصرية لخلق واقع افتراضي. إحدى هذه الحيل هي المنظور الخطي، وهذه اللوحة هي أول مثال لاستخدام نقطة تلاشٍ متسقة.
يستمتع مشاهدوّ الأعمال الفنية العظيمة معنى ما يُرسم، ويقدرون الطريقة التي يتجلّى فيها الوهم عبر تمازج اللون والشكل.
يبقى الفن التجريدي، إلى حدٍ ما، ضمن إطار التجربة الجمالية. فقد سعت حركات الفن الحديث التي أدت إلى التجريد -أيّ «مدارس الفن»، مثل الانطباعية والفاوفية والتكعيبية- إلى تمثيل العالم بشكل مختلف عن كل الفنون التي سبقتها. إذْ ادعوا الاقتراب من الحقيقة الذاتية عبر تهميش جميع الحيل الوهمية التقليدية التي حاولت إعادة إنتاج الواقع بحذافيره كحقيقة موضوعية.
«الأحمر والأصفر والأزرق» (1925) واسيلي كاندينسكي. كان كاندينسكي يعدّ لفترةٍ طويلة أب الرسم التجريدي الغربي.«الأحمر والأصفر والأزرق» (1925) واسيلي كاندينسكي. كان كاندينسكي يعدّ لفترةٍ طويلة أب الرسم التجريدي الغربي.
بالنسبة إلى هذه المدارس، أصبح الفن أقل من أن يوصف بأنّه واقع افتراضي، لكنه مع ذلك احتفظ بالافتراضية، وأصبح افتراضيًا. لقد أخذ الفن التجريدي مسار التطور هذا إلى أقصاه: من الواقع الافتراضي إلى الافتراضية.
ماذا تعني «الافتراضية» هنا؟ إنّها الوجود كجوهر وتأثير، ولكن بدون اللجوء إلى الواقع. اللوحة التجريدية التي رسمها كاندينسكي، على سبيل المثال، ما زالت تُعدّ علاقة متبادلة بين الشكل واللون، و تعتمد على الرسم كمستوى تخطيطي: إنها نافذة تطلّ على «الواقع» الفردي الذي تصوّره كاندينسكي.
وما تزال العناصر في لوحات كاندينسكي تحظى بعلاقة متبادلة، كما هو الحال في فضاء الواقع الافتراضي للوحة التشخيصية؛ فجوهر الرسم سليم إذ إنّ ذلك الفضاء الافتراضي ما زال موجودًا. عندما يكون الفن التجريدي بناءً خالصًا، ويتخلص من المساحة الافتراضية الملازمة للرسم والنحت، يصبح متميزًا عنهما.
وصف دونالد جود الفنان التخفيفي (minimalist) مثل هذه الأعمال الفنية بأنها «أجسام محدّدة» (Specific Objects). إنّه مصطلح غير دقيق، ولكنه يصلح لإظهار أن مثل هذه الأعمال الفنية ليست رسمًا ولا نحتًا، ولكنها فئة أخرى تمامًا.
رأى دونالد جود أن أعماله وأعمال العديد من معاصريه تشغل مساحة هجينة، لا هي لوحات ولا هي نحت. عمل دون عنوان لدونالد جود.
استخدم جود هذا المصطلح لوصف أعماله الخاصة، ولكنه ينطبق على لوحات كازيمير ماليفيتش وفرانك ستيلا أحادية اللون، والتي تجعل اللوحة تندمج مع نفسها بالكامل، من أجل الوصول للتأثير الذي يأمل العمل في تحقيقه.
في مثل هذه الأعمال، لم يعد قماش اللّوحة (أو القاعدة) سطحًا تتفاعل فيه الأشكال والألوان في الفضاء الافتراضي. بدلاً من ذلك، تتفاعل الأشكال والألوان في الفضاء الحقيقي، في فضائنا.
تختلف معايير النجاح أو الفشل لهذه الأعمال عن الخصائص التقليدية للرسم والنحت. رأى جود أنّ خصائص الرسم والنحت تقف في طريق ما أراد تحقيقه من خلال اللون والشكل. في رأيه، كان لـ «أجسامه المحددة» تأثيرًا أحدّ من غيرها.
الواقع والأشكال الجديدة للإدراك الحسّي
الرسم نفسه له ثلاثة أنواع عامة من التجريد؛ أولًا، ثمّة أسلوب تعبيري تُرسم فيه الأشكال بحركاتٍ غير مقيدة؛ ثم هناك التجريد الهندسي حيث يتم هيكلة الأشكال؛ أما النوع الثالث، فهو تجريد مجال اللون حيث يتم عرض مساحات من الألوان بطريقةٍ لا شكل واضح لها.
لم تكن هذه «الأنماط» (styles) أنماطًا عرضيةً أو تعتمد على ذوق أو ميل الرسام كوسيلة لتحقيق هدفٍ ما من البحث الفني. وخير مثال على ذلك هو الفنان الذي غالبًا ما ينظر إلى عمله على أنّه ذروة التجريد الهندسي: بيت موندريان. إنّ لوحات بيت موندريان المكونة من شبكات (grids) ذات الخطوط السوداء والأجزاء الملونة على خلفية بيضاء؛ تهدف إلى استحضار «حقيقة أعلى».
بالنسبة إلى موندريان، كان الفن في جوهره معارضًا للواقع؛ «لأن الواقع يتعارض مع الروحي». بغض النظر عن هذه اللوحة الأشهر لموندريان، فإنّ جوانب الرسم التي تهم هذا الفنان حقًا لم تكن الجوانب المحددة للموضوع -أيّ ماذا أو ما يتم تصويره في اللوحة مثلًا- بل الجوانب القابلة للفهم عالميًا للشكل والخط واللون. إنّ لوحات موندريان، مثلها مثل لوحات الفنانين الآخرين، هي محاولة لاستخلاص الشكل واللون من أجل الاقتراب من ذلك الجوهر العالمي والروحي للفن.
عبّر موندريان عن رغبته في الوصول إلى «أساس» الأشياء من خلال الحدس، كالعديد من الفنانين التجريديين الآخرين في النصف الأول من القرن العشرين الذين رغبوا في الوصول إلى قوى غير مرئية حولنا، ولكنها معروفة أو محدوسة.
«التكوين الثاني باللون الأحمر والأزرق والأصفر» (1930) - بيت موندريان«التكوين الثاني باللون الأحمر والأزرق والأصفر» (1930) – بيت موندريان
في أواخر القرن التاسع عشر، لاحظ العلماء بشكلٍ أفضل مما سبق القوى غير المرئية مع انتشار التقنيات الجديدة، وأصبح من الواضح أن العالم أرحب مما يبدو للعين. في الوقت نفسه، ظهرت حركات روحية بديلة جمعت بين الأفكار الأفلاطونية والتصوف.
كان كلينت وموندريان من بين العديد من الفنانين الذين انغمسوا في أشكال الروحانية خارج العوالم التقليدية للدين. اعتقدت كلينت أن لوحاتها هي وحي عالم روحي، وأن مهمتها كانت العمل «على مستوى روحاني» لتمثيل روح الإنسان، بدلًا من صورته الفانية.
بحلول عشرينيات القرن الماضي، كانت نظرية فرويد عن للعقل البشري قد تغلغلت أيضًا في عالم الفن. كذلك السريالية، وهي حركة منظمة بإحكام بدأت مع بعض الفنانين الذين سعوا إلى التنقيب عن الإمكانات الإبداعية للعقل الباطن، وهي الحركة الثقافية التي كانت سائدة في أوروبا بين الحربين العالميتين.
لم تكن السريالية دوغمائية في محاولتها لاستكشاف اللاوعي، ولذلك ظهر عدد من الأساليب والطرق لمحاولة إخراج اللاوعي إلى السطح. إحدى هذه الأساليب كان الرسم الآلي (Automatism)، وهي عملية يتخلى فيها الفنان عن السيطرة الواعية لليد التي ترسم أو تصور. في هذا المجال، تبنى الفنانون مثل أندريه ماسون وخوان ميرو الفرصة لبناء صورهم باستخدام حركات حرّة، وحتى إلقاء الطلاء على القماش.
طور أرشيل غوركي -هو مهاجر أرمني عاش في الولايات المتحدة- أسلوبًا في الرسم يدمج بين الرسم الآلي وتجريد مجال الألوان. لوحاته في الأربعينيات حجمُها ضخم – ومرد ذلك تأثره بأعماله السابقة كفنان جداري مُعيّن من الدولة خلال السنوات الأخيرة من الكساد الكبير – لكنها معبّرة وغنائية في الرسم بالفرشاة.
ألهم إدماج غوركي للأنماط جيلًا واسعًا من الفنانين الأمريكيين في فترة ما بعد الحرب لاحتضان التجريد الواسع النطاق. ما نسميه الآن «التعبيرية التجريدية»، وكان ذاك الجيل في الواقع مجموعة فضفاضة من الفنانين الذين يستخدمون أنماطًا متعدّدة من أنماط التجريد.
ربما كان القاسم المشترك بين هؤلاء الفنانين – على الأقل في السنوات الأولى – هو دعم جيل جديد من النقاد بقيادة كليمنت غرينبيرغ، الذي كان يعتقد أن التجريد هو التعبير الأسمى للفن الغربي.
«الكبد هو مشط الديك» (1944) - أرشيل جوركي.«الكبد هو مشط الديك» (1944) – أرشيل جوركي.
الحداثة ومصير الفنّ الغربي
كان يُعتقد في بعض الأوساط الفكرية المؤثرة أنّ الفن يتقدم نحو هدف؛ وهذا المضمون يشتمل عليه مصطلح «الطليعية» (Avant-garde)، الذي يُوصف به الفنّانون الذين يبتكرون أرضية جمالية جديدة. أصل المصطلح فرنسي يُطلق على الجنود الذين يتقدمون إلى مناطق جديدة.
بالنسبة إلى غرينبيرغ، لم يكن هؤلاء الفنّانون يوسّعون حدود إمكانات الفن؛ بل كانوا يتقدمون نحو الهدف الحقيقي والمفرد لكل شكل فني.
يُعدّ غرينبيرغ شخصية مهمة في تاريخ الفن التجريدي، وذلك لأمرين: بوصفه مناصرًا رائدًا في مسألة تفوق الفن التجريدي على غيره من أنواع الرسم، وتأكيده للقوة التي امتلكها هذا الفن. كان ناقدًا في اللجنة الأمريكية للحريّة الثقافية التي تمولها الدولة، وهي مجموعة تم إنشاؤها لتعزيز الفن الأمريكي على المستوى الدولي.
أصبحت أفكار غرينبيرغ مؤثرة عندما كانت الولايات المتحدة جزءًا من الحرب على الفاشية والنازية، وخلال الحرب الباردة اللاحقة ضد الشيوعية السوفيتية. كانت معايير الفن الفاشي والسوفياتي واضحة، وهي ما تحددها السلطات الثقافية أنها كذلك، بيد أنّه ما لم يكن واضحًا هو معايير الفن «الجيد» وتحديدًا في الغرب الديمقراطي.
كان الماركسيون هم من تعاطف مع غرينبيرغ في البداية، لكن ارتبط تفكيره بشكلٍ متزايد بالهيمنة الثقافية الأمريكية. بالنسبة إليه، كان التجريد في أعمال بولوك فنًا مثاليًا لمجتمع ديمقراطي. تتجلى الحداثة في الفن، وفقًا لغرينبيرغ، في إطار التنوير الأوروبي؛ أيّ في فترة ازدهار الأفكار الفلسفية والعلمية التي أعطت الأولوية للعقل.
في مقالته المؤثرة « الرسم الحداثي» (1961)، وصفَ غرينبيرغ إيمانويل كانط – الفيلسوف الألماني في عصر التنوير – بأنّه «أول حداثي حقيقي». كان أسلوب كانط في «النقد» هو استخدام العقل لنقد العقل بغرض توضيحه، ومنحه استقلالية عن أنواع التفكير الأخرى.
«أولمبيا» - إدوارد مانيه (1863). بالنسبة إلى كليمنت غرينبيرغ، كان مانيه أول رسام حداثي. لقد رسم مانيه لوحاته بأسلوبٍ مسطّح بشكلٍ متعمد.«أولمبيا» – إدوارد مانيه (1863). بالنسبة إلى كليمنت غرينبيرغ، كان مانيه أول رسام حداثي. لقد رسم مانيه لوحاته بأسلوبٍ مسطّح بشكلٍ متعمد.
بالطريقة نفسها، كان الرسامون الحداثيون – من إدوارد مانيه في القرن التاسع عشر إلى موريس لويس، وهو رسام يعمل ينتمي إلى رسامي أسلوب مجال ألوان في الولايات المتحدة في الوقت الذي كتب فيه غرينبيرغ مقالته – يعملون على ترسيخ الفن التعبيري «بشكل صارم في مجال تخصصه».
رأى غرينبيرغ أن وضوح الفن التجريدي -الذي كان صادقًا بالنسبة إلى الوسيط الذي يُعبّر من خلاله- معارضٌ لـ«الفن الشعبي المبتذل [الكيتش]» الذي ينُتج على نطاق واسع في الثقافة الشعبية. إن إزالة «الكيتش» كانت مسألة استجلاء وتوضيح تحتاجها جميع الفنون لكي تصبح تعبيرًا عن إمكاناتها الجمالية الكامنة.
اللوحات مسطّحة، وإيهام العمق الذي نجده في معظم الفن الغربي كان انحرافًا عن جوهر فن الرسم ذاته. كانت استقلالية الشكل الفني في جميع خصائصه دون أن تتلوث بأشكال فنية أخرى. وفقًا لغرينبيرغ، يعدّ الشكل واللون من أهم خصائص الرسم، و أفضل تمثيل لها يكون بشكلٍ مسطّح.
وهكذا دافع غرينبيرغ عن «التسطيح» الذي تجلّى في لوحات الفنانين الأمريكيين التجريدية مثل جاكسون بولوك باعتباره تحقيقًا لهذا الوضوح الحداثي. لقد ضم هؤلاء الفنانين معًا ضمن فريق واحد، وهم يمثّلون المرحلة التالية في الحداثة، وقد حلّت رؤيتهم الأمريكية المميزة محلّ الفن الأوروبي الطليعي.
وفي الوقت الذي أصبح فيه الفن التجريدي الأمريكي مهيمنًا، تراجعت هيمنة غرينبيرغ النقدية، وظهرت أشكال جديدة من الفن الطليعي، مستوحاة مباشرة من الثقافة الجماهيرية، وحلّت محلّ التعبيرية التجريدية في المخيال العام. تبنى فنانوّ «البوب» مثل: آندي وارهول، وريتشارد هاميلتون هذا النوع من «الفن الشعبي المبتذل» الذي رآه غرينبيرغ تلويثًا للفن الحقيقي.
استمرت الأعمال الفنية التجريدية، ولكن تخلّى الفنّانون التجريديون الأكثر جرأة عن الفكرة الصارمة «للنقد الحداثي»، وعن الوضوح المتعلق بخصوصية الوسيط الفني، وذلك لصالح أشكال أخرى من التعبير.
نظر فنانوّ «ما بعد الحداثة» إلى السخرية وعملية الرسم نفسها، كطرق لتجاوز الطريق المسدود للحداثة. تبنى الألماني غيرهارد ريختر كلا النهجين؛ فبعض أعماله التجريدية في الستينيات كانت مصنوعة بممسحاتٍ بدلًا من الفرشاة، حتى يتمكن من لفت الانتباه إلى عملية صنع اللوحة نفسها.
كانت «اللوحات التجريدية» البارزة الأخرى التي رسمها ريختر في الواقع صورًا واقعية مرسومة بعناية تعكس لوحاته التجريدية الأخرى. أصبحت طلائعية الرسم التجريدي مفهومية أكثر، ما جعل ضمنيًّا قضية الرسم تحظى باستقلالية أقل مما كان كان يعتقد النقاد الحداثيون.
قلّد فنانوّ «نيو جيو»، مثل: الرسام بيتر هالي، والنحات أشلي بيكرتون اللغة البصرية للتجريد الهندسي، لكنهما دمجاها مع السلع الاستهلاكية بألوانٍ تجارية فاتحة وأحيانًا فلورية.
منذ ذلك الجيل ما بعد الحداثي من الرسامين والنحاتين الممتد من الستينيات إلى التسعينيات، ازدهر التجريد متفرّعًا إلى عددٍ لا يُحصى من الأساليب والمقاربات بجوار الفن التشخيصي. هنا يمكن القول إنّ التجريد المتحرّر من عبء التوقعات الحداثية هو ببساطة نهج للتعبير مثل أيّ نهج آخر.
وتجدر الإشارة إلى أنّ بعض الفنانين التجريديين استخدموا الحيل البصرية المستعملة في الفن التشخيصي – مثل المنظور والتظليل – في لوحاتهم. ولاستخدامهم هذا أهداف فريدة و غالبًا لا تهتم بالنظرية.
قلّد فنانوّ «ما بعد الحداثة» مثل: بيتر هالي اللغة البصرية المستعملة في الفن التجريدي الحديث (في حالة بيتر، التجريد الهندسي)، للتعليق على طبيعة الفن والمعنى نفسه. تمثّل هذه الكتل الملونة «الخلايا» و«الأنابيب».قلّد فنانوّ «ما بعد الحداثة» مثل: بيتر هالي اللغة البصرية المستعملة في الفن التجريدي الحديث (في حالة بيتر، التجريد الهندسي)، للتعليق على طبيعة الفن والمعنى نفسه. تمثّل هذه الكتل الملونة «الخلايا» و«الأنابيب».
هذا هو التحرّر نحو الأفضل بين الرسامين التجريديين الذين يمكنهم الالتزام برؤيةٍ فريدة بالرسم على القماش. لكن فكّ ارتباط الفن التجريدي عن إطاره الفلسفي الأوسع أدى أيضًا إلى انتشارٍ يثير التساؤل لأعمال تجريدية متنوعة قابلة للاستهلاك – بمعنى أنّها فقدت قيمتها، وباتت تُباع وتُشترى سريعًا بأسعارٍ مربحة – يشتريها المشترون المتضاربون.
دفع هذا التحول الناقد جيري سالتز إلى كتابة: « الزومبي على الجدران: لماذا يبدو الكثير من التجريد الجديد متشابهًا؟». وقد شبه اللّوحات التجريدية بصورة «الزومبي»، تحقيرًا لأعمال عددٍ من الرسامين التجريديين البارزين، الذين استخدموا الفنّ وجماليته لتقديم أعمال مبتذلة.
ومن المفارقات أن هؤلاء الفنانين نظروا إلى الشكلانية بوصفها فنًّا حداثيًّا متبنّين منظور غرينبيرغ، لكنهم بالطبع قدّموا أعمالًا في ظلّ فراغ تاريخي وبعد فترةٍ طويلة حين لم يُصبح التجريد مثيرًا للاهتمام أو راديكاليًا بأي وجه من الوجوه.
في الواقع، لم يصل مشروع الحداثة في الفن التجريدي إلى نهايته، بل النقد. إنّ النقد -أيّ الإطار الفلسفي الواسع الذي يصادق على الأعمال الفنية ويثمّنها لأهميتها الثقافية والتاريخية- هو ما فقد التوجه والسلطة.
كان مسار الفن الغربي منذ عصر التنوير يتأرجح بين قطبي الدوغمائية النقدية والإبداع. تكمن المشكلة أنه في العقود الأخيرة، وفي ظلّ غياب أي مشروع نقدي متماسك، انجرف الفن نحو إرضاء اهتمامات دقيقة ومتنوعة تزداد باستمرار.
في حين كانت هناك «حركات» و«مدارس» فنية -مصطلحان يشيران إلى الوجهة والانضباط- لم يعد لدينا الآن سوى «مشاهد».
هذا ليس بالضرورة أمرًا سيئًا. ولكن في عالم حيث «كل شيء مقبول – anything goes»، لا يوجد مجال لهذا النوع من الابتكار والتجاوز الذي أدى إلى ظهور الفن التجريدي في الغرب، وهذا ما جعل الفن الحديث فنًّا مثيرًا للغاية.
من الصعب في هذه اللحظة التاريخية أن ندرك ما الذي جعل لوحة بولوك «رقم 32» مثيرة للانقسام، ومخلخلةً جدًا للمعايير، وفي الوقت نفسه محتفظةً بقيمةٍ عالية جدًا لأولئك الذين يعتقدون أن للفنِّ مكانًا في المجتمع يتجاوز المتعة.
[divider style=”solid” top=”20″ bottom=”20″]
[1] واللقب كذلك يُلمح إلى القاتل المتسلسل في لندن آخر القرن التاسع عشر: جاك السفّاح
Jack the ripper (مدير التحرير).
### خارج عقلك | توم تشاتفيلد – ت: محمد السعيد
عندما يكون هاتفي النقال بين يديّ، هل أكون أنا الشخص نفسه لو كان الهاتف في غرفة أخرى؟ من ناحية،...
### الدراما في التعليم: مقاربات وتطبيقات | نعيم حيماد
افتتاحيّة حظي استخدام الدراما في التعليمفي السنوات الأخيرة باهتمام كبير من قبل نخبة من المنظرين والممارسين للدراما في مجال التعليم....
### الحقائق المخفية | دي بي سي بيير – ت: محمد السعيد
يحمل جبل كلسي خشن في غرب إيران عددًا من النقوش البارزة، من بينها لوحة طولها خمسة وعشرين مترًا منقوشة...
### التغلُّب على كاشف الكذب | كلاريسا سيباغ-مونتِنفيوري – ت: محمد السعيد
حين اتُّهِمَتْ مربية الأطفال البريطانية لويز وودورد بهزِّ رضيع حتى الموت في مدينة نيوتن بولاية ماساتشوستس، لم تكتفِ بإعلان...
### عن منصة معنى
«معنى»، مؤسسة ثقافية تقدّمية ودار نشر تهتم بالفلسفة والمعرفة والفنون، عبر مجموعة متنوعة من المواد المقروءة والمسموعة والمرئية. انطلقت في 20 مارس 2019، بهدف إثراء المحتوى العربي، ورفع ذائقة ووعي المتلقّي المحلي والدولي، عبر الإنتاج الأصيل للمنصة والترجمة ونقل المعارف.
### روابط سريعة
### التصنيفات
### مرحبا بك!
قم بتسجيل الدخول إلى حسابك
تذكرني
### قم بإنشاء حساب جديد!
املأ النموذج أدناه للتسجيل
### طلب إعادة تعيين كلمة المرور
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان البريد الإلكتروني لإعادة تعيين كلمة المرور الخاصة بك.
### Add New Playlist
- Select Visibility -PublicPrivate
No Result
عرض جميع النتائج
-
00:00
00:00
-
00:00
00:00
|
article
|
Arabic
|
ar
|
الفنّ التجريدي: بين الماضي والحاضر - منصة معنى الثقافية
|
https://mana.net/abstract-art/
|
1,916 |
رأى غرينبيرغ أن وضوح الفن التجريدي -الذي كان صادقًا بالنسبة إلى الوسيط الذي يُعبّر من خلاله- معارضٌ لـ«الفن الشعبي المبتذل [الكيتش]» الذي ينُتج على نطاق واسع في الثقافة الشعبية. إن إزالة «الكيتش» كانت مسألة استجلاء وتوضيح تحتاجها جميع الفنون لكي تصبح تعبيرًا عن إمكاناتها الجمالية الكامنة.
|
paragraph
|
لا توجد منتجات في سلة المشتريات.
No Result
عرض جميع النتائج
الثلاثاء, سبتمبر 10, 2024
No Result
عرض جميع النتائج
No Result
عرض جميع النتائج
# الفنّ التجريدي: بين الماضي والحاضر
## ترجمة: أنطونيوس نادر
AA
AA
إعادة تعيين
فنٌ مليء بالتحديات
ثمّة خطٌ رفيع يفصل بين الفن التجريدي ومجرد الزخرفة، ولوحة «رقم 32» (نُشرت عام 1950)، لجاكسون بولوك تتأرجح بين هذا الخطّ. فهي لا تشير إلى معنىً واضح، ولكن لا يمكن القول إنّها بلا معنى على الإطلاق. كما أنّها ليست معبّرة بشكلٍ مباشر، ولا يعني هذا أنها لا تعبّر عن مدلولٍ ما. تحمل هذه اللوحة الكثير من المضامين عن الفن الغربي بالنسبة إلى شخصٍ خبيرٍ في تاريخ الفن؛ أما بالنسبة إلى شخصٍ عادي، فقد يراها عملًا مبتذلًا بالكاد يعبّر عن أمرٍ ما.
اللوحة شبكة من الخطوط وبقعٍ من الألوان، رُسمت عن طريق صبّ طلاءٍ رخيص بعشوائيةٍ مباشرة على القماش. تتكون اللوحة من طلاءٍ أسود فقط وقماشٍ خام. واللوحة ضخمة؛ إذ يبلغ طولها تسعة أقدام وعرضها خمسة عشر قدمًا، وتغطي مجال رؤية المشاهد أثناء اقترابه منها. تقليديًّا، حتى اللوحات التجريدية تتكون من أجزاءٍ مترابطة مع بؤر تركيز (emphases) وعمقٍ يُنقل من خلال اللون والظلال، ولكن «رقم 32» ليس لها أجزاء؛ إنّها تتكون من تعالقات، والبؤرة فيها تكمن عبر امتداد سطح القماش المستطيل.
يمنحها ما سبق عمقًا سطحيًا، وربما لا عمق فيها: مجرّد طلاء على قماش. إنّها عبث بالشكل واللون. حتى اسمها، ببساطة رقمٌ معيّن – رقم 32 – يجعلها تنأى بنفسها عن أي فكرة مفادها أنها تعكس مدلولًا محدّدًا. تشير عناوين أعمال بولوك الأخرى إلى نوعٍ من الاختبار الشخصي، وإلى الاستخدام السمفوني المتعدد الطبقات للون والملمس؛ خذ مثلًا لوحاته التي تحمل اسم: «إيقاع الخريف»، و«الضباب الأرجواني»، و«الأقطاب الزرقاء»، و«انعكاس الدنقلة الكبير».
هذا لا ينطبق على لوحة «رقم 32»؛ شكلها الخام وبساطتها دليل على أنّ الفنان لم يخطط مسبقًا لرسمها؛ أيّ أنّه لم ينتق الألوان ولا الطبقات. يبدو بولوك هنا أكثر حضورًا، من خلال لمساته الحادة. بالنسبة إلى مؤيديّ عمل بولوك، تختصر هذه اللوحة خلاصة نظرة الفنان الجمالية. أما بالنسبة للبعض الآخر، فهي لوحة مبتذلة.
وصف جوزيف بويس -النحات الألماني في فترة ما بعد الحرب- الفنَّ التجريدي الأمريكي بأنه مجرد «تغليف»، أيّ سطح بلا محتوى. في هذا الصدد، قد يتفق البعض أن لوحة «رقم 32» تجسد فراغ الفكر والشعور ذاك. فقد رأى الروائي والناقد الفني روبرت كوتس أن فن بولوك لم يكن سوى «انفجارات» غير منظمة من الطاقة العشوائية. غير أنّ طائفة كبيرة من متذوقي الفن التجريدي لا تروق إليهم أعمال بولوك ويرونها فنًّا محيرًا، حتى إنّ بعضهم يراها إهانةً للذوق أو الحسّ السليم.
عُرف بولوك بلقب: «جاك فنان النقط» (Jack the Dripper) [1] في الأوساط الإعلامية المشككة بعمله حيث ادعى كثر أن أيّ شخص يمكنه أن يرسم كما يرسم بولوك إلّا أنّ أحدًا لم يتجرأ على فعل ذلك.
«رقم 32» - جاكسون بولوك«رقم 32» – جاكسون بولوك
بيد أنّ هذا هو مغزى الفن التجريدي في التقليد الغربي: إنّه تحدّ. وفي ظل الكثير هذه التحديات، تُعد لوحة « رقم 32» اللوحة الأكثر تمثيلًا لهذا الفن.
قصة الفنّ التجريدي
مسار قصة الفن التجريدي مضمّنة في الدراسات التاريخية الفنية، إلّا أنّ المحطات الرئيسة لهذا المسار كانت محط تغييرات مفاجئة كلما اكتشف مؤرخوّ الفن حقائق جديدة.
انطلق مسار الفن التجريدي بدءًا من القرن التاسع عشر وما تلاه؛ حيث استفاد الفنانون من مادة الطلاء والجوانب الشكلية للرسم مثل اللون والدرجة والخطوط. يُعرف هذا الانشغال بالجوانب غير التمثيلية (non-representative) للفن باسم «الشكلانية»، لأنّه انشغال «بالشكل»، أيّ بتوسل شكل المحتوى بدلًا من المحتوى في ذاته. بالنسبة إلى الفنانين في القرن التاسع عشر، صُنّف الفن التجريدي على أنّه «فنٌّ من أجل الفنّ»، وكانت الفكرة الشائعة مفادها أنّ المتذوق للفن يمكنه الاستمتاع بالعمل دون اللجوء إلى معنى أو حتى أي شيء آخر يمثل أمرًا ما.
تمثّل لوحة «الموسيقى الهادئة باللّونين الأسود والذهبي – الصاروخ الساقط» (1872)، للفنان جيمس مكنيل ويسلر هذا الاتجاه الذي تبلور لاحقًا في الفن التجريدي. إنّ مشهد ويسلر الغامض من الناحية المكانيّة يقترب إلى التجريد، وذلك بمحاولته نقل الشعور أو الانطباع الخاص بالمشهد بدلًا من إعادة إنتاجه بحذافيره.
«الموسيقى الهادئة باللونين الأسود والذهبي - الصاروخ الساقط» (1872-1877) - جيمس أبوت مكنيل ويسلير«الموسيقى الهادئة باللونين الأسود والذهبي – الصاروخ الساقط» (1872-1877) – جيمس أبوت مكنيل ويسلير
في عام 1877، انتقد جون روسكين – أبرز نقّاد بريطانيا في ذلك الوقت – عمل ويسلير هذا نقدًا لاذعًا فشبهه «بمن قام برمي الطلاء في وجه الجمهور». تأثر ويسلر بهذا الكلام، فرفع دعوى قضائية ضد روسكين، بيد أنّه خسرها لأن المسؤولين عرضوا اللوحة -خطأً- مقلوبةً على المحكمة. أفلس ويسلير بسبب هذه القضية، لكن مسيرة تطور الفن التجريدي استمرت.
من ناحيةٍ أخرى، تحديد أول فنان تجريدي في العالم موضوع نزاع. في نظر أبحاث تاريخ الفن التقليدية، كان فاسيلي كاندينسكي – فنان روسي الجنسية رسم لوحات تجريدية بالكامل في مطلع عام 1911- هو أول فنان تجريدي.
لم ينل الفن التجريدي الرائد لهيلما أف كلينت تقديرًا إلا قبل سنوات قريبة. هذه صورة للمعرض الشهير في متحف غاغينهايم، عام 2018 .لم ينل الفن التجريدي الرائد لهيلما أف كلينت تقديرًا إلا قبل سنوات قريبة. هذه صورة للمعرض الشهير في متحف غاغينهايم، عام 2018 .
ولكن في الآونة الأخيرة، وبفضل المعرض الرائد في متحف مقاطعة لوس أنجلوس للفنون في عام 1986 الذي حمل اسم «الروحانية في الفن: الرسم التجريدي 1890 – 1985»، وقع الاختيار على هيلما أف كلينت كأول رسامة تجريدية. بدأت كلينت في رسم لوحات تجريدية بدءًا من عام 1906، وحملت مجموعتها عنوان «الفوضى البدائية». كانت الفنانة متكتمة في ما يتعلق بأعمالها التجريدية، ولم تُعرض أيّ منها في معارض عامة، وبقيت غير معروفة حتى أزيح عنها الستار مؤخرًا.
ولعل الجدال حول هوية أول من مارس الفن التجريدي سيستم، لكن الحقيقة الأكثر أهمية هي أن العديد من الفنانين الأوروبيين البارزين قد توصّلوا في أعمالهم إلى التجريد بحلول الحرب العالمية الأولى. لقد وجد كل منهم طريقته الخاصة في التخلي عن الفن التشخيصي (figurative painting). وجديرٌ بالذكر أنّه لم تكن هناك حركة «تجريدية» دولية ذات رؤية أو بيان مشترك.
في ضوء ذلك، فإن السؤال الملحّ حقًا هو: لمَ لمْ يتبنى الفنانون الغربيون الفن التجريدي على امتداد قرون عديدة؟ لماذا كان التجريد غير ضروري أو لا معنى له أو غير مناسب أو حتى لا يمكن تقبّله لقرونٍ متوالية في الفن الغربي؟
ظهرت العديد من التفسيرات لشرح ذلك. إحدى النظريات الأكثر وضوحًا هي أن ظهور التصوير الفوتوغرافي بوصفه شكلًا من أشكال الفن، إضافةً إلى تطور الفن الحديث، سببان رئيسان لإزاحة الرسم التشخيصي.
ثمّة إجابات أخرى غير ملموسة لاستكشاف الأسباب: ربما عندما أصبحت الأعمال الفنية قابلة للاستهالاك بشكل متزايد، مثل السلع، بات من السهولة فصل اللوحات والمنحوتات عن التجارب المحددة لمبدعيها. ربما أدت الحداثة في الغرب إلى إفراغ الفن من المحتوى التشخيصي؛ مما دفع الفنانين أيضًا إلى التخلي عن التمثيل التشخيصي.
كل من هذه الإجابات معقدة وتتطلب الكثير من الشرح، ولا يمكن إلا أن تكون تخمينات. لا توجد إجابة واضحة لهذه المسألة. ربما يكون من الأفضل طرح السؤال حول سبب تقبّل الفن التجريدي فنًّا من الفنون الرسمية في تاريخ الفن الغربي في مرحلة معينة على علماء الأنثروبولوجيا بدلًا من طرحها على مؤرخي الفن. فما هو واضح أن الفن التجريدي كان موجودًا دائمًا في مناطق أخرى من العالم.
ما جعل الفن التجريدي فنًّا حديثًا على وجه التحديد في العالم الغربي هو نظام المعارض، الذي أعطى القيمة الفنية للأعمال المعروضة. وكما هو واضح فقد ازدهر التجريد لآلاف السنين المناطق الشرقية والجنوبية من العالم، دون عناء التحقق من مكانة الأعمال المعروضة في الصالونات [والمعارض، كما هو في العالم الغربي].
الواقع الافتراضي و«الافتراضية»
يتبنى بيبي كرمل وهو مؤرخ فني، في كتابه « الفن التجريدي: تاريخ عالمي»، فكرة أنّ الفن التجريدي كان دائمًا موجودًا بشكل طبيعي عندما ننظر إليه نظرة شاملة وعالمية، بيد أنّه يتحاشى طرح نظرية عن تطور الفن التجريدي. بالنسبة إلى كرمل، فإنّ هذا الفنّ متجذر في العالم الحقيقي، وهو ليس فنًّا «مجردًا» على الإطلاق، كما أنّه تقليد عالمي وليس محليًا.
في دراسته حول الفن التجريدي يقسم العمل الفني إلى خمس فئات واسعة تنتمي إلى العالم الحقيقي: الأجسام، والمناظر الطبيعية، والكون، والبنى، والعلامات والأنماط. من خلال فحص الفن التجريدي بهذه الطريقة، يرى كرمل في اللوحات التجريدية موضوعات قابلة للتحليل، بعكس النقاد والمؤرخين الأرثوذكسيين الذين رأوا فيها مجرّد توليفات شكلية مكوّنة من لون وشكل.
ربما يكون من الأفضل أن يطلق على الفن التجريدي: فن ما تم تجريده (abstracted art)؛ لأنّ الفنانين التجريديين عادةً ما يستخلصون ويجرّدون تعبيرات التجارب في شكل ولون، أكثر من كونها توليفات مكونة من شكل ولون. ومرّد ذلك الطبيعة الجوهرية للرسم والنحت؛ فهما (الشكل اللّون) وسيطان للتعبير، مثل الشاشة أو المسرح لخيال الفنان. كما هو الحال في المسرح أو السينما، فإنّ جمهور اللوحة أو المنحوتة يعلّق معتقداته من أجل أن يتقبل المشهد.
من المفيد التفكير في اللوحة التشخيصية التقليدية أو النحت على أنها حقيقة افتراضية. إذْ استخدم الفنانون لقرون عديدة الحيل البصرية -مثل المنظور الخطي، والتقصير المسبق، والتظليل- لمحاكاة الطريقة التي ندرك بها الأشياء في الفضاء الحقيقي. إنّ المشاهد تُنشأ في فضاء افتراضي – سواء كانت القاعدة التي تدعم التمثال أو القماش – ليراها المشاهدون بوصفها خدعة بصرية.
«القديس بطرس شفاء أحد الأشخاص وبعث تابيثا من الموت» ماسولينو دي بانيكال. اعتمد الرسم الغربي قبل القرن العشرين على الحيل البصرية لخلق واقع افتراضي. إحدى هذه الحيل هي المنظور الخطي، وهذه اللوحة هي أول مثال لاستخدام نقطة تلاشٍ متسقة.«القديس بطرس شفاء أحد الأشخاص وبعث تابيثا من الموت» ماسولينو دي بانيكال. اعتمد الرسم الغربي قبل القرن العشرين على الحيل البصرية لخلق واقع افتراضي. إحدى هذه الحيل هي المنظور الخطي، وهذه اللوحة هي أول مثال لاستخدام نقطة تلاشٍ متسقة.
يستمتع مشاهدوّ الأعمال الفنية العظيمة معنى ما يُرسم، ويقدرون الطريقة التي يتجلّى فيها الوهم عبر تمازج اللون والشكل.
يبقى الفن التجريدي، إلى حدٍ ما، ضمن إطار التجربة الجمالية. فقد سعت حركات الفن الحديث التي أدت إلى التجريد -أيّ «مدارس الفن»، مثل الانطباعية والفاوفية والتكعيبية- إلى تمثيل العالم بشكل مختلف عن كل الفنون التي سبقتها. إذْ ادعوا الاقتراب من الحقيقة الذاتية عبر تهميش جميع الحيل الوهمية التقليدية التي حاولت إعادة إنتاج الواقع بحذافيره كحقيقة موضوعية.
«الأحمر والأصفر والأزرق» (1925) واسيلي كاندينسكي. كان كاندينسكي يعدّ لفترةٍ طويلة أب الرسم التجريدي الغربي.«الأحمر والأصفر والأزرق» (1925) واسيلي كاندينسكي. كان كاندينسكي يعدّ لفترةٍ طويلة أب الرسم التجريدي الغربي.
بالنسبة إلى هذه المدارس، أصبح الفن أقل من أن يوصف بأنّه واقع افتراضي، لكنه مع ذلك احتفظ بالافتراضية، وأصبح افتراضيًا. لقد أخذ الفن التجريدي مسار التطور هذا إلى أقصاه: من الواقع الافتراضي إلى الافتراضية.
ماذا تعني «الافتراضية» هنا؟ إنّها الوجود كجوهر وتأثير، ولكن بدون اللجوء إلى الواقع. اللوحة التجريدية التي رسمها كاندينسكي، على سبيل المثال، ما زالت تُعدّ علاقة متبادلة بين الشكل واللون، و تعتمد على الرسم كمستوى تخطيطي: إنها نافذة تطلّ على «الواقع» الفردي الذي تصوّره كاندينسكي.
وما تزال العناصر في لوحات كاندينسكي تحظى بعلاقة متبادلة، كما هو الحال في فضاء الواقع الافتراضي للوحة التشخيصية؛ فجوهر الرسم سليم إذ إنّ ذلك الفضاء الافتراضي ما زال موجودًا. عندما يكون الفن التجريدي بناءً خالصًا، ويتخلص من المساحة الافتراضية الملازمة للرسم والنحت، يصبح متميزًا عنهما.
وصف دونالد جود الفنان التخفيفي (minimalist) مثل هذه الأعمال الفنية بأنها «أجسام محدّدة» (Specific Objects). إنّه مصطلح غير دقيق، ولكنه يصلح لإظهار أن مثل هذه الأعمال الفنية ليست رسمًا ولا نحتًا، ولكنها فئة أخرى تمامًا.
رأى دونالد جود أن أعماله وأعمال العديد من معاصريه تشغل مساحة هجينة، لا هي لوحات ولا هي نحت. عمل دون عنوان لدونالد جود.
استخدم جود هذا المصطلح لوصف أعماله الخاصة، ولكنه ينطبق على لوحات كازيمير ماليفيتش وفرانك ستيلا أحادية اللون، والتي تجعل اللوحة تندمج مع نفسها بالكامل، من أجل الوصول للتأثير الذي يأمل العمل في تحقيقه.
في مثل هذه الأعمال، لم يعد قماش اللّوحة (أو القاعدة) سطحًا تتفاعل فيه الأشكال والألوان في الفضاء الافتراضي. بدلاً من ذلك، تتفاعل الأشكال والألوان في الفضاء الحقيقي، في فضائنا.
تختلف معايير النجاح أو الفشل لهذه الأعمال عن الخصائص التقليدية للرسم والنحت. رأى جود أنّ خصائص الرسم والنحت تقف في طريق ما أراد تحقيقه من خلال اللون والشكل. في رأيه، كان لـ «أجسامه المحددة» تأثيرًا أحدّ من غيرها.
الواقع والأشكال الجديدة للإدراك الحسّي
الرسم نفسه له ثلاثة أنواع عامة من التجريد؛ أولًا، ثمّة أسلوب تعبيري تُرسم فيه الأشكال بحركاتٍ غير مقيدة؛ ثم هناك التجريد الهندسي حيث يتم هيكلة الأشكال؛ أما النوع الثالث، فهو تجريد مجال اللون حيث يتم عرض مساحات من الألوان بطريقةٍ لا شكل واضح لها.
لم تكن هذه «الأنماط» (styles) أنماطًا عرضيةً أو تعتمد على ذوق أو ميل الرسام كوسيلة لتحقيق هدفٍ ما من البحث الفني. وخير مثال على ذلك هو الفنان الذي غالبًا ما ينظر إلى عمله على أنّه ذروة التجريد الهندسي: بيت موندريان. إنّ لوحات بيت موندريان المكونة من شبكات (grids) ذات الخطوط السوداء والأجزاء الملونة على خلفية بيضاء؛ تهدف إلى استحضار «حقيقة أعلى».
بالنسبة إلى موندريان، كان الفن في جوهره معارضًا للواقع؛ «لأن الواقع يتعارض مع الروحي». بغض النظر عن هذه اللوحة الأشهر لموندريان، فإنّ جوانب الرسم التي تهم هذا الفنان حقًا لم تكن الجوانب المحددة للموضوع -أيّ ماذا أو ما يتم تصويره في اللوحة مثلًا- بل الجوانب القابلة للفهم عالميًا للشكل والخط واللون. إنّ لوحات موندريان، مثلها مثل لوحات الفنانين الآخرين، هي محاولة لاستخلاص الشكل واللون من أجل الاقتراب من ذلك الجوهر العالمي والروحي للفن.
عبّر موندريان عن رغبته في الوصول إلى «أساس» الأشياء من خلال الحدس، كالعديد من الفنانين التجريديين الآخرين في النصف الأول من القرن العشرين الذين رغبوا في الوصول إلى قوى غير مرئية حولنا، ولكنها معروفة أو محدوسة.
«التكوين الثاني باللون الأحمر والأزرق والأصفر» (1930) - بيت موندريان«التكوين الثاني باللون الأحمر والأزرق والأصفر» (1930) – بيت موندريان
في أواخر القرن التاسع عشر، لاحظ العلماء بشكلٍ أفضل مما سبق القوى غير المرئية مع انتشار التقنيات الجديدة، وأصبح من الواضح أن العالم أرحب مما يبدو للعين. في الوقت نفسه، ظهرت حركات روحية بديلة جمعت بين الأفكار الأفلاطونية والتصوف.
كان كلينت وموندريان من بين العديد من الفنانين الذين انغمسوا في أشكال الروحانية خارج العوالم التقليدية للدين. اعتقدت كلينت أن لوحاتها هي وحي عالم روحي، وأن مهمتها كانت العمل «على مستوى روحاني» لتمثيل روح الإنسان، بدلًا من صورته الفانية.
بحلول عشرينيات القرن الماضي، كانت نظرية فرويد عن للعقل البشري قد تغلغلت أيضًا في عالم الفن. كذلك السريالية، وهي حركة منظمة بإحكام بدأت مع بعض الفنانين الذين سعوا إلى التنقيب عن الإمكانات الإبداعية للعقل الباطن، وهي الحركة الثقافية التي كانت سائدة في أوروبا بين الحربين العالميتين.
لم تكن السريالية دوغمائية في محاولتها لاستكشاف اللاوعي، ولذلك ظهر عدد من الأساليب والطرق لمحاولة إخراج اللاوعي إلى السطح. إحدى هذه الأساليب كان الرسم الآلي (Automatism)، وهي عملية يتخلى فيها الفنان عن السيطرة الواعية لليد التي ترسم أو تصور. في هذا المجال، تبنى الفنانون مثل أندريه ماسون وخوان ميرو الفرصة لبناء صورهم باستخدام حركات حرّة، وحتى إلقاء الطلاء على القماش.
طور أرشيل غوركي -هو مهاجر أرمني عاش في الولايات المتحدة- أسلوبًا في الرسم يدمج بين الرسم الآلي وتجريد مجال الألوان. لوحاته في الأربعينيات حجمُها ضخم – ومرد ذلك تأثره بأعماله السابقة كفنان جداري مُعيّن من الدولة خلال السنوات الأخيرة من الكساد الكبير – لكنها معبّرة وغنائية في الرسم بالفرشاة.
ألهم إدماج غوركي للأنماط جيلًا واسعًا من الفنانين الأمريكيين في فترة ما بعد الحرب لاحتضان التجريد الواسع النطاق. ما نسميه الآن «التعبيرية التجريدية»، وكان ذاك الجيل في الواقع مجموعة فضفاضة من الفنانين الذين يستخدمون أنماطًا متعدّدة من أنماط التجريد.
ربما كان القاسم المشترك بين هؤلاء الفنانين – على الأقل في السنوات الأولى – هو دعم جيل جديد من النقاد بقيادة كليمنت غرينبيرغ، الذي كان يعتقد أن التجريد هو التعبير الأسمى للفن الغربي.
«الكبد هو مشط الديك» (1944) - أرشيل جوركي.«الكبد هو مشط الديك» (1944) – أرشيل جوركي.
الحداثة ومصير الفنّ الغربي
كان يُعتقد في بعض الأوساط الفكرية المؤثرة أنّ الفن يتقدم نحو هدف؛ وهذا المضمون يشتمل عليه مصطلح «الطليعية» (Avant-garde)، الذي يُوصف به الفنّانون الذين يبتكرون أرضية جمالية جديدة. أصل المصطلح فرنسي يُطلق على الجنود الذين يتقدمون إلى مناطق جديدة.
بالنسبة إلى غرينبيرغ، لم يكن هؤلاء الفنّانون يوسّعون حدود إمكانات الفن؛ بل كانوا يتقدمون نحو الهدف الحقيقي والمفرد لكل شكل فني.
يُعدّ غرينبيرغ شخصية مهمة في تاريخ الفن التجريدي، وذلك لأمرين: بوصفه مناصرًا رائدًا في مسألة تفوق الفن التجريدي على غيره من أنواع الرسم، وتأكيده للقوة التي امتلكها هذا الفن. كان ناقدًا في اللجنة الأمريكية للحريّة الثقافية التي تمولها الدولة، وهي مجموعة تم إنشاؤها لتعزيز الفن الأمريكي على المستوى الدولي.
أصبحت أفكار غرينبيرغ مؤثرة عندما كانت الولايات المتحدة جزءًا من الحرب على الفاشية والنازية، وخلال الحرب الباردة اللاحقة ضد الشيوعية السوفيتية. كانت معايير الفن الفاشي والسوفياتي واضحة، وهي ما تحددها السلطات الثقافية أنها كذلك، بيد أنّه ما لم يكن واضحًا هو معايير الفن «الجيد» وتحديدًا في الغرب الديمقراطي.
كان الماركسيون هم من تعاطف مع غرينبيرغ في البداية، لكن ارتبط تفكيره بشكلٍ متزايد بالهيمنة الثقافية الأمريكية. بالنسبة إليه، كان التجريد في أعمال بولوك فنًا مثاليًا لمجتمع ديمقراطي. تتجلى الحداثة في الفن، وفقًا لغرينبيرغ، في إطار التنوير الأوروبي؛ أيّ في فترة ازدهار الأفكار الفلسفية والعلمية التي أعطت الأولوية للعقل.
في مقالته المؤثرة « الرسم الحداثي» (1961)، وصفَ غرينبيرغ إيمانويل كانط – الفيلسوف الألماني في عصر التنوير – بأنّه «أول حداثي حقيقي». كان أسلوب كانط في «النقد» هو استخدام العقل لنقد العقل بغرض توضيحه، ومنحه استقلالية عن أنواع التفكير الأخرى.
«أولمبيا» - إدوارد مانيه (1863). بالنسبة إلى كليمنت غرينبيرغ، كان مانيه أول رسام حداثي. لقد رسم مانيه لوحاته بأسلوبٍ مسطّح بشكلٍ متعمد.«أولمبيا» – إدوارد مانيه (1863). بالنسبة إلى كليمنت غرينبيرغ، كان مانيه أول رسام حداثي. لقد رسم مانيه لوحاته بأسلوبٍ مسطّح بشكلٍ متعمد.
بالطريقة نفسها، كان الرسامون الحداثيون – من إدوارد مانيه في القرن التاسع عشر إلى موريس لويس، وهو رسام يعمل ينتمي إلى رسامي أسلوب مجال ألوان في الولايات المتحدة في الوقت الذي كتب فيه غرينبيرغ مقالته – يعملون على ترسيخ الفن التعبيري «بشكل صارم في مجال تخصصه».
رأى غرينبيرغ أن وضوح الفن التجريدي -الذي كان صادقًا بالنسبة إلى الوسيط الذي يُعبّر من خلاله- معارضٌ لـ«الفن الشعبي المبتذل [الكيتش]» الذي ينُتج على نطاق واسع في الثقافة الشعبية. إن إزالة «الكيتش» كانت مسألة استجلاء وتوضيح تحتاجها جميع الفنون لكي تصبح تعبيرًا عن إمكاناتها الجمالية الكامنة.
اللوحات مسطّحة، وإيهام العمق الذي نجده في معظم الفن الغربي كان انحرافًا عن جوهر فن الرسم ذاته. كانت استقلالية الشكل الفني في جميع خصائصه دون أن تتلوث بأشكال فنية أخرى. وفقًا لغرينبيرغ، يعدّ الشكل واللون من أهم خصائص الرسم، و أفضل تمثيل لها يكون بشكلٍ مسطّح.
وهكذا دافع غرينبيرغ عن «التسطيح» الذي تجلّى في لوحات الفنانين الأمريكيين التجريدية مثل جاكسون بولوك باعتباره تحقيقًا لهذا الوضوح الحداثي. لقد ضم هؤلاء الفنانين معًا ضمن فريق واحد، وهم يمثّلون المرحلة التالية في الحداثة، وقد حلّت رؤيتهم الأمريكية المميزة محلّ الفن الأوروبي الطليعي.
وفي الوقت الذي أصبح فيه الفن التجريدي الأمريكي مهيمنًا، تراجعت هيمنة غرينبيرغ النقدية، وظهرت أشكال جديدة من الفن الطليعي، مستوحاة مباشرة من الثقافة الجماهيرية، وحلّت محلّ التعبيرية التجريدية في المخيال العام. تبنى فنانوّ «البوب» مثل: آندي وارهول، وريتشارد هاميلتون هذا النوع من «الفن الشعبي المبتذل» الذي رآه غرينبيرغ تلويثًا للفن الحقيقي.
استمرت الأعمال الفنية التجريدية، ولكن تخلّى الفنّانون التجريديون الأكثر جرأة عن الفكرة الصارمة «للنقد الحداثي»، وعن الوضوح المتعلق بخصوصية الوسيط الفني، وذلك لصالح أشكال أخرى من التعبير.
نظر فنانوّ «ما بعد الحداثة» إلى السخرية وعملية الرسم نفسها، كطرق لتجاوز الطريق المسدود للحداثة. تبنى الألماني غيرهارد ريختر كلا النهجين؛ فبعض أعماله التجريدية في الستينيات كانت مصنوعة بممسحاتٍ بدلًا من الفرشاة، حتى يتمكن من لفت الانتباه إلى عملية صنع اللوحة نفسها.
كانت «اللوحات التجريدية» البارزة الأخرى التي رسمها ريختر في الواقع صورًا واقعية مرسومة بعناية تعكس لوحاته التجريدية الأخرى. أصبحت طلائعية الرسم التجريدي مفهومية أكثر، ما جعل ضمنيًّا قضية الرسم تحظى باستقلالية أقل مما كان كان يعتقد النقاد الحداثيون.
قلّد فنانوّ «نيو جيو»، مثل: الرسام بيتر هالي، والنحات أشلي بيكرتون اللغة البصرية للتجريد الهندسي، لكنهما دمجاها مع السلع الاستهلاكية بألوانٍ تجارية فاتحة وأحيانًا فلورية.
منذ ذلك الجيل ما بعد الحداثي من الرسامين والنحاتين الممتد من الستينيات إلى التسعينيات، ازدهر التجريد متفرّعًا إلى عددٍ لا يُحصى من الأساليب والمقاربات بجوار الفن التشخيصي. هنا يمكن القول إنّ التجريد المتحرّر من عبء التوقعات الحداثية هو ببساطة نهج للتعبير مثل أيّ نهج آخر.
وتجدر الإشارة إلى أنّ بعض الفنانين التجريديين استخدموا الحيل البصرية المستعملة في الفن التشخيصي – مثل المنظور والتظليل – في لوحاتهم. ولاستخدامهم هذا أهداف فريدة و غالبًا لا تهتم بالنظرية.
قلّد فنانوّ «ما بعد الحداثة» مثل: بيتر هالي اللغة البصرية المستعملة في الفن التجريدي الحديث (في حالة بيتر، التجريد الهندسي)، للتعليق على طبيعة الفن والمعنى نفسه. تمثّل هذه الكتل الملونة «الخلايا» و«الأنابيب».قلّد فنانوّ «ما بعد الحداثة» مثل: بيتر هالي اللغة البصرية المستعملة في الفن التجريدي الحديث (في حالة بيتر، التجريد الهندسي)، للتعليق على طبيعة الفن والمعنى نفسه. تمثّل هذه الكتل الملونة «الخلايا» و«الأنابيب».
هذا هو التحرّر نحو الأفضل بين الرسامين التجريديين الذين يمكنهم الالتزام برؤيةٍ فريدة بالرسم على القماش. لكن فكّ ارتباط الفن التجريدي عن إطاره الفلسفي الأوسع أدى أيضًا إلى انتشارٍ يثير التساؤل لأعمال تجريدية متنوعة قابلة للاستهلاك – بمعنى أنّها فقدت قيمتها، وباتت تُباع وتُشترى سريعًا بأسعارٍ مربحة – يشتريها المشترون المتضاربون.
دفع هذا التحول الناقد جيري سالتز إلى كتابة: « الزومبي على الجدران: لماذا يبدو الكثير من التجريد الجديد متشابهًا؟». وقد شبه اللّوحات التجريدية بصورة «الزومبي»، تحقيرًا لأعمال عددٍ من الرسامين التجريديين البارزين، الذين استخدموا الفنّ وجماليته لتقديم أعمال مبتذلة.
ومن المفارقات أن هؤلاء الفنانين نظروا إلى الشكلانية بوصفها فنًّا حداثيًّا متبنّين منظور غرينبيرغ، لكنهم بالطبع قدّموا أعمالًا في ظلّ فراغ تاريخي وبعد فترةٍ طويلة حين لم يُصبح التجريد مثيرًا للاهتمام أو راديكاليًا بأي وجه من الوجوه.
في الواقع، لم يصل مشروع الحداثة في الفن التجريدي إلى نهايته، بل النقد. إنّ النقد -أيّ الإطار الفلسفي الواسع الذي يصادق على الأعمال الفنية ويثمّنها لأهميتها الثقافية والتاريخية- هو ما فقد التوجه والسلطة.
كان مسار الفن الغربي منذ عصر التنوير يتأرجح بين قطبي الدوغمائية النقدية والإبداع. تكمن المشكلة أنه في العقود الأخيرة، وفي ظلّ غياب أي مشروع نقدي متماسك، انجرف الفن نحو إرضاء اهتمامات دقيقة ومتنوعة تزداد باستمرار.
في حين كانت هناك «حركات» و«مدارس» فنية -مصطلحان يشيران إلى الوجهة والانضباط- لم يعد لدينا الآن سوى «مشاهد».
هذا ليس بالضرورة أمرًا سيئًا. ولكن في عالم حيث «كل شيء مقبول – anything goes»، لا يوجد مجال لهذا النوع من الابتكار والتجاوز الذي أدى إلى ظهور الفن التجريدي في الغرب، وهذا ما جعل الفن الحديث فنًّا مثيرًا للغاية.
من الصعب في هذه اللحظة التاريخية أن ندرك ما الذي جعل لوحة بولوك «رقم 32» مثيرة للانقسام، ومخلخلةً جدًا للمعايير، وفي الوقت نفسه محتفظةً بقيمةٍ عالية جدًا لأولئك الذين يعتقدون أن للفنِّ مكانًا في المجتمع يتجاوز المتعة.
[divider style=”solid” top=”20″ bottom=”20″]
[1] واللقب كذلك يُلمح إلى القاتل المتسلسل في لندن آخر القرن التاسع عشر: جاك السفّاح
Jack the ripper (مدير التحرير).
### خارج عقلك | توم تشاتفيلد – ت: محمد السعيد
عندما يكون هاتفي النقال بين يديّ، هل أكون أنا الشخص نفسه لو كان الهاتف في غرفة أخرى؟ من ناحية،...
### الدراما في التعليم: مقاربات وتطبيقات | نعيم حيماد
افتتاحيّة حظي استخدام الدراما في التعليمفي السنوات الأخيرة باهتمام كبير من قبل نخبة من المنظرين والممارسين للدراما في مجال التعليم....
### الحقائق المخفية | دي بي سي بيير – ت: محمد السعيد
يحمل جبل كلسي خشن في غرب إيران عددًا من النقوش البارزة، من بينها لوحة طولها خمسة وعشرين مترًا منقوشة...
### التغلُّب على كاشف الكذب | كلاريسا سيباغ-مونتِنفيوري – ت: محمد السعيد
حين اتُّهِمَتْ مربية الأطفال البريطانية لويز وودورد بهزِّ رضيع حتى الموت في مدينة نيوتن بولاية ماساتشوستس، لم تكتفِ بإعلان...
### عن منصة معنى
«معنى»، مؤسسة ثقافية تقدّمية ودار نشر تهتم بالفلسفة والمعرفة والفنون، عبر مجموعة متنوعة من المواد المقروءة والمسموعة والمرئية. انطلقت في 20 مارس 2019، بهدف إثراء المحتوى العربي، ورفع ذائقة ووعي المتلقّي المحلي والدولي، عبر الإنتاج الأصيل للمنصة والترجمة ونقل المعارف.
### روابط سريعة
### التصنيفات
### مرحبا بك!
قم بتسجيل الدخول إلى حسابك
تذكرني
### قم بإنشاء حساب جديد!
املأ النموذج أدناه للتسجيل
### طلب إعادة تعيين كلمة المرور
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان البريد الإلكتروني لإعادة تعيين كلمة المرور الخاصة بك.
### Add New Playlist
- Select Visibility -PublicPrivate
No Result
عرض جميع النتائج
-
00:00
00:00
-
00:00
00:00
|
article
|
Arabic
|
ar
|
الفنّ التجريدي: بين الماضي والحاضر - منصة معنى الثقافية
|
https://mana.net/abstract-art/
|
1,917 |
رأى غرينبيرغ أن وضوح الفن التجريدي -الذي كان صادقًا بالنسبة إلى الوسيط الذي يُعبّر من خلاله- معارضٌ لـ«الفن الشعبي المبتذل [الكيتش]» الذي ينُتج على نطاق واسع في الثقافة الشعبية.
|
sentence
|
رأى غرينبيرغ أن وضوح الفن التجريدي -الذي كان صادقًا بالنسبة إلى الوسيط الذي يُعبّر من خلاله- معارضٌ لـ«الفن الشعبي المبتذل [الكيتش]» الذي ينُتج على نطاق واسع في الثقافة الشعبية. إن إزالة «الكيتش» كانت مسألة استجلاء وتوضيح تحتاجها جميع الفنون لكي تصبح تعبيرًا عن إمكاناتها الجمالية الكامنة.
|
paragraph
|
Arabic
|
ar
|
الفنّ التجريدي: بين الماضي والحاضر - منصة معنى الثقافية
|
https://mana.net/abstract-art/
|
1,918 |
إن إزالة «الكيتش» كانت مسألة استجلاء وتوضيح تحتاجها جميع الفنون لكي تصبح تعبيرًا عن إمكاناتها الجمالية الكامنة.
|
sentence
|
رأى غرينبيرغ أن وضوح الفن التجريدي -الذي كان صادقًا بالنسبة إلى الوسيط الذي يُعبّر من خلاله- معارضٌ لـ«الفن الشعبي المبتذل [الكيتش]» الذي ينُتج على نطاق واسع في الثقافة الشعبية. إن إزالة «الكيتش» كانت مسألة استجلاء وتوضيح تحتاجها جميع الفنون لكي تصبح تعبيرًا عن إمكاناتها الجمالية الكامنة.
|
paragraph
|
Arabic
|
ar
|
الفنّ التجريدي: بين الماضي والحاضر - منصة معنى الثقافية
|
https://mana.net/abstract-art/
|
1,919 |
اللوحات مسطّحة، وإيهام العمق الذي نجده في معظم الفن الغربي كان انحرافًا عن جوهر فن الرسم ذاته. كانت استقلالية الشكل الفني في جميع خصائصه دون أن تتلوث بأشكال فنية أخرى. وفقًا لغرينبيرغ، يعدّ الشكل واللون من أهم خصائص الرسم، و أفضل تمثيل لها يكون بشكلٍ مسطّح.
|
paragraph
|
لا توجد منتجات في سلة المشتريات.
No Result
عرض جميع النتائج
الثلاثاء, سبتمبر 10, 2024
No Result
عرض جميع النتائج
No Result
عرض جميع النتائج
# الفنّ التجريدي: بين الماضي والحاضر
## ترجمة: أنطونيوس نادر
AA
AA
إعادة تعيين
فنٌ مليء بالتحديات
ثمّة خطٌ رفيع يفصل بين الفن التجريدي ومجرد الزخرفة، ولوحة «رقم 32» (نُشرت عام 1950)، لجاكسون بولوك تتأرجح بين هذا الخطّ. فهي لا تشير إلى معنىً واضح، ولكن لا يمكن القول إنّها بلا معنى على الإطلاق. كما أنّها ليست معبّرة بشكلٍ مباشر، ولا يعني هذا أنها لا تعبّر عن مدلولٍ ما. تحمل هذه اللوحة الكثير من المضامين عن الفن الغربي بالنسبة إلى شخصٍ خبيرٍ في تاريخ الفن؛ أما بالنسبة إلى شخصٍ عادي، فقد يراها عملًا مبتذلًا بالكاد يعبّر عن أمرٍ ما.
اللوحة شبكة من الخطوط وبقعٍ من الألوان، رُسمت عن طريق صبّ طلاءٍ رخيص بعشوائيةٍ مباشرة على القماش. تتكون اللوحة من طلاءٍ أسود فقط وقماشٍ خام. واللوحة ضخمة؛ إذ يبلغ طولها تسعة أقدام وعرضها خمسة عشر قدمًا، وتغطي مجال رؤية المشاهد أثناء اقترابه منها. تقليديًّا، حتى اللوحات التجريدية تتكون من أجزاءٍ مترابطة مع بؤر تركيز (emphases) وعمقٍ يُنقل من خلال اللون والظلال، ولكن «رقم 32» ليس لها أجزاء؛ إنّها تتكون من تعالقات، والبؤرة فيها تكمن عبر امتداد سطح القماش المستطيل.
يمنحها ما سبق عمقًا سطحيًا، وربما لا عمق فيها: مجرّد طلاء على قماش. إنّها عبث بالشكل واللون. حتى اسمها، ببساطة رقمٌ معيّن – رقم 32 – يجعلها تنأى بنفسها عن أي فكرة مفادها أنها تعكس مدلولًا محدّدًا. تشير عناوين أعمال بولوك الأخرى إلى نوعٍ من الاختبار الشخصي، وإلى الاستخدام السمفوني المتعدد الطبقات للون والملمس؛ خذ مثلًا لوحاته التي تحمل اسم: «إيقاع الخريف»، و«الضباب الأرجواني»، و«الأقطاب الزرقاء»، و«انعكاس الدنقلة الكبير».
هذا لا ينطبق على لوحة «رقم 32»؛ شكلها الخام وبساطتها دليل على أنّ الفنان لم يخطط مسبقًا لرسمها؛ أيّ أنّه لم ينتق الألوان ولا الطبقات. يبدو بولوك هنا أكثر حضورًا، من خلال لمساته الحادة. بالنسبة إلى مؤيديّ عمل بولوك، تختصر هذه اللوحة خلاصة نظرة الفنان الجمالية. أما بالنسبة للبعض الآخر، فهي لوحة مبتذلة.
وصف جوزيف بويس -النحات الألماني في فترة ما بعد الحرب- الفنَّ التجريدي الأمريكي بأنه مجرد «تغليف»، أيّ سطح بلا محتوى. في هذا الصدد، قد يتفق البعض أن لوحة «رقم 32» تجسد فراغ الفكر والشعور ذاك. فقد رأى الروائي والناقد الفني روبرت كوتس أن فن بولوك لم يكن سوى «انفجارات» غير منظمة من الطاقة العشوائية. غير أنّ طائفة كبيرة من متذوقي الفن التجريدي لا تروق إليهم أعمال بولوك ويرونها فنًّا محيرًا، حتى إنّ بعضهم يراها إهانةً للذوق أو الحسّ السليم.
عُرف بولوك بلقب: «جاك فنان النقط» (Jack the Dripper) [1] في الأوساط الإعلامية المشككة بعمله حيث ادعى كثر أن أيّ شخص يمكنه أن يرسم كما يرسم بولوك إلّا أنّ أحدًا لم يتجرأ على فعل ذلك.
«رقم 32» - جاكسون بولوك«رقم 32» – جاكسون بولوك
بيد أنّ هذا هو مغزى الفن التجريدي في التقليد الغربي: إنّه تحدّ. وفي ظل الكثير هذه التحديات، تُعد لوحة « رقم 32» اللوحة الأكثر تمثيلًا لهذا الفن.
قصة الفنّ التجريدي
مسار قصة الفن التجريدي مضمّنة في الدراسات التاريخية الفنية، إلّا أنّ المحطات الرئيسة لهذا المسار كانت محط تغييرات مفاجئة كلما اكتشف مؤرخوّ الفن حقائق جديدة.
انطلق مسار الفن التجريدي بدءًا من القرن التاسع عشر وما تلاه؛ حيث استفاد الفنانون من مادة الطلاء والجوانب الشكلية للرسم مثل اللون والدرجة والخطوط. يُعرف هذا الانشغال بالجوانب غير التمثيلية (non-representative) للفن باسم «الشكلانية»، لأنّه انشغال «بالشكل»، أيّ بتوسل شكل المحتوى بدلًا من المحتوى في ذاته. بالنسبة إلى الفنانين في القرن التاسع عشر، صُنّف الفن التجريدي على أنّه «فنٌّ من أجل الفنّ»، وكانت الفكرة الشائعة مفادها أنّ المتذوق للفن يمكنه الاستمتاع بالعمل دون اللجوء إلى معنى أو حتى أي شيء آخر يمثل أمرًا ما.
تمثّل لوحة «الموسيقى الهادئة باللّونين الأسود والذهبي – الصاروخ الساقط» (1872)، للفنان جيمس مكنيل ويسلر هذا الاتجاه الذي تبلور لاحقًا في الفن التجريدي. إنّ مشهد ويسلر الغامض من الناحية المكانيّة يقترب إلى التجريد، وذلك بمحاولته نقل الشعور أو الانطباع الخاص بالمشهد بدلًا من إعادة إنتاجه بحذافيره.
«الموسيقى الهادئة باللونين الأسود والذهبي - الصاروخ الساقط» (1872-1877) - جيمس أبوت مكنيل ويسلير«الموسيقى الهادئة باللونين الأسود والذهبي – الصاروخ الساقط» (1872-1877) – جيمس أبوت مكنيل ويسلير
في عام 1877، انتقد جون روسكين – أبرز نقّاد بريطانيا في ذلك الوقت – عمل ويسلير هذا نقدًا لاذعًا فشبهه «بمن قام برمي الطلاء في وجه الجمهور». تأثر ويسلر بهذا الكلام، فرفع دعوى قضائية ضد روسكين، بيد أنّه خسرها لأن المسؤولين عرضوا اللوحة -خطأً- مقلوبةً على المحكمة. أفلس ويسلير بسبب هذه القضية، لكن مسيرة تطور الفن التجريدي استمرت.
من ناحيةٍ أخرى، تحديد أول فنان تجريدي في العالم موضوع نزاع. في نظر أبحاث تاريخ الفن التقليدية، كان فاسيلي كاندينسكي – فنان روسي الجنسية رسم لوحات تجريدية بالكامل في مطلع عام 1911- هو أول فنان تجريدي.
لم ينل الفن التجريدي الرائد لهيلما أف كلينت تقديرًا إلا قبل سنوات قريبة. هذه صورة للمعرض الشهير في متحف غاغينهايم، عام 2018 .لم ينل الفن التجريدي الرائد لهيلما أف كلينت تقديرًا إلا قبل سنوات قريبة. هذه صورة للمعرض الشهير في متحف غاغينهايم، عام 2018 .
ولكن في الآونة الأخيرة، وبفضل المعرض الرائد في متحف مقاطعة لوس أنجلوس للفنون في عام 1986 الذي حمل اسم «الروحانية في الفن: الرسم التجريدي 1890 – 1985»، وقع الاختيار على هيلما أف كلينت كأول رسامة تجريدية. بدأت كلينت في رسم لوحات تجريدية بدءًا من عام 1906، وحملت مجموعتها عنوان «الفوضى البدائية». كانت الفنانة متكتمة في ما يتعلق بأعمالها التجريدية، ولم تُعرض أيّ منها في معارض عامة، وبقيت غير معروفة حتى أزيح عنها الستار مؤخرًا.
ولعل الجدال حول هوية أول من مارس الفن التجريدي سيستم، لكن الحقيقة الأكثر أهمية هي أن العديد من الفنانين الأوروبيين البارزين قد توصّلوا في أعمالهم إلى التجريد بحلول الحرب العالمية الأولى. لقد وجد كل منهم طريقته الخاصة في التخلي عن الفن التشخيصي (figurative painting). وجديرٌ بالذكر أنّه لم تكن هناك حركة «تجريدية» دولية ذات رؤية أو بيان مشترك.
في ضوء ذلك، فإن السؤال الملحّ حقًا هو: لمَ لمْ يتبنى الفنانون الغربيون الفن التجريدي على امتداد قرون عديدة؟ لماذا كان التجريد غير ضروري أو لا معنى له أو غير مناسب أو حتى لا يمكن تقبّله لقرونٍ متوالية في الفن الغربي؟
ظهرت العديد من التفسيرات لشرح ذلك. إحدى النظريات الأكثر وضوحًا هي أن ظهور التصوير الفوتوغرافي بوصفه شكلًا من أشكال الفن، إضافةً إلى تطور الفن الحديث، سببان رئيسان لإزاحة الرسم التشخيصي.
ثمّة إجابات أخرى غير ملموسة لاستكشاف الأسباب: ربما عندما أصبحت الأعمال الفنية قابلة للاستهالاك بشكل متزايد، مثل السلع، بات من السهولة فصل اللوحات والمنحوتات عن التجارب المحددة لمبدعيها. ربما أدت الحداثة في الغرب إلى إفراغ الفن من المحتوى التشخيصي؛ مما دفع الفنانين أيضًا إلى التخلي عن التمثيل التشخيصي.
كل من هذه الإجابات معقدة وتتطلب الكثير من الشرح، ولا يمكن إلا أن تكون تخمينات. لا توجد إجابة واضحة لهذه المسألة. ربما يكون من الأفضل طرح السؤال حول سبب تقبّل الفن التجريدي فنًّا من الفنون الرسمية في تاريخ الفن الغربي في مرحلة معينة على علماء الأنثروبولوجيا بدلًا من طرحها على مؤرخي الفن. فما هو واضح أن الفن التجريدي كان موجودًا دائمًا في مناطق أخرى من العالم.
ما جعل الفن التجريدي فنًّا حديثًا على وجه التحديد في العالم الغربي هو نظام المعارض، الذي أعطى القيمة الفنية للأعمال المعروضة. وكما هو واضح فقد ازدهر التجريد لآلاف السنين المناطق الشرقية والجنوبية من العالم، دون عناء التحقق من مكانة الأعمال المعروضة في الصالونات [والمعارض، كما هو في العالم الغربي].
الواقع الافتراضي و«الافتراضية»
يتبنى بيبي كرمل وهو مؤرخ فني، في كتابه « الفن التجريدي: تاريخ عالمي»، فكرة أنّ الفن التجريدي كان دائمًا موجودًا بشكل طبيعي عندما ننظر إليه نظرة شاملة وعالمية، بيد أنّه يتحاشى طرح نظرية عن تطور الفن التجريدي. بالنسبة إلى كرمل، فإنّ هذا الفنّ متجذر في العالم الحقيقي، وهو ليس فنًّا «مجردًا» على الإطلاق، كما أنّه تقليد عالمي وليس محليًا.
في دراسته حول الفن التجريدي يقسم العمل الفني إلى خمس فئات واسعة تنتمي إلى العالم الحقيقي: الأجسام، والمناظر الطبيعية، والكون، والبنى، والعلامات والأنماط. من خلال فحص الفن التجريدي بهذه الطريقة، يرى كرمل في اللوحات التجريدية موضوعات قابلة للتحليل، بعكس النقاد والمؤرخين الأرثوذكسيين الذين رأوا فيها مجرّد توليفات شكلية مكوّنة من لون وشكل.
ربما يكون من الأفضل أن يطلق على الفن التجريدي: فن ما تم تجريده (abstracted art)؛ لأنّ الفنانين التجريديين عادةً ما يستخلصون ويجرّدون تعبيرات التجارب في شكل ولون، أكثر من كونها توليفات مكونة من شكل ولون. ومرّد ذلك الطبيعة الجوهرية للرسم والنحت؛ فهما (الشكل اللّون) وسيطان للتعبير، مثل الشاشة أو المسرح لخيال الفنان. كما هو الحال في المسرح أو السينما، فإنّ جمهور اللوحة أو المنحوتة يعلّق معتقداته من أجل أن يتقبل المشهد.
من المفيد التفكير في اللوحة التشخيصية التقليدية أو النحت على أنها حقيقة افتراضية. إذْ استخدم الفنانون لقرون عديدة الحيل البصرية -مثل المنظور الخطي، والتقصير المسبق، والتظليل- لمحاكاة الطريقة التي ندرك بها الأشياء في الفضاء الحقيقي. إنّ المشاهد تُنشأ في فضاء افتراضي – سواء كانت القاعدة التي تدعم التمثال أو القماش – ليراها المشاهدون بوصفها خدعة بصرية.
«القديس بطرس شفاء أحد الأشخاص وبعث تابيثا من الموت» ماسولينو دي بانيكال. اعتمد الرسم الغربي قبل القرن العشرين على الحيل البصرية لخلق واقع افتراضي. إحدى هذه الحيل هي المنظور الخطي، وهذه اللوحة هي أول مثال لاستخدام نقطة تلاشٍ متسقة.«القديس بطرس شفاء أحد الأشخاص وبعث تابيثا من الموت» ماسولينو دي بانيكال. اعتمد الرسم الغربي قبل القرن العشرين على الحيل البصرية لخلق واقع افتراضي. إحدى هذه الحيل هي المنظور الخطي، وهذه اللوحة هي أول مثال لاستخدام نقطة تلاشٍ متسقة.
يستمتع مشاهدوّ الأعمال الفنية العظيمة معنى ما يُرسم، ويقدرون الطريقة التي يتجلّى فيها الوهم عبر تمازج اللون والشكل.
يبقى الفن التجريدي، إلى حدٍ ما، ضمن إطار التجربة الجمالية. فقد سعت حركات الفن الحديث التي أدت إلى التجريد -أيّ «مدارس الفن»، مثل الانطباعية والفاوفية والتكعيبية- إلى تمثيل العالم بشكل مختلف عن كل الفنون التي سبقتها. إذْ ادعوا الاقتراب من الحقيقة الذاتية عبر تهميش جميع الحيل الوهمية التقليدية التي حاولت إعادة إنتاج الواقع بحذافيره كحقيقة موضوعية.
«الأحمر والأصفر والأزرق» (1925) واسيلي كاندينسكي. كان كاندينسكي يعدّ لفترةٍ طويلة أب الرسم التجريدي الغربي.«الأحمر والأصفر والأزرق» (1925) واسيلي كاندينسكي. كان كاندينسكي يعدّ لفترةٍ طويلة أب الرسم التجريدي الغربي.
بالنسبة إلى هذه المدارس، أصبح الفن أقل من أن يوصف بأنّه واقع افتراضي، لكنه مع ذلك احتفظ بالافتراضية، وأصبح افتراضيًا. لقد أخذ الفن التجريدي مسار التطور هذا إلى أقصاه: من الواقع الافتراضي إلى الافتراضية.
ماذا تعني «الافتراضية» هنا؟ إنّها الوجود كجوهر وتأثير، ولكن بدون اللجوء إلى الواقع. اللوحة التجريدية التي رسمها كاندينسكي، على سبيل المثال، ما زالت تُعدّ علاقة متبادلة بين الشكل واللون، و تعتمد على الرسم كمستوى تخطيطي: إنها نافذة تطلّ على «الواقع» الفردي الذي تصوّره كاندينسكي.
وما تزال العناصر في لوحات كاندينسكي تحظى بعلاقة متبادلة، كما هو الحال في فضاء الواقع الافتراضي للوحة التشخيصية؛ فجوهر الرسم سليم إذ إنّ ذلك الفضاء الافتراضي ما زال موجودًا. عندما يكون الفن التجريدي بناءً خالصًا، ويتخلص من المساحة الافتراضية الملازمة للرسم والنحت، يصبح متميزًا عنهما.
وصف دونالد جود الفنان التخفيفي (minimalist) مثل هذه الأعمال الفنية بأنها «أجسام محدّدة» (Specific Objects). إنّه مصطلح غير دقيق، ولكنه يصلح لإظهار أن مثل هذه الأعمال الفنية ليست رسمًا ولا نحتًا، ولكنها فئة أخرى تمامًا.
رأى دونالد جود أن أعماله وأعمال العديد من معاصريه تشغل مساحة هجينة، لا هي لوحات ولا هي نحت. عمل دون عنوان لدونالد جود.
استخدم جود هذا المصطلح لوصف أعماله الخاصة، ولكنه ينطبق على لوحات كازيمير ماليفيتش وفرانك ستيلا أحادية اللون، والتي تجعل اللوحة تندمج مع نفسها بالكامل، من أجل الوصول للتأثير الذي يأمل العمل في تحقيقه.
في مثل هذه الأعمال، لم يعد قماش اللّوحة (أو القاعدة) سطحًا تتفاعل فيه الأشكال والألوان في الفضاء الافتراضي. بدلاً من ذلك، تتفاعل الأشكال والألوان في الفضاء الحقيقي، في فضائنا.
تختلف معايير النجاح أو الفشل لهذه الأعمال عن الخصائص التقليدية للرسم والنحت. رأى جود أنّ خصائص الرسم والنحت تقف في طريق ما أراد تحقيقه من خلال اللون والشكل. في رأيه، كان لـ «أجسامه المحددة» تأثيرًا أحدّ من غيرها.
الواقع والأشكال الجديدة للإدراك الحسّي
الرسم نفسه له ثلاثة أنواع عامة من التجريد؛ أولًا، ثمّة أسلوب تعبيري تُرسم فيه الأشكال بحركاتٍ غير مقيدة؛ ثم هناك التجريد الهندسي حيث يتم هيكلة الأشكال؛ أما النوع الثالث، فهو تجريد مجال اللون حيث يتم عرض مساحات من الألوان بطريقةٍ لا شكل واضح لها.
لم تكن هذه «الأنماط» (styles) أنماطًا عرضيةً أو تعتمد على ذوق أو ميل الرسام كوسيلة لتحقيق هدفٍ ما من البحث الفني. وخير مثال على ذلك هو الفنان الذي غالبًا ما ينظر إلى عمله على أنّه ذروة التجريد الهندسي: بيت موندريان. إنّ لوحات بيت موندريان المكونة من شبكات (grids) ذات الخطوط السوداء والأجزاء الملونة على خلفية بيضاء؛ تهدف إلى استحضار «حقيقة أعلى».
بالنسبة إلى موندريان، كان الفن في جوهره معارضًا للواقع؛ «لأن الواقع يتعارض مع الروحي». بغض النظر عن هذه اللوحة الأشهر لموندريان، فإنّ جوانب الرسم التي تهم هذا الفنان حقًا لم تكن الجوانب المحددة للموضوع -أيّ ماذا أو ما يتم تصويره في اللوحة مثلًا- بل الجوانب القابلة للفهم عالميًا للشكل والخط واللون. إنّ لوحات موندريان، مثلها مثل لوحات الفنانين الآخرين، هي محاولة لاستخلاص الشكل واللون من أجل الاقتراب من ذلك الجوهر العالمي والروحي للفن.
عبّر موندريان عن رغبته في الوصول إلى «أساس» الأشياء من خلال الحدس، كالعديد من الفنانين التجريديين الآخرين في النصف الأول من القرن العشرين الذين رغبوا في الوصول إلى قوى غير مرئية حولنا، ولكنها معروفة أو محدوسة.
«التكوين الثاني باللون الأحمر والأزرق والأصفر» (1930) - بيت موندريان«التكوين الثاني باللون الأحمر والأزرق والأصفر» (1930) – بيت موندريان
في أواخر القرن التاسع عشر، لاحظ العلماء بشكلٍ أفضل مما سبق القوى غير المرئية مع انتشار التقنيات الجديدة، وأصبح من الواضح أن العالم أرحب مما يبدو للعين. في الوقت نفسه، ظهرت حركات روحية بديلة جمعت بين الأفكار الأفلاطونية والتصوف.
كان كلينت وموندريان من بين العديد من الفنانين الذين انغمسوا في أشكال الروحانية خارج العوالم التقليدية للدين. اعتقدت كلينت أن لوحاتها هي وحي عالم روحي، وأن مهمتها كانت العمل «على مستوى روحاني» لتمثيل روح الإنسان، بدلًا من صورته الفانية.
بحلول عشرينيات القرن الماضي، كانت نظرية فرويد عن للعقل البشري قد تغلغلت أيضًا في عالم الفن. كذلك السريالية، وهي حركة منظمة بإحكام بدأت مع بعض الفنانين الذين سعوا إلى التنقيب عن الإمكانات الإبداعية للعقل الباطن، وهي الحركة الثقافية التي كانت سائدة في أوروبا بين الحربين العالميتين.
لم تكن السريالية دوغمائية في محاولتها لاستكشاف اللاوعي، ولذلك ظهر عدد من الأساليب والطرق لمحاولة إخراج اللاوعي إلى السطح. إحدى هذه الأساليب كان الرسم الآلي (Automatism)، وهي عملية يتخلى فيها الفنان عن السيطرة الواعية لليد التي ترسم أو تصور. في هذا المجال، تبنى الفنانون مثل أندريه ماسون وخوان ميرو الفرصة لبناء صورهم باستخدام حركات حرّة، وحتى إلقاء الطلاء على القماش.
طور أرشيل غوركي -هو مهاجر أرمني عاش في الولايات المتحدة- أسلوبًا في الرسم يدمج بين الرسم الآلي وتجريد مجال الألوان. لوحاته في الأربعينيات حجمُها ضخم – ومرد ذلك تأثره بأعماله السابقة كفنان جداري مُعيّن من الدولة خلال السنوات الأخيرة من الكساد الكبير – لكنها معبّرة وغنائية في الرسم بالفرشاة.
ألهم إدماج غوركي للأنماط جيلًا واسعًا من الفنانين الأمريكيين في فترة ما بعد الحرب لاحتضان التجريد الواسع النطاق. ما نسميه الآن «التعبيرية التجريدية»، وكان ذاك الجيل في الواقع مجموعة فضفاضة من الفنانين الذين يستخدمون أنماطًا متعدّدة من أنماط التجريد.
ربما كان القاسم المشترك بين هؤلاء الفنانين – على الأقل في السنوات الأولى – هو دعم جيل جديد من النقاد بقيادة كليمنت غرينبيرغ، الذي كان يعتقد أن التجريد هو التعبير الأسمى للفن الغربي.
«الكبد هو مشط الديك» (1944) - أرشيل جوركي.«الكبد هو مشط الديك» (1944) – أرشيل جوركي.
الحداثة ومصير الفنّ الغربي
كان يُعتقد في بعض الأوساط الفكرية المؤثرة أنّ الفن يتقدم نحو هدف؛ وهذا المضمون يشتمل عليه مصطلح «الطليعية» (Avant-garde)، الذي يُوصف به الفنّانون الذين يبتكرون أرضية جمالية جديدة. أصل المصطلح فرنسي يُطلق على الجنود الذين يتقدمون إلى مناطق جديدة.
بالنسبة إلى غرينبيرغ، لم يكن هؤلاء الفنّانون يوسّعون حدود إمكانات الفن؛ بل كانوا يتقدمون نحو الهدف الحقيقي والمفرد لكل شكل فني.
يُعدّ غرينبيرغ شخصية مهمة في تاريخ الفن التجريدي، وذلك لأمرين: بوصفه مناصرًا رائدًا في مسألة تفوق الفن التجريدي على غيره من أنواع الرسم، وتأكيده للقوة التي امتلكها هذا الفن. كان ناقدًا في اللجنة الأمريكية للحريّة الثقافية التي تمولها الدولة، وهي مجموعة تم إنشاؤها لتعزيز الفن الأمريكي على المستوى الدولي.
أصبحت أفكار غرينبيرغ مؤثرة عندما كانت الولايات المتحدة جزءًا من الحرب على الفاشية والنازية، وخلال الحرب الباردة اللاحقة ضد الشيوعية السوفيتية. كانت معايير الفن الفاشي والسوفياتي واضحة، وهي ما تحددها السلطات الثقافية أنها كذلك، بيد أنّه ما لم يكن واضحًا هو معايير الفن «الجيد» وتحديدًا في الغرب الديمقراطي.
كان الماركسيون هم من تعاطف مع غرينبيرغ في البداية، لكن ارتبط تفكيره بشكلٍ متزايد بالهيمنة الثقافية الأمريكية. بالنسبة إليه، كان التجريد في أعمال بولوك فنًا مثاليًا لمجتمع ديمقراطي. تتجلى الحداثة في الفن، وفقًا لغرينبيرغ، في إطار التنوير الأوروبي؛ أيّ في فترة ازدهار الأفكار الفلسفية والعلمية التي أعطت الأولوية للعقل.
في مقالته المؤثرة « الرسم الحداثي» (1961)، وصفَ غرينبيرغ إيمانويل كانط – الفيلسوف الألماني في عصر التنوير – بأنّه «أول حداثي حقيقي». كان أسلوب كانط في «النقد» هو استخدام العقل لنقد العقل بغرض توضيحه، ومنحه استقلالية عن أنواع التفكير الأخرى.
«أولمبيا» - إدوارد مانيه (1863). بالنسبة إلى كليمنت غرينبيرغ، كان مانيه أول رسام حداثي. لقد رسم مانيه لوحاته بأسلوبٍ مسطّح بشكلٍ متعمد.«أولمبيا» – إدوارد مانيه (1863). بالنسبة إلى كليمنت غرينبيرغ، كان مانيه أول رسام حداثي. لقد رسم مانيه لوحاته بأسلوبٍ مسطّح بشكلٍ متعمد.
بالطريقة نفسها، كان الرسامون الحداثيون – من إدوارد مانيه في القرن التاسع عشر إلى موريس لويس، وهو رسام يعمل ينتمي إلى رسامي أسلوب مجال ألوان في الولايات المتحدة في الوقت الذي كتب فيه غرينبيرغ مقالته – يعملون على ترسيخ الفن التعبيري «بشكل صارم في مجال تخصصه».
رأى غرينبيرغ أن وضوح الفن التجريدي -الذي كان صادقًا بالنسبة إلى الوسيط الذي يُعبّر من خلاله- معارضٌ لـ«الفن الشعبي المبتذل [الكيتش]» الذي ينُتج على نطاق واسع في الثقافة الشعبية. إن إزالة «الكيتش» كانت مسألة استجلاء وتوضيح تحتاجها جميع الفنون لكي تصبح تعبيرًا عن إمكاناتها الجمالية الكامنة.
اللوحات مسطّحة، وإيهام العمق الذي نجده في معظم الفن الغربي كان انحرافًا عن جوهر فن الرسم ذاته. كانت استقلالية الشكل الفني في جميع خصائصه دون أن تتلوث بأشكال فنية أخرى. وفقًا لغرينبيرغ، يعدّ الشكل واللون من أهم خصائص الرسم، و أفضل تمثيل لها يكون بشكلٍ مسطّح.
وهكذا دافع غرينبيرغ عن «التسطيح» الذي تجلّى في لوحات الفنانين الأمريكيين التجريدية مثل جاكسون بولوك باعتباره تحقيقًا لهذا الوضوح الحداثي. لقد ضم هؤلاء الفنانين معًا ضمن فريق واحد، وهم يمثّلون المرحلة التالية في الحداثة، وقد حلّت رؤيتهم الأمريكية المميزة محلّ الفن الأوروبي الطليعي.
وفي الوقت الذي أصبح فيه الفن التجريدي الأمريكي مهيمنًا، تراجعت هيمنة غرينبيرغ النقدية، وظهرت أشكال جديدة من الفن الطليعي، مستوحاة مباشرة من الثقافة الجماهيرية، وحلّت محلّ التعبيرية التجريدية في المخيال العام. تبنى فنانوّ «البوب» مثل: آندي وارهول، وريتشارد هاميلتون هذا النوع من «الفن الشعبي المبتذل» الذي رآه غرينبيرغ تلويثًا للفن الحقيقي.
استمرت الأعمال الفنية التجريدية، ولكن تخلّى الفنّانون التجريديون الأكثر جرأة عن الفكرة الصارمة «للنقد الحداثي»، وعن الوضوح المتعلق بخصوصية الوسيط الفني، وذلك لصالح أشكال أخرى من التعبير.
نظر فنانوّ «ما بعد الحداثة» إلى السخرية وعملية الرسم نفسها، كطرق لتجاوز الطريق المسدود للحداثة. تبنى الألماني غيرهارد ريختر كلا النهجين؛ فبعض أعماله التجريدية في الستينيات كانت مصنوعة بممسحاتٍ بدلًا من الفرشاة، حتى يتمكن من لفت الانتباه إلى عملية صنع اللوحة نفسها.
كانت «اللوحات التجريدية» البارزة الأخرى التي رسمها ريختر في الواقع صورًا واقعية مرسومة بعناية تعكس لوحاته التجريدية الأخرى. أصبحت طلائعية الرسم التجريدي مفهومية أكثر، ما جعل ضمنيًّا قضية الرسم تحظى باستقلالية أقل مما كان كان يعتقد النقاد الحداثيون.
قلّد فنانوّ «نيو جيو»، مثل: الرسام بيتر هالي، والنحات أشلي بيكرتون اللغة البصرية للتجريد الهندسي، لكنهما دمجاها مع السلع الاستهلاكية بألوانٍ تجارية فاتحة وأحيانًا فلورية.
منذ ذلك الجيل ما بعد الحداثي من الرسامين والنحاتين الممتد من الستينيات إلى التسعينيات، ازدهر التجريد متفرّعًا إلى عددٍ لا يُحصى من الأساليب والمقاربات بجوار الفن التشخيصي. هنا يمكن القول إنّ التجريد المتحرّر من عبء التوقعات الحداثية هو ببساطة نهج للتعبير مثل أيّ نهج آخر.
وتجدر الإشارة إلى أنّ بعض الفنانين التجريديين استخدموا الحيل البصرية المستعملة في الفن التشخيصي – مثل المنظور والتظليل – في لوحاتهم. ولاستخدامهم هذا أهداف فريدة و غالبًا لا تهتم بالنظرية.
قلّد فنانوّ «ما بعد الحداثة» مثل: بيتر هالي اللغة البصرية المستعملة في الفن التجريدي الحديث (في حالة بيتر، التجريد الهندسي)، للتعليق على طبيعة الفن والمعنى نفسه. تمثّل هذه الكتل الملونة «الخلايا» و«الأنابيب».قلّد فنانوّ «ما بعد الحداثة» مثل: بيتر هالي اللغة البصرية المستعملة في الفن التجريدي الحديث (في حالة بيتر، التجريد الهندسي)، للتعليق على طبيعة الفن والمعنى نفسه. تمثّل هذه الكتل الملونة «الخلايا» و«الأنابيب».
هذا هو التحرّر نحو الأفضل بين الرسامين التجريديين الذين يمكنهم الالتزام برؤيةٍ فريدة بالرسم على القماش. لكن فكّ ارتباط الفن التجريدي عن إطاره الفلسفي الأوسع أدى أيضًا إلى انتشارٍ يثير التساؤل لأعمال تجريدية متنوعة قابلة للاستهلاك – بمعنى أنّها فقدت قيمتها، وباتت تُباع وتُشترى سريعًا بأسعارٍ مربحة – يشتريها المشترون المتضاربون.
دفع هذا التحول الناقد جيري سالتز إلى كتابة: « الزومبي على الجدران: لماذا يبدو الكثير من التجريد الجديد متشابهًا؟». وقد شبه اللّوحات التجريدية بصورة «الزومبي»، تحقيرًا لأعمال عددٍ من الرسامين التجريديين البارزين، الذين استخدموا الفنّ وجماليته لتقديم أعمال مبتذلة.
ومن المفارقات أن هؤلاء الفنانين نظروا إلى الشكلانية بوصفها فنًّا حداثيًّا متبنّين منظور غرينبيرغ، لكنهم بالطبع قدّموا أعمالًا في ظلّ فراغ تاريخي وبعد فترةٍ طويلة حين لم يُصبح التجريد مثيرًا للاهتمام أو راديكاليًا بأي وجه من الوجوه.
في الواقع، لم يصل مشروع الحداثة في الفن التجريدي إلى نهايته، بل النقد. إنّ النقد -أيّ الإطار الفلسفي الواسع الذي يصادق على الأعمال الفنية ويثمّنها لأهميتها الثقافية والتاريخية- هو ما فقد التوجه والسلطة.
كان مسار الفن الغربي منذ عصر التنوير يتأرجح بين قطبي الدوغمائية النقدية والإبداع. تكمن المشكلة أنه في العقود الأخيرة، وفي ظلّ غياب أي مشروع نقدي متماسك، انجرف الفن نحو إرضاء اهتمامات دقيقة ومتنوعة تزداد باستمرار.
في حين كانت هناك «حركات» و«مدارس» فنية -مصطلحان يشيران إلى الوجهة والانضباط- لم يعد لدينا الآن سوى «مشاهد».
هذا ليس بالضرورة أمرًا سيئًا. ولكن في عالم حيث «كل شيء مقبول – anything goes»، لا يوجد مجال لهذا النوع من الابتكار والتجاوز الذي أدى إلى ظهور الفن التجريدي في الغرب، وهذا ما جعل الفن الحديث فنًّا مثيرًا للغاية.
من الصعب في هذه اللحظة التاريخية أن ندرك ما الذي جعل لوحة بولوك «رقم 32» مثيرة للانقسام، ومخلخلةً جدًا للمعايير، وفي الوقت نفسه محتفظةً بقيمةٍ عالية جدًا لأولئك الذين يعتقدون أن للفنِّ مكانًا في المجتمع يتجاوز المتعة.
[divider style=”solid” top=”20″ bottom=”20″]
[1] واللقب كذلك يُلمح إلى القاتل المتسلسل في لندن آخر القرن التاسع عشر: جاك السفّاح
Jack the ripper (مدير التحرير).
### خارج عقلك | توم تشاتفيلد – ت: محمد السعيد
عندما يكون هاتفي النقال بين يديّ، هل أكون أنا الشخص نفسه لو كان الهاتف في غرفة أخرى؟ من ناحية،...
### الدراما في التعليم: مقاربات وتطبيقات | نعيم حيماد
افتتاحيّة حظي استخدام الدراما في التعليمفي السنوات الأخيرة باهتمام كبير من قبل نخبة من المنظرين والممارسين للدراما في مجال التعليم....
### الحقائق المخفية | دي بي سي بيير – ت: محمد السعيد
يحمل جبل كلسي خشن في غرب إيران عددًا من النقوش البارزة، من بينها لوحة طولها خمسة وعشرين مترًا منقوشة...
### التغلُّب على كاشف الكذب | كلاريسا سيباغ-مونتِنفيوري – ت: محمد السعيد
حين اتُّهِمَتْ مربية الأطفال البريطانية لويز وودورد بهزِّ رضيع حتى الموت في مدينة نيوتن بولاية ماساتشوستس، لم تكتفِ بإعلان...
### عن منصة معنى
«معنى»، مؤسسة ثقافية تقدّمية ودار نشر تهتم بالفلسفة والمعرفة والفنون، عبر مجموعة متنوعة من المواد المقروءة والمسموعة والمرئية. انطلقت في 20 مارس 2019، بهدف إثراء المحتوى العربي، ورفع ذائقة ووعي المتلقّي المحلي والدولي، عبر الإنتاج الأصيل للمنصة والترجمة ونقل المعارف.
### روابط سريعة
### التصنيفات
### مرحبا بك!
قم بتسجيل الدخول إلى حسابك
تذكرني
### قم بإنشاء حساب جديد!
املأ النموذج أدناه للتسجيل
### طلب إعادة تعيين كلمة المرور
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان البريد الإلكتروني لإعادة تعيين كلمة المرور الخاصة بك.
### Add New Playlist
- Select Visibility -PublicPrivate
No Result
عرض جميع النتائج
-
00:00
00:00
-
00:00
00:00
|
article
|
Arabic
|
ar
|
الفنّ التجريدي: بين الماضي والحاضر - منصة معنى الثقافية
|
https://mana.net/abstract-art/
|
1,920 |
اللوحات مسطّحة، وإيهام العمق الذي نجده في معظم الفن الغربي كان انحرافًا عن جوهر فن الرسم ذاته.
|
sentence
|
اللوحات مسطّحة، وإيهام العمق الذي نجده في معظم الفن الغربي كان انحرافًا عن جوهر فن الرسم ذاته. كانت استقلالية الشكل الفني في جميع خصائصه دون أن تتلوث بأشكال فنية أخرى. وفقًا لغرينبيرغ، يعدّ الشكل واللون من أهم خصائص الرسم، و أفضل تمثيل لها يكون بشكلٍ مسطّح.
|
paragraph
|
Arabic
|
ar
|
الفنّ التجريدي: بين الماضي والحاضر - منصة معنى الثقافية
|
https://mana.net/abstract-art/
|
1,921 |
كانت استقلالية الشكل الفني في جميع خصائصه دون أن تتلوث بأشكال فنية أخرى.
|
sentence
|
اللوحات مسطّحة، وإيهام العمق الذي نجده في معظم الفن الغربي كان انحرافًا عن جوهر فن الرسم ذاته. كانت استقلالية الشكل الفني في جميع خصائصه دون أن تتلوث بأشكال فنية أخرى. وفقًا لغرينبيرغ، يعدّ الشكل واللون من أهم خصائص الرسم، و أفضل تمثيل لها يكون بشكلٍ مسطّح.
|
paragraph
|
Arabic
|
ar
|
الفنّ التجريدي: بين الماضي والحاضر - منصة معنى الثقافية
|
https://mana.net/abstract-art/
|
1,922 |
وفقًا لغرينبيرغ، يعدّ الشكل واللون من أهم خصائص الرسم، و أفضل تمثيل لها يكون بشكلٍ مسطّح.
|
sentence
|
اللوحات مسطّحة، وإيهام العمق الذي نجده في معظم الفن الغربي كان انحرافًا عن جوهر فن الرسم ذاته. كانت استقلالية الشكل الفني في جميع خصائصه دون أن تتلوث بأشكال فنية أخرى. وفقًا لغرينبيرغ، يعدّ الشكل واللون من أهم خصائص الرسم، و أفضل تمثيل لها يكون بشكلٍ مسطّح.
|
paragraph
|
Arabic
|
ar
|
الفنّ التجريدي: بين الماضي والحاضر - منصة معنى الثقافية
|
https://mana.net/abstract-art/
|
1,923 |
وهكذا دافع غرينبيرغ عن «التسطيح» الذي تجلّى في لوحات الفنانين الأمريكيين التجريدية مثل جاكسون بولوك باعتباره تحقيقًا لهذا الوضوح الحداثي. لقد ضم هؤلاء الفنانين معًا ضمن فريق واحد، وهم يمثّلون المرحلة التالية في الحداثة، وقد حلّت رؤيتهم الأمريكية المميزة محلّ الفن الأوروبي الطليعي.
|
paragraph
|
لا توجد منتجات في سلة المشتريات.
No Result
عرض جميع النتائج
الثلاثاء, سبتمبر 10, 2024
No Result
عرض جميع النتائج
No Result
عرض جميع النتائج
# الفنّ التجريدي: بين الماضي والحاضر
## ترجمة: أنطونيوس نادر
AA
AA
إعادة تعيين
فنٌ مليء بالتحديات
ثمّة خطٌ رفيع يفصل بين الفن التجريدي ومجرد الزخرفة، ولوحة «رقم 32» (نُشرت عام 1950)، لجاكسون بولوك تتأرجح بين هذا الخطّ. فهي لا تشير إلى معنىً واضح، ولكن لا يمكن القول إنّها بلا معنى على الإطلاق. كما أنّها ليست معبّرة بشكلٍ مباشر، ولا يعني هذا أنها لا تعبّر عن مدلولٍ ما. تحمل هذه اللوحة الكثير من المضامين عن الفن الغربي بالنسبة إلى شخصٍ خبيرٍ في تاريخ الفن؛ أما بالنسبة إلى شخصٍ عادي، فقد يراها عملًا مبتذلًا بالكاد يعبّر عن أمرٍ ما.
اللوحة شبكة من الخطوط وبقعٍ من الألوان، رُسمت عن طريق صبّ طلاءٍ رخيص بعشوائيةٍ مباشرة على القماش. تتكون اللوحة من طلاءٍ أسود فقط وقماشٍ خام. واللوحة ضخمة؛ إذ يبلغ طولها تسعة أقدام وعرضها خمسة عشر قدمًا، وتغطي مجال رؤية المشاهد أثناء اقترابه منها. تقليديًّا، حتى اللوحات التجريدية تتكون من أجزاءٍ مترابطة مع بؤر تركيز (emphases) وعمقٍ يُنقل من خلال اللون والظلال، ولكن «رقم 32» ليس لها أجزاء؛ إنّها تتكون من تعالقات، والبؤرة فيها تكمن عبر امتداد سطح القماش المستطيل.
يمنحها ما سبق عمقًا سطحيًا، وربما لا عمق فيها: مجرّد طلاء على قماش. إنّها عبث بالشكل واللون. حتى اسمها، ببساطة رقمٌ معيّن – رقم 32 – يجعلها تنأى بنفسها عن أي فكرة مفادها أنها تعكس مدلولًا محدّدًا. تشير عناوين أعمال بولوك الأخرى إلى نوعٍ من الاختبار الشخصي، وإلى الاستخدام السمفوني المتعدد الطبقات للون والملمس؛ خذ مثلًا لوحاته التي تحمل اسم: «إيقاع الخريف»، و«الضباب الأرجواني»، و«الأقطاب الزرقاء»، و«انعكاس الدنقلة الكبير».
هذا لا ينطبق على لوحة «رقم 32»؛ شكلها الخام وبساطتها دليل على أنّ الفنان لم يخطط مسبقًا لرسمها؛ أيّ أنّه لم ينتق الألوان ولا الطبقات. يبدو بولوك هنا أكثر حضورًا، من خلال لمساته الحادة. بالنسبة إلى مؤيديّ عمل بولوك، تختصر هذه اللوحة خلاصة نظرة الفنان الجمالية. أما بالنسبة للبعض الآخر، فهي لوحة مبتذلة.
وصف جوزيف بويس -النحات الألماني في فترة ما بعد الحرب- الفنَّ التجريدي الأمريكي بأنه مجرد «تغليف»، أيّ سطح بلا محتوى. في هذا الصدد، قد يتفق البعض أن لوحة «رقم 32» تجسد فراغ الفكر والشعور ذاك. فقد رأى الروائي والناقد الفني روبرت كوتس أن فن بولوك لم يكن سوى «انفجارات» غير منظمة من الطاقة العشوائية. غير أنّ طائفة كبيرة من متذوقي الفن التجريدي لا تروق إليهم أعمال بولوك ويرونها فنًّا محيرًا، حتى إنّ بعضهم يراها إهانةً للذوق أو الحسّ السليم.
عُرف بولوك بلقب: «جاك فنان النقط» (Jack the Dripper) [1] في الأوساط الإعلامية المشككة بعمله حيث ادعى كثر أن أيّ شخص يمكنه أن يرسم كما يرسم بولوك إلّا أنّ أحدًا لم يتجرأ على فعل ذلك.
«رقم 32» - جاكسون بولوك«رقم 32» – جاكسون بولوك
بيد أنّ هذا هو مغزى الفن التجريدي في التقليد الغربي: إنّه تحدّ. وفي ظل الكثير هذه التحديات، تُعد لوحة « رقم 32» اللوحة الأكثر تمثيلًا لهذا الفن.
قصة الفنّ التجريدي
مسار قصة الفن التجريدي مضمّنة في الدراسات التاريخية الفنية، إلّا أنّ المحطات الرئيسة لهذا المسار كانت محط تغييرات مفاجئة كلما اكتشف مؤرخوّ الفن حقائق جديدة.
انطلق مسار الفن التجريدي بدءًا من القرن التاسع عشر وما تلاه؛ حيث استفاد الفنانون من مادة الطلاء والجوانب الشكلية للرسم مثل اللون والدرجة والخطوط. يُعرف هذا الانشغال بالجوانب غير التمثيلية (non-representative) للفن باسم «الشكلانية»، لأنّه انشغال «بالشكل»، أيّ بتوسل شكل المحتوى بدلًا من المحتوى في ذاته. بالنسبة إلى الفنانين في القرن التاسع عشر، صُنّف الفن التجريدي على أنّه «فنٌّ من أجل الفنّ»، وكانت الفكرة الشائعة مفادها أنّ المتذوق للفن يمكنه الاستمتاع بالعمل دون اللجوء إلى معنى أو حتى أي شيء آخر يمثل أمرًا ما.
تمثّل لوحة «الموسيقى الهادئة باللّونين الأسود والذهبي – الصاروخ الساقط» (1872)، للفنان جيمس مكنيل ويسلر هذا الاتجاه الذي تبلور لاحقًا في الفن التجريدي. إنّ مشهد ويسلر الغامض من الناحية المكانيّة يقترب إلى التجريد، وذلك بمحاولته نقل الشعور أو الانطباع الخاص بالمشهد بدلًا من إعادة إنتاجه بحذافيره.
«الموسيقى الهادئة باللونين الأسود والذهبي - الصاروخ الساقط» (1872-1877) - جيمس أبوت مكنيل ويسلير«الموسيقى الهادئة باللونين الأسود والذهبي – الصاروخ الساقط» (1872-1877) – جيمس أبوت مكنيل ويسلير
في عام 1877، انتقد جون روسكين – أبرز نقّاد بريطانيا في ذلك الوقت – عمل ويسلير هذا نقدًا لاذعًا فشبهه «بمن قام برمي الطلاء في وجه الجمهور». تأثر ويسلر بهذا الكلام، فرفع دعوى قضائية ضد روسكين، بيد أنّه خسرها لأن المسؤولين عرضوا اللوحة -خطأً- مقلوبةً على المحكمة. أفلس ويسلير بسبب هذه القضية، لكن مسيرة تطور الفن التجريدي استمرت.
من ناحيةٍ أخرى، تحديد أول فنان تجريدي في العالم موضوع نزاع. في نظر أبحاث تاريخ الفن التقليدية، كان فاسيلي كاندينسكي – فنان روسي الجنسية رسم لوحات تجريدية بالكامل في مطلع عام 1911- هو أول فنان تجريدي.
لم ينل الفن التجريدي الرائد لهيلما أف كلينت تقديرًا إلا قبل سنوات قريبة. هذه صورة للمعرض الشهير في متحف غاغينهايم، عام 2018 .لم ينل الفن التجريدي الرائد لهيلما أف كلينت تقديرًا إلا قبل سنوات قريبة. هذه صورة للمعرض الشهير في متحف غاغينهايم، عام 2018 .
ولكن في الآونة الأخيرة، وبفضل المعرض الرائد في متحف مقاطعة لوس أنجلوس للفنون في عام 1986 الذي حمل اسم «الروحانية في الفن: الرسم التجريدي 1890 – 1985»، وقع الاختيار على هيلما أف كلينت كأول رسامة تجريدية. بدأت كلينت في رسم لوحات تجريدية بدءًا من عام 1906، وحملت مجموعتها عنوان «الفوضى البدائية». كانت الفنانة متكتمة في ما يتعلق بأعمالها التجريدية، ولم تُعرض أيّ منها في معارض عامة، وبقيت غير معروفة حتى أزيح عنها الستار مؤخرًا.
ولعل الجدال حول هوية أول من مارس الفن التجريدي سيستم، لكن الحقيقة الأكثر أهمية هي أن العديد من الفنانين الأوروبيين البارزين قد توصّلوا في أعمالهم إلى التجريد بحلول الحرب العالمية الأولى. لقد وجد كل منهم طريقته الخاصة في التخلي عن الفن التشخيصي (figurative painting). وجديرٌ بالذكر أنّه لم تكن هناك حركة «تجريدية» دولية ذات رؤية أو بيان مشترك.
في ضوء ذلك، فإن السؤال الملحّ حقًا هو: لمَ لمْ يتبنى الفنانون الغربيون الفن التجريدي على امتداد قرون عديدة؟ لماذا كان التجريد غير ضروري أو لا معنى له أو غير مناسب أو حتى لا يمكن تقبّله لقرونٍ متوالية في الفن الغربي؟
ظهرت العديد من التفسيرات لشرح ذلك. إحدى النظريات الأكثر وضوحًا هي أن ظهور التصوير الفوتوغرافي بوصفه شكلًا من أشكال الفن، إضافةً إلى تطور الفن الحديث، سببان رئيسان لإزاحة الرسم التشخيصي.
ثمّة إجابات أخرى غير ملموسة لاستكشاف الأسباب: ربما عندما أصبحت الأعمال الفنية قابلة للاستهالاك بشكل متزايد، مثل السلع، بات من السهولة فصل اللوحات والمنحوتات عن التجارب المحددة لمبدعيها. ربما أدت الحداثة في الغرب إلى إفراغ الفن من المحتوى التشخيصي؛ مما دفع الفنانين أيضًا إلى التخلي عن التمثيل التشخيصي.
كل من هذه الإجابات معقدة وتتطلب الكثير من الشرح، ولا يمكن إلا أن تكون تخمينات. لا توجد إجابة واضحة لهذه المسألة. ربما يكون من الأفضل طرح السؤال حول سبب تقبّل الفن التجريدي فنًّا من الفنون الرسمية في تاريخ الفن الغربي في مرحلة معينة على علماء الأنثروبولوجيا بدلًا من طرحها على مؤرخي الفن. فما هو واضح أن الفن التجريدي كان موجودًا دائمًا في مناطق أخرى من العالم.
ما جعل الفن التجريدي فنًّا حديثًا على وجه التحديد في العالم الغربي هو نظام المعارض، الذي أعطى القيمة الفنية للأعمال المعروضة. وكما هو واضح فقد ازدهر التجريد لآلاف السنين المناطق الشرقية والجنوبية من العالم، دون عناء التحقق من مكانة الأعمال المعروضة في الصالونات [والمعارض، كما هو في العالم الغربي].
الواقع الافتراضي و«الافتراضية»
يتبنى بيبي كرمل وهو مؤرخ فني، في كتابه « الفن التجريدي: تاريخ عالمي»، فكرة أنّ الفن التجريدي كان دائمًا موجودًا بشكل طبيعي عندما ننظر إليه نظرة شاملة وعالمية، بيد أنّه يتحاشى طرح نظرية عن تطور الفن التجريدي. بالنسبة إلى كرمل، فإنّ هذا الفنّ متجذر في العالم الحقيقي، وهو ليس فنًّا «مجردًا» على الإطلاق، كما أنّه تقليد عالمي وليس محليًا.
في دراسته حول الفن التجريدي يقسم العمل الفني إلى خمس فئات واسعة تنتمي إلى العالم الحقيقي: الأجسام، والمناظر الطبيعية، والكون، والبنى، والعلامات والأنماط. من خلال فحص الفن التجريدي بهذه الطريقة، يرى كرمل في اللوحات التجريدية موضوعات قابلة للتحليل، بعكس النقاد والمؤرخين الأرثوذكسيين الذين رأوا فيها مجرّد توليفات شكلية مكوّنة من لون وشكل.
ربما يكون من الأفضل أن يطلق على الفن التجريدي: فن ما تم تجريده (abstracted art)؛ لأنّ الفنانين التجريديين عادةً ما يستخلصون ويجرّدون تعبيرات التجارب في شكل ولون، أكثر من كونها توليفات مكونة من شكل ولون. ومرّد ذلك الطبيعة الجوهرية للرسم والنحت؛ فهما (الشكل اللّون) وسيطان للتعبير، مثل الشاشة أو المسرح لخيال الفنان. كما هو الحال في المسرح أو السينما، فإنّ جمهور اللوحة أو المنحوتة يعلّق معتقداته من أجل أن يتقبل المشهد.
من المفيد التفكير في اللوحة التشخيصية التقليدية أو النحت على أنها حقيقة افتراضية. إذْ استخدم الفنانون لقرون عديدة الحيل البصرية -مثل المنظور الخطي، والتقصير المسبق، والتظليل- لمحاكاة الطريقة التي ندرك بها الأشياء في الفضاء الحقيقي. إنّ المشاهد تُنشأ في فضاء افتراضي – سواء كانت القاعدة التي تدعم التمثال أو القماش – ليراها المشاهدون بوصفها خدعة بصرية.
«القديس بطرس شفاء أحد الأشخاص وبعث تابيثا من الموت» ماسولينو دي بانيكال. اعتمد الرسم الغربي قبل القرن العشرين على الحيل البصرية لخلق واقع افتراضي. إحدى هذه الحيل هي المنظور الخطي، وهذه اللوحة هي أول مثال لاستخدام نقطة تلاشٍ متسقة.«القديس بطرس شفاء أحد الأشخاص وبعث تابيثا من الموت» ماسولينو دي بانيكال. اعتمد الرسم الغربي قبل القرن العشرين على الحيل البصرية لخلق واقع افتراضي. إحدى هذه الحيل هي المنظور الخطي، وهذه اللوحة هي أول مثال لاستخدام نقطة تلاشٍ متسقة.
يستمتع مشاهدوّ الأعمال الفنية العظيمة معنى ما يُرسم، ويقدرون الطريقة التي يتجلّى فيها الوهم عبر تمازج اللون والشكل.
يبقى الفن التجريدي، إلى حدٍ ما، ضمن إطار التجربة الجمالية. فقد سعت حركات الفن الحديث التي أدت إلى التجريد -أيّ «مدارس الفن»، مثل الانطباعية والفاوفية والتكعيبية- إلى تمثيل العالم بشكل مختلف عن كل الفنون التي سبقتها. إذْ ادعوا الاقتراب من الحقيقة الذاتية عبر تهميش جميع الحيل الوهمية التقليدية التي حاولت إعادة إنتاج الواقع بحذافيره كحقيقة موضوعية.
«الأحمر والأصفر والأزرق» (1925) واسيلي كاندينسكي. كان كاندينسكي يعدّ لفترةٍ طويلة أب الرسم التجريدي الغربي.«الأحمر والأصفر والأزرق» (1925) واسيلي كاندينسكي. كان كاندينسكي يعدّ لفترةٍ طويلة أب الرسم التجريدي الغربي.
بالنسبة إلى هذه المدارس، أصبح الفن أقل من أن يوصف بأنّه واقع افتراضي، لكنه مع ذلك احتفظ بالافتراضية، وأصبح افتراضيًا. لقد أخذ الفن التجريدي مسار التطور هذا إلى أقصاه: من الواقع الافتراضي إلى الافتراضية.
ماذا تعني «الافتراضية» هنا؟ إنّها الوجود كجوهر وتأثير، ولكن بدون اللجوء إلى الواقع. اللوحة التجريدية التي رسمها كاندينسكي، على سبيل المثال، ما زالت تُعدّ علاقة متبادلة بين الشكل واللون، و تعتمد على الرسم كمستوى تخطيطي: إنها نافذة تطلّ على «الواقع» الفردي الذي تصوّره كاندينسكي.
وما تزال العناصر في لوحات كاندينسكي تحظى بعلاقة متبادلة، كما هو الحال في فضاء الواقع الافتراضي للوحة التشخيصية؛ فجوهر الرسم سليم إذ إنّ ذلك الفضاء الافتراضي ما زال موجودًا. عندما يكون الفن التجريدي بناءً خالصًا، ويتخلص من المساحة الافتراضية الملازمة للرسم والنحت، يصبح متميزًا عنهما.
وصف دونالد جود الفنان التخفيفي (minimalist) مثل هذه الأعمال الفنية بأنها «أجسام محدّدة» (Specific Objects). إنّه مصطلح غير دقيق، ولكنه يصلح لإظهار أن مثل هذه الأعمال الفنية ليست رسمًا ولا نحتًا، ولكنها فئة أخرى تمامًا.
رأى دونالد جود أن أعماله وأعمال العديد من معاصريه تشغل مساحة هجينة، لا هي لوحات ولا هي نحت. عمل دون عنوان لدونالد جود.
استخدم جود هذا المصطلح لوصف أعماله الخاصة، ولكنه ينطبق على لوحات كازيمير ماليفيتش وفرانك ستيلا أحادية اللون، والتي تجعل اللوحة تندمج مع نفسها بالكامل، من أجل الوصول للتأثير الذي يأمل العمل في تحقيقه.
في مثل هذه الأعمال، لم يعد قماش اللّوحة (أو القاعدة) سطحًا تتفاعل فيه الأشكال والألوان في الفضاء الافتراضي. بدلاً من ذلك، تتفاعل الأشكال والألوان في الفضاء الحقيقي، في فضائنا.
تختلف معايير النجاح أو الفشل لهذه الأعمال عن الخصائص التقليدية للرسم والنحت. رأى جود أنّ خصائص الرسم والنحت تقف في طريق ما أراد تحقيقه من خلال اللون والشكل. في رأيه، كان لـ «أجسامه المحددة» تأثيرًا أحدّ من غيرها.
الواقع والأشكال الجديدة للإدراك الحسّي
الرسم نفسه له ثلاثة أنواع عامة من التجريد؛ أولًا، ثمّة أسلوب تعبيري تُرسم فيه الأشكال بحركاتٍ غير مقيدة؛ ثم هناك التجريد الهندسي حيث يتم هيكلة الأشكال؛ أما النوع الثالث، فهو تجريد مجال اللون حيث يتم عرض مساحات من الألوان بطريقةٍ لا شكل واضح لها.
لم تكن هذه «الأنماط» (styles) أنماطًا عرضيةً أو تعتمد على ذوق أو ميل الرسام كوسيلة لتحقيق هدفٍ ما من البحث الفني. وخير مثال على ذلك هو الفنان الذي غالبًا ما ينظر إلى عمله على أنّه ذروة التجريد الهندسي: بيت موندريان. إنّ لوحات بيت موندريان المكونة من شبكات (grids) ذات الخطوط السوداء والأجزاء الملونة على خلفية بيضاء؛ تهدف إلى استحضار «حقيقة أعلى».
بالنسبة إلى موندريان، كان الفن في جوهره معارضًا للواقع؛ «لأن الواقع يتعارض مع الروحي». بغض النظر عن هذه اللوحة الأشهر لموندريان، فإنّ جوانب الرسم التي تهم هذا الفنان حقًا لم تكن الجوانب المحددة للموضوع -أيّ ماذا أو ما يتم تصويره في اللوحة مثلًا- بل الجوانب القابلة للفهم عالميًا للشكل والخط واللون. إنّ لوحات موندريان، مثلها مثل لوحات الفنانين الآخرين، هي محاولة لاستخلاص الشكل واللون من أجل الاقتراب من ذلك الجوهر العالمي والروحي للفن.
عبّر موندريان عن رغبته في الوصول إلى «أساس» الأشياء من خلال الحدس، كالعديد من الفنانين التجريديين الآخرين في النصف الأول من القرن العشرين الذين رغبوا في الوصول إلى قوى غير مرئية حولنا، ولكنها معروفة أو محدوسة.
«التكوين الثاني باللون الأحمر والأزرق والأصفر» (1930) - بيت موندريان«التكوين الثاني باللون الأحمر والأزرق والأصفر» (1930) – بيت موندريان
في أواخر القرن التاسع عشر، لاحظ العلماء بشكلٍ أفضل مما سبق القوى غير المرئية مع انتشار التقنيات الجديدة، وأصبح من الواضح أن العالم أرحب مما يبدو للعين. في الوقت نفسه، ظهرت حركات روحية بديلة جمعت بين الأفكار الأفلاطونية والتصوف.
كان كلينت وموندريان من بين العديد من الفنانين الذين انغمسوا في أشكال الروحانية خارج العوالم التقليدية للدين. اعتقدت كلينت أن لوحاتها هي وحي عالم روحي، وأن مهمتها كانت العمل «على مستوى روحاني» لتمثيل روح الإنسان، بدلًا من صورته الفانية.
بحلول عشرينيات القرن الماضي، كانت نظرية فرويد عن للعقل البشري قد تغلغلت أيضًا في عالم الفن. كذلك السريالية، وهي حركة منظمة بإحكام بدأت مع بعض الفنانين الذين سعوا إلى التنقيب عن الإمكانات الإبداعية للعقل الباطن، وهي الحركة الثقافية التي كانت سائدة في أوروبا بين الحربين العالميتين.
لم تكن السريالية دوغمائية في محاولتها لاستكشاف اللاوعي، ولذلك ظهر عدد من الأساليب والطرق لمحاولة إخراج اللاوعي إلى السطح. إحدى هذه الأساليب كان الرسم الآلي (Automatism)، وهي عملية يتخلى فيها الفنان عن السيطرة الواعية لليد التي ترسم أو تصور. في هذا المجال، تبنى الفنانون مثل أندريه ماسون وخوان ميرو الفرصة لبناء صورهم باستخدام حركات حرّة، وحتى إلقاء الطلاء على القماش.
طور أرشيل غوركي -هو مهاجر أرمني عاش في الولايات المتحدة- أسلوبًا في الرسم يدمج بين الرسم الآلي وتجريد مجال الألوان. لوحاته في الأربعينيات حجمُها ضخم – ومرد ذلك تأثره بأعماله السابقة كفنان جداري مُعيّن من الدولة خلال السنوات الأخيرة من الكساد الكبير – لكنها معبّرة وغنائية في الرسم بالفرشاة.
ألهم إدماج غوركي للأنماط جيلًا واسعًا من الفنانين الأمريكيين في فترة ما بعد الحرب لاحتضان التجريد الواسع النطاق. ما نسميه الآن «التعبيرية التجريدية»، وكان ذاك الجيل في الواقع مجموعة فضفاضة من الفنانين الذين يستخدمون أنماطًا متعدّدة من أنماط التجريد.
ربما كان القاسم المشترك بين هؤلاء الفنانين – على الأقل في السنوات الأولى – هو دعم جيل جديد من النقاد بقيادة كليمنت غرينبيرغ، الذي كان يعتقد أن التجريد هو التعبير الأسمى للفن الغربي.
«الكبد هو مشط الديك» (1944) - أرشيل جوركي.«الكبد هو مشط الديك» (1944) – أرشيل جوركي.
الحداثة ومصير الفنّ الغربي
كان يُعتقد في بعض الأوساط الفكرية المؤثرة أنّ الفن يتقدم نحو هدف؛ وهذا المضمون يشتمل عليه مصطلح «الطليعية» (Avant-garde)، الذي يُوصف به الفنّانون الذين يبتكرون أرضية جمالية جديدة. أصل المصطلح فرنسي يُطلق على الجنود الذين يتقدمون إلى مناطق جديدة.
بالنسبة إلى غرينبيرغ، لم يكن هؤلاء الفنّانون يوسّعون حدود إمكانات الفن؛ بل كانوا يتقدمون نحو الهدف الحقيقي والمفرد لكل شكل فني.
يُعدّ غرينبيرغ شخصية مهمة في تاريخ الفن التجريدي، وذلك لأمرين: بوصفه مناصرًا رائدًا في مسألة تفوق الفن التجريدي على غيره من أنواع الرسم، وتأكيده للقوة التي امتلكها هذا الفن. كان ناقدًا في اللجنة الأمريكية للحريّة الثقافية التي تمولها الدولة، وهي مجموعة تم إنشاؤها لتعزيز الفن الأمريكي على المستوى الدولي.
أصبحت أفكار غرينبيرغ مؤثرة عندما كانت الولايات المتحدة جزءًا من الحرب على الفاشية والنازية، وخلال الحرب الباردة اللاحقة ضد الشيوعية السوفيتية. كانت معايير الفن الفاشي والسوفياتي واضحة، وهي ما تحددها السلطات الثقافية أنها كذلك، بيد أنّه ما لم يكن واضحًا هو معايير الفن «الجيد» وتحديدًا في الغرب الديمقراطي.
كان الماركسيون هم من تعاطف مع غرينبيرغ في البداية، لكن ارتبط تفكيره بشكلٍ متزايد بالهيمنة الثقافية الأمريكية. بالنسبة إليه، كان التجريد في أعمال بولوك فنًا مثاليًا لمجتمع ديمقراطي. تتجلى الحداثة في الفن، وفقًا لغرينبيرغ، في إطار التنوير الأوروبي؛ أيّ في فترة ازدهار الأفكار الفلسفية والعلمية التي أعطت الأولوية للعقل.
في مقالته المؤثرة « الرسم الحداثي» (1961)، وصفَ غرينبيرغ إيمانويل كانط – الفيلسوف الألماني في عصر التنوير – بأنّه «أول حداثي حقيقي». كان أسلوب كانط في «النقد» هو استخدام العقل لنقد العقل بغرض توضيحه، ومنحه استقلالية عن أنواع التفكير الأخرى.
«أولمبيا» - إدوارد مانيه (1863). بالنسبة إلى كليمنت غرينبيرغ، كان مانيه أول رسام حداثي. لقد رسم مانيه لوحاته بأسلوبٍ مسطّح بشكلٍ متعمد.«أولمبيا» – إدوارد مانيه (1863). بالنسبة إلى كليمنت غرينبيرغ، كان مانيه أول رسام حداثي. لقد رسم مانيه لوحاته بأسلوبٍ مسطّح بشكلٍ متعمد.
بالطريقة نفسها، كان الرسامون الحداثيون – من إدوارد مانيه في القرن التاسع عشر إلى موريس لويس، وهو رسام يعمل ينتمي إلى رسامي أسلوب مجال ألوان في الولايات المتحدة في الوقت الذي كتب فيه غرينبيرغ مقالته – يعملون على ترسيخ الفن التعبيري «بشكل صارم في مجال تخصصه».
رأى غرينبيرغ أن وضوح الفن التجريدي -الذي كان صادقًا بالنسبة إلى الوسيط الذي يُعبّر من خلاله- معارضٌ لـ«الفن الشعبي المبتذل [الكيتش]» الذي ينُتج على نطاق واسع في الثقافة الشعبية. إن إزالة «الكيتش» كانت مسألة استجلاء وتوضيح تحتاجها جميع الفنون لكي تصبح تعبيرًا عن إمكاناتها الجمالية الكامنة.
اللوحات مسطّحة، وإيهام العمق الذي نجده في معظم الفن الغربي كان انحرافًا عن جوهر فن الرسم ذاته. كانت استقلالية الشكل الفني في جميع خصائصه دون أن تتلوث بأشكال فنية أخرى. وفقًا لغرينبيرغ، يعدّ الشكل واللون من أهم خصائص الرسم، و أفضل تمثيل لها يكون بشكلٍ مسطّح.
وهكذا دافع غرينبيرغ عن «التسطيح» الذي تجلّى في لوحات الفنانين الأمريكيين التجريدية مثل جاكسون بولوك باعتباره تحقيقًا لهذا الوضوح الحداثي. لقد ضم هؤلاء الفنانين معًا ضمن فريق واحد، وهم يمثّلون المرحلة التالية في الحداثة، وقد حلّت رؤيتهم الأمريكية المميزة محلّ الفن الأوروبي الطليعي.
وفي الوقت الذي أصبح فيه الفن التجريدي الأمريكي مهيمنًا، تراجعت هيمنة غرينبيرغ النقدية، وظهرت أشكال جديدة من الفن الطليعي، مستوحاة مباشرة من الثقافة الجماهيرية، وحلّت محلّ التعبيرية التجريدية في المخيال العام. تبنى فنانوّ «البوب» مثل: آندي وارهول، وريتشارد هاميلتون هذا النوع من «الفن الشعبي المبتذل» الذي رآه غرينبيرغ تلويثًا للفن الحقيقي.
استمرت الأعمال الفنية التجريدية، ولكن تخلّى الفنّانون التجريديون الأكثر جرأة عن الفكرة الصارمة «للنقد الحداثي»، وعن الوضوح المتعلق بخصوصية الوسيط الفني، وذلك لصالح أشكال أخرى من التعبير.
نظر فنانوّ «ما بعد الحداثة» إلى السخرية وعملية الرسم نفسها، كطرق لتجاوز الطريق المسدود للحداثة. تبنى الألماني غيرهارد ريختر كلا النهجين؛ فبعض أعماله التجريدية في الستينيات كانت مصنوعة بممسحاتٍ بدلًا من الفرشاة، حتى يتمكن من لفت الانتباه إلى عملية صنع اللوحة نفسها.
كانت «اللوحات التجريدية» البارزة الأخرى التي رسمها ريختر في الواقع صورًا واقعية مرسومة بعناية تعكس لوحاته التجريدية الأخرى. أصبحت طلائعية الرسم التجريدي مفهومية أكثر، ما جعل ضمنيًّا قضية الرسم تحظى باستقلالية أقل مما كان كان يعتقد النقاد الحداثيون.
قلّد فنانوّ «نيو جيو»، مثل: الرسام بيتر هالي، والنحات أشلي بيكرتون اللغة البصرية للتجريد الهندسي، لكنهما دمجاها مع السلع الاستهلاكية بألوانٍ تجارية فاتحة وأحيانًا فلورية.
منذ ذلك الجيل ما بعد الحداثي من الرسامين والنحاتين الممتد من الستينيات إلى التسعينيات، ازدهر التجريد متفرّعًا إلى عددٍ لا يُحصى من الأساليب والمقاربات بجوار الفن التشخيصي. هنا يمكن القول إنّ التجريد المتحرّر من عبء التوقعات الحداثية هو ببساطة نهج للتعبير مثل أيّ نهج آخر.
وتجدر الإشارة إلى أنّ بعض الفنانين التجريديين استخدموا الحيل البصرية المستعملة في الفن التشخيصي – مثل المنظور والتظليل – في لوحاتهم. ولاستخدامهم هذا أهداف فريدة و غالبًا لا تهتم بالنظرية.
قلّد فنانوّ «ما بعد الحداثة» مثل: بيتر هالي اللغة البصرية المستعملة في الفن التجريدي الحديث (في حالة بيتر، التجريد الهندسي)، للتعليق على طبيعة الفن والمعنى نفسه. تمثّل هذه الكتل الملونة «الخلايا» و«الأنابيب».قلّد فنانوّ «ما بعد الحداثة» مثل: بيتر هالي اللغة البصرية المستعملة في الفن التجريدي الحديث (في حالة بيتر، التجريد الهندسي)، للتعليق على طبيعة الفن والمعنى نفسه. تمثّل هذه الكتل الملونة «الخلايا» و«الأنابيب».
هذا هو التحرّر نحو الأفضل بين الرسامين التجريديين الذين يمكنهم الالتزام برؤيةٍ فريدة بالرسم على القماش. لكن فكّ ارتباط الفن التجريدي عن إطاره الفلسفي الأوسع أدى أيضًا إلى انتشارٍ يثير التساؤل لأعمال تجريدية متنوعة قابلة للاستهلاك – بمعنى أنّها فقدت قيمتها، وباتت تُباع وتُشترى سريعًا بأسعارٍ مربحة – يشتريها المشترون المتضاربون.
دفع هذا التحول الناقد جيري سالتز إلى كتابة: « الزومبي على الجدران: لماذا يبدو الكثير من التجريد الجديد متشابهًا؟». وقد شبه اللّوحات التجريدية بصورة «الزومبي»، تحقيرًا لأعمال عددٍ من الرسامين التجريديين البارزين، الذين استخدموا الفنّ وجماليته لتقديم أعمال مبتذلة.
ومن المفارقات أن هؤلاء الفنانين نظروا إلى الشكلانية بوصفها فنًّا حداثيًّا متبنّين منظور غرينبيرغ، لكنهم بالطبع قدّموا أعمالًا في ظلّ فراغ تاريخي وبعد فترةٍ طويلة حين لم يُصبح التجريد مثيرًا للاهتمام أو راديكاليًا بأي وجه من الوجوه.
في الواقع، لم يصل مشروع الحداثة في الفن التجريدي إلى نهايته، بل النقد. إنّ النقد -أيّ الإطار الفلسفي الواسع الذي يصادق على الأعمال الفنية ويثمّنها لأهميتها الثقافية والتاريخية- هو ما فقد التوجه والسلطة.
كان مسار الفن الغربي منذ عصر التنوير يتأرجح بين قطبي الدوغمائية النقدية والإبداع. تكمن المشكلة أنه في العقود الأخيرة، وفي ظلّ غياب أي مشروع نقدي متماسك، انجرف الفن نحو إرضاء اهتمامات دقيقة ومتنوعة تزداد باستمرار.
في حين كانت هناك «حركات» و«مدارس» فنية -مصطلحان يشيران إلى الوجهة والانضباط- لم يعد لدينا الآن سوى «مشاهد».
هذا ليس بالضرورة أمرًا سيئًا. ولكن في عالم حيث «كل شيء مقبول – anything goes»، لا يوجد مجال لهذا النوع من الابتكار والتجاوز الذي أدى إلى ظهور الفن التجريدي في الغرب، وهذا ما جعل الفن الحديث فنًّا مثيرًا للغاية.
من الصعب في هذه اللحظة التاريخية أن ندرك ما الذي جعل لوحة بولوك «رقم 32» مثيرة للانقسام، ومخلخلةً جدًا للمعايير، وفي الوقت نفسه محتفظةً بقيمةٍ عالية جدًا لأولئك الذين يعتقدون أن للفنِّ مكانًا في المجتمع يتجاوز المتعة.
[divider style=”solid” top=”20″ bottom=”20″]
[1] واللقب كذلك يُلمح إلى القاتل المتسلسل في لندن آخر القرن التاسع عشر: جاك السفّاح
Jack the ripper (مدير التحرير).
### خارج عقلك | توم تشاتفيلد – ت: محمد السعيد
عندما يكون هاتفي النقال بين يديّ، هل أكون أنا الشخص نفسه لو كان الهاتف في غرفة أخرى؟ من ناحية،...
### الدراما في التعليم: مقاربات وتطبيقات | نعيم حيماد
افتتاحيّة حظي استخدام الدراما في التعليمفي السنوات الأخيرة باهتمام كبير من قبل نخبة من المنظرين والممارسين للدراما في مجال التعليم....
### الحقائق المخفية | دي بي سي بيير – ت: محمد السعيد
يحمل جبل كلسي خشن في غرب إيران عددًا من النقوش البارزة، من بينها لوحة طولها خمسة وعشرين مترًا منقوشة...
### التغلُّب على كاشف الكذب | كلاريسا سيباغ-مونتِنفيوري – ت: محمد السعيد
حين اتُّهِمَتْ مربية الأطفال البريطانية لويز وودورد بهزِّ رضيع حتى الموت في مدينة نيوتن بولاية ماساتشوستس، لم تكتفِ بإعلان...
### عن منصة معنى
«معنى»، مؤسسة ثقافية تقدّمية ودار نشر تهتم بالفلسفة والمعرفة والفنون، عبر مجموعة متنوعة من المواد المقروءة والمسموعة والمرئية. انطلقت في 20 مارس 2019، بهدف إثراء المحتوى العربي، ورفع ذائقة ووعي المتلقّي المحلي والدولي، عبر الإنتاج الأصيل للمنصة والترجمة ونقل المعارف.
### روابط سريعة
### التصنيفات
### مرحبا بك!
قم بتسجيل الدخول إلى حسابك
تذكرني
### قم بإنشاء حساب جديد!
املأ النموذج أدناه للتسجيل
### طلب إعادة تعيين كلمة المرور
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان البريد الإلكتروني لإعادة تعيين كلمة المرور الخاصة بك.
### Add New Playlist
- Select Visibility -PublicPrivate
No Result
عرض جميع النتائج
-
00:00
00:00
-
00:00
00:00
|
article
|
Arabic
|
ar
|
الفنّ التجريدي: بين الماضي والحاضر - منصة معنى الثقافية
|
https://mana.net/abstract-art/
|
1,924 |
وهكذا دافع غرينبيرغ عن «التسطيح» الذي تجلّى في لوحات الفنانين الأمريكيين التجريدية مثل جاكسون بولوك باعتباره تحقيقًا لهذا الوضوح الحداثي.
|
sentence
|
وهكذا دافع غرينبيرغ عن «التسطيح» الذي تجلّى في لوحات الفنانين الأمريكيين التجريدية مثل جاكسون بولوك باعتباره تحقيقًا لهذا الوضوح الحداثي. لقد ضم هؤلاء الفنانين معًا ضمن فريق واحد، وهم يمثّلون المرحلة التالية في الحداثة، وقد حلّت رؤيتهم الأمريكية المميزة محلّ الفن الأوروبي الطليعي.
|
paragraph
|
Arabic
|
ar
|
الفنّ التجريدي: بين الماضي والحاضر - منصة معنى الثقافية
|
https://mana.net/abstract-art/
|
1,925 |
لقد ضم هؤلاء الفنانين معًا ضمن فريق واحد، وهم يمثّلون المرحلة التالية في الحداثة، وقد حلّت رؤيتهم الأمريكية المميزة محلّ الفن الأوروبي الطليعي.
|
sentence
|
وهكذا دافع غرينبيرغ عن «التسطيح» الذي تجلّى في لوحات الفنانين الأمريكيين التجريدية مثل جاكسون بولوك باعتباره تحقيقًا لهذا الوضوح الحداثي. لقد ضم هؤلاء الفنانين معًا ضمن فريق واحد، وهم يمثّلون المرحلة التالية في الحداثة، وقد حلّت رؤيتهم الأمريكية المميزة محلّ الفن الأوروبي الطليعي.
|
paragraph
|
Arabic
|
ar
|
الفنّ التجريدي: بين الماضي والحاضر - منصة معنى الثقافية
|
https://mana.net/abstract-art/
|
1,926 |
وفي الوقت الذي أصبح فيه الفن التجريدي الأمريكي مهيمنًا، تراجعت هيمنة غرينبيرغ النقدية، وظهرت أشكال جديدة من الفن الطليعي، مستوحاة مباشرة من الثقافة الجماهيرية، وحلّت محلّ التعبيرية التجريدية في المخيال العام. تبنى فنانوّ «البوب» مثل: آندي وارهول، وريتشارد هاميلتون هذا النوع من «الفن الشعبي المبتذل» الذي رآه غرينبيرغ تلويثًا للفن الحقيقي.
|
paragraph
|
لا توجد منتجات في سلة المشتريات.
No Result
عرض جميع النتائج
الثلاثاء, سبتمبر 10, 2024
No Result
عرض جميع النتائج
No Result
عرض جميع النتائج
# الفنّ التجريدي: بين الماضي والحاضر
## ترجمة: أنطونيوس نادر
AA
AA
إعادة تعيين
فنٌ مليء بالتحديات
ثمّة خطٌ رفيع يفصل بين الفن التجريدي ومجرد الزخرفة، ولوحة «رقم 32» (نُشرت عام 1950)، لجاكسون بولوك تتأرجح بين هذا الخطّ. فهي لا تشير إلى معنىً واضح، ولكن لا يمكن القول إنّها بلا معنى على الإطلاق. كما أنّها ليست معبّرة بشكلٍ مباشر، ولا يعني هذا أنها لا تعبّر عن مدلولٍ ما. تحمل هذه اللوحة الكثير من المضامين عن الفن الغربي بالنسبة إلى شخصٍ خبيرٍ في تاريخ الفن؛ أما بالنسبة إلى شخصٍ عادي، فقد يراها عملًا مبتذلًا بالكاد يعبّر عن أمرٍ ما.
اللوحة شبكة من الخطوط وبقعٍ من الألوان، رُسمت عن طريق صبّ طلاءٍ رخيص بعشوائيةٍ مباشرة على القماش. تتكون اللوحة من طلاءٍ أسود فقط وقماشٍ خام. واللوحة ضخمة؛ إذ يبلغ طولها تسعة أقدام وعرضها خمسة عشر قدمًا، وتغطي مجال رؤية المشاهد أثناء اقترابه منها. تقليديًّا، حتى اللوحات التجريدية تتكون من أجزاءٍ مترابطة مع بؤر تركيز (emphases) وعمقٍ يُنقل من خلال اللون والظلال، ولكن «رقم 32» ليس لها أجزاء؛ إنّها تتكون من تعالقات، والبؤرة فيها تكمن عبر امتداد سطح القماش المستطيل.
يمنحها ما سبق عمقًا سطحيًا، وربما لا عمق فيها: مجرّد طلاء على قماش. إنّها عبث بالشكل واللون. حتى اسمها، ببساطة رقمٌ معيّن – رقم 32 – يجعلها تنأى بنفسها عن أي فكرة مفادها أنها تعكس مدلولًا محدّدًا. تشير عناوين أعمال بولوك الأخرى إلى نوعٍ من الاختبار الشخصي، وإلى الاستخدام السمفوني المتعدد الطبقات للون والملمس؛ خذ مثلًا لوحاته التي تحمل اسم: «إيقاع الخريف»، و«الضباب الأرجواني»، و«الأقطاب الزرقاء»، و«انعكاس الدنقلة الكبير».
هذا لا ينطبق على لوحة «رقم 32»؛ شكلها الخام وبساطتها دليل على أنّ الفنان لم يخطط مسبقًا لرسمها؛ أيّ أنّه لم ينتق الألوان ولا الطبقات. يبدو بولوك هنا أكثر حضورًا، من خلال لمساته الحادة. بالنسبة إلى مؤيديّ عمل بولوك، تختصر هذه اللوحة خلاصة نظرة الفنان الجمالية. أما بالنسبة للبعض الآخر، فهي لوحة مبتذلة.
وصف جوزيف بويس -النحات الألماني في فترة ما بعد الحرب- الفنَّ التجريدي الأمريكي بأنه مجرد «تغليف»، أيّ سطح بلا محتوى. في هذا الصدد، قد يتفق البعض أن لوحة «رقم 32» تجسد فراغ الفكر والشعور ذاك. فقد رأى الروائي والناقد الفني روبرت كوتس أن فن بولوك لم يكن سوى «انفجارات» غير منظمة من الطاقة العشوائية. غير أنّ طائفة كبيرة من متذوقي الفن التجريدي لا تروق إليهم أعمال بولوك ويرونها فنًّا محيرًا، حتى إنّ بعضهم يراها إهانةً للذوق أو الحسّ السليم.
عُرف بولوك بلقب: «جاك فنان النقط» (Jack the Dripper) [1] في الأوساط الإعلامية المشككة بعمله حيث ادعى كثر أن أيّ شخص يمكنه أن يرسم كما يرسم بولوك إلّا أنّ أحدًا لم يتجرأ على فعل ذلك.
«رقم 32» - جاكسون بولوك«رقم 32» – جاكسون بولوك
بيد أنّ هذا هو مغزى الفن التجريدي في التقليد الغربي: إنّه تحدّ. وفي ظل الكثير هذه التحديات، تُعد لوحة « رقم 32» اللوحة الأكثر تمثيلًا لهذا الفن.
قصة الفنّ التجريدي
مسار قصة الفن التجريدي مضمّنة في الدراسات التاريخية الفنية، إلّا أنّ المحطات الرئيسة لهذا المسار كانت محط تغييرات مفاجئة كلما اكتشف مؤرخوّ الفن حقائق جديدة.
انطلق مسار الفن التجريدي بدءًا من القرن التاسع عشر وما تلاه؛ حيث استفاد الفنانون من مادة الطلاء والجوانب الشكلية للرسم مثل اللون والدرجة والخطوط. يُعرف هذا الانشغال بالجوانب غير التمثيلية (non-representative) للفن باسم «الشكلانية»، لأنّه انشغال «بالشكل»، أيّ بتوسل شكل المحتوى بدلًا من المحتوى في ذاته. بالنسبة إلى الفنانين في القرن التاسع عشر، صُنّف الفن التجريدي على أنّه «فنٌّ من أجل الفنّ»، وكانت الفكرة الشائعة مفادها أنّ المتذوق للفن يمكنه الاستمتاع بالعمل دون اللجوء إلى معنى أو حتى أي شيء آخر يمثل أمرًا ما.
تمثّل لوحة «الموسيقى الهادئة باللّونين الأسود والذهبي – الصاروخ الساقط» (1872)، للفنان جيمس مكنيل ويسلر هذا الاتجاه الذي تبلور لاحقًا في الفن التجريدي. إنّ مشهد ويسلر الغامض من الناحية المكانيّة يقترب إلى التجريد، وذلك بمحاولته نقل الشعور أو الانطباع الخاص بالمشهد بدلًا من إعادة إنتاجه بحذافيره.
«الموسيقى الهادئة باللونين الأسود والذهبي - الصاروخ الساقط» (1872-1877) - جيمس أبوت مكنيل ويسلير«الموسيقى الهادئة باللونين الأسود والذهبي – الصاروخ الساقط» (1872-1877) – جيمس أبوت مكنيل ويسلير
في عام 1877، انتقد جون روسكين – أبرز نقّاد بريطانيا في ذلك الوقت – عمل ويسلير هذا نقدًا لاذعًا فشبهه «بمن قام برمي الطلاء في وجه الجمهور». تأثر ويسلر بهذا الكلام، فرفع دعوى قضائية ضد روسكين، بيد أنّه خسرها لأن المسؤولين عرضوا اللوحة -خطأً- مقلوبةً على المحكمة. أفلس ويسلير بسبب هذه القضية، لكن مسيرة تطور الفن التجريدي استمرت.
من ناحيةٍ أخرى، تحديد أول فنان تجريدي في العالم موضوع نزاع. في نظر أبحاث تاريخ الفن التقليدية، كان فاسيلي كاندينسكي – فنان روسي الجنسية رسم لوحات تجريدية بالكامل في مطلع عام 1911- هو أول فنان تجريدي.
لم ينل الفن التجريدي الرائد لهيلما أف كلينت تقديرًا إلا قبل سنوات قريبة. هذه صورة للمعرض الشهير في متحف غاغينهايم، عام 2018 .لم ينل الفن التجريدي الرائد لهيلما أف كلينت تقديرًا إلا قبل سنوات قريبة. هذه صورة للمعرض الشهير في متحف غاغينهايم، عام 2018 .
ولكن في الآونة الأخيرة، وبفضل المعرض الرائد في متحف مقاطعة لوس أنجلوس للفنون في عام 1986 الذي حمل اسم «الروحانية في الفن: الرسم التجريدي 1890 – 1985»، وقع الاختيار على هيلما أف كلينت كأول رسامة تجريدية. بدأت كلينت في رسم لوحات تجريدية بدءًا من عام 1906، وحملت مجموعتها عنوان «الفوضى البدائية». كانت الفنانة متكتمة في ما يتعلق بأعمالها التجريدية، ولم تُعرض أيّ منها في معارض عامة، وبقيت غير معروفة حتى أزيح عنها الستار مؤخرًا.
ولعل الجدال حول هوية أول من مارس الفن التجريدي سيستم، لكن الحقيقة الأكثر أهمية هي أن العديد من الفنانين الأوروبيين البارزين قد توصّلوا في أعمالهم إلى التجريد بحلول الحرب العالمية الأولى. لقد وجد كل منهم طريقته الخاصة في التخلي عن الفن التشخيصي (figurative painting). وجديرٌ بالذكر أنّه لم تكن هناك حركة «تجريدية» دولية ذات رؤية أو بيان مشترك.
في ضوء ذلك، فإن السؤال الملحّ حقًا هو: لمَ لمْ يتبنى الفنانون الغربيون الفن التجريدي على امتداد قرون عديدة؟ لماذا كان التجريد غير ضروري أو لا معنى له أو غير مناسب أو حتى لا يمكن تقبّله لقرونٍ متوالية في الفن الغربي؟
ظهرت العديد من التفسيرات لشرح ذلك. إحدى النظريات الأكثر وضوحًا هي أن ظهور التصوير الفوتوغرافي بوصفه شكلًا من أشكال الفن، إضافةً إلى تطور الفن الحديث، سببان رئيسان لإزاحة الرسم التشخيصي.
ثمّة إجابات أخرى غير ملموسة لاستكشاف الأسباب: ربما عندما أصبحت الأعمال الفنية قابلة للاستهالاك بشكل متزايد، مثل السلع، بات من السهولة فصل اللوحات والمنحوتات عن التجارب المحددة لمبدعيها. ربما أدت الحداثة في الغرب إلى إفراغ الفن من المحتوى التشخيصي؛ مما دفع الفنانين أيضًا إلى التخلي عن التمثيل التشخيصي.
كل من هذه الإجابات معقدة وتتطلب الكثير من الشرح، ولا يمكن إلا أن تكون تخمينات. لا توجد إجابة واضحة لهذه المسألة. ربما يكون من الأفضل طرح السؤال حول سبب تقبّل الفن التجريدي فنًّا من الفنون الرسمية في تاريخ الفن الغربي في مرحلة معينة على علماء الأنثروبولوجيا بدلًا من طرحها على مؤرخي الفن. فما هو واضح أن الفن التجريدي كان موجودًا دائمًا في مناطق أخرى من العالم.
ما جعل الفن التجريدي فنًّا حديثًا على وجه التحديد في العالم الغربي هو نظام المعارض، الذي أعطى القيمة الفنية للأعمال المعروضة. وكما هو واضح فقد ازدهر التجريد لآلاف السنين المناطق الشرقية والجنوبية من العالم، دون عناء التحقق من مكانة الأعمال المعروضة في الصالونات [والمعارض، كما هو في العالم الغربي].
الواقع الافتراضي و«الافتراضية»
يتبنى بيبي كرمل وهو مؤرخ فني، في كتابه « الفن التجريدي: تاريخ عالمي»، فكرة أنّ الفن التجريدي كان دائمًا موجودًا بشكل طبيعي عندما ننظر إليه نظرة شاملة وعالمية، بيد أنّه يتحاشى طرح نظرية عن تطور الفن التجريدي. بالنسبة إلى كرمل، فإنّ هذا الفنّ متجذر في العالم الحقيقي، وهو ليس فنًّا «مجردًا» على الإطلاق، كما أنّه تقليد عالمي وليس محليًا.
في دراسته حول الفن التجريدي يقسم العمل الفني إلى خمس فئات واسعة تنتمي إلى العالم الحقيقي: الأجسام، والمناظر الطبيعية، والكون، والبنى، والعلامات والأنماط. من خلال فحص الفن التجريدي بهذه الطريقة، يرى كرمل في اللوحات التجريدية موضوعات قابلة للتحليل، بعكس النقاد والمؤرخين الأرثوذكسيين الذين رأوا فيها مجرّد توليفات شكلية مكوّنة من لون وشكل.
ربما يكون من الأفضل أن يطلق على الفن التجريدي: فن ما تم تجريده (abstracted art)؛ لأنّ الفنانين التجريديين عادةً ما يستخلصون ويجرّدون تعبيرات التجارب في شكل ولون، أكثر من كونها توليفات مكونة من شكل ولون. ومرّد ذلك الطبيعة الجوهرية للرسم والنحت؛ فهما (الشكل اللّون) وسيطان للتعبير، مثل الشاشة أو المسرح لخيال الفنان. كما هو الحال في المسرح أو السينما، فإنّ جمهور اللوحة أو المنحوتة يعلّق معتقداته من أجل أن يتقبل المشهد.
من المفيد التفكير في اللوحة التشخيصية التقليدية أو النحت على أنها حقيقة افتراضية. إذْ استخدم الفنانون لقرون عديدة الحيل البصرية -مثل المنظور الخطي، والتقصير المسبق، والتظليل- لمحاكاة الطريقة التي ندرك بها الأشياء في الفضاء الحقيقي. إنّ المشاهد تُنشأ في فضاء افتراضي – سواء كانت القاعدة التي تدعم التمثال أو القماش – ليراها المشاهدون بوصفها خدعة بصرية.
«القديس بطرس شفاء أحد الأشخاص وبعث تابيثا من الموت» ماسولينو دي بانيكال. اعتمد الرسم الغربي قبل القرن العشرين على الحيل البصرية لخلق واقع افتراضي. إحدى هذه الحيل هي المنظور الخطي، وهذه اللوحة هي أول مثال لاستخدام نقطة تلاشٍ متسقة.«القديس بطرس شفاء أحد الأشخاص وبعث تابيثا من الموت» ماسولينو دي بانيكال. اعتمد الرسم الغربي قبل القرن العشرين على الحيل البصرية لخلق واقع افتراضي. إحدى هذه الحيل هي المنظور الخطي، وهذه اللوحة هي أول مثال لاستخدام نقطة تلاشٍ متسقة.
يستمتع مشاهدوّ الأعمال الفنية العظيمة معنى ما يُرسم، ويقدرون الطريقة التي يتجلّى فيها الوهم عبر تمازج اللون والشكل.
يبقى الفن التجريدي، إلى حدٍ ما، ضمن إطار التجربة الجمالية. فقد سعت حركات الفن الحديث التي أدت إلى التجريد -أيّ «مدارس الفن»، مثل الانطباعية والفاوفية والتكعيبية- إلى تمثيل العالم بشكل مختلف عن كل الفنون التي سبقتها. إذْ ادعوا الاقتراب من الحقيقة الذاتية عبر تهميش جميع الحيل الوهمية التقليدية التي حاولت إعادة إنتاج الواقع بحذافيره كحقيقة موضوعية.
«الأحمر والأصفر والأزرق» (1925) واسيلي كاندينسكي. كان كاندينسكي يعدّ لفترةٍ طويلة أب الرسم التجريدي الغربي.«الأحمر والأصفر والأزرق» (1925) واسيلي كاندينسكي. كان كاندينسكي يعدّ لفترةٍ طويلة أب الرسم التجريدي الغربي.
بالنسبة إلى هذه المدارس، أصبح الفن أقل من أن يوصف بأنّه واقع افتراضي، لكنه مع ذلك احتفظ بالافتراضية، وأصبح افتراضيًا. لقد أخذ الفن التجريدي مسار التطور هذا إلى أقصاه: من الواقع الافتراضي إلى الافتراضية.
ماذا تعني «الافتراضية» هنا؟ إنّها الوجود كجوهر وتأثير، ولكن بدون اللجوء إلى الواقع. اللوحة التجريدية التي رسمها كاندينسكي، على سبيل المثال، ما زالت تُعدّ علاقة متبادلة بين الشكل واللون، و تعتمد على الرسم كمستوى تخطيطي: إنها نافذة تطلّ على «الواقع» الفردي الذي تصوّره كاندينسكي.
وما تزال العناصر في لوحات كاندينسكي تحظى بعلاقة متبادلة، كما هو الحال في فضاء الواقع الافتراضي للوحة التشخيصية؛ فجوهر الرسم سليم إذ إنّ ذلك الفضاء الافتراضي ما زال موجودًا. عندما يكون الفن التجريدي بناءً خالصًا، ويتخلص من المساحة الافتراضية الملازمة للرسم والنحت، يصبح متميزًا عنهما.
وصف دونالد جود الفنان التخفيفي (minimalist) مثل هذه الأعمال الفنية بأنها «أجسام محدّدة» (Specific Objects). إنّه مصطلح غير دقيق، ولكنه يصلح لإظهار أن مثل هذه الأعمال الفنية ليست رسمًا ولا نحتًا، ولكنها فئة أخرى تمامًا.
رأى دونالد جود أن أعماله وأعمال العديد من معاصريه تشغل مساحة هجينة، لا هي لوحات ولا هي نحت. عمل دون عنوان لدونالد جود.
استخدم جود هذا المصطلح لوصف أعماله الخاصة، ولكنه ينطبق على لوحات كازيمير ماليفيتش وفرانك ستيلا أحادية اللون، والتي تجعل اللوحة تندمج مع نفسها بالكامل، من أجل الوصول للتأثير الذي يأمل العمل في تحقيقه.
في مثل هذه الأعمال، لم يعد قماش اللّوحة (أو القاعدة) سطحًا تتفاعل فيه الأشكال والألوان في الفضاء الافتراضي. بدلاً من ذلك، تتفاعل الأشكال والألوان في الفضاء الحقيقي، في فضائنا.
تختلف معايير النجاح أو الفشل لهذه الأعمال عن الخصائص التقليدية للرسم والنحت. رأى جود أنّ خصائص الرسم والنحت تقف في طريق ما أراد تحقيقه من خلال اللون والشكل. في رأيه، كان لـ «أجسامه المحددة» تأثيرًا أحدّ من غيرها.
الواقع والأشكال الجديدة للإدراك الحسّي
الرسم نفسه له ثلاثة أنواع عامة من التجريد؛ أولًا، ثمّة أسلوب تعبيري تُرسم فيه الأشكال بحركاتٍ غير مقيدة؛ ثم هناك التجريد الهندسي حيث يتم هيكلة الأشكال؛ أما النوع الثالث، فهو تجريد مجال اللون حيث يتم عرض مساحات من الألوان بطريقةٍ لا شكل واضح لها.
لم تكن هذه «الأنماط» (styles) أنماطًا عرضيةً أو تعتمد على ذوق أو ميل الرسام كوسيلة لتحقيق هدفٍ ما من البحث الفني. وخير مثال على ذلك هو الفنان الذي غالبًا ما ينظر إلى عمله على أنّه ذروة التجريد الهندسي: بيت موندريان. إنّ لوحات بيت موندريان المكونة من شبكات (grids) ذات الخطوط السوداء والأجزاء الملونة على خلفية بيضاء؛ تهدف إلى استحضار «حقيقة أعلى».
بالنسبة إلى موندريان، كان الفن في جوهره معارضًا للواقع؛ «لأن الواقع يتعارض مع الروحي». بغض النظر عن هذه اللوحة الأشهر لموندريان، فإنّ جوانب الرسم التي تهم هذا الفنان حقًا لم تكن الجوانب المحددة للموضوع -أيّ ماذا أو ما يتم تصويره في اللوحة مثلًا- بل الجوانب القابلة للفهم عالميًا للشكل والخط واللون. إنّ لوحات موندريان، مثلها مثل لوحات الفنانين الآخرين، هي محاولة لاستخلاص الشكل واللون من أجل الاقتراب من ذلك الجوهر العالمي والروحي للفن.
عبّر موندريان عن رغبته في الوصول إلى «أساس» الأشياء من خلال الحدس، كالعديد من الفنانين التجريديين الآخرين في النصف الأول من القرن العشرين الذين رغبوا في الوصول إلى قوى غير مرئية حولنا، ولكنها معروفة أو محدوسة.
«التكوين الثاني باللون الأحمر والأزرق والأصفر» (1930) - بيت موندريان«التكوين الثاني باللون الأحمر والأزرق والأصفر» (1930) – بيت موندريان
في أواخر القرن التاسع عشر، لاحظ العلماء بشكلٍ أفضل مما سبق القوى غير المرئية مع انتشار التقنيات الجديدة، وأصبح من الواضح أن العالم أرحب مما يبدو للعين. في الوقت نفسه، ظهرت حركات روحية بديلة جمعت بين الأفكار الأفلاطونية والتصوف.
كان كلينت وموندريان من بين العديد من الفنانين الذين انغمسوا في أشكال الروحانية خارج العوالم التقليدية للدين. اعتقدت كلينت أن لوحاتها هي وحي عالم روحي، وأن مهمتها كانت العمل «على مستوى روحاني» لتمثيل روح الإنسان، بدلًا من صورته الفانية.
بحلول عشرينيات القرن الماضي، كانت نظرية فرويد عن للعقل البشري قد تغلغلت أيضًا في عالم الفن. كذلك السريالية، وهي حركة منظمة بإحكام بدأت مع بعض الفنانين الذين سعوا إلى التنقيب عن الإمكانات الإبداعية للعقل الباطن، وهي الحركة الثقافية التي كانت سائدة في أوروبا بين الحربين العالميتين.
لم تكن السريالية دوغمائية في محاولتها لاستكشاف اللاوعي، ولذلك ظهر عدد من الأساليب والطرق لمحاولة إخراج اللاوعي إلى السطح. إحدى هذه الأساليب كان الرسم الآلي (Automatism)، وهي عملية يتخلى فيها الفنان عن السيطرة الواعية لليد التي ترسم أو تصور. في هذا المجال، تبنى الفنانون مثل أندريه ماسون وخوان ميرو الفرصة لبناء صورهم باستخدام حركات حرّة، وحتى إلقاء الطلاء على القماش.
طور أرشيل غوركي -هو مهاجر أرمني عاش في الولايات المتحدة- أسلوبًا في الرسم يدمج بين الرسم الآلي وتجريد مجال الألوان. لوحاته في الأربعينيات حجمُها ضخم – ومرد ذلك تأثره بأعماله السابقة كفنان جداري مُعيّن من الدولة خلال السنوات الأخيرة من الكساد الكبير – لكنها معبّرة وغنائية في الرسم بالفرشاة.
ألهم إدماج غوركي للأنماط جيلًا واسعًا من الفنانين الأمريكيين في فترة ما بعد الحرب لاحتضان التجريد الواسع النطاق. ما نسميه الآن «التعبيرية التجريدية»، وكان ذاك الجيل في الواقع مجموعة فضفاضة من الفنانين الذين يستخدمون أنماطًا متعدّدة من أنماط التجريد.
ربما كان القاسم المشترك بين هؤلاء الفنانين – على الأقل في السنوات الأولى – هو دعم جيل جديد من النقاد بقيادة كليمنت غرينبيرغ، الذي كان يعتقد أن التجريد هو التعبير الأسمى للفن الغربي.
«الكبد هو مشط الديك» (1944) - أرشيل جوركي.«الكبد هو مشط الديك» (1944) – أرشيل جوركي.
الحداثة ومصير الفنّ الغربي
كان يُعتقد في بعض الأوساط الفكرية المؤثرة أنّ الفن يتقدم نحو هدف؛ وهذا المضمون يشتمل عليه مصطلح «الطليعية» (Avant-garde)، الذي يُوصف به الفنّانون الذين يبتكرون أرضية جمالية جديدة. أصل المصطلح فرنسي يُطلق على الجنود الذين يتقدمون إلى مناطق جديدة.
بالنسبة إلى غرينبيرغ، لم يكن هؤلاء الفنّانون يوسّعون حدود إمكانات الفن؛ بل كانوا يتقدمون نحو الهدف الحقيقي والمفرد لكل شكل فني.
يُعدّ غرينبيرغ شخصية مهمة في تاريخ الفن التجريدي، وذلك لأمرين: بوصفه مناصرًا رائدًا في مسألة تفوق الفن التجريدي على غيره من أنواع الرسم، وتأكيده للقوة التي امتلكها هذا الفن. كان ناقدًا في اللجنة الأمريكية للحريّة الثقافية التي تمولها الدولة، وهي مجموعة تم إنشاؤها لتعزيز الفن الأمريكي على المستوى الدولي.
أصبحت أفكار غرينبيرغ مؤثرة عندما كانت الولايات المتحدة جزءًا من الحرب على الفاشية والنازية، وخلال الحرب الباردة اللاحقة ضد الشيوعية السوفيتية. كانت معايير الفن الفاشي والسوفياتي واضحة، وهي ما تحددها السلطات الثقافية أنها كذلك، بيد أنّه ما لم يكن واضحًا هو معايير الفن «الجيد» وتحديدًا في الغرب الديمقراطي.
كان الماركسيون هم من تعاطف مع غرينبيرغ في البداية، لكن ارتبط تفكيره بشكلٍ متزايد بالهيمنة الثقافية الأمريكية. بالنسبة إليه، كان التجريد في أعمال بولوك فنًا مثاليًا لمجتمع ديمقراطي. تتجلى الحداثة في الفن، وفقًا لغرينبيرغ، في إطار التنوير الأوروبي؛ أيّ في فترة ازدهار الأفكار الفلسفية والعلمية التي أعطت الأولوية للعقل.
في مقالته المؤثرة « الرسم الحداثي» (1961)، وصفَ غرينبيرغ إيمانويل كانط – الفيلسوف الألماني في عصر التنوير – بأنّه «أول حداثي حقيقي». كان أسلوب كانط في «النقد» هو استخدام العقل لنقد العقل بغرض توضيحه، ومنحه استقلالية عن أنواع التفكير الأخرى.
«أولمبيا» - إدوارد مانيه (1863). بالنسبة إلى كليمنت غرينبيرغ، كان مانيه أول رسام حداثي. لقد رسم مانيه لوحاته بأسلوبٍ مسطّح بشكلٍ متعمد.«أولمبيا» – إدوارد مانيه (1863). بالنسبة إلى كليمنت غرينبيرغ، كان مانيه أول رسام حداثي. لقد رسم مانيه لوحاته بأسلوبٍ مسطّح بشكلٍ متعمد.
بالطريقة نفسها، كان الرسامون الحداثيون – من إدوارد مانيه في القرن التاسع عشر إلى موريس لويس، وهو رسام يعمل ينتمي إلى رسامي أسلوب مجال ألوان في الولايات المتحدة في الوقت الذي كتب فيه غرينبيرغ مقالته – يعملون على ترسيخ الفن التعبيري «بشكل صارم في مجال تخصصه».
رأى غرينبيرغ أن وضوح الفن التجريدي -الذي كان صادقًا بالنسبة إلى الوسيط الذي يُعبّر من خلاله- معارضٌ لـ«الفن الشعبي المبتذل [الكيتش]» الذي ينُتج على نطاق واسع في الثقافة الشعبية. إن إزالة «الكيتش» كانت مسألة استجلاء وتوضيح تحتاجها جميع الفنون لكي تصبح تعبيرًا عن إمكاناتها الجمالية الكامنة.
اللوحات مسطّحة، وإيهام العمق الذي نجده في معظم الفن الغربي كان انحرافًا عن جوهر فن الرسم ذاته. كانت استقلالية الشكل الفني في جميع خصائصه دون أن تتلوث بأشكال فنية أخرى. وفقًا لغرينبيرغ، يعدّ الشكل واللون من أهم خصائص الرسم، و أفضل تمثيل لها يكون بشكلٍ مسطّح.
وهكذا دافع غرينبيرغ عن «التسطيح» الذي تجلّى في لوحات الفنانين الأمريكيين التجريدية مثل جاكسون بولوك باعتباره تحقيقًا لهذا الوضوح الحداثي. لقد ضم هؤلاء الفنانين معًا ضمن فريق واحد، وهم يمثّلون المرحلة التالية في الحداثة، وقد حلّت رؤيتهم الأمريكية المميزة محلّ الفن الأوروبي الطليعي.
وفي الوقت الذي أصبح فيه الفن التجريدي الأمريكي مهيمنًا، تراجعت هيمنة غرينبيرغ النقدية، وظهرت أشكال جديدة من الفن الطليعي، مستوحاة مباشرة من الثقافة الجماهيرية، وحلّت محلّ التعبيرية التجريدية في المخيال العام. تبنى فنانوّ «البوب» مثل: آندي وارهول، وريتشارد هاميلتون هذا النوع من «الفن الشعبي المبتذل» الذي رآه غرينبيرغ تلويثًا للفن الحقيقي.
استمرت الأعمال الفنية التجريدية، ولكن تخلّى الفنّانون التجريديون الأكثر جرأة عن الفكرة الصارمة «للنقد الحداثي»، وعن الوضوح المتعلق بخصوصية الوسيط الفني، وذلك لصالح أشكال أخرى من التعبير.
نظر فنانوّ «ما بعد الحداثة» إلى السخرية وعملية الرسم نفسها، كطرق لتجاوز الطريق المسدود للحداثة. تبنى الألماني غيرهارد ريختر كلا النهجين؛ فبعض أعماله التجريدية في الستينيات كانت مصنوعة بممسحاتٍ بدلًا من الفرشاة، حتى يتمكن من لفت الانتباه إلى عملية صنع اللوحة نفسها.
كانت «اللوحات التجريدية» البارزة الأخرى التي رسمها ريختر في الواقع صورًا واقعية مرسومة بعناية تعكس لوحاته التجريدية الأخرى. أصبحت طلائعية الرسم التجريدي مفهومية أكثر، ما جعل ضمنيًّا قضية الرسم تحظى باستقلالية أقل مما كان كان يعتقد النقاد الحداثيون.
قلّد فنانوّ «نيو جيو»، مثل: الرسام بيتر هالي، والنحات أشلي بيكرتون اللغة البصرية للتجريد الهندسي، لكنهما دمجاها مع السلع الاستهلاكية بألوانٍ تجارية فاتحة وأحيانًا فلورية.
منذ ذلك الجيل ما بعد الحداثي من الرسامين والنحاتين الممتد من الستينيات إلى التسعينيات، ازدهر التجريد متفرّعًا إلى عددٍ لا يُحصى من الأساليب والمقاربات بجوار الفن التشخيصي. هنا يمكن القول إنّ التجريد المتحرّر من عبء التوقعات الحداثية هو ببساطة نهج للتعبير مثل أيّ نهج آخر.
وتجدر الإشارة إلى أنّ بعض الفنانين التجريديين استخدموا الحيل البصرية المستعملة في الفن التشخيصي – مثل المنظور والتظليل – في لوحاتهم. ولاستخدامهم هذا أهداف فريدة و غالبًا لا تهتم بالنظرية.
قلّد فنانوّ «ما بعد الحداثة» مثل: بيتر هالي اللغة البصرية المستعملة في الفن التجريدي الحديث (في حالة بيتر، التجريد الهندسي)، للتعليق على طبيعة الفن والمعنى نفسه. تمثّل هذه الكتل الملونة «الخلايا» و«الأنابيب».قلّد فنانوّ «ما بعد الحداثة» مثل: بيتر هالي اللغة البصرية المستعملة في الفن التجريدي الحديث (في حالة بيتر، التجريد الهندسي)، للتعليق على طبيعة الفن والمعنى نفسه. تمثّل هذه الكتل الملونة «الخلايا» و«الأنابيب».
هذا هو التحرّر نحو الأفضل بين الرسامين التجريديين الذين يمكنهم الالتزام برؤيةٍ فريدة بالرسم على القماش. لكن فكّ ارتباط الفن التجريدي عن إطاره الفلسفي الأوسع أدى أيضًا إلى انتشارٍ يثير التساؤل لأعمال تجريدية متنوعة قابلة للاستهلاك – بمعنى أنّها فقدت قيمتها، وباتت تُباع وتُشترى سريعًا بأسعارٍ مربحة – يشتريها المشترون المتضاربون.
دفع هذا التحول الناقد جيري سالتز إلى كتابة: « الزومبي على الجدران: لماذا يبدو الكثير من التجريد الجديد متشابهًا؟». وقد شبه اللّوحات التجريدية بصورة «الزومبي»، تحقيرًا لأعمال عددٍ من الرسامين التجريديين البارزين، الذين استخدموا الفنّ وجماليته لتقديم أعمال مبتذلة.
ومن المفارقات أن هؤلاء الفنانين نظروا إلى الشكلانية بوصفها فنًّا حداثيًّا متبنّين منظور غرينبيرغ، لكنهم بالطبع قدّموا أعمالًا في ظلّ فراغ تاريخي وبعد فترةٍ طويلة حين لم يُصبح التجريد مثيرًا للاهتمام أو راديكاليًا بأي وجه من الوجوه.
في الواقع، لم يصل مشروع الحداثة في الفن التجريدي إلى نهايته، بل النقد. إنّ النقد -أيّ الإطار الفلسفي الواسع الذي يصادق على الأعمال الفنية ويثمّنها لأهميتها الثقافية والتاريخية- هو ما فقد التوجه والسلطة.
كان مسار الفن الغربي منذ عصر التنوير يتأرجح بين قطبي الدوغمائية النقدية والإبداع. تكمن المشكلة أنه في العقود الأخيرة، وفي ظلّ غياب أي مشروع نقدي متماسك، انجرف الفن نحو إرضاء اهتمامات دقيقة ومتنوعة تزداد باستمرار.
في حين كانت هناك «حركات» و«مدارس» فنية -مصطلحان يشيران إلى الوجهة والانضباط- لم يعد لدينا الآن سوى «مشاهد».
هذا ليس بالضرورة أمرًا سيئًا. ولكن في عالم حيث «كل شيء مقبول – anything goes»، لا يوجد مجال لهذا النوع من الابتكار والتجاوز الذي أدى إلى ظهور الفن التجريدي في الغرب، وهذا ما جعل الفن الحديث فنًّا مثيرًا للغاية.
من الصعب في هذه اللحظة التاريخية أن ندرك ما الذي جعل لوحة بولوك «رقم 32» مثيرة للانقسام، ومخلخلةً جدًا للمعايير، وفي الوقت نفسه محتفظةً بقيمةٍ عالية جدًا لأولئك الذين يعتقدون أن للفنِّ مكانًا في المجتمع يتجاوز المتعة.
[divider style=”solid” top=”20″ bottom=”20″]
[1] واللقب كذلك يُلمح إلى القاتل المتسلسل في لندن آخر القرن التاسع عشر: جاك السفّاح
Jack the ripper (مدير التحرير).
### خارج عقلك | توم تشاتفيلد – ت: محمد السعيد
عندما يكون هاتفي النقال بين يديّ، هل أكون أنا الشخص نفسه لو كان الهاتف في غرفة أخرى؟ من ناحية،...
### الدراما في التعليم: مقاربات وتطبيقات | نعيم حيماد
افتتاحيّة حظي استخدام الدراما في التعليمفي السنوات الأخيرة باهتمام كبير من قبل نخبة من المنظرين والممارسين للدراما في مجال التعليم....
### الحقائق المخفية | دي بي سي بيير – ت: محمد السعيد
يحمل جبل كلسي خشن في غرب إيران عددًا من النقوش البارزة، من بينها لوحة طولها خمسة وعشرين مترًا منقوشة...
### التغلُّب على كاشف الكذب | كلاريسا سيباغ-مونتِنفيوري – ت: محمد السعيد
حين اتُّهِمَتْ مربية الأطفال البريطانية لويز وودورد بهزِّ رضيع حتى الموت في مدينة نيوتن بولاية ماساتشوستس، لم تكتفِ بإعلان...
### عن منصة معنى
«معنى»، مؤسسة ثقافية تقدّمية ودار نشر تهتم بالفلسفة والمعرفة والفنون، عبر مجموعة متنوعة من المواد المقروءة والمسموعة والمرئية. انطلقت في 20 مارس 2019، بهدف إثراء المحتوى العربي، ورفع ذائقة ووعي المتلقّي المحلي والدولي، عبر الإنتاج الأصيل للمنصة والترجمة ونقل المعارف.
### روابط سريعة
### التصنيفات
### مرحبا بك!
قم بتسجيل الدخول إلى حسابك
تذكرني
### قم بإنشاء حساب جديد!
املأ النموذج أدناه للتسجيل
### طلب إعادة تعيين كلمة المرور
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان البريد الإلكتروني لإعادة تعيين كلمة المرور الخاصة بك.
### Add New Playlist
- Select Visibility -PublicPrivate
No Result
عرض جميع النتائج
-
00:00
00:00
-
00:00
00:00
|
article
|
Arabic
|
ar
|
الفنّ التجريدي: بين الماضي والحاضر - منصة معنى الثقافية
|
https://mana.net/abstract-art/
|
1,927 |
وفي الوقت الذي أصبح فيه الفن التجريدي الأمريكي مهيمنًا، تراجعت هيمنة غرينبيرغ النقدية، وظهرت أشكال جديدة من الفن الطليعي، مستوحاة مباشرة من الثقافة الجماهيرية، وحلّت محلّ التعبيرية التجريدية في المخيال العام.
|
sentence
|
وفي الوقت الذي أصبح فيه الفن التجريدي الأمريكي مهيمنًا، تراجعت هيمنة غرينبيرغ النقدية، وظهرت أشكال جديدة من الفن الطليعي، مستوحاة مباشرة من الثقافة الجماهيرية، وحلّت محلّ التعبيرية التجريدية في المخيال العام. تبنى فنانوّ «البوب» مثل: آندي وارهول، وريتشارد هاميلتون هذا النوع من «الفن الشعبي المبتذل» الذي رآه غرينبيرغ تلويثًا للفن الحقيقي.
|
paragraph
|
Arabic
|
ar
|
الفنّ التجريدي: بين الماضي والحاضر - منصة معنى الثقافية
|
https://mana.net/abstract-art/
|
1,928 |
تبنى فنانوّ «البوب» مثل: آندي وارهول، وريتشارد هاميلتون هذا النوع من «الفن الشعبي المبتذل» الذي رآه غرينبيرغ تلويثًا للفن الحقيقي.
|
sentence
|
وفي الوقت الذي أصبح فيه الفن التجريدي الأمريكي مهيمنًا، تراجعت هيمنة غرينبيرغ النقدية، وظهرت أشكال جديدة من الفن الطليعي، مستوحاة مباشرة من الثقافة الجماهيرية، وحلّت محلّ التعبيرية التجريدية في المخيال العام. تبنى فنانوّ «البوب» مثل: آندي وارهول، وريتشارد هاميلتون هذا النوع من «الفن الشعبي المبتذل» الذي رآه غرينبيرغ تلويثًا للفن الحقيقي.
|
paragraph
|
Arabic
|
ar
|
الفنّ التجريدي: بين الماضي والحاضر - منصة معنى الثقافية
|
https://mana.net/abstract-art/
|
1,929 |
استمرت الأعمال الفنية التجريدية، ولكن تخلّى الفنّانون التجريديون الأكثر جرأة عن الفكرة الصارمة «للنقد الحداثي»، وعن الوضوح المتعلق بخصوصية الوسيط الفني، وذلك لصالح أشكال أخرى من التعبير.
|
paragraph
|
لا توجد منتجات في سلة المشتريات.
No Result
عرض جميع النتائج
الثلاثاء, سبتمبر 10, 2024
No Result
عرض جميع النتائج
No Result
عرض جميع النتائج
# الفنّ التجريدي: بين الماضي والحاضر
## ترجمة: أنطونيوس نادر
AA
AA
إعادة تعيين
فنٌ مليء بالتحديات
ثمّة خطٌ رفيع يفصل بين الفن التجريدي ومجرد الزخرفة، ولوحة «رقم 32» (نُشرت عام 1950)، لجاكسون بولوك تتأرجح بين هذا الخطّ. فهي لا تشير إلى معنىً واضح، ولكن لا يمكن القول إنّها بلا معنى على الإطلاق. كما أنّها ليست معبّرة بشكلٍ مباشر، ولا يعني هذا أنها لا تعبّر عن مدلولٍ ما. تحمل هذه اللوحة الكثير من المضامين عن الفن الغربي بالنسبة إلى شخصٍ خبيرٍ في تاريخ الفن؛ أما بالنسبة إلى شخصٍ عادي، فقد يراها عملًا مبتذلًا بالكاد يعبّر عن أمرٍ ما.
اللوحة شبكة من الخطوط وبقعٍ من الألوان، رُسمت عن طريق صبّ طلاءٍ رخيص بعشوائيةٍ مباشرة على القماش. تتكون اللوحة من طلاءٍ أسود فقط وقماشٍ خام. واللوحة ضخمة؛ إذ يبلغ طولها تسعة أقدام وعرضها خمسة عشر قدمًا، وتغطي مجال رؤية المشاهد أثناء اقترابه منها. تقليديًّا، حتى اللوحات التجريدية تتكون من أجزاءٍ مترابطة مع بؤر تركيز (emphases) وعمقٍ يُنقل من خلال اللون والظلال، ولكن «رقم 32» ليس لها أجزاء؛ إنّها تتكون من تعالقات، والبؤرة فيها تكمن عبر امتداد سطح القماش المستطيل.
يمنحها ما سبق عمقًا سطحيًا، وربما لا عمق فيها: مجرّد طلاء على قماش. إنّها عبث بالشكل واللون. حتى اسمها، ببساطة رقمٌ معيّن – رقم 32 – يجعلها تنأى بنفسها عن أي فكرة مفادها أنها تعكس مدلولًا محدّدًا. تشير عناوين أعمال بولوك الأخرى إلى نوعٍ من الاختبار الشخصي، وإلى الاستخدام السمفوني المتعدد الطبقات للون والملمس؛ خذ مثلًا لوحاته التي تحمل اسم: «إيقاع الخريف»، و«الضباب الأرجواني»، و«الأقطاب الزرقاء»، و«انعكاس الدنقلة الكبير».
هذا لا ينطبق على لوحة «رقم 32»؛ شكلها الخام وبساطتها دليل على أنّ الفنان لم يخطط مسبقًا لرسمها؛ أيّ أنّه لم ينتق الألوان ولا الطبقات. يبدو بولوك هنا أكثر حضورًا، من خلال لمساته الحادة. بالنسبة إلى مؤيديّ عمل بولوك، تختصر هذه اللوحة خلاصة نظرة الفنان الجمالية. أما بالنسبة للبعض الآخر، فهي لوحة مبتذلة.
وصف جوزيف بويس -النحات الألماني في فترة ما بعد الحرب- الفنَّ التجريدي الأمريكي بأنه مجرد «تغليف»، أيّ سطح بلا محتوى. في هذا الصدد، قد يتفق البعض أن لوحة «رقم 32» تجسد فراغ الفكر والشعور ذاك. فقد رأى الروائي والناقد الفني روبرت كوتس أن فن بولوك لم يكن سوى «انفجارات» غير منظمة من الطاقة العشوائية. غير أنّ طائفة كبيرة من متذوقي الفن التجريدي لا تروق إليهم أعمال بولوك ويرونها فنًّا محيرًا، حتى إنّ بعضهم يراها إهانةً للذوق أو الحسّ السليم.
عُرف بولوك بلقب: «جاك فنان النقط» (Jack the Dripper) [1] في الأوساط الإعلامية المشككة بعمله حيث ادعى كثر أن أيّ شخص يمكنه أن يرسم كما يرسم بولوك إلّا أنّ أحدًا لم يتجرأ على فعل ذلك.
«رقم 32» - جاكسون بولوك«رقم 32» – جاكسون بولوك
بيد أنّ هذا هو مغزى الفن التجريدي في التقليد الغربي: إنّه تحدّ. وفي ظل الكثير هذه التحديات، تُعد لوحة « رقم 32» اللوحة الأكثر تمثيلًا لهذا الفن.
قصة الفنّ التجريدي
مسار قصة الفن التجريدي مضمّنة في الدراسات التاريخية الفنية، إلّا أنّ المحطات الرئيسة لهذا المسار كانت محط تغييرات مفاجئة كلما اكتشف مؤرخوّ الفن حقائق جديدة.
انطلق مسار الفن التجريدي بدءًا من القرن التاسع عشر وما تلاه؛ حيث استفاد الفنانون من مادة الطلاء والجوانب الشكلية للرسم مثل اللون والدرجة والخطوط. يُعرف هذا الانشغال بالجوانب غير التمثيلية (non-representative) للفن باسم «الشكلانية»، لأنّه انشغال «بالشكل»، أيّ بتوسل شكل المحتوى بدلًا من المحتوى في ذاته. بالنسبة إلى الفنانين في القرن التاسع عشر، صُنّف الفن التجريدي على أنّه «فنٌّ من أجل الفنّ»، وكانت الفكرة الشائعة مفادها أنّ المتذوق للفن يمكنه الاستمتاع بالعمل دون اللجوء إلى معنى أو حتى أي شيء آخر يمثل أمرًا ما.
تمثّل لوحة «الموسيقى الهادئة باللّونين الأسود والذهبي – الصاروخ الساقط» (1872)، للفنان جيمس مكنيل ويسلر هذا الاتجاه الذي تبلور لاحقًا في الفن التجريدي. إنّ مشهد ويسلر الغامض من الناحية المكانيّة يقترب إلى التجريد، وذلك بمحاولته نقل الشعور أو الانطباع الخاص بالمشهد بدلًا من إعادة إنتاجه بحذافيره.
«الموسيقى الهادئة باللونين الأسود والذهبي - الصاروخ الساقط» (1872-1877) - جيمس أبوت مكنيل ويسلير«الموسيقى الهادئة باللونين الأسود والذهبي – الصاروخ الساقط» (1872-1877) – جيمس أبوت مكنيل ويسلير
في عام 1877، انتقد جون روسكين – أبرز نقّاد بريطانيا في ذلك الوقت – عمل ويسلير هذا نقدًا لاذعًا فشبهه «بمن قام برمي الطلاء في وجه الجمهور». تأثر ويسلر بهذا الكلام، فرفع دعوى قضائية ضد روسكين، بيد أنّه خسرها لأن المسؤولين عرضوا اللوحة -خطأً- مقلوبةً على المحكمة. أفلس ويسلير بسبب هذه القضية، لكن مسيرة تطور الفن التجريدي استمرت.
من ناحيةٍ أخرى، تحديد أول فنان تجريدي في العالم موضوع نزاع. في نظر أبحاث تاريخ الفن التقليدية، كان فاسيلي كاندينسكي – فنان روسي الجنسية رسم لوحات تجريدية بالكامل في مطلع عام 1911- هو أول فنان تجريدي.
لم ينل الفن التجريدي الرائد لهيلما أف كلينت تقديرًا إلا قبل سنوات قريبة. هذه صورة للمعرض الشهير في متحف غاغينهايم، عام 2018 .لم ينل الفن التجريدي الرائد لهيلما أف كلينت تقديرًا إلا قبل سنوات قريبة. هذه صورة للمعرض الشهير في متحف غاغينهايم، عام 2018 .
ولكن في الآونة الأخيرة، وبفضل المعرض الرائد في متحف مقاطعة لوس أنجلوس للفنون في عام 1986 الذي حمل اسم «الروحانية في الفن: الرسم التجريدي 1890 – 1985»، وقع الاختيار على هيلما أف كلينت كأول رسامة تجريدية. بدأت كلينت في رسم لوحات تجريدية بدءًا من عام 1906، وحملت مجموعتها عنوان «الفوضى البدائية». كانت الفنانة متكتمة في ما يتعلق بأعمالها التجريدية، ولم تُعرض أيّ منها في معارض عامة، وبقيت غير معروفة حتى أزيح عنها الستار مؤخرًا.
ولعل الجدال حول هوية أول من مارس الفن التجريدي سيستم، لكن الحقيقة الأكثر أهمية هي أن العديد من الفنانين الأوروبيين البارزين قد توصّلوا في أعمالهم إلى التجريد بحلول الحرب العالمية الأولى. لقد وجد كل منهم طريقته الخاصة في التخلي عن الفن التشخيصي (figurative painting). وجديرٌ بالذكر أنّه لم تكن هناك حركة «تجريدية» دولية ذات رؤية أو بيان مشترك.
في ضوء ذلك، فإن السؤال الملحّ حقًا هو: لمَ لمْ يتبنى الفنانون الغربيون الفن التجريدي على امتداد قرون عديدة؟ لماذا كان التجريد غير ضروري أو لا معنى له أو غير مناسب أو حتى لا يمكن تقبّله لقرونٍ متوالية في الفن الغربي؟
ظهرت العديد من التفسيرات لشرح ذلك. إحدى النظريات الأكثر وضوحًا هي أن ظهور التصوير الفوتوغرافي بوصفه شكلًا من أشكال الفن، إضافةً إلى تطور الفن الحديث، سببان رئيسان لإزاحة الرسم التشخيصي.
ثمّة إجابات أخرى غير ملموسة لاستكشاف الأسباب: ربما عندما أصبحت الأعمال الفنية قابلة للاستهالاك بشكل متزايد، مثل السلع، بات من السهولة فصل اللوحات والمنحوتات عن التجارب المحددة لمبدعيها. ربما أدت الحداثة في الغرب إلى إفراغ الفن من المحتوى التشخيصي؛ مما دفع الفنانين أيضًا إلى التخلي عن التمثيل التشخيصي.
كل من هذه الإجابات معقدة وتتطلب الكثير من الشرح، ولا يمكن إلا أن تكون تخمينات. لا توجد إجابة واضحة لهذه المسألة. ربما يكون من الأفضل طرح السؤال حول سبب تقبّل الفن التجريدي فنًّا من الفنون الرسمية في تاريخ الفن الغربي في مرحلة معينة على علماء الأنثروبولوجيا بدلًا من طرحها على مؤرخي الفن. فما هو واضح أن الفن التجريدي كان موجودًا دائمًا في مناطق أخرى من العالم.
ما جعل الفن التجريدي فنًّا حديثًا على وجه التحديد في العالم الغربي هو نظام المعارض، الذي أعطى القيمة الفنية للأعمال المعروضة. وكما هو واضح فقد ازدهر التجريد لآلاف السنين المناطق الشرقية والجنوبية من العالم، دون عناء التحقق من مكانة الأعمال المعروضة في الصالونات [والمعارض، كما هو في العالم الغربي].
الواقع الافتراضي و«الافتراضية»
يتبنى بيبي كرمل وهو مؤرخ فني، في كتابه « الفن التجريدي: تاريخ عالمي»، فكرة أنّ الفن التجريدي كان دائمًا موجودًا بشكل طبيعي عندما ننظر إليه نظرة شاملة وعالمية، بيد أنّه يتحاشى طرح نظرية عن تطور الفن التجريدي. بالنسبة إلى كرمل، فإنّ هذا الفنّ متجذر في العالم الحقيقي، وهو ليس فنًّا «مجردًا» على الإطلاق، كما أنّه تقليد عالمي وليس محليًا.
في دراسته حول الفن التجريدي يقسم العمل الفني إلى خمس فئات واسعة تنتمي إلى العالم الحقيقي: الأجسام، والمناظر الطبيعية، والكون، والبنى، والعلامات والأنماط. من خلال فحص الفن التجريدي بهذه الطريقة، يرى كرمل في اللوحات التجريدية موضوعات قابلة للتحليل، بعكس النقاد والمؤرخين الأرثوذكسيين الذين رأوا فيها مجرّد توليفات شكلية مكوّنة من لون وشكل.
ربما يكون من الأفضل أن يطلق على الفن التجريدي: فن ما تم تجريده (abstracted art)؛ لأنّ الفنانين التجريديين عادةً ما يستخلصون ويجرّدون تعبيرات التجارب في شكل ولون، أكثر من كونها توليفات مكونة من شكل ولون. ومرّد ذلك الطبيعة الجوهرية للرسم والنحت؛ فهما (الشكل اللّون) وسيطان للتعبير، مثل الشاشة أو المسرح لخيال الفنان. كما هو الحال في المسرح أو السينما، فإنّ جمهور اللوحة أو المنحوتة يعلّق معتقداته من أجل أن يتقبل المشهد.
من المفيد التفكير في اللوحة التشخيصية التقليدية أو النحت على أنها حقيقة افتراضية. إذْ استخدم الفنانون لقرون عديدة الحيل البصرية -مثل المنظور الخطي، والتقصير المسبق، والتظليل- لمحاكاة الطريقة التي ندرك بها الأشياء في الفضاء الحقيقي. إنّ المشاهد تُنشأ في فضاء افتراضي – سواء كانت القاعدة التي تدعم التمثال أو القماش – ليراها المشاهدون بوصفها خدعة بصرية.
«القديس بطرس شفاء أحد الأشخاص وبعث تابيثا من الموت» ماسولينو دي بانيكال. اعتمد الرسم الغربي قبل القرن العشرين على الحيل البصرية لخلق واقع افتراضي. إحدى هذه الحيل هي المنظور الخطي، وهذه اللوحة هي أول مثال لاستخدام نقطة تلاشٍ متسقة.«القديس بطرس شفاء أحد الأشخاص وبعث تابيثا من الموت» ماسولينو دي بانيكال. اعتمد الرسم الغربي قبل القرن العشرين على الحيل البصرية لخلق واقع افتراضي. إحدى هذه الحيل هي المنظور الخطي، وهذه اللوحة هي أول مثال لاستخدام نقطة تلاشٍ متسقة.
يستمتع مشاهدوّ الأعمال الفنية العظيمة معنى ما يُرسم، ويقدرون الطريقة التي يتجلّى فيها الوهم عبر تمازج اللون والشكل.
يبقى الفن التجريدي، إلى حدٍ ما، ضمن إطار التجربة الجمالية. فقد سعت حركات الفن الحديث التي أدت إلى التجريد -أيّ «مدارس الفن»، مثل الانطباعية والفاوفية والتكعيبية- إلى تمثيل العالم بشكل مختلف عن كل الفنون التي سبقتها. إذْ ادعوا الاقتراب من الحقيقة الذاتية عبر تهميش جميع الحيل الوهمية التقليدية التي حاولت إعادة إنتاج الواقع بحذافيره كحقيقة موضوعية.
«الأحمر والأصفر والأزرق» (1925) واسيلي كاندينسكي. كان كاندينسكي يعدّ لفترةٍ طويلة أب الرسم التجريدي الغربي.«الأحمر والأصفر والأزرق» (1925) واسيلي كاندينسكي. كان كاندينسكي يعدّ لفترةٍ طويلة أب الرسم التجريدي الغربي.
بالنسبة إلى هذه المدارس، أصبح الفن أقل من أن يوصف بأنّه واقع افتراضي، لكنه مع ذلك احتفظ بالافتراضية، وأصبح افتراضيًا. لقد أخذ الفن التجريدي مسار التطور هذا إلى أقصاه: من الواقع الافتراضي إلى الافتراضية.
ماذا تعني «الافتراضية» هنا؟ إنّها الوجود كجوهر وتأثير، ولكن بدون اللجوء إلى الواقع. اللوحة التجريدية التي رسمها كاندينسكي، على سبيل المثال، ما زالت تُعدّ علاقة متبادلة بين الشكل واللون، و تعتمد على الرسم كمستوى تخطيطي: إنها نافذة تطلّ على «الواقع» الفردي الذي تصوّره كاندينسكي.
وما تزال العناصر في لوحات كاندينسكي تحظى بعلاقة متبادلة، كما هو الحال في فضاء الواقع الافتراضي للوحة التشخيصية؛ فجوهر الرسم سليم إذ إنّ ذلك الفضاء الافتراضي ما زال موجودًا. عندما يكون الفن التجريدي بناءً خالصًا، ويتخلص من المساحة الافتراضية الملازمة للرسم والنحت، يصبح متميزًا عنهما.
وصف دونالد جود الفنان التخفيفي (minimalist) مثل هذه الأعمال الفنية بأنها «أجسام محدّدة» (Specific Objects). إنّه مصطلح غير دقيق، ولكنه يصلح لإظهار أن مثل هذه الأعمال الفنية ليست رسمًا ولا نحتًا، ولكنها فئة أخرى تمامًا.
رأى دونالد جود أن أعماله وأعمال العديد من معاصريه تشغل مساحة هجينة، لا هي لوحات ولا هي نحت. عمل دون عنوان لدونالد جود.
استخدم جود هذا المصطلح لوصف أعماله الخاصة، ولكنه ينطبق على لوحات كازيمير ماليفيتش وفرانك ستيلا أحادية اللون، والتي تجعل اللوحة تندمج مع نفسها بالكامل، من أجل الوصول للتأثير الذي يأمل العمل في تحقيقه.
في مثل هذه الأعمال، لم يعد قماش اللّوحة (أو القاعدة) سطحًا تتفاعل فيه الأشكال والألوان في الفضاء الافتراضي. بدلاً من ذلك، تتفاعل الأشكال والألوان في الفضاء الحقيقي، في فضائنا.
تختلف معايير النجاح أو الفشل لهذه الأعمال عن الخصائص التقليدية للرسم والنحت. رأى جود أنّ خصائص الرسم والنحت تقف في طريق ما أراد تحقيقه من خلال اللون والشكل. في رأيه، كان لـ «أجسامه المحددة» تأثيرًا أحدّ من غيرها.
الواقع والأشكال الجديدة للإدراك الحسّي
الرسم نفسه له ثلاثة أنواع عامة من التجريد؛ أولًا، ثمّة أسلوب تعبيري تُرسم فيه الأشكال بحركاتٍ غير مقيدة؛ ثم هناك التجريد الهندسي حيث يتم هيكلة الأشكال؛ أما النوع الثالث، فهو تجريد مجال اللون حيث يتم عرض مساحات من الألوان بطريقةٍ لا شكل واضح لها.
لم تكن هذه «الأنماط» (styles) أنماطًا عرضيةً أو تعتمد على ذوق أو ميل الرسام كوسيلة لتحقيق هدفٍ ما من البحث الفني. وخير مثال على ذلك هو الفنان الذي غالبًا ما ينظر إلى عمله على أنّه ذروة التجريد الهندسي: بيت موندريان. إنّ لوحات بيت موندريان المكونة من شبكات (grids) ذات الخطوط السوداء والأجزاء الملونة على خلفية بيضاء؛ تهدف إلى استحضار «حقيقة أعلى».
بالنسبة إلى موندريان، كان الفن في جوهره معارضًا للواقع؛ «لأن الواقع يتعارض مع الروحي». بغض النظر عن هذه اللوحة الأشهر لموندريان، فإنّ جوانب الرسم التي تهم هذا الفنان حقًا لم تكن الجوانب المحددة للموضوع -أيّ ماذا أو ما يتم تصويره في اللوحة مثلًا- بل الجوانب القابلة للفهم عالميًا للشكل والخط واللون. إنّ لوحات موندريان، مثلها مثل لوحات الفنانين الآخرين، هي محاولة لاستخلاص الشكل واللون من أجل الاقتراب من ذلك الجوهر العالمي والروحي للفن.
عبّر موندريان عن رغبته في الوصول إلى «أساس» الأشياء من خلال الحدس، كالعديد من الفنانين التجريديين الآخرين في النصف الأول من القرن العشرين الذين رغبوا في الوصول إلى قوى غير مرئية حولنا، ولكنها معروفة أو محدوسة.
«التكوين الثاني باللون الأحمر والأزرق والأصفر» (1930) - بيت موندريان«التكوين الثاني باللون الأحمر والأزرق والأصفر» (1930) – بيت موندريان
في أواخر القرن التاسع عشر، لاحظ العلماء بشكلٍ أفضل مما سبق القوى غير المرئية مع انتشار التقنيات الجديدة، وأصبح من الواضح أن العالم أرحب مما يبدو للعين. في الوقت نفسه، ظهرت حركات روحية بديلة جمعت بين الأفكار الأفلاطونية والتصوف.
كان كلينت وموندريان من بين العديد من الفنانين الذين انغمسوا في أشكال الروحانية خارج العوالم التقليدية للدين. اعتقدت كلينت أن لوحاتها هي وحي عالم روحي، وأن مهمتها كانت العمل «على مستوى روحاني» لتمثيل روح الإنسان، بدلًا من صورته الفانية.
بحلول عشرينيات القرن الماضي، كانت نظرية فرويد عن للعقل البشري قد تغلغلت أيضًا في عالم الفن. كذلك السريالية، وهي حركة منظمة بإحكام بدأت مع بعض الفنانين الذين سعوا إلى التنقيب عن الإمكانات الإبداعية للعقل الباطن، وهي الحركة الثقافية التي كانت سائدة في أوروبا بين الحربين العالميتين.
لم تكن السريالية دوغمائية في محاولتها لاستكشاف اللاوعي، ولذلك ظهر عدد من الأساليب والطرق لمحاولة إخراج اللاوعي إلى السطح. إحدى هذه الأساليب كان الرسم الآلي (Automatism)، وهي عملية يتخلى فيها الفنان عن السيطرة الواعية لليد التي ترسم أو تصور. في هذا المجال، تبنى الفنانون مثل أندريه ماسون وخوان ميرو الفرصة لبناء صورهم باستخدام حركات حرّة، وحتى إلقاء الطلاء على القماش.
طور أرشيل غوركي -هو مهاجر أرمني عاش في الولايات المتحدة- أسلوبًا في الرسم يدمج بين الرسم الآلي وتجريد مجال الألوان. لوحاته في الأربعينيات حجمُها ضخم – ومرد ذلك تأثره بأعماله السابقة كفنان جداري مُعيّن من الدولة خلال السنوات الأخيرة من الكساد الكبير – لكنها معبّرة وغنائية في الرسم بالفرشاة.
ألهم إدماج غوركي للأنماط جيلًا واسعًا من الفنانين الأمريكيين في فترة ما بعد الحرب لاحتضان التجريد الواسع النطاق. ما نسميه الآن «التعبيرية التجريدية»، وكان ذاك الجيل في الواقع مجموعة فضفاضة من الفنانين الذين يستخدمون أنماطًا متعدّدة من أنماط التجريد.
ربما كان القاسم المشترك بين هؤلاء الفنانين – على الأقل في السنوات الأولى – هو دعم جيل جديد من النقاد بقيادة كليمنت غرينبيرغ، الذي كان يعتقد أن التجريد هو التعبير الأسمى للفن الغربي.
«الكبد هو مشط الديك» (1944) - أرشيل جوركي.«الكبد هو مشط الديك» (1944) – أرشيل جوركي.
الحداثة ومصير الفنّ الغربي
كان يُعتقد في بعض الأوساط الفكرية المؤثرة أنّ الفن يتقدم نحو هدف؛ وهذا المضمون يشتمل عليه مصطلح «الطليعية» (Avant-garde)، الذي يُوصف به الفنّانون الذين يبتكرون أرضية جمالية جديدة. أصل المصطلح فرنسي يُطلق على الجنود الذين يتقدمون إلى مناطق جديدة.
بالنسبة إلى غرينبيرغ، لم يكن هؤلاء الفنّانون يوسّعون حدود إمكانات الفن؛ بل كانوا يتقدمون نحو الهدف الحقيقي والمفرد لكل شكل فني.
يُعدّ غرينبيرغ شخصية مهمة في تاريخ الفن التجريدي، وذلك لأمرين: بوصفه مناصرًا رائدًا في مسألة تفوق الفن التجريدي على غيره من أنواع الرسم، وتأكيده للقوة التي امتلكها هذا الفن. كان ناقدًا في اللجنة الأمريكية للحريّة الثقافية التي تمولها الدولة، وهي مجموعة تم إنشاؤها لتعزيز الفن الأمريكي على المستوى الدولي.
أصبحت أفكار غرينبيرغ مؤثرة عندما كانت الولايات المتحدة جزءًا من الحرب على الفاشية والنازية، وخلال الحرب الباردة اللاحقة ضد الشيوعية السوفيتية. كانت معايير الفن الفاشي والسوفياتي واضحة، وهي ما تحددها السلطات الثقافية أنها كذلك، بيد أنّه ما لم يكن واضحًا هو معايير الفن «الجيد» وتحديدًا في الغرب الديمقراطي.
كان الماركسيون هم من تعاطف مع غرينبيرغ في البداية، لكن ارتبط تفكيره بشكلٍ متزايد بالهيمنة الثقافية الأمريكية. بالنسبة إليه، كان التجريد في أعمال بولوك فنًا مثاليًا لمجتمع ديمقراطي. تتجلى الحداثة في الفن، وفقًا لغرينبيرغ، في إطار التنوير الأوروبي؛ أيّ في فترة ازدهار الأفكار الفلسفية والعلمية التي أعطت الأولوية للعقل.
في مقالته المؤثرة « الرسم الحداثي» (1961)، وصفَ غرينبيرغ إيمانويل كانط – الفيلسوف الألماني في عصر التنوير – بأنّه «أول حداثي حقيقي». كان أسلوب كانط في «النقد» هو استخدام العقل لنقد العقل بغرض توضيحه، ومنحه استقلالية عن أنواع التفكير الأخرى.
«أولمبيا» - إدوارد مانيه (1863). بالنسبة إلى كليمنت غرينبيرغ، كان مانيه أول رسام حداثي. لقد رسم مانيه لوحاته بأسلوبٍ مسطّح بشكلٍ متعمد.«أولمبيا» – إدوارد مانيه (1863). بالنسبة إلى كليمنت غرينبيرغ، كان مانيه أول رسام حداثي. لقد رسم مانيه لوحاته بأسلوبٍ مسطّح بشكلٍ متعمد.
بالطريقة نفسها، كان الرسامون الحداثيون – من إدوارد مانيه في القرن التاسع عشر إلى موريس لويس، وهو رسام يعمل ينتمي إلى رسامي أسلوب مجال ألوان في الولايات المتحدة في الوقت الذي كتب فيه غرينبيرغ مقالته – يعملون على ترسيخ الفن التعبيري «بشكل صارم في مجال تخصصه».
رأى غرينبيرغ أن وضوح الفن التجريدي -الذي كان صادقًا بالنسبة إلى الوسيط الذي يُعبّر من خلاله- معارضٌ لـ«الفن الشعبي المبتذل [الكيتش]» الذي ينُتج على نطاق واسع في الثقافة الشعبية. إن إزالة «الكيتش» كانت مسألة استجلاء وتوضيح تحتاجها جميع الفنون لكي تصبح تعبيرًا عن إمكاناتها الجمالية الكامنة.
اللوحات مسطّحة، وإيهام العمق الذي نجده في معظم الفن الغربي كان انحرافًا عن جوهر فن الرسم ذاته. كانت استقلالية الشكل الفني في جميع خصائصه دون أن تتلوث بأشكال فنية أخرى. وفقًا لغرينبيرغ، يعدّ الشكل واللون من أهم خصائص الرسم، و أفضل تمثيل لها يكون بشكلٍ مسطّح.
وهكذا دافع غرينبيرغ عن «التسطيح» الذي تجلّى في لوحات الفنانين الأمريكيين التجريدية مثل جاكسون بولوك باعتباره تحقيقًا لهذا الوضوح الحداثي. لقد ضم هؤلاء الفنانين معًا ضمن فريق واحد، وهم يمثّلون المرحلة التالية في الحداثة، وقد حلّت رؤيتهم الأمريكية المميزة محلّ الفن الأوروبي الطليعي.
وفي الوقت الذي أصبح فيه الفن التجريدي الأمريكي مهيمنًا، تراجعت هيمنة غرينبيرغ النقدية، وظهرت أشكال جديدة من الفن الطليعي، مستوحاة مباشرة من الثقافة الجماهيرية، وحلّت محلّ التعبيرية التجريدية في المخيال العام. تبنى فنانوّ «البوب» مثل: آندي وارهول، وريتشارد هاميلتون هذا النوع من «الفن الشعبي المبتذل» الذي رآه غرينبيرغ تلويثًا للفن الحقيقي.
استمرت الأعمال الفنية التجريدية، ولكن تخلّى الفنّانون التجريديون الأكثر جرأة عن الفكرة الصارمة «للنقد الحداثي»، وعن الوضوح المتعلق بخصوصية الوسيط الفني، وذلك لصالح أشكال أخرى من التعبير.
نظر فنانوّ «ما بعد الحداثة» إلى السخرية وعملية الرسم نفسها، كطرق لتجاوز الطريق المسدود للحداثة. تبنى الألماني غيرهارد ريختر كلا النهجين؛ فبعض أعماله التجريدية في الستينيات كانت مصنوعة بممسحاتٍ بدلًا من الفرشاة، حتى يتمكن من لفت الانتباه إلى عملية صنع اللوحة نفسها.
كانت «اللوحات التجريدية» البارزة الأخرى التي رسمها ريختر في الواقع صورًا واقعية مرسومة بعناية تعكس لوحاته التجريدية الأخرى. أصبحت طلائعية الرسم التجريدي مفهومية أكثر، ما جعل ضمنيًّا قضية الرسم تحظى باستقلالية أقل مما كان كان يعتقد النقاد الحداثيون.
قلّد فنانوّ «نيو جيو»، مثل: الرسام بيتر هالي، والنحات أشلي بيكرتون اللغة البصرية للتجريد الهندسي، لكنهما دمجاها مع السلع الاستهلاكية بألوانٍ تجارية فاتحة وأحيانًا فلورية.
منذ ذلك الجيل ما بعد الحداثي من الرسامين والنحاتين الممتد من الستينيات إلى التسعينيات، ازدهر التجريد متفرّعًا إلى عددٍ لا يُحصى من الأساليب والمقاربات بجوار الفن التشخيصي. هنا يمكن القول إنّ التجريد المتحرّر من عبء التوقعات الحداثية هو ببساطة نهج للتعبير مثل أيّ نهج آخر.
وتجدر الإشارة إلى أنّ بعض الفنانين التجريديين استخدموا الحيل البصرية المستعملة في الفن التشخيصي – مثل المنظور والتظليل – في لوحاتهم. ولاستخدامهم هذا أهداف فريدة و غالبًا لا تهتم بالنظرية.
قلّد فنانوّ «ما بعد الحداثة» مثل: بيتر هالي اللغة البصرية المستعملة في الفن التجريدي الحديث (في حالة بيتر، التجريد الهندسي)، للتعليق على طبيعة الفن والمعنى نفسه. تمثّل هذه الكتل الملونة «الخلايا» و«الأنابيب».قلّد فنانوّ «ما بعد الحداثة» مثل: بيتر هالي اللغة البصرية المستعملة في الفن التجريدي الحديث (في حالة بيتر، التجريد الهندسي)، للتعليق على طبيعة الفن والمعنى نفسه. تمثّل هذه الكتل الملونة «الخلايا» و«الأنابيب».
هذا هو التحرّر نحو الأفضل بين الرسامين التجريديين الذين يمكنهم الالتزام برؤيةٍ فريدة بالرسم على القماش. لكن فكّ ارتباط الفن التجريدي عن إطاره الفلسفي الأوسع أدى أيضًا إلى انتشارٍ يثير التساؤل لأعمال تجريدية متنوعة قابلة للاستهلاك – بمعنى أنّها فقدت قيمتها، وباتت تُباع وتُشترى سريعًا بأسعارٍ مربحة – يشتريها المشترون المتضاربون.
دفع هذا التحول الناقد جيري سالتز إلى كتابة: « الزومبي على الجدران: لماذا يبدو الكثير من التجريد الجديد متشابهًا؟». وقد شبه اللّوحات التجريدية بصورة «الزومبي»، تحقيرًا لأعمال عددٍ من الرسامين التجريديين البارزين، الذين استخدموا الفنّ وجماليته لتقديم أعمال مبتذلة.
ومن المفارقات أن هؤلاء الفنانين نظروا إلى الشكلانية بوصفها فنًّا حداثيًّا متبنّين منظور غرينبيرغ، لكنهم بالطبع قدّموا أعمالًا في ظلّ فراغ تاريخي وبعد فترةٍ طويلة حين لم يُصبح التجريد مثيرًا للاهتمام أو راديكاليًا بأي وجه من الوجوه.
في الواقع، لم يصل مشروع الحداثة في الفن التجريدي إلى نهايته، بل النقد. إنّ النقد -أيّ الإطار الفلسفي الواسع الذي يصادق على الأعمال الفنية ويثمّنها لأهميتها الثقافية والتاريخية- هو ما فقد التوجه والسلطة.
كان مسار الفن الغربي منذ عصر التنوير يتأرجح بين قطبي الدوغمائية النقدية والإبداع. تكمن المشكلة أنه في العقود الأخيرة، وفي ظلّ غياب أي مشروع نقدي متماسك، انجرف الفن نحو إرضاء اهتمامات دقيقة ومتنوعة تزداد باستمرار.
في حين كانت هناك «حركات» و«مدارس» فنية -مصطلحان يشيران إلى الوجهة والانضباط- لم يعد لدينا الآن سوى «مشاهد».
هذا ليس بالضرورة أمرًا سيئًا. ولكن في عالم حيث «كل شيء مقبول – anything goes»، لا يوجد مجال لهذا النوع من الابتكار والتجاوز الذي أدى إلى ظهور الفن التجريدي في الغرب، وهذا ما جعل الفن الحديث فنًّا مثيرًا للغاية.
من الصعب في هذه اللحظة التاريخية أن ندرك ما الذي جعل لوحة بولوك «رقم 32» مثيرة للانقسام، ومخلخلةً جدًا للمعايير، وفي الوقت نفسه محتفظةً بقيمةٍ عالية جدًا لأولئك الذين يعتقدون أن للفنِّ مكانًا في المجتمع يتجاوز المتعة.
[divider style=”solid” top=”20″ bottom=”20″]
[1] واللقب كذلك يُلمح إلى القاتل المتسلسل في لندن آخر القرن التاسع عشر: جاك السفّاح
Jack the ripper (مدير التحرير).
### خارج عقلك | توم تشاتفيلد – ت: محمد السعيد
عندما يكون هاتفي النقال بين يديّ، هل أكون أنا الشخص نفسه لو كان الهاتف في غرفة أخرى؟ من ناحية،...
### الدراما في التعليم: مقاربات وتطبيقات | نعيم حيماد
افتتاحيّة حظي استخدام الدراما في التعليمفي السنوات الأخيرة باهتمام كبير من قبل نخبة من المنظرين والممارسين للدراما في مجال التعليم....
### الحقائق المخفية | دي بي سي بيير – ت: محمد السعيد
يحمل جبل كلسي خشن في غرب إيران عددًا من النقوش البارزة، من بينها لوحة طولها خمسة وعشرين مترًا منقوشة...
### التغلُّب على كاشف الكذب | كلاريسا سيباغ-مونتِنفيوري – ت: محمد السعيد
حين اتُّهِمَتْ مربية الأطفال البريطانية لويز وودورد بهزِّ رضيع حتى الموت في مدينة نيوتن بولاية ماساتشوستس، لم تكتفِ بإعلان...
### عن منصة معنى
«معنى»، مؤسسة ثقافية تقدّمية ودار نشر تهتم بالفلسفة والمعرفة والفنون، عبر مجموعة متنوعة من المواد المقروءة والمسموعة والمرئية. انطلقت في 20 مارس 2019، بهدف إثراء المحتوى العربي، ورفع ذائقة ووعي المتلقّي المحلي والدولي، عبر الإنتاج الأصيل للمنصة والترجمة ونقل المعارف.
### روابط سريعة
### التصنيفات
### مرحبا بك!
قم بتسجيل الدخول إلى حسابك
تذكرني
### قم بإنشاء حساب جديد!
املأ النموذج أدناه للتسجيل
### طلب إعادة تعيين كلمة المرور
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان البريد الإلكتروني لإعادة تعيين كلمة المرور الخاصة بك.
### Add New Playlist
- Select Visibility -PublicPrivate
No Result
عرض جميع النتائج
-
00:00
00:00
-
00:00
00:00
|
article
|
Arabic
|
ar
|
الفنّ التجريدي: بين الماضي والحاضر - منصة معنى الثقافية
|
https://mana.net/abstract-art/
|
1,930 |
نظر فنانوّ «ما بعد الحداثة» إلى السخرية وعملية الرسم نفسها، كطرق لتجاوز الطريق المسدود للحداثة. تبنى الألماني غيرهارد ريختر كلا النهجين؛ فبعض أعماله التجريدية في الستينيات كانت مصنوعة بممسحاتٍ بدلًا من الفرشاة، حتى يتمكن من لفت الانتباه إلى عملية صنع اللوحة نفسها.
|
paragraph
|
لا توجد منتجات في سلة المشتريات.
No Result
عرض جميع النتائج
الثلاثاء, سبتمبر 10, 2024
No Result
عرض جميع النتائج
No Result
عرض جميع النتائج
# الفنّ التجريدي: بين الماضي والحاضر
## ترجمة: أنطونيوس نادر
AA
AA
إعادة تعيين
فنٌ مليء بالتحديات
ثمّة خطٌ رفيع يفصل بين الفن التجريدي ومجرد الزخرفة، ولوحة «رقم 32» (نُشرت عام 1950)، لجاكسون بولوك تتأرجح بين هذا الخطّ. فهي لا تشير إلى معنىً واضح، ولكن لا يمكن القول إنّها بلا معنى على الإطلاق. كما أنّها ليست معبّرة بشكلٍ مباشر، ولا يعني هذا أنها لا تعبّر عن مدلولٍ ما. تحمل هذه اللوحة الكثير من المضامين عن الفن الغربي بالنسبة إلى شخصٍ خبيرٍ في تاريخ الفن؛ أما بالنسبة إلى شخصٍ عادي، فقد يراها عملًا مبتذلًا بالكاد يعبّر عن أمرٍ ما.
اللوحة شبكة من الخطوط وبقعٍ من الألوان، رُسمت عن طريق صبّ طلاءٍ رخيص بعشوائيةٍ مباشرة على القماش. تتكون اللوحة من طلاءٍ أسود فقط وقماشٍ خام. واللوحة ضخمة؛ إذ يبلغ طولها تسعة أقدام وعرضها خمسة عشر قدمًا، وتغطي مجال رؤية المشاهد أثناء اقترابه منها. تقليديًّا، حتى اللوحات التجريدية تتكون من أجزاءٍ مترابطة مع بؤر تركيز (emphases) وعمقٍ يُنقل من خلال اللون والظلال، ولكن «رقم 32» ليس لها أجزاء؛ إنّها تتكون من تعالقات، والبؤرة فيها تكمن عبر امتداد سطح القماش المستطيل.
يمنحها ما سبق عمقًا سطحيًا، وربما لا عمق فيها: مجرّد طلاء على قماش. إنّها عبث بالشكل واللون. حتى اسمها، ببساطة رقمٌ معيّن – رقم 32 – يجعلها تنأى بنفسها عن أي فكرة مفادها أنها تعكس مدلولًا محدّدًا. تشير عناوين أعمال بولوك الأخرى إلى نوعٍ من الاختبار الشخصي، وإلى الاستخدام السمفوني المتعدد الطبقات للون والملمس؛ خذ مثلًا لوحاته التي تحمل اسم: «إيقاع الخريف»، و«الضباب الأرجواني»، و«الأقطاب الزرقاء»، و«انعكاس الدنقلة الكبير».
هذا لا ينطبق على لوحة «رقم 32»؛ شكلها الخام وبساطتها دليل على أنّ الفنان لم يخطط مسبقًا لرسمها؛ أيّ أنّه لم ينتق الألوان ولا الطبقات. يبدو بولوك هنا أكثر حضورًا، من خلال لمساته الحادة. بالنسبة إلى مؤيديّ عمل بولوك، تختصر هذه اللوحة خلاصة نظرة الفنان الجمالية. أما بالنسبة للبعض الآخر، فهي لوحة مبتذلة.
وصف جوزيف بويس -النحات الألماني في فترة ما بعد الحرب- الفنَّ التجريدي الأمريكي بأنه مجرد «تغليف»، أيّ سطح بلا محتوى. في هذا الصدد، قد يتفق البعض أن لوحة «رقم 32» تجسد فراغ الفكر والشعور ذاك. فقد رأى الروائي والناقد الفني روبرت كوتس أن فن بولوك لم يكن سوى «انفجارات» غير منظمة من الطاقة العشوائية. غير أنّ طائفة كبيرة من متذوقي الفن التجريدي لا تروق إليهم أعمال بولوك ويرونها فنًّا محيرًا، حتى إنّ بعضهم يراها إهانةً للذوق أو الحسّ السليم.
عُرف بولوك بلقب: «جاك فنان النقط» (Jack the Dripper) [1] في الأوساط الإعلامية المشككة بعمله حيث ادعى كثر أن أيّ شخص يمكنه أن يرسم كما يرسم بولوك إلّا أنّ أحدًا لم يتجرأ على فعل ذلك.
«رقم 32» - جاكسون بولوك«رقم 32» – جاكسون بولوك
بيد أنّ هذا هو مغزى الفن التجريدي في التقليد الغربي: إنّه تحدّ. وفي ظل الكثير هذه التحديات، تُعد لوحة « رقم 32» اللوحة الأكثر تمثيلًا لهذا الفن.
قصة الفنّ التجريدي
مسار قصة الفن التجريدي مضمّنة في الدراسات التاريخية الفنية، إلّا أنّ المحطات الرئيسة لهذا المسار كانت محط تغييرات مفاجئة كلما اكتشف مؤرخوّ الفن حقائق جديدة.
انطلق مسار الفن التجريدي بدءًا من القرن التاسع عشر وما تلاه؛ حيث استفاد الفنانون من مادة الطلاء والجوانب الشكلية للرسم مثل اللون والدرجة والخطوط. يُعرف هذا الانشغال بالجوانب غير التمثيلية (non-representative) للفن باسم «الشكلانية»، لأنّه انشغال «بالشكل»، أيّ بتوسل شكل المحتوى بدلًا من المحتوى في ذاته. بالنسبة إلى الفنانين في القرن التاسع عشر، صُنّف الفن التجريدي على أنّه «فنٌّ من أجل الفنّ»، وكانت الفكرة الشائعة مفادها أنّ المتذوق للفن يمكنه الاستمتاع بالعمل دون اللجوء إلى معنى أو حتى أي شيء آخر يمثل أمرًا ما.
تمثّل لوحة «الموسيقى الهادئة باللّونين الأسود والذهبي – الصاروخ الساقط» (1872)، للفنان جيمس مكنيل ويسلر هذا الاتجاه الذي تبلور لاحقًا في الفن التجريدي. إنّ مشهد ويسلر الغامض من الناحية المكانيّة يقترب إلى التجريد، وذلك بمحاولته نقل الشعور أو الانطباع الخاص بالمشهد بدلًا من إعادة إنتاجه بحذافيره.
«الموسيقى الهادئة باللونين الأسود والذهبي - الصاروخ الساقط» (1872-1877) - جيمس أبوت مكنيل ويسلير«الموسيقى الهادئة باللونين الأسود والذهبي – الصاروخ الساقط» (1872-1877) – جيمس أبوت مكنيل ويسلير
في عام 1877، انتقد جون روسكين – أبرز نقّاد بريطانيا في ذلك الوقت – عمل ويسلير هذا نقدًا لاذعًا فشبهه «بمن قام برمي الطلاء في وجه الجمهور». تأثر ويسلر بهذا الكلام، فرفع دعوى قضائية ضد روسكين، بيد أنّه خسرها لأن المسؤولين عرضوا اللوحة -خطأً- مقلوبةً على المحكمة. أفلس ويسلير بسبب هذه القضية، لكن مسيرة تطور الفن التجريدي استمرت.
من ناحيةٍ أخرى، تحديد أول فنان تجريدي في العالم موضوع نزاع. في نظر أبحاث تاريخ الفن التقليدية، كان فاسيلي كاندينسكي – فنان روسي الجنسية رسم لوحات تجريدية بالكامل في مطلع عام 1911- هو أول فنان تجريدي.
لم ينل الفن التجريدي الرائد لهيلما أف كلينت تقديرًا إلا قبل سنوات قريبة. هذه صورة للمعرض الشهير في متحف غاغينهايم، عام 2018 .لم ينل الفن التجريدي الرائد لهيلما أف كلينت تقديرًا إلا قبل سنوات قريبة. هذه صورة للمعرض الشهير في متحف غاغينهايم، عام 2018 .
ولكن في الآونة الأخيرة، وبفضل المعرض الرائد في متحف مقاطعة لوس أنجلوس للفنون في عام 1986 الذي حمل اسم «الروحانية في الفن: الرسم التجريدي 1890 – 1985»، وقع الاختيار على هيلما أف كلينت كأول رسامة تجريدية. بدأت كلينت في رسم لوحات تجريدية بدءًا من عام 1906، وحملت مجموعتها عنوان «الفوضى البدائية». كانت الفنانة متكتمة في ما يتعلق بأعمالها التجريدية، ولم تُعرض أيّ منها في معارض عامة، وبقيت غير معروفة حتى أزيح عنها الستار مؤخرًا.
ولعل الجدال حول هوية أول من مارس الفن التجريدي سيستم، لكن الحقيقة الأكثر أهمية هي أن العديد من الفنانين الأوروبيين البارزين قد توصّلوا في أعمالهم إلى التجريد بحلول الحرب العالمية الأولى. لقد وجد كل منهم طريقته الخاصة في التخلي عن الفن التشخيصي (figurative painting). وجديرٌ بالذكر أنّه لم تكن هناك حركة «تجريدية» دولية ذات رؤية أو بيان مشترك.
في ضوء ذلك، فإن السؤال الملحّ حقًا هو: لمَ لمْ يتبنى الفنانون الغربيون الفن التجريدي على امتداد قرون عديدة؟ لماذا كان التجريد غير ضروري أو لا معنى له أو غير مناسب أو حتى لا يمكن تقبّله لقرونٍ متوالية في الفن الغربي؟
ظهرت العديد من التفسيرات لشرح ذلك. إحدى النظريات الأكثر وضوحًا هي أن ظهور التصوير الفوتوغرافي بوصفه شكلًا من أشكال الفن، إضافةً إلى تطور الفن الحديث، سببان رئيسان لإزاحة الرسم التشخيصي.
ثمّة إجابات أخرى غير ملموسة لاستكشاف الأسباب: ربما عندما أصبحت الأعمال الفنية قابلة للاستهالاك بشكل متزايد، مثل السلع، بات من السهولة فصل اللوحات والمنحوتات عن التجارب المحددة لمبدعيها. ربما أدت الحداثة في الغرب إلى إفراغ الفن من المحتوى التشخيصي؛ مما دفع الفنانين أيضًا إلى التخلي عن التمثيل التشخيصي.
كل من هذه الإجابات معقدة وتتطلب الكثير من الشرح، ولا يمكن إلا أن تكون تخمينات. لا توجد إجابة واضحة لهذه المسألة. ربما يكون من الأفضل طرح السؤال حول سبب تقبّل الفن التجريدي فنًّا من الفنون الرسمية في تاريخ الفن الغربي في مرحلة معينة على علماء الأنثروبولوجيا بدلًا من طرحها على مؤرخي الفن. فما هو واضح أن الفن التجريدي كان موجودًا دائمًا في مناطق أخرى من العالم.
ما جعل الفن التجريدي فنًّا حديثًا على وجه التحديد في العالم الغربي هو نظام المعارض، الذي أعطى القيمة الفنية للأعمال المعروضة. وكما هو واضح فقد ازدهر التجريد لآلاف السنين المناطق الشرقية والجنوبية من العالم، دون عناء التحقق من مكانة الأعمال المعروضة في الصالونات [والمعارض، كما هو في العالم الغربي].
الواقع الافتراضي و«الافتراضية»
يتبنى بيبي كرمل وهو مؤرخ فني، في كتابه « الفن التجريدي: تاريخ عالمي»، فكرة أنّ الفن التجريدي كان دائمًا موجودًا بشكل طبيعي عندما ننظر إليه نظرة شاملة وعالمية، بيد أنّه يتحاشى طرح نظرية عن تطور الفن التجريدي. بالنسبة إلى كرمل، فإنّ هذا الفنّ متجذر في العالم الحقيقي، وهو ليس فنًّا «مجردًا» على الإطلاق، كما أنّه تقليد عالمي وليس محليًا.
في دراسته حول الفن التجريدي يقسم العمل الفني إلى خمس فئات واسعة تنتمي إلى العالم الحقيقي: الأجسام، والمناظر الطبيعية، والكون، والبنى، والعلامات والأنماط. من خلال فحص الفن التجريدي بهذه الطريقة، يرى كرمل في اللوحات التجريدية موضوعات قابلة للتحليل، بعكس النقاد والمؤرخين الأرثوذكسيين الذين رأوا فيها مجرّد توليفات شكلية مكوّنة من لون وشكل.
ربما يكون من الأفضل أن يطلق على الفن التجريدي: فن ما تم تجريده (abstracted art)؛ لأنّ الفنانين التجريديين عادةً ما يستخلصون ويجرّدون تعبيرات التجارب في شكل ولون، أكثر من كونها توليفات مكونة من شكل ولون. ومرّد ذلك الطبيعة الجوهرية للرسم والنحت؛ فهما (الشكل اللّون) وسيطان للتعبير، مثل الشاشة أو المسرح لخيال الفنان. كما هو الحال في المسرح أو السينما، فإنّ جمهور اللوحة أو المنحوتة يعلّق معتقداته من أجل أن يتقبل المشهد.
من المفيد التفكير في اللوحة التشخيصية التقليدية أو النحت على أنها حقيقة افتراضية. إذْ استخدم الفنانون لقرون عديدة الحيل البصرية -مثل المنظور الخطي، والتقصير المسبق، والتظليل- لمحاكاة الطريقة التي ندرك بها الأشياء في الفضاء الحقيقي. إنّ المشاهد تُنشأ في فضاء افتراضي – سواء كانت القاعدة التي تدعم التمثال أو القماش – ليراها المشاهدون بوصفها خدعة بصرية.
«القديس بطرس شفاء أحد الأشخاص وبعث تابيثا من الموت» ماسولينو دي بانيكال. اعتمد الرسم الغربي قبل القرن العشرين على الحيل البصرية لخلق واقع افتراضي. إحدى هذه الحيل هي المنظور الخطي، وهذه اللوحة هي أول مثال لاستخدام نقطة تلاشٍ متسقة.«القديس بطرس شفاء أحد الأشخاص وبعث تابيثا من الموت» ماسولينو دي بانيكال. اعتمد الرسم الغربي قبل القرن العشرين على الحيل البصرية لخلق واقع افتراضي. إحدى هذه الحيل هي المنظور الخطي، وهذه اللوحة هي أول مثال لاستخدام نقطة تلاشٍ متسقة.
يستمتع مشاهدوّ الأعمال الفنية العظيمة معنى ما يُرسم، ويقدرون الطريقة التي يتجلّى فيها الوهم عبر تمازج اللون والشكل.
يبقى الفن التجريدي، إلى حدٍ ما، ضمن إطار التجربة الجمالية. فقد سعت حركات الفن الحديث التي أدت إلى التجريد -أيّ «مدارس الفن»، مثل الانطباعية والفاوفية والتكعيبية- إلى تمثيل العالم بشكل مختلف عن كل الفنون التي سبقتها. إذْ ادعوا الاقتراب من الحقيقة الذاتية عبر تهميش جميع الحيل الوهمية التقليدية التي حاولت إعادة إنتاج الواقع بحذافيره كحقيقة موضوعية.
«الأحمر والأصفر والأزرق» (1925) واسيلي كاندينسكي. كان كاندينسكي يعدّ لفترةٍ طويلة أب الرسم التجريدي الغربي.«الأحمر والأصفر والأزرق» (1925) واسيلي كاندينسكي. كان كاندينسكي يعدّ لفترةٍ طويلة أب الرسم التجريدي الغربي.
بالنسبة إلى هذه المدارس، أصبح الفن أقل من أن يوصف بأنّه واقع افتراضي، لكنه مع ذلك احتفظ بالافتراضية، وأصبح افتراضيًا. لقد أخذ الفن التجريدي مسار التطور هذا إلى أقصاه: من الواقع الافتراضي إلى الافتراضية.
ماذا تعني «الافتراضية» هنا؟ إنّها الوجود كجوهر وتأثير، ولكن بدون اللجوء إلى الواقع. اللوحة التجريدية التي رسمها كاندينسكي، على سبيل المثال، ما زالت تُعدّ علاقة متبادلة بين الشكل واللون، و تعتمد على الرسم كمستوى تخطيطي: إنها نافذة تطلّ على «الواقع» الفردي الذي تصوّره كاندينسكي.
وما تزال العناصر في لوحات كاندينسكي تحظى بعلاقة متبادلة، كما هو الحال في فضاء الواقع الافتراضي للوحة التشخيصية؛ فجوهر الرسم سليم إذ إنّ ذلك الفضاء الافتراضي ما زال موجودًا. عندما يكون الفن التجريدي بناءً خالصًا، ويتخلص من المساحة الافتراضية الملازمة للرسم والنحت، يصبح متميزًا عنهما.
وصف دونالد جود الفنان التخفيفي (minimalist) مثل هذه الأعمال الفنية بأنها «أجسام محدّدة» (Specific Objects). إنّه مصطلح غير دقيق، ولكنه يصلح لإظهار أن مثل هذه الأعمال الفنية ليست رسمًا ولا نحتًا، ولكنها فئة أخرى تمامًا.
رأى دونالد جود أن أعماله وأعمال العديد من معاصريه تشغل مساحة هجينة، لا هي لوحات ولا هي نحت. عمل دون عنوان لدونالد جود.
استخدم جود هذا المصطلح لوصف أعماله الخاصة، ولكنه ينطبق على لوحات كازيمير ماليفيتش وفرانك ستيلا أحادية اللون، والتي تجعل اللوحة تندمج مع نفسها بالكامل، من أجل الوصول للتأثير الذي يأمل العمل في تحقيقه.
في مثل هذه الأعمال، لم يعد قماش اللّوحة (أو القاعدة) سطحًا تتفاعل فيه الأشكال والألوان في الفضاء الافتراضي. بدلاً من ذلك، تتفاعل الأشكال والألوان في الفضاء الحقيقي، في فضائنا.
تختلف معايير النجاح أو الفشل لهذه الأعمال عن الخصائص التقليدية للرسم والنحت. رأى جود أنّ خصائص الرسم والنحت تقف في طريق ما أراد تحقيقه من خلال اللون والشكل. في رأيه، كان لـ «أجسامه المحددة» تأثيرًا أحدّ من غيرها.
الواقع والأشكال الجديدة للإدراك الحسّي
الرسم نفسه له ثلاثة أنواع عامة من التجريد؛ أولًا، ثمّة أسلوب تعبيري تُرسم فيه الأشكال بحركاتٍ غير مقيدة؛ ثم هناك التجريد الهندسي حيث يتم هيكلة الأشكال؛ أما النوع الثالث، فهو تجريد مجال اللون حيث يتم عرض مساحات من الألوان بطريقةٍ لا شكل واضح لها.
لم تكن هذه «الأنماط» (styles) أنماطًا عرضيةً أو تعتمد على ذوق أو ميل الرسام كوسيلة لتحقيق هدفٍ ما من البحث الفني. وخير مثال على ذلك هو الفنان الذي غالبًا ما ينظر إلى عمله على أنّه ذروة التجريد الهندسي: بيت موندريان. إنّ لوحات بيت موندريان المكونة من شبكات (grids) ذات الخطوط السوداء والأجزاء الملونة على خلفية بيضاء؛ تهدف إلى استحضار «حقيقة أعلى».
بالنسبة إلى موندريان، كان الفن في جوهره معارضًا للواقع؛ «لأن الواقع يتعارض مع الروحي». بغض النظر عن هذه اللوحة الأشهر لموندريان، فإنّ جوانب الرسم التي تهم هذا الفنان حقًا لم تكن الجوانب المحددة للموضوع -أيّ ماذا أو ما يتم تصويره في اللوحة مثلًا- بل الجوانب القابلة للفهم عالميًا للشكل والخط واللون. إنّ لوحات موندريان، مثلها مثل لوحات الفنانين الآخرين، هي محاولة لاستخلاص الشكل واللون من أجل الاقتراب من ذلك الجوهر العالمي والروحي للفن.
عبّر موندريان عن رغبته في الوصول إلى «أساس» الأشياء من خلال الحدس، كالعديد من الفنانين التجريديين الآخرين في النصف الأول من القرن العشرين الذين رغبوا في الوصول إلى قوى غير مرئية حولنا، ولكنها معروفة أو محدوسة.
«التكوين الثاني باللون الأحمر والأزرق والأصفر» (1930) - بيت موندريان«التكوين الثاني باللون الأحمر والأزرق والأصفر» (1930) – بيت موندريان
في أواخر القرن التاسع عشر، لاحظ العلماء بشكلٍ أفضل مما سبق القوى غير المرئية مع انتشار التقنيات الجديدة، وأصبح من الواضح أن العالم أرحب مما يبدو للعين. في الوقت نفسه، ظهرت حركات روحية بديلة جمعت بين الأفكار الأفلاطونية والتصوف.
كان كلينت وموندريان من بين العديد من الفنانين الذين انغمسوا في أشكال الروحانية خارج العوالم التقليدية للدين. اعتقدت كلينت أن لوحاتها هي وحي عالم روحي، وأن مهمتها كانت العمل «على مستوى روحاني» لتمثيل روح الإنسان، بدلًا من صورته الفانية.
بحلول عشرينيات القرن الماضي، كانت نظرية فرويد عن للعقل البشري قد تغلغلت أيضًا في عالم الفن. كذلك السريالية، وهي حركة منظمة بإحكام بدأت مع بعض الفنانين الذين سعوا إلى التنقيب عن الإمكانات الإبداعية للعقل الباطن، وهي الحركة الثقافية التي كانت سائدة في أوروبا بين الحربين العالميتين.
لم تكن السريالية دوغمائية في محاولتها لاستكشاف اللاوعي، ولذلك ظهر عدد من الأساليب والطرق لمحاولة إخراج اللاوعي إلى السطح. إحدى هذه الأساليب كان الرسم الآلي (Automatism)، وهي عملية يتخلى فيها الفنان عن السيطرة الواعية لليد التي ترسم أو تصور. في هذا المجال، تبنى الفنانون مثل أندريه ماسون وخوان ميرو الفرصة لبناء صورهم باستخدام حركات حرّة، وحتى إلقاء الطلاء على القماش.
طور أرشيل غوركي -هو مهاجر أرمني عاش في الولايات المتحدة- أسلوبًا في الرسم يدمج بين الرسم الآلي وتجريد مجال الألوان. لوحاته في الأربعينيات حجمُها ضخم – ومرد ذلك تأثره بأعماله السابقة كفنان جداري مُعيّن من الدولة خلال السنوات الأخيرة من الكساد الكبير – لكنها معبّرة وغنائية في الرسم بالفرشاة.
ألهم إدماج غوركي للأنماط جيلًا واسعًا من الفنانين الأمريكيين في فترة ما بعد الحرب لاحتضان التجريد الواسع النطاق. ما نسميه الآن «التعبيرية التجريدية»، وكان ذاك الجيل في الواقع مجموعة فضفاضة من الفنانين الذين يستخدمون أنماطًا متعدّدة من أنماط التجريد.
ربما كان القاسم المشترك بين هؤلاء الفنانين – على الأقل في السنوات الأولى – هو دعم جيل جديد من النقاد بقيادة كليمنت غرينبيرغ، الذي كان يعتقد أن التجريد هو التعبير الأسمى للفن الغربي.
«الكبد هو مشط الديك» (1944) - أرشيل جوركي.«الكبد هو مشط الديك» (1944) – أرشيل جوركي.
الحداثة ومصير الفنّ الغربي
كان يُعتقد في بعض الأوساط الفكرية المؤثرة أنّ الفن يتقدم نحو هدف؛ وهذا المضمون يشتمل عليه مصطلح «الطليعية» (Avant-garde)، الذي يُوصف به الفنّانون الذين يبتكرون أرضية جمالية جديدة. أصل المصطلح فرنسي يُطلق على الجنود الذين يتقدمون إلى مناطق جديدة.
بالنسبة إلى غرينبيرغ، لم يكن هؤلاء الفنّانون يوسّعون حدود إمكانات الفن؛ بل كانوا يتقدمون نحو الهدف الحقيقي والمفرد لكل شكل فني.
يُعدّ غرينبيرغ شخصية مهمة في تاريخ الفن التجريدي، وذلك لأمرين: بوصفه مناصرًا رائدًا في مسألة تفوق الفن التجريدي على غيره من أنواع الرسم، وتأكيده للقوة التي امتلكها هذا الفن. كان ناقدًا في اللجنة الأمريكية للحريّة الثقافية التي تمولها الدولة، وهي مجموعة تم إنشاؤها لتعزيز الفن الأمريكي على المستوى الدولي.
أصبحت أفكار غرينبيرغ مؤثرة عندما كانت الولايات المتحدة جزءًا من الحرب على الفاشية والنازية، وخلال الحرب الباردة اللاحقة ضد الشيوعية السوفيتية. كانت معايير الفن الفاشي والسوفياتي واضحة، وهي ما تحددها السلطات الثقافية أنها كذلك، بيد أنّه ما لم يكن واضحًا هو معايير الفن «الجيد» وتحديدًا في الغرب الديمقراطي.
كان الماركسيون هم من تعاطف مع غرينبيرغ في البداية، لكن ارتبط تفكيره بشكلٍ متزايد بالهيمنة الثقافية الأمريكية. بالنسبة إليه، كان التجريد في أعمال بولوك فنًا مثاليًا لمجتمع ديمقراطي. تتجلى الحداثة في الفن، وفقًا لغرينبيرغ، في إطار التنوير الأوروبي؛ أيّ في فترة ازدهار الأفكار الفلسفية والعلمية التي أعطت الأولوية للعقل.
في مقالته المؤثرة « الرسم الحداثي» (1961)، وصفَ غرينبيرغ إيمانويل كانط – الفيلسوف الألماني في عصر التنوير – بأنّه «أول حداثي حقيقي». كان أسلوب كانط في «النقد» هو استخدام العقل لنقد العقل بغرض توضيحه، ومنحه استقلالية عن أنواع التفكير الأخرى.
«أولمبيا» - إدوارد مانيه (1863). بالنسبة إلى كليمنت غرينبيرغ، كان مانيه أول رسام حداثي. لقد رسم مانيه لوحاته بأسلوبٍ مسطّح بشكلٍ متعمد.«أولمبيا» – إدوارد مانيه (1863). بالنسبة إلى كليمنت غرينبيرغ، كان مانيه أول رسام حداثي. لقد رسم مانيه لوحاته بأسلوبٍ مسطّح بشكلٍ متعمد.
بالطريقة نفسها، كان الرسامون الحداثيون – من إدوارد مانيه في القرن التاسع عشر إلى موريس لويس، وهو رسام يعمل ينتمي إلى رسامي أسلوب مجال ألوان في الولايات المتحدة في الوقت الذي كتب فيه غرينبيرغ مقالته – يعملون على ترسيخ الفن التعبيري «بشكل صارم في مجال تخصصه».
رأى غرينبيرغ أن وضوح الفن التجريدي -الذي كان صادقًا بالنسبة إلى الوسيط الذي يُعبّر من خلاله- معارضٌ لـ«الفن الشعبي المبتذل [الكيتش]» الذي ينُتج على نطاق واسع في الثقافة الشعبية. إن إزالة «الكيتش» كانت مسألة استجلاء وتوضيح تحتاجها جميع الفنون لكي تصبح تعبيرًا عن إمكاناتها الجمالية الكامنة.
اللوحات مسطّحة، وإيهام العمق الذي نجده في معظم الفن الغربي كان انحرافًا عن جوهر فن الرسم ذاته. كانت استقلالية الشكل الفني في جميع خصائصه دون أن تتلوث بأشكال فنية أخرى. وفقًا لغرينبيرغ، يعدّ الشكل واللون من أهم خصائص الرسم، و أفضل تمثيل لها يكون بشكلٍ مسطّح.
وهكذا دافع غرينبيرغ عن «التسطيح» الذي تجلّى في لوحات الفنانين الأمريكيين التجريدية مثل جاكسون بولوك باعتباره تحقيقًا لهذا الوضوح الحداثي. لقد ضم هؤلاء الفنانين معًا ضمن فريق واحد، وهم يمثّلون المرحلة التالية في الحداثة، وقد حلّت رؤيتهم الأمريكية المميزة محلّ الفن الأوروبي الطليعي.
وفي الوقت الذي أصبح فيه الفن التجريدي الأمريكي مهيمنًا، تراجعت هيمنة غرينبيرغ النقدية، وظهرت أشكال جديدة من الفن الطليعي، مستوحاة مباشرة من الثقافة الجماهيرية، وحلّت محلّ التعبيرية التجريدية في المخيال العام. تبنى فنانوّ «البوب» مثل: آندي وارهول، وريتشارد هاميلتون هذا النوع من «الفن الشعبي المبتذل» الذي رآه غرينبيرغ تلويثًا للفن الحقيقي.
استمرت الأعمال الفنية التجريدية، ولكن تخلّى الفنّانون التجريديون الأكثر جرأة عن الفكرة الصارمة «للنقد الحداثي»، وعن الوضوح المتعلق بخصوصية الوسيط الفني، وذلك لصالح أشكال أخرى من التعبير.
نظر فنانوّ «ما بعد الحداثة» إلى السخرية وعملية الرسم نفسها، كطرق لتجاوز الطريق المسدود للحداثة. تبنى الألماني غيرهارد ريختر كلا النهجين؛ فبعض أعماله التجريدية في الستينيات كانت مصنوعة بممسحاتٍ بدلًا من الفرشاة، حتى يتمكن من لفت الانتباه إلى عملية صنع اللوحة نفسها.
كانت «اللوحات التجريدية» البارزة الأخرى التي رسمها ريختر في الواقع صورًا واقعية مرسومة بعناية تعكس لوحاته التجريدية الأخرى. أصبحت طلائعية الرسم التجريدي مفهومية أكثر، ما جعل ضمنيًّا قضية الرسم تحظى باستقلالية أقل مما كان كان يعتقد النقاد الحداثيون.
قلّد فنانوّ «نيو جيو»، مثل: الرسام بيتر هالي، والنحات أشلي بيكرتون اللغة البصرية للتجريد الهندسي، لكنهما دمجاها مع السلع الاستهلاكية بألوانٍ تجارية فاتحة وأحيانًا فلورية.
منذ ذلك الجيل ما بعد الحداثي من الرسامين والنحاتين الممتد من الستينيات إلى التسعينيات، ازدهر التجريد متفرّعًا إلى عددٍ لا يُحصى من الأساليب والمقاربات بجوار الفن التشخيصي. هنا يمكن القول إنّ التجريد المتحرّر من عبء التوقعات الحداثية هو ببساطة نهج للتعبير مثل أيّ نهج آخر.
وتجدر الإشارة إلى أنّ بعض الفنانين التجريديين استخدموا الحيل البصرية المستعملة في الفن التشخيصي – مثل المنظور والتظليل – في لوحاتهم. ولاستخدامهم هذا أهداف فريدة و غالبًا لا تهتم بالنظرية.
قلّد فنانوّ «ما بعد الحداثة» مثل: بيتر هالي اللغة البصرية المستعملة في الفن التجريدي الحديث (في حالة بيتر، التجريد الهندسي)، للتعليق على طبيعة الفن والمعنى نفسه. تمثّل هذه الكتل الملونة «الخلايا» و«الأنابيب».قلّد فنانوّ «ما بعد الحداثة» مثل: بيتر هالي اللغة البصرية المستعملة في الفن التجريدي الحديث (في حالة بيتر، التجريد الهندسي)، للتعليق على طبيعة الفن والمعنى نفسه. تمثّل هذه الكتل الملونة «الخلايا» و«الأنابيب».
هذا هو التحرّر نحو الأفضل بين الرسامين التجريديين الذين يمكنهم الالتزام برؤيةٍ فريدة بالرسم على القماش. لكن فكّ ارتباط الفن التجريدي عن إطاره الفلسفي الأوسع أدى أيضًا إلى انتشارٍ يثير التساؤل لأعمال تجريدية متنوعة قابلة للاستهلاك – بمعنى أنّها فقدت قيمتها، وباتت تُباع وتُشترى سريعًا بأسعارٍ مربحة – يشتريها المشترون المتضاربون.
دفع هذا التحول الناقد جيري سالتز إلى كتابة: « الزومبي على الجدران: لماذا يبدو الكثير من التجريد الجديد متشابهًا؟». وقد شبه اللّوحات التجريدية بصورة «الزومبي»، تحقيرًا لأعمال عددٍ من الرسامين التجريديين البارزين، الذين استخدموا الفنّ وجماليته لتقديم أعمال مبتذلة.
ومن المفارقات أن هؤلاء الفنانين نظروا إلى الشكلانية بوصفها فنًّا حداثيًّا متبنّين منظور غرينبيرغ، لكنهم بالطبع قدّموا أعمالًا في ظلّ فراغ تاريخي وبعد فترةٍ طويلة حين لم يُصبح التجريد مثيرًا للاهتمام أو راديكاليًا بأي وجه من الوجوه.
في الواقع، لم يصل مشروع الحداثة في الفن التجريدي إلى نهايته، بل النقد. إنّ النقد -أيّ الإطار الفلسفي الواسع الذي يصادق على الأعمال الفنية ويثمّنها لأهميتها الثقافية والتاريخية- هو ما فقد التوجه والسلطة.
كان مسار الفن الغربي منذ عصر التنوير يتأرجح بين قطبي الدوغمائية النقدية والإبداع. تكمن المشكلة أنه في العقود الأخيرة، وفي ظلّ غياب أي مشروع نقدي متماسك، انجرف الفن نحو إرضاء اهتمامات دقيقة ومتنوعة تزداد باستمرار.
في حين كانت هناك «حركات» و«مدارس» فنية -مصطلحان يشيران إلى الوجهة والانضباط- لم يعد لدينا الآن سوى «مشاهد».
هذا ليس بالضرورة أمرًا سيئًا. ولكن في عالم حيث «كل شيء مقبول – anything goes»، لا يوجد مجال لهذا النوع من الابتكار والتجاوز الذي أدى إلى ظهور الفن التجريدي في الغرب، وهذا ما جعل الفن الحديث فنًّا مثيرًا للغاية.
من الصعب في هذه اللحظة التاريخية أن ندرك ما الذي جعل لوحة بولوك «رقم 32» مثيرة للانقسام، ومخلخلةً جدًا للمعايير، وفي الوقت نفسه محتفظةً بقيمةٍ عالية جدًا لأولئك الذين يعتقدون أن للفنِّ مكانًا في المجتمع يتجاوز المتعة.
[divider style=”solid” top=”20″ bottom=”20″]
[1] واللقب كذلك يُلمح إلى القاتل المتسلسل في لندن آخر القرن التاسع عشر: جاك السفّاح
Jack the ripper (مدير التحرير).
### خارج عقلك | توم تشاتفيلد – ت: محمد السعيد
عندما يكون هاتفي النقال بين يديّ، هل أكون أنا الشخص نفسه لو كان الهاتف في غرفة أخرى؟ من ناحية،...
### الدراما في التعليم: مقاربات وتطبيقات | نعيم حيماد
افتتاحيّة حظي استخدام الدراما في التعليمفي السنوات الأخيرة باهتمام كبير من قبل نخبة من المنظرين والممارسين للدراما في مجال التعليم....
### الحقائق المخفية | دي بي سي بيير – ت: محمد السعيد
يحمل جبل كلسي خشن في غرب إيران عددًا من النقوش البارزة، من بينها لوحة طولها خمسة وعشرين مترًا منقوشة...
### التغلُّب على كاشف الكذب | كلاريسا سيباغ-مونتِنفيوري – ت: محمد السعيد
حين اتُّهِمَتْ مربية الأطفال البريطانية لويز وودورد بهزِّ رضيع حتى الموت في مدينة نيوتن بولاية ماساتشوستس، لم تكتفِ بإعلان...
### عن منصة معنى
«معنى»، مؤسسة ثقافية تقدّمية ودار نشر تهتم بالفلسفة والمعرفة والفنون، عبر مجموعة متنوعة من المواد المقروءة والمسموعة والمرئية. انطلقت في 20 مارس 2019، بهدف إثراء المحتوى العربي، ورفع ذائقة ووعي المتلقّي المحلي والدولي، عبر الإنتاج الأصيل للمنصة والترجمة ونقل المعارف.
### روابط سريعة
### التصنيفات
### مرحبا بك!
قم بتسجيل الدخول إلى حسابك
تذكرني
### قم بإنشاء حساب جديد!
املأ النموذج أدناه للتسجيل
### طلب إعادة تعيين كلمة المرور
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان البريد الإلكتروني لإعادة تعيين كلمة المرور الخاصة بك.
### Add New Playlist
- Select Visibility -PublicPrivate
No Result
عرض جميع النتائج
-
00:00
00:00
-
00:00
00:00
|
article
|
Arabic
|
ar
|
الفنّ التجريدي: بين الماضي والحاضر - منصة معنى الثقافية
|
https://mana.net/abstract-art/
|
1,931 |
نظر فنانوّ «ما بعد الحداثة» إلى السخرية وعملية الرسم نفسها، كطرق لتجاوز الطريق المسدود للحداثة.
|
sentence
|
نظر فنانوّ «ما بعد الحداثة» إلى السخرية وعملية الرسم نفسها، كطرق لتجاوز الطريق المسدود للحداثة. تبنى الألماني غيرهارد ريختر كلا النهجين؛ فبعض أعماله التجريدية في الستينيات كانت مصنوعة بممسحاتٍ بدلًا من الفرشاة، حتى يتمكن من لفت الانتباه إلى عملية صنع اللوحة نفسها.
|
paragraph
|
Arabic
|
ar
|
الفنّ التجريدي: بين الماضي والحاضر - منصة معنى الثقافية
|
https://mana.net/abstract-art/
|
1,932 |
تبنى الألماني غيرهارد ريختر كلا النهجين؛ فبعض أعماله التجريدية في الستينيات كانت مصنوعة بممسحاتٍ بدلًا من الفرشاة، حتى يتمكن من لفت الانتباه إلى عملية صنع اللوحة نفسها.
|
sentence
|
نظر فنانوّ «ما بعد الحداثة» إلى السخرية وعملية الرسم نفسها، كطرق لتجاوز الطريق المسدود للحداثة. تبنى الألماني غيرهارد ريختر كلا النهجين؛ فبعض أعماله التجريدية في الستينيات كانت مصنوعة بممسحاتٍ بدلًا من الفرشاة، حتى يتمكن من لفت الانتباه إلى عملية صنع اللوحة نفسها.
|
paragraph
|
Arabic
|
ar
|
الفنّ التجريدي: بين الماضي والحاضر - منصة معنى الثقافية
|
https://mana.net/abstract-art/
|
1,933 |
كانت «اللوحات التجريدية» البارزة الأخرى التي رسمها ريختر في الواقع صورًا واقعية مرسومة بعناية تعكس لوحاته التجريدية الأخرى. أصبحت طلائعية الرسم التجريدي مفهومية أكثر، ما جعل ضمنيًّا قضية الرسم تحظى باستقلالية أقل مما كان كان يعتقد النقاد الحداثيون.
|
paragraph
|
لا توجد منتجات في سلة المشتريات.
No Result
عرض جميع النتائج
الثلاثاء, سبتمبر 10, 2024
No Result
عرض جميع النتائج
No Result
عرض جميع النتائج
# الفنّ التجريدي: بين الماضي والحاضر
## ترجمة: أنطونيوس نادر
AA
AA
إعادة تعيين
فنٌ مليء بالتحديات
ثمّة خطٌ رفيع يفصل بين الفن التجريدي ومجرد الزخرفة، ولوحة «رقم 32» (نُشرت عام 1950)، لجاكسون بولوك تتأرجح بين هذا الخطّ. فهي لا تشير إلى معنىً واضح، ولكن لا يمكن القول إنّها بلا معنى على الإطلاق. كما أنّها ليست معبّرة بشكلٍ مباشر، ولا يعني هذا أنها لا تعبّر عن مدلولٍ ما. تحمل هذه اللوحة الكثير من المضامين عن الفن الغربي بالنسبة إلى شخصٍ خبيرٍ في تاريخ الفن؛ أما بالنسبة إلى شخصٍ عادي، فقد يراها عملًا مبتذلًا بالكاد يعبّر عن أمرٍ ما.
اللوحة شبكة من الخطوط وبقعٍ من الألوان، رُسمت عن طريق صبّ طلاءٍ رخيص بعشوائيةٍ مباشرة على القماش. تتكون اللوحة من طلاءٍ أسود فقط وقماشٍ خام. واللوحة ضخمة؛ إذ يبلغ طولها تسعة أقدام وعرضها خمسة عشر قدمًا، وتغطي مجال رؤية المشاهد أثناء اقترابه منها. تقليديًّا، حتى اللوحات التجريدية تتكون من أجزاءٍ مترابطة مع بؤر تركيز (emphases) وعمقٍ يُنقل من خلال اللون والظلال، ولكن «رقم 32» ليس لها أجزاء؛ إنّها تتكون من تعالقات، والبؤرة فيها تكمن عبر امتداد سطح القماش المستطيل.
يمنحها ما سبق عمقًا سطحيًا، وربما لا عمق فيها: مجرّد طلاء على قماش. إنّها عبث بالشكل واللون. حتى اسمها، ببساطة رقمٌ معيّن – رقم 32 – يجعلها تنأى بنفسها عن أي فكرة مفادها أنها تعكس مدلولًا محدّدًا. تشير عناوين أعمال بولوك الأخرى إلى نوعٍ من الاختبار الشخصي، وإلى الاستخدام السمفوني المتعدد الطبقات للون والملمس؛ خذ مثلًا لوحاته التي تحمل اسم: «إيقاع الخريف»، و«الضباب الأرجواني»، و«الأقطاب الزرقاء»، و«انعكاس الدنقلة الكبير».
هذا لا ينطبق على لوحة «رقم 32»؛ شكلها الخام وبساطتها دليل على أنّ الفنان لم يخطط مسبقًا لرسمها؛ أيّ أنّه لم ينتق الألوان ولا الطبقات. يبدو بولوك هنا أكثر حضورًا، من خلال لمساته الحادة. بالنسبة إلى مؤيديّ عمل بولوك، تختصر هذه اللوحة خلاصة نظرة الفنان الجمالية. أما بالنسبة للبعض الآخر، فهي لوحة مبتذلة.
وصف جوزيف بويس -النحات الألماني في فترة ما بعد الحرب- الفنَّ التجريدي الأمريكي بأنه مجرد «تغليف»، أيّ سطح بلا محتوى. في هذا الصدد، قد يتفق البعض أن لوحة «رقم 32» تجسد فراغ الفكر والشعور ذاك. فقد رأى الروائي والناقد الفني روبرت كوتس أن فن بولوك لم يكن سوى «انفجارات» غير منظمة من الطاقة العشوائية. غير أنّ طائفة كبيرة من متذوقي الفن التجريدي لا تروق إليهم أعمال بولوك ويرونها فنًّا محيرًا، حتى إنّ بعضهم يراها إهانةً للذوق أو الحسّ السليم.
عُرف بولوك بلقب: «جاك فنان النقط» (Jack the Dripper) [1] في الأوساط الإعلامية المشككة بعمله حيث ادعى كثر أن أيّ شخص يمكنه أن يرسم كما يرسم بولوك إلّا أنّ أحدًا لم يتجرأ على فعل ذلك.
«رقم 32» - جاكسون بولوك«رقم 32» – جاكسون بولوك
بيد أنّ هذا هو مغزى الفن التجريدي في التقليد الغربي: إنّه تحدّ. وفي ظل الكثير هذه التحديات، تُعد لوحة « رقم 32» اللوحة الأكثر تمثيلًا لهذا الفن.
قصة الفنّ التجريدي
مسار قصة الفن التجريدي مضمّنة في الدراسات التاريخية الفنية، إلّا أنّ المحطات الرئيسة لهذا المسار كانت محط تغييرات مفاجئة كلما اكتشف مؤرخوّ الفن حقائق جديدة.
انطلق مسار الفن التجريدي بدءًا من القرن التاسع عشر وما تلاه؛ حيث استفاد الفنانون من مادة الطلاء والجوانب الشكلية للرسم مثل اللون والدرجة والخطوط. يُعرف هذا الانشغال بالجوانب غير التمثيلية (non-representative) للفن باسم «الشكلانية»، لأنّه انشغال «بالشكل»، أيّ بتوسل شكل المحتوى بدلًا من المحتوى في ذاته. بالنسبة إلى الفنانين في القرن التاسع عشر، صُنّف الفن التجريدي على أنّه «فنٌّ من أجل الفنّ»، وكانت الفكرة الشائعة مفادها أنّ المتذوق للفن يمكنه الاستمتاع بالعمل دون اللجوء إلى معنى أو حتى أي شيء آخر يمثل أمرًا ما.
تمثّل لوحة «الموسيقى الهادئة باللّونين الأسود والذهبي – الصاروخ الساقط» (1872)، للفنان جيمس مكنيل ويسلر هذا الاتجاه الذي تبلور لاحقًا في الفن التجريدي. إنّ مشهد ويسلر الغامض من الناحية المكانيّة يقترب إلى التجريد، وذلك بمحاولته نقل الشعور أو الانطباع الخاص بالمشهد بدلًا من إعادة إنتاجه بحذافيره.
«الموسيقى الهادئة باللونين الأسود والذهبي - الصاروخ الساقط» (1872-1877) - جيمس أبوت مكنيل ويسلير«الموسيقى الهادئة باللونين الأسود والذهبي – الصاروخ الساقط» (1872-1877) – جيمس أبوت مكنيل ويسلير
في عام 1877، انتقد جون روسكين – أبرز نقّاد بريطانيا في ذلك الوقت – عمل ويسلير هذا نقدًا لاذعًا فشبهه «بمن قام برمي الطلاء في وجه الجمهور». تأثر ويسلر بهذا الكلام، فرفع دعوى قضائية ضد روسكين، بيد أنّه خسرها لأن المسؤولين عرضوا اللوحة -خطأً- مقلوبةً على المحكمة. أفلس ويسلير بسبب هذه القضية، لكن مسيرة تطور الفن التجريدي استمرت.
من ناحيةٍ أخرى، تحديد أول فنان تجريدي في العالم موضوع نزاع. في نظر أبحاث تاريخ الفن التقليدية، كان فاسيلي كاندينسكي – فنان روسي الجنسية رسم لوحات تجريدية بالكامل في مطلع عام 1911- هو أول فنان تجريدي.
لم ينل الفن التجريدي الرائد لهيلما أف كلينت تقديرًا إلا قبل سنوات قريبة. هذه صورة للمعرض الشهير في متحف غاغينهايم، عام 2018 .لم ينل الفن التجريدي الرائد لهيلما أف كلينت تقديرًا إلا قبل سنوات قريبة. هذه صورة للمعرض الشهير في متحف غاغينهايم، عام 2018 .
ولكن في الآونة الأخيرة، وبفضل المعرض الرائد في متحف مقاطعة لوس أنجلوس للفنون في عام 1986 الذي حمل اسم «الروحانية في الفن: الرسم التجريدي 1890 – 1985»، وقع الاختيار على هيلما أف كلينت كأول رسامة تجريدية. بدأت كلينت في رسم لوحات تجريدية بدءًا من عام 1906، وحملت مجموعتها عنوان «الفوضى البدائية». كانت الفنانة متكتمة في ما يتعلق بأعمالها التجريدية، ولم تُعرض أيّ منها في معارض عامة، وبقيت غير معروفة حتى أزيح عنها الستار مؤخرًا.
ولعل الجدال حول هوية أول من مارس الفن التجريدي سيستم، لكن الحقيقة الأكثر أهمية هي أن العديد من الفنانين الأوروبيين البارزين قد توصّلوا في أعمالهم إلى التجريد بحلول الحرب العالمية الأولى. لقد وجد كل منهم طريقته الخاصة في التخلي عن الفن التشخيصي (figurative painting). وجديرٌ بالذكر أنّه لم تكن هناك حركة «تجريدية» دولية ذات رؤية أو بيان مشترك.
في ضوء ذلك، فإن السؤال الملحّ حقًا هو: لمَ لمْ يتبنى الفنانون الغربيون الفن التجريدي على امتداد قرون عديدة؟ لماذا كان التجريد غير ضروري أو لا معنى له أو غير مناسب أو حتى لا يمكن تقبّله لقرونٍ متوالية في الفن الغربي؟
ظهرت العديد من التفسيرات لشرح ذلك. إحدى النظريات الأكثر وضوحًا هي أن ظهور التصوير الفوتوغرافي بوصفه شكلًا من أشكال الفن، إضافةً إلى تطور الفن الحديث، سببان رئيسان لإزاحة الرسم التشخيصي.
ثمّة إجابات أخرى غير ملموسة لاستكشاف الأسباب: ربما عندما أصبحت الأعمال الفنية قابلة للاستهالاك بشكل متزايد، مثل السلع، بات من السهولة فصل اللوحات والمنحوتات عن التجارب المحددة لمبدعيها. ربما أدت الحداثة في الغرب إلى إفراغ الفن من المحتوى التشخيصي؛ مما دفع الفنانين أيضًا إلى التخلي عن التمثيل التشخيصي.
كل من هذه الإجابات معقدة وتتطلب الكثير من الشرح، ولا يمكن إلا أن تكون تخمينات. لا توجد إجابة واضحة لهذه المسألة. ربما يكون من الأفضل طرح السؤال حول سبب تقبّل الفن التجريدي فنًّا من الفنون الرسمية في تاريخ الفن الغربي في مرحلة معينة على علماء الأنثروبولوجيا بدلًا من طرحها على مؤرخي الفن. فما هو واضح أن الفن التجريدي كان موجودًا دائمًا في مناطق أخرى من العالم.
ما جعل الفن التجريدي فنًّا حديثًا على وجه التحديد في العالم الغربي هو نظام المعارض، الذي أعطى القيمة الفنية للأعمال المعروضة. وكما هو واضح فقد ازدهر التجريد لآلاف السنين المناطق الشرقية والجنوبية من العالم، دون عناء التحقق من مكانة الأعمال المعروضة في الصالونات [والمعارض، كما هو في العالم الغربي].
الواقع الافتراضي و«الافتراضية»
يتبنى بيبي كرمل وهو مؤرخ فني، في كتابه « الفن التجريدي: تاريخ عالمي»، فكرة أنّ الفن التجريدي كان دائمًا موجودًا بشكل طبيعي عندما ننظر إليه نظرة شاملة وعالمية، بيد أنّه يتحاشى طرح نظرية عن تطور الفن التجريدي. بالنسبة إلى كرمل، فإنّ هذا الفنّ متجذر في العالم الحقيقي، وهو ليس فنًّا «مجردًا» على الإطلاق، كما أنّه تقليد عالمي وليس محليًا.
في دراسته حول الفن التجريدي يقسم العمل الفني إلى خمس فئات واسعة تنتمي إلى العالم الحقيقي: الأجسام، والمناظر الطبيعية، والكون، والبنى، والعلامات والأنماط. من خلال فحص الفن التجريدي بهذه الطريقة، يرى كرمل في اللوحات التجريدية موضوعات قابلة للتحليل، بعكس النقاد والمؤرخين الأرثوذكسيين الذين رأوا فيها مجرّد توليفات شكلية مكوّنة من لون وشكل.
ربما يكون من الأفضل أن يطلق على الفن التجريدي: فن ما تم تجريده (abstracted art)؛ لأنّ الفنانين التجريديين عادةً ما يستخلصون ويجرّدون تعبيرات التجارب في شكل ولون، أكثر من كونها توليفات مكونة من شكل ولون. ومرّد ذلك الطبيعة الجوهرية للرسم والنحت؛ فهما (الشكل اللّون) وسيطان للتعبير، مثل الشاشة أو المسرح لخيال الفنان. كما هو الحال في المسرح أو السينما، فإنّ جمهور اللوحة أو المنحوتة يعلّق معتقداته من أجل أن يتقبل المشهد.
من المفيد التفكير في اللوحة التشخيصية التقليدية أو النحت على أنها حقيقة افتراضية. إذْ استخدم الفنانون لقرون عديدة الحيل البصرية -مثل المنظور الخطي، والتقصير المسبق، والتظليل- لمحاكاة الطريقة التي ندرك بها الأشياء في الفضاء الحقيقي. إنّ المشاهد تُنشأ في فضاء افتراضي – سواء كانت القاعدة التي تدعم التمثال أو القماش – ليراها المشاهدون بوصفها خدعة بصرية.
«القديس بطرس شفاء أحد الأشخاص وبعث تابيثا من الموت» ماسولينو دي بانيكال. اعتمد الرسم الغربي قبل القرن العشرين على الحيل البصرية لخلق واقع افتراضي. إحدى هذه الحيل هي المنظور الخطي، وهذه اللوحة هي أول مثال لاستخدام نقطة تلاشٍ متسقة.«القديس بطرس شفاء أحد الأشخاص وبعث تابيثا من الموت» ماسولينو دي بانيكال. اعتمد الرسم الغربي قبل القرن العشرين على الحيل البصرية لخلق واقع افتراضي. إحدى هذه الحيل هي المنظور الخطي، وهذه اللوحة هي أول مثال لاستخدام نقطة تلاشٍ متسقة.
يستمتع مشاهدوّ الأعمال الفنية العظيمة معنى ما يُرسم، ويقدرون الطريقة التي يتجلّى فيها الوهم عبر تمازج اللون والشكل.
يبقى الفن التجريدي، إلى حدٍ ما، ضمن إطار التجربة الجمالية. فقد سعت حركات الفن الحديث التي أدت إلى التجريد -أيّ «مدارس الفن»، مثل الانطباعية والفاوفية والتكعيبية- إلى تمثيل العالم بشكل مختلف عن كل الفنون التي سبقتها. إذْ ادعوا الاقتراب من الحقيقة الذاتية عبر تهميش جميع الحيل الوهمية التقليدية التي حاولت إعادة إنتاج الواقع بحذافيره كحقيقة موضوعية.
«الأحمر والأصفر والأزرق» (1925) واسيلي كاندينسكي. كان كاندينسكي يعدّ لفترةٍ طويلة أب الرسم التجريدي الغربي.«الأحمر والأصفر والأزرق» (1925) واسيلي كاندينسكي. كان كاندينسكي يعدّ لفترةٍ طويلة أب الرسم التجريدي الغربي.
بالنسبة إلى هذه المدارس، أصبح الفن أقل من أن يوصف بأنّه واقع افتراضي، لكنه مع ذلك احتفظ بالافتراضية، وأصبح افتراضيًا. لقد أخذ الفن التجريدي مسار التطور هذا إلى أقصاه: من الواقع الافتراضي إلى الافتراضية.
ماذا تعني «الافتراضية» هنا؟ إنّها الوجود كجوهر وتأثير، ولكن بدون اللجوء إلى الواقع. اللوحة التجريدية التي رسمها كاندينسكي، على سبيل المثال، ما زالت تُعدّ علاقة متبادلة بين الشكل واللون، و تعتمد على الرسم كمستوى تخطيطي: إنها نافذة تطلّ على «الواقع» الفردي الذي تصوّره كاندينسكي.
وما تزال العناصر في لوحات كاندينسكي تحظى بعلاقة متبادلة، كما هو الحال في فضاء الواقع الافتراضي للوحة التشخيصية؛ فجوهر الرسم سليم إذ إنّ ذلك الفضاء الافتراضي ما زال موجودًا. عندما يكون الفن التجريدي بناءً خالصًا، ويتخلص من المساحة الافتراضية الملازمة للرسم والنحت، يصبح متميزًا عنهما.
وصف دونالد جود الفنان التخفيفي (minimalist) مثل هذه الأعمال الفنية بأنها «أجسام محدّدة» (Specific Objects). إنّه مصطلح غير دقيق، ولكنه يصلح لإظهار أن مثل هذه الأعمال الفنية ليست رسمًا ولا نحتًا، ولكنها فئة أخرى تمامًا.
رأى دونالد جود أن أعماله وأعمال العديد من معاصريه تشغل مساحة هجينة، لا هي لوحات ولا هي نحت. عمل دون عنوان لدونالد جود.
استخدم جود هذا المصطلح لوصف أعماله الخاصة، ولكنه ينطبق على لوحات كازيمير ماليفيتش وفرانك ستيلا أحادية اللون، والتي تجعل اللوحة تندمج مع نفسها بالكامل، من أجل الوصول للتأثير الذي يأمل العمل في تحقيقه.
في مثل هذه الأعمال، لم يعد قماش اللّوحة (أو القاعدة) سطحًا تتفاعل فيه الأشكال والألوان في الفضاء الافتراضي. بدلاً من ذلك، تتفاعل الأشكال والألوان في الفضاء الحقيقي، في فضائنا.
تختلف معايير النجاح أو الفشل لهذه الأعمال عن الخصائص التقليدية للرسم والنحت. رأى جود أنّ خصائص الرسم والنحت تقف في طريق ما أراد تحقيقه من خلال اللون والشكل. في رأيه، كان لـ «أجسامه المحددة» تأثيرًا أحدّ من غيرها.
الواقع والأشكال الجديدة للإدراك الحسّي
الرسم نفسه له ثلاثة أنواع عامة من التجريد؛ أولًا، ثمّة أسلوب تعبيري تُرسم فيه الأشكال بحركاتٍ غير مقيدة؛ ثم هناك التجريد الهندسي حيث يتم هيكلة الأشكال؛ أما النوع الثالث، فهو تجريد مجال اللون حيث يتم عرض مساحات من الألوان بطريقةٍ لا شكل واضح لها.
لم تكن هذه «الأنماط» (styles) أنماطًا عرضيةً أو تعتمد على ذوق أو ميل الرسام كوسيلة لتحقيق هدفٍ ما من البحث الفني. وخير مثال على ذلك هو الفنان الذي غالبًا ما ينظر إلى عمله على أنّه ذروة التجريد الهندسي: بيت موندريان. إنّ لوحات بيت موندريان المكونة من شبكات (grids) ذات الخطوط السوداء والأجزاء الملونة على خلفية بيضاء؛ تهدف إلى استحضار «حقيقة أعلى».
بالنسبة إلى موندريان، كان الفن في جوهره معارضًا للواقع؛ «لأن الواقع يتعارض مع الروحي». بغض النظر عن هذه اللوحة الأشهر لموندريان، فإنّ جوانب الرسم التي تهم هذا الفنان حقًا لم تكن الجوانب المحددة للموضوع -أيّ ماذا أو ما يتم تصويره في اللوحة مثلًا- بل الجوانب القابلة للفهم عالميًا للشكل والخط واللون. إنّ لوحات موندريان، مثلها مثل لوحات الفنانين الآخرين، هي محاولة لاستخلاص الشكل واللون من أجل الاقتراب من ذلك الجوهر العالمي والروحي للفن.
عبّر موندريان عن رغبته في الوصول إلى «أساس» الأشياء من خلال الحدس، كالعديد من الفنانين التجريديين الآخرين في النصف الأول من القرن العشرين الذين رغبوا في الوصول إلى قوى غير مرئية حولنا، ولكنها معروفة أو محدوسة.
«التكوين الثاني باللون الأحمر والأزرق والأصفر» (1930) - بيت موندريان«التكوين الثاني باللون الأحمر والأزرق والأصفر» (1930) – بيت موندريان
في أواخر القرن التاسع عشر، لاحظ العلماء بشكلٍ أفضل مما سبق القوى غير المرئية مع انتشار التقنيات الجديدة، وأصبح من الواضح أن العالم أرحب مما يبدو للعين. في الوقت نفسه، ظهرت حركات روحية بديلة جمعت بين الأفكار الأفلاطونية والتصوف.
كان كلينت وموندريان من بين العديد من الفنانين الذين انغمسوا في أشكال الروحانية خارج العوالم التقليدية للدين. اعتقدت كلينت أن لوحاتها هي وحي عالم روحي، وأن مهمتها كانت العمل «على مستوى روحاني» لتمثيل روح الإنسان، بدلًا من صورته الفانية.
بحلول عشرينيات القرن الماضي، كانت نظرية فرويد عن للعقل البشري قد تغلغلت أيضًا في عالم الفن. كذلك السريالية، وهي حركة منظمة بإحكام بدأت مع بعض الفنانين الذين سعوا إلى التنقيب عن الإمكانات الإبداعية للعقل الباطن، وهي الحركة الثقافية التي كانت سائدة في أوروبا بين الحربين العالميتين.
لم تكن السريالية دوغمائية في محاولتها لاستكشاف اللاوعي، ولذلك ظهر عدد من الأساليب والطرق لمحاولة إخراج اللاوعي إلى السطح. إحدى هذه الأساليب كان الرسم الآلي (Automatism)، وهي عملية يتخلى فيها الفنان عن السيطرة الواعية لليد التي ترسم أو تصور. في هذا المجال، تبنى الفنانون مثل أندريه ماسون وخوان ميرو الفرصة لبناء صورهم باستخدام حركات حرّة، وحتى إلقاء الطلاء على القماش.
طور أرشيل غوركي -هو مهاجر أرمني عاش في الولايات المتحدة- أسلوبًا في الرسم يدمج بين الرسم الآلي وتجريد مجال الألوان. لوحاته في الأربعينيات حجمُها ضخم – ومرد ذلك تأثره بأعماله السابقة كفنان جداري مُعيّن من الدولة خلال السنوات الأخيرة من الكساد الكبير – لكنها معبّرة وغنائية في الرسم بالفرشاة.
ألهم إدماج غوركي للأنماط جيلًا واسعًا من الفنانين الأمريكيين في فترة ما بعد الحرب لاحتضان التجريد الواسع النطاق. ما نسميه الآن «التعبيرية التجريدية»، وكان ذاك الجيل في الواقع مجموعة فضفاضة من الفنانين الذين يستخدمون أنماطًا متعدّدة من أنماط التجريد.
ربما كان القاسم المشترك بين هؤلاء الفنانين – على الأقل في السنوات الأولى – هو دعم جيل جديد من النقاد بقيادة كليمنت غرينبيرغ، الذي كان يعتقد أن التجريد هو التعبير الأسمى للفن الغربي.
«الكبد هو مشط الديك» (1944) - أرشيل جوركي.«الكبد هو مشط الديك» (1944) – أرشيل جوركي.
الحداثة ومصير الفنّ الغربي
كان يُعتقد في بعض الأوساط الفكرية المؤثرة أنّ الفن يتقدم نحو هدف؛ وهذا المضمون يشتمل عليه مصطلح «الطليعية» (Avant-garde)، الذي يُوصف به الفنّانون الذين يبتكرون أرضية جمالية جديدة. أصل المصطلح فرنسي يُطلق على الجنود الذين يتقدمون إلى مناطق جديدة.
بالنسبة إلى غرينبيرغ، لم يكن هؤلاء الفنّانون يوسّعون حدود إمكانات الفن؛ بل كانوا يتقدمون نحو الهدف الحقيقي والمفرد لكل شكل فني.
يُعدّ غرينبيرغ شخصية مهمة في تاريخ الفن التجريدي، وذلك لأمرين: بوصفه مناصرًا رائدًا في مسألة تفوق الفن التجريدي على غيره من أنواع الرسم، وتأكيده للقوة التي امتلكها هذا الفن. كان ناقدًا في اللجنة الأمريكية للحريّة الثقافية التي تمولها الدولة، وهي مجموعة تم إنشاؤها لتعزيز الفن الأمريكي على المستوى الدولي.
أصبحت أفكار غرينبيرغ مؤثرة عندما كانت الولايات المتحدة جزءًا من الحرب على الفاشية والنازية، وخلال الحرب الباردة اللاحقة ضد الشيوعية السوفيتية. كانت معايير الفن الفاشي والسوفياتي واضحة، وهي ما تحددها السلطات الثقافية أنها كذلك، بيد أنّه ما لم يكن واضحًا هو معايير الفن «الجيد» وتحديدًا في الغرب الديمقراطي.
كان الماركسيون هم من تعاطف مع غرينبيرغ في البداية، لكن ارتبط تفكيره بشكلٍ متزايد بالهيمنة الثقافية الأمريكية. بالنسبة إليه، كان التجريد في أعمال بولوك فنًا مثاليًا لمجتمع ديمقراطي. تتجلى الحداثة في الفن، وفقًا لغرينبيرغ، في إطار التنوير الأوروبي؛ أيّ في فترة ازدهار الأفكار الفلسفية والعلمية التي أعطت الأولوية للعقل.
في مقالته المؤثرة « الرسم الحداثي» (1961)، وصفَ غرينبيرغ إيمانويل كانط – الفيلسوف الألماني في عصر التنوير – بأنّه «أول حداثي حقيقي». كان أسلوب كانط في «النقد» هو استخدام العقل لنقد العقل بغرض توضيحه، ومنحه استقلالية عن أنواع التفكير الأخرى.
«أولمبيا» - إدوارد مانيه (1863). بالنسبة إلى كليمنت غرينبيرغ، كان مانيه أول رسام حداثي. لقد رسم مانيه لوحاته بأسلوبٍ مسطّح بشكلٍ متعمد.«أولمبيا» – إدوارد مانيه (1863). بالنسبة إلى كليمنت غرينبيرغ، كان مانيه أول رسام حداثي. لقد رسم مانيه لوحاته بأسلوبٍ مسطّح بشكلٍ متعمد.
بالطريقة نفسها، كان الرسامون الحداثيون – من إدوارد مانيه في القرن التاسع عشر إلى موريس لويس، وهو رسام يعمل ينتمي إلى رسامي أسلوب مجال ألوان في الولايات المتحدة في الوقت الذي كتب فيه غرينبيرغ مقالته – يعملون على ترسيخ الفن التعبيري «بشكل صارم في مجال تخصصه».
رأى غرينبيرغ أن وضوح الفن التجريدي -الذي كان صادقًا بالنسبة إلى الوسيط الذي يُعبّر من خلاله- معارضٌ لـ«الفن الشعبي المبتذل [الكيتش]» الذي ينُتج على نطاق واسع في الثقافة الشعبية. إن إزالة «الكيتش» كانت مسألة استجلاء وتوضيح تحتاجها جميع الفنون لكي تصبح تعبيرًا عن إمكاناتها الجمالية الكامنة.
اللوحات مسطّحة، وإيهام العمق الذي نجده في معظم الفن الغربي كان انحرافًا عن جوهر فن الرسم ذاته. كانت استقلالية الشكل الفني في جميع خصائصه دون أن تتلوث بأشكال فنية أخرى. وفقًا لغرينبيرغ، يعدّ الشكل واللون من أهم خصائص الرسم، و أفضل تمثيل لها يكون بشكلٍ مسطّح.
وهكذا دافع غرينبيرغ عن «التسطيح» الذي تجلّى في لوحات الفنانين الأمريكيين التجريدية مثل جاكسون بولوك باعتباره تحقيقًا لهذا الوضوح الحداثي. لقد ضم هؤلاء الفنانين معًا ضمن فريق واحد، وهم يمثّلون المرحلة التالية في الحداثة، وقد حلّت رؤيتهم الأمريكية المميزة محلّ الفن الأوروبي الطليعي.
وفي الوقت الذي أصبح فيه الفن التجريدي الأمريكي مهيمنًا، تراجعت هيمنة غرينبيرغ النقدية، وظهرت أشكال جديدة من الفن الطليعي، مستوحاة مباشرة من الثقافة الجماهيرية، وحلّت محلّ التعبيرية التجريدية في المخيال العام. تبنى فنانوّ «البوب» مثل: آندي وارهول، وريتشارد هاميلتون هذا النوع من «الفن الشعبي المبتذل» الذي رآه غرينبيرغ تلويثًا للفن الحقيقي.
استمرت الأعمال الفنية التجريدية، ولكن تخلّى الفنّانون التجريديون الأكثر جرأة عن الفكرة الصارمة «للنقد الحداثي»، وعن الوضوح المتعلق بخصوصية الوسيط الفني، وذلك لصالح أشكال أخرى من التعبير.
نظر فنانوّ «ما بعد الحداثة» إلى السخرية وعملية الرسم نفسها، كطرق لتجاوز الطريق المسدود للحداثة. تبنى الألماني غيرهارد ريختر كلا النهجين؛ فبعض أعماله التجريدية في الستينيات كانت مصنوعة بممسحاتٍ بدلًا من الفرشاة، حتى يتمكن من لفت الانتباه إلى عملية صنع اللوحة نفسها.
كانت «اللوحات التجريدية» البارزة الأخرى التي رسمها ريختر في الواقع صورًا واقعية مرسومة بعناية تعكس لوحاته التجريدية الأخرى. أصبحت طلائعية الرسم التجريدي مفهومية أكثر، ما جعل ضمنيًّا قضية الرسم تحظى باستقلالية أقل مما كان كان يعتقد النقاد الحداثيون.
قلّد فنانوّ «نيو جيو»، مثل: الرسام بيتر هالي، والنحات أشلي بيكرتون اللغة البصرية للتجريد الهندسي، لكنهما دمجاها مع السلع الاستهلاكية بألوانٍ تجارية فاتحة وأحيانًا فلورية.
منذ ذلك الجيل ما بعد الحداثي من الرسامين والنحاتين الممتد من الستينيات إلى التسعينيات، ازدهر التجريد متفرّعًا إلى عددٍ لا يُحصى من الأساليب والمقاربات بجوار الفن التشخيصي. هنا يمكن القول إنّ التجريد المتحرّر من عبء التوقعات الحداثية هو ببساطة نهج للتعبير مثل أيّ نهج آخر.
وتجدر الإشارة إلى أنّ بعض الفنانين التجريديين استخدموا الحيل البصرية المستعملة في الفن التشخيصي – مثل المنظور والتظليل – في لوحاتهم. ولاستخدامهم هذا أهداف فريدة و غالبًا لا تهتم بالنظرية.
قلّد فنانوّ «ما بعد الحداثة» مثل: بيتر هالي اللغة البصرية المستعملة في الفن التجريدي الحديث (في حالة بيتر، التجريد الهندسي)، للتعليق على طبيعة الفن والمعنى نفسه. تمثّل هذه الكتل الملونة «الخلايا» و«الأنابيب».قلّد فنانوّ «ما بعد الحداثة» مثل: بيتر هالي اللغة البصرية المستعملة في الفن التجريدي الحديث (في حالة بيتر، التجريد الهندسي)، للتعليق على طبيعة الفن والمعنى نفسه. تمثّل هذه الكتل الملونة «الخلايا» و«الأنابيب».
هذا هو التحرّر نحو الأفضل بين الرسامين التجريديين الذين يمكنهم الالتزام برؤيةٍ فريدة بالرسم على القماش. لكن فكّ ارتباط الفن التجريدي عن إطاره الفلسفي الأوسع أدى أيضًا إلى انتشارٍ يثير التساؤل لأعمال تجريدية متنوعة قابلة للاستهلاك – بمعنى أنّها فقدت قيمتها، وباتت تُباع وتُشترى سريعًا بأسعارٍ مربحة – يشتريها المشترون المتضاربون.
دفع هذا التحول الناقد جيري سالتز إلى كتابة: « الزومبي على الجدران: لماذا يبدو الكثير من التجريد الجديد متشابهًا؟». وقد شبه اللّوحات التجريدية بصورة «الزومبي»، تحقيرًا لأعمال عددٍ من الرسامين التجريديين البارزين، الذين استخدموا الفنّ وجماليته لتقديم أعمال مبتذلة.
ومن المفارقات أن هؤلاء الفنانين نظروا إلى الشكلانية بوصفها فنًّا حداثيًّا متبنّين منظور غرينبيرغ، لكنهم بالطبع قدّموا أعمالًا في ظلّ فراغ تاريخي وبعد فترةٍ طويلة حين لم يُصبح التجريد مثيرًا للاهتمام أو راديكاليًا بأي وجه من الوجوه.
في الواقع، لم يصل مشروع الحداثة في الفن التجريدي إلى نهايته، بل النقد. إنّ النقد -أيّ الإطار الفلسفي الواسع الذي يصادق على الأعمال الفنية ويثمّنها لأهميتها الثقافية والتاريخية- هو ما فقد التوجه والسلطة.
كان مسار الفن الغربي منذ عصر التنوير يتأرجح بين قطبي الدوغمائية النقدية والإبداع. تكمن المشكلة أنه في العقود الأخيرة، وفي ظلّ غياب أي مشروع نقدي متماسك، انجرف الفن نحو إرضاء اهتمامات دقيقة ومتنوعة تزداد باستمرار.
في حين كانت هناك «حركات» و«مدارس» فنية -مصطلحان يشيران إلى الوجهة والانضباط- لم يعد لدينا الآن سوى «مشاهد».
هذا ليس بالضرورة أمرًا سيئًا. ولكن في عالم حيث «كل شيء مقبول – anything goes»، لا يوجد مجال لهذا النوع من الابتكار والتجاوز الذي أدى إلى ظهور الفن التجريدي في الغرب، وهذا ما جعل الفن الحديث فنًّا مثيرًا للغاية.
من الصعب في هذه اللحظة التاريخية أن ندرك ما الذي جعل لوحة بولوك «رقم 32» مثيرة للانقسام، ومخلخلةً جدًا للمعايير، وفي الوقت نفسه محتفظةً بقيمةٍ عالية جدًا لأولئك الذين يعتقدون أن للفنِّ مكانًا في المجتمع يتجاوز المتعة.
[divider style=”solid” top=”20″ bottom=”20″]
[1] واللقب كذلك يُلمح إلى القاتل المتسلسل في لندن آخر القرن التاسع عشر: جاك السفّاح
Jack the ripper (مدير التحرير).
### خارج عقلك | توم تشاتفيلد – ت: محمد السعيد
عندما يكون هاتفي النقال بين يديّ، هل أكون أنا الشخص نفسه لو كان الهاتف في غرفة أخرى؟ من ناحية،...
### الدراما في التعليم: مقاربات وتطبيقات | نعيم حيماد
افتتاحيّة حظي استخدام الدراما في التعليمفي السنوات الأخيرة باهتمام كبير من قبل نخبة من المنظرين والممارسين للدراما في مجال التعليم....
### الحقائق المخفية | دي بي سي بيير – ت: محمد السعيد
يحمل جبل كلسي خشن في غرب إيران عددًا من النقوش البارزة، من بينها لوحة طولها خمسة وعشرين مترًا منقوشة...
### التغلُّب على كاشف الكذب | كلاريسا سيباغ-مونتِنفيوري – ت: محمد السعيد
حين اتُّهِمَتْ مربية الأطفال البريطانية لويز وودورد بهزِّ رضيع حتى الموت في مدينة نيوتن بولاية ماساتشوستس، لم تكتفِ بإعلان...
### عن منصة معنى
«معنى»، مؤسسة ثقافية تقدّمية ودار نشر تهتم بالفلسفة والمعرفة والفنون، عبر مجموعة متنوعة من المواد المقروءة والمسموعة والمرئية. انطلقت في 20 مارس 2019، بهدف إثراء المحتوى العربي، ورفع ذائقة ووعي المتلقّي المحلي والدولي، عبر الإنتاج الأصيل للمنصة والترجمة ونقل المعارف.
### روابط سريعة
### التصنيفات
### مرحبا بك!
قم بتسجيل الدخول إلى حسابك
تذكرني
### قم بإنشاء حساب جديد!
املأ النموذج أدناه للتسجيل
### طلب إعادة تعيين كلمة المرور
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان البريد الإلكتروني لإعادة تعيين كلمة المرور الخاصة بك.
### Add New Playlist
- Select Visibility -PublicPrivate
No Result
عرض جميع النتائج
-
00:00
00:00
-
00:00
00:00
|
article
|
Arabic
|
ar
|
الفنّ التجريدي: بين الماضي والحاضر - منصة معنى الثقافية
|
https://mana.net/abstract-art/
|
1,934 |
كانت «اللوحات التجريدية» البارزة الأخرى التي رسمها ريختر في الواقع صورًا واقعية مرسومة بعناية تعكس لوحاته التجريدية الأخرى.
|
sentence
|
كانت «اللوحات التجريدية» البارزة الأخرى التي رسمها ريختر في الواقع صورًا واقعية مرسومة بعناية تعكس لوحاته التجريدية الأخرى. أصبحت طلائعية الرسم التجريدي مفهومية أكثر، ما جعل ضمنيًّا قضية الرسم تحظى باستقلالية أقل مما كان كان يعتقد النقاد الحداثيون.
|
paragraph
|
Arabic
|
ar
|
الفنّ التجريدي: بين الماضي والحاضر - منصة معنى الثقافية
|
https://mana.net/abstract-art/
|
1,935 |
أصبحت طلائعية الرسم التجريدي مفهومية أكثر، ما جعل ضمنيًّا قضية الرسم تحظى باستقلالية أقل مما كان كان يعتقد النقاد الحداثيون.
|
sentence
|
كانت «اللوحات التجريدية» البارزة الأخرى التي رسمها ريختر في الواقع صورًا واقعية مرسومة بعناية تعكس لوحاته التجريدية الأخرى. أصبحت طلائعية الرسم التجريدي مفهومية أكثر، ما جعل ضمنيًّا قضية الرسم تحظى باستقلالية أقل مما كان كان يعتقد النقاد الحداثيون.
|
paragraph
|
Arabic
|
ar
|
الفنّ التجريدي: بين الماضي والحاضر - منصة معنى الثقافية
|
https://mana.net/abstract-art/
|
1,936 |
قلّد فنانوّ «نيو جيو»، مثل: الرسام بيتر هالي، والنحات أشلي بيكرتون اللغة البصرية للتجريد الهندسي، لكنهما دمجاها مع السلع الاستهلاكية بألوانٍ تجارية فاتحة وأحيانًا فلورية.
|
paragraph
|
لا توجد منتجات في سلة المشتريات.
No Result
عرض جميع النتائج
الثلاثاء, سبتمبر 10, 2024
No Result
عرض جميع النتائج
No Result
عرض جميع النتائج
# الفنّ التجريدي: بين الماضي والحاضر
## ترجمة: أنطونيوس نادر
AA
AA
إعادة تعيين
فنٌ مليء بالتحديات
ثمّة خطٌ رفيع يفصل بين الفن التجريدي ومجرد الزخرفة، ولوحة «رقم 32» (نُشرت عام 1950)، لجاكسون بولوك تتأرجح بين هذا الخطّ. فهي لا تشير إلى معنىً واضح، ولكن لا يمكن القول إنّها بلا معنى على الإطلاق. كما أنّها ليست معبّرة بشكلٍ مباشر، ولا يعني هذا أنها لا تعبّر عن مدلولٍ ما. تحمل هذه اللوحة الكثير من المضامين عن الفن الغربي بالنسبة إلى شخصٍ خبيرٍ في تاريخ الفن؛ أما بالنسبة إلى شخصٍ عادي، فقد يراها عملًا مبتذلًا بالكاد يعبّر عن أمرٍ ما.
اللوحة شبكة من الخطوط وبقعٍ من الألوان، رُسمت عن طريق صبّ طلاءٍ رخيص بعشوائيةٍ مباشرة على القماش. تتكون اللوحة من طلاءٍ أسود فقط وقماشٍ خام. واللوحة ضخمة؛ إذ يبلغ طولها تسعة أقدام وعرضها خمسة عشر قدمًا، وتغطي مجال رؤية المشاهد أثناء اقترابه منها. تقليديًّا، حتى اللوحات التجريدية تتكون من أجزاءٍ مترابطة مع بؤر تركيز (emphases) وعمقٍ يُنقل من خلال اللون والظلال، ولكن «رقم 32» ليس لها أجزاء؛ إنّها تتكون من تعالقات، والبؤرة فيها تكمن عبر امتداد سطح القماش المستطيل.
يمنحها ما سبق عمقًا سطحيًا، وربما لا عمق فيها: مجرّد طلاء على قماش. إنّها عبث بالشكل واللون. حتى اسمها، ببساطة رقمٌ معيّن – رقم 32 – يجعلها تنأى بنفسها عن أي فكرة مفادها أنها تعكس مدلولًا محدّدًا. تشير عناوين أعمال بولوك الأخرى إلى نوعٍ من الاختبار الشخصي، وإلى الاستخدام السمفوني المتعدد الطبقات للون والملمس؛ خذ مثلًا لوحاته التي تحمل اسم: «إيقاع الخريف»، و«الضباب الأرجواني»، و«الأقطاب الزرقاء»، و«انعكاس الدنقلة الكبير».
هذا لا ينطبق على لوحة «رقم 32»؛ شكلها الخام وبساطتها دليل على أنّ الفنان لم يخطط مسبقًا لرسمها؛ أيّ أنّه لم ينتق الألوان ولا الطبقات. يبدو بولوك هنا أكثر حضورًا، من خلال لمساته الحادة. بالنسبة إلى مؤيديّ عمل بولوك، تختصر هذه اللوحة خلاصة نظرة الفنان الجمالية. أما بالنسبة للبعض الآخر، فهي لوحة مبتذلة.
وصف جوزيف بويس -النحات الألماني في فترة ما بعد الحرب- الفنَّ التجريدي الأمريكي بأنه مجرد «تغليف»، أيّ سطح بلا محتوى. في هذا الصدد، قد يتفق البعض أن لوحة «رقم 32» تجسد فراغ الفكر والشعور ذاك. فقد رأى الروائي والناقد الفني روبرت كوتس أن فن بولوك لم يكن سوى «انفجارات» غير منظمة من الطاقة العشوائية. غير أنّ طائفة كبيرة من متذوقي الفن التجريدي لا تروق إليهم أعمال بولوك ويرونها فنًّا محيرًا، حتى إنّ بعضهم يراها إهانةً للذوق أو الحسّ السليم.
عُرف بولوك بلقب: «جاك فنان النقط» (Jack the Dripper) [1] في الأوساط الإعلامية المشككة بعمله حيث ادعى كثر أن أيّ شخص يمكنه أن يرسم كما يرسم بولوك إلّا أنّ أحدًا لم يتجرأ على فعل ذلك.
«رقم 32» - جاكسون بولوك«رقم 32» – جاكسون بولوك
بيد أنّ هذا هو مغزى الفن التجريدي في التقليد الغربي: إنّه تحدّ. وفي ظل الكثير هذه التحديات، تُعد لوحة « رقم 32» اللوحة الأكثر تمثيلًا لهذا الفن.
قصة الفنّ التجريدي
مسار قصة الفن التجريدي مضمّنة في الدراسات التاريخية الفنية، إلّا أنّ المحطات الرئيسة لهذا المسار كانت محط تغييرات مفاجئة كلما اكتشف مؤرخوّ الفن حقائق جديدة.
انطلق مسار الفن التجريدي بدءًا من القرن التاسع عشر وما تلاه؛ حيث استفاد الفنانون من مادة الطلاء والجوانب الشكلية للرسم مثل اللون والدرجة والخطوط. يُعرف هذا الانشغال بالجوانب غير التمثيلية (non-representative) للفن باسم «الشكلانية»، لأنّه انشغال «بالشكل»، أيّ بتوسل شكل المحتوى بدلًا من المحتوى في ذاته. بالنسبة إلى الفنانين في القرن التاسع عشر، صُنّف الفن التجريدي على أنّه «فنٌّ من أجل الفنّ»، وكانت الفكرة الشائعة مفادها أنّ المتذوق للفن يمكنه الاستمتاع بالعمل دون اللجوء إلى معنى أو حتى أي شيء آخر يمثل أمرًا ما.
تمثّل لوحة «الموسيقى الهادئة باللّونين الأسود والذهبي – الصاروخ الساقط» (1872)، للفنان جيمس مكنيل ويسلر هذا الاتجاه الذي تبلور لاحقًا في الفن التجريدي. إنّ مشهد ويسلر الغامض من الناحية المكانيّة يقترب إلى التجريد، وذلك بمحاولته نقل الشعور أو الانطباع الخاص بالمشهد بدلًا من إعادة إنتاجه بحذافيره.
«الموسيقى الهادئة باللونين الأسود والذهبي - الصاروخ الساقط» (1872-1877) - جيمس أبوت مكنيل ويسلير«الموسيقى الهادئة باللونين الأسود والذهبي – الصاروخ الساقط» (1872-1877) – جيمس أبوت مكنيل ويسلير
في عام 1877، انتقد جون روسكين – أبرز نقّاد بريطانيا في ذلك الوقت – عمل ويسلير هذا نقدًا لاذعًا فشبهه «بمن قام برمي الطلاء في وجه الجمهور». تأثر ويسلر بهذا الكلام، فرفع دعوى قضائية ضد روسكين، بيد أنّه خسرها لأن المسؤولين عرضوا اللوحة -خطأً- مقلوبةً على المحكمة. أفلس ويسلير بسبب هذه القضية، لكن مسيرة تطور الفن التجريدي استمرت.
من ناحيةٍ أخرى، تحديد أول فنان تجريدي في العالم موضوع نزاع. في نظر أبحاث تاريخ الفن التقليدية، كان فاسيلي كاندينسكي – فنان روسي الجنسية رسم لوحات تجريدية بالكامل في مطلع عام 1911- هو أول فنان تجريدي.
لم ينل الفن التجريدي الرائد لهيلما أف كلينت تقديرًا إلا قبل سنوات قريبة. هذه صورة للمعرض الشهير في متحف غاغينهايم، عام 2018 .لم ينل الفن التجريدي الرائد لهيلما أف كلينت تقديرًا إلا قبل سنوات قريبة. هذه صورة للمعرض الشهير في متحف غاغينهايم، عام 2018 .
ولكن في الآونة الأخيرة، وبفضل المعرض الرائد في متحف مقاطعة لوس أنجلوس للفنون في عام 1986 الذي حمل اسم «الروحانية في الفن: الرسم التجريدي 1890 – 1985»، وقع الاختيار على هيلما أف كلينت كأول رسامة تجريدية. بدأت كلينت في رسم لوحات تجريدية بدءًا من عام 1906، وحملت مجموعتها عنوان «الفوضى البدائية». كانت الفنانة متكتمة في ما يتعلق بأعمالها التجريدية، ولم تُعرض أيّ منها في معارض عامة، وبقيت غير معروفة حتى أزيح عنها الستار مؤخرًا.
ولعل الجدال حول هوية أول من مارس الفن التجريدي سيستم، لكن الحقيقة الأكثر أهمية هي أن العديد من الفنانين الأوروبيين البارزين قد توصّلوا في أعمالهم إلى التجريد بحلول الحرب العالمية الأولى. لقد وجد كل منهم طريقته الخاصة في التخلي عن الفن التشخيصي (figurative painting). وجديرٌ بالذكر أنّه لم تكن هناك حركة «تجريدية» دولية ذات رؤية أو بيان مشترك.
في ضوء ذلك، فإن السؤال الملحّ حقًا هو: لمَ لمْ يتبنى الفنانون الغربيون الفن التجريدي على امتداد قرون عديدة؟ لماذا كان التجريد غير ضروري أو لا معنى له أو غير مناسب أو حتى لا يمكن تقبّله لقرونٍ متوالية في الفن الغربي؟
ظهرت العديد من التفسيرات لشرح ذلك. إحدى النظريات الأكثر وضوحًا هي أن ظهور التصوير الفوتوغرافي بوصفه شكلًا من أشكال الفن، إضافةً إلى تطور الفن الحديث، سببان رئيسان لإزاحة الرسم التشخيصي.
ثمّة إجابات أخرى غير ملموسة لاستكشاف الأسباب: ربما عندما أصبحت الأعمال الفنية قابلة للاستهالاك بشكل متزايد، مثل السلع، بات من السهولة فصل اللوحات والمنحوتات عن التجارب المحددة لمبدعيها. ربما أدت الحداثة في الغرب إلى إفراغ الفن من المحتوى التشخيصي؛ مما دفع الفنانين أيضًا إلى التخلي عن التمثيل التشخيصي.
كل من هذه الإجابات معقدة وتتطلب الكثير من الشرح، ولا يمكن إلا أن تكون تخمينات. لا توجد إجابة واضحة لهذه المسألة. ربما يكون من الأفضل طرح السؤال حول سبب تقبّل الفن التجريدي فنًّا من الفنون الرسمية في تاريخ الفن الغربي في مرحلة معينة على علماء الأنثروبولوجيا بدلًا من طرحها على مؤرخي الفن. فما هو واضح أن الفن التجريدي كان موجودًا دائمًا في مناطق أخرى من العالم.
ما جعل الفن التجريدي فنًّا حديثًا على وجه التحديد في العالم الغربي هو نظام المعارض، الذي أعطى القيمة الفنية للأعمال المعروضة. وكما هو واضح فقد ازدهر التجريد لآلاف السنين المناطق الشرقية والجنوبية من العالم، دون عناء التحقق من مكانة الأعمال المعروضة في الصالونات [والمعارض، كما هو في العالم الغربي].
الواقع الافتراضي و«الافتراضية»
يتبنى بيبي كرمل وهو مؤرخ فني، في كتابه « الفن التجريدي: تاريخ عالمي»، فكرة أنّ الفن التجريدي كان دائمًا موجودًا بشكل طبيعي عندما ننظر إليه نظرة شاملة وعالمية، بيد أنّه يتحاشى طرح نظرية عن تطور الفن التجريدي. بالنسبة إلى كرمل، فإنّ هذا الفنّ متجذر في العالم الحقيقي، وهو ليس فنًّا «مجردًا» على الإطلاق، كما أنّه تقليد عالمي وليس محليًا.
في دراسته حول الفن التجريدي يقسم العمل الفني إلى خمس فئات واسعة تنتمي إلى العالم الحقيقي: الأجسام، والمناظر الطبيعية، والكون، والبنى، والعلامات والأنماط. من خلال فحص الفن التجريدي بهذه الطريقة، يرى كرمل في اللوحات التجريدية موضوعات قابلة للتحليل، بعكس النقاد والمؤرخين الأرثوذكسيين الذين رأوا فيها مجرّد توليفات شكلية مكوّنة من لون وشكل.
ربما يكون من الأفضل أن يطلق على الفن التجريدي: فن ما تم تجريده (abstracted art)؛ لأنّ الفنانين التجريديين عادةً ما يستخلصون ويجرّدون تعبيرات التجارب في شكل ولون، أكثر من كونها توليفات مكونة من شكل ولون. ومرّد ذلك الطبيعة الجوهرية للرسم والنحت؛ فهما (الشكل اللّون) وسيطان للتعبير، مثل الشاشة أو المسرح لخيال الفنان. كما هو الحال في المسرح أو السينما، فإنّ جمهور اللوحة أو المنحوتة يعلّق معتقداته من أجل أن يتقبل المشهد.
من المفيد التفكير في اللوحة التشخيصية التقليدية أو النحت على أنها حقيقة افتراضية. إذْ استخدم الفنانون لقرون عديدة الحيل البصرية -مثل المنظور الخطي، والتقصير المسبق، والتظليل- لمحاكاة الطريقة التي ندرك بها الأشياء في الفضاء الحقيقي. إنّ المشاهد تُنشأ في فضاء افتراضي – سواء كانت القاعدة التي تدعم التمثال أو القماش – ليراها المشاهدون بوصفها خدعة بصرية.
«القديس بطرس شفاء أحد الأشخاص وبعث تابيثا من الموت» ماسولينو دي بانيكال. اعتمد الرسم الغربي قبل القرن العشرين على الحيل البصرية لخلق واقع افتراضي. إحدى هذه الحيل هي المنظور الخطي، وهذه اللوحة هي أول مثال لاستخدام نقطة تلاشٍ متسقة.«القديس بطرس شفاء أحد الأشخاص وبعث تابيثا من الموت» ماسولينو دي بانيكال. اعتمد الرسم الغربي قبل القرن العشرين على الحيل البصرية لخلق واقع افتراضي. إحدى هذه الحيل هي المنظور الخطي، وهذه اللوحة هي أول مثال لاستخدام نقطة تلاشٍ متسقة.
يستمتع مشاهدوّ الأعمال الفنية العظيمة معنى ما يُرسم، ويقدرون الطريقة التي يتجلّى فيها الوهم عبر تمازج اللون والشكل.
يبقى الفن التجريدي، إلى حدٍ ما، ضمن إطار التجربة الجمالية. فقد سعت حركات الفن الحديث التي أدت إلى التجريد -أيّ «مدارس الفن»، مثل الانطباعية والفاوفية والتكعيبية- إلى تمثيل العالم بشكل مختلف عن كل الفنون التي سبقتها. إذْ ادعوا الاقتراب من الحقيقة الذاتية عبر تهميش جميع الحيل الوهمية التقليدية التي حاولت إعادة إنتاج الواقع بحذافيره كحقيقة موضوعية.
«الأحمر والأصفر والأزرق» (1925) واسيلي كاندينسكي. كان كاندينسكي يعدّ لفترةٍ طويلة أب الرسم التجريدي الغربي.«الأحمر والأصفر والأزرق» (1925) واسيلي كاندينسكي. كان كاندينسكي يعدّ لفترةٍ طويلة أب الرسم التجريدي الغربي.
بالنسبة إلى هذه المدارس، أصبح الفن أقل من أن يوصف بأنّه واقع افتراضي، لكنه مع ذلك احتفظ بالافتراضية، وأصبح افتراضيًا. لقد أخذ الفن التجريدي مسار التطور هذا إلى أقصاه: من الواقع الافتراضي إلى الافتراضية.
ماذا تعني «الافتراضية» هنا؟ إنّها الوجود كجوهر وتأثير، ولكن بدون اللجوء إلى الواقع. اللوحة التجريدية التي رسمها كاندينسكي، على سبيل المثال، ما زالت تُعدّ علاقة متبادلة بين الشكل واللون، و تعتمد على الرسم كمستوى تخطيطي: إنها نافذة تطلّ على «الواقع» الفردي الذي تصوّره كاندينسكي.
وما تزال العناصر في لوحات كاندينسكي تحظى بعلاقة متبادلة، كما هو الحال في فضاء الواقع الافتراضي للوحة التشخيصية؛ فجوهر الرسم سليم إذ إنّ ذلك الفضاء الافتراضي ما زال موجودًا. عندما يكون الفن التجريدي بناءً خالصًا، ويتخلص من المساحة الافتراضية الملازمة للرسم والنحت، يصبح متميزًا عنهما.
وصف دونالد جود الفنان التخفيفي (minimalist) مثل هذه الأعمال الفنية بأنها «أجسام محدّدة» (Specific Objects). إنّه مصطلح غير دقيق، ولكنه يصلح لإظهار أن مثل هذه الأعمال الفنية ليست رسمًا ولا نحتًا، ولكنها فئة أخرى تمامًا.
رأى دونالد جود أن أعماله وأعمال العديد من معاصريه تشغل مساحة هجينة، لا هي لوحات ولا هي نحت. عمل دون عنوان لدونالد جود.
استخدم جود هذا المصطلح لوصف أعماله الخاصة، ولكنه ينطبق على لوحات كازيمير ماليفيتش وفرانك ستيلا أحادية اللون، والتي تجعل اللوحة تندمج مع نفسها بالكامل، من أجل الوصول للتأثير الذي يأمل العمل في تحقيقه.
في مثل هذه الأعمال، لم يعد قماش اللّوحة (أو القاعدة) سطحًا تتفاعل فيه الأشكال والألوان في الفضاء الافتراضي. بدلاً من ذلك، تتفاعل الأشكال والألوان في الفضاء الحقيقي، في فضائنا.
تختلف معايير النجاح أو الفشل لهذه الأعمال عن الخصائص التقليدية للرسم والنحت. رأى جود أنّ خصائص الرسم والنحت تقف في طريق ما أراد تحقيقه من خلال اللون والشكل. في رأيه، كان لـ «أجسامه المحددة» تأثيرًا أحدّ من غيرها.
الواقع والأشكال الجديدة للإدراك الحسّي
الرسم نفسه له ثلاثة أنواع عامة من التجريد؛ أولًا، ثمّة أسلوب تعبيري تُرسم فيه الأشكال بحركاتٍ غير مقيدة؛ ثم هناك التجريد الهندسي حيث يتم هيكلة الأشكال؛ أما النوع الثالث، فهو تجريد مجال اللون حيث يتم عرض مساحات من الألوان بطريقةٍ لا شكل واضح لها.
لم تكن هذه «الأنماط» (styles) أنماطًا عرضيةً أو تعتمد على ذوق أو ميل الرسام كوسيلة لتحقيق هدفٍ ما من البحث الفني. وخير مثال على ذلك هو الفنان الذي غالبًا ما ينظر إلى عمله على أنّه ذروة التجريد الهندسي: بيت موندريان. إنّ لوحات بيت موندريان المكونة من شبكات (grids) ذات الخطوط السوداء والأجزاء الملونة على خلفية بيضاء؛ تهدف إلى استحضار «حقيقة أعلى».
بالنسبة إلى موندريان، كان الفن في جوهره معارضًا للواقع؛ «لأن الواقع يتعارض مع الروحي». بغض النظر عن هذه اللوحة الأشهر لموندريان، فإنّ جوانب الرسم التي تهم هذا الفنان حقًا لم تكن الجوانب المحددة للموضوع -أيّ ماذا أو ما يتم تصويره في اللوحة مثلًا- بل الجوانب القابلة للفهم عالميًا للشكل والخط واللون. إنّ لوحات موندريان، مثلها مثل لوحات الفنانين الآخرين، هي محاولة لاستخلاص الشكل واللون من أجل الاقتراب من ذلك الجوهر العالمي والروحي للفن.
عبّر موندريان عن رغبته في الوصول إلى «أساس» الأشياء من خلال الحدس، كالعديد من الفنانين التجريديين الآخرين في النصف الأول من القرن العشرين الذين رغبوا في الوصول إلى قوى غير مرئية حولنا، ولكنها معروفة أو محدوسة.
«التكوين الثاني باللون الأحمر والأزرق والأصفر» (1930) - بيت موندريان«التكوين الثاني باللون الأحمر والأزرق والأصفر» (1930) – بيت موندريان
في أواخر القرن التاسع عشر، لاحظ العلماء بشكلٍ أفضل مما سبق القوى غير المرئية مع انتشار التقنيات الجديدة، وأصبح من الواضح أن العالم أرحب مما يبدو للعين. في الوقت نفسه، ظهرت حركات روحية بديلة جمعت بين الأفكار الأفلاطونية والتصوف.
كان كلينت وموندريان من بين العديد من الفنانين الذين انغمسوا في أشكال الروحانية خارج العوالم التقليدية للدين. اعتقدت كلينت أن لوحاتها هي وحي عالم روحي، وأن مهمتها كانت العمل «على مستوى روحاني» لتمثيل روح الإنسان، بدلًا من صورته الفانية.
بحلول عشرينيات القرن الماضي، كانت نظرية فرويد عن للعقل البشري قد تغلغلت أيضًا في عالم الفن. كذلك السريالية، وهي حركة منظمة بإحكام بدأت مع بعض الفنانين الذين سعوا إلى التنقيب عن الإمكانات الإبداعية للعقل الباطن، وهي الحركة الثقافية التي كانت سائدة في أوروبا بين الحربين العالميتين.
لم تكن السريالية دوغمائية في محاولتها لاستكشاف اللاوعي، ولذلك ظهر عدد من الأساليب والطرق لمحاولة إخراج اللاوعي إلى السطح. إحدى هذه الأساليب كان الرسم الآلي (Automatism)، وهي عملية يتخلى فيها الفنان عن السيطرة الواعية لليد التي ترسم أو تصور. في هذا المجال، تبنى الفنانون مثل أندريه ماسون وخوان ميرو الفرصة لبناء صورهم باستخدام حركات حرّة، وحتى إلقاء الطلاء على القماش.
طور أرشيل غوركي -هو مهاجر أرمني عاش في الولايات المتحدة- أسلوبًا في الرسم يدمج بين الرسم الآلي وتجريد مجال الألوان. لوحاته في الأربعينيات حجمُها ضخم – ومرد ذلك تأثره بأعماله السابقة كفنان جداري مُعيّن من الدولة خلال السنوات الأخيرة من الكساد الكبير – لكنها معبّرة وغنائية في الرسم بالفرشاة.
ألهم إدماج غوركي للأنماط جيلًا واسعًا من الفنانين الأمريكيين في فترة ما بعد الحرب لاحتضان التجريد الواسع النطاق. ما نسميه الآن «التعبيرية التجريدية»، وكان ذاك الجيل في الواقع مجموعة فضفاضة من الفنانين الذين يستخدمون أنماطًا متعدّدة من أنماط التجريد.
ربما كان القاسم المشترك بين هؤلاء الفنانين – على الأقل في السنوات الأولى – هو دعم جيل جديد من النقاد بقيادة كليمنت غرينبيرغ، الذي كان يعتقد أن التجريد هو التعبير الأسمى للفن الغربي.
«الكبد هو مشط الديك» (1944) - أرشيل جوركي.«الكبد هو مشط الديك» (1944) – أرشيل جوركي.
الحداثة ومصير الفنّ الغربي
كان يُعتقد في بعض الأوساط الفكرية المؤثرة أنّ الفن يتقدم نحو هدف؛ وهذا المضمون يشتمل عليه مصطلح «الطليعية» (Avant-garde)، الذي يُوصف به الفنّانون الذين يبتكرون أرضية جمالية جديدة. أصل المصطلح فرنسي يُطلق على الجنود الذين يتقدمون إلى مناطق جديدة.
بالنسبة إلى غرينبيرغ، لم يكن هؤلاء الفنّانون يوسّعون حدود إمكانات الفن؛ بل كانوا يتقدمون نحو الهدف الحقيقي والمفرد لكل شكل فني.
يُعدّ غرينبيرغ شخصية مهمة في تاريخ الفن التجريدي، وذلك لأمرين: بوصفه مناصرًا رائدًا في مسألة تفوق الفن التجريدي على غيره من أنواع الرسم، وتأكيده للقوة التي امتلكها هذا الفن. كان ناقدًا في اللجنة الأمريكية للحريّة الثقافية التي تمولها الدولة، وهي مجموعة تم إنشاؤها لتعزيز الفن الأمريكي على المستوى الدولي.
أصبحت أفكار غرينبيرغ مؤثرة عندما كانت الولايات المتحدة جزءًا من الحرب على الفاشية والنازية، وخلال الحرب الباردة اللاحقة ضد الشيوعية السوفيتية. كانت معايير الفن الفاشي والسوفياتي واضحة، وهي ما تحددها السلطات الثقافية أنها كذلك، بيد أنّه ما لم يكن واضحًا هو معايير الفن «الجيد» وتحديدًا في الغرب الديمقراطي.
كان الماركسيون هم من تعاطف مع غرينبيرغ في البداية، لكن ارتبط تفكيره بشكلٍ متزايد بالهيمنة الثقافية الأمريكية. بالنسبة إليه، كان التجريد في أعمال بولوك فنًا مثاليًا لمجتمع ديمقراطي. تتجلى الحداثة في الفن، وفقًا لغرينبيرغ، في إطار التنوير الأوروبي؛ أيّ في فترة ازدهار الأفكار الفلسفية والعلمية التي أعطت الأولوية للعقل.
في مقالته المؤثرة « الرسم الحداثي» (1961)، وصفَ غرينبيرغ إيمانويل كانط – الفيلسوف الألماني في عصر التنوير – بأنّه «أول حداثي حقيقي». كان أسلوب كانط في «النقد» هو استخدام العقل لنقد العقل بغرض توضيحه، ومنحه استقلالية عن أنواع التفكير الأخرى.
«أولمبيا» - إدوارد مانيه (1863). بالنسبة إلى كليمنت غرينبيرغ، كان مانيه أول رسام حداثي. لقد رسم مانيه لوحاته بأسلوبٍ مسطّح بشكلٍ متعمد.«أولمبيا» – إدوارد مانيه (1863). بالنسبة إلى كليمنت غرينبيرغ، كان مانيه أول رسام حداثي. لقد رسم مانيه لوحاته بأسلوبٍ مسطّح بشكلٍ متعمد.
بالطريقة نفسها، كان الرسامون الحداثيون – من إدوارد مانيه في القرن التاسع عشر إلى موريس لويس، وهو رسام يعمل ينتمي إلى رسامي أسلوب مجال ألوان في الولايات المتحدة في الوقت الذي كتب فيه غرينبيرغ مقالته – يعملون على ترسيخ الفن التعبيري «بشكل صارم في مجال تخصصه».
رأى غرينبيرغ أن وضوح الفن التجريدي -الذي كان صادقًا بالنسبة إلى الوسيط الذي يُعبّر من خلاله- معارضٌ لـ«الفن الشعبي المبتذل [الكيتش]» الذي ينُتج على نطاق واسع في الثقافة الشعبية. إن إزالة «الكيتش» كانت مسألة استجلاء وتوضيح تحتاجها جميع الفنون لكي تصبح تعبيرًا عن إمكاناتها الجمالية الكامنة.
اللوحات مسطّحة، وإيهام العمق الذي نجده في معظم الفن الغربي كان انحرافًا عن جوهر فن الرسم ذاته. كانت استقلالية الشكل الفني في جميع خصائصه دون أن تتلوث بأشكال فنية أخرى. وفقًا لغرينبيرغ، يعدّ الشكل واللون من أهم خصائص الرسم، و أفضل تمثيل لها يكون بشكلٍ مسطّح.
وهكذا دافع غرينبيرغ عن «التسطيح» الذي تجلّى في لوحات الفنانين الأمريكيين التجريدية مثل جاكسون بولوك باعتباره تحقيقًا لهذا الوضوح الحداثي. لقد ضم هؤلاء الفنانين معًا ضمن فريق واحد، وهم يمثّلون المرحلة التالية في الحداثة، وقد حلّت رؤيتهم الأمريكية المميزة محلّ الفن الأوروبي الطليعي.
وفي الوقت الذي أصبح فيه الفن التجريدي الأمريكي مهيمنًا، تراجعت هيمنة غرينبيرغ النقدية، وظهرت أشكال جديدة من الفن الطليعي، مستوحاة مباشرة من الثقافة الجماهيرية، وحلّت محلّ التعبيرية التجريدية في المخيال العام. تبنى فنانوّ «البوب» مثل: آندي وارهول، وريتشارد هاميلتون هذا النوع من «الفن الشعبي المبتذل» الذي رآه غرينبيرغ تلويثًا للفن الحقيقي.
استمرت الأعمال الفنية التجريدية، ولكن تخلّى الفنّانون التجريديون الأكثر جرأة عن الفكرة الصارمة «للنقد الحداثي»، وعن الوضوح المتعلق بخصوصية الوسيط الفني، وذلك لصالح أشكال أخرى من التعبير.
نظر فنانوّ «ما بعد الحداثة» إلى السخرية وعملية الرسم نفسها، كطرق لتجاوز الطريق المسدود للحداثة. تبنى الألماني غيرهارد ريختر كلا النهجين؛ فبعض أعماله التجريدية في الستينيات كانت مصنوعة بممسحاتٍ بدلًا من الفرشاة، حتى يتمكن من لفت الانتباه إلى عملية صنع اللوحة نفسها.
كانت «اللوحات التجريدية» البارزة الأخرى التي رسمها ريختر في الواقع صورًا واقعية مرسومة بعناية تعكس لوحاته التجريدية الأخرى. أصبحت طلائعية الرسم التجريدي مفهومية أكثر، ما جعل ضمنيًّا قضية الرسم تحظى باستقلالية أقل مما كان كان يعتقد النقاد الحداثيون.
قلّد فنانوّ «نيو جيو»، مثل: الرسام بيتر هالي، والنحات أشلي بيكرتون اللغة البصرية للتجريد الهندسي، لكنهما دمجاها مع السلع الاستهلاكية بألوانٍ تجارية فاتحة وأحيانًا فلورية.
منذ ذلك الجيل ما بعد الحداثي من الرسامين والنحاتين الممتد من الستينيات إلى التسعينيات، ازدهر التجريد متفرّعًا إلى عددٍ لا يُحصى من الأساليب والمقاربات بجوار الفن التشخيصي. هنا يمكن القول إنّ التجريد المتحرّر من عبء التوقعات الحداثية هو ببساطة نهج للتعبير مثل أيّ نهج آخر.
وتجدر الإشارة إلى أنّ بعض الفنانين التجريديين استخدموا الحيل البصرية المستعملة في الفن التشخيصي – مثل المنظور والتظليل – في لوحاتهم. ولاستخدامهم هذا أهداف فريدة و غالبًا لا تهتم بالنظرية.
قلّد فنانوّ «ما بعد الحداثة» مثل: بيتر هالي اللغة البصرية المستعملة في الفن التجريدي الحديث (في حالة بيتر، التجريد الهندسي)، للتعليق على طبيعة الفن والمعنى نفسه. تمثّل هذه الكتل الملونة «الخلايا» و«الأنابيب».قلّد فنانوّ «ما بعد الحداثة» مثل: بيتر هالي اللغة البصرية المستعملة في الفن التجريدي الحديث (في حالة بيتر، التجريد الهندسي)، للتعليق على طبيعة الفن والمعنى نفسه. تمثّل هذه الكتل الملونة «الخلايا» و«الأنابيب».
هذا هو التحرّر نحو الأفضل بين الرسامين التجريديين الذين يمكنهم الالتزام برؤيةٍ فريدة بالرسم على القماش. لكن فكّ ارتباط الفن التجريدي عن إطاره الفلسفي الأوسع أدى أيضًا إلى انتشارٍ يثير التساؤل لأعمال تجريدية متنوعة قابلة للاستهلاك – بمعنى أنّها فقدت قيمتها، وباتت تُباع وتُشترى سريعًا بأسعارٍ مربحة – يشتريها المشترون المتضاربون.
دفع هذا التحول الناقد جيري سالتز إلى كتابة: « الزومبي على الجدران: لماذا يبدو الكثير من التجريد الجديد متشابهًا؟». وقد شبه اللّوحات التجريدية بصورة «الزومبي»، تحقيرًا لأعمال عددٍ من الرسامين التجريديين البارزين، الذين استخدموا الفنّ وجماليته لتقديم أعمال مبتذلة.
ومن المفارقات أن هؤلاء الفنانين نظروا إلى الشكلانية بوصفها فنًّا حداثيًّا متبنّين منظور غرينبيرغ، لكنهم بالطبع قدّموا أعمالًا في ظلّ فراغ تاريخي وبعد فترةٍ طويلة حين لم يُصبح التجريد مثيرًا للاهتمام أو راديكاليًا بأي وجه من الوجوه.
في الواقع، لم يصل مشروع الحداثة في الفن التجريدي إلى نهايته، بل النقد. إنّ النقد -أيّ الإطار الفلسفي الواسع الذي يصادق على الأعمال الفنية ويثمّنها لأهميتها الثقافية والتاريخية- هو ما فقد التوجه والسلطة.
كان مسار الفن الغربي منذ عصر التنوير يتأرجح بين قطبي الدوغمائية النقدية والإبداع. تكمن المشكلة أنه في العقود الأخيرة، وفي ظلّ غياب أي مشروع نقدي متماسك، انجرف الفن نحو إرضاء اهتمامات دقيقة ومتنوعة تزداد باستمرار.
في حين كانت هناك «حركات» و«مدارس» فنية -مصطلحان يشيران إلى الوجهة والانضباط- لم يعد لدينا الآن سوى «مشاهد».
هذا ليس بالضرورة أمرًا سيئًا. ولكن في عالم حيث «كل شيء مقبول – anything goes»، لا يوجد مجال لهذا النوع من الابتكار والتجاوز الذي أدى إلى ظهور الفن التجريدي في الغرب، وهذا ما جعل الفن الحديث فنًّا مثيرًا للغاية.
من الصعب في هذه اللحظة التاريخية أن ندرك ما الذي جعل لوحة بولوك «رقم 32» مثيرة للانقسام، ومخلخلةً جدًا للمعايير، وفي الوقت نفسه محتفظةً بقيمةٍ عالية جدًا لأولئك الذين يعتقدون أن للفنِّ مكانًا في المجتمع يتجاوز المتعة.
[divider style=”solid” top=”20″ bottom=”20″]
[1] واللقب كذلك يُلمح إلى القاتل المتسلسل في لندن آخر القرن التاسع عشر: جاك السفّاح
Jack the ripper (مدير التحرير).
### خارج عقلك | توم تشاتفيلد – ت: محمد السعيد
عندما يكون هاتفي النقال بين يديّ، هل أكون أنا الشخص نفسه لو كان الهاتف في غرفة أخرى؟ من ناحية،...
### الدراما في التعليم: مقاربات وتطبيقات | نعيم حيماد
افتتاحيّة حظي استخدام الدراما في التعليمفي السنوات الأخيرة باهتمام كبير من قبل نخبة من المنظرين والممارسين للدراما في مجال التعليم....
### الحقائق المخفية | دي بي سي بيير – ت: محمد السعيد
يحمل جبل كلسي خشن في غرب إيران عددًا من النقوش البارزة، من بينها لوحة طولها خمسة وعشرين مترًا منقوشة...
### التغلُّب على كاشف الكذب | كلاريسا سيباغ-مونتِنفيوري – ت: محمد السعيد
حين اتُّهِمَتْ مربية الأطفال البريطانية لويز وودورد بهزِّ رضيع حتى الموت في مدينة نيوتن بولاية ماساتشوستس، لم تكتفِ بإعلان...
### عن منصة معنى
«معنى»، مؤسسة ثقافية تقدّمية ودار نشر تهتم بالفلسفة والمعرفة والفنون، عبر مجموعة متنوعة من المواد المقروءة والمسموعة والمرئية. انطلقت في 20 مارس 2019، بهدف إثراء المحتوى العربي، ورفع ذائقة ووعي المتلقّي المحلي والدولي، عبر الإنتاج الأصيل للمنصة والترجمة ونقل المعارف.
### روابط سريعة
### التصنيفات
### مرحبا بك!
قم بتسجيل الدخول إلى حسابك
تذكرني
### قم بإنشاء حساب جديد!
املأ النموذج أدناه للتسجيل
### طلب إعادة تعيين كلمة المرور
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان البريد الإلكتروني لإعادة تعيين كلمة المرور الخاصة بك.
### Add New Playlist
- Select Visibility -PublicPrivate
No Result
عرض جميع النتائج
-
00:00
00:00
-
00:00
00:00
|
article
|
Arabic
|
ar
|
الفنّ التجريدي: بين الماضي والحاضر - منصة معنى الثقافية
|
https://mana.net/abstract-art/
|
1,937 |
منذ ذلك الجيل ما بعد الحداثي من الرسامين والنحاتين الممتد من الستينيات إلى التسعينيات، ازدهر التجريد متفرّعًا إلى عددٍ لا يُحصى من الأساليب والمقاربات بجوار الفن التشخيصي. هنا يمكن القول إنّ التجريد المتحرّر من عبء التوقعات الحداثية هو ببساطة نهج للتعبير مثل أيّ نهج آخر.
|
paragraph
|
لا توجد منتجات في سلة المشتريات.
No Result
عرض جميع النتائج
الثلاثاء, سبتمبر 10, 2024
No Result
عرض جميع النتائج
No Result
عرض جميع النتائج
# الفنّ التجريدي: بين الماضي والحاضر
## ترجمة: أنطونيوس نادر
AA
AA
إعادة تعيين
فنٌ مليء بالتحديات
ثمّة خطٌ رفيع يفصل بين الفن التجريدي ومجرد الزخرفة، ولوحة «رقم 32» (نُشرت عام 1950)، لجاكسون بولوك تتأرجح بين هذا الخطّ. فهي لا تشير إلى معنىً واضح، ولكن لا يمكن القول إنّها بلا معنى على الإطلاق. كما أنّها ليست معبّرة بشكلٍ مباشر، ولا يعني هذا أنها لا تعبّر عن مدلولٍ ما. تحمل هذه اللوحة الكثير من المضامين عن الفن الغربي بالنسبة إلى شخصٍ خبيرٍ في تاريخ الفن؛ أما بالنسبة إلى شخصٍ عادي، فقد يراها عملًا مبتذلًا بالكاد يعبّر عن أمرٍ ما.
اللوحة شبكة من الخطوط وبقعٍ من الألوان، رُسمت عن طريق صبّ طلاءٍ رخيص بعشوائيةٍ مباشرة على القماش. تتكون اللوحة من طلاءٍ أسود فقط وقماشٍ خام. واللوحة ضخمة؛ إذ يبلغ طولها تسعة أقدام وعرضها خمسة عشر قدمًا، وتغطي مجال رؤية المشاهد أثناء اقترابه منها. تقليديًّا، حتى اللوحات التجريدية تتكون من أجزاءٍ مترابطة مع بؤر تركيز (emphases) وعمقٍ يُنقل من خلال اللون والظلال، ولكن «رقم 32» ليس لها أجزاء؛ إنّها تتكون من تعالقات، والبؤرة فيها تكمن عبر امتداد سطح القماش المستطيل.
يمنحها ما سبق عمقًا سطحيًا، وربما لا عمق فيها: مجرّد طلاء على قماش. إنّها عبث بالشكل واللون. حتى اسمها، ببساطة رقمٌ معيّن – رقم 32 – يجعلها تنأى بنفسها عن أي فكرة مفادها أنها تعكس مدلولًا محدّدًا. تشير عناوين أعمال بولوك الأخرى إلى نوعٍ من الاختبار الشخصي، وإلى الاستخدام السمفوني المتعدد الطبقات للون والملمس؛ خذ مثلًا لوحاته التي تحمل اسم: «إيقاع الخريف»، و«الضباب الأرجواني»، و«الأقطاب الزرقاء»، و«انعكاس الدنقلة الكبير».
هذا لا ينطبق على لوحة «رقم 32»؛ شكلها الخام وبساطتها دليل على أنّ الفنان لم يخطط مسبقًا لرسمها؛ أيّ أنّه لم ينتق الألوان ولا الطبقات. يبدو بولوك هنا أكثر حضورًا، من خلال لمساته الحادة. بالنسبة إلى مؤيديّ عمل بولوك، تختصر هذه اللوحة خلاصة نظرة الفنان الجمالية. أما بالنسبة للبعض الآخر، فهي لوحة مبتذلة.
وصف جوزيف بويس -النحات الألماني في فترة ما بعد الحرب- الفنَّ التجريدي الأمريكي بأنه مجرد «تغليف»، أيّ سطح بلا محتوى. في هذا الصدد، قد يتفق البعض أن لوحة «رقم 32» تجسد فراغ الفكر والشعور ذاك. فقد رأى الروائي والناقد الفني روبرت كوتس أن فن بولوك لم يكن سوى «انفجارات» غير منظمة من الطاقة العشوائية. غير أنّ طائفة كبيرة من متذوقي الفن التجريدي لا تروق إليهم أعمال بولوك ويرونها فنًّا محيرًا، حتى إنّ بعضهم يراها إهانةً للذوق أو الحسّ السليم.
عُرف بولوك بلقب: «جاك فنان النقط» (Jack the Dripper) [1] في الأوساط الإعلامية المشككة بعمله حيث ادعى كثر أن أيّ شخص يمكنه أن يرسم كما يرسم بولوك إلّا أنّ أحدًا لم يتجرأ على فعل ذلك.
«رقم 32» - جاكسون بولوك«رقم 32» – جاكسون بولوك
بيد أنّ هذا هو مغزى الفن التجريدي في التقليد الغربي: إنّه تحدّ. وفي ظل الكثير هذه التحديات، تُعد لوحة « رقم 32» اللوحة الأكثر تمثيلًا لهذا الفن.
قصة الفنّ التجريدي
مسار قصة الفن التجريدي مضمّنة في الدراسات التاريخية الفنية، إلّا أنّ المحطات الرئيسة لهذا المسار كانت محط تغييرات مفاجئة كلما اكتشف مؤرخوّ الفن حقائق جديدة.
انطلق مسار الفن التجريدي بدءًا من القرن التاسع عشر وما تلاه؛ حيث استفاد الفنانون من مادة الطلاء والجوانب الشكلية للرسم مثل اللون والدرجة والخطوط. يُعرف هذا الانشغال بالجوانب غير التمثيلية (non-representative) للفن باسم «الشكلانية»، لأنّه انشغال «بالشكل»، أيّ بتوسل شكل المحتوى بدلًا من المحتوى في ذاته. بالنسبة إلى الفنانين في القرن التاسع عشر، صُنّف الفن التجريدي على أنّه «فنٌّ من أجل الفنّ»، وكانت الفكرة الشائعة مفادها أنّ المتذوق للفن يمكنه الاستمتاع بالعمل دون اللجوء إلى معنى أو حتى أي شيء آخر يمثل أمرًا ما.
تمثّل لوحة «الموسيقى الهادئة باللّونين الأسود والذهبي – الصاروخ الساقط» (1872)، للفنان جيمس مكنيل ويسلر هذا الاتجاه الذي تبلور لاحقًا في الفن التجريدي. إنّ مشهد ويسلر الغامض من الناحية المكانيّة يقترب إلى التجريد، وذلك بمحاولته نقل الشعور أو الانطباع الخاص بالمشهد بدلًا من إعادة إنتاجه بحذافيره.
«الموسيقى الهادئة باللونين الأسود والذهبي - الصاروخ الساقط» (1872-1877) - جيمس أبوت مكنيل ويسلير«الموسيقى الهادئة باللونين الأسود والذهبي – الصاروخ الساقط» (1872-1877) – جيمس أبوت مكنيل ويسلير
في عام 1877، انتقد جون روسكين – أبرز نقّاد بريطانيا في ذلك الوقت – عمل ويسلير هذا نقدًا لاذعًا فشبهه «بمن قام برمي الطلاء في وجه الجمهور». تأثر ويسلر بهذا الكلام، فرفع دعوى قضائية ضد روسكين، بيد أنّه خسرها لأن المسؤولين عرضوا اللوحة -خطأً- مقلوبةً على المحكمة. أفلس ويسلير بسبب هذه القضية، لكن مسيرة تطور الفن التجريدي استمرت.
من ناحيةٍ أخرى، تحديد أول فنان تجريدي في العالم موضوع نزاع. في نظر أبحاث تاريخ الفن التقليدية، كان فاسيلي كاندينسكي – فنان روسي الجنسية رسم لوحات تجريدية بالكامل في مطلع عام 1911- هو أول فنان تجريدي.
لم ينل الفن التجريدي الرائد لهيلما أف كلينت تقديرًا إلا قبل سنوات قريبة. هذه صورة للمعرض الشهير في متحف غاغينهايم، عام 2018 .لم ينل الفن التجريدي الرائد لهيلما أف كلينت تقديرًا إلا قبل سنوات قريبة. هذه صورة للمعرض الشهير في متحف غاغينهايم، عام 2018 .
ولكن في الآونة الأخيرة، وبفضل المعرض الرائد في متحف مقاطعة لوس أنجلوس للفنون في عام 1986 الذي حمل اسم «الروحانية في الفن: الرسم التجريدي 1890 – 1985»، وقع الاختيار على هيلما أف كلينت كأول رسامة تجريدية. بدأت كلينت في رسم لوحات تجريدية بدءًا من عام 1906، وحملت مجموعتها عنوان «الفوضى البدائية». كانت الفنانة متكتمة في ما يتعلق بأعمالها التجريدية، ولم تُعرض أيّ منها في معارض عامة، وبقيت غير معروفة حتى أزيح عنها الستار مؤخرًا.
ولعل الجدال حول هوية أول من مارس الفن التجريدي سيستم، لكن الحقيقة الأكثر أهمية هي أن العديد من الفنانين الأوروبيين البارزين قد توصّلوا في أعمالهم إلى التجريد بحلول الحرب العالمية الأولى. لقد وجد كل منهم طريقته الخاصة في التخلي عن الفن التشخيصي (figurative painting). وجديرٌ بالذكر أنّه لم تكن هناك حركة «تجريدية» دولية ذات رؤية أو بيان مشترك.
في ضوء ذلك، فإن السؤال الملحّ حقًا هو: لمَ لمْ يتبنى الفنانون الغربيون الفن التجريدي على امتداد قرون عديدة؟ لماذا كان التجريد غير ضروري أو لا معنى له أو غير مناسب أو حتى لا يمكن تقبّله لقرونٍ متوالية في الفن الغربي؟
ظهرت العديد من التفسيرات لشرح ذلك. إحدى النظريات الأكثر وضوحًا هي أن ظهور التصوير الفوتوغرافي بوصفه شكلًا من أشكال الفن، إضافةً إلى تطور الفن الحديث، سببان رئيسان لإزاحة الرسم التشخيصي.
ثمّة إجابات أخرى غير ملموسة لاستكشاف الأسباب: ربما عندما أصبحت الأعمال الفنية قابلة للاستهالاك بشكل متزايد، مثل السلع، بات من السهولة فصل اللوحات والمنحوتات عن التجارب المحددة لمبدعيها. ربما أدت الحداثة في الغرب إلى إفراغ الفن من المحتوى التشخيصي؛ مما دفع الفنانين أيضًا إلى التخلي عن التمثيل التشخيصي.
كل من هذه الإجابات معقدة وتتطلب الكثير من الشرح، ولا يمكن إلا أن تكون تخمينات. لا توجد إجابة واضحة لهذه المسألة. ربما يكون من الأفضل طرح السؤال حول سبب تقبّل الفن التجريدي فنًّا من الفنون الرسمية في تاريخ الفن الغربي في مرحلة معينة على علماء الأنثروبولوجيا بدلًا من طرحها على مؤرخي الفن. فما هو واضح أن الفن التجريدي كان موجودًا دائمًا في مناطق أخرى من العالم.
ما جعل الفن التجريدي فنًّا حديثًا على وجه التحديد في العالم الغربي هو نظام المعارض، الذي أعطى القيمة الفنية للأعمال المعروضة. وكما هو واضح فقد ازدهر التجريد لآلاف السنين المناطق الشرقية والجنوبية من العالم، دون عناء التحقق من مكانة الأعمال المعروضة في الصالونات [والمعارض، كما هو في العالم الغربي].
الواقع الافتراضي و«الافتراضية»
يتبنى بيبي كرمل وهو مؤرخ فني، في كتابه « الفن التجريدي: تاريخ عالمي»، فكرة أنّ الفن التجريدي كان دائمًا موجودًا بشكل طبيعي عندما ننظر إليه نظرة شاملة وعالمية، بيد أنّه يتحاشى طرح نظرية عن تطور الفن التجريدي. بالنسبة إلى كرمل، فإنّ هذا الفنّ متجذر في العالم الحقيقي، وهو ليس فنًّا «مجردًا» على الإطلاق، كما أنّه تقليد عالمي وليس محليًا.
في دراسته حول الفن التجريدي يقسم العمل الفني إلى خمس فئات واسعة تنتمي إلى العالم الحقيقي: الأجسام، والمناظر الطبيعية، والكون، والبنى، والعلامات والأنماط. من خلال فحص الفن التجريدي بهذه الطريقة، يرى كرمل في اللوحات التجريدية موضوعات قابلة للتحليل، بعكس النقاد والمؤرخين الأرثوذكسيين الذين رأوا فيها مجرّد توليفات شكلية مكوّنة من لون وشكل.
ربما يكون من الأفضل أن يطلق على الفن التجريدي: فن ما تم تجريده (abstracted art)؛ لأنّ الفنانين التجريديين عادةً ما يستخلصون ويجرّدون تعبيرات التجارب في شكل ولون، أكثر من كونها توليفات مكونة من شكل ولون. ومرّد ذلك الطبيعة الجوهرية للرسم والنحت؛ فهما (الشكل اللّون) وسيطان للتعبير، مثل الشاشة أو المسرح لخيال الفنان. كما هو الحال في المسرح أو السينما، فإنّ جمهور اللوحة أو المنحوتة يعلّق معتقداته من أجل أن يتقبل المشهد.
من المفيد التفكير في اللوحة التشخيصية التقليدية أو النحت على أنها حقيقة افتراضية. إذْ استخدم الفنانون لقرون عديدة الحيل البصرية -مثل المنظور الخطي، والتقصير المسبق، والتظليل- لمحاكاة الطريقة التي ندرك بها الأشياء في الفضاء الحقيقي. إنّ المشاهد تُنشأ في فضاء افتراضي – سواء كانت القاعدة التي تدعم التمثال أو القماش – ليراها المشاهدون بوصفها خدعة بصرية.
«القديس بطرس شفاء أحد الأشخاص وبعث تابيثا من الموت» ماسولينو دي بانيكال. اعتمد الرسم الغربي قبل القرن العشرين على الحيل البصرية لخلق واقع افتراضي. إحدى هذه الحيل هي المنظور الخطي، وهذه اللوحة هي أول مثال لاستخدام نقطة تلاشٍ متسقة.«القديس بطرس شفاء أحد الأشخاص وبعث تابيثا من الموت» ماسولينو دي بانيكال. اعتمد الرسم الغربي قبل القرن العشرين على الحيل البصرية لخلق واقع افتراضي. إحدى هذه الحيل هي المنظور الخطي، وهذه اللوحة هي أول مثال لاستخدام نقطة تلاشٍ متسقة.
يستمتع مشاهدوّ الأعمال الفنية العظيمة معنى ما يُرسم، ويقدرون الطريقة التي يتجلّى فيها الوهم عبر تمازج اللون والشكل.
يبقى الفن التجريدي، إلى حدٍ ما، ضمن إطار التجربة الجمالية. فقد سعت حركات الفن الحديث التي أدت إلى التجريد -أيّ «مدارس الفن»، مثل الانطباعية والفاوفية والتكعيبية- إلى تمثيل العالم بشكل مختلف عن كل الفنون التي سبقتها. إذْ ادعوا الاقتراب من الحقيقة الذاتية عبر تهميش جميع الحيل الوهمية التقليدية التي حاولت إعادة إنتاج الواقع بحذافيره كحقيقة موضوعية.
«الأحمر والأصفر والأزرق» (1925) واسيلي كاندينسكي. كان كاندينسكي يعدّ لفترةٍ طويلة أب الرسم التجريدي الغربي.«الأحمر والأصفر والأزرق» (1925) واسيلي كاندينسكي. كان كاندينسكي يعدّ لفترةٍ طويلة أب الرسم التجريدي الغربي.
بالنسبة إلى هذه المدارس، أصبح الفن أقل من أن يوصف بأنّه واقع افتراضي، لكنه مع ذلك احتفظ بالافتراضية، وأصبح افتراضيًا. لقد أخذ الفن التجريدي مسار التطور هذا إلى أقصاه: من الواقع الافتراضي إلى الافتراضية.
ماذا تعني «الافتراضية» هنا؟ إنّها الوجود كجوهر وتأثير، ولكن بدون اللجوء إلى الواقع. اللوحة التجريدية التي رسمها كاندينسكي، على سبيل المثال، ما زالت تُعدّ علاقة متبادلة بين الشكل واللون، و تعتمد على الرسم كمستوى تخطيطي: إنها نافذة تطلّ على «الواقع» الفردي الذي تصوّره كاندينسكي.
وما تزال العناصر في لوحات كاندينسكي تحظى بعلاقة متبادلة، كما هو الحال في فضاء الواقع الافتراضي للوحة التشخيصية؛ فجوهر الرسم سليم إذ إنّ ذلك الفضاء الافتراضي ما زال موجودًا. عندما يكون الفن التجريدي بناءً خالصًا، ويتخلص من المساحة الافتراضية الملازمة للرسم والنحت، يصبح متميزًا عنهما.
وصف دونالد جود الفنان التخفيفي (minimalist) مثل هذه الأعمال الفنية بأنها «أجسام محدّدة» (Specific Objects). إنّه مصطلح غير دقيق، ولكنه يصلح لإظهار أن مثل هذه الأعمال الفنية ليست رسمًا ولا نحتًا، ولكنها فئة أخرى تمامًا.
رأى دونالد جود أن أعماله وأعمال العديد من معاصريه تشغل مساحة هجينة، لا هي لوحات ولا هي نحت. عمل دون عنوان لدونالد جود.
استخدم جود هذا المصطلح لوصف أعماله الخاصة، ولكنه ينطبق على لوحات كازيمير ماليفيتش وفرانك ستيلا أحادية اللون، والتي تجعل اللوحة تندمج مع نفسها بالكامل، من أجل الوصول للتأثير الذي يأمل العمل في تحقيقه.
في مثل هذه الأعمال، لم يعد قماش اللّوحة (أو القاعدة) سطحًا تتفاعل فيه الأشكال والألوان في الفضاء الافتراضي. بدلاً من ذلك، تتفاعل الأشكال والألوان في الفضاء الحقيقي، في فضائنا.
تختلف معايير النجاح أو الفشل لهذه الأعمال عن الخصائص التقليدية للرسم والنحت. رأى جود أنّ خصائص الرسم والنحت تقف في طريق ما أراد تحقيقه من خلال اللون والشكل. في رأيه، كان لـ «أجسامه المحددة» تأثيرًا أحدّ من غيرها.
الواقع والأشكال الجديدة للإدراك الحسّي
الرسم نفسه له ثلاثة أنواع عامة من التجريد؛ أولًا، ثمّة أسلوب تعبيري تُرسم فيه الأشكال بحركاتٍ غير مقيدة؛ ثم هناك التجريد الهندسي حيث يتم هيكلة الأشكال؛ أما النوع الثالث، فهو تجريد مجال اللون حيث يتم عرض مساحات من الألوان بطريقةٍ لا شكل واضح لها.
لم تكن هذه «الأنماط» (styles) أنماطًا عرضيةً أو تعتمد على ذوق أو ميل الرسام كوسيلة لتحقيق هدفٍ ما من البحث الفني. وخير مثال على ذلك هو الفنان الذي غالبًا ما ينظر إلى عمله على أنّه ذروة التجريد الهندسي: بيت موندريان. إنّ لوحات بيت موندريان المكونة من شبكات (grids) ذات الخطوط السوداء والأجزاء الملونة على خلفية بيضاء؛ تهدف إلى استحضار «حقيقة أعلى».
بالنسبة إلى موندريان، كان الفن في جوهره معارضًا للواقع؛ «لأن الواقع يتعارض مع الروحي». بغض النظر عن هذه اللوحة الأشهر لموندريان، فإنّ جوانب الرسم التي تهم هذا الفنان حقًا لم تكن الجوانب المحددة للموضوع -أيّ ماذا أو ما يتم تصويره في اللوحة مثلًا- بل الجوانب القابلة للفهم عالميًا للشكل والخط واللون. إنّ لوحات موندريان، مثلها مثل لوحات الفنانين الآخرين، هي محاولة لاستخلاص الشكل واللون من أجل الاقتراب من ذلك الجوهر العالمي والروحي للفن.
عبّر موندريان عن رغبته في الوصول إلى «أساس» الأشياء من خلال الحدس، كالعديد من الفنانين التجريديين الآخرين في النصف الأول من القرن العشرين الذين رغبوا في الوصول إلى قوى غير مرئية حولنا، ولكنها معروفة أو محدوسة.
«التكوين الثاني باللون الأحمر والأزرق والأصفر» (1930) - بيت موندريان«التكوين الثاني باللون الأحمر والأزرق والأصفر» (1930) – بيت موندريان
في أواخر القرن التاسع عشر، لاحظ العلماء بشكلٍ أفضل مما سبق القوى غير المرئية مع انتشار التقنيات الجديدة، وأصبح من الواضح أن العالم أرحب مما يبدو للعين. في الوقت نفسه، ظهرت حركات روحية بديلة جمعت بين الأفكار الأفلاطونية والتصوف.
كان كلينت وموندريان من بين العديد من الفنانين الذين انغمسوا في أشكال الروحانية خارج العوالم التقليدية للدين. اعتقدت كلينت أن لوحاتها هي وحي عالم روحي، وأن مهمتها كانت العمل «على مستوى روحاني» لتمثيل روح الإنسان، بدلًا من صورته الفانية.
بحلول عشرينيات القرن الماضي، كانت نظرية فرويد عن للعقل البشري قد تغلغلت أيضًا في عالم الفن. كذلك السريالية، وهي حركة منظمة بإحكام بدأت مع بعض الفنانين الذين سعوا إلى التنقيب عن الإمكانات الإبداعية للعقل الباطن، وهي الحركة الثقافية التي كانت سائدة في أوروبا بين الحربين العالميتين.
لم تكن السريالية دوغمائية في محاولتها لاستكشاف اللاوعي، ولذلك ظهر عدد من الأساليب والطرق لمحاولة إخراج اللاوعي إلى السطح. إحدى هذه الأساليب كان الرسم الآلي (Automatism)، وهي عملية يتخلى فيها الفنان عن السيطرة الواعية لليد التي ترسم أو تصور. في هذا المجال، تبنى الفنانون مثل أندريه ماسون وخوان ميرو الفرصة لبناء صورهم باستخدام حركات حرّة، وحتى إلقاء الطلاء على القماش.
طور أرشيل غوركي -هو مهاجر أرمني عاش في الولايات المتحدة- أسلوبًا في الرسم يدمج بين الرسم الآلي وتجريد مجال الألوان. لوحاته في الأربعينيات حجمُها ضخم – ومرد ذلك تأثره بأعماله السابقة كفنان جداري مُعيّن من الدولة خلال السنوات الأخيرة من الكساد الكبير – لكنها معبّرة وغنائية في الرسم بالفرشاة.
ألهم إدماج غوركي للأنماط جيلًا واسعًا من الفنانين الأمريكيين في فترة ما بعد الحرب لاحتضان التجريد الواسع النطاق. ما نسميه الآن «التعبيرية التجريدية»، وكان ذاك الجيل في الواقع مجموعة فضفاضة من الفنانين الذين يستخدمون أنماطًا متعدّدة من أنماط التجريد.
ربما كان القاسم المشترك بين هؤلاء الفنانين – على الأقل في السنوات الأولى – هو دعم جيل جديد من النقاد بقيادة كليمنت غرينبيرغ، الذي كان يعتقد أن التجريد هو التعبير الأسمى للفن الغربي.
«الكبد هو مشط الديك» (1944) - أرشيل جوركي.«الكبد هو مشط الديك» (1944) – أرشيل جوركي.
الحداثة ومصير الفنّ الغربي
كان يُعتقد في بعض الأوساط الفكرية المؤثرة أنّ الفن يتقدم نحو هدف؛ وهذا المضمون يشتمل عليه مصطلح «الطليعية» (Avant-garde)، الذي يُوصف به الفنّانون الذين يبتكرون أرضية جمالية جديدة. أصل المصطلح فرنسي يُطلق على الجنود الذين يتقدمون إلى مناطق جديدة.
بالنسبة إلى غرينبيرغ، لم يكن هؤلاء الفنّانون يوسّعون حدود إمكانات الفن؛ بل كانوا يتقدمون نحو الهدف الحقيقي والمفرد لكل شكل فني.
يُعدّ غرينبيرغ شخصية مهمة في تاريخ الفن التجريدي، وذلك لأمرين: بوصفه مناصرًا رائدًا في مسألة تفوق الفن التجريدي على غيره من أنواع الرسم، وتأكيده للقوة التي امتلكها هذا الفن. كان ناقدًا في اللجنة الأمريكية للحريّة الثقافية التي تمولها الدولة، وهي مجموعة تم إنشاؤها لتعزيز الفن الأمريكي على المستوى الدولي.
أصبحت أفكار غرينبيرغ مؤثرة عندما كانت الولايات المتحدة جزءًا من الحرب على الفاشية والنازية، وخلال الحرب الباردة اللاحقة ضد الشيوعية السوفيتية. كانت معايير الفن الفاشي والسوفياتي واضحة، وهي ما تحددها السلطات الثقافية أنها كذلك، بيد أنّه ما لم يكن واضحًا هو معايير الفن «الجيد» وتحديدًا في الغرب الديمقراطي.
كان الماركسيون هم من تعاطف مع غرينبيرغ في البداية، لكن ارتبط تفكيره بشكلٍ متزايد بالهيمنة الثقافية الأمريكية. بالنسبة إليه، كان التجريد في أعمال بولوك فنًا مثاليًا لمجتمع ديمقراطي. تتجلى الحداثة في الفن، وفقًا لغرينبيرغ، في إطار التنوير الأوروبي؛ أيّ في فترة ازدهار الأفكار الفلسفية والعلمية التي أعطت الأولوية للعقل.
في مقالته المؤثرة « الرسم الحداثي» (1961)، وصفَ غرينبيرغ إيمانويل كانط – الفيلسوف الألماني في عصر التنوير – بأنّه «أول حداثي حقيقي». كان أسلوب كانط في «النقد» هو استخدام العقل لنقد العقل بغرض توضيحه، ومنحه استقلالية عن أنواع التفكير الأخرى.
«أولمبيا» - إدوارد مانيه (1863). بالنسبة إلى كليمنت غرينبيرغ، كان مانيه أول رسام حداثي. لقد رسم مانيه لوحاته بأسلوبٍ مسطّح بشكلٍ متعمد.«أولمبيا» – إدوارد مانيه (1863). بالنسبة إلى كليمنت غرينبيرغ، كان مانيه أول رسام حداثي. لقد رسم مانيه لوحاته بأسلوبٍ مسطّح بشكلٍ متعمد.
بالطريقة نفسها، كان الرسامون الحداثيون – من إدوارد مانيه في القرن التاسع عشر إلى موريس لويس، وهو رسام يعمل ينتمي إلى رسامي أسلوب مجال ألوان في الولايات المتحدة في الوقت الذي كتب فيه غرينبيرغ مقالته – يعملون على ترسيخ الفن التعبيري «بشكل صارم في مجال تخصصه».
رأى غرينبيرغ أن وضوح الفن التجريدي -الذي كان صادقًا بالنسبة إلى الوسيط الذي يُعبّر من خلاله- معارضٌ لـ«الفن الشعبي المبتذل [الكيتش]» الذي ينُتج على نطاق واسع في الثقافة الشعبية. إن إزالة «الكيتش» كانت مسألة استجلاء وتوضيح تحتاجها جميع الفنون لكي تصبح تعبيرًا عن إمكاناتها الجمالية الكامنة.
اللوحات مسطّحة، وإيهام العمق الذي نجده في معظم الفن الغربي كان انحرافًا عن جوهر فن الرسم ذاته. كانت استقلالية الشكل الفني في جميع خصائصه دون أن تتلوث بأشكال فنية أخرى. وفقًا لغرينبيرغ، يعدّ الشكل واللون من أهم خصائص الرسم، و أفضل تمثيل لها يكون بشكلٍ مسطّح.
وهكذا دافع غرينبيرغ عن «التسطيح» الذي تجلّى في لوحات الفنانين الأمريكيين التجريدية مثل جاكسون بولوك باعتباره تحقيقًا لهذا الوضوح الحداثي. لقد ضم هؤلاء الفنانين معًا ضمن فريق واحد، وهم يمثّلون المرحلة التالية في الحداثة، وقد حلّت رؤيتهم الأمريكية المميزة محلّ الفن الأوروبي الطليعي.
وفي الوقت الذي أصبح فيه الفن التجريدي الأمريكي مهيمنًا، تراجعت هيمنة غرينبيرغ النقدية، وظهرت أشكال جديدة من الفن الطليعي، مستوحاة مباشرة من الثقافة الجماهيرية، وحلّت محلّ التعبيرية التجريدية في المخيال العام. تبنى فنانوّ «البوب» مثل: آندي وارهول، وريتشارد هاميلتون هذا النوع من «الفن الشعبي المبتذل» الذي رآه غرينبيرغ تلويثًا للفن الحقيقي.
استمرت الأعمال الفنية التجريدية، ولكن تخلّى الفنّانون التجريديون الأكثر جرأة عن الفكرة الصارمة «للنقد الحداثي»، وعن الوضوح المتعلق بخصوصية الوسيط الفني، وذلك لصالح أشكال أخرى من التعبير.
نظر فنانوّ «ما بعد الحداثة» إلى السخرية وعملية الرسم نفسها، كطرق لتجاوز الطريق المسدود للحداثة. تبنى الألماني غيرهارد ريختر كلا النهجين؛ فبعض أعماله التجريدية في الستينيات كانت مصنوعة بممسحاتٍ بدلًا من الفرشاة، حتى يتمكن من لفت الانتباه إلى عملية صنع اللوحة نفسها.
كانت «اللوحات التجريدية» البارزة الأخرى التي رسمها ريختر في الواقع صورًا واقعية مرسومة بعناية تعكس لوحاته التجريدية الأخرى. أصبحت طلائعية الرسم التجريدي مفهومية أكثر، ما جعل ضمنيًّا قضية الرسم تحظى باستقلالية أقل مما كان كان يعتقد النقاد الحداثيون.
قلّد فنانوّ «نيو جيو»، مثل: الرسام بيتر هالي، والنحات أشلي بيكرتون اللغة البصرية للتجريد الهندسي، لكنهما دمجاها مع السلع الاستهلاكية بألوانٍ تجارية فاتحة وأحيانًا فلورية.
منذ ذلك الجيل ما بعد الحداثي من الرسامين والنحاتين الممتد من الستينيات إلى التسعينيات، ازدهر التجريد متفرّعًا إلى عددٍ لا يُحصى من الأساليب والمقاربات بجوار الفن التشخيصي. هنا يمكن القول إنّ التجريد المتحرّر من عبء التوقعات الحداثية هو ببساطة نهج للتعبير مثل أيّ نهج آخر.
وتجدر الإشارة إلى أنّ بعض الفنانين التجريديين استخدموا الحيل البصرية المستعملة في الفن التشخيصي – مثل المنظور والتظليل – في لوحاتهم. ولاستخدامهم هذا أهداف فريدة و غالبًا لا تهتم بالنظرية.
قلّد فنانوّ «ما بعد الحداثة» مثل: بيتر هالي اللغة البصرية المستعملة في الفن التجريدي الحديث (في حالة بيتر، التجريد الهندسي)، للتعليق على طبيعة الفن والمعنى نفسه. تمثّل هذه الكتل الملونة «الخلايا» و«الأنابيب».قلّد فنانوّ «ما بعد الحداثة» مثل: بيتر هالي اللغة البصرية المستعملة في الفن التجريدي الحديث (في حالة بيتر، التجريد الهندسي)، للتعليق على طبيعة الفن والمعنى نفسه. تمثّل هذه الكتل الملونة «الخلايا» و«الأنابيب».
هذا هو التحرّر نحو الأفضل بين الرسامين التجريديين الذين يمكنهم الالتزام برؤيةٍ فريدة بالرسم على القماش. لكن فكّ ارتباط الفن التجريدي عن إطاره الفلسفي الأوسع أدى أيضًا إلى انتشارٍ يثير التساؤل لأعمال تجريدية متنوعة قابلة للاستهلاك – بمعنى أنّها فقدت قيمتها، وباتت تُباع وتُشترى سريعًا بأسعارٍ مربحة – يشتريها المشترون المتضاربون.
دفع هذا التحول الناقد جيري سالتز إلى كتابة: « الزومبي على الجدران: لماذا يبدو الكثير من التجريد الجديد متشابهًا؟». وقد شبه اللّوحات التجريدية بصورة «الزومبي»، تحقيرًا لأعمال عددٍ من الرسامين التجريديين البارزين، الذين استخدموا الفنّ وجماليته لتقديم أعمال مبتذلة.
ومن المفارقات أن هؤلاء الفنانين نظروا إلى الشكلانية بوصفها فنًّا حداثيًّا متبنّين منظور غرينبيرغ، لكنهم بالطبع قدّموا أعمالًا في ظلّ فراغ تاريخي وبعد فترةٍ طويلة حين لم يُصبح التجريد مثيرًا للاهتمام أو راديكاليًا بأي وجه من الوجوه.
في الواقع، لم يصل مشروع الحداثة في الفن التجريدي إلى نهايته، بل النقد. إنّ النقد -أيّ الإطار الفلسفي الواسع الذي يصادق على الأعمال الفنية ويثمّنها لأهميتها الثقافية والتاريخية- هو ما فقد التوجه والسلطة.
كان مسار الفن الغربي منذ عصر التنوير يتأرجح بين قطبي الدوغمائية النقدية والإبداع. تكمن المشكلة أنه في العقود الأخيرة، وفي ظلّ غياب أي مشروع نقدي متماسك، انجرف الفن نحو إرضاء اهتمامات دقيقة ومتنوعة تزداد باستمرار.
في حين كانت هناك «حركات» و«مدارس» فنية -مصطلحان يشيران إلى الوجهة والانضباط- لم يعد لدينا الآن سوى «مشاهد».
هذا ليس بالضرورة أمرًا سيئًا. ولكن في عالم حيث «كل شيء مقبول – anything goes»، لا يوجد مجال لهذا النوع من الابتكار والتجاوز الذي أدى إلى ظهور الفن التجريدي في الغرب، وهذا ما جعل الفن الحديث فنًّا مثيرًا للغاية.
من الصعب في هذه اللحظة التاريخية أن ندرك ما الذي جعل لوحة بولوك «رقم 32» مثيرة للانقسام، ومخلخلةً جدًا للمعايير، وفي الوقت نفسه محتفظةً بقيمةٍ عالية جدًا لأولئك الذين يعتقدون أن للفنِّ مكانًا في المجتمع يتجاوز المتعة.
[divider style=”solid” top=”20″ bottom=”20″]
[1] واللقب كذلك يُلمح إلى القاتل المتسلسل في لندن آخر القرن التاسع عشر: جاك السفّاح
Jack the ripper (مدير التحرير).
### خارج عقلك | توم تشاتفيلد – ت: محمد السعيد
عندما يكون هاتفي النقال بين يديّ، هل أكون أنا الشخص نفسه لو كان الهاتف في غرفة أخرى؟ من ناحية،...
### الدراما في التعليم: مقاربات وتطبيقات | نعيم حيماد
افتتاحيّة حظي استخدام الدراما في التعليمفي السنوات الأخيرة باهتمام كبير من قبل نخبة من المنظرين والممارسين للدراما في مجال التعليم....
### الحقائق المخفية | دي بي سي بيير – ت: محمد السعيد
يحمل جبل كلسي خشن في غرب إيران عددًا من النقوش البارزة، من بينها لوحة طولها خمسة وعشرين مترًا منقوشة...
### التغلُّب على كاشف الكذب | كلاريسا سيباغ-مونتِنفيوري – ت: محمد السعيد
حين اتُّهِمَتْ مربية الأطفال البريطانية لويز وودورد بهزِّ رضيع حتى الموت في مدينة نيوتن بولاية ماساتشوستس، لم تكتفِ بإعلان...
### عن منصة معنى
«معنى»، مؤسسة ثقافية تقدّمية ودار نشر تهتم بالفلسفة والمعرفة والفنون، عبر مجموعة متنوعة من المواد المقروءة والمسموعة والمرئية. انطلقت في 20 مارس 2019، بهدف إثراء المحتوى العربي، ورفع ذائقة ووعي المتلقّي المحلي والدولي، عبر الإنتاج الأصيل للمنصة والترجمة ونقل المعارف.
### روابط سريعة
### التصنيفات
### مرحبا بك!
قم بتسجيل الدخول إلى حسابك
تذكرني
### قم بإنشاء حساب جديد!
املأ النموذج أدناه للتسجيل
### طلب إعادة تعيين كلمة المرور
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان البريد الإلكتروني لإعادة تعيين كلمة المرور الخاصة بك.
### Add New Playlist
- Select Visibility -PublicPrivate
No Result
عرض جميع النتائج
-
00:00
00:00
-
00:00
00:00
|
article
|
Arabic
|
ar
|
الفنّ التجريدي: بين الماضي والحاضر - منصة معنى الثقافية
|
https://mana.net/abstract-art/
|
1,938 |
منذ ذلك الجيل ما بعد الحداثي من الرسامين والنحاتين الممتد من الستينيات إلى التسعينيات، ازدهر التجريد متفرّعًا إلى عددٍ لا يُحصى من الأساليب والمقاربات بجوار الفن التشخيصي.
|
sentence
|
منذ ذلك الجيل ما بعد الحداثي من الرسامين والنحاتين الممتد من الستينيات إلى التسعينيات، ازدهر التجريد متفرّعًا إلى عددٍ لا يُحصى من الأساليب والمقاربات بجوار الفن التشخيصي. هنا يمكن القول إنّ التجريد المتحرّر من عبء التوقعات الحداثية هو ببساطة نهج للتعبير مثل أيّ نهج آخر.
|
paragraph
|
Arabic
|
ar
|
الفنّ التجريدي: بين الماضي والحاضر - منصة معنى الثقافية
|
https://mana.net/abstract-art/
|
1,939 |
هنا يمكن القول إنّ التجريد المتحرّر من عبء التوقعات الحداثية هو ببساطة نهج للتعبير مثل أيّ نهج آخر.
|
sentence
|
منذ ذلك الجيل ما بعد الحداثي من الرسامين والنحاتين الممتد من الستينيات إلى التسعينيات، ازدهر التجريد متفرّعًا إلى عددٍ لا يُحصى من الأساليب والمقاربات بجوار الفن التشخيصي. هنا يمكن القول إنّ التجريد المتحرّر من عبء التوقعات الحداثية هو ببساطة نهج للتعبير مثل أيّ نهج آخر.
|
paragraph
|
Arabic
|
ar
|
الفنّ التجريدي: بين الماضي والحاضر - منصة معنى الثقافية
|
https://mana.net/abstract-art/
|
1,940 |
وتجدر الإشارة إلى أنّ بعض الفنانين التجريديين استخدموا الحيل البصرية المستعملة في الفن التشخيصي – مثل المنظور والتظليل – في لوحاتهم. ولاستخدامهم هذا أهداف فريدة و غالبًا لا تهتم بالنظرية.
|
paragraph
|
لا توجد منتجات في سلة المشتريات.
No Result
عرض جميع النتائج
الثلاثاء, سبتمبر 10, 2024
No Result
عرض جميع النتائج
No Result
عرض جميع النتائج
# الفنّ التجريدي: بين الماضي والحاضر
## ترجمة: أنطونيوس نادر
AA
AA
إعادة تعيين
فنٌ مليء بالتحديات
ثمّة خطٌ رفيع يفصل بين الفن التجريدي ومجرد الزخرفة، ولوحة «رقم 32» (نُشرت عام 1950)، لجاكسون بولوك تتأرجح بين هذا الخطّ. فهي لا تشير إلى معنىً واضح، ولكن لا يمكن القول إنّها بلا معنى على الإطلاق. كما أنّها ليست معبّرة بشكلٍ مباشر، ولا يعني هذا أنها لا تعبّر عن مدلولٍ ما. تحمل هذه اللوحة الكثير من المضامين عن الفن الغربي بالنسبة إلى شخصٍ خبيرٍ في تاريخ الفن؛ أما بالنسبة إلى شخصٍ عادي، فقد يراها عملًا مبتذلًا بالكاد يعبّر عن أمرٍ ما.
اللوحة شبكة من الخطوط وبقعٍ من الألوان، رُسمت عن طريق صبّ طلاءٍ رخيص بعشوائيةٍ مباشرة على القماش. تتكون اللوحة من طلاءٍ أسود فقط وقماشٍ خام. واللوحة ضخمة؛ إذ يبلغ طولها تسعة أقدام وعرضها خمسة عشر قدمًا، وتغطي مجال رؤية المشاهد أثناء اقترابه منها. تقليديًّا، حتى اللوحات التجريدية تتكون من أجزاءٍ مترابطة مع بؤر تركيز (emphases) وعمقٍ يُنقل من خلال اللون والظلال، ولكن «رقم 32» ليس لها أجزاء؛ إنّها تتكون من تعالقات، والبؤرة فيها تكمن عبر امتداد سطح القماش المستطيل.
يمنحها ما سبق عمقًا سطحيًا، وربما لا عمق فيها: مجرّد طلاء على قماش. إنّها عبث بالشكل واللون. حتى اسمها، ببساطة رقمٌ معيّن – رقم 32 – يجعلها تنأى بنفسها عن أي فكرة مفادها أنها تعكس مدلولًا محدّدًا. تشير عناوين أعمال بولوك الأخرى إلى نوعٍ من الاختبار الشخصي، وإلى الاستخدام السمفوني المتعدد الطبقات للون والملمس؛ خذ مثلًا لوحاته التي تحمل اسم: «إيقاع الخريف»، و«الضباب الأرجواني»، و«الأقطاب الزرقاء»، و«انعكاس الدنقلة الكبير».
هذا لا ينطبق على لوحة «رقم 32»؛ شكلها الخام وبساطتها دليل على أنّ الفنان لم يخطط مسبقًا لرسمها؛ أيّ أنّه لم ينتق الألوان ولا الطبقات. يبدو بولوك هنا أكثر حضورًا، من خلال لمساته الحادة. بالنسبة إلى مؤيديّ عمل بولوك، تختصر هذه اللوحة خلاصة نظرة الفنان الجمالية. أما بالنسبة للبعض الآخر، فهي لوحة مبتذلة.
وصف جوزيف بويس -النحات الألماني في فترة ما بعد الحرب- الفنَّ التجريدي الأمريكي بأنه مجرد «تغليف»، أيّ سطح بلا محتوى. في هذا الصدد، قد يتفق البعض أن لوحة «رقم 32» تجسد فراغ الفكر والشعور ذاك. فقد رأى الروائي والناقد الفني روبرت كوتس أن فن بولوك لم يكن سوى «انفجارات» غير منظمة من الطاقة العشوائية. غير أنّ طائفة كبيرة من متذوقي الفن التجريدي لا تروق إليهم أعمال بولوك ويرونها فنًّا محيرًا، حتى إنّ بعضهم يراها إهانةً للذوق أو الحسّ السليم.
عُرف بولوك بلقب: «جاك فنان النقط» (Jack the Dripper) [1] في الأوساط الإعلامية المشككة بعمله حيث ادعى كثر أن أيّ شخص يمكنه أن يرسم كما يرسم بولوك إلّا أنّ أحدًا لم يتجرأ على فعل ذلك.
«رقم 32» - جاكسون بولوك«رقم 32» – جاكسون بولوك
بيد أنّ هذا هو مغزى الفن التجريدي في التقليد الغربي: إنّه تحدّ. وفي ظل الكثير هذه التحديات، تُعد لوحة « رقم 32» اللوحة الأكثر تمثيلًا لهذا الفن.
قصة الفنّ التجريدي
مسار قصة الفن التجريدي مضمّنة في الدراسات التاريخية الفنية، إلّا أنّ المحطات الرئيسة لهذا المسار كانت محط تغييرات مفاجئة كلما اكتشف مؤرخوّ الفن حقائق جديدة.
انطلق مسار الفن التجريدي بدءًا من القرن التاسع عشر وما تلاه؛ حيث استفاد الفنانون من مادة الطلاء والجوانب الشكلية للرسم مثل اللون والدرجة والخطوط. يُعرف هذا الانشغال بالجوانب غير التمثيلية (non-representative) للفن باسم «الشكلانية»، لأنّه انشغال «بالشكل»، أيّ بتوسل شكل المحتوى بدلًا من المحتوى في ذاته. بالنسبة إلى الفنانين في القرن التاسع عشر، صُنّف الفن التجريدي على أنّه «فنٌّ من أجل الفنّ»، وكانت الفكرة الشائعة مفادها أنّ المتذوق للفن يمكنه الاستمتاع بالعمل دون اللجوء إلى معنى أو حتى أي شيء آخر يمثل أمرًا ما.
تمثّل لوحة «الموسيقى الهادئة باللّونين الأسود والذهبي – الصاروخ الساقط» (1872)، للفنان جيمس مكنيل ويسلر هذا الاتجاه الذي تبلور لاحقًا في الفن التجريدي. إنّ مشهد ويسلر الغامض من الناحية المكانيّة يقترب إلى التجريد، وذلك بمحاولته نقل الشعور أو الانطباع الخاص بالمشهد بدلًا من إعادة إنتاجه بحذافيره.
«الموسيقى الهادئة باللونين الأسود والذهبي - الصاروخ الساقط» (1872-1877) - جيمس أبوت مكنيل ويسلير«الموسيقى الهادئة باللونين الأسود والذهبي – الصاروخ الساقط» (1872-1877) – جيمس أبوت مكنيل ويسلير
في عام 1877، انتقد جون روسكين – أبرز نقّاد بريطانيا في ذلك الوقت – عمل ويسلير هذا نقدًا لاذعًا فشبهه «بمن قام برمي الطلاء في وجه الجمهور». تأثر ويسلر بهذا الكلام، فرفع دعوى قضائية ضد روسكين، بيد أنّه خسرها لأن المسؤولين عرضوا اللوحة -خطأً- مقلوبةً على المحكمة. أفلس ويسلير بسبب هذه القضية، لكن مسيرة تطور الفن التجريدي استمرت.
من ناحيةٍ أخرى، تحديد أول فنان تجريدي في العالم موضوع نزاع. في نظر أبحاث تاريخ الفن التقليدية، كان فاسيلي كاندينسكي – فنان روسي الجنسية رسم لوحات تجريدية بالكامل في مطلع عام 1911- هو أول فنان تجريدي.
لم ينل الفن التجريدي الرائد لهيلما أف كلينت تقديرًا إلا قبل سنوات قريبة. هذه صورة للمعرض الشهير في متحف غاغينهايم، عام 2018 .لم ينل الفن التجريدي الرائد لهيلما أف كلينت تقديرًا إلا قبل سنوات قريبة. هذه صورة للمعرض الشهير في متحف غاغينهايم، عام 2018 .
ولكن في الآونة الأخيرة، وبفضل المعرض الرائد في متحف مقاطعة لوس أنجلوس للفنون في عام 1986 الذي حمل اسم «الروحانية في الفن: الرسم التجريدي 1890 – 1985»، وقع الاختيار على هيلما أف كلينت كأول رسامة تجريدية. بدأت كلينت في رسم لوحات تجريدية بدءًا من عام 1906، وحملت مجموعتها عنوان «الفوضى البدائية». كانت الفنانة متكتمة في ما يتعلق بأعمالها التجريدية، ولم تُعرض أيّ منها في معارض عامة، وبقيت غير معروفة حتى أزيح عنها الستار مؤخرًا.
ولعل الجدال حول هوية أول من مارس الفن التجريدي سيستم، لكن الحقيقة الأكثر أهمية هي أن العديد من الفنانين الأوروبيين البارزين قد توصّلوا في أعمالهم إلى التجريد بحلول الحرب العالمية الأولى. لقد وجد كل منهم طريقته الخاصة في التخلي عن الفن التشخيصي (figurative painting). وجديرٌ بالذكر أنّه لم تكن هناك حركة «تجريدية» دولية ذات رؤية أو بيان مشترك.
في ضوء ذلك، فإن السؤال الملحّ حقًا هو: لمَ لمْ يتبنى الفنانون الغربيون الفن التجريدي على امتداد قرون عديدة؟ لماذا كان التجريد غير ضروري أو لا معنى له أو غير مناسب أو حتى لا يمكن تقبّله لقرونٍ متوالية في الفن الغربي؟
ظهرت العديد من التفسيرات لشرح ذلك. إحدى النظريات الأكثر وضوحًا هي أن ظهور التصوير الفوتوغرافي بوصفه شكلًا من أشكال الفن، إضافةً إلى تطور الفن الحديث، سببان رئيسان لإزاحة الرسم التشخيصي.
ثمّة إجابات أخرى غير ملموسة لاستكشاف الأسباب: ربما عندما أصبحت الأعمال الفنية قابلة للاستهالاك بشكل متزايد، مثل السلع، بات من السهولة فصل اللوحات والمنحوتات عن التجارب المحددة لمبدعيها. ربما أدت الحداثة في الغرب إلى إفراغ الفن من المحتوى التشخيصي؛ مما دفع الفنانين أيضًا إلى التخلي عن التمثيل التشخيصي.
كل من هذه الإجابات معقدة وتتطلب الكثير من الشرح، ولا يمكن إلا أن تكون تخمينات. لا توجد إجابة واضحة لهذه المسألة. ربما يكون من الأفضل طرح السؤال حول سبب تقبّل الفن التجريدي فنًّا من الفنون الرسمية في تاريخ الفن الغربي في مرحلة معينة على علماء الأنثروبولوجيا بدلًا من طرحها على مؤرخي الفن. فما هو واضح أن الفن التجريدي كان موجودًا دائمًا في مناطق أخرى من العالم.
ما جعل الفن التجريدي فنًّا حديثًا على وجه التحديد في العالم الغربي هو نظام المعارض، الذي أعطى القيمة الفنية للأعمال المعروضة. وكما هو واضح فقد ازدهر التجريد لآلاف السنين المناطق الشرقية والجنوبية من العالم، دون عناء التحقق من مكانة الأعمال المعروضة في الصالونات [والمعارض، كما هو في العالم الغربي].
الواقع الافتراضي و«الافتراضية»
يتبنى بيبي كرمل وهو مؤرخ فني، في كتابه « الفن التجريدي: تاريخ عالمي»، فكرة أنّ الفن التجريدي كان دائمًا موجودًا بشكل طبيعي عندما ننظر إليه نظرة شاملة وعالمية، بيد أنّه يتحاشى طرح نظرية عن تطور الفن التجريدي. بالنسبة إلى كرمل، فإنّ هذا الفنّ متجذر في العالم الحقيقي، وهو ليس فنًّا «مجردًا» على الإطلاق، كما أنّه تقليد عالمي وليس محليًا.
في دراسته حول الفن التجريدي يقسم العمل الفني إلى خمس فئات واسعة تنتمي إلى العالم الحقيقي: الأجسام، والمناظر الطبيعية، والكون، والبنى، والعلامات والأنماط. من خلال فحص الفن التجريدي بهذه الطريقة، يرى كرمل في اللوحات التجريدية موضوعات قابلة للتحليل، بعكس النقاد والمؤرخين الأرثوذكسيين الذين رأوا فيها مجرّد توليفات شكلية مكوّنة من لون وشكل.
ربما يكون من الأفضل أن يطلق على الفن التجريدي: فن ما تم تجريده (abstracted art)؛ لأنّ الفنانين التجريديين عادةً ما يستخلصون ويجرّدون تعبيرات التجارب في شكل ولون، أكثر من كونها توليفات مكونة من شكل ولون. ومرّد ذلك الطبيعة الجوهرية للرسم والنحت؛ فهما (الشكل اللّون) وسيطان للتعبير، مثل الشاشة أو المسرح لخيال الفنان. كما هو الحال في المسرح أو السينما، فإنّ جمهور اللوحة أو المنحوتة يعلّق معتقداته من أجل أن يتقبل المشهد.
من المفيد التفكير في اللوحة التشخيصية التقليدية أو النحت على أنها حقيقة افتراضية. إذْ استخدم الفنانون لقرون عديدة الحيل البصرية -مثل المنظور الخطي، والتقصير المسبق، والتظليل- لمحاكاة الطريقة التي ندرك بها الأشياء في الفضاء الحقيقي. إنّ المشاهد تُنشأ في فضاء افتراضي – سواء كانت القاعدة التي تدعم التمثال أو القماش – ليراها المشاهدون بوصفها خدعة بصرية.
«القديس بطرس شفاء أحد الأشخاص وبعث تابيثا من الموت» ماسولينو دي بانيكال. اعتمد الرسم الغربي قبل القرن العشرين على الحيل البصرية لخلق واقع افتراضي. إحدى هذه الحيل هي المنظور الخطي، وهذه اللوحة هي أول مثال لاستخدام نقطة تلاشٍ متسقة.«القديس بطرس شفاء أحد الأشخاص وبعث تابيثا من الموت» ماسولينو دي بانيكال. اعتمد الرسم الغربي قبل القرن العشرين على الحيل البصرية لخلق واقع افتراضي. إحدى هذه الحيل هي المنظور الخطي، وهذه اللوحة هي أول مثال لاستخدام نقطة تلاشٍ متسقة.
يستمتع مشاهدوّ الأعمال الفنية العظيمة معنى ما يُرسم، ويقدرون الطريقة التي يتجلّى فيها الوهم عبر تمازج اللون والشكل.
يبقى الفن التجريدي، إلى حدٍ ما، ضمن إطار التجربة الجمالية. فقد سعت حركات الفن الحديث التي أدت إلى التجريد -أيّ «مدارس الفن»، مثل الانطباعية والفاوفية والتكعيبية- إلى تمثيل العالم بشكل مختلف عن كل الفنون التي سبقتها. إذْ ادعوا الاقتراب من الحقيقة الذاتية عبر تهميش جميع الحيل الوهمية التقليدية التي حاولت إعادة إنتاج الواقع بحذافيره كحقيقة موضوعية.
«الأحمر والأصفر والأزرق» (1925) واسيلي كاندينسكي. كان كاندينسكي يعدّ لفترةٍ طويلة أب الرسم التجريدي الغربي.«الأحمر والأصفر والأزرق» (1925) واسيلي كاندينسكي. كان كاندينسكي يعدّ لفترةٍ طويلة أب الرسم التجريدي الغربي.
بالنسبة إلى هذه المدارس، أصبح الفن أقل من أن يوصف بأنّه واقع افتراضي، لكنه مع ذلك احتفظ بالافتراضية، وأصبح افتراضيًا. لقد أخذ الفن التجريدي مسار التطور هذا إلى أقصاه: من الواقع الافتراضي إلى الافتراضية.
ماذا تعني «الافتراضية» هنا؟ إنّها الوجود كجوهر وتأثير، ولكن بدون اللجوء إلى الواقع. اللوحة التجريدية التي رسمها كاندينسكي، على سبيل المثال، ما زالت تُعدّ علاقة متبادلة بين الشكل واللون، و تعتمد على الرسم كمستوى تخطيطي: إنها نافذة تطلّ على «الواقع» الفردي الذي تصوّره كاندينسكي.
وما تزال العناصر في لوحات كاندينسكي تحظى بعلاقة متبادلة، كما هو الحال في فضاء الواقع الافتراضي للوحة التشخيصية؛ فجوهر الرسم سليم إذ إنّ ذلك الفضاء الافتراضي ما زال موجودًا. عندما يكون الفن التجريدي بناءً خالصًا، ويتخلص من المساحة الافتراضية الملازمة للرسم والنحت، يصبح متميزًا عنهما.
وصف دونالد جود الفنان التخفيفي (minimalist) مثل هذه الأعمال الفنية بأنها «أجسام محدّدة» (Specific Objects). إنّه مصطلح غير دقيق، ولكنه يصلح لإظهار أن مثل هذه الأعمال الفنية ليست رسمًا ولا نحتًا، ولكنها فئة أخرى تمامًا.
رأى دونالد جود أن أعماله وأعمال العديد من معاصريه تشغل مساحة هجينة، لا هي لوحات ولا هي نحت. عمل دون عنوان لدونالد جود.
استخدم جود هذا المصطلح لوصف أعماله الخاصة، ولكنه ينطبق على لوحات كازيمير ماليفيتش وفرانك ستيلا أحادية اللون، والتي تجعل اللوحة تندمج مع نفسها بالكامل، من أجل الوصول للتأثير الذي يأمل العمل في تحقيقه.
في مثل هذه الأعمال، لم يعد قماش اللّوحة (أو القاعدة) سطحًا تتفاعل فيه الأشكال والألوان في الفضاء الافتراضي. بدلاً من ذلك، تتفاعل الأشكال والألوان في الفضاء الحقيقي، في فضائنا.
تختلف معايير النجاح أو الفشل لهذه الأعمال عن الخصائص التقليدية للرسم والنحت. رأى جود أنّ خصائص الرسم والنحت تقف في طريق ما أراد تحقيقه من خلال اللون والشكل. في رأيه، كان لـ «أجسامه المحددة» تأثيرًا أحدّ من غيرها.
الواقع والأشكال الجديدة للإدراك الحسّي
الرسم نفسه له ثلاثة أنواع عامة من التجريد؛ أولًا، ثمّة أسلوب تعبيري تُرسم فيه الأشكال بحركاتٍ غير مقيدة؛ ثم هناك التجريد الهندسي حيث يتم هيكلة الأشكال؛ أما النوع الثالث، فهو تجريد مجال اللون حيث يتم عرض مساحات من الألوان بطريقةٍ لا شكل واضح لها.
لم تكن هذه «الأنماط» (styles) أنماطًا عرضيةً أو تعتمد على ذوق أو ميل الرسام كوسيلة لتحقيق هدفٍ ما من البحث الفني. وخير مثال على ذلك هو الفنان الذي غالبًا ما ينظر إلى عمله على أنّه ذروة التجريد الهندسي: بيت موندريان. إنّ لوحات بيت موندريان المكونة من شبكات (grids) ذات الخطوط السوداء والأجزاء الملونة على خلفية بيضاء؛ تهدف إلى استحضار «حقيقة أعلى».
بالنسبة إلى موندريان، كان الفن في جوهره معارضًا للواقع؛ «لأن الواقع يتعارض مع الروحي». بغض النظر عن هذه اللوحة الأشهر لموندريان، فإنّ جوانب الرسم التي تهم هذا الفنان حقًا لم تكن الجوانب المحددة للموضوع -أيّ ماذا أو ما يتم تصويره في اللوحة مثلًا- بل الجوانب القابلة للفهم عالميًا للشكل والخط واللون. إنّ لوحات موندريان، مثلها مثل لوحات الفنانين الآخرين، هي محاولة لاستخلاص الشكل واللون من أجل الاقتراب من ذلك الجوهر العالمي والروحي للفن.
عبّر موندريان عن رغبته في الوصول إلى «أساس» الأشياء من خلال الحدس، كالعديد من الفنانين التجريديين الآخرين في النصف الأول من القرن العشرين الذين رغبوا في الوصول إلى قوى غير مرئية حولنا، ولكنها معروفة أو محدوسة.
«التكوين الثاني باللون الأحمر والأزرق والأصفر» (1930) - بيت موندريان«التكوين الثاني باللون الأحمر والأزرق والأصفر» (1930) – بيت موندريان
في أواخر القرن التاسع عشر، لاحظ العلماء بشكلٍ أفضل مما سبق القوى غير المرئية مع انتشار التقنيات الجديدة، وأصبح من الواضح أن العالم أرحب مما يبدو للعين. في الوقت نفسه، ظهرت حركات روحية بديلة جمعت بين الأفكار الأفلاطونية والتصوف.
كان كلينت وموندريان من بين العديد من الفنانين الذين انغمسوا في أشكال الروحانية خارج العوالم التقليدية للدين. اعتقدت كلينت أن لوحاتها هي وحي عالم روحي، وأن مهمتها كانت العمل «على مستوى روحاني» لتمثيل روح الإنسان، بدلًا من صورته الفانية.
بحلول عشرينيات القرن الماضي، كانت نظرية فرويد عن للعقل البشري قد تغلغلت أيضًا في عالم الفن. كذلك السريالية، وهي حركة منظمة بإحكام بدأت مع بعض الفنانين الذين سعوا إلى التنقيب عن الإمكانات الإبداعية للعقل الباطن، وهي الحركة الثقافية التي كانت سائدة في أوروبا بين الحربين العالميتين.
لم تكن السريالية دوغمائية في محاولتها لاستكشاف اللاوعي، ولذلك ظهر عدد من الأساليب والطرق لمحاولة إخراج اللاوعي إلى السطح. إحدى هذه الأساليب كان الرسم الآلي (Automatism)، وهي عملية يتخلى فيها الفنان عن السيطرة الواعية لليد التي ترسم أو تصور. في هذا المجال، تبنى الفنانون مثل أندريه ماسون وخوان ميرو الفرصة لبناء صورهم باستخدام حركات حرّة، وحتى إلقاء الطلاء على القماش.
طور أرشيل غوركي -هو مهاجر أرمني عاش في الولايات المتحدة- أسلوبًا في الرسم يدمج بين الرسم الآلي وتجريد مجال الألوان. لوحاته في الأربعينيات حجمُها ضخم – ومرد ذلك تأثره بأعماله السابقة كفنان جداري مُعيّن من الدولة خلال السنوات الأخيرة من الكساد الكبير – لكنها معبّرة وغنائية في الرسم بالفرشاة.
ألهم إدماج غوركي للأنماط جيلًا واسعًا من الفنانين الأمريكيين في فترة ما بعد الحرب لاحتضان التجريد الواسع النطاق. ما نسميه الآن «التعبيرية التجريدية»، وكان ذاك الجيل في الواقع مجموعة فضفاضة من الفنانين الذين يستخدمون أنماطًا متعدّدة من أنماط التجريد.
ربما كان القاسم المشترك بين هؤلاء الفنانين – على الأقل في السنوات الأولى – هو دعم جيل جديد من النقاد بقيادة كليمنت غرينبيرغ، الذي كان يعتقد أن التجريد هو التعبير الأسمى للفن الغربي.
«الكبد هو مشط الديك» (1944) - أرشيل جوركي.«الكبد هو مشط الديك» (1944) – أرشيل جوركي.
الحداثة ومصير الفنّ الغربي
كان يُعتقد في بعض الأوساط الفكرية المؤثرة أنّ الفن يتقدم نحو هدف؛ وهذا المضمون يشتمل عليه مصطلح «الطليعية» (Avant-garde)، الذي يُوصف به الفنّانون الذين يبتكرون أرضية جمالية جديدة. أصل المصطلح فرنسي يُطلق على الجنود الذين يتقدمون إلى مناطق جديدة.
بالنسبة إلى غرينبيرغ، لم يكن هؤلاء الفنّانون يوسّعون حدود إمكانات الفن؛ بل كانوا يتقدمون نحو الهدف الحقيقي والمفرد لكل شكل فني.
يُعدّ غرينبيرغ شخصية مهمة في تاريخ الفن التجريدي، وذلك لأمرين: بوصفه مناصرًا رائدًا في مسألة تفوق الفن التجريدي على غيره من أنواع الرسم، وتأكيده للقوة التي امتلكها هذا الفن. كان ناقدًا في اللجنة الأمريكية للحريّة الثقافية التي تمولها الدولة، وهي مجموعة تم إنشاؤها لتعزيز الفن الأمريكي على المستوى الدولي.
أصبحت أفكار غرينبيرغ مؤثرة عندما كانت الولايات المتحدة جزءًا من الحرب على الفاشية والنازية، وخلال الحرب الباردة اللاحقة ضد الشيوعية السوفيتية. كانت معايير الفن الفاشي والسوفياتي واضحة، وهي ما تحددها السلطات الثقافية أنها كذلك، بيد أنّه ما لم يكن واضحًا هو معايير الفن «الجيد» وتحديدًا في الغرب الديمقراطي.
كان الماركسيون هم من تعاطف مع غرينبيرغ في البداية، لكن ارتبط تفكيره بشكلٍ متزايد بالهيمنة الثقافية الأمريكية. بالنسبة إليه، كان التجريد في أعمال بولوك فنًا مثاليًا لمجتمع ديمقراطي. تتجلى الحداثة في الفن، وفقًا لغرينبيرغ، في إطار التنوير الأوروبي؛ أيّ في فترة ازدهار الأفكار الفلسفية والعلمية التي أعطت الأولوية للعقل.
في مقالته المؤثرة « الرسم الحداثي» (1961)، وصفَ غرينبيرغ إيمانويل كانط – الفيلسوف الألماني في عصر التنوير – بأنّه «أول حداثي حقيقي». كان أسلوب كانط في «النقد» هو استخدام العقل لنقد العقل بغرض توضيحه، ومنحه استقلالية عن أنواع التفكير الأخرى.
«أولمبيا» - إدوارد مانيه (1863). بالنسبة إلى كليمنت غرينبيرغ، كان مانيه أول رسام حداثي. لقد رسم مانيه لوحاته بأسلوبٍ مسطّح بشكلٍ متعمد.«أولمبيا» – إدوارد مانيه (1863). بالنسبة إلى كليمنت غرينبيرغ، كان مانيه أول رسام حداثي. لقد رسم مانيه لوحاته بأسلوبٍ مسطّح بشكلٍ متعمد.
بالطريقة نفسها، كان الرسامون الحداثيون – من إدوارد مانيه في القرن التاسع عشر إلى موريس لويس، وهو رسام يعمل ينتمي إلى رسامي أسلوب مجال ألوان في الولايات المتحدة في الوقت الذي كتب فيه غرينبيرغ مقالته – يعملون على ترسيخ الفن التعبيري «بشكل صارم في مجال تخصصه».
رأى غرينبيرغ أن وضوح الفن التجريدي -الذي كان صادقًا بالنسبة إلى الوسيط الذي يُعبّر من خلاله- معارضٌ لـ«الفن الشعبي المبتذل [الكيتش]» الذي ينُتج على نطاق واسع في الثقافة الشعبية. إن إزالة «الكيتش» كانت مسألة استجلاء وتوضيح تحتاجها جميع الفنون لكي تصبح تعبيرًا عن إمكاناتها الجمالية الكامنة.
اللوحات مسطّحة، وإيهام العمق الذي نجده في معظم الفن الغربي كان انحرافًا عن جوهر فن الرسم ذاته. كانت استقلالية الشكل الفني في جميع خصائصه دون أن تتلوث بأشكال فنية أخرى. وفقًا لغرينبيرغ، يعدّ الشكل واللون من أهم خصائص الرسم، و أفضل تمثيل لها يكون بشكلٍ مسطّح.
وهكذا دافع غرينبيرغ عن «التسطيح» الذي تجلّى في لوحات الفنانين الأمريكيين التجريدية مثل جاكسون بولوك باعتباره تحقيقًا لهذا الوضوح الحداثي. لقد ضم هؤلاء الفنانين معًا ضمن فريق واحد، وهم يمثّلون المرحلة التالية في الحداثة، وقد حلّت رؤيتهم الأمريكية المميزة محلّ الفن الأوروبي الطليعي.
وفي الوقت الذي أصبح فيه الفن التجريدي الأمريكي مهيمنًا، تراجعت هيمنة غرينبيرغ النقدية، وظهرت أشكال جديدة من الفن الطليعي، مستوحاة مباشرة من الثقافة الجماهيرية، وحلّت محلّ التعبيرية التجريدية في المخيال العام. تبنى فنانوّ «البوب» مثل: آندي وارهول، وريتشارد هاميلتون هذا النوع من «الفن الشعبي المبتذل» الذي رآه غرينبيرغ تلويثًا للفن الحقيقي.
استمرت الأعمال الفنية التجريدية، ولكن تخلّى الفنّانون التجريديون الأكثر جرأة عن الفكرة الصارمة «للنقد الحداثي»، وعن الوضوح المتعلق بخصوصية الوسيط الفني، وذلك لصالح أشكال أخرى من التعبير.
نظر فنانوّ «ما بعد الحداثة» إلى السخرية وعملية الرسم نفسها، كطرق لتجاوز الطريق المسدود للحداثة. تبنى الألماني غيرهارد ريختر كلا النهجين؛ فبعض أعماله التجريدية في الستينيات كانت مصنوعة بممسحاتٍ بدلًا من الفرشاة، حتى يتمكن من لفت الانتباه إلى عملية صنع اللوحة نفسها.
كانت «اللوحات التجريدية» البارزة الأخرى التي رسمها ريختر في الواقع صورًا واقعية مرسومة بعناية تعكس لوحاته التجريدية الأخرى. أصبحت طلائعية الرسم التجريدي مفهومية أكثر، ما جعل ضمنيًّا قضية الرسم تحظى باستقلالية أقل مما كان كان يعتقد النقاد الحداثيون.
قلّد فنانوّ «نيو جيو»، مثل: الرسام بيتر هالي، والنحات أشلي بيكرتون اللغة البصرية للتجريد الهندسي، لكنهما دمجاها مع السلع الاستهلاكية بألوانٍ تجارية فاتحة وأحيانًا فلورية.
منذ ذلك الجيل ما بعد الحداثي من الرسامين والنحاتين الممتد من الستينيات إلى التسعينيات، ازدهر التجريد متفرّعًا إلى عددٍ لا يُحصى من الأساليب والمقاربات بجوار الفن التشخيصي. هنا يمكن القول إنّ التجريد المتحرّر من عبء التوقعات الحداثية هو ببساطة نهج للتعبير مثل أيّ نهج آخر.
وتجدر الإشارة إلى أنّ بعض الفنانين التجريديين استخدموا الحيل البصرية المستعملة في الفن التشخيصي – مثل المنظور والتظليل – في لوحاتهم. ولاستخدامهم هذا أهداف فريدة و غالبًا لا تهتم بالنظرية.
قلّد فنانوّ «ما بعد الحداثة» مثل: بيتر هالي اللغة البصرية المستعملة في الفن التجريدي الحديث (في حالة بيتر، التجريد الهندسي)، للتعليق على طبيعة الفن والمعنى نفسه. تمثّل هذه الكتل الملونة «الخلايا» و«الأنابيب».قلّد فنانوّ «ما بعد الحداثة» مثل: بيتر هالي اللغة البصرية المستعملة في الفن التجريدي الحديث (في حالة بيتر، التجريد الهندسي)، للتعليق على طبيعة الفن والمعنى نفسه. تمثّل هذه الكتل الملونة «الخلايا» و«الأنابيب».
هذا هو التحرّر نحو الأفضل بين الرسامين التجريديين الذين يمكنهم الالتزام برؤيةٍ فريدة بالرسم على القماش. لكن فكّ ارتباط الفن التجريدي عن إطاره الفلسفي الأوسع أدى أيضًا إلى انتشارٍ يثير التساؤل لأعمال تجريدية متنوعة قابلة للاستهلاك – بمعنى أنّها فقدت قيمتها، وباتت تُباع وتُشترى سريعًا بأسعارٍ مربحة – يشتريها المشترون المتضاربون.
دفع هذا التحول الناقد جيري سالتز إلى كتابة: « الزومبي على الجدران: لماذا يبدو الكثير من التجريد الجديد متشابهًا؟». وقد شبه اللّوحات التجريدية بصورة «الزومبي»، تحقيرًا لأعمال عددٍ من الرسامين التجريديين البارزين، الذين استخدموا الفنّ وجماليته لتقديم أعمال مبتذلة.
ومن المفارقات أن هؤلاء الفنانين نظروا إلى الشكلانية بوصفها فنًّا حداثيًّا متبنّين منظور غرينبيرغ، لكنهم بالطبع قدّموا أعمالًا في ظلّ فراغ تاريخي وبعد فترةٍ طويلة حين لم يُصبح التجريد مثيرًا للاهتمام أو راديكاليًا بأي وجه من الوجوه.
في الواقع، لم يصل مشروع الحداثة في الفن التجريدي إلى نهايته، بل النقد. إنّ النقد -أيّ الإطار الفلسفي الواسع الذي يصادق على الأعمال الفنية ويثمّنها لأهميتها الثقافية والتاريخية- هو ما فقد التوجه والسلطة.
كان مسار الفن الغربي منذ عصر التنوير يتأرجح بين قطبي الدوغمائية النقدية والإبداع. تكمن المشكلة أنه في العقود الأخيرة، وفي ظلّ غياب أي مشروع نقدي متماسك، انجرف الفن نحو إرضاء اهتمامات دقيقة ومتنوعة تزداد باستمرار.
في حين كانت هناك «حركات» و«مدارس» فنية -مصطلحان يشيران إلى الوجهة والانضباط- لم يعد لدينا الآن سوى «مشاهد».
هذا ليس بالضرورة أمرًا سيئًا. ولكن في عالم حيث «كل شيء مقبول – anything goes»، لا يوجد مجال لهذا النوع من الابتكار والتجاوز الذي أدى إلى ظهور الفن التجريدي في الغرب، وهذا ما جعل الفن الحديث فنًّا مثيرًا للغاية.
من الصعب في هذه اللحظة التاريخية أن ندرك ما الذي جعل لوحة بولوك «رقم 32» مثيرة للانقسام، ومخلخلةً جدًا للمعايير، وفي الوقت نفسه محتفظةً بقيمةٍ عالية جدًا لأولئك الذين يعتقدون أن للفنِّ مكانًا في المجتمع يتجاوز المتعة.
[divider style=”solid” top=”20″ bottom=”20″]
[1] واللقب كذلك يُلمح إلى القاتل المتسلسل في لندن آخر القرن التاسع عشر: جاك السفّاح
Jack the ripper (مدير التحرير).
### خارج عقلك | توم تشاتفيلد – ت: محمد السعيد
عندما يكون هاتفي النقال بين يديّ، هل أكون أنا الشخص نفسه لو كان الهاتف في غرفة أخرى؟ من ناحية،...
### الدراما في التعليم: مقاربات وتطبيقات | نعيم حيماد
افتتاحيّة حظي استخدام الدراما في التعليمفي السنوات الأخيرة باهتمام كبير من قبل نخبة من المنظرين والممارسين للدراما في مجال التعليم....
### الحقائق المخفية | دي بي سي بيير – ت: محمد السعيد
يحمل جبل كلسي خشن في غرب إيران عددًا من النقوش البارزة، من بينها لوحة طولها خمسة وعشرين مترًا منقوشة...
### التغلُّب على كاشف الكذب | كلاريسا سيباغ-مونتِنفيوري – ت: محمد السعيد
حين اتُّهِمَتْ مربية الأطفال البريطانية لويز وودورد بهزِّ رضيع حتى الموت في مدينة نيوتن بولاية ماساتشوستس، لم تكتفِ بإعلان...
### عن منصة معنى
«معنى»، مؤسسة ثقافية تقدّمية ودار نشر تهتم بالفلسفة والمعرفة والفنون، عبر مجموعة متنوعة من المواد المقروءة والمسموعة والمرئية. انطلقت في 20 مارس 2019، بهدف إثراء المحتوى العربي، ورفع ذائقة ووعي المتلقّي المحلي والدولي، عبر الإنتاج الأصيل للمنصة والترجمة ونقل المعارف.
### روابط سريعة
### التصنيفات
### مرحبا بك!
قم بتسجيل الدخول إلى حسابك
تذكرني
### قم بإنشاء حساب جديد!
املأ النموذج أدناه للتسجيل
### طلب إعادة تعيين كلمة المرور
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان البريد الإلكتروني لإعادة تعيين كلمة المرور الخاصة بك.
### Add New Playlist
- Select Visibility -PublicPrivate
No Result
عرض جميع النتائج
-
00:00
00:00
-
00:00
00:00
|
article
|
Arabic
|
ar
|
الفنّ التجريدي: بين الماضي والحاضر - منصة معنى الثقافية
|
https://mana.net/abstract-art/
|
1,941 |
وتجدر الإشارة إلى أنّ بعض الفنانين التجريديين استخدموا الحيل البصرية المستعملة في الفن التشخيصي – مثل المنظور والتظليل – في لوحاتهم.
|
sentence
|
وتجدر الإشارة إلى أنّ بعض الفنانين التجريديين استخدموا الحيل البصرية المستعملة في الفن التشخيصي – مثل المنظور والتظليل – في لوحاتهم. ولاستخدامهم هذا أهداف فريدة و غالبًا لا تهتم بالنظرية.
|
paragraph
|
Arabic
|
ar
|
الفنّ التجريدي: بين الماضي والحاضر - منصة معنى الثقافية
|
https://mana.net/abstract-art/
|
1,942 |
قلّد فنانوّ «ما بعد الحداثة» مثل: بيتر هالي اللغة البصرية المستعملة في الفن التجريدي الحديث (في حالة بيتر، التجريد الهندسي)، للتعليق على طبيعة الفن والمعنى نفسه. تمثّل هذه الكتل الملونة «الخلايا» و«الأنابيب».قلّد فنانوّ «ما بعد الحداثة» مثل: بيتر هالي اللغة البصرية المستعملة في الفن التجريدي الحديث (في حالة بيتر، التجريد الهندسي)، للتعليق على طبيعة الفن والمعنى نفسه. تمثّل هذه الكتل الملونة «الخلايا» و«الأنابيب».
|
paragraph
|
لا توجد منتجات في سلة المشتريات.
No Result
عرض جميع النتائج
الثلاثاء, سبتمبر 10, 2024
No Result
عرض جميع النتائج
No Result
عرض جميع النتائج
# الفنّ التجريدي: بين الماضي والحاضر
## ترجمة: أنطونيوس نادر
AA
AA
إعادة تعيين
فنٌ مليء بالتحديات
ثمّة خطٌ رفيع يفصل بين الفن التجريدي ومجرد الزخرفة، ولوحة «رقم 32» (نُشرت عام 1950)، لجاكسون بولوك تتأرجح بين هذا الخطّ. فهي لا تشير إلى معنىً واضح، ولكن لا يمكن القول إنّها بلا معنى على الإطلاق. كما أنّها ليست معبّرة بشكلٍ مباشر، ولا يعني هذا أنها لا تعبّر عن مدلولٍ ما. تحمل هذه اللوحة الكثير من المضامين عن الفن الغربي بالنسبة إلى شخصٍ خبيرٍ في تاريخ الفن؛ أما بالنسبة إلى شخصٍ عادي، فقد يراها عملًا مبتذلًا بالكاد يعبّر عن أمرٍ ما.
اللوحة شبكة من الخطوط وبقعٍ من الألوان، رُسمت عن طريق صبّ طلاءٍ رخيص بعشوائيةٍ مباشرة على القماش. تتكون اللوحة من طلاءٍ أسود فقط وقماشٍ خام. واللوحة ضخمة؛ إذ يبلغ طولها تسعة أقدام وعرضها خمسة عشر قدمًا، وتغطي مجال رؤية المشاهد أثناء اقترابه منها. تقليديًّا، حتى اللوحات التجريدية تتكون من أجزاءٍ مترابطة مع بؤر تركيز (emphases) وعمقٍ يُنقل من خلال اللون والظلال، ولكن «رقم 32» ليس لها أجزاء؛ إنّها تتكون من تعالقات، والبؤرة فيها تكمن عبر امتداد سطح القماش المستطيل.
يمنحها ما سبق عمقًا سطحيًا، وربما لا عمق فيها: مجرّد طلاء على قماش. إنّها عبث بالشكل واللون. حتى اسمها، ببساطة رقمٌ معيّن – رقم 32 – يجعلها تنأى بنفسها عن أي فكرة مفادها أنها تعكس مدلولًا محدّدًا. تشير عناوين أعمال بولوك الأخرى إلى نوعٍ من الاختبار الشخصي، وإلى الاستخدام السمفوني المتعدد الطبقات للون والملمس؛ خذ مثلًا لوحاته التي تحمل اسم: «إيقاع الخريف»، و«الضباب الأرجواني»، و«الأقطاب الزرقاء»، و«انعكاس الدنقلة الكبير».
هذا لا ينطبق على لوحة «رقم 32»؛ شكلها الخام وبساطتها دليل على أنّ الفنان لم يخطط مسبقًا لرسمها؛ أيّ أنّه لم ينتق الألوان ولا الطبقات. يبدو بولوك هنا أكثر حضورًا، من خلال لمساته الحادة. بالنسبة إلى مؤيديّ عمل بولوك، تختصر هذه اللوحة خلاصة نظرة الفنان الجمالية. أما بالنسبة للبعض الآخر، فهي لوحة مبتذلة.
وصف جوزيف بويس -النحات الألماني في فترة ما بعد الحرب- الفنَّ التجريدي الأمريكي بأنه مجرد «تغليف»، أيّ سطح بلا محتوى. في هذا الصدد، قد يتفق البعض أن لوحة «رقم 32» تجسد فراغ الفكر والشعور ذاك. فقد رأى الروائي والناقد الفني روبرت كوتس أن فن بولوك لم يكن سوى «انفجارات» غير منظمة من الطاقة العشوائية. غير أنّ طائفة كبيرة من متذوقي الفن التجريدي لا تروق إليهم أعمال بولوك ويرونها فنًّا محيرًا، حتى إنّ بعضهم يراها إهانةً للذوق أو الحسّ السليم.
عُرف بولوك بلقب: «جاك فنان النقط» (Jack the Dripper) [1] في الأوساط الإعلامية المشككة بعمله حيث ادعى كثر أن أيّ شخص يمكنه أن يرسم كما يرسم بولوك إلّا أنّ أحدًا لم يتجرأ على فعل ذلك.
«رقم 32» - جاكسون بولوك«رقم 32» – جاكسون بولوك
بيد أنّ هذا هو مغزى الفن التجريدي في التقليد الغربي: إنّه تحدّ. وفي ظل الكثير هذه التحديات، تُعد لوحة « رقم 32» اللوحة الأكثر تمثيلًا لهذا الفن.
قصة الفنّ التجريدي
مسار قصة الفن التجريدي مضمّنة في الدراسات التاريخية الفنية، إلّا أنّ المحطات الرئيسة لهذا المسار كانت محط تغييرات مفاجئة كلما اكتشف مؤرخوّ الفن حقائق جديدة.
انطلق مسار الفن التجريدي بدءًا من القرن التاسع عشر وما تلاه؛ حيث استفاد الفنانون من مادة الطلاء والجوانب الشكلية للرسم مثل اللون والدرجة والخطوط. يُعرف هذا الانشغال بالجوانب غير التمثيلية (non-representative) للفن باسم «الشكلانية»، لأنّه انشغال «بالشكل»، أيّ بتوسل شكل المحتوى بدلًا من المحتوى في ذاته. بالنسبة إلى الفنانين في القرن التاسع عشر، صُنّف الفن التجريدي على أنّه «فنٌّ من أجل الفنّ»، وكانت الفكرة الشائعة مفادها أنّ المتذوق للفن يمكنه الاستمتاع بالعمل دون اللجوء إلى معنى أو حتى أي شيء آخر يمثل أمرًا ما.
تمثّل لوحة «الموسيقى الهادئة باللّونين الأسود والذهبي – الصاروخ الساقط» (1872)، للفنان جيمس مكنيل ويسلر هذا الاتجاه الذي تبلور لاحقًا في الفن التجريدي. إنّ مشهد ويسلر الغامض من الناحية المكانيّة يقترب إلى التجريد، وذلك بمحاولته نقل الشعور أو الانطباع الخاص بالمشهد بدلًا من إعادة إنتاجه بحذافيره.
«الموسيقى الهادئة باللونين الأسود والذهبي - الصاروخ الساقط» (1872-1877) - جيمس أبوت مكنيل ويسلير«الموسيقى الهادئة باللونين الأسود والذهبي – الصاروخ الساقط» (1872-1877) – جيمس أبوت مكنيل ويسلير
في عام 1877، انتقد جون روسكين – أبرز نقّاد بريطانيا في ذلك الوقت – عمل ويسلير هذا نقدًا لاذعًا فشبهه «بمن قام برمي الطلاء في وجه الجمهور». تأثر ويسلر بهذا الكلام، فرفع دعوى قضائية ضد روسكين، بيد أنّه خسرها لأن المسؤولين عرضوا اللوحة -خطأً- مقلوبةً على المحكمة. أفلس ويسلير بسبب هذه القضية، لكن مسيرة تطور الفن التجريدي استمرت.
من ناحيةٍ أخرى، تحديد أول فنان تجريدي في العالم موضوع نزاع. في نظر أبحاث تاريخ الفن التقليدية، كان فاسيلي كاندينسكي – فنان روسي الجنسية رسم لوحات تجريدية بالكامل في مطلع عام 1911- هو أول فنان تجريدي.
لم ينل الفن التجريدي الرائد لهيلما أف كلينت تقديرًا إلا قبل سنوات قريبة. هذه صورة للمعرض الشهير في متحف غاغينهايم، عام 2018 .لم ينل الفن التجريدي الرائد لهيلما أف كلينت تقديرًا إلا قبل سنوات قريبة. هذه صورة للمعرض الشهير في متحف غاغينهايم، عام 2018 .
ولكن في الآونة الأخيرة، وبفضل المعرض الرائد في متحف مقاطعة لوس أنجلوس للفنون في عام 1986 الذي حمل اسم «الروحانية في الفن: الرسم التجريدي 1890 – 1985»، وقع الاختيار على هيلما أف كلينت كأول رسامة تجريدية. بدأت كلينت في رسم لوحات تجريدية بدءًا من عام 1906، وحملت مجموعتها عنوان «الفوضى البدائية». كانت الفنانة متكتمة في ما يتعلق بأعمالها التجريدية، ولم تُعرض أيّ منها في معارض عامة، وبقيت غير معروفة حتى أزيح عنها الستار مؤخرًا.
ولعل الجدال حول هوية أول من مارس الفن التجريدي سيستم، لكن الحقيقة الأكثر أهمية هي أن العديد من الفنانين الأوروبيين البارزين قد توصّلوا في أعمالهم إلى التجريد بحلول الحرب العالمية الأولى. لقد وجد كل منهم طريقته الخاصة في التخلي عن الفن التشخيصي (figurative painting). وجديرٌ بالذكر أنّه لم تكن هناك حركة «تجريدية» دولية ذات رؤية أو بيان مشترك.
في ضوء ذلك، فإن السؤال الملحّ حقًا هو: لمَ لمْ يتبنى الفنانون الغربيون الفن التجريدي على امتداد قرون عديدة؟ لماذا كان التجريد غير ضروري أو لا معنى له أو غير مناسب أو حتى لا يمكن تقبّله لقرونٍ متوالية في الفن الغربي؟
ظهرت العديد من التفسيرات لشرح ذلك. إحدى النظريات الأكثر وضوحًا هي أن ظهور التصوير الفوتوغرافي بوصفه شكلًا من أشكال الفن، إضافةً إلى تطور الفن الحديث، سببان رئيسان لإزاحة الرسم التشخيصي.
ثمّة إجابات أخرى غير ملموسة لاستكشاف الأسباب: ربما عندما أصبحت الأعمال الفنية قابلة للاستهالاك بشكل متزايد، مثل السلع، بات من السهولة فصل اللوحات والمنحوتات عن التجارب المحددة لمبدعيها. ربما أدت الحداثة في الغرب إلى إفراغ الفن من المحتوى التشخيصي؛ مما دفع الفنانين أيضًا إلى التخلي عن التمثيل التشخيصي.
كل من هذه الإجابات معقدة وتتطلب الكثير من الشرح، ولا يمكن إلا أن تكون تخمينات. لا توجد إجابة واضحة لهذه المسألة. ربما يكون من الأفضل طرح السؤال حول سبب تقبّل الفن التجريدي فنًّا من الفنون الرسمية في تاريخ الفن الغربي في مرحلة معينة على علماء الأنثروبولوجيا بدلًا من طرحها على مؤرخي الفن. فما هو واضح أن الفن التجريدي كان موجودًا دائمًا في مناطق أخرى من العالم.
ما جعل الفن التجريدي فنًّا حديثًا على وجه التحديد في العالم الغربي هو نظام المعارض، الذي أعطى القيمة الفنية للأعمال المعروضة. وكما هو واضح فقد ازدهر التجريد لآلاف السنين المناطق الشرقية والجنوبية من العالم، دون عناء التحقق من مكانة الأعمال المعروضة في الصالونات [والمعارض، كما هو في العالم الغربي].
الواقع الافتراضي و«الافتراضية»
يتبنى بيبي كرمل وهو مؤرخ فني، في كتابه « الفن التجريدي: تاريخ عالمي»، فكرة أنّ الفن التجريدي كان دائمًا موجودًا بشكل طبيعي عندما ننظر إليه نظرة شاملة وعالمية، بيد أنّه يتحاشى طرح نظرية عن تطور الفن التجريدي. بالنسبة إلى كرمل، فإنّ هذا الفنّ متجذر في العالم الحقيقي، وهو ليس فنًّا «مجردًا» على الإطلاق، كما أنّه تقليد عالمي وليس محليًا.
في دراسته حول الفن التجريدي يقسم العمل الفني إلى خمس فئات واسعة تنتمي إلى العالم الحقيقي: الأجسام، والمناظر الطبيعية، والكون، والبنى، والعلامات والأنماط. من خلال فحص الفن التجريدي بهذه الطريقة، يرى كرمل في اللوحات التجريدية موضوعات قابلة للتحليل، بعكس النقاد والمؤرخين الأرثوذكسيين الذين رأوا فيها مجرّد توليفات شكلية مكوّنة من لون وشكل.
ربما يكون من الأفضل أن يطلق على الفن التجريدي: فن ما تم تجريده (abstracted art)؛ لأنّ الفنانين التجريديين عادةً ما يستخلصون ويجرّدون تعبيرات التجارب في شكل ولون، أكثر من كونها توليفات مكونة من شكل ولون. ومرّد ذلك الطبيعة الجوهرية للرسم والنحت؛ فهما (الشكل اللّون) وسيطان للتعبير، مثل الشاشة أو المسرح لخيال الفنان. كما هو الحال في المسرح أو السينما، فإنّ جمهور اللوحة أو المنحوتة يعلّق معتقداته من أجل أن يتقبل المشهد.
من المفيد التفكير في اللوحة التشخيصية التقليدية أو النحت على أنها حقيقة افتراضية. إذْ استخدم الفنانون لقرون عديدة الحيل البصرية -مثل المنظور الخطي، والتقصير المسبق، والتظليل- لمحاكاة الطريقة التي ندرك بها الأشياء في الفضاء الحقيقي. إنّ المشاهد تُنشأ في فضاء افتراضي – سواء كانت القاعدة التي تدعم التمثال أو القماش – ليراها المشاهدون بوصفها خدعة بصرية.
«القديس بطرس شفاء أحد الأشخاص وبعث تابيثا من الموت» ماسولينو دي بانيكال. اعتمد الرسم الغربي قبل القرن العشرين على الحيل البصرية لخلق واقع افتراضي. إحدى هذه الحيل هي المنظور الخطي، وهذه اللوحة هي أول مثال لاستخدام نقطة تلاشٍ متسقة.«القديس بطرس شفاء أحد الأشخاص وبعث تابيثا من الموت» ماسولينو دي بانيكال. اعتمد الرسم الغربي قبل القرن العشرين على الحيل البصرية لخلق واقع افتراضي. إحدى هذه الحيل هي المنظور الخطي، وهذه اللوحة هي أول مثال لاستخدام نقطة تلاشٍ متسقة.
يستمتع مشاهدوّ الأعمال الفنية العظيمة معنى ما يُرسم، ويقدرون الطريقة التي يتجلّى فيها الوهم عبر تمازج اللون والشكل.
يبقى الفن التجريدي، إلى حدٍ ما، ضمن إطار التجربة الجمالية. فقد سعت حركات الفن الحديث التي أدت إلى التجريد -أيّ «مدارس الفن»، مثل الانطباعية والفاوفية والتكعيبية- إلى تمثيل العالم بشكل مختلف عن كل الفنون التي سبقتها. إذْ ادعوا الاقتراب من الحقيقة الذاتية عبر تهميش جميع الحيل الوهمية التقليدية التي حاولت إعادة إنتاج الواقع بحذافيره كحقيقة موضوعية.
«الأحمر والأصفر والأزرق» (1925) واسيلي كاندينسكي. كان كاندينسكي يعدّ لفترةٍ طويلة أب الرسم التجريدي الغربي.«الأحمر والأصفر والأزرق» (1925) واسيلي كاندينسكي. كان كاندينسكي يعدّ لفترةٍ طويلة أب الرسم التجريدي الغربي.
بالنسبة إلى هذه المدارس، أصبح الفن أقل من أن يوصف بأنّه واقع افتراضي، لكنه مع ذلك احتفظ بالافتراضية، وأصبح افتراضيًا. لقد أخذ الفن التجريدي مسار التطور هذا إلى أقصاه: من الواقع الافتراضي إلى الافتراضية.
ماذا تعني «الافتراضية» هنا؟ إنّها الوجود كجوهر وتأثير، ولكن بدون اللجوء إلى الواقع. اللوحة التجريدية التي رسمها كاندينسكي، على سبيل المثال، ما زالت تُعدّ علاقة متبادلة بين الشكل واللون، و تعتمد على الرسم كمستوى تخطيطي: إنها نافذة تطلّ على «الواقع» الفردي الذي تصوّره كاندينسكي.
وما تزال العناصر في لوحات كاندينسكي تحظى بعلاقة متبادلة، كما هو الحال في فضاء الواقع الافتراضي للوحة التشخيصية؛ فجوهر الرسم سليم إذ إنّ ذلك الفضاء الافتراضي ما زال موجودًا. عندما يكون الفن التجريدي بناءً خالصًا، ويتخلص من المساحة الافتراضية الملازمة للرسم والنحت، يصبح متميزًا عنهما.
وصف دونالد جود الفنان التخفيفي (minimalist) مثل هذه الأعمال الفنية بأنها «أجسام محدّدة» (Specific Objects). إنّه مصطلح غير دقيق، ولكنه يصلح لإظهار أن مثل هذه الأعمال الفنية ليست رسمًا ولا نحتًا، ولكنها فئة أخرى تمامًا.
رأى دونالد جود أن أعماله وأعمال العديد من معاصريه تشغل مساحة هجينة، لا هي لوحات ولا هي نحت. عمل دون عنوان لدونالد جود.
استخدم جود هذا المصطلح لوصف أعماله الخاصة، ولكنه ينطبق على لوحات كازيمير ماليفيتش وفرانك ستيلا أحادية اللون، والتي تجعل اللوحة تندمج مع نفسها بالكامل، من أجل الوصول للتأثير الذي يأمل العمل في تحقيقه.
في مثل هذه الأعمال، لم يعد قماش اللّوحة (أو القاعدة) سطحًا تتفاعل فيه الأشكال والألوان في الفضاء الافتراضي. بدلاً من ذلك، تتفاعل الأشكال والألوان في الفضاء الحقيقي، في فضائنا.
تختلف معايير النجاح أو الفشل لهذه الأعمال عن الخصائص التقليدية للرسم والنحت. رأى جود أنّ خصائص الرسم والنحت تقف في طريق ما أراد تحقيقه من خلال اللون والشكل. في رأيه، كان لـ «أجسامه المحددة» تأثيرًا أحدّ من غيرها.
الواقع والأشكال الجديدة للإدراك الحسّي
الرسم نفسه له ثلاثة أنواع عامة من التجريد؛ أولًا، ثمّة أسلوب تعبيري تُرسم فيه الأشكال بحركاتٍ غير مقيدة؛ ثم هناك التجريد الهندسي حيث يتم هيكلة الأشكال؛ أما النوع الثالث، فهو تجريد مجال اللون حيث يتم عرض مساحات من الألوان بطريقةٍ لا شكل واضح لها.
لم تكن هذه «الأنماط» (styles) أنماطًا عرضيةً أو تعتمد على ذوق أو ميل الرسام كوسيلة لتحقيق هدفٍ ما من البحث الفني. وخير مثال على ذلك هو الفنان الذي غالبًا ما ينظر إلى عمله على أنّه ذروة التجريد الهندسي: بيت موندريان. إنّ لوحات بيت موندريان المكونة من شبكات (grids) ذات الخطوط السوداء والأجزاء الملونة على خلفية بيضاء؛ تهدف إلى استحضار «حقيقة أعلى».
بالنسبة إلى موندريان، كان الفن في جوهره معارضًا للواقع؛ «لأن الواقع يتعارض مع الروحي». بغض النظر عن هذه اللوحة الأشهر لموندريان، فإنّ جوانب الرسم التي تهم هذا الفنان حقًا لم تكن الجوانب المحددة للموضوع -أيّ ماذا أو ما يتم تصويره في اللوحة مثلًا- بل الجوانب القابلة للفهم عالميًا للشكل والخط واللون. إنّ لوحات موندريان، مثلها مثل لوحات الفنانين الآخرين، هي محاولة لاستخلاص الشكل واللون من أجل الاقتراب من ذلك الجوهر العالمي والروحي للفن.
عبّر موندريان عن رغبته في الوصول إلى «أساس» الأشياء من خلال الحدس، كالعديد من الفنانين التجريديين الآخرين في النصف الأول من القرن العشرين الذين رغبوا في الوصول إلى قوى غير مرئية حولنا، ولكنها معروفة أو محدوسة.
«التكوين الثاني باللون الأحمر والأزرق والأصفر» (1930) - بيت موندريان«التكوين الثاني باللون الأحمر والأزرق والأصفر» (1930) – بيت موندريان
في أواخر القرن التاسع عشر، لاحظ العلماء بشكلٍ أفضل مما سبق القوى غير المرئية مع انتشار التقنيات الجديدة، وأصبح من الواضح أن العالم أرحب مما يبدو للعين. في الوقت نفسه، ظهرت حركات روحية بديلة جمعت بين الأفكار الأفلاطونية والتصوف.
كان كلينت وموندريان من بين العديد من الفنانين الذين انغمسوا في أشكال الروحانية خارج العوالم التقليدية للدين. اعتقدت كلينت أن لوحاتها هي وحي عالم روحي، وأن مهمتها كانت العمل «على مستوى روحاني» لتمثيل روح الإنسان، بدلًا من صورته الفانية.
بحلول عشرينيات القرن الماضي، كانت نظرية فرويد عن للعقل البشري قد تغلغلت أيضًا في عالم الفن. كذلك السريالية، وهي حركة منظمة بإحكام بدأت مع بعض الفنانين الذين سعوا إلى التنقيب عن الإمكانات الإبداعية للعقل الباطن، وهي الحركة الثقافية التي كانت سائدة في أوروبا بين الحربين العالميتين.
لم تكن السريالية دوغمائية في محاولتها لاستكشاف اللاوعي، ولذلك ظهر عدد من الأساليب والطرق لمحاولة إخراج اللاوعي إلى السطح. إحدى هذه الأساليب كان الرسم الآلي (Automatism)، وهي عملية يتخلى فيها الفنان عن السيطرة الواعية لليد التي ترسم أو تصور. في هذا المجال، تبنى الفنانون مثل أندريه ماسون وخوان ميرو الفرصة لبناء صورهم باستخدام حركات حرّة، وحتى إلقاء الطلاء على القماش.
طور أرشيل غوركي -هو مهاجر أرمني عاش في الولايات المتحدة- أسلوبًا في الرسم يدمج بين الرسم الآلي وتجريد مجال الألوان. لوحاته في الأربعينيات حجمُها ضخم – ومرد ذلك تأثره بأعماله السابقة كفنان جداري مُعيّن من الدولة خلال السنوات الأخيرة من الكساد الكبير – لكنها معبّرة وغنائية في الرسم بالفرشاة.
ألهم إدماج غوركي للأنماط جيلًا واسعًا من الفنانين الأمريكيين في فترة ما بعد الحرب لاحتضان التجريد الواسع النطاق. ما نسميه الآن «التعبيرية التجريدية»، وكان ذاك الجيل في الواقع مجموعة فضفاضة من الفنانين الذين يستخدمون أنماطًا متعدّدة من أنماط التجريد.
ربما كان القاسم المشترك بين هؤلاء الفنانين – على الأقل في السنوات الأولى – هو دعم جيل جديد من النقاد بقيادة كليمنت غرينبيرغ، الذي كان يعتقد أن التجريد هو التعبير الأسمى للفن الغربي.
«الكبد هو مشط الديك» (1944) - أرشيل جوركي.«الكبد هو مشط الديك» (1944) – أرشيل جوركي.
الحداثة ومصير الفنّ الغربي
كان يُعتقد في بعض الأوساط الفكرية المؤثرة أنّ الفن يتقدم نحو هدف؛ وهذا المضمون يشتمل عليه مصطلح «الطليعية» (Avant-garde)، الذي يُوصف به الفنّانون الذين يبتكرون أرضية جمالية جديدة. أصل المصطلح فرنسي يُطلق على الجنود الذين يتقدمون إلى مناطق جديدة.
بالنسبة إلى غرينبيرغ، لم يكن هؤلاء الفنّانون يوسّعون حدود إمكانات الفن؛ بل كانوا يتقدمون نحو الهدف الحقيقي والمفرد لكل شكل فني.
يُعدّ غرينبيرغ شخصية مهمة في تاريخ الفن التجريدي، وذلك لأمرين: بوصفه مناصرًا رائدًا في مسألة تفوق الفن التجريدي على غيره من أنواع الرسم، وتأكيده للقوة التي امتلكها هذا الفن. كان ناقدًا في اللجنة الأمريكية للحريّة الثقافية التي تمولها الدولة، وهي مجموعة تم إنشاؤها لتعزيز الفن الأمريكي على المستوى الدولي.
أصبحت أفكار غرينبيرغ مؤثرة عندما كانت الولايات المتحدة جزءًا من الحرب على الفاشية والنازية، وخلال الحرب الباردة اللاحقة ضد الشيوعية السوفيتية. كانت معايير الفن الفاشي والسوفياتي واضحة، وهي ما تحددها السلطات الثقافية أنها كذلك، بيد أنّه ما لم يكن واضحًا هو معايير الفن «الجيد» وتحديدًا في الغرب الديمقراطي.
كان الماركسيون هم من تعاطف مع غرينبيرغ في البداية، لكن ارتبط تفكيره بشكلٍ متزايد بالهيمنة الثقافية الأمريكية. بالنسبة إليه، كان التجريد في أعمال بولوك فنًا مثاليًا لمجتمع ديمقراطي. تتجلى الحداثة في الفن، وفقًا لغرينبيرغ، في إطار التنوير الأوروبي؛ أيّ في فترة ازدهار الأفكار الفلسفية والعلمية التي أعطت الأولوية للعقل.
في مقالته المؤثرة « الرسم الحداثي» (1961)، وصفَ غرينبيرغ إيمانويل كانط – الفيلسوف الألماني في عصر التنوير – بأنّه «أول حداثي حقيقي». كان أسلوب كانط في «النقد» هو استخدام العقل لنقد العقل بغرض توضيحه، ومنحه استقلالية عن أنواع التفكير الأخرى.
«أولمبيا» - إدوارد مانيه (1863). بالنسبة إلى كليمنت غرينبيرغ، كان مانيه أول رسام حداثي. لقد رسم مانيه لوحاته بأسلوبٍ مسطّح بشكلٍ متعمد.«أولمبيا» – إدوارد مانيه (1863). بالنسبة إلى كليمنت غرينبيرغ، كان مانيه أول رسام حداثي. لقد رسم مانيه لوحاته بأسلوبٍ مسطّح بشكلٍ متعمد.
بالطريقة نفسها، كان الرسامون الحداثيون – من إدوارد مانيه في القرن التاسع عشر إلى موريس لويس، وهو رسام يعمل ينتمي إلى رسامي أسلوب مجال ألوان في الولايات المتحدة في الوقت الذي كتب فيه غرينبيرغ مقالته – يعملون على ترسيخ الفن التعبيري «بشكل صارم في مجال تخصصه».
رأى غرينبيرغ أن وضوح الفن التجريدي -الذي كان صادقًا بالنسبة إلى الوسيط الذي يُعبّر من خلاله- معارضٌ لـ«الفن الشعبي المبتذل [الكيتش]» الذي ينُتج على نطاق واسع في الثقافة الشعبية. إن إزالة «الكيتش» كانت مسألة استجلاء وتوضيح تحتاجها جميع الفنون لكي تصبح تعبيرًا عن إمكاناتها الجمالية الكامنة.
اللوحات مسطّحة، وإيهام العمق الذي نجده في معظم الفن الغربي كان انحرافًا عن جوهر فن الرسم ذاته. كانت استقلالية الشكل الفني في جميع خصائصه دون أن تتلوث بأشكال فنية أخرى. وفقًا لغرينبيرغ، يعدّ الشكل واللون من أهم خصائص الرسم، و أفضل تمثيل لها يكون بشكلٍ مسطّح.
وهكذا دافع غرينبيرغ عن «التسطيح» الذي تجلّى في لوحات الفنانين الأمريكيين التجريدية مثل جاكسون بولوك باعتباره تحقيقًا لهذا الوضوح الحداثي. لقد ضم هؤلاء الفنانين معًا ضمن فريق واحد، وهم يمثّلون المرحلة التالية في الحداثة، وقد حلّت رؤيتهم الأمريكية المميزة محلّ الفن الأوروبي الطليعي.
وفي الوقت الذي أصبح فيه الفن التجريدي الأمريكي مهيمنًا، تراجعت هيمنة غرينبيرغ النقدية، وظهرت أشكال جديدة من الفن الطليعي، مستوحاة مباشرة من الثقافة الجماهيرية، وحلّت محلّ التعبيرية التجريدية في المخيال العام. تبنى فنانوّ «البوب» مثل: آندي وارهول، وريتشارد هاميلتون هذا النوع من «الفن الشعبي المبتذل» الذي رآه غرينبيرغ تلويثًا للفن الحقيقي.
استمرت الأعمال الفنية التجريدية، ولكن تخلّى الفنّانون التجريديون الأكثر جرأة عن الفكرة الصارمة «للنقد الحداثي»، وعن الوضوح المتعلق بخصوصية الوسيط الفني، وذلك لصالح أشكال أخرى من التعبير.
نظر فنانوّ «ما بعد الحداثة» إلى السخرية وعملية الرسم نفسها، كطرق لتجاوز الطريق المسدود للحداثة. تبنى الألماني غيرهارد ريختر كلا النهجين؛ فبعض أعماله التجريدية في الستينيات كانت مصنوعة بممسحاتٍ بدلًا من الفرشاة، حتى يتمكن من لفت الانتباه إلى عملية صنع اللوحة نفسها.
كانت «اللوحات التجريدية» البارزة الأخرى التي رسمها ريختر في الواقع صورًا واقعية مرسومة بعناية تعكس لوحاته التجريدية الأخرى. أصبحت طلائعية الرسم التجريدي مفهومية أكثر، ما جعل ضمنيًّا قضية الرسم تحظى باستقلالية أقل مما كان كان يعتقد النقاد الحداثيون.
قلّد فنانوّ «نيو جيو»، مثل: الرسام بيتر هالي، والنحات أشلي بيكرتون اللغة البصرية للتجريد الهندسي، لكنهما دمجاها مع السلع الاستهلاكية بألوانٍ تجارية فاتحة وأحيانًا فلورية.
منذ ذلك الجيل ما بعد الحداثي من الرسامين والنحاتين الممتد من الستينيات إلى التسعينيات، ازدهر التجريد متفرّعًا إلى عددٍ لا يُحصى من الأساليب والمقاربات بجوار الفن التشخيصي. هنا يمكن القول إنّ التجريد المتحرّر من عبء التوقعات الحداثية هو ببساطة نهج للتعبير مثل أيّ نهج آخر.
وتجدر الإشارة إلى أنّ بعض الفنانين التجريديين استخدموا الحيل البصرية المستعملة في الفن التشخيصي – مثل المنظور والتظليل – في لوحاتهم. ولاستخدامهم هذا أهداف فريدة و غالبًا لا تهتم بالنظرية.
قلّد فنانوّ «ما بعد الحداثة» مثل: بيتر هالي اللغة البصرية المستعملة في الفن التجريدي الحديث (في حالة بيتر، التجريد الهندسي)، للتعليق على طبيعة الفن والمعنى نفسه. تمثّل هذه الكتل الملونة «الخلايا» و«الأنابيب».قلّد فنانوّ «ما بعد الحداثة» مثل: بيتر هالي اللغة البصرية المستعملة في الفن التجريدي الحديث (في حالة بيتر، التجريد الهندسي)، للتعليق على طبيعة الفن والمعنى نفسه. تمثّل هذه الكتل الملونة «الخلايا» و«الأنابيب».
هذا هو التحرّر نحو الأفضل بين الرسامين التجريديين الذين يمكنهم الالتزام برؤيةٍ فريدة بالرسم على القماش. لكن فكّ ارتباط الفن التجريدي عن إطاره الفلسفي الأوسع أدى أيضًا إلى انتشارٍ يثير التساؤل لأعمال تجريدية متنوعة قابلة للاستهلاك – بمعنى أنّها فقدت قيمتها، وباتت تُباع وتُشترى سريعًا بأسعارٍ مربحة – يشتريها المشترون المتضاربون.
دفع هذا التحول الناقد جيري سالتز إلى كتابة: « الزومبي على الجدران: لماذا يبدو الكثير من التجريد الجديد متشابهًا؟». وقد شبه اللّوحات التجريدية بصورة «الزومبي»، تحقيرًا لأعمال عددٍ من الرسامين التجريديين البارزين، الذين استخدموا الفنّ وجماليته لتقديم أعمال مبتذلة.
ومن المفارقات أن هؤلاء الفنانين نظروا إلى الشكلانية بوصفها فنًّا حداثيًّا متبنّين منظور غرينبيرغ، لكنهم بالطبع قدّموا أعمالًا في ظلّ فراغ تاريخي وبعد فترةٍ طويلة حين لم يُصبح التجريد مثيرًا للاهتمام أو راديكاليًا بأي وجه من الوجوه.
في الواقع، لم يصل مشروع الحداثة في الفن التجريدي إلى نهايته، بل النقد. إنّ النقد -أيّ الإطار الفلسفي الواسع الذي يصادق على الأعمال الفنية ويثمّنها لأهميتها الثقافية والتاريخية- هو ما فقد التوجه والسلطة.
كان مسار الفن الغربي منذ عصر التنوير يتأرجح بين قطبي الدوغمائية النقدية والإبداع. تكمن المشكلة أنه في العقود الأخيرة، وفي ظلّ غياب أي مشروع نقدي متماسك، انجرف الفن نحو إرضاء اهتمامات دقيقة ومتنوعة تزداد باستمرار.
في حين كانت هناك «حركات» و«مدارس» فنية -مصطلحان يشيران إلى الوجهة والانضباط- لم يعد لدينا الآن سوى «مشاهد».
هذا ليس بالضرورة أمرًا سيئًا. ولكن في عالم حيث «كل شيء مقبول – anything goes»، لا يوجد مجال لهذا النوع من الابتكار والتجاوز الذي أدى إلى ظهور الفن التجريدي في الغرب، وهذا ما جعل الفن الحديث فنًّا مثيرًا للغاية.
من الصعب في هذه اللحظة التاريخية أن ندرك ما الذي جعل لوحة بولوك «رقم 32» مثيرة للانقسام، ومخلخلةً جدًا للمعايير، وفي الوقت نفسه محتفظةً بقيمةٍ عالية جدًا لأولئك الذين يعتقدون أن للفنِّ مكانًا في المجتمع يتجاوز المتعة.
[divider style=”solid” top=”20″ bottom=”20″]
[1] واللقب كذلك يُلمح إلى القاتل المتسلسل في لندن آخر القرن التاسع عشر: جاك السفّاح
Jack the ripper (مدير التحرير).
### خارج عقلك | توم تشاتفيلد – ت: محمد السعيد
عندما يكون هاتفي النقال بين يديّ، هل أكون أنا الشخص نفسه لو كان الهاتف في غرفة أخرى؟ من ناحية،...
### الدراما في التعليم: مقاربات وتطبيقات | نعيم حيماد
افتتاحيّة حظي استخدام الدراما في التعليمفي السنوات الأخيرة باهتمام كبير من قبل نخبة من المنظرين والممارسين للدراما في مجال التعليم....
### الحقائق المخفية | دي بي سي بيير – ت: محمد السعيد
يحمل جبل كلسي خشن في غرب إيران عددًا من النقوش البارزة، من بينها لوحة طولها خمسة وعشرين مترًا منقوشة...
### التغلُّب على كاشف الكذب | كلاريسا سيباغ-مونتِنفيوري – ت: محمد السعيد
حين اتُّهِمَتْ مربية الأطفال البريطانية لويز وودورد بهزِّ رضيع حتى الموت في مدينة نيوتن بولاية ماساتشوستس، لم تكتفِ بإعلان...
### عن منصة معنى
«معنى»، مؤسسة ثقافية تقدّمية ودار نشر تهتم بالفلسفة والمعرفة والفنون، عبر مجموعة متنوعة من المواد المقروءة والمسموعة والمرئية. انطلقت في 20 مارس 2019، بهدف إثراء المحتوى العربي، ورفع ذائقة ووعي المتلقّي المحلي والدولي، عبر الإنتاج الأصيل للمنصة والترجمة ونقل المعارف.
### روابط سريعة
### التصنيفات
### مرحبا بك!
قم بتسجيل الدخول إلى حسابك
تذكرني
### قم بإنشاء حساب جديد!
املأ النموذج أدناه للتسجيل
### طلب إعادة تعيين كلمة المرور
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان البريد الإلكتروني لإعادة تعيين كلمة المرور الخاصة بك.
### Add New Playlist
- Select Visibility -PublicPrivate
No Result
عرض جميع النتائج
-
00:00
00:00
-
00:00
00:00
|
article
|
Arabic
|
ar
|
الفنّ التجريدي: بين الماضي والحاضر - منصة معنى الثقافية
|
https://mana.net/abstract-art/
|
1,943 |
قلّد فنانوّ «ما بعد الحداثة» مثل: بيتر هالي اللغة البصرية المستعملة في الفن التجريدي الحديث (في حالة بيتر، التجريد الهندسي)، للتعليق على طبيعة الفن والمعنى نفسه.
|
sentence
|
قلّد فنانوّ «ما بعد الحداثة» مثل: بيتر هالي اللغة البصرية المستعملة في الفن التجريدي الحديث (في حالة بيتر، التجريد الهندسي)، للتعليق على طبيعة الفن والمعنى نفسه. تمثّل هذه الكتل الملونة «الخلايا» و«الأنابيب».قلّد فنانوّ «ما بعد الحداثة» مثل: بيتر هالي اللغة البصرية المستعملة في الفن التجريدي الحديث (في حالة بيتر، التجريد الهندسي)، للتعليق على طبيعة الفن والمعنى نفسه. تمثّل هذه الكتل الملونة «الخلايا» و«الأنابيب».
|
paragraph
|
Arabic
|
ar
|
الفنّ التجريدي: بين الماضي والحاضر - منصة معنى الثقافية
|
https://mana.net/abstract-art/
|
1,944 |
هذا هو التحرّر نحو الأفضل بين الرسامين التجريديين الذين يمكنهم الالتزام برؤيةٍ فريدة بالرسم على القماش. لكن فكّ ارتباط الفن التجريدي عن إطاره الفلسفي الأوسع أدى أيضًا إلى انتشارٍ يثير التساؤل لأعمال تجريدية متنوعة قابلة للاستهلاك – بمعنى أنّها فقدت قيمتها، وباتت تُباع وتُشترى سريعًا بأسعارٍ مربحة – يشتريها المشترون المتضاربون.
|
paragraph
|
لا توجد منتجات في سلة المشتريات.
No Result
عرض جميع النتائج
الثلاثاء, سبتمبر 10, 2024
No Result
عرض جميع النتائج
No Result
عرض جميع النتائج
# الفنّ التجريدي: بين الماضي والحاضر
## ترجمة: أنطونيوس نادر
AA
AA
إعادة تعيين
فنٌ مليء بالتحديات
ثمّة خطٌ رفيع يفصل بين الفن التجريدي ومجرد الزخرفة، ولوحة «رقم 32» (نُشرت عام 1950)، لجاكسون بولوك تتأرجح بين هذا الخطّ. فهي لا تشير إلى معنىً واضح، ولكن لا يمكن القول إنّها بلا معنى على الإطلاق. كما أنّها ليست معبّرة بشكلٍ مباشر، ولا يعني هذا أنها لا تعبّر عن مدلولٍ ما. تحمل هذه اللوحة الكثير من المضامين عن الفن الغربي بالنسبة إلى شخصٍ خبيرٍ في تاريخ الفن؛ أما بالنسبة إلى شخصٍ عادي، فقد يراها عملًا مبتذلًا بالكاد يعبّر عن أمرٍ ما.
اللوحة شبكة من الخطوط وبقعٍ من الألوان، رُسمت عن طريق صبّ طلاءٍ رخيص بعشوائيةٍ مباشرة على القماش. تتكون اللوحة من طلاءٍ أسود فقط وقماشٍ خام. واللوحة ضخمة؛ إذ يبلغ طولها تسعة أقدام وعرضها خمسة عشر قدمًا، وتغطي مجال رؤية المشاهد أثناء اقترابه منها. تقليديًّا، حتى اللوحات التجريدية تتكون من أجزاءٍ مترابطة مع بؤر تركيز (emphases) وعمقٍ يُنقل من خلال اللون والظلال، ولكن «رقم 32» ليس لها أجزاء؛ إنّها تتكون من تعالقات، والبؤرة فيها تكمن عبر امتداد سطح القماش المستطيل.
يمنحها ما سبق عمقًا سطحيًا، وربما لا عمق فيها: مجرّد طلاء على قماش. إنّها عبث بالشكل واللون. حتى اسمها، ببساطة رقمٌ معيّن – رقم 32 – يجعلها تنأى بنفسها عن أي فكرة مفادها أنها تعكس مدلولًا محدّدًا. تشير عناوين أعمال بولوك الأخرى إلى نوعٍ من الاختبار الشخصي، وإلى الاستخدام السمفوني المتعدد الطبقات للون والملمس؛ خذ مثلًا لوحاته التي تحمل اسم: «إيقاع الخريف»، و«الضباب الأرجواني»، و«الأقطاب الزرقاء»، و«انعكاس الدنقلة الكبير».
هذا لا ينطبق على لوحة «رقم 32»؛ شكلها الخام وبساطتها دليل على أنّ الفنان لم يخطط مسبقًا لرسمها؛ أيّ أنّه لم ينتق الألوان ولا الطبقات. يبدو بولوك هنا أكثر حضورًا، من خلال لمساته الحادة. بالنسبة إلى مؤيديّ عمل بولوك، تختصر هذه اللوحة خلاصة نظرة الفنان الجمالية. أما بالنسبة للبعض الآخر، فهي لوحة مبتذلة.
وصف جوزيف بويس -النحات الألماني في فترة ما بعد الحرب- الفنَّ التجريدي الأمريكي بأنه مجرد «تغليف»، أيّ سطح بلا محتوى. في هذا الصدد، قد يتفق البعض أن لوحة «رقم 32» تجسد فراغ الفكر والشعور ذاك. فقد رأى الروائي والناقد الفني روبرت كوتس أن فن بولوك لم يكن سوى «انفجارات» غير منظمة من الطاقة العشوائية. غير أنّ طائفة كبيرة من متذوقي الفن التجريدي لا تروق إليهم أعمال بولوك ويرونها فنًّا محيرًا، حتى إنّ بعضهم يراها إهانةً للذوق أو الحسّ السليم.
عُرف بولوك بلقب: «جاك فنان النقط» (Jack the Dripper) [1] في الأوساط الإعلامية المشككة بعمله حيث ادعى كثر أن أيّ شخص يمكنه أن يرسم كما يرسم بولوك إلّا أنّ أحدًا لم يتجرأ على فعل ذلك.
«رقم 32» - جاكسون بولوك«رقم 32» – جاكسون بولوك
بيد أنّ هذا هو مغزى الفن التجريدي في التقليد الغربي: إنّه تحدّ. وفي ظل الكثير هذه التحديات، تُعد لوحة « رقم 32» اللوحة الأكثر تمثيلًا لهذا الفن.
قصة الفنّ التجريدي
مسار قصة الفن التجريدي مضمّنة في الدراسات التاريخية الفنية، إلّا أنّ المحطات الرئيسة لهذا المسار كانت محط تغييرات مفاجئة كلما اكتشف مؤرخوّ الفن حقائق جديدة.
انطلق مسار الفن التجريدي بدءًا من القرن التاسع عشر وما تلاه؛ حيث استفاد الفنانون من مادة الطلاء والجوانب الشكلية للرسم مثل اللون والدرجة والخطوط. يُعرف هذا الانشغال بالجوانب غير التمثيلية (non-representative) للفن باسم «الشكلانية»، لأنّه انشغال «بالشكل»، أيّ بتوسل شكل المحتوى بدلًا من المحتوى في ذاته. بالنسبة إلى الفنانين في القرن التاسع عشر، صُنّف الفن التجريدي على أنّه «فنٌّ من أجل الفنّ»، وكانت الفكرة الشائعة مفادها أنّ المتذوق للفن يمكنه الاستمتاع بالعمل دون اللجوء إلى معنى أو حتى أي شيء آخر يمثل أمرًا ما.
تمثّل لوحة «الموسيقى الهادئة باللّونين الأسود والذهبي – الصاروخ الساقط» (1872)، للفنان جيمس مكنيل ويسلر هذا الاتجاه الذي تبلور لاحقًا في الفن التجريدي. إنّ مشهد ويسلر الغامض من الناحية المكانيّة يقترب إلى التجريد، وذلك بمحاولته نقل الشعور أو الانطباع الخاص بالمشهد بدلًا من إعادة إنتاجه بحذافيره.
«الموسيقى الهادئة باللونين الأسود والذهبي - الصاروخ الساقط» (1872-1877) - جيمس أبوت مكنيل ويسلير«الموسيقى الهادئة باللونين الأسود والذهبي – الصاروخ الساقط» (1872-1877) – جيمس أبوت مكنيل ويسلير
في عام 1877، انتقد جون روسكين – أبرز نقّاد بريطانيا في ذلك الوقت – عمل ويسلير هذا نقدًا لاذعًا فشبهه «بمن قام برمي الطلاء في وجه الجمهور». تأثر ويسلر بهذا الكلام، فرفع دعوى قضائية ضد روسكين، بيد أنّه خسرها لأن المسؤولين عرضوا اللوحة -خطأً- مقلوبةً على المحكمة. أفلس ويسلير بسبب هذه القضية، لكن مسيرة تطور الفن التجريدي استمرت.
من ناحيةٍ أخرى، تحديد أول فنان تجريدي في العالم موضوع نزاع. في نظر أبحاث تاريخ الفن التقليدية، كان فاسيلي كاندينسكي – فنان روسي الجنسية رسم لوحات تجريدية بالكامل في مطلع عام 1911- هو أول فنان تجريدي.
لم ينل الفن التجريدي الرائد لهيلما أف كلينت تقديرًا إلا قبل سنوات قريبة. هذه صورة للمعرض الشهير في متحف غاغينهايم، عام 2018 .لم ينل الفن التجريدي الرائد لهيلما أف كلينت تقديرًا إلا قبل سنوات قريبة. هذه صورة للمعرض الشهير في متحف غاغينهايم، عام 2018 .
ولكن في الآونة الأخيرة، وبفضل المعرض الرائد في متحف مقاطعة لوس أنجلوس للفنون في عام 1986 الذي حمل اسم «الروحانية في الفن: الرسم التجريدي 1890 – 1985»، وقع الاختيار على هيلما أف كلينت كأول رسامة تجريدية. بدأت كلينت في رسم لوحات تجريدية بدءًا من عام 1906، وحملت مجموعتها عنوان «الفوضى البدائية». كانت الفنانة متكتمة في ما يتعلق بأعمالها التجريدية، ولم تُعرض أيّ منها في معارض عامة، وبقيت غير معروفة حتى أزيح عنها الستار مؤخرًا.
ولعل الجدال حول هوية أول من مارس الفن التجريدي سيستم، لكن الحقيقة الأكثر أهمية هي أن العديد من الفنانين الأوروبيين البارزين قد توصّلوا في أعمالهم إلى التجريد بحلول الحرب العالمية الأولى. لقد وجد كل منهم طريقته الخاصة في التخلي عن الفن التشخيصي (figurative painting). وجديرٌ بالذكر أنّه لم تكن هناك حركة «تجريدية» دولية ذات رؤية أو بيان مشترك.
في ضوء ذلك، فإن السؤال الملحّ حقًا هو: لمَ لمْ يتبنى الفنانون الغربيون الفن التجريدي على امتداد قرون عديدة؟ لماذا كان التجريد غير ضروري أو لا معنى له أو غير مناسب أو حتى لا يمكن تقبّله لقرونٍ متوالية في الفن الغربي؟
ظهرت العديد من التفسيرات لشرح ذلك. إحدى النظريات الأكثر وضوحًا هي أن ظهور التصوير الفوتوغرافي بوصفه شكلًا من أشكال الفن، إضافةً إلى تطور الفن الحديث، سببان رئيسان لإزاحة الرسم التشخيصي.
ثمّة إجابات أخرى غير ملموسة لاستكشاف الأسباب: ربما عندما أصبحت الأعمال الفنية قابلة للاستهالاك بشكل متزايد، مثل السلع، بات من السهولة فصل اللوحات والمنحوتات عن التجارب المحددة لمبدعيها. ربما أدت الحداثة في الغرب إلى إفراغ الفن من المحتوى التشخيصي؛ مما دفع الفنانين أيضًا إلى التخلي عن التمثيل التشخيصي.
كل من هذه الإجابات معقدة وتتطلب الكثير من الشرح، ولا يمكن إلا أن تكون تخمينات. لا توجد إجابة واضحة لهذه المسألة. ربما يكون من الأفضل طرح السؤال حول سبب تقبّل الفن التجريدي فنًّا من الفنون الرسمية في تاريخ الفن الغربي في مرحلة معينة على علماء الأنثروبولوجيا بدلًا من طرحها على مؤرخي الفن. فما هو واضح أن الفن التجريدي كان موجودًا دائمًا في مناطق أخرى من العالم.
ما جعل الفن التجريدي فنًّا حديثًا على وجه التحديد في العالم الغربي هو نظام المعارض، الذي أعطى القيمة الفنية للأعمال المعروضة. وكما هو واضح فقد ازدهر التجريد لآلاف السنين المناطق الشرقية والجنوبية من العالم، دون عناء التحقق من مكانة الأعمال المعروضة في الصالونات [والمعارض، كما هو في العالم الغربي].
الواقع الافتراضي و«الافتراضية»
يتبنى بيبي كرمل وهو مؤرخ فني، في كتابه « الفن التجريدي: تاريخ عالمي»، فكرة أنّ الفن التجريدي كان دائمًا موجودًا بشكل طبيعي عندما ننظر إليه نظرة شاملة وعالمية، بيد أنّه يتحاشى طرح نظرية عن تطور الفن التجريدي. بالنسبة إلى كرمل، فإنّ هذا الفنّ متجذر في العالم الحقيقي، وهو ليس فنًّا «مجردًا» على الإطلاق، كما أنّه تقليد عالمي وليس محليًا.
في دراسته حول الفن التجريدي يقسم العمل الفني إلى خمس فئات واسعة تنتمي إلى العالم الحقيقي: الأجسام، والمناظر الطبيعية، والكون، والبنى، والعلامات والأنماط. من خلال فحص الفن التجريدي بهذه الطريقة، يرى كرمل في اللوحات التجريدية موضوعات قابلة للتحليل، بعكس النقاد والمؤرخين الأرثوذكسيين الذين رأوا فيها مجرّد توليفات شكلية مكوّنة من لون وشكل.
ربما يكون من الأفضل أن يطلق على الفن التجريدي: فن ما تم تجريده (abstracted art)؛ لأنّ الفنانين التجريديين عادةً ما يستخلصون ويجرّدون تعبيرات التجارب في شكل ولون، أكثر من كونها توليفات مكونة من شكل ولون. ومرّد ذلك الطبيعة الجوهرية للرسم والنحت؛ فهما (الشكل اللّون) وسيطان للتعبير، مثل الشاشة أو المسرح لخيال الفنان. كما هو الحال في المسرح أو السينما، فإنّ جمهور اللوحة أو المنحوتة يعلّق معتقداته من أجل أن يتقبل المشهد.
من المفيد التفكير في اللوحة التشخيصية التقليدية أو النحت على أنها حقيقة افتراضية. إذْ استخدم الفنانون لقرون عديدة الحيل البصرية -مثل المنظور الخطي، والتقصير المسبق، والتظليل- لمحاكاة الطريقة التي ندرك بها الأشياء في الفضاء الحقيقي. إنّ المشاهد تُنشأ في فضاء افتراضي – سواء كانت القاعدة التي تدعم التمثال أو القماش – ليراها المشاهدون بوصفها خدعة بصرية.
«القديس بطرس شفاء أحد الأشخاص وبعث تابيثا من الموت» ماسولينو دي بانيكال. اعتمد الرسم الغربي قبل القرن العشرين على الحيل البصرية لخلق واقع افتراضي. إحدى هذه الحيل هي المنظور الخطي، وهذه اللوحة هي أول مثال لاستخدام نقطة تلاشٍ متسقة.«القديس بطرس شفاء أحد الأشخاص وبعث تابيثا من الموت» ماسولينو دي بانيكال. اعتمد الرسم الغربي قبل القرن العشرين على الحيل البصرية لخلق واقع افتراضي. إحدى هذه الحيل هي المنظور الخطي، وهذه اللوحة هي أول مثال لاستخدام نقطة تلاشٍ متسقة.
يستمتع مشاهدوّ الأعمال الفنية العظيمة معنى ما يُرسم، ويقدرون الطريقة التي يتجلّى فيها الوهم عبر تمازج اللون والشكل.
يبقى الفن التجريدي، إلى حدٍ ما، ضمن إطار التجربة الجمالية. فقد سعت حركات الفن الحديث التي أدت إلى التجريد -أيّ «مدارس الفن»، مثل الانطباعية والفاوفية والتكعيبية- إلى تمثيل العالم بشكل مختلف عن كل الفنون التي سبقتها. إذْ ادعوا الاقتراب من الحقيقة الذاتية عبر تهميش جميع الحيل الوهمية التقليدية التي حاولت إعادة إنتاج الواقع بحذافيره كحقيقة موضوعية.
«الأحمر والأصفر والأزرق» (1925) واسيلي كاندينسكي. كان كاندينسكي يعدّ لفترةٍ طويلة أب الرسم التجريدي الغربي.«الأحمر والأصفر والأزرق» (1925) واسيلي كاندينسكي. كان كاندينسكي يعدّ لفترةٍ طويلة أب الرسم التجريدي الغربي.
بالنسبة إلى هذه المدارس، أصبح الفن أقل من أن يوصف بأنّه واقع افتراضي، لكنه مع ذلك احتفظ بالافتراضية، وأصبح افتراضيًا. لقد أخذ الفن التجريدي مسار التطور هذا إلى أقصاه: من الواقع الافتراضي إلى الافتراضية.
ماذا تعني «الافتراضية» هنا؟ إنّها الوجود كجوهر وتأثير، ولكن بدون اللجوء إلى الواقع. اللوحة التجريدية التي رسمها كاندينسكي، على سبيل المثال، ما زالت تُعدّ علاقة متبادلة بين الشكل واللون، و تعتمد على الرسم كمستوى تخطيطي: إنها نافذة تطلّ على «الواقع» الفردي الذي تصوّره كاندينسكي.
وما تزال العناصر في لوحات كاندينسكي تحظى بعلاقة متبادلة، كما هو الحال في فضاء الواقع الافتراضي للوحة التشخيصية؛ فجوهر الرسم سليم إذ إنّ ذلك الفضاء الافتراضي ما زال موجودًا. عندما يكون الفن التجريدي بناءً خالصًا، ويتخلص من المساحة الافتراضية الملازمة للرسم والنحت، يصبح متميزًا عنهما.
وصف دونالد جود الفنان التخفيفي (minimalist) مثل هذه الأعمال الفنية بأنها «أجسام محدّدة» (Specific Objects). إنّه مصطلح غير دقيق، ولكنه يصلح لإظهار أن مثل هذه الأعمال الفنية ليست رسمًا ولا نحتًا، ولكنها فئة أخرى تمامًا.
رأى دونالد جود أن أعماله وأعمال العديد من معاصريه تشغل مساحة هجينة، لا هي لوحات ولا هي نحت. عمل دون عنوان لدونالد جود.
استخدم جود هذا المصطلح لوصف أعماله الخاصة، ولكنه ينطبق على لوحات كازيمير ماليفيتش وفرانك ستيلا أحادية اللون، والتي تجعل اللوحة تندمج مع نفسها بالكامل، من أجل الوصول للتأثير الذي يأمل العمل في تحقيقه.
في مثل هذه الأعمال، لم يعد قماش اللّوحة (أو القاعدة) سطحًا تتفاعل فيه الأشكال والألوان في الفضاء الافتراضي. بدلاً من ذلك، تتفاعل الأشكال والألوان في الفضاء الحقيقي، في فضائنا.
تختلف معايير النجاح أو الفشل لهذه الأعمال عن الخصائص التقليدية للرسم والنحت. رأى جود أنّ خصائص الرسم والنحت تقف في طريق ما أراد تحقيقه من خلال اللون والشكل. في رأيه، كان لـ «أجسامه المحددة» تأثيرًا أحدّ من غيرها.
الواقع والأشكال الجديدة للإدراك الحسّي
الرسم نفسه له ثلاثة أنواع عامة من التجريد؛ أولًا، ثمّة أسلوب تعبيري تُرسم فيه الأشكال بحركاتٍ غير مقيدة؛ ثم هناك التجريد الهندسي حيث يتم هيكلة الأشكال؛ أما النوع الثالث، فهو تجريد مجال اللون حيث يتم عرض مساحات من الألوان بطريقةٍ لا شكل واضح لها.
لم تكن هذه «الأنماط» (styles) أنماطًا عرضيةً أو تعتمد على ذوق أو ميل الرسام كوسيلة لتحقيق هدفٍ ما من البحث الفني. وخير مثال على ذلك هو الفنان الذي غالبًا ما ينظر إلى عمله على أنّه ذروة التجريد الهندسي: بيت موندريان. إنّ لوحات بيت موندريان المكونة من شبكات (grids) ذات الخطوط السوداء والأجزاء الملونة على خلفية بيضاء؛ تهدف إلى استحضار «حقيقة أعلى».
بالنسبة إلى موندريان، كان الفن في جوهره معارضًا للواقع؛ «لأن الواقع يتعارض مع الروحي». بغض النظر عن هذه اللوحة الأشهر لموندريان، فإنّ جوانب الرسم التي تهم هذا الفنان حقًا لم تكن الجوانب المحددة للموضوع -أيّ ماذا أو ما يتم تصويره في اللوحة مثلًا- بل الجوانب القابلة للفهم عالميًا للشكل والخط واللون. إنّ لوحات موندريان، مثلها مثل لوحات الفنانين الآخرين، هي محاولة لاستخلاص الشكل واللون من أجل الاقتراب من ذلك الجوهر العالمي والروحي للفن.
عبّر موندريان عن رغبته في الوصول إلى «أساس» الأشياء من خلال الحدس، كالعديد من الفنانين التجريديين الآخرين في النصف الأول من القرن العشرين الذين رغبوا في الوصول إلى قوى غير مرئية حولنا، ولكنها معروفة أو محدوسة.
«التكوين الثاني باللون الأحمر والأزرق والأصفر» (1930) - بيت موندريان«التكوين الثاني باللون الأحمر والأزرق والأصفر» (1930) – بيت موندريان
في أواخر القرن التاسع عشر، لاحظ العلماء بشكلٍ أفضل مما سبق القوى غير المرئية مع انتشار التقنيات الجديدة، وأصبح من الواضح أن العالم أرحب مما يبدو للعين. في الوقت نفسه، ظهرت حركات روحية بديلة جمعت بين الأفكار الأفلاطونية والتصوف.
كان كلينت وموندريان من بين العديد من الفنانين الذين انغمسوا في أشكال الروحانية خارج العوالم التقليدية للدين. اعتقدت كلينت أن لوحاتها هي وحي عالم روحي، وأن مهمتها كانت العمل «على مستوى روحاني» لتمثيل روح الإنسان، بدلًا من صورته الفانية.
بحلول عشرينيات القرن الماضي، كانت نظرية فرويد عن للعقل البشري قد تغلغلت أيضًا في عالم الفن. كذلك السريالية، وهي حركة منظمة بإحكام بدأت مع بعض الفنانين الذين سعوا إلى التنقيب عن الإمكانات الإبداعية للعقل الباطن، وهي الحركة الثقافية التي كانت سائدة في أوروبا بين الحربين العالميتين.
لم تكن السريالية دوغمائية في محاولتها لاستكشاف اللاوعي، ولذلك ظهر عدد من الأساليب والطرق لمحاولة إخراج اللاوعي إلى السطح. إحدى هذه الأساليب كان الرسم الآلي (Automatism)، وهي عملية يتخلى فيها الفنان عن السيطرة الواعية لليد التي ترسم أو تصور. في هذا المجال، تبنى الفنانون مثل أندريه ماسون وخوان ميرو الفرصة لبناء صورهم باستخدام حركات حرّة، وحتى إلقاء الطلاء على القماش.
طور أرشيل غوركي -هو مهاجر أرمني عاش في الولايات المتحدة- أسلوبًا في الرسم يدمج بين الرسم الآلي وتجريد مجال الألوان. لوحاته في الأربعينيات حجمُها ضخم – ومرد ذلك تأثره بأعماله السابقة كفنان جداري مُعيّن من الدولة خلال السنوات الأخيرة من الكساد الكبير – لكنها معبّرة وغنائية في الرسم بالفرشاة.
ألهم إدماج غوركي للأنماط جيلًا واسعًا من الفنانين الأمريكيين في فترة ما بعد الحرب لاحتضان التجريد الواسع النطاق. ما نسميه الآن «التعبيرية التجريدية»، وكان ذاك الجيل في الواقع مجموعة فضفاضة من الفنانين الذين يستخدمون أنماطًا متعدّدة من أنماط التجريد.
ربما كان القاسم المشترك بين هؤلاء الفنانين – على الأقل في السنوات الأولى – هو دعم جيل جديد من النقاد بقيادة كليمنت غرينبيرغ، الذي كان يعتقد أن التجريد هو التعبير الأسمى للفن الغربي.
«الكبد هو مشط الديك» (1944) - أرشيل جوركي.«الكبد هو مشط الديك» (1944) – أرشيل جوركي.
الحداثة ومصير الفنّ الغربي
كان يُعتقد في بعض الأوساط الفكرية المؤثرة أنّ الفن يتقدم نحو هدف؛ وهذا المضمون يشتمل عليه مصطلح «الطليعية» (Avant-garde)، الذي يُوصف به الفنّانون الذين يبتكرون أرضية جمالية جديدة. أصل المصطلح فرنسي يُطلق على الجنود الذين يتقدمون إلى مناطق جديدة.
بالنسبة إلى غرينبيرغ، لم يكن هؤلاء الفنّانون يوسّعون حدود إمكانات الفن؛ بل كانوا يتقدمون نحو الهدف الحقيقي والمفرد لكل شكل فني.
يُعدّ غرينبيرغ شخصية مهمة في تاريخ الفن التجريدي، وذلك لأمرين: بوصفه مناصرًا رائدًا في مسألة تفوق الفن التجريدي على غيره من أنواع الرسم، وتأكيده للقوة التي امتلكها هذا الفن. كان ناقدًا في اللجنة الأمريكية للحريّة الثقافية التي تمولها الدولة، وهي مجموعة تم إنشاؤها لتعزيز الفن الأمريكي على المستوى الدولي.
أصبحت أفكار غرينبيرغ مؤثرة عندما كانت الولايات المتحدة جزءًا من الحرب على الفاشية والنازية، وخلال الحرب الباردة اللاحقة ضد الشيوعية السوفيتية. كانت معايير الفن الفاشي والسوفياتي واضحة، وهي ما تحددها السلطات الثقافية أنها كذلك، بيد أنّه ما لم يكن واضحًا هو معايير الفن «الجيد» وتحديدًا في الغرب الديمقراطي.
كان الماركسيون هم من تعاطف مع غرينبيرغ في البداية، لكن ارتبط تفكيره بشكلٍ متزايد بالهيمنة الثقافية الأمريكية. بالنسبة إليه، كان التجريد في أعمال بولوك فنًا مثاليًا لمجتمع ديمقراطي. تتجلى الحداثة في الفن، وفقًا لغرينبيرغ، في إطار التنوير الأوروبي؛ أيّ في فترة ازدهار الأفكار الفلسفية والعلمية التي أعطت الأولوية للعقل.
في مقالته المؤثرة « الرسم الحداثي» (1961)، وصفَ غرينبيرغ إيمانويل كانط – الفيلسوف الألماني في عصر التنوير – بأنّه «أول حداثي حقيقي». كان أسلوب كانط في «النقد» هو استخدام العقل لنقد العقل بغرض توضيحه، ومنحه استقلالية عن أنواع التفكير الأخرى.
«أولمبيا» - إدوارد مانيه (1863). بالنسبة إلى كليمنت غرينبيرغ، كان مانيه أول رسام حداثي. لقد رسم مانيه لوحاته بأسلوبٍ مسطّح بشكلٍ متعمد.«أولمبيا» – إدوارد مانيه (1863). بالنسبة إلى كليمنت غرينبيرغ، كان مانيه أول رسام حداثي. لقد رسم مانيه لوحاته بأسلوبٍ مسطّح بشكلٍ متعمد.
بالطريقة نفسها، كان الرسامون الحداثيون – من إدوارد مانيه في القرن التاسع عشر إلى موريس لويس، وهو رسام يعمل ينتمي إلى رسامي أسلوب مجال ألوان في الولايات المتحدة في الوقت الذي كتب فيه غرينبيرغ مقالته – يعملون على ترسيخ الفن التعبيري «بشكل صارم في مجال تخصصه».
رأى غرينبيرغ أن وضوح الفن التجريدي -الذي كان صادقًا بالنسبة إلى الوسيط الذي يُعبّر من خلاله- معارضٌ لـ«الفن الشعبي المبتذل [الكيتش]» الذي ينُتج على نطاق واسع في الثقافة الشعبية. إن إزالة «الكيتش» كانت مسألة استجلاء وتوضيح تحتاجها جميع الفنون لكي تصبح تعبيرًا عن إمكاناتها الجمالية الكامنة.
اللوحات مسطّحة، وإيهام العمق الذي نجده في معظم الفن الغربي كان انحرافًا عن جوهر فن الرسم ذاته. كانت استقلالية الشكل الفني في جميع خصائصه دون أن تتلوث بأشكال فنية أخرى. وفقًا لغرينبيرغ، يعدّ الشكل واللون من أهم خصائص الرسم، و أفضل تمثيل لها يكون بشكلٍ مسطّح.
وهكذا دافع غرينبيرغ عن «التسطيح» الذي تجلّى في لوحات الفنانين الأمريكيين التجريدية مثل جاكسون بولوك باعتباره تحقيقًا لهذا الوضوح الحداثي. لقد ضم هؤلاء الفنانين معًا ضمن فريق واحد، وهم يمثّلون المرحلة التالية في الحداثة، وقد حلّت رؤيتهم الأمريكية المميزة محلّ الفن الأوروبي الطليعي.
وفي الوقت الذي أصبح فيه الفن التجريدي الأمريكي مهيمنًا، تراجعت هيمنة غرينبيرغ النقدية، وظهرت أشكال جديدة من الفن الطليعي، مستوحاة مباشرة من الثقافة الجماهيرية، وحلّت محلّ التعبيرية التجريدية في المخيال العام. تبنى فنانوّ «البوب» مثل: آندي وارهول، وريتشارد هاميلتون هذا النوع من «الفن الشعبي المبتذل» الذي رآه غرينبيرغ تلويثًا للفن الحقيقي.
استمرت الأعمال الفنية التجريدية، ولكن تخلّى الفنّانون التجريديون الأكثر جرأة عن الفكرة الصارمة «للنقد الحداثي»، وعن الوضوح المتعلق بخصوصية الوسيط الفني، وذلك لصالح أشكال أخرى من التعبير.
نظر فنانوّ «ما بعد الحداثة» إلى السخرية وعملية الرسم نفسها، كطرق لتجاوز الطريق المسدود للحداثة. تبنى الألماني غيرهارد ريختر كلا النهجين؛ فبعض أعماله التجريدية في الستينيات كانت مصنوعة بممسحاتٍ بدلًا من الفرشاة، حتى يتمكن من لفت الانتباه إلى عملية صنع اللوحة نفسها.
كانت «اللوحات التجريدية» البارزة الأخرى التي رسمها ريختر في الواقع صورًا واقعية مرسومة بعناية تعكس لوحاته التجريدية الأخرى. أصبحت طلائعية الرسم التجريدي مفهومية أكثر، ما جعل ضمنيًّا قضية الرسم تحظى باستقلالية أقل مما كان كان يعتقد النقاد الحداثيون.
قلّد فنانوّ «نيو جيو»، مثل: الرسام بيتر هالي، والنحات أشلي بيكرتون اللغة البصرية للتجريد الهندسي، لكنهما دمجاها مع السلع الاستهلاكية بألوانٍ تجارية فاتحة وأحيانًا فلورية.
منذ ذلك الجيل ما بعد الحداثي من الرسامين والنحاتين الممتد من الستينيات إلى التسعينيات، ازدهر التجريد متفرّعًا إلى عددٍ لا يُحصى من الأساليب والمقاربات بجوار الفن التشخيصي. هنا يمكن القول إنّ التجريد المتحرّر من عبء التوقعات الحداثية هو ببساطة نهج للتعبير مثل أيّ نهج آخر.
وتجدر الإشارة إلى أنّ بعض الفنانين التجريديين استخدموا الحيل البصرية المستعملة في الفن التشخيصي – مثل المنظور والتظليل – في لوحاتهم. ولاستخدامهم هذا أهداف فريدة و غالبًا لا تهتم بالنظرية.
قلّد فنانوّ «ما بعد الحداثة» مثل: بيتر هالي اللغة البصرية المستعملة في الفن التجريدي الحديث (في حالة بيتر، التجريد الهندسي)، للتعليق على طبيعة الفن والمعنى نفسه. تمثّل هذه الكتل الملونة «الخلايا» و«الأنابيب».قلّد فنانوّ «ما بعد الحداثة» مثل: بيتر هالي اللغة البصرية المستعملة في الفن التجريدي الحديث (في حالة بيتر، التجريد الهندسي)، للتعليق على طبيعة الفن والمعنى نفسه. تمثّل هذه الكتل الملونة «الخلايا» و«الأنابيب».
هذا هو التحرّر نحو الأفضل بين الرسامين التجريديين الذين يمكنهم الالتزام برؤيةٍ فريدة بالرسم على القماش. لكن فكّ ارتباط الفن التجريدي عن إطاره الفلسفي الأوسع أدى أيضًا إلى انتشارٍ يثير التساؤل لأعمال تجريدية متنوعة قابلة للاستهلاك – بمعنى أنّها فقدت قيمتها، وباتت تُباع وتُشترى سريعًا بأسعارٍ مربحة – يشتريها المشترون المتضاربون.
دفع هذا التحول الناقد جيري سالتز إلى كتابة: « الزومبي على الجدران: لماذا يبدو الكثير من التجريد الجديد متشابهًا؟». وقد شبه اللّوحات التجريدية بصورة «الزومبي»، تحقيرًا لأعمال عددٍ من الرسامين التجريديين البارزين، الذين استخدموا الفنّ وجماليته لتقديم أعمال مبتذلة.
ومن المفارقات أن هؤلاء الفنانين نظروا إلى الشكلانية بوصفها فنًّا حداثيًّا متبنّين منظور غرينبيرغ، لكنهم بالطبع قدّموا أعمالًا في ظلّ فراغ تاريخي وبعد فترةٍ طويلة حين لم يُصبح التجريد مثيرًا للاهتمام أو راديكاليًا بأي وجه من الوجوه.
في الواقع، لم يصل مشروع الحداثة في الفن التجريدي إلى نهايته، بل النقد. إنّ النقد -أيّ الإطار الفلسفي الواسع الذي يصادق على الأعمال الفنية ويثمّنها لأهميتها الثقافية والتاريخية- هو ما فقد التوجه والسلطة.
كان مسار الفن الغربي منذ عصر التنوير يتأرجح بين قطبي الدوغمائية النقدية والإبداع. تكمن المشكلة أنه في العقود الأخيرة، وفي ظلّ غياب أي مشروع نقدي متماسك، انجرف الفن نحو إرضاء اهتمامات دقيقة ومتنوعة تزداد باستمرار.
في حين كانت هناك «حركات» و«مدارس» فنية -مصطلحان يشيران إلى الوجهة والانضباط- لم يعد لدينا الآن سوى «مشاهد».
هذا ليس بالضرورة أمرًا سيئًا. ولكن في عالم حيث «كل شيء مقبول – anything goes»، لا يوجد مجال لهذا النوع من الابتكار والتجاوز الذي أدى إلى ظهور الفن التجريدي في الغرب، وهذا ما جعل الفن الحديث فنًّا مثيرًا للغاية.
من الصعب في هذه اللحظة التاريخية أن ندرك ما الذي جعل لوحة بولوك «رقم 32» مثيرة للانقسام، ومخلخلةً جدًا للمعايير، وفي الوقت نفسه محتفظةً بقيمةٍ عالية جدًا لأولئك الذين يعتقدون أن للفنِّ مكانًا في المجتمع يتجاوز المتعة.
[divider style=”solid” top=”20″ bottom=”20″]
[1] واللقب كذلك يُلمح إلى القاتل المتسلسل في لندن آخر القرن التاسع عشر: جاك السفّاح
Jack the ripper (مدير التحرير).
### خارج عقلك | توم تشاتفيلد – ت: محمد السعيد
عندما يكون هاتفي النقال بين يديّ، هل أكون أنا الشخص نفسه لو كان الهاتف في غرفة أخرى؟ من ناحية،...
### الدراما في التعليم: مقاربات وتطبيقات | نعيم حيماد
افتتاحيّة حظي استخدام الدراما في التعليمفي السنوات الأخيرة باهتمام كبير من قبل نخبة من المنظرين والممارسين للدراما في مجال التعليم....
### الحقائق المخفية | دي بي سي بيير – ت: محمد السعيد
يحمل جبل كلسي خشن في غرب إيران عددًا من النقوش البارزة، من بينها لوحة طولها خمسة وعشرين مترًا منقوشة...
### التغلُّب على كاشف الكذب | كلاريسا سيباغ-مونتِنفيوري – ت: محمد السعيد
حين اتُّهِمَتْ مربية الأطفال البريطانية لويز وودورد بهزِّ رضيع حتى الموت في مدينة نيوتن بولاية ماساتشوستس، لم تكتفِ بإعلان...
### عن منصة معنى
«معنى»، مؤسسة ثقافية تقدّمية ودار نشر تهتم بالفلسفة والمعرفة والفنون، عبر مجموعة متنوعة من المواد المقروءة والمسموعة والمرئية. انطلقت في 20 مارس 2019، بهدف إثراء المحتوى العربي، ورفع ذائقة ووعي المتلقّي المحلي والدولي، عبر الإنتاج الأصيل للمنصة والترجمة ونقل المعارف.
### روابط سريعة
### التصنيفات
### مرحبا بك!
قم بتسجيل الدخول إلى حسابك
تذكرني
### قم بإنشاء حساب جديد!
املأ النموذج أدناه للتسجيل
### طلب إعادة تعيين كلمة المرور
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان البريد الإلكتروني لإعادة تعيين كلمة المرور الخاصة بك.
### Add New Playlist
- Select Visibility -PublicPrivate
No Result
عرض جميع النتائج
-
00:00
00:00
-
00:00
00:00
|
article
|
Arabic
|
ar
|
الفنّ التجريدي: بين الماضي والحاضر - منصة معنى الثقافية
|
https://mana.net/abstract-art/
|
1,945 |
هذا هو التحرّر نحو الأفضل بين الرسامين التجريديين الذين يمكنهم الالتزام برؤيةٍ فريدة بالرسم على القماش.
|
sentence
|
هذا هو التحرّر نحو الأفضل بين الرسامين التجريديين الذين يمكنهم الالتزام برؤيةٍ فريدة بالرسم على القماش. لكن فكّ ارتباط الفن التجريدي عن إطاره الفلسفي الأوسع أدى أيضًا إلى انتشارٍ يثير التساؤل لأعمال تجريدية متنوعة قابلة للاستهلاك – بمعنى أنّها فقدت قيمتها، وباتت تُباع وتُشترى سريعًا بأسعارٍ مربحة – يشتريها المشترون المتضاربون.
|
paragraph
|
Arabic
|
ar
|
الفنّ التجريدي: بين الماضي والحاضر - منصة معنى الثقافية
|
https://mana.net/abstract-art/
|
1,946 |
لكن فكّ ارتباط الفن التجريدي عن إطاره الفلسفي الأوسع أدى أيضًا إلى انتشارٍ يثير التساؤل لأعمال تجريدية متنوعة قابلة للاستهلاك – بمعنى أنّها فقدت قيمتها، وباتت تُباع وتُشترى سريعًا بأسعارٍ مربحة – يشتريها المشترون المتضاربون.
|
sentence
|
هذا هو التحرّر نحو الأفضل بين الرسامين التجريديين الذين يمكنهم الالتزام برؤيةٍ فريدة بالرسم على القماش. لكن فكّ ارتباط الفن التجريدي عن إطاره الفلسفي الأوسع أدى أيضًا إلى انتشارٍ يثير التساؤل لأعمال تجريدية متنوعة قابلة للاستهلاك – بمعنى أنّها فقدت قيمتها، وباتت تُباع وتُشترى سريعًا بأسعارٍ مربحة – يشتريها المشترون المتضاربون.
|
paragraph
|
Arabic
|
ar
|
الفنّ التجريدي: بين الماضي والحاضر - منصة معنى الثقافية
|
https://mana.net/abstract-art/
|
1,947 |
دفع هذا التحول الناقد جيري سالتز إلى كتابة: « الزومبي على الجدران: لماذا يبدو الكثير من التجريد الجديد متشابهًا؟». وقد شبه اللّوحات التجريدية بصورة «الزومبي»، تحقيرًا لأعمال عددٍ من الرسامين التجريديين البارزين، الذين استخدموا الفنّ وجماليته لتقديم أعمال مبتذلة.
|
paragraph
|
لا توجد منتجات في سلة المشتريات.
No Result
عرض جميع النتائج
الثلاثاء, سبتمبر 10, 2024
No Result
عرض جميع النتائج
No Result
عرض جميع النتائج
# الفنّ التجريدي: بين الماضي والحاضر
## ترجمة: أنطونيوس نادر
AA
AA
إعادة تعيين
فنٌ مليء بالتحديات
ثمّة خطٌ رفيع يفصل بين الفن التجريدي ومجرد الزخرفة، ولوحة «رقم 32» (نُشرت عام 1950)، لجاكسون بولوك تتأرجح بين هذا الخطّ. فهي لا تشير إلى معنىً واضح، ولكن لا يمكن القول إنّها بلا معنى على الإطلاق. كما أنّها ليست معبّرة بشكلٍ مباشر، ولا يعني هذا أنها لا تعبّر عن مدلولٍ ما. تحمل هذه اللوحة الكثير من المضامين عن الفن الغربي بالنسبة إلى شخصٍ خبيرٍ في تاريخ الفن؛ أما بالنسبة إلى شخصٍ عادي، فقد يراها عملًا مبتذلًا بالكاد يعبّر عن أمرٍ ما.
اللوحة شبكة من الخطوط وبقعٍ من الألوان، رُسمت عن طريق صبّ طلاءٍ رخيص بعشوائيةٍ مباشرة على القماش. تتكون اللوحة من طلاءٍ أسود فقط وقماشٍ خام. واللوحة ضخمة؛ إذ يبلغ طولها تسعة أقدام وعرضها خمسة عشر قدمًا، وتغطي مجال رؤية المشاهد أثناء اقترابه منها. تقليديًّا، حتى اللوحات التجريدية تتكون من أجزاءٍ مترابطة مع بؤر تركيز (emphases) وعمقٍ يُنقل من خلال اللون والظلال، ولكن «رقم 32» ليس لها أجزاء؛ إنّها تتكون من تعالقات، والبؤرة فيها تكمن عبر امتداد سطح القماش المستطيل.
يمنحها ما سبق عمقًا سطحيًا، وربما لا عمق فيها: مجرّد طلاء على قماش. إنّها عبث بالشكل واللون. حتى اسمها، ببساطة رقمٌ معيّن – رقم 32 – يجعلها تنأى بنفسها عن أي فكرة مفادها أنها تعكس مدلولًا محدّدًا. تشير عناوين أعمال بولوك الأخرى إلى نوعٍ من الاختبار الشخصي، وإلى الاستخدام السمفوني المتعدد الطبقات للون والملمس؛ خذ مثلًا لوحاته التي تحمل اسم: «إيقاع الخريف»، و«الضباب الأرجواني»، و«الأقطاب الزرقاء»، و«انعكاس الدنقلة الكبير».
هذا لا ينطبق على لوحة «رقم 32»؛ شكلها الخام وبساطتها دليل على أنّ الفنان لم يخطط مسبقًا لرسمها؛ أيّ أنّه لم ينتق الألوان ولا الطبقات. يبدو بولوك هنا أكثر حضورًا، من خلال لمساته الحادة. بالنسبة إلى مؤيديّ عمل بولوك، تختصر هذه اللوحة خلاصة نظرة الفنان الجمالية. أما بالنسبة للبعض الآخر، فهي لوحة مبتذلة.
وصف جوزيف بويس -النحات الألماني في فترة ما بعد الحرب- الفنَّ التجريدي الأمريكي بأنه مجرد «تغليف»، أيّ سطح بلا محتوى. في هذا الصدد، قد يتفق البعض أن لوحة «رقم 32» تجسد فراغ الفكر والشعور ذاك. فقد رأى الروائي والناقد الفني روبرت كوتس أن فن بولوك لم يكن سوى «انفجارات» غير منظمة من الطاقة العشوائية. غير أنّ طائفة كبيرة من متذوقي الفن التجريدي لا تروق إليهم أعمال بولوك ويرونها فنًّا محيرًا، حتى إنّ بعضهم يراها إهانةً للذوق أو الحسّ السليم.
عُرف بولوك بلقب: «جاك فنان النقط» (Jack the Dripper) [1] في الأوساط الإعلامية المشككة بعمله حيث ادعى كثر أن أيّ شخص يمكنه أن يرسم كما يرسم بولوك إلّا أنّ أحدًا لم يتجرأ على فعل ذلك.
«رقم 32» - جاكسون بولوك«رقم 32» – جاكسون بولوك
بيد أنّ هذا هو مغزى الفن التجريدي في التقليد الغربي: إنّه تحدّ. وفي ظل الكثير هذه التحديات، تُعد لوحة « رقم 32» اللوحة الأكثر تمثيلًا لهذا الفن.
قصة الفنّ التجريدي
مسار قصة الفن التجريدي مضمّنة في الدراسات التاريخية الفنية، إلّا أنّ المحطات الرئيسة لهذا المسار كانت محط تغييرات مفاجئة كلما اكتشف مؤرخوّ الفن حقائق جديدة.
انطلق مسار الفن التجريدي بدءًا من القرن التاسع عشر وما تلاه؛ حيث استفاد الفنانون من مادة الطلاء والجوانب الشكلية للرسم مثل اللون والدرجة والخطوط. يُعرف هذا الانشغال بالجوانب غير التمثيلية (non-representative) للفن باسم «الشكلانية»، لأنّه انشغال «بالشكل»، أيّ بتوسل شكل المحتوى بدلًا من المحتوى في ذاته. بالنسبة إلى الفنانين في القرن التاسع عشر، صُنّف الفن التجريدي على أنّه «فنٌّ من أجل الفنّ»، وكانت الفكرة الشائعة مفادها أنّ المتذوق للفن يمكنه الاستمتاع بالعمل دون اللجوء إلى معنى أو حتى أي شيء آخر يمثل أمرًا ما.
تمثّل لوحة «الموسيقى الهادئة باللّونين الأسود والذهبي – الصاروخ الساقط» (1872)، للفنان جيمس مكنيل ويسلر هذا الاتجاه الذي تبلور لاحقًا في الفن التجريدي. إنّ مشهد ويسلر الغامض من الناحية المكانيّة يقترب إلى التجريد، وذلك بمحاولته نقل الشعور أو الانطباع الخاص بالمشهد بدلًا من إعادة إنتاجه بحذافيره.
«الموسيقى الهادئة باللونين الأسود والذهبي - الصاروخ الساقط» (1872-1877) - جيمس أبوت مكنيل ويسلير«الموسيقى الهادئة باللونين الأسود والذهبي – الصاروخ الساقط» (1872-1877) – جيمس أبوت مكنيل ويسلير
في عام 1877، انتقد جون روسكين – أبرز نقّاد بريطانيا في ذلك الوقت – عمل ويسلير هذا نقدًا لاذعًا فشبهه «بمن قام برمي الطلاء في وجه الجمهور». تأثر ويسلر بهذا الكلام، فرفع دعوى قضائية ضد روسكين، بيد أنّه خسرها لأن المسؤولين عرضوا اللوحة -خطأً- مقلوبةً على المحكمة. أفلس ويسلير بسبب هذه القضية، لكن مسيرة تطور الفن التجريدي استمرت.
من ناحيةٍ أخرى، تحديد أول فنان تجريدي في العالم موضوع نزاع. في نظر أبحاث تاريخ الفن التقليدية، كان فاسيلي كاندينسكي – فنان روسي الجنسية رسم لوحات تجريدية بالكامل في مطلع عام 1911- هو أول فنان تجريدي.
لم ينل الفن التجريدي الرائد لهيلما أف كلينت تقديرًا إلا قبل سنوات قريبة. هذه صورة للمعرض الشهير في متحف غاغينهايم، عام 2018 .لم ينل الفن التجريدي الرائد لهيلما أف كلينت تقديرًا إلا قبل سنوات قريبة. هذه صورة للمعرض الشهير في متحف غاغينهايم، عام 2018 .
ولكن في الآونة الأخيرة، وبفضل المعرض الرائد في متحف مقاطعة لوس أنجلوس للفنون في عام 1986 الذي حمل اسم «الروحانية في الفن: الرسم التجريدي 1890 – 1985»، وقع الاختيار على هيلما أف كلينت كأول رسامة تجريدية. بدأت كلينت في رسم لوحات تجريدية بدءًا من عام 1906، وحملت مجموعتها عنوان «الفوضى البدائية». كانت الفنانة متكتمة في ما يتعلق بأعمالها التجريدية، ولم تُعرض أيّ منها في معارض عامة، وبقيت غير معروفة حتى أزيح عنها الستار مؤخرًا.
ولعل الجدال حول هوية أول من مارس الفن التجريدي سيستم، لكن الحقيقة الأكثر أهمية هي أن العديد من الفنانين الأوروبيين البارزين قد توصّلوا في أعمالهم إلى التجريد بحلول الحرب العالمية الأولى. لقد وجد كل منهم طريقته الخاصة في التخلي عن الفن التشخيصي (figurative painting). وجديرٌ بالذكر أنّه لم تكن هناك حركة «تجريدية» دولية ذات رؤية أو بيان مشترك.
في ضوء ذلك، فإن السؤال الملحّ حقًا هو: لمَ لمْ يتبنى الفنانون الغربيون الفن التجريدي على امتداد قرون عديدة؟ لماذا كان التجريد غير ضروري أو لا معنى له أو غير مناسب أو حتى لا يمكن تقبّله لقرونٍ متوالية في الفن الغربي؟
ظهرت العديد من التفسيرات لشرح ذلك. إحدى النظريات الأكثر وضوحًا هي أن ظهور التصوير الفوتوغرافي بوصفه شكلًا من أشكال الفن، إضافةً إلى تطور الفن الحديث، سببان رئيسان لإزاحة الرسم التشخيصي.
ثمّة إجابات أخرى غير ملموسة لاستكشاف الأسباب: ربما عندما أصبحت الأعمال الفنية قابلة للاستهالاك بشكل متزايد، مثل السلع، بات من السهولة فصل اللوحات والمنحوتات عن التجارب المحددة لمبدعيها. ربما أدت الحداثة في الغرب إلى إفراغ الفن من المحتوى التشخيصي؛ مما دفع الفنانين أيضًا إلى التخلي عن التمثيل التشخيصي.
كل من هذه الإجابات معقدة وتتطلب الكثير من الشرح، ولا يمكن إلا أن تكون تخمينات. لا توجد إجابة واضحة لهذه المسألة. ربما يكون من الأفضل طرح السؤال حول سبب تقبّل الفن التجريدي فنًّا من الفنون الرسمية في تاريخ الفن الغربي في مرحلة معينة على علماء الأنثروبولوجيا بدلًا من طرحها على مؤرخي الفن. فما هو واضح أن الفن التجريدي كان موجودًا دائمًا في مناطق أخرى من العالم.
ما جعل الفن التجريدي فنًّا حديثًا على وجه التحديد في العالم الغربي هو نظام المعارض، الذي أعطى القيمة الفنية للأعمال المعروضة. وكما هو واضح فقد ازدهر التجريد لآلاف السنين المناطق الشرقية والجنوبية من العالم، دون عناء التحقق من مكانة الأعمال المعروضة في الصالونات [والمعارض، كما هو في العالم الغربي].
الواقع الافتراضي و«الافتراضية»
يتبنى بيبي كرمل وهو مؤرخ فني، في كتابه « الفن التجريدي: تاريخ عالمي»، فكرة أنّ الفن التجريدي كان دائمًا موجودًا بشكل طبيعي عندما ننظر إليه نظرة شاملة وعالمية، بيد أنّه يتحاشى طرح نظرية عن تطور الفن التجريدي. بالنسبة إلى كرمل، فإنّ هذا الفنّ متجذر في العالم الحقيقي، وهو ليس فنًّا «مجردًا» على الإطلاق، كما أنّه تقليد عالمي وليس محليًا.
في دراسته حول الفن التجريدي يقسم العمل الفني إلى خمس فئات واسعة تنتمي إلى العالم الحقيقي: الأجسام، والمناظر الطبيعية، والكون، والبنى، والعلامات والأنماط. من خلال فحص الفن التجريدي بهذه الطريقة، يرى كرمل في اللوحات التجريدية موضوعات قابلة للتحليل، بعكس النقاد والمؤرخين الأرثوذكسيين الذين رأوا فيها مجرّد توليفات شكلية مكوّنة من لون وشكل.
ربما يكون من الأفضل أن يطلق على الفن التجريدي: فن ما تم تجريده (abstracted art)؛ لأنّ الفنانين التجريديين عادةً ما يستخلصون ويجرّدون تعبيرات التجارب في شكل ولون، أكثر من كونها توليفات مكونة من شكل ولون. ومرّد ذلك الطبيعة الجوهرية للرسم والنحت؛ فهما (الشكل اللّون) وسيطان للتعبير، مثل الشاشة أو المسرح لخيال الفنان. كما هو الحال في المسرح أو السينما، فإنّ جمهور اللوحة أو المنحوتة يعلّق معتقداته من أجل أن يتقبل المشهد.
من المفيد التفكير في اللوحة التشخيصية التقليدية أو النحت على أنها حقيقة افتراضية. إذْ استخدم الفنانون لقرون عديدة الحيل البصرية -مثل المنظور الخطي، والتقصير المسبق، والتظليل- لمحاكاة الطريقة التي ندرك بها الأشياء في الفضاء الحقيقي. إنّ المشاهد تُنشأ في فضاء افتراضي – سواء كانت القاعدة التي تدعم التمثال أو القماش – ليراها المشاهدون بوصفها خدعة بصرية.
«القديس بطرس شفاء أحد الأشخاص وبعث تابيثا من الموت» ماسولينو دي بانيكال. اعتمد الرسم الغربي قبل القرن العشرين على الحيل البصرية لخلق واقع افتراضي. إحدى هذه الحيل هي المنظور الخطي، وهذه اللوحة هي أول مثال لاستخدام نقطة تلاشٍ متسقة.«القديس بطرس شفاء أحد الأشخاص وبعث تابيثا من الموت» ماسولينو دي بانيكال. اعتمد الرسم الغربي قبل القرن العشرين على الحيل البصرية لخلق واقع افتراضي. إحدى هذه الحيل هي المنظور الخطي، وهذه اللوحة هي أول مثال لاستخدام نقطة تلاشٍ متسقة.
يستمتع مشاهدوّ الأعمال الفنية العظيمة معنى ما يُرسم، ويقدرون الطريقة التي يتجلّى فيها الوهم عبر تمازج اللون والشكل.
يبقى الفن التجريدي، إلى حدٍ ما، ضمن إطار التجربة الجمالية. فقد سعت حركات الفن الحديث التي أدت إلى التجريد -أيّ «مدارس الفن»، مثل الانطباعية والفاوفية والتكعيبية- إلى تمثيل العالم بشكل مختلف عن كل الفنون التي سبقتها. إذْ ادعوا الاقتراب من الحقيقة الذاتية عبر تهميش جميع الحيل الوهمية التقليدية التي حاولت إعادة إنتاج الواقع بحذافيره كحقيقة موضوعية.
«الأحمر والأصفر والأزرق» (1925) واسيلي كاندينسكي. كان كاندينسكي يعدّ لفترةٍ طويلة أب الرسم التجريدي الغربي.«الأحمر والأصفر والأزرق» (1925) واسيلي كاندينسكي. كان كاندينسكي يعدّ لفترةٍ طويلة أب الرسم التجريدي الغربي.
بالنسبة إلى هذه المدارس، أصبح الفن أقل من أن يوصف بأنّه واقع افتراضي، لكنه مع ذلك احتفظ بالافتراضية، وأصبح افتراضيًا. لقد أخذ الفن التجريدي مسار التطور هذا إلى أقصاه: من الواقع الافتراضي إلى الافتراضية.
ماذا تعني «الافتراضية» هنا؟ إنّها الوجود كجوهر وتأثير، ولكن بدون اللجوء إلى الواقع. اللوحة التجريدية التي رسمها كاندينسكي، على سبيل المثال، ما زالت تُعدّ علاقة متبادلة بين الشكل واللون، و تعتمد على الرسم كمستوى تخطيطي: إنها نافذة تطلّ على «الواقع» الفردي الذي تصوّره كاندينسكي.
وما تزال العناصر في لوحات كاندينسكي تحظى بعلاقة متبادلة، كما هو الحال في فضاء الواقع الافتراضي للوحة التشخيصية؛ فجوهر الرسم سليم إذ إنّ ذلك الفضاء الافتراضي ما زال موجودًا. عندما يكون الفن التجريدي بناءً خالصًا، ويتخلص من المساحة الافتراضية الملازمة للرسم والنحت، يصبح متميزًا عنهما.
وصف دونالد جود الفنان التخفيفي (minimalist) مثل هذه الأعمال الفنية بأنها «أجسام محدّدة» (Specific Objects). إنّه مصطلح غير دقيق، ولكنه يصلح لإظهار أن مثل هذه الأعمال الفنية ليست رسمًا ولا نحتًا، ولكنها فئة أخرى تمامًا.
رأى دونالد جود أن أعماله وأعمال العديد من معاصريه تشغل مساحة هجينة، لا هي لوحات ولا هي نحت. عمل دون عنوان لدونالد جود.
استخدم جود هذا المصطلح لوصف أعماله الخاصة، ولكنه ينطبق على لوحات كازيمير ماليفيتش وفرانك ستيلا أحادية اللون، والتي تجعل اللوحة تندمج مع نفسها بالكامل، من أجل الوصول للتأثير الذي يأمل العمل في تحقيقه.
في مثل هذه الأعمال، لم يعد قماش اللّوحة (أو القاعدة) سطحًا تتفاعل فيه الأشكال والألوان في الفضاء الافتراضي. بدلاً من ذلك، تتفاعل الأشكال والألوان في الفضاء الحقيقي، في فضائنا.
تختلف معايير النجاح أو الفشل لهذه الأعمال عن الخصائص التقليدية للرسم والنحت. رأى جود أنّ خصائص الرسم والنحت تقف في طريق ما أراد تحقيقه من خلال اللون والشكل. في رأيه، كان لـ «أجسامه المحددة» تأثيرًا أحدّ من غيرها.
الواقع والأشكال الجديدة للإدراك الحسّي
الرسم نفسه له ثلاثة أنواع عامة من التجريد؛ أولًا، ثمّة أسلوب تعبيري تُرسم فيه الأشكال بحركاتٍ غير مقيدة؛ ثم هناك التجريد الهندسي حيث يتم هيكلة الأشكال؛ أما النوع الثالث، فهو تجريد مجال اللون حيث يتم عرض مساحات من الألوان بطريقةٍ لا شكل واضح لها.
لم تكن هذه «الأنماط» (styles) أنماطًا عرضيةً أو تعتمد على ذوق أو ميل الرسام كوسيلة لتحقيق هدفٍ ما من البحث الفني. وخير مثال على ذلك هو الفنان الذي غالبًا ما ينظر إلى عمله على أنّه ذروة التجريد الهندسي: بيت موندريان. إنّ لوحات بيت موندريان المكونة من شبكات (grids) ذات الخطوط السوداء والأجزاء الملونة على خلفية بيضاء؛ تهدف إلى استحضار «حقيقة أعلى».
بالنسبة إلى موندريان، كان الفن في جوهره معارضًا للواقع؛ «لأن الواقع يتعارض مع الروحي». بغض النظر عن هذه اللوحة الأشهر لموندريان، فإنّ جوانب الرسم التي تهم هذا الفنان حقًا لم تكن الجوانب المحددة للموضوع -أيّ ماذا أو ما يتم تصويره في اللوحة مثلًا- بل الجوانب القابلة للفهم عالميًا للشكل والخط واللون. إنّ لوحات موندريان، مثلها مثل لوحات الفنانين الآخرين، هي محاولة لاستخلاص الشكل واللون من أجل الاقتراب من ذلك الجوهر العالمي والروحي للفن.
عبّر موندريان عن رغبته في الوصول إلى «أساس» الأشياء من خلال الحدس، كالعديد من الفنانين التجريديين الآخرين في النصف الأول من القرن العشرين الذين رغبوا في الوصول إلى قوى غير مرئية حولنا، ولكنها معروفة أو محدوسة.
«التكوين الثاني باللون الأحمر والأزرق والأصفر» (1930) - بيت موندريان«التكوين الثاني باللون الأحمر والأزرق والأصفر» (1930) – بيت موندريان
في أواخر القرن التاسع عشر، لاحظ العلماء بشكلٍ أفضل مما سبق القوى غير المرئية مع انتشار التقنيات الجديدة، وأصبح من الواضح أن العالم أرحب مما يبدو للعين. في الوقت نفسه، ظهرت حركات روحية بديلة جمعت بين الأفكار الأفلاطونية والتصوف.
كان كلينت وموندريان من بين العديد من الفنانين الذين انغمسوا في أشكال الروحانية خارج العوالم التقليدية للدين. اعتقدت كلينت أن لوحاتها هي وحي عالم روحي، وأن مهمتها كانت العمل «على مستوى روحاني» لتمثيل روح الإنسان، بدلًا من صورته الفانية.
بحلول عشرينيات القرن الماضي، كانت نظرية فرويد عن للعقل البشري قد تغلغلت أيضًا في عالم الفن. كذلك السريالية، وهي حركة منظمة بإحكام بدأت مع بعض الفنانين الذين سعوا إلى التنقيب عن الإمكانات الإبداعية للعقل الباطن، وهي الحركة الثقافية التي كانت سائدة في أوروبا بين الحربين العالميتين.
لم تكن السريالية دوغمائية في محاولتها لاستكشاف اللاوعي، ولذلك ظهر عدد من الأساليب والطرق لمحاولة إخراج اللاوعي إلى السطح. إحدى هذه الأساليب كان الرسم الآلي (Automatism)، وهي عملية يتخلى فيها الفنان عن السيطرة الواعية لليد التي ترسم أو تصور. في هذا المجال، تبنى الفنانون مثل أندريه ماسون وخوان ميرو الفرصة لبناء صورهم باستخدام حركات حرّة، وحتى إلقاء الطلاء على القماش.
طور أرشيل غوركي -هو مهاجر أرمني عاش في الولايات المتحدة- أسلوبًا في الرسم يدمج بين الرسم الآلي وتجريد مجال الألوان. لوحاته في الأربعينيات حجمُها ضخم – ومرد ذلك تأثره بأعماله السابقة كفنان جداري مُعيّن من الدولة خلال السنوات الأخيرة من الكساد الكبير – لكنها معبّرة وغنائية في الرسم بالفرشاة.
ألهم إدماج غوركي للأنماط جيلًا واسعًا من الفنانين الأمريكيين في فترة ما بعد الحرب لاحتضان التجريد الواسع النطاق. ما نسميه الآن «التعبيرية التجريدية»، وكان ذاك الجيل في الواقع مجموعة فضفاضة من الفنانين الذين يستخدمون أنماطًا متعدّدة من أنماط التجريد.
ربما كان القاسم المشترك بين هؤلاء الفنانين – على الأقل في السنوات الأولى – هو دعم جيل جديد من النقاد بقيادة كليمنت غرينبيرغ، الذي كان يعتقد أن التجريد هو التعبير الأسمى للفن الغربي.
«الكبد هو مشط الديك» (1944) - أرشيل جوركي.«الكبد هو مشط الديك» (1944) – أرشيل جوركي.
الحداثة ومصير الفنّ الغربي
كان يُعتقد في بعض الأوساط الفكرية المؤثرة أنّ الفن يتقدم نحو هدف؛ وهذا المضمون يشتمل عليه مصطلح «الطليعية» (Avant-garde)، الذي يُوصف به الفنّانون الذين يبتكرون أرضية جمالية جديدة. أصل المصطلح فرنسي يُطلق على الجنود الذين يتقدمون إلى مناطق جديدة.
بالنسبة إلى غرينبيرغ، لم يكن هؤلاء الفنّانون يوسّعون حدود إمكانات الفن؛ بل كانوا يتقدمون نحو الهدف الحقيقي والمفرد لكل شكل فني.
يُعدّ غرينبيرغ شخصية مهمة في تاريخ الفن التجريدي، وذلك لأمرين: بوصفه مناصرًا رائدًا في مسألة تفوق الفن التجريدي على غيره من أنواع الرسم، وتأكيده للقوة التي امتلكها هذا الفن. كان ناقدًا في اللجنة الأمريكية للحريّة الثقافية التي تمولها الدولة، وهي مجموعة تم إنشاؤها لتعزيز الفن الأمريكي على المستوى الدولي.
أصبحت أفكار غرينبيرغ مؤثرة عندما كانت الولايات المتحدة جزءًا من الحرب على الفاشية والنازية، وخلال الحرب الباردة اللاحقة ضد الشيوعية السوفيتية. كانت معايير الفن الفاشي والسوفياتي واضحة، وهي ما تحددها السلطات الثقافية أنها كذلك، بيد أنّه ما لم يكن واضحًا هو معايير الفن «الجيد» وتحديدًا في الغرب الديمقراطي.
كان الماركسيون هم من تعاطف مع غرينبيرغ في البداية، لكن ارتبط تفكيره بشكلٍ متزايد بالهيمنة الثقافية الأمريكية. بالنسبة إليه، كان التجريد في أعمال بولوك فنًا مثاليًا لمجتمع ديمقراطي. تتجلى الحداثة في الفن، وفقًا لغرينبيرغ، في إطار التنوير الأوروبي؛ أيّ في فترة ازدهار الأفكار الفلسفية والعلمية التي أعطت الأولوية للعقل.
في مقالته المؤثرة « الرسم الحداثي» (1961)، وصفَ غرينبيرغ إيمانويل كانط – الفيلسوف الألماني في عصر التنوير – بأنّه «أول حداثي حقيقي». كان أسلوب كانط في «النقد» هو استخدام العقل لنقد العقل بغرض توضيحه، ومنحه استقلالية عن أنواع التفكير الأخرى.
«أولمبيا» - إدوارد مانيه (1863). بالنسبة إلى كليمنت غرينبيرغ، كان مانيه أول رسام حداثي. لقد رسم مانيه لوحاته بأسلوبٍ مسطّح بشكلٍ متعمد.«أولمبيا» – إدوارد مانيه (1863). بالنسبة إلى كليمنت غرينبيرغ، كان مانيه أول رسام حداثي. لقد رسم مانيه لوحاته بأسلوبٍ مسطّح بشكلٍ متعمد.
بالطريقة نفسها، كان الرسامون الحداثيون – من إدوارد مانيه في القرن التاسع عشر إلى موريس لويس، وهو رسام يعمل ينتمي إلى رسامي أسلوب مجال ألوان في الولايات المتحدة في الوقت الذي كتب فيه غرينبيرغ مقالته – يعملون على ترسيخ الفن التعبيري «بشكل صارم في مجال تخصصه».
رأى غرينبيرغ أن وضوح الفن التجريدي -الذي كان صادقًا بالنسبة إلى الوسيط الذي يُعبّر من خلاله- معارضٌ لـ«الفن الشعبي المبتذل [الكيتش]» الذي ينُتج على نطاق واسع في الثقافة الشعبية. إن إزالة «الكيتش» كانت مسألة استجلاء وتوضيح تحتاجها جميع الفنون لكي تصبح تعبيرًا عن إمكاناتها الجمالية الكامنة.
اللوحات مسطّحة، وإيهام العمق الذي نجده في معظم الفن الغربي كان انحرافًا عن جوهر فن الرسم ذاته. كانت استقلالية الشكل الفني في جميع خصائصه دون أن تتلوث بأشكال فنية أخرى. وفقًا لغرينبيرغ، يعدّ الشكل واللون من أهم خصائص الرسم، و أفضل تمثيل لها يكون بشكلٍ مسطّح.
وهكذا دافع غرينبيرغ عن «التسطيح» الذي تجلّى في لوحات الفنانين الأمريكيين التجريدية مثل جاكسون بولوك باعتباره تحقيقًا لهذا الوضوح الحداثي. لقد ضم هؤلاء الفنانين معًا ضمن فريق واحد، وهم يمثّلون المرحلة التالية في الحداثة، وقد حلّت رؤيتهم الأمريكية المميزة محلّ الفن الأوروبي الطليعي.
وفي الوقت الذي أصبح فيه الفن التجريدي الأمريكي مهيمنًا، تراجعت هيمنة غرينبيرغ النقدية، وظهرت أشكال جديدة من الفن الطليعي، مستوحاة مباشرة من الثقافة الجماهيرية، وحلّت محلّ التعبيرية التجريدية في المخيال العام. تبنى فنانوّ «البوب» مثل: آندي وارهول، وريتشارد هاميلتون هذا النوع من «الفن الشعبي المبتذل» الذي رآه غرينبيرغ تلويثًا للفن الحقيقي.
استمرت الأعمال الفنية التجريدية، ولكن تخلّى الفنّانون التجريديون الأكثر جرأة عن الفكرة الصارمة «للنقد الحداثي»، وعن الوضوح المتعلق بخصوصية الوسيط الفني، وذلك لصالح أشكال أخرى من التعبير.
نظر فنانوّ «ما بعد الحداثة» إلى السخرية وعملية الرسم نفسها، كطرق لتجاوز الطريق المسدود للحداثة. تبنى الألماني غيرهارد ريختر كلا النهجين؛ فبعض أعماله التجريدية في الستينيات كانت مصنوعة بممسحاتٍ بدلًا من الفرشاة، حتى يتمكن من لفت الانتباه إلى عملية صنع اللوحة نفسها.
كانت «اللوحات التجريدية» البارزة الأخرى التي رسمها ريختر في الواقع صورًا واقعية مرسومة بعناية تعكس لوحاته التجريدية الأخرى. أصبحت طلائعية الرسم التجريدي مفهومية أكثر، ما جعل ضمنيًّا قضية الرسم تحظى باستقلالية أقل مما كان كان يعتقد النقاد الحداثيون.
قلّد فنانوّ «نيو جيو»، مثل: الرسام بيتر هالي، والنحات أشلي بيكرتون اللغة البصرية للتجريد الهندسي، لكنهما دمجاها مع السلع الاستهلاكية بألوانٍ تجارية فاتحة وأحيانًا فلورية.
منذ ذلك الجيل ما بعد الحداثي من الرسامين والنحاتين الممتد من الستينيات إلى التسعينيات، ازدهر التجريد متفرّعًا إلى عددٍ لا يُحصى من الأساليب والمقاربات بجوار الفن التشخيصي. هنا يمكن القول إنّ التجريد المتحرّر من عبء التوقعات الحداثية هو ببساطة نهج للتعبير مثل أيّ نهج آخر.
وتجدر الإشارة إلى أنّ بعض الفنانين التجريديين استخدموا الحيل البصرية المستعملة في الفن التشخيصي – مثل المنظور والتظليل – في لوحاتهم. ولاستخدامهم هذا أهداف فريدة و غالبًا لا تهتم بالنظرية.
قلّد فنانوّ «ما بعد الحداثة» مثل: بيتر هالي اللغة البصرية المستعملة في الفن التجريدي الحديث (في حالة بيتر، التجريد الهندسي)، للتعليق على طبيعة الفن والمعنى نفسه. تمثّل هذه الكتل الملونة «الخلايا» و«الأنابيب».قلّد فنانوّ «ما بعد الحداثة» مثل: بيتر هالي اللغة البصرية المستعملة في الفن التجريدي الحديث (في حالة بيتر، التجريد الهندسي)، للتعليق على طبيعة الفن والمعنى نفسه. تمثّل هذه الكتل الملونة «الخلايا» و«الأنابيب».
هذا هو التحرّر نحو الأفضل بين الرسامين التجريديين الذين يمكنهم الالتزام برؤيةٍ فريدة بالرسم على القماش. لكن فكّ ارتباط الفن التجريدي عن إطاره الفلسفي الأوسع أدى أيضًا إلى انتشارٍ يثير التساؤل لأعمال تجريدية متنوعة قابلة للاستهلاك – بمعنى أنّها فقدت قيمتها، وباتت تُباع وتُشترى سريعًا بأسعارٍ مربحة – يشتريها المشترون المتضاربون.
دفع هذا التحول الناقد جيري سالتز إلى كتابة: « الزومبي على الجدران: لماذا يبدو الكثير من التجريد الجديد متشابهًا؟». وقد شبه اللّوحات التجريدية بصورة «الزومبي»، تحقيرًا لأعمال عددٍ من الرسامين التجريديين البارزين، الذين استخدموا الفنّ وجماليته لتقديم أعمال مبتذلة.
ومن المفارقات أن هؤلاء الفنانين نظروا إلى الشكلانية بوصفها فنًّا حداثيًّا متبنّين منظور غرينبيرغ، لكنهم بالطبع قدّموا أعمالًا في ظلّ فراغ تاريخي وبعد فترةٍ طويلة حين لم يُصبح التجريد مثيرًا للاهتمام أو راديكاليًا بأي وجه من الوجوه.
في الواقع، لم يصل مشروع الحداثة في الفن التجريدي إلى نهايته، بل النقد. إنّ النقد -أيّ الإطار الفلسفي الواسع الذي يصادق على الأعمال الفنية ويثمّنها لأهميتها الثقافية والتاريخية- هو ما فقد التوجه والسلطة.
كان مسار الفن الغربي منذ عصر التنوير يتأرجح بين قطبي الدوغمائية النقدية والإبداع. تكمن المشكلة أنه في العقود الأخيرة، وفي ظلّ غياب أي مشروع نقدي متماسك، انجرف الفن نحو إرضاء اهتمامات دقيقة ومتنوعة تزداد باستمرار.
في حين كانت هناك «حركات» و«مدارس» فنية -مصطلحان يشيران إلى الوجهة والانضباط- لم يعد لدينا الآن سوى «مشاهد».
هذا ليس بالضرورة أمرًا سيئًا. ولكن في عالم حيث «كل شيء مقبول – anything goes»، لا يوجد مجال لهذا النوع من الابتكار والتجاوز الذي أدى إلى ظهور الفن التجريدي في الغرب، وهذا ما جعل الفن الحديث فنًّا مثيرًا للغاية.
من الصعب في هذه اللحظة التاريخية أن ندرك ما الذي جعل لوحة بولوك «رقم 32» مثيرة للانقسام، ومخلخلةً جدًا للمعايير، وفي الوقت نفسه محتفظةً بقيمةٍ عالية جدًا لأولئك الذين يعتقدون أن للفنِّ مكانًا في المجتمع يتجاوز المتعة.
[divider style=”solid” top=”20″ bottom=”20″]
[1] واللقب كذلك يُلمح إلى القاتل المتسلسل في لندن آخر القرن التاسع عشر: جاك السفّاح
Jack the ripper (مدير التحرير).
### خارج عقلك | توم تشاتفيلد – ت: محمد السعيد
عندما يكون هاتفي النقال بين يديّ، هل أكون أنا الشخص نفسه لو كان الهاتف في غرفة أخرى؟ من ناحية،...
### الدراما في التعليم: مقاربات وتطبيقات | نعيم حيماد
افتتاحيّة حظي استخدام الدراما في التعليمفي السنوات الأخيرة باهتمام كبير من قبل نخبة من المنظرين والممارسين للدراما في مجال التعليم....
### الحقائق المخفية | دي بي سي بيير – ت: محمد السعيد
يحمل جبل كلسي خشن في غرب إيران عددًا من النقوش البارزة، من بينها لوحة طولها خمسة وعشرين مترًا منقوشة...
### التغلُّب على كاشف الكذب | كلاريسا سيباغ-مونتِنفيوري – ت: محمد السعيد
حين اتُّهِمَتْ مربية الأطفال البريطانية لويز وودورد بهزِّ رضيع حتى الموت في مدينة نيوتن بولاية ماساتشوستس، لم تكتفِ بإعلان...
### عن منصة معنى
«معنى»، مؤسسة ثقافية تقدّمية ودار نشر تهتم بالفلسفة والمعرفة والفنون، عبر مجموعة متنوعة من المواد المقروءة والمسموعة والمرئية. انطلقت في 20 مارس 2019، بهدف إثراء المحتوى العربي، ورفع ذائقة ووعي المتلقّي المحلي والدولي، عبر الإنتاج الأصيل للمنصة والترجمة ونقل المعارف.
### روابط سريعة
### التصنيفات
### مرحبا بك!
قم بتسجيل الدخول إلى حسابك
تذكرني
### قم بإنشاء حساب جديد!
املأ النموذج أدناه للتسجيل
### طلب إعادة تعيين كلمة المرور
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان البريد الإلكتروني لإعادة تعيين كلمة المرور الخاصة بك.
### Add New Playlist
- Select Visibility -PublicPrivate
No Result
عرض جميع النتائج
-
00:00
00:00
-
00:00
00:00
|
article
|
Arabic
|
ar
|
الفنّ التجريدي: بين الماضي والحاضر - منصة معنى الثقافية
|
https://mana.net/abstract-art/
|
1,948 |
دفع هذا التحول الناقد جيري سالتز إلى كتابة: « الزومبي على الجدران: لماذا يبدو الكثير من التجريد الجديد متشابهًا؟».
|
sentence
|
دفع هذا التحول الناقد جيري سالتز إلى كتابة: « الزومبي على الجدران: لماذا يبدو الكثير من التجريد الجديد متشابهًا؟». وقد شبه اللّوحات التجريدية بصورة «الزومبي»، تحقيرًا لأعمال عددٍ من الرسامين التجريديين البارزين، الذين استخدموا الفنّ وجماليته لتقديم أعمال مبتذلة.
|
paragraph
|
Arabic
|
ar
|
الفنّ التجريدي: بين الماضي والحاضر - منصة معنى الثقافية
|
https://mana.net/abstract-art/
|
1,949 |
وقد شبه اللّوحات التجريدية بصورة «الزومبي»، تحقيرًا لأعمال عددٍ من الرسامين التجريديين البارزين، الذين استخدموا الفنّ وجماليته لتقديم أعمال مبتذلة.
|
sentence
|
دفع هذا التحول الناقد جيري سالتز إلى كتابة: « الزومبي على الجدران: لماذا يبدو الكثير من التجريد الجديد متشابهًا؟». وقد شبه اللّوحات التجريدية بصورة «الزومبي»، تحقيرًا لأعمال عددٍ من الرسامين التجريديين البارزين، الذين استخدموا الفنّ وجماليته لتقديم أعمال مبتذلة.
|
paragraph
|
Arabic
|
ar
|
الفنّ التجريدي: بين الماضي والحاضر - منصة معنى الثقافية
|
https://mana.net/abstract-art/
|
1,950 |
ومن المفارقات أن هؤلاء الفنانين نظروا إلى الشكلانية بوصفها فنًّا حداثيًّا متبنّين منظور غرينبيرغ، لكنهم بالطبع قدّموا أعمالًا في ظلّ فراغ تاريخي وبعد فترةٍ طويلة حين لم يُصبح التجريد مثيرًا للاهتمام أو راديكاليًا بأي وجه من الوجوه.
|
paragraph
|
لا توجد منتجات في سلة المشتريات.
No Result
عرض جميع النتائج
الثلاثاء, سبتمبر 10, 2024
No Result
عرض جميع النتائج
No Result
عرض جميع النتائج
# الفنّ التجريدي: بين الماضي والحاضر
## ترجمة: أنطونيوس نادر
AA
AA
إعادة تعيين
فنٌ مليء بالتحديات
ثمّة خطٌ رفيع يفصل بين الفن التجريدي ومجرد الزخرفة، ولوحة «رقم 32» (نُشرت عام 1950)، لجاكسون بولوك تتأرجح بين هذا الخطّ. فهي لا تشير إلى معنىً واضح، ولكن لا يمكن القول إنّها بلا معنى على الإطلاق. كما أنّها ليست معبّرة بشكلٍ مباشر، ولا يعني هذا أنها لا تعبّر عن مدلولٍ ما. تحمل هذه اللوحة الكثير من المضامين عن الفن الغربي بالنسبة إلى شخصٍ خبيرٍ في تاريخ الفن؛ أما بالنسبة إلى شخصٍ عادي، فقد يراها عملًا مبتذلًا بالكاد يعبّر عن أمرٍ ما.
اللوحة شبكة من الخطوط وبقعٍ من الألوان، رُسمت عن طريق صبّ طلاءٍ رخيص بعشوائيةٍ مباشرة على القماش. تتكون اللوحة من طلاءٍ أسود فقط وقماشٍ خام. واللوحة ضخمة؛ إذ يبلغ طولها تسعة أقدام وعرضها خمسة عشر قدمًا، وتغطي مجال رؤية المشاهد أثناء اقترابه منها. تقليديًّا، حتى اللوحات التجريدية تتكون من أجزاءٍ مترابطة مع بؤر تركيز (emphases) وعمقٍ يُنقل من خلال اللون والظلال، ولكن «رقم 32» ليس لها أجزاء؛ إنّها تتكون من تعالقات، والبؤرة فيها تكمن عبر امتداد سطح القماش المستطيل.
يمنحها ما سبق عمقًا سطحيًا، وربما لا عمق فيها: مجرّد طلاء على قماش. إنّها عبث بالشكل واللون. حتى اسمها، ببساطة رقمٌ معيّن – رقم 32 – يجعلها تنأى بنفسها عن أي فكرة مفادها أنها تعكس مدلولًا محدّدًا. تشير عناوين أعمال بولوك الأخرى إلى نوعٍ من الاختبار الشخصي، وإلى الاستخدام السمفوني المتعدد الطبقات للون والملمس؛ خذ مثلًا لوحاته التي تحمل اسم: «إيقاع الخريف»، و«الضباب الأرجواني»، و«الأقطاب الزرقاء»، و«انعكاس الدنقلة الكبير».
هذا لا ينطبق على لوحة «رقم 32»؛ شكلها الخام وبساطتها دليل على أنّ الفنان لم يخطط مسبقًا لرسمها؛ أيّ أنّه لم ينتق الألوان ولا الطبقات. يبدو بولوك هنا أكثر حضورًا، من خلال لمساته الحادة. بالنسبة إلى مؤيديّ عمل بولوك، تختصر هذه اللوحة خلاصة نظرة الفنان الجمالية. أما بالنسبة للبعض الآخر، فهي لوحة مبتذلة.
وصف جوزيف بويس -النحات الألماني في فترة ما بعد الحرب- الفنَّ التجريدي الأمريكي بأنه مجرد «تغليف»، أيّ سطح بلا محتوى. في هذا الصدد، قد يتفق البعض أن لوحة «رقم 32» تجسد فراغ الفكر والشعور ذاك. فقد رأى الروائي والناقد الفني روبرت كوتس أن فن بولوك لم يكن سوى «انفجارات» غير منظمة من الطاقة العشوائية. غير أنّ طائفة كبيرة من متذوقي الفن التجريدي لا تروق إليهم أعمال بولوك ويرونها فنًّا محيرًا، حتى إنّ بعضهم يراها إهانةً للذوق أو الحسّ السليم.
عُرف بولوك بلقب: «جاك فنان النقط» (Jack the Dripper) [1] في الأوساط الإعلامية المشككة بعمله حيث ادعى كثر أن أيّ شخص يمكنه أن يرسم كما يرسم بولوك إلّا أنّ أحدًا لم يتجرأ على فعل ذلك.
«رقم 32» - جاكسون بولوك«رقم 32» – جاكسون بولوك
بيد أنّ هذا هو مغزى الفن التجريدي في التقليد الغربي: إنّه تحدّ. وفي ظل الكثير هذه التحديات، تُعد لوحة « رقم 32» اللوحة الأكثر تمثيلًا لهذا الفن.
قصة الفنّ التجريدي
مسار قصة الفن التجريدي مضمّنة في الدراسات التاريخية الفنية، إلّا أنّ المحطات الرئيسة لهذا المسار كانت محط تغييرات مفاجئة كلما اكتشف مؤرخوّ الفن حقائق جديدة.
انطلق مسار الفن التجريدي بدءًا من القرن التاسع عشر وما تلاه؛ حيث استفاد الفنانون من مادة الطلاء والجوانب الشكلية للرسم مثل اللون والدرجة والخطوط. يُعرف هذا الانشغال بالجوانب غير التمثيلية (non-representative) للفن باسم «الشكلانية»، لأنّه انشغال «بالشكل»، أيّ بتوسل شكل المحتوى بدلًا من المحتوى في ذاته. بالنسبة إلى الفنانين في القرن التاسع عشر، صُنّف الفن التجريدي على أنّه «فنٌّ من أجل الفنّ»، وكانت الفكرة الشائعة مفادها أنّ المتذوق للفن يمكنه الاستمتاع بالعمل دون اللجوء إلى معنى أو حتى أي شيء آخر يمثل أمرًا ما.
تمثّل لوحة «الموسيقى الهادئة باللّونين الأسود والذهبي – الصاروخ الساقط» (1872)، للفنان جيمس مكنيل ويسلر هذا الاتجاه الذي تبلور لاحقًا في الفن التجريدي. إنّ مشهد ويسلر الغامض من الناحية المكانيّة يقترب إلى التجريد، وذلك بمحاولته نقل الشعور أو الانطباع الخاص بالمشهد بدلًا من إعادة إنتاجه بحذافيره.
«الموسيقى الهادئة باللونين الأسود والذهبي - الصاروخ الساقط» (1872-1877) - جيمس أبوت مكنيل ويسلير«الموسيقى الهادئة باللونين الأسود والذهبي – الصاروخ الساقط» (1872-1877) – جيمس أبوت مكنيل ويسلير
في عام 1877، انتقد جون روسكين – أبرز نقّاد بريطانيا في ذلك الوقت – عمل ويسلير هذا نقدًا لاذعًا فشبهه «بمن قام برمي الطلاء في وجه الجمهور». تأثر ويسلر بهذا الكلام، فرفع دعوى قضائية ضد روسكين، بيد أنّه خسرها لأن المسؤولين عرضوا اللوحة -خطأً- مقلوبةً على المحكمة. أفلس ويسلير بسبب هذه القضية، لكن مسيرة تطور الفن التجريدي استمرت.
من ناحيةٍ أخرى، تحديد أول فنان تجريدي في العالم موضوع نزاع. في نظر أبحاث تاريخ الفن التقليدية، كان فاسيلي كاندينسكي – فنان روسي الجنسية رسم لوحات تجريدية بالكامل في مطلع عام 1911- هو أول فنان تجريدي.
لم ينل الفن التجريدي الرائد لهيلما أف كلينت تقديرًا إلا قبل سنوات قريبة. هذه صورة للمعرض الشهير في متحف غاغينهايم، عام 2018 .لم ينل الفن التجريدي الرائد لهيلما أف كلينت تقديرًا إلا قبل سنوات قريبة. هذه صورة للمعرض الشهير في متحف غاغينهايم، عام 2018 .
ولكن في الآونة الأخيرة، وبفضل المعرض الرائد في متحف مقاطعة لوس أنجلوس للفنون في عام 1986 الذي حمل اسم «الروحانية في الفن: الرسم التجريدي 1890 – 1985»، وقع الاختيار على هيلما أف كلينت كأول رسامة تجريدية. بدأت كلينت في رسم لوحات تجريدية بدءًا من عام 1906، وحملت مجموعتها عنوان «الفوضى البدائية». كانت الفنانة متكتمة في ما يتعلق بأعمالها التجريدية، ولم تُعرض أيّ منها في معارض عامة، وبقيت غير معروفة حتى أزيح عنها الستار مؤخرًا.
ولعل الجدال حول هوية أول من مارس الفن التجريدي سيستم، لكن الحقيقة الأكثر أهمية هي أن العديد من الفنانين الأوروبيين البارزين قد توصّلوا في أعمالهم إلى التجريد بحلول الحرب العالمية الأولى. لقد وجد كل منهم طريقته الخاصة في التخلي عن الفن التشخيصي (figurative painting). وجديرٌ بالذكر أنّه لم تكن هناك حركة «تجريدية» دولية ذات رؤية أو بيان مشترك.
في ضوء ذلك، فإن السؤال الملحّ حقًا هو: لمَ لمْ يتبنى الفنانون الغربيون الفن التجريدي على امتداد قرون عديدة؟ لماذا كان التجريد غير ضروري أو لا معنى له أو غير مناسب أو حتى لا يمكن تقبّله لقرونٍ متوالية في الفن الغربي؟
ظهرت العديد من التفسيرات لشرح ذلك. إحدى النظريات الأكثر وضوحًا هي أن ظهور التصوير الفوتوغرافي بوصفه شكلًا من أشكال الفن، إضافةً إلى تطور الفن الحديث، سببان رئيسان لإزاحة الرسم التشخيصي.
ثمّة إجابات أخرى غير ملموسة لاستكشاف الأسباب: ربما عندما أصبحت الأعمال الفنية قابلة للاستهالاك بشكل متزايد، مثل السلع، بات من السهولة فصل اللوحات والمنحوتات عن التجارب المحددة لمبدعيها. ربما أدت الحداثة في الغرب إلى إفراغ الفن من المحتوى التشخيصي؛ مما دفع الفنانين أيضًا إلى التخلي عن التمثيل التشخيصي.
كل من هذه الإجابات معقدة وتتطلب الكثير من الشرح، ولا يمكن إلا أن تكون تخمينات. لا توجد إجابة واضحة لهذه المسألة. ربما يكون من الأفضل طرح السؤال حول سبب تقبّل الفن التجريدي فنًّا من الفنون الرسمية في تاريخ الفن الغربي في مرحلة معينة على علماء الأنثروبولوجيا بدلًا من طرحها على مؤرخي الفن. فما هو واضح أن الفن التجريدي كان موجودًا دائمًا في مناطق أخرى من العالم.
ما جعل الفن التجريدي فنًّا حديثًا على وجه التحديد في العالم الغربي هو نظام المعارض، الذي أعطى القيمة الفنية للأعمال المعروضة. وكما هو واضح فقد ازدهر التجريد لآلاف السنين المناطق الشرقية والجنوبية من العالم، دون عناء التحقق من مكانة الأعمال المعروضة في الصالونات [والمعارض، كما هو في العالم الغربي].
الواقع الافتراضي و«الافتراضية»
يتبنى بيبي كرمل وهو مؤرخ فني، في كتابه « الفن التجريدي: تاريخ عالمي»، فكرة أنّ الفن التجريدي كان دائمًا موجودًا بشكل طبيعي عندما ننظر إليه نظرة شاملة وعالمية، بيد أنّه يتحاشى طرح نظرية عن تطور الفن التجريدي. بالنسبة إلى كرمل، فإنّ هذا الفنّ متجذر في العالم الحقيقي، وهو ليس فنًّا «مجردًا» على الإطلاق، كما أنّه تقليد عالمي وليس محليًا.
في دراسته حول الفن التجريدي يقسم العمل الفني إلى خمس فئات واسعة تنتمي إلى العالم الحقيقي: الأجسام، والمناظر الطبيعية، والكون، والبنى، والعلامات والأنماط. من خلال فحص الفن التجريدي بهذه الطريقة، يرى كرمل في اللوحات التجريدية موضوعات قابلة للتحليل، بعكس النقاد والمؤرخين الأرثوذكسيين الذين رأوا فيها مجرّد توليفات شكلية مكوّنة من لون وشكل.
ربما يكون من الأفضل أن يطلق على الفن التجريدي: فن ما تم تجريده (abstracted art)؛ لأنّ الفنانين التجريديين عادةً ما يستخلصون ويجرّدون تعبيرات التجارب في شكل ولون، أكثر من كونها توليفات مكونة من شكل ولون. ومرّد ذلك الطبيعة الجوهرية للرسم والنحت؛ فهما (الشكل اللّون) وسيطان للتعبير، مثل الشاشة أو المسرح لخيال الفنان. كما هو الحال في المسرح أو السينما، فإنّ جمهور اللوحة أو المنحوتة يعلّق معتقداته من أجل أن يتقبل المشهد.
من المفيد التفكير في اللوحة التشخيصية التقليدية أو النحت على أنها حقيقة افتراضية. إذْ استخدم الفنانون لقرون عديدة الحيل البصرية -مثل المنظور الخطي، والتقصير المسبق، والتظليل- لمحاكاة الطريقة التي ندرك بها الأشياء في الفضاء الحقيقي. إنّ المشاهد تُنشأ في فضاء افتراضي – سواء كانت القاعدة التي تدعم التمثال أو القماش – ليراها المشاهدون بوصفها خدعة بصرية.
«القديس بطرس شفاء أحد الأشخاص وبعث تابيثا من الموت» ماسولينو دي بانيكال. اعتمد الرسم الغربي قبل القرن العشرين على الحيل البصرية لخلق واقع افتراضي. إحدى هذه الحيل هي المنظور الخطي، وهذه اللوحة هي أول مثال لاستخدام نقطة تلاشٍ متسقة.«القديس بطرس شفاء أحد الأشخاص وبعث تابيثا من الموت» ماسولينو دي بانيكال. اعتمد الرسم الغربي قبل القرن العشرين على الحيل البصرية لخلق واقع افتراضي. إحدى هذه الحيل هي المنظور الخطي، وهذه اللوحة هي أول مثال لاستخدام نقطة تلاشٍ متسقة.
يستمتع مشاهدوّ الأعمال الفنية العظيمة معنى ما يُرسم، ويقدرون الطريقة التي يتجلّى فيها الوهم عبر تمازج اللون والشكل.
يبقى الفن التجريدي، إلى حدٍ ما، ضمن إطار التجربة الجمالية. فقد سعت حركات الفن الحديث التي أدت إلى التجريد -أيّ «مدارس الفن»، مثل الانطباعية والفاوفية والتكعيبية- إلى تمثيل العالم بشكل مختلف عن كل الفنون التي سبقتها. إذْ ادعوا الاقتراب من الحقيقة الذاتية عبر تهميش جميع الحيل الوهمية التقليدية التي حاولت إعادة إنتاج الواقع بحذافيره كحقيقة موضوعية.
«الأحمر والأصفر والأزرق» (1925) واسيلي كاندينسكي. كان كاندينسكي يعدّ لفترةٍ طويلة أب الرسم التجريدي الغربي.«الأحمر والأصفر والأزرق» (1925) واسيلي كاندينسكي. كان كاندينسكي يعدّ لفترةٍ طويلة أب الرسم التجريدي الغربي.
بالنسبة إلى هذه المدارس، أصبح الفن أقل من أن يوصف بأنّه واقع افتراضي، لكنه مع ذلك احتفظ بالافتراضية، وأصبح افتراضيًا. لقد أخذ الفن التجريدي مسار التطور هذا إلى أقصاه: من الواقع الافتراضي إلى الافتراضية.
ماذا تعني «الافتراضية» هنا؟ إنّها الوجود كجوهر وتأثير، ولكن بدون اللجوء إلى الواقع. اللوحة التجريدية التي رسمها كاندينسكي، على سبيل المثال، ما زالت تُعدّ علاقة متبادلة بين الشكل واللون، و تعتمد على الرسم كمستوى تخطيطي: إنها نافذة تطلّ على «الواقع» الفردي الذي تصوّره كاندينسكي.
وما تزال العناصر في لوحات كاندينسكي تحظى بعلاقة متبادلة، كما هو الحال في فضاء الواقع الافتراضي للوحة التشخيصية؛ فجوهر الرسم سليم إذ إنّ ذلك الفضاء الافتراضي ما زال موجودًا. عندما يكون الفن التجريدي بناءً خالصًا، ويتخلص من المساحة الافتراضية الملازمة للرسم والنحت، يصبح متميزًا عنهما.
وصف دونالد جود الفنان التخفيفي (minimalist) مثل هذه الأعمال الفنية بأنها «أجسام محدّدة» (Specific Objects). إنّه مصطلح غير دقيق، ولكنه يصلح لإظهار أن مثل هذه الأعمال الفنية ليست رسمًا ولا نحتًا، ولكنها فئة أخرى تمامًا.
رأى دونالد جود أن أعماله وأعمال العديد من معاصريه تشغل مساحة هجينة، لا هي لوحات ولا هي نحت. عمل دون عنوان لدونالد جود.
استخدم جود هذا المصطلح لوصف أعماله الخاصة، ولكنه ينطبق على لوحات كازيمير ماليفيتش وفرانك ستيلا أحادية اللون، والتي تجعل اللوحة تندمج مع نفسها بالكامل، من أجل الوصول للتأثير الذي يأمل العمل في تحقيقه.
في مثل هذه الأعمال، لم يعد قماش اللّوحة (أو القاعدة) سطحًا تتفاعل فيه الأشكال والألوان في الفضاء الافتراضي. بدلاً من ذلك، تتفاعل الأشكال والألوان في الفضاء الحقيقي، في فضائنا.
تختلف معايير النجاح أو الفشل لهذه الأعمال عن الخصائص التقليدية للرسم والنحت. رأى جود أنّ خصائص الرسم والنحت تقف في طريق ما أراد تحقيقه من خلال اللون والشكل. في رأيه، كان لـ «أجسامه المحددة» تأثيرًا أحدّ من غيرها.
الواقع والأشكال الجديدة للإدراك الحسّي
الرسم نفسه له ثلاثة أنواع عامة من التجريد؛ أولًا، ثمّة أسلوب تعبيري تُرسم فيه الأشكال بحركاتٍ غير مقيدة؛ ثم هناك التجريد الهندسي حيث يتم هيكلة الأشكال؛ أما النوع الثالث، فهو تجريد مجال اللون حيث يتم عرض مساحات من الألوان بطريقةٍ لا شكل واضح لها.
لم تكن هذه «الأنماط» (styles) أنماطًا عرضيةً أو تعتمد على ذوق أو ميل الرسام كوسيلة لتحقيق هدفٍ ما من البحث الفني. وخير مثال على ذلك هو الفنان الذي غالبًا ما ينظر إلى عمله على أنّه ذروة التجريد الهندسي: بيت موندريان. إنّ لوحات بيت موندريان المكونة من شبكات (grids) ذات الخطوط السوداء والأجزاء الملونة على خلفية بيضاء؛ تهدف إلى استحضار «حقيقة أعلى».
بالنسبة إلى موندريان، كان الفن في جوهره معارضًا للواقع؛ «لأن الواقع يتعارض مع الروحي». بغض النظر عن هذه اللوحة الأشهر لموندريان، فإنّ جوانب الرسم التي تهم هذا الفنان حقًا لم تكن الجوانب المحددة للموضوع -أيّ ماذا أو ما يتم تصويره في اللوحة مثلًا- بل الجوانب القابلة للفهم عالميًا للشكل والخط واللون. إنّ لوحات موندريان، مثلها مثل لوحات الفنانين الآخرين، هي محاولة لاستخلاص الشكل واللون من أجل الاقتراب من ذلك الجوهر العالمي والروحي للفن.
عبّر موندريان عن رغبته في الوصول إلى «أساس» الأشياء من خلال الحدس، كالعديد من الفنانين التجريديين الآخرين في النصف الأول من القرن العشرين الذين رغبوا في الوصول إلى قوى غير مرئية حولنا، ولكنها معروفة أو محدوسة.
«التكوين الثاني باللون الأحمر والأزرق والأصفر» (1930) - بيت موندريان«التكوين الثاني باللون الأحمر والأزرق والأصفر» (1930) – بيت موندريان
في أواخر القرن التاسع عشر، لاحظ العلماء بشكلٍ أفضل مما سبق القوى غير المرئية مع انتشار التقنيات الجديدة، وأصبح من الواضح أن العالم أرحب مما يبدو للعين. في الوقت نفسه، ظهرت حركات روحية بديلة جمعت بين الأفكار الأفلاطونية والتصوف.
كان كلينت وموندريان من بين العديد من الفنانين الذين انغمسوا في أشكال الروحانية خارج العوالم التقليدية للدين. اعتقدت كلينت أن لوحاتها هي وحي عالم روحي، وأن مهمتها كانت العمل «على مستوى روحاني» لتمثيل روح الإنسان، بدلًا من صورته الفانية.
بحلول عشرينيات القرن الماضي، كانت نظرية فرويد عن للعقل البشري قد تغلغلت أيضًا في عالم الفن. كذلك السريالية، وهي حركة منظمة بإحكام بدأت مع بعض الفنانين الذين سعوا إلى التنقيب عن الإمكانات الإبداعية للعقل الباطن، وهي الحركة الثقافية التي كانت سائدة في أوروبا بين الحربين العالميتين.
لم تكن السريالية دوغمائية في محاولتها لاستكشاف اللاوعي، ولذلك ظهر عدد من الأساليب والطرق لمحاولة إخراج اللاوعي إلى السطح. إحدى هذه الأساليب كان الرسم الآلي (Automatism)، وهي عملية يتخلى فيها الفنان عن السيطرة الواعية لليد التي ترسم أو تصور. في هذا المجال، تبنى الفنانون مثل أندريه ماسون وخوان ميرو الفرصة لبناء صورهم باستخدام حركات حرّة، وحتى إلقاء الطلاء على القماش.
طور أرشيل غوركي -هو مهاجر أرمني عاش في الولايات المتحدة- أسلوبًا في الرسم يدمج بين الرسم الآلي وتجريد مجال الألوان. لوحاته في الأربعينيات حجمُها ضخم – ومرد ذلك تأثره بأعماله السابقة كفنان جداري مُعيّن من الدولة خلال السنوات الأخيرة من الكساد الكبير – لكنها معبّرة وغنائية في الرسم بالفرشاة.
ألهم إدماج غوركي للأنماط جيلًا واسعًا من الفنانين الأمريكيين في فترة ما بعد الحرب لاحتضان التجريد الواسع النطاق. ما نسميه الآن «التعبيرية التجريدية»، وكان ذاك الجيل في الواقع مجموعة فضفاضة من الفنانين الذين يستخدمون أنماطًا متعدّدة من أنماط التجريد.
ربما كان القاسم المشترك بين هؤلاء الفنانين – على الأقل في السنوات الأولى – هو دعم جيل جديد من النقاد بقيادة كليمنت غرينبيرغ، الذي كان يعتقد أن التجريد هو التعبير الأسمى للفن الغربي.
«الكبد هو مشط الديك» (1944) - أرشيل جوركي.«الكبد هو مشط الديك» (1944) – أرشيل جوركي.
الحداثة ومصير الفنّ الغربي
كان يُعتقد في بعض الأوساط الفكرية المؤثرة أنّ الفن يتقدم نحو هدف؛ وهذا المضمون يشتمل عليه مصطلح «الطليعية» (Avant-garde)، الذي يُوصف به الفنّانون الذين يبتكرون أرضية جمالية جديدة. أصل المصطلح فرنسي يُطلق على الجنود الذين يتقدمون إلى مناطق جديدة.
بالنسبة إلى غرينبيرغ، لم يكن هؤلاء الفنّانون يوسّعون حدود إمكانات الفن؛ بل كانوا يتقدمون نحو الهدف الحقيقي والمفرد لكل شكل فني.
يُعدّ غرينبيرغ شخصية مهمة في تاريخ الفن التجريدي، وذلك لأمرين: بوصفه مناصرًا رائدًا في مسألة تفوق الفن التجريدي على غيره من أنواع الرسم، وتأكيده للقوة التي امتلكها هذا الفن. كان ناقدًا في اللجنة الأمريكية للحريّة الثقافية التي تمولها الدولة، وهي مجموعة تم إنشاؤها لتعزيز الفن الأمريكي على المستوى الدولي.
أصبحت أفكار غرينبيرغ مؤثرة عندما كانت الولايات المتحدة جزءًا من الحرب على الفاشية والنازية، وخلال الحرب الباردة اللاحقة ضد الشيوعية السوفيتية. كانت معايير الفن الفاشي والسوفياتي واضحة، وهي ما تحددها السلطات الثقافية أنها كذلك، بيد أنّه ما لم يكن واضحًا هو معايير الفن «الجيد» وتحديدًا في الغرب الديمقراطي.
كان الماركسيون هم من تعاطف مع غرينبيرغ في البداية، لكن ارتبط تفكيره بشكلٍ متزايد بالهيمنة الثقافية الأمريكية. بالنسبة إليه، كان التجريد في أعمال بولوك فنًا مثاليًا لمجتمع ديمقراطي. تتجلى الحداثة في الفن، وفقًا لغرينبيرغ، في إطار التنوير الأوروبي؛ أيّ في فترة ازدهار الأفكار الفلسفية والعلمية التي أعطت الأولوية للعقل.
في مقالته المؤثرة « الرسم الحداثي» (1961)، وصفَ غرينبيرغ إيمانويل كانط – الفيلسوف الألماني في عصر التنوير – بأنّه «أول حداثي حقيقي». كان أسلوب كانط في «النقد» هو استخدام العقل لنقد العقل بغرض توضيحه، ومنحه استقلالية عن أنواع التفكير الأخرى.
«أولمبيا» - إدوارد مانيه (1863). بالنسبة إلى كليمنت غرينبيرغ، كان مانيه أول رسام حداثي. لقد رسم مانيه لوحاته بأسلوبٍ مسطّح بشكلٍ متعمد.«أولمبيا» – إدوارد مانيه (1863). بالنسبة إلى كليمنت غرينبيرغ، كان مانيه أول رسام حداثي. لقد رسم مانيه لوحاته بأسلوبٍ مسطّح بشكلٍ متعمد.
بالطريقة نفسها، كان الرسامون الحداثيون – من إدوارد مانيه في القرن التاسع عشر إلى موريس لويس، وهو رسام يعمل ينتمي إلى رسامي أسلوب مجال ألوان في الولايات المتحدة في الوقت الذي كتب فيه غرينبيرغ مقالته – يعملون على ترسيخ الفن التعبيري «بشكل صارم في مجال تخصصه».
رأى غرينبيرغ أن وضوح الفن التجريدي -الذي كان صادقًا بالنسبة إلى الوسيط الذي يُعبّر من خلاله- معارضٌ لـ«الفن الشعبي المبتذل [الكيتش]» الذي ينُتج على نطاق واسع في الثقافة الشعبية. إن إزالة «الكيتش» كانت مسألة استجلاء وتوضيح تحتاجها جميع الفنون لكي تصبح تعبيرًا عن إمكاناتها الجمالية الكامنة.
اللوحات مسطّحة، وإيهام العمق الذي نجده في معظم الفن الغربي كان انحرافًا عن جوهر فن الرسم ذاته. كانت استقلالية الشكل الفني في جميع خصائصه دون أن تتلوث بأشكال فنية أخرى. وفقًا لغرينبيرغ، يعدّ الشكل واللون من أهم خصائص الرسم، و أفضل تمثيل لها يكون بشكلٍ مسطّح.
وهكذا دافع غرينبيرغ عن «التسطيح» الذي تجلّى في لوحات الفنانين الأمريكيين التجريدية مثل جاكسون بولوك باعتباره تحقيقًا لهذا الوضوح الحداثي. لقد ضم هؤلاء الفنانين معًا ضمن فريق واحد، وهم يمثّلون المرحلة التالية في الحداثة، وقد حلّت رؤيتهم الأمريكية المميزة محلّ الفن الأوروبي الطليعي.
وفي الوقت الذي أصبح فيه الفن التجريدي الأمريكي مهيمنًا، تراجعت هيمنة غرينبيرغ النقدية، وظهرت أشكال جديدة من الفن الطليعي، مستوحاة مباشرة من الثقافة الجماهيرية، وحلّت محلّ التعبيرية التجريدية في المخيال العام. تبنى فنانوّ «البوب» مثل: آندي وارهول، وريتشارد هاميلتون هذا النوع من «الفن الشعبي المبتذل» الذي رآه غرينبيرغ تلويثًا للفن الحقيقي.
استمرت الأعمال الفنية التجريدية، ولكن تخلّى الفنّانون التجريديون الأكثر جرأة عن الفكرة الصارمة «للنقد الحداثي»، وعن الوضوح المتعلق بخصوصية الوسيط الفني، وذلك لصالح أشكال أخرى من التعبير.
نظر فنانوّ «ما بعد الحداثة» إلى السخرية وعملية الرسم نفسها، كطرق لتجاوز الطريق المسدود للحداثة. تبنى الألماني غيرهارد ريختر كلا النهجين؛ فبعض أعماله التجريدية في الستينيات كانت مصنوعة بممسحاتٍ بدلًا من الفرشاة، حتى يتمكن من لفت الانتباه إلى عملية صنع اللوحة نفسها.
كانت «اللوحات التجريدية» البارزة الأخرى التي رسمها ريختر في الواقع صورًا واقعية مرسومة بعناية تعكس لوحاته التجريدية الأخرى. أصبحت طلائعية الرسم التجريدي مفهومية أكثر، ما جعل ضمنيًّا قضية الرسم تحظى باستقلالية أقل مما كان كان يعتقد النقاد الحداثيون.
قلّد فنانوّ «نيو جيو»، مثل: الرسام بيتر هالي، والنحات أشلي بيكرتون اللغة البصرية للتجريد الهندسي، لكنهما دمجاها مع السلع الاستهلاكية بألوانٍ تجارية فاتحة وأحيانًا فلورية.
منذ ذلك الجيل ما بعد الحداثي من الرسامين والنحاتين الممتد من الستينيات إلى التسعينيات، ازدهر التجريد متفرّعًا إلى عددٍ لا يُحصى من الأساليب والمقاربات بجوار الفن التشخيصي. هنا يمكن القول إنّ التجريد المتحرّر من عبء التوقعات الحداثية هو ببساطة نهج للتعبير مثل أيّ نهج آخر.
وتجدر الإشارة إلى أنّ بعض الفنانين التجريديين استخدموا الحيل البصرية المستعملة في الفن التشخيصي – مثل المنظور والتظليل – في لوحاتهم. ولاستخدامهم هذا أهداف فريدة و غالبًا لا تهتم بالنظرية.
قلّد فنانوّ «ما بعد الحداثة» مثل: بيتر هالي اللغة البصرية المستعملة في الفن التجريدي الحديث (في حالة بيتر، التجريد الهندسي)، للتعليق على طبيعة الفن والمعنى نفسه. تمثّل هذه الكتل الملونة «الخلايا» و«الأنابيب».قلّد فنانوّ «ما بعد الحداثة» مثل: بيتر هالي اللغة البصرية المستعملة في الفن التجريدي الحديث (في حالة بيتر، التجريد الهندسي)، للتعليق على طبيعة الفن والمعنى نفسه. تمثّل هذه الكتل الملونة «الخلايا» و«الأنابيب».
هذا هو التحرّر نحو الأفضل بين الرسامين التجريديين الذين يمكنهم الالتزام برؤيةٍ فريدة بالرسم على القماش. لكن فكّ ارتباط الفن التجريدي عن إطاره الفلسفي الأوسع أدى أيضًا إلى انتشارٍ يثير التساؤل لأعمال تجريدية متنوعة قابلة للاستهلاك – بمعنى أنّها فقدت قيمتها، وباتت تُباع وتُشترى سريعًا بأسعارٍ مربحة – يشتريها المشترون المتضاربون.
دفع هذا التحول الناقد جيري سالتز إلى كتابة: « الزومبي على الجدران: لماذا يبدو الكثير من التجريد الجديد متشابهًا؟». وقد شبه اللّوحات التجريدية بصورة «الزومبي»، تحقيرًا لأعمال عددٍ من الرسامين التجريديين البارزين، الذين استخدموا الفنّ وجماليته لتقديم أعمال مبتذلة.
ومن المفارقات أن هؤلاء الفنانين نظروا إلى الشكلانية بوصفها فنًّا حداثيًّا متبنّين منظور غرينبيرغ، لكنهم بالطبع قدّموا أعمالًا في ظلّ فراغ تاريخي وبعد فترةٍ طويلة حين لم يُصبح التجريد مثيرًا للاهتمام أو راديكاليًا بأي وجه من الوجوه.
في الواقع، لم يصل مشروع الحداثة في الفن التجريدي إلى نهايته، بل النقد. إنّ النقد -أيّ الإطار الفلسفي الواسع الذي يصادق على الأعمال الفنية ويثمّنها لأهميتها الثقافية والتاريخية- هو ما فقد التوجه والسلطة.
كان مسار الفن الغربي منذ عصر التنوير يتأرجح بين قطبي الدوغمائية النقدية والإبداع. تكمن المشكلة أنه في العقود الأخيرة، وفي ظلّ غياب أي مشروع نقدي متماسك، انجرف الفن نحو إرضاء اهتمامات دقيقة ومتنوعة تزداد باستمرار.
في حين كانت هناك «حركات» و«مدارس» فنية -مصطلحان يشيران إلى الوجهة والانضباط- لم يعد لدينا الآن سوى «مشاهد».
هذا ليس بالضرورة أمرًا سيئًا. ولكن في عالم حيث «كل شيء مقبول – anything goes»، لا يوجد مجال لهذا النوع من الابتكار والتجاوز الذي أدى إلى ظهور الفن التجريدي في الغرب، وهذا ما جعل الفن الحديث فنًّا مثيرًا للغاية.
من الصعب في هذه اللحظة التاريخية أن ندرك ما الذي جعل لوحة بولوك «رقم 32» مثيرة للانقسام، ومخلخلةً جدًا للمعايير، وفي الوقت نفسه محتفظةً بقيمةٍ عالية جدًا لأولئك الذين يعتقدون أن للفنِّ مكانًا في المجتمع يتجاوز المتعة.
[divider style=”solid” top=”20″ bottom=”20″]
[1] واللقب كذلك يُلمح إلى القاتل المتسلسل في لندن آخر القرن التاسع عشر: جاك السفّاح
Jack the ripper (مدير التحرير).
### خارج عقلك | توم تشاتفيلد – ت: محمد السعيد
عندما يكون هاتفي النقال بين يديّ، هل أكون أنا الشخص نفسه لو كان الهاتف في غرفة أخرى؟ من ناحية،...
### الدراما في التعليم: مقاربات وتطبيقات | نعيم حيماد
افتتاحيّة حظي استخدام الدراما في التعليمفي السنوات الأخيرة باهتمام كبير من قبل نخبة من المنظرين والممارسين للدراما في مجال التعليم....
### الحقائق المخفية | دي بي سي بيير – ت: محمد السعيد
يحمل جبل كلسي خشن في غرب إيران عددًا من النقوش البارزة، من بينها لوحة طولها خمسة وعشرين مترًا منقوشة...
### التغلُّب على كاشف الكذب | كلاريسا سيباغ-مونتِنفيوري – ت: محمد السعيد
حين اتُّهِمَتْ مربية الأطفال البريطانية لويز وودورد بهزِّ رضيع حتى الموت في مدينة نيوتن بولاية ماساتشوستس، لم تكتفِ بإعلان...
### عن منصة معنى
«معنى»، مؤسسة ثقافية تقدّمية ودار نشر تهتم بالفلسفة والمعرفة والفنون، عبر مجموعة متنوعة من المواد المقروءة والمسموعة والمرئية. انطلقت في 20 مارس 2019، بهدف إثراء المحتوى العربي، ورفع ذائقة ووعي المتلقّي المحلي والدولي، عبر الإنتاج الأصيل للمنصة والترجمة ونقل المعارف.
### روابط سريعة
### التصنيفات
### مرحبا بك!
قم بتسجيل الدخول إلى حسابك
تذكرني
### قم بإنشاء حساب جديد!
املأ النموذج أدناه للتسجيل
### طلب إعادة تعيين كلمة المرور
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان البريد الإلكتروني لإعادة تعيين كلمة المرور الخاصة بك.
### Add New Playlist
- Select Visibility -PublicPrivate
No Result
عرض جميع النتائج
-
00:00
00:00
-
00:00
00:00
|
article
|
Arabic
|
ar
|
الفنّ التجريدي: بين الماضي والحاضر - منصة معنى الثقافية
|
https://mana.net/abstract-art/
|
1,951 |
في الواقع، لم يصل مشروع الحداثة في الفن التجريدي إلى نهايته، بل النقد. إنّ النقد -أيّ الإطار الفلسفي الواسع الذي يصادق على الأعمال الفنية ويثمّنها لأهميتها الثقافية والتاريخية- هو ما فقد التوجه والسلطة.
|
paragraph
|
لا توجد منتجات في سلة المشتريات.
No Result
عرض جميع النتائج
الثلاثاء, سبتمبر 10, 2024
No Result
عرض جميع النتائج
No Result
عرض جميع النتائج
# الفنّ التجريدي: بين الماضي والحاضر
## ترجمة: أنطونيوس نادر
AA
AA
إعادة تعيين
فنٌ مليء بالتحديات
ثمّة خطٌ رفيع يفصل بين الفن التجريدي ومجرد الزخرفة، ولوحة «رقم 32» (نُشرت عام 1950)، لجاكسون بولوك تتأرجح بين هذا الخطّ. فهي لا تشير إلى معنىً واضح، ولكن لا يمكن القول إنّها بلا معنى على الإطلاق. كما أنّها ليست معبّرة بشكلٍ مباشر، ولا يعني هذا أنها لا تعبّر عن مدلولٍ ما. تحمل هذه اللوحة الكثير من المضامين عن الفن الغربي بالنسبة إلى شخصٍ خبيرٍ في تاريخ الفن؛ أما بالنسبة إلى شخصٍ عادي، فقد يراها عملًا مبتذلًا بالكاد يعبّر عن أمرٍ ما.
اللوحة شبكة من الخطوط وبقعٍ من الألوان، رُسمت عن طريق صبّ طلاءٍ رخيص بعشوائيةٍ مباشرة على القماش. تتكون اللوحة من طلاءٍ أسود فقط وقماشٍ خام. واللوحة ضخمة؛ إذ يبلغ طولها تسعة أقدام وعرضها خمسة عشر قدمًا، وتغطي مجال رؤية المشاهد أثناء اقترابه منها. تقليديًّا، حتى اللوحات التجريدية تتكون من أجزاءٍ مترابطة مع بؤر تركيز (emphases) وعمقٍ يُنقل من خلال اللون والظلال، ولكن «رقم 32» ليس لها أجزاء؛ إنّها تتكون من تعالقات، والبؤرة فيها تكمن عبر امتداد سطح القماش المستطيل.
يمنحها ما سبق عمقًا سطحيًا، وربما لا عمق فيها: مجرّد طلاء على قماش. إنّها عبث بالشكل واللون. حتى اسمها، ببساطة رقمٌ معيّن – رقم 32 – يجعلها تنأى بنفسها عن أي فكرة مفادها أنها تعكس مدلولًا محدّدًا. تشير عناوين أعمال بولوك الأخرى إلى نوعٍ من الاختبار الشخصي، وإلى الاستخدام السمفوني المتعدد الطبقات للون والملمس؛ خذ مثلًا لوحاته التي تحمل اسم: «إيقاع الخريف»، و«الضباب الأرجواني»، و«الأقطاب الزرقاء»، و«انعكاس الدنقلة الكبير».
هذا لا ينطبق على لوحة «رقم 32»؛ شكلها الخام وبساطتها دليل على أنّ الفنان لم يخطط مسبقًا لرسمها؛ أيّ أنّه لم ينتق الألوان ولا الطبقات. يبدو بولوك هنا أكثر حضورًا، من خلال لمساته الحادة. بالنسبة إلى مؤيديّ عمل بولوك، تختصر هذه اللوحة خلاصة نظرة الفنان الجمالية. أما بالنسبة للبعض الآخر، فهي لوحة مبتذلة.
وصف جوزيف بويس -النحات الألماني في فترة ما بعد الحرب- الفنَّ التجريدي الأمريكي بأنه مجرد «تغليف»، أيّ سطح بلا محتوى. في هذا الصدد، قد يتفق البعض أن لوحة «رقم 32» تجسد فراغ الفكر والشعور ذاك. فقد رأى الروائي والناقد الفني روبرت كوتس أن فن بولوك لم يكن سوى «انفجارات» غير منظمة من الطاقة العشوائية. غير أنّ طائفة كبيرة من متذوقي الفن التجريدي لا تروق إليهم أعمال بولوك ويرونها فنًّا محيرًا، حتى إنّ بعضهم يراها إهانةً للذوق أو الحسّ السليم.
عُرف بولوك بلقب: «جاك فنان النقط» (Jack the Dripper) [1] في الأوساط الإعلامية المشككة بعمله حيث ادعى كثر أن أيّ شخص يمكنه أن يرسم كما يرسم بولوك إلّا أنّ أحدًا لم يتجرأ على فعل ذلك.
«رقم 32» - جاكسون بولوك«رقم 32» – جاكسون بولوك
بيد أنّ هذا هو مغزى الفن التجريدي في التقليد الغربي: إنّه تحدّ. وفي ظل الكثير هذه التحديات، تُعد لوحة « رقم 32» اللوحة الأكثر تمثيلًا لهذا الفن.
قصة الفنّ التجريدي
مسار قصة الفن التجريدي مضمّنة في الدراسات التاريخية الفنية، إلّا أنّ المحطات الرئيسة لهذا المسار كانت محط تغييرات مفاجئة كلما اكتشف مؤرخوّ الفن حقائق جديدة.
انطلق مسار الفن التجريدي بدءًا من القرن التاسع عشر وما تلاه؛ حيث استفاد الفنانون من مادة الطلاء والجوانب الشكلية للرسم مثل اللون والدرجة والخطوط. يُعرف هذا الانشغال بالجوانب غير التمثيلية (non-representative) للفن باسم «الشكلانية»، لأنّه انشغال «بالشكل»، أيّ بتوسل شكل المحتوى بدلًا من المحتوى في ذاته. بالنسبة إلى الفنانين في القرن التاسع عشر، صُنّف الفن التجريدي على أنّه «فنٌّ من أجل الفنّ»، وكانت الفكرة الشائعة مفادها أنّ المتذوق للفن يمكنه الاستمتاع بالعمل دون اللجوء إلى معنى أو حتى أي شيء آخر يمثل أمرًا ما.
تمثّل لوحة «الموسيقى الهادئة باللّونين الأسود والذهبي – الصاروخ الساقط» (1872)، للفنان جيمس مكنيل ويسلر هذا الاتجاه الذي تبلور لاحقًا في الفن التجريدي. إنّ مشهد ويسلر الغامض من الناحية المكانيّة يقترب إلى التجريد، وذلك بمحاولته نقل الشعور أو الانطباع الخاص بالمشهد بدلًا من إعادة إنتاجه بحذافيره.
«الموسيقى الهادئة باللونين الأسود والذهبي - الصاروخ الساقط» (1872-1877) - جيمس أبوت مكنيل ويسلير«الموسيقى الهادئة باللونين الأسود والذهبي – الصاروخ الساقط» (1872-1877) – جيمس أبوت مكنيل ويسلير
في عام 1877، انتقد جون روسكين – أبرز نقّاد بريطانيا في ذلك الوقت – عمل ويسلير هذا نقدًا لاذعًا فشبهه «بمن قام برمي الطلاء في وجه الجمهور». تأثر ويسلر بهذا الكلام، فرفع دعوى قضائية ضد روسكين، بيد أنّه خسرها لأن المسؤولين عرضوا اللوحة -خطأً- مقلوبةً على المحكمة. أفلس ويسلير بسبب هذه القضية، لكن مسيرة تطور الفن التجريدي استمرت.
من ناحيةٍ أخرى، تحديد أول فنان تجريدي في العالم موضوع نزاع. في نظر أبحاث تاريخ الفن التقليدية، كان فاسيلي كاندينسكي – فنان روسي الجنسية رسم لوحات تجريدية بالكامل في مطلع عام 1911- هو أول فنان تجريدي.
لم ينل الفن التجريدي الرائد لهيلما أف كلينت تقديرًا إلا قبل سنوات قريبة. هذه صورة للمعرض الشهير في متحف غاغينهايم، عام 2018 .لم ينل الفن التجريدي الرائد لهيلما أف كلينت تقديرًا إلا قبل سنوات قريبة. هذه صورة للمعرض الشهير في متحف غاغينهايم، عام 2018 .
ولكن في الآونة الأخيرة، وبفضل المعرض الرائد في متحف مقاطعة لوس أنجلوس للفنون في عام 1986 الذي حمل اسم «الروحانية في الفن: الرسم التجريدي 1890 – 1985»، وقع الاختيار على هيلما أف كلينت كأول رسامة تجريدية. بدأت كلينت في رسم لوحات تجريدية بدءًا من عام 1906، وحملت مجموعتها عنوان «الفوضى البدائية». كانت الفنانة متكتمة في ما يتعلق بأعمالها التجريدية، ولم تُعرض أيّ منها في معارض عامة، وبقيت غير معروفة حتى أزيح عنها الستار مؤخرًا.
ولعل الجدال حول هوية أول من مارس الفن التجريدي سيستم، لكن الحقيقة الأكثر أهمية هي أن العديد من الفنانين الأوروبيين البارزين قد توصّلوا في أعمالهم إلى التجريد بحلول الحرب العالمية الأولى. لقد وجد كل منهم طريقته الخاصة في التخلي عن الفن التشخيصي (figurative painting). وجديرٌ بالذكر أنّه لم تكن هناك حركة «تجريدية» دولية ذات رؤية أو بيان مشترك.
في ضوء ذلك، فإن السؤال الملحّ حقًا هو: لمَ لمْ يتبنى الفنانون الغربيون الفن التجريدي على امتداد قرون عديدة؟ لماذا كان التجريد غير ضروري أو لا معنى له أو غير مناسب أو حتى لا يمكن تقبّله لقرونٍ متوالية في الفن الغربي؟
ظهرت العديد من التفسيرات لشرح ذلك. إحدى النظريات الأكثر وضوحًا هي أن ظهور التصوير الفوتوغرافي بوصفه شكلًا من أشكال الفن، إضافةً إلى تطور الفن الحديث، سببان رئيسان لإزاحة الرسم التشخيصي.
ثمّة إجابات أخرى غير ملموسة لاستكشاف الأسباب: ربما عندما أصبحت الأعمال الفنية قابلة للاستهالاك بشكل متزايد، مثل السلع، بات من السهولة فصل اللوحات والمنحوتات عن التجارب المحددة لمبدعيها. ربما أدت الحداثة في الغرب إلى إفراغ الفن من المحتوى التشخيصي؛ مما دفع الفنانين أيضًا إلى التخلي عن التمثيل التشخيصي.
كل من هذه الإجابات معقدة وتتطلب الكثير من الشرح، ولا يمكن إلا أن تكون تخمينات. لا توجد إجابة واضحة لهذه المسألة. ربما يكون من الأفضل طرح السؤال حول سبب تقبّل الفن التجريدي فنًّا من الفنون الرسمية في تاريخ الفن الغربي في مرحلة معينة على علماء الأنثروبولوجيا بدلًا من طرحها على مؤرخي الفن. فما هو واضح أن الفن التجريدي كان موجودًا دائمًا في مناطق أخرى من العالم.
ما جعل الفن التجريدي فنًّا حديثًا على وجه التحديد في العالم الغربي هو نظام المعارض، الذي أعطى القيمة الفنية للأعمال المعروضة. وكما هو واضح فقد ازدهر التجريد لآلاف السنين المناطق الشرقية والجنوبية من العالم، دون عناء التحقق من مكانة الأعمال المعروضة في الصالونات [والمعارض، كما هو في العالم الغربي].
الواقع الافتراضي و«الافتراضية»
يتبنى بيبي كرمل وهو مؤرخ فني، في كتابه « الفن التجريدي: تاريخ عالمي»، فكرة أنّ الفن التجريدي كان دائمًا موجودًا بشكل طبيعي عندما ننظر إليه نظرة شاملة وعالمية، بيد أنّه يتحاشى طرح نظرية عن تطور الفن التجريدي. بالنسبة إلى كرمل، فإنّ هذا الفنّ متجذر في العالم الحقيقي، وهو ليس فنًّا «مجردًا» على الإطلاق، كما أنّه تقليد عالمي وليس محليًا.
في دراسته حول الفن التجريدي يقسم العمل الفني إلى خمس فئات واسعة تنتمي إلى العالم الحقيقي: الأجسام، والمناظر الطبيعية، والكون، والبنى، والعلامات والأنماط. من خلال فحص الفن التجريدي بهذه الطريقة، يرى كرمل في اللوحات التجريدية موضوعات قابلة للتحليل، بعكس النقاد والمؤرخين الأرثوذكسيين الذين رأوا فيها مجرّد توليفات شكلية مكوّنة من لون وشكل.
ربما يكون من الأفضل أن يطلق على الفن التجريدي: فن ما تم تجريده (abstracted art)؛ لأنّ الفنانين التجريديين عادةً ما يستخلصون ويجرّدون تعبيرات التجارب في شكل ولون، أكثر من كونها توليفات مكونة من شكل ولون. ومرّد ذلك الطبيعة الجوهرية للرسم والنحت؛ فهما (الشكل اللّون) وسيطان للتعبير، مثل الشاشة أو المسرح لخيال الفنان. كما هو الحال في المسرح أو السينما، فإنّ جمهور اللوحة أو المنحوتة يعلّق معتقداته من أجل أن يتقبل المشهد.
من المفيد التفكير في اللوحة التشخيصية التقليدية أو النحت على أنها حقيقة افتراضية. إذْ استخدم الفنانون لقرون عديدة الحيل البصرية -مثل المنظور الخطي، والتقصير المسبق، والتظليل- لمحاكاة الطريقة التي ندرك بها الأشياء في الفضاء الحقيقي. إنّ المشاهد تُنشأ في فضاء افتراضي – سواء كانت القاعدة التي تدعم التمثال أو القماش – ليراها المشاهدون بوصفها خدعة بصرية.
«القديس بطرس شفاء أحد الأشخاص وبعث تابيثا من الموت» ماسولينو دي بانيكال. اعتمد الرسم الغربي قبل القرن العشرين على الحيل البصرية لخلق واقع افتراضي. إحدى هذه الحيل هي المنظور الخطي، وهذه اللوحة هي أول مثال لاستخدام نقطة تلاشٍ متسقة.«القديس بطرس شفاء أحد الأشخاص وبعث تابيثا من الموت» ماسولينو دي بانيكال. اعتمد الرسم الغربي قبل القرن العشرين على الحيل البصرية لخلق واقع افتراضي. إحدى هذه الحيل هي المنظور الخطي، وهذه اللوحة هي أول مثال لاستخدام نقطة تلاشٍ متسقة.
يستمتع مشاهدوّ الأعمال الفنية العظيمة معنى ما يُرسم، ويقدرون الطريقة التي يتجلّى فيها الوهم عبر تمازج اللون والشكل.
يبقى الفن التجريدي، إلى حدٍ ما، ضمن إطار التجربة الجمالية. فقد سعت حركات الفن الحديث التي أدت إلى التجريد -أيّ «مدارس الفن»، مثل الانطباعية والفاوفية والتكعيبية- إلى تمثيل العالم بشكل مختلف عن كل الفنون التي سبقتها. إذْ ادعوا الاقتراب من الحقيقة الذاتية عبر تهميش جميع الحيل الوهمية التقليدية التي حاولت إعادة إنتاج الواقع بحذافيره كحقيقة موضوعية.
«الأحمر والأصفر والأزرق» (1925) واسيلي كاندينسكي. كان كاندينسكي يعدّ لفترةٍ طويلة أب الرسم التجريدي الغربي.«الأحمر والأصفر والأزرق» (1925) واسيلي كاندينسكي. كان كاندينسكي يعدّ لفترةٍ طويلة أب الرسم التجريدي الغربي.
بالنسبة إلى هذه المدارس، أصبح الفن أقل من أن يوصف بأنّه واقع افتراضي، لكنه مع ذلك احتفظ بالافتراضية، وأصبح افتراضيًا. لقد أخذ الفن التجريدي مسار التطور هذا إلى أقصاه: من الواقع الافتراضي إلى الافتراضية.
ماذا تعني «الافتراضية» هنا؟ إنّها الوجود كجوهر وتأثير، ولكن بدون اللجوء إلى الواقع. اللوحة التجريدية التي رسمها كاندينسكي، على سبيل المثال، ما زالت تُعدّ علاقة متبادلة بين الشكل واللون، و تعتمد على الرسم كمستوى تخطيطي: إنها نافذة تطلّ على «الواقع» الفردي الذي تصوّره كاندينسكي.
وما تزال العناصر في لوحات كاندينسكي تحظى بعلاقة متبادلة، كما هو الحال في فضاء الواقع الافتراضي للوحة التشخيصية؛ فجوهر الرسم سليم إذ إنّ ذلك الفضاء الافتراضي ما زال موجودًا. عندما يكون الفن التجريدي بناءً خالصًا، ويتخلص من المساحة الافتراضية الملازمة للرسم والنحت، يصبح متميزًا عنهما.
وصف دونالد جود الفنان التخفيفي (minimalist) مثل هذه الأعمال الفنية بأنها «أجسام محدّدة» (Specific Objects). إنّه مصطلح غير دقيق، ولكنه يصلح لإظهار أن مثل هذه الأعمال الفنية ليست رسمًا ولا نحتًا، ولكنها فئة أخرى تمامًا.
رأى دونالد جود أن أعماله وأعمال العديد من معاصريه تشغل مساحة هجينة، لا هي لوحات ولا هي نحت. عمل دون عنوان لدونالد جود.
استخدم جود هذا المصطلح لوصف أعماله الخاصة، ولكنه ينطبق على لوحات كازيمير ماليفيتش وفرانك ستيلا أحادية اللون، والتي تجعل اللوحة تندمج مع نفسها بالكامل، من أجل الوصول للتأثير الذي يأمل العمل في تحقيقه.
في مثل هذه الأعمال، لم يعد قماش اللّوحة (أو القاعدة) سطحًا تتفاعل فيه الأشكال والألوان في الفضاء الافتراضي. بدلاً من ذلك، تتفاعل الأشكال والألوان في الفضاء الحقيقي، في فضائنا.
تختلف معايير النجاح أو الفشل لهذه الأعمال عن الخصائص التقليدية للرسم والنحت. رأى جود أنّ خصائص الرسم والنحت تقف في طريق ما أراد تحقيقه من خلال اللون والشكل. في رأيه، كان لـ «أجسامه المحددة» تأثيرًا أحدّ من غيرها.
الواقع والأشكال الجديدة للإدراك الحسّي
الرسم نفسه له ثلاثة أنواع عامة من التجريد؛ أولًا، ثمّة أسلوب تعبيري تُرسم فيه الأشكال بحركاتٍ غير مقيدة؛ ثم هناك التجريد الهندسي حيث يتم هيكلة الأشكال؛ أما النوع الثالث، فهو تجريد مجال اللون حيث يتم عرض مساحات من الألوان بطريقةٍ لا شكل واضح لها.
لم تكن هذه «الأنماط» (styles) أنماطًا عرضيةً أو تعتمد على ذوق أو ميل الرسام كوسيلة لتحقيق هدفٍ ما من البحث الفني. وخير مثال على ذلك هو الفنان الذي غالبًا ما ينظر إلى عمله على أنّه ذروة التجريد الهندسي: بيت موندريان. إنّ لوحات بيت موندريان المكونة من شبكات (grids) ذات الخطوط السوداء والأجزاء الملونة على خلفية بيضاء؛ تهدف إلى استحضار «حقيقة أعلى».
بالنسبة إلى موندريان، كان الفن في جوهره معارضًا للواقع؛ «لأن الواقع يتعارض مع الروحي». بغض النظر عن هذه اللوحة الأشهر لموندريان، فإنّ جوانب الرسم التي تهم هذا الفنان حقًا لم تكن الجوانب المحددة للموضوع -أيّ ماذا أو ما يتم تصويره في اللوحة مثلًا- بل الجوانب القابلة للفهم عالميًا للشكل والخط واللون. إنّ لوحات موندريان، مثلها مثل لوحات الفنانين الآخرين، هي محاولة لاستخلاص الشكل واللون من أجل الاقتراب من ذلك الجوهر العالمي والروحي للفن.
عبّر موندريان عن رغبته في الوصول إلى «أساس» الأشياء من خلال الحدس، كالعديد من الفنانين التجريديين الآخرين في النصف الأول من القرن العشرين الذين رغبوا في الوصول إلى قوى غير مرئية حولنا، ولكنها معروفة أو محدوسة.
«التكوين الثاني باللون الأحمر والأزرق والأصفر» (1930) - بيت موندريان«التكوين الثاني باللون الأحمر والأزرق والأصفر» (1930) – بيت موندريان
في أواخر القرن التاسع عشر، لاحظ العلماء بشكلٍ أفضل مما سبق القوى غير المرئية مع انتشار التقنيات الجديدة، وأصبح من الواضح أن العالم أرحب مما يبدو للعين. في الوقت نفسه، ظهرت حركات روحية بديلة جمعت بين الأفكار الأفلاطونية والتصوف.
كان كلينت وموندريان من بين العديد من الفنانين الذين انغمسوا في أشكال الروحانية خارج العوالم التقليدية للدين. اعتقدت كلينت أن لوحاتها هي وحي عالم روحي، وأن مهمتها كانت العمل «على مستوى روحاني» لتمثيل روح الإنسان، بدلًا من صورته الفانية.
بحلول عشرينيات القرن الماضي، كانت نظرية فرويد عن للعقل البشري قد تغلغلت أيضًا في عالم الفن. كذلك السريالية، وهي حركة منظمة بإحكام بدأت مع بعض الفنانين الذين سعوا إلى التنقيب عن الإمكانات الإبداعية للعقل الباطن، وهي الحركة الثقافية التي كانت سائدة في أوروبا بين الحربين العالميتين.
لم تكن السريالية دوغمائية في محاولتها لاستكشاف اللاوعي، ولذلك ظهر عدد من الأساليب والطرق لمحاولة إخراج اللاوعي إلى السطح. إحدى هذه الأساليب كان الرسم الآلي (Automatism)، وهي عملية يتخلى فيها الفنان عن السيطرة الواعية لليد التي ترسم أو تصور. في هذا المجال، تبنى الفنانون مثل أندريه ماسون وخوان ميرو الفرصة لبناء صورهم باستخدام حركات حرّة، وحتى إلقاء الطلاء على القماش.
طور أرشيل غوركي -هو مهاجر أرمني عاش في الولايات المتحدة- أسلوبًا في الرسم يدمج بين الرسم الآلي وتجريد مجال الألوان. لوحاته في الأربعينيات حجمُها ضخم – ومرد ذلك تأثره بأعماله السابقة كفنان جداري مُعيّن من الدولة خلال السنوات الأخيرة من الكساد الكبير – لكنها معبّرة وغنائية في الرسم بالفرشاة.
ألهم إدماج غوركي للأنماط جيلًا واسعًا من الفنانين الأمريكيين في فترة ما بعد الحرب لاحتضان التجريد الواسع النطاق. ما نسميه الآن «التعبيرية التجريدية»، وكان ذاك الجيل في الواقع مجموعة فضفاضة من الفنانين الذين يستخدمون أنماطًا متعدّدة من أنماط التجريد.
ربما كان القاسم المشترك بين هؤلاء الفنانين – على الأقل في السنوات الأولى – هو دعم جيل جديد من النقاد بقيادة كليمنت غرينبيرغ، الذي كان يعتقد أن التجريد هو التعبير الأسمى للفن الغربي.
«الكبد هو مشط الديك» (1944) - أرشيل جوركي.«الكبد هو مشط الديك» (1944) – أرشيل جوركي.
الحداثة ومصير الفنّ الغربي
كان يُعتقد في بعض الأوساط الفكرية المؤثرة أنّ الفن يتقدم نحو هدف؛ وهذا المضمون يشتمل عليه مصطلح «الطليعية» (Avant-garde)، الذي يُوصف به الفنّانون الذين يبتكرون أرضية جمالية جديدة. أصل المصطلح فرنسي يُطلق على الجنود الذين يتقدمون إلى مناطق جديدة.
بالنسبة إلى غرينبيرغ، لم يكن هؤلاء الفنّانون يوسّعون حدود إمكانات الفن؛ بل كانوا يتقدمون نحو الهدف الحقيقي والمفرد لكل شكل فني.
يُعدّ غرينبيرغ شخصية مهمة في تاريخ الفن التجريدي، وذلك لأمرين: بوصفه مناصرًا رائدًا في مسألة تفوق الفن التجريدي على غيره من أنواع الرسم، وتأكيده للقوة التي امتلكها هذا الفن. كان ناقدًا في اللجنة الأمريكية للحريّة الثقافية التي تمولها الدولة، وهي مجموعة تم إنشاؤها لتعزيز الفن الأمريكي على المستوى الدولي.
أصبحت أفكار غرينبيرغ مؤثرة عندما كانت الولايات المتحدة جزءًا من الحرب على الفاشية والنازية، وخلال الحرب الباردة اللاحقة ضد الشيوعية السوفيتية. كانت معايير الفن الفاشي والسوفياتي واضحة، وهي ما تحددها السلطات الثقافية أنها كذلك، بيد أنّه ما لم يكن واضحًا هو معايير الفن «الجيد» وتحديدًا في الغرب الديمقراطي.
كان الماركسيون هم من تعاطف مع غرينبيرغ في البداية، لكن ارتبط تفكيره بشكلٍ متزايد بالهيمنة الثقافية الأمريكية. بالنسبة إليه، كان التجريد في أعمال بولوك فنًا مثاليًا لمجتمع ديمقراطي. تتجلى الحداثة في الفن، وفقًا لغرينبيرغ، في إطار التنوير الأوروبي؛ أيّ في فترة ازدهار الأفكار الفلسفية والعلمية التي أعطت الأولوية للعقل.
في مقالته المؤثرة « الرسم الحداثي» (1961)، وصفَ غرينبيرغ إيمانويل كانط – الفيلسوف الألماني في عصر التنوير – بأنّه «أول حداثي حقيقي». كان أسلوب كانط في «النقد» هو استخدام العقل لنقد العقل بغرض توضيحه، ومنحه استقلالية عن أنواع التفكير الأخرى.
«أولمبيا» - إدوارد مانيه (1863). بالنسبة إلى كليمنت غرينبيرغ، كان مانيه أول رسام حداثي. لقد رسم مانيه لوحاته بأسلوبٍ مسطّح بشكلٍ متعمد.«أولمبيا» – إدوارد مانيه (1863). بالنسبة إلى كليمنت غرينبيرغ، كان مانيه أول رسام حداثي. لقد رسم مانيه لوحاته بأسلوبٍ مسطّح بشكلٍ متعمد.
بالطريقة نفسها، كان الرسامون الحداثيون – من إدوارد مانيه في القرن التاسع عشر إلى موريس لويس، وهو رسام يعمل ينتمي إلى رسامي أسلوب مجال ألوان في الولايات المتحدة في الوقت الذي كتب فيه غرينبيرغ مقالته – يعملون على ترسيخ الفن التعبيري «بشكل صارم في مجال تخصصه».
رأى غرينبيرغ أن وضوح الفن التجريدي -الذي كان صادقًا بالنسبة إلى الوسيط الذي يُعبّر من خلاله- معارضٌ لـ«الفن الشعبي المبتذل [الكيتش]» الذي ينُتج على نطاق واسع في الثقافة الشعبية. إن إزالة «الكيتش» كانت مسألة استجلاء وتوضيح تحتاجها جميع الفنون لكي تصبح تعبيرًا عن إمكاناتها الجمالية الكامنة.
اللوحات مسطّحة، وإيهام العمق الذي نجده في معظم الفن الغربي كان انحرافًا عن جوهر فن الرسم ذاته. كانت استقلالية الشكل الفني في جميع خصائصه دون أن تتلوث بأشكال فنية أخرى. وفقًا لغرينبيرغ، يعدّ الشكل واللون من أهم خصائص الرسم، و أفضل تمثيل لها يكون بشكلٍ مسطّح.
وهكذا دافع غرينبيرغ عن «التسطيح» الذي تجلّى في لوحات الفنانين الأمريكيين التجريدية مثل جاكسون بولوك باعتباره تحقيقًا لهذا الوضوح الحداثي. لقد ضم هؤلاء الفنانين معًا ضمن فريق واحد، وهم يمثّلون المرحلة التالية في الحداثة، وقد حلّت رؤيتهم الأمريكية المميزة محلّ الفن الأوروبي الطليعي.
وفي الوقت الذي أصبح فيه الفن التجريدي الأمريكي مهيمنًا، تراجعت هيمنة غرينبيرغ النقدية، وظهرت أشكال جديدة من الفن الطليعي، مستوحاة مباشرة من الثقافة الجماهيرية، وحلّت محلّ التعبيرية التجريدية في المخيال العام. تبنى فنانوّ «البوب» مثل: آندي وارهول، وريتشارد هاميلتون هذا النوع من «الفن الشعبي المبتذل» الذي رآه غرينبيرغ تلويثًا للفن الحقيقي.
استمرت الأعمال الفنية التجريدية، ولكن تخلّى الفنّانون التجريديون الأكثر جرأة عن الفكرة الصارمة «للنقد الحداثي»، وعن الوضوح المتعلق بخصوصية الوسيط الفني، وذلك لصالح أشكال أخرى من التعبير.
نظر فنانوّ «ما بعد الحداثة» إلى السخرية وعملية الرسم نفسها، كطرق لتجاوز الطريق المسدود للحداثة. تبنى الألماني غيرهارد ريختر كلا النهجين؛ فبعض أعماله التجريدية في الستينيات كانت مصنوعة بممسحاتٍ بدلًا من الفرشاة، حتى يتمكن من لفت الانتباه إلى عملية صنع اللوحة نفسها.
كانت «اللوحات التجريدية» البارزة الأخرى التي رسمها ريختر في الواقع صورًا واقعية مرسومة بعناية تعكس لوحاته التجريدية الأخرى. أصبحت طلائعية الرسم التجريدي مفهومية أكثر، ما جعل ضمنيًّا قضية الرسم تحظى باستقلالية أقل مما كان كان يعتقد النقاد الحداثيون.
قلّد فنانوّ «نيو جيو»، مثل: الرسام بيتر هالي، والنحات أشلي بيكرتون اللغة البصرية للتجريد الهندسي، لكنهما دمجاها مع السلع الاستهلاكية بألوانٍ تجارية فاتحة وأحيانًا فلورية.
منذ ذلك الجيل ما بعد الحداثي من الرسامين والنحاتين الممتد من الستينيات إلى التسعينيات، ازدهر التجريد متفرّعًا إلى عددٍ لا يُحصى من الأساليب والمقاربات بجوار الفن التشخيصي. هنا يمكن القول إنّ التجريد المتحرّر من عبء التوقعات الحداثية هو ببساطة نهج للتعبير مثل أيّ نهج آخر.
وتجدر الإشارة إلى أنّ بعض الفنانين التجريديين استخدموا الحيل البصرية المستعملة في الفن التشخيصي – مثل المنظور والتظليل – في لوحاتهم. ولاستخدامهم هذا أهداف فريدة و غالبًا لا تهتم بالنظرية.
قلّد فنانوّ «ما بعد الحداثة» مثل: بيتر هالي اللغة البصرية المستعملة في الفن التجريدي الحديث (في حالة بيتر، التجريد الهندسي)، للتعليق على طبيعة الفن والمعنى نفسه. تمثّل هذه الكتل الملونة «الخلايا» و«الأنابيب».قلّد فنانوّ «ما بعد الحداثة» مثل: بيتر هالي اللغة البصرية المستعملة في الفن التجريدي الحديث (في حالة بيتر، التجريد الهندسي)، للتعليق على طبيعة الفن والمعنى نفسه. تمثّل هذه الكتل الملونة «الخلايا» و«الأنابيب».
هذا هو التحرّر نحو الأفضل بين الرسامين التجريديين الذين يمكنهم الالتزام برؤيةٍ فريدة بالرسم على القماش. لكن فكّ ارتباط الفن التجريدي عن إطاره الفلسفي الأوسع أدى أيضًا إلى انتشارٍ يثير التساؤل لأعمال تجريدية متنوعة قابلة للاستهلاك – بمعنى أنّها فقدت قيمتها، وباتت تُباع وتُشترى سريعًا بأسعارٍ مربحة – يشتريها المشترون المتضاربون.
دفع هذا التحول الناقد جيري سالتز إلى كتابة: « الزومبي على الجدران: لماذا يبدو الكثير من التجريد الجديد متشابهًا؟». وقد شبه اللّوحات التجريدية بصورة «الزومبي»، تحقيرًا لأعمال عددٍ من الرسامين التجريديين البارزين، الذين استخدموا الفنّ وجماليته لتقديم أعمال مبتذلة.
ومن المفارقات أن هؤلاء الفنانين نظروا إلى الشكلانية بوصفها فنًّا حداثيًّا متبنّين منظور غرينبيرغ، لكنهم بالطبع قدّموا أعمالًا في ظلّ فراغ تاريخي وبعد فترةٍ طويلة حين لم يُصبح التجريد مثيرًا للاهتمام أو راديكاليًا بأي وجه من الوجوه.
في الواقع، لم يصل مشروع الحداثة في الفن التجريدي إلى نهايته، بل النقد. إنّ النقد -أيّ الإطار الفلسفي الواسع الذي يصادق على الأعمال الفنية ويثمّنها لأهميتها الثقافية والتاريخية- هو ما فقد التوجه والسلطة.
كان مسار الفن الغربي منذ عصر التنوير يتأرجح بين قطبي الدوغمائية النقدية والإبداع. تكمن المشكلة أنه في العقود الأخيرة، وفي ظلّ غياب أي مشروع نقدي متماسك، انجرف الفن نحو إرضاء اهتمامات دقيقة ومتنوعة تزداد باستمرار.
في حين كانت هناك «حركات» و«مدارس» فنية -مصطلحان يشيران إلى الوجهة والانضباط- لم يعد لدينا الآن سوى «مشاهد».
هذا ليس بالضرورة أمرًا سيئًا. ولكن في عالم حيث «كل شيء مقبول – anything goes»، لا يوجد مجال لهذا النوع من الابتكار والتجاوز الذي أدى إلى ظهور الفن التجريدي في الغرب، وهذا ما جعل الفن الحديث فنًّا مثيرًا للغاية.
من الصعب في هذه اللحظة التاريخية أن ندرك ما الذي جعل لوحة بولوك «رقم 32» مثيرة للانقسام، ومخلخلةً جدًا للمعايير، وفي الوقت نفسه محتفظةً بقيمةٍ عالية جدًا لأولئك الذين يعتقدون أن للفنِّ مكانًا في المجتمع يتجاوز المتعة.
[divider style=”solid” top=”20″ bottom=”20″]
[1] واللقب كذلك يُلمح إلى القاتل المتسلسل في لندن آخر القرن التاسع عشر: جاك السفّاح
Jack the ripper (مدير التحرير).
### خارج عقلك | توم تشاتفيلد – ت: محمد السعيد
عندما يكون هاتفي النقال بين يديّ، هل أكون أنا الشخص نفسه لو كان الهاتف في غرفة أخرى؟ من ناحية،...
### الدراما في التعليم: مقاربات وتطبيقات | نعيم حيماد
افتتاحيّة حظي استخدام الدراما في التعليمفي السنوات الأخيرة باهتمام كبير من قبل نخبة من المنظرين والممارسين للدراما في مجال التعليم....
### الحقائق المخفية | دي بي سي بيير – ت: محمد السعيد
يحمل جبل كلسي خشن في غرب إيران عددًا من النقوش البارزة، من بينها لوحة طولها خمسة وعشرين مترًا منقوشة...
### التغلُّب على كاشف الكذب | كلاريسا سيباغ-مونتِنفيوري – ت: محمد السعيد
حين اتُّهِمَتْ مربية الأطفال البريطانية لويز وودورد بهزِّ رضيع حتى الموت في مدينة نيوتن بولاية ماساتشوستس، لم تكتفِ بإعلان...
### عن منصة معنى
«معنى»، مؤسسة ثقافية تقدّمية ودار نشر تهتم بالفلسفة والمعرفة والفنون، عبر مجموعة متنوعة من المواد المقروءة والمسموعة والمرئية. انطلقت في 20 مارس 2019، بهدف إثراء المحتوى العربي، ورفع ذائقة ووعي المتلقّي المحلي والدولي، عبر الإنتاج الأصيل للمنصة والترجمة ونقل المعارف.
### روابط سريعة
### التصنيفات
### مرحبا بك!
قم بتسجيل الدخول إلى حسابك
تذكرني
### قم بإنشاء حساب جديد!
املأ النموذج أدناه للتسجيل
### طلب إعادة تعيين كلمة المرور
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان البريد الإلكتروني لإعادة تعيين كلمة المرور الخاصة بك.
### Add New Playlist
- Select Visibility -PublicPrivate
No Result
عرض جميع النتائج
-
00:00
00:00
-
00:00
00:00
|
article
|
Arabic
|
ar
|
الفنّ التجريدي: بين الماضي والحاضر - منصة معنى الثقافية
|
https://mana.net/abstract-art/
|
1,952 |
في الواقع، لم يصل مشروع الحداثة في الفن التجريدي إلى نهايته، بل النقد.
|
sentence
|
في الواقع، لم يصل مشروع الحداثة في الفن التجريدي إلى نهايته، بل النقد. إنّ النقد -أيّ الإطار الفلسفي الواسع الذي يصادق على الأعمال الفنية ويثمّنها لأهميتها الثقافية والتاريخية- هو ما فقد التوجه والسلطة.
|
paragraph
|
Arabic
|
ar
|
الفنّ التجريدي: بين الماضي والحاضر - منصة معنى الثقافية
|
https://mana.net/abstract-art/
|
1,953 |
إنّ النقد -أيّ الإطار الفلسفي الواسع الذي يصادق على الأعمال الفنية ويثمّنها لأهميتها الثقافية والتاريخية- هو ما فقد التوجه والسلطة.
|
sentence
|
في الواقع، لم يصل مشروع الحداثة في الفن التجريدي إلى نهايته، بل النقد. إنّ النقد -أيّ الإطار الفلسفي الواسع الذي يصادق على الأعمال الفنية ويثمّنها لأهميتها الثقافية والتاريخية- هو ما فقد التوجه والسلطة.
|
paragraph
|
Arabic
|
ar
|
الفنّ التجريدي: بين الماضي والحاضر - منصة معنى الثقافية
|
https://mana.net/abstract-art/
|
1,954 |
كان مسار الفن الغربي منذ عصر التنوير يتأرجح بين قطبي الدوغمائية النقدية والإبداع. تكمن المشكلة أنه في العقود الأخيرة، وفي ظلّ غياب أي مشروع نقدي متماسك، انجرف الفن نحو إرضاء اهتمامات دقيقة ومتنوعة تزداد باستمرار.
|
paragraph
|
لا توجد منتجات في سلة المشتريات.
No Result
عرض جميع النتائج
الثلاثاء, سبتمبر 10, 2024
No Result
عرض جميع النتائج
No Result
عرض جميع النتائج
# الفنّ التجريدي: بين الماضي والحاضر
## ترجمة: أنطونيوس نادر
AA
AA
إعادة تعيين
فنٌ مليء بالتحديات
ثمّة خطٌ رفيع يفصل بين الفن التجريدي ومجرد الزخرفة، ولوحة «رقم 32» (نُشرت عام 1950)، لجاكسون بولوك تتأرجح بين هذا الخطّ. فهي لا تشير إلى معنىً واضح، ولكن لا يمكن القول إنّها بلا معنى على الإطلاق. كما أنّها ليست معبّرة بشكلٍ مباشر، ولا يعني هذا أنها لا تعبّر عن مدلولٍ ما. تحمل هذه اللوحة الكثير من المضامين عن الفن الغربي بالنسبة إلى شخصٍ خبيرٍ في تاريخ الفن؛ أما بالنسبة إلى شخصٍ عادي، فقد يراها عملًا مبتذلًا بالكاد يعبّر عن أمرٍ ما.
اللوحة شبكة من الخطوط وبقعٍ من الألوان، رُسمت عن طريق صبّ طلاءٍ رخيص بعشوائيةٍ مباشرة على القماش. تتكون اللوحة من طلاءٍ أسود فقط وقماشٍ خام. واللوحة ضخمة؛ إذ يبلغ طولها تسعة أقدام وعرضها خمسة عشر قدمًا، وتغطي مجال رؤية المشاهد أثناء اقترابه منها. تقليديًّا، حتى اللوحات التجريدية تتكون من أجزاءٍ مترابطة مع بؤر تركيز (emphases) وعمقٍ يُنقل من خلال اللون والظلال، ولكن «رقم 32» ليس لها أجزاء؛ إنّها تتكون من تعالقات، والبؤرة فيها تكمن عبر امتداد سطح القماش المستطيل.
يمنحها ما سبق عمقًا سطحيًا، وربما لا عمق فيها: مجرّد طلاء على قماش. إنّها عبث بالشكل واللون. حتى اسمها، ببساطة رقمٌ معيّن – رقم 32 – يجعلها تنأى بنفسها عن أي فكرة مفادها أنها تعكس مدلولًا محدّدًا. تشير عناوين أعمال بولوك الأخرى إلى نوعٍ من الاختبار الشخصي، وإلى الاستخدام السمفوني المتعدد الطبقات للون والملمس؛ خذ مثلًا لوحاته التي تحمل اسم: «إيقاع الخريف»، و«الضباب الأرجواني»، و«الأقطاب الزرقاء»، و«انعكاس الدنقلة الكبير».
هذا لا ينطبق على لوحة «رقم 32»؛ شكلها الخام وبساطتها دليل على أنّ الفنان لم يخطط مسبقًا لرسمها؛ أيّ أنّه لم ينتق الألوان ولا الطبقات. يبدو بولوك هنا أكثر حضورًا، من خلال لمساته الحادة. بالنسبة إلى مؤيديّ عمل بولوك، تختصر هذه اللوحة خلاصة نظرة الفنان الجمالية. أما بالنسبة للبعض الآخر، فهي لوحة مبتذلة.
وصف جوزيف بويس -النحات الألماني في فترة ما بعد الحرب- الفنَّ التجريدي الأمريكي بأنه مجرد «تغليف»، أيّ سطح بلا محتوى. في هذا الصدد، قد يتفق البعض أن لوحة «رقم 32» تجسد فراغ الفكر والشعور ذاك. فقد رأى الروائي والناقد الفني روبرت كوتس أن فن بولوك لم يكن سوى «انفجارات» غير منظمة من الطاقة العشوائية. غير أنّ طائفة كبيرة من متذوقي الفن التجريدي لا تروق إليهم أعمال بولوك ويرونها فنًّا محيرًا، حتى إنّ بعضهم يراها إهانةً للذوق أو الحسّ السليم.
عُرف بولوك بلقب: «جاك فنان النقط» (Jack the Dripper) [1] في الأوساط الإعلامية المشككة بعمله حيث ادعى كثر أن أيّ شخص يمكنه أن يرسم كما يرسم بولوك إلّا أنّ أحدًا لم يتجرأ على فعل ذلك.
«رقم 32» - جاكسون بولوك«رقم 32» – جاكسون بولوك
بيد أنّ هذا هو مغزى الفن التجريدي في التقليد الغربي: إنّه تحدّ. وفي ظل الكثير هذه التحديات، تُعد لوحة « رقم 32» اللوحة الأكثر تمثيلًا لهذا الفن.
قصة الفنّ التجريدي
مسار قصة الفن التجريدي مضمّنة في الدراسات التاريخية الفنية، إلّا أنّ المحطات الرئيسة لهذا المسار كانت محط تغييرات مفاجئة كلما اكتشف مؤرخوّ الفن حقائق جديدة.
انطلق مسار الفن التجريدي بدءًا من القرن التاسع عشر وما تلاه؛ حيث استفاد الفنانون من مادة الطلاء والجوانب الشكلية للرسم مثل اللون والدرجة والخطوط. يُعرف هذا الانشغال بالجوانب غير التمثيلية (non-representative) للفن باسم «الشكلانية»، لأنّه انشغال «بالشكل»، أيّ بتوسل شكل المحتوى بدلًا من المحتوى في ذاته. بالنسبة إلى الفنانين في القرن التاسع عشر، صُنّف الفن التجريدي على أنّه «فنٌّ من أجل الفنّ»، وكانت الفكرة الشائعة مفادها أنّ المتذوق للفن يمكنه الاستمتاع بالعمل دون اللجوء إلى معنى أو حتى أي شيء آخر يمثل أمرًا ما.
تمثّل لوحة «الموسيقى الهادئة باللّونين الأسود والذهبي – الصاروخ الساقط» (1872)، للفنان جيمس مكنيل ويسلر هذا الاتجاه الذي تبلور لاحقًا في الفن التجريدي. إنّ مشهد ويسلر الغامض من الناحية المكانيّة يقترب إلى التجريد، وذلك بمحاولته نقل الشعور أو الانطباع الخاص بالمشهد بدلًا من إعادة إنتاجه بحذافيره.
«الموسيقى الهادئة باللونين الأسود والذهبي - الصاروخ الساقط» (1872-1877) - جيمس أبوت مكنيل ويسلير«الموسيقى الهادئة باللونين الأسود والذهبي – الصاروخ الساقط» (1872-1877) – جيمس أبوت مكنيل ويسلير
في عام 1877، انتقد جون روسكين – أبرز نقّاد بريطانيا في ذلك الوقت – عمل ويسلير هذا نقدًا لاذعًا فشبهه «بمن قام برمي الطلاء في وجه الجمهور». تأثر ويسلر بهذا الكلام، فرفع دعوى قضائية ضد روسكين، بيد أنّه خسرها لأن المسؤولين عرضوا اللوحة -خطأً- مقلوبةً على المحكمة. أفلس ويسلير بسبب هذه القضية، لكن مسيرة تطور الفن التجريدي استمرت.
من ناحيةٍ أخرى، تحديد أول فنان تجريدي في العالم موضوع نزاع. في نظر أبحاث تاريخ الفن التقليدية، كان فاسيلي كاندينسكي – فنان روسي الجنسية رسم لوحات تجريدية بالكامل في مطلع عام 1911- هو أول فنان تجريدي.
لم ينل الفن التجريدي الرائد لهيلما أف كلينت تقديرًا إلا قبل سنوات قريبة. هذه صورة للمعرض الشهير في متحف غاغينهايم، عام 2018 .لم ينل الفن التجريدي الرائد لهيلما أف كلينت تقديرًا إلا قبل سنوات قريبة. هذه صورة للمعرض الشهير في متحف غاغينهايم، عام 2018 .
ولكن في الآونة الأخيرة، وبفضل المعرض الرائد في متحف مقاطعة لوس أنجلوس للفنون في عام 1986 الذي حمل اسم «الروحانية في الفن: الرسم التجريدي 1890 – 1985»، وقع الاختيار على هيلما أف كلينت كأول رسامة تجريدية. بدأت كلينت في رسم لوحات تجريدية بدءًا من عام 1906، وحملت مجموعتها عنوان «الفوضى البدائية». كانت الفنانة متكتمة في ما يتعلق بأعمالها التجريدية، ولم تُعرض أيّ منها في معارض عامة، وبقيت غير معروفة حتى أزيح عنها الستار مؤخرًا.
ولعل الجدال حول هوية أول من مارس الفن التجريدي سيستم، لكن الحقيقة الأكثر أهمية هي أن العديد من الفنانين الأوروبيين البارزين قد توصّلوا في أعمالهم إلى التجريد بحلول الحرب العالمية الأولى. لقد وجد كل منهم طريقته الخاصة في التخلي عن الفن التشخيصي (figurative painting). وجديرٌ بالذكر أنّه لم تكن هناك حركة «تجريدية» دولية ذات رؤية أو بيان مشترك.
في ضوء ذلك، فإن السؤال الملحّ حقًا هو: لمَ لمْ يتبنى الفنانون الغربيون الفن التجريدي على امتداد قرون عديدة؟ لماذا كان التجريد غير ضروري أو لا معنى له أو غير مناسب أو حتى لا يمكن تقبّله لقرونٍ متوالية في الفن الغربي؟
ظهرت العديد من التفسيرات لشرح ذلك. إحدى النظريات الأكثر وضوحًا هي أن ظهور التصوير الفوتوغرافي بوصفه شكلًا من أشكال الفن، إضافةً إلى تطور الفن الحديث، سببان رئيسان لإزاحة الرسم التشخيصي.
ثمّة إجابات أخرى غير ملموسة لاستكشاف الأسباب: ربما عندما أصبحت الأعمال الفنية قابلة للاستهالاك بشكل متزايد، مثل السلع، بات من السهولة فصل اللوحات والمنحوتات عن التجارب المحددة لمبدعيها. ربما أدت الحداثة في الغرب إلى إفراغ الفن من المحتوى التشخيصي؛ مما دفع الفنانين أيضًا إلى التخلي عن التمثيل التشخيصي.
كل من هذه الإجابات معقدة وتتطلب الكثير من الشرح، ولا يمكن إلا أن تكون تخمينات. لا توجد إجابة واضحة لهذه المسألة. ربما يكون من الأفضل طرح السؤال حول سبب تقبّل الفن التجريدي فنًّا من الفنون الرسمية في تاريخ الفن الغربي في مرحلة معينة على علماء الأنثروبولوجيا بدلًا من طرحها على مؤرخي الفن. فما هو واضح أن الفن التجريدي كان موجودًا دائمًا في مناطق أخرى من العالم.
ما جعل الفن التجريدي فنًّا حديثًا على وجه التحديد في العالم الغربي هو نظام المعارض، الذي أعطى القيمة الفنية للأعمال المعروضة. وكما هو واضح فقد ازدهر التجريد لآلاف السنين المناطق الشرقية والجنوبية من العالم، دون عناء التحقق من مكانة الأعمال المعروضة في الصالونات [والمعارض، كما هو في العالم الغربي].
الواقع الافتراضي و«الافتراضية»
يتبنى بيبي كرمل وهو مؤرخ فني، في كتابه « الفن التجريدي: تاريخ عالمي»، فكرة أنّ الفن التجريدي كان دائمًا موجودًا بشكل طبيعي عندما ننظر إليه نظرة شاملة وعالمية، بيد أنّه يتحاشى طرح نظرية عن تطور الفن التجريدي. بالنسبة إلى كرمل، فإنّ هذا الفنّ متجذر في العالم الحقيقي، وهو ليس فنًّا «مجردًا» على الإطلاق، كما أنّه تقليد عالمي وليس محليًا.
في دراسته حول الفن التجريدي يقسم العمل الفني إلى خمس فئات واسعة تنتمي إلى العالم الحقيقي: الأجسام، والمناظر الطبيعية، والكون، والبنى، والعلامات والأنماط. من خلال فحص الفن التجريدي بهذه الطريقة، يرى كرمل في اللوحات التجريدية موضوعات قابلة للتحليل، بعكس النقاد والمؤرخين الأرثوذكسيين الذين رأوا فيها مجرّد توليفات شكلية مكوّنة من لون وشكل.
ربما يكون من الأفضل أن يطلق على الفن التجريدي: فن ما تم تجريده (abstracted art)؛ لأنّ الفنانين التجريديين عادةً ما يستخلصون ويجرّدون تعبيرات التجارب في شكل ولون، أكثر من كونها توليفات مكونة من شكل ولون. ومرّد ذلك الطبيعة الجوهرية للرسم والنحت؛ فهما (الشكل اللّون) وسيطان للتعبير، مثل الشاشة أو المسرح لخيال الفنان. كما هو الحال في المسرح أو السينما، فإنّ جمهور اللوحة أو المنحوتة يعلّق معتقداته من أجل أن يتقبل المشهد.
من المفيد التفكير في اللوحة التشخيصية التقليدية أو النحت على أنها حقيقة افتراضية. إذْ استخدم الفنانون لقرون عديدة الحيل البصرية -مثل المنظور الخطي، والتقصير المسبق، والتظليل- لمحاكاة الطريقة التي ندرك بها الأشياء في الفضاء الحقيقي. إنّ المشاهد تُنشأ في فضاء افتراضي – سواء كانت القاعدة التي تدعم التمثال أو القماش – ليراها المشاهدون بوصفها خدعة بصرية.
«القديس بطرس شفاء أحد الأشخاص وبعث تابيثا من الموت» ماسولينو دي بانيكال. اعتمد الرسم الغربي قبل القرن العشرين على الحيل البصرية لخلق واقع افتراضي. إحدى هذه الحيل هي المنظور الخطي، وهذه اللوحة هي أول مثال لاستخدام نقطة تلاشٍ متسقة.«القديس بطرس شفاء أحد الأشخاص وبعث تابيثا من الموت» ماسولينو دي بانيكال. اعتمد الرسم الغربي قبل القرن العشرين على الحيل البصرية لخلق واقع افتراضي. إحدى هذه الحيل هي المنظور الخطي، وهذه اللوحة هي أول مثال لاستخدام نقطة تلاشٍ متسقة.
يستمتع مشاهدوّ الأعمال الفنية العظيمة معنى ما يُرسم، ويقدرون الطريقة التي يتجلّى فيها الوهم عبر تمازج اللون والشكل.
يبقى الفن التجريدي، إلى حدٍ ما، ضمن إطار التجربة الجمالية. فقد سعت حركات الفن الحديث التي أدت إلى التجريد -أيّ «مدارس الفن»، مثل الانطباعية والفاوفية والتكعيبية- إلى تمثيل العالم بشكل مختلف عن كل الفنون التي سبقتها. إذْ ادعوا الاقتراب من الحقيقة الذاتية عبر تهميش جميع الحيل الوهمية التقليدية التي حاولت إعادة إنتاج الواقع بحذافيره كحقيقة موضوعية.
«الأحمر والأصفر والأزرق» (1925) واسيلي كاندينسكي. كان كاندينسكي يعدّ لفترةٍ طويلة أب الرسم التجريدي الغربي.«الأحمر والأصفر والأزرق» (1925) واسيلي كاندينسكي. كان كاندينسكي يعدّ لفترةٍ طويلة أب الرسم التجريدي الغربي.
بالنسبة إلى هذه المدارس، أصبح الفن أقل من أن يوصف بأنّه واقع افتراضي، لكنه مع ذلك احتفظ بالافتراضية، وأصبح افتراضيًا. لقد أخذ الفن التجريدي مسار التطور هذا إلى أقصاه: من الواقع الافتراضي إلى الافتراضية.
ماذا تعني «الافتراضية» هنا؟ إنّها الوجود كجوهر وتأثير، ولكن بدون اللجوء إلى الواقع. اللوحة التجريدية التي رسمها كاندينسكي، على سبيل المثال، ما زالت تُعدّ علاقة متبادلة بين الشكل واللون، و تعتمد على الرسم كمستوى تخطيطي: إنها نافذة تطلّ على «الواقع» الفردي الذي تصوّره كاندينسكي.
وما تزال العناصر في لوحات كاندينسكي تحظى بعلاقة متبادلة، كما هو الحال في فضاء الواقع الافتراضي للوحة التشخيصية؛ فجوهر الرسم سليم إذ إنّ ذلك الفضاء الافتراضي ما زال موجودًا. عندما يكون الفن التجريدي بناءً خالصًا، ويتخلص من المساحة الافتراضية الملازمة للرسم والنحت، يصبح متميزًا عنهما.
وصف دونالد جود الفنان التخفيفي (minimalist) مثل هذه الأعمال الفنية بأنها «أجسام محدّدة» (Specific Objects). إنّه مصطلح غير دقيق، ولكنه يصلح لإظهار أن مثل هذه الأعمال الفنية ليست رسمًا ولا نحتًا، ولكنها فئة أخرى تمامًا.
رأى دونالد جود أن أعماله وأعمال العديد من معاصريه تشغل مساحة هجينة، لا هي لوحات ولا هي نحت. عمل دون عنوان لدونالد جود.
استخدم جود هذا المصطلح لوصف أعماله الخاصة، ولكنه ينطبق على لوحات كازيمير ماليفيتش وفرانك ستيلا أحادية اللون، والتي تجعل اللوحة تندمج مع نفسها بالكامل، من أجل الوصول للتأثير الذي يأمل العمل في تحقيقه.
في مثل هذه الأعمال، لم يعد قماش اللّوحة (أو القاعدة) سطحًا تتفاعل فيه الأشكال والألوان في الفضاء الافتراضي. بدلاً من ذلك، تتفاعل الأشكال والألوان في الفضاء الحقيقي، في فضائنا.
تختلف معايير النجاح أو الفشل لهذه الأعمال عن الخصائص التقليدية للرسم والنحت. رأى جود أنّ خصائص الرسم والنحت تقف في طريق ما أراد تحقيقه من خلال اللون والشكل. في رأيه، كان لـ «أجسامه المحددة» تأثيرًا أحدّ من غيرها.
الواقع والأشكال الجديدة للإدراك الحسّي
الرسم نفسه له ثلاثة أنواع عامة من التجريد؛ أولًا، ثمّة أسلوب تعبيري تُرسم فيه الأشكال بحركاتٍ غير مقيدة؛ ثم هناك التجريد الهندسي حيث يتم هيكلة الأشكال؛ أما النوع الثالث، فهو تجريد مجال اللون حيث يتم عرض مساحات من الألوان بطريقةٍ لا شكل واضح لها.
لم تكن هذه «الأنماط» (styles) أنماطًا عرضيةً أو تعتمد على ذوق أو ميل الرسام كوسيلة لتحقيق هدفٍ ما من البحث الفني. وخير مثال على ذلك هو الفنان الذي غالبًا ما ينظر إلى عمله على أنّه ذروة التجريد الهندسي: بيت موندريان. إنّ لوحات بيت موندريان المكونة من شبكات (grids) ذات الخطوط السوداء والأجزاء الملونة على خلفية بيضاء؛ تهدف إلى استحضار «حقيقة أعلى».
بالنسبة إلى موندريان، كان الفن في جوهره معارضًا للواقع؛ «لأن الواقع يتعارض مع الروحي». بغض النظر عن هذه اللوحة الأشهر لموندريان، فإنّ جوانب الرسم التي تهم هذا الفنان حقًا لم تكن الجوانب المحددة للموضوع -أيّ ماذا أو ما يتم تصويره في اللوحة مثلًا- بل الجوانب القابلة للفهم عالميًا للشكل والخط واللون. إنّ لوحات موندريان، مثلها مثل لوحات الفنانين الآخرين، هي محاولة لاستخلاص الشكل واللون من أجل الاقتراب من ذلك الجوهر العالمي والروحي للفن.
عبّر موندريان عن رغبته في الوصول إلى «أساس» الأشياء من خلال الحدس، كالعديد من الفنانين التجريديين الآخرين في النصف الأول من القرن العشرين الذين رغبوا في الوصول إلى قوى غير مرئية حولنا، ولكنها معروفة أو محدوسة.
«التكوين الثاني باللون الأحمر والأزرق والأصفر» (1930) - بيت موندريان«التكوين الثاني باللون الأحمر والأزرق والأصفر» (1930) – بيت موندريان
في أواخر القرن التاسع عشر، لاحظ العلماء بشكلٍ أفضل مما سبق القوى غير المرئية مع انتشار التقنيات الجديدة، وأصبح من الواضح أن العالم أرحب مما يبدو للعين. في الوقت نفسه، ظهرت حركات روحية بديلة جمعت بين الأفكار الأفلاطونية والتصوف.
كان كلينت وموندريان من بين العديد من الفنانين الذين انغمسوا في أشكال الروحانية خارج العوالم التقليدية للدين. اعتقدت كلينت أن لوحاتها هي وحي عالم روحي، وأن مهمتها كانت العمل «على مستوى روحاني» لتمثيل روح الإنسان، بدلًا من صورته الفانية.
بحلول عشرينيات القرن الماضي، كانت نظرية فرويد عن للعقل البشري قد تغلغلت أيضًا في عالم الفن. كذلك السريالية، وهي حركة منظمة بإحكام بدأت مع بعض الفنانين الذين سعوا إلى التنقيب عن الإمكانات الإبداعية للعقل الباطن، وهي الحركة الثقافية التي كانت سائدة في أوروبا بين الحربين العالميتين.
لم تكن السريالية دوغمائية في محاولتها لاستكشاف اللاوعي، ولذلك ظهر عدد من الأساليب والطرق لمحاولة إخراج اللاوعي إلى السطح. إحدى هذه الأساليب كان الرسم الآلي (Automatism)، وهي عملية يتخلى فيها الفنان عن السيطرة الواعية لليد التي ترسم أو تصور. في هذا المجال، تبنى الفنانون مثل أندريه ماسون وخوان ميرو الفرصة لبناء صورهم باستخدام حركات حرّة، وحتى إلقاء الطلاء على القماش.
طور أرشيل غوركي -هو مهاجر أرمني عاش في الولايات المتحدة- أسلوبًا في الرسم يدمج بين الرسم الآلي وتجريد مجال الألوان. لوحاته في الأربعينيات حجمُها ضخم – ومرد ذلك تأثره بأعماله السابقة كفنان جداري مُعيّن من الدولة خلال السنوات الأخيرة من الكساد الكبير – لكنها معبّرة وغنائية في الرسم بالفرشاة.
ألهم إدماج غوركي للأنماط جيلًا واسعًا من الفنانين الأمريكيين في فترة ما بعد الحرب لاحتضان التجريد الواسع النطاق. ما نسميه الآن «التعبيرية التجريدية»، وكان ذاك الجيل في الواقع مجموعة فضفاضة من الفنانين الذين يستخدمون أنماطًا متعدّدة من أنماط التجريد.
ربما كان القاسم المشترك بين هؤلاء الفنانين – على الأقل في السنوات الأولى – هو دعم جيل جديد من النقاد بقيادة كليمنت غرينبيرغ، الذي كان يعتقد أن التجريد هو التعبير الأسمى للفن الغربي.
«الكبد هو مشط الديك» (1944) - أرشيل جوركي.«الكبد هو مشط الديك» (1944) – أرشيل جوركي.
الحداثة ومصير الفنّ الغربي
كان يُعتقد في بعض الأوساط الفكرية المؤثرة أنّ الفن يتقدم نحو هدف؛ وهذا المضمون يشتمل عليه مصطلح «الطليعية» (Avant-garde)، الذي يُوصف به الفنّانون الذين يبتكرون أرضية جمالية جديدة. أصل المصطلح فرنسي يُطلق على الجنود الذين يتقدمون إلى مناطق جديدة.
بالنسبة إلى غرينبيرغ، لم يكن هؤلاء الفنّانون يوسّعون حدود إمكانات الفن؛ بل كانوا يتقدمون نحو الهدف الحقيقي والمفرد لكل شكل فني.
يُعدّ غرينبيرغ شخصية مهمة في تاريخ الفن التجريدي، وذلك لأمرين: بوصفه مناصرًا رائدًا في مسألة تفوق الفن التجريدي على غيره من أنواع الرسم، وتأكيده للقوة التي امتلكها هذا الفن. كان ناقدًا في اللجنة الأمريكية للحريّة الثقافية التي تمولها الدولة، وهي مجموعة تم إنشاؤها لتعزيز الفن الأمريكي على المستوى الدولي.
أصبحت أفكار غرينبيرغ مؤثرة عندما كانت الولايات المتحدة جزءًا من الحرب على الفاشية والنازية، وخلال الحرب الباردة اللاحقة ضد الشيوعية السوفيتية. كانت معايير الفن الفاشي والسوفياتي واضحة، وهي ما تحددها السلطات الثقافية أنها كذلك، بيد أنّه ما لم يكن واضحًا هو معايير الفن «الجيد» وتحديدًا في الغرب الديمقراطي.
كان الماركسيون هم من تعاطف مع غرينبيرغ في البداية، لكن ارتبط تفكيره بشكلٍ متزايد بالهيمنة الثقافية الأمريكية. بالنسبة إليه، كان التجريد في أعمال بولوك فنًا مثاليًا لمجتمع ديمقراطي. تتجلى الحداثة في الفن، وفقًا لغرينبيرغ، في إطار التنوير الأوروبي؛ أيّ في فترة ازدهار الأفكار الفلسفية والعلمية التي أعطت الأولوية للعقل.
في مقالته المؤثرة « الرسم الحداثي» (1961)، وصفَ غرينبيرغ إيمانويل كانط – الفيلسوف الألماني في عصر التنوير – بأنّه «أول حداثي حقيقي». كان أسلوب كانط في «النقد» هو استخدام العقل لنقد العقل بغرض توضيحه، ومنحه استقلالية عن أنواع التفكير الأخرى.
«أولمبيا» - إدوارد مانيه (1863). بالنسبة إلى كليمنت غرينبيرغ، كان مانيه أول رسام حداثي. لقد رسم مانيه لوحاته بأسلوبٍ مسطّح بشكلٍ متعمد.«أولمبيا» – إدوارد مانيه (1863). بالنسبة إلى كليمنت غرينبيرغ، كان مانيه أول رسام حداثي. لقد رسم مانيه لوحاته بأسلوبٍ مسطّح بشكلٍ متعمد.
بالطريقة نفسها، كان الرسامون الحداثيون – من إدوارد مانيه في القرن التاسع عشر إلى موريس لويس، وهو رسام يعمل ينتمي إلى رسامي أسلوب مجال ألوان في الولايات المتحدة في الوقت الذي كتب فيه غرينبيرغ مقالته – يعملون على ترسيخ الفن التعبيري «بشكل صارم في مجال تخصصه».
رأى غرينبيرغ أن وضوح الفن التجريدي -الذي كان صادقًا بالنسبة إلى الوسيط الذي يُعبّر من خلاله- معارضٌ لـ«الفن الشعبي المبتذل [الكيتش]» الذي ينُتج على نطاق واسع في الثقافة الشعبية. إن إزالة «الكيتش» كانت مسألة استجلاء وتوضيح تحتاجها جميع الفنون لكي تصبح تعبيرًا عن إمكاناتها الجمالية الكامنة.
اللوحات مسطّحة، وإيهام العمق الذي نجده في معظم الفن الغربي كان انحرافًا عن جوهر فن الرسم ذاته. كانت استقلالية الشكل الفني في جميع خصائصه دون أن تتلوث بأشكال فنية أخرى. وفقًا لغرينبيرغ، يعدّ الشكل واللون من أهم خصائص الرسم، و أفضل تمثيل لها يكون بشكلٍ مسطّح.
وهكذا دافع غرينبيرغ عن «التسطيح» الذي تجلّى في لوحات الفنانين الأمريكيين التجريدية مثل جاكسون بولوك باعتباره تحقيقًا لهذا الوضوح الحداثي. لقد ضم هؤلاء الفنانين معًا ضمن فريق واحد، وهم يمثّلون المرحلة التالية في الحداثة، وقد حلّت رؤيتهم الأمريكية المميزة محلّ الفن الأوروبي الطليعي.
وفي الوقت الذي أصبح فيه الفن التجريدي الأمريكي مهيمنًا، تراجعت هيمنة غرينبيرغ النقدية، وظهرت أشكال جديدة من الفن الطليعي، مستوحاة مباشرة من الثقافة الجماهيرية، وحلّت محلّ التعبيرية التجريدية في المخيال العام. تبنى فنانوّ «البوب» مثل: آندي وارهول، وريتشارد هاميلتون هذا النوع من «الفن الشعبي المبتذل» الذي رآه غرينبيرغ تلويثًا للفن الحقيقي.
استمرت الأعمال الفنية التجريدية، ولكن تخلّى الفنّانون التجريديون الأكثر جرأة عن الفكرة الصارمة «للنقد الحداثي»، وعن الوضوح المتعلق بخصوصية الوسيط الفني، وذلك لصالح أشكال أخرى من التعبير.
نظر فنانوّ «ما بعد الحداثة» إلى السخرية وعملية الرسم نفسها، كطرق لتجاوز الطريق المسدود للحداثة. تبنى الألماني غيرهارد ريختر كلا النهجين؛ فبعض أعماله التجريدية في الستينيات كانت مصنوعة بممسحاتٍ بدلًا من الفرشاة، حتى يتمكن من لفت الانتباه إلى عملية صنع اللوحة نفسها.
كانت «اللوحات التجريدية» البارزة الأخرى التي رسمها ريختر في الواقع صورًا واقعية مرسومة بعناية تعكس لوحاته التجريدية الأخرى. أصبحت طلائعية الرسم التجريدي مفهومية أكثر، ما جعل ضمنيًّا قضية الرسم تحظى باستقلالية أقل مما كان كان يعتقد النقاد الحداثيون.
قلّد فنانوّ «نيو جيو»، مثل: الرسام بيتر هالي، والنحات أشلي بيكرتون اللغة البصرية للتجريد الهندسي، لكنهما دمجاها مع السلع الاستهلاكية بألوانٍ تجارية فاتحة وأحيانًا فلورية.
منذ ذلك الجيل ما بعد الحداثي من الرسامين والنحاتين الممتد من الستينيات إلى التسعينيات، ازدهر التجريد متفرّعًا إلى عددٍ لا يُحصى من الأساليب والمقاربات بجوار الفن التشخيصي. هنا يمكن القول إنّ التجريد المتحرّر من عبء التوقعات الحداثية هو ببساطة نهج للتعبير مثل أيّ نهج آخر.
وتجدر الإشارة إلى أنّ بعض الفنانين التجريديين استخدموا الحيل البصرية المستعملة في الفن التشخيصي – مثل المنظور والتظليل – في لوحاتهم. ولاستخدامهم هذا أهداف فريدة و غالبًا لا تهتم بالنظرية.
قلّد فنانوّ «ما بعد الحداثة» مثل: بيتر هالي اللغة البصرية المستعملة في الفن التجريدي الحديث (في حالة بيتر، التجريد الهندسي)، للتعليق على طبيعة الفن والمعنى نفسه. تمثّل هذه الكتل الملونة «الخلايا» و«الأنابيب».قلّد فنانوّ «ما بعد الحداثة» مثل: بيتر هالي اللغة البصرية المستعملة في الفن التجريدي الحديث (في حالة بيتر، التجريد الهندسي)، للتعليق على طبيعة الفن والمعنى نفسه. تمثّل هذه الكتل الملونة «الخلايا» و«الأنابيب».
هذا هو التحرّر نحو الأفضل بين الرسامين التجريديين الذين يمكنهم الالتزام برؤيةٍ فريدة بالرسم على القماش. لكن فكّ ارتباط الفن التجريدي عن إطاره الفلسفي الأوسع أدى أيضًا إلى انتشارٍ يثير التساؤل لأعمال تجريدية متنوعة قابلة للاستهلاك – بمعنى أنّها فقدت قيمتها، وباتت تُباع وتُشترى سريعًا بأسعارٍ مربحة – يشتريها المشترون المتضاربون.
دفع هذا التحول الناقد جيري سالتز إلى كتابة: « الزومبي على الجدران: لماذا يبدو الكثير من التجريد الجديد متشابهًا؟». وقد شبه اللّوحات التجريدية بصورة «الزومبي»، تحقيرًا لأعمال عددٍ من الرسامين التجريديين البارزين، الذين استخدموا الفنّ وجماليته لتقديم أعمال مبتذلة.
ومن المفارقات أن هؤلاء الفنانين نظروا إلى الشكلانية بوصفها فنًّا حداثيًّا متبنّين منظور غرينبيرغ، لكنهم بالطبع قدّموا أعمالًا في ظلّ فراغ تاريخي وبعد فترةٍ طويلة حين لم يُصبح التجريد مثيرًا للاهتمام أو راديكاليًا بأي وجه من الوجوه.
في الواقع، لم يصل مشروع الحداثة في الفن التجريدي إلى نهايته، بل النقد. إنّ النقد -أيّ الإطار الفلسفي الواسع الذي يصادق على الأعمال الفنية ويثمّنها لأهميتها الثقافية والتاريخية- هو ما فقد التوجه والسلطة.
كان مسار الفن الغربي منذ عصر التنوير يتأرجح بين قطبي الدوغمائية النقدية والإبداع. تكمن المشكلة أنه في العقود الأخيرة، وفي ظلّ غياب أي مشروع نقدي متماسك، انجرف الفن نحو إرضاء اهتمامات دقيقة ومتنوعة تزداد باستمرار.
في حين كانت هناك «حركات» و«مدارس» فنية -مصطلحان يشيران إلى الوجهة والانضباط- لم يعد لدينا الآن سوى «مشاهد».
هذا ليس بالضرورة أمرًا سيئًا. ولكن في عالم حيث «كل شيء مقبول – anything goes»، لا يوجد مجال لهذا النوع من الابتكار والتجاوز الذي أدى إلى ظهور الفن التجريدي في الغرب، وهذا ما جعل الفن الحديث فنًّا مثيرًا للغاية.
من الصعب في هذه اللحظة التاريخية أن ندرك ما الذي جعل لوحة بولوك «رقم 32» مثيرة للانقسام، ومخلخلةً جدًا للمعايير، وفي الوقت نفسه محتفظةً بقيمةٍ عالية جدًا لأولئك الذين يعتقدون أن للفنِّ مكانًا في المجتمع يتجاوز المتعة.
[divider style=”solid” top=”20″ bottom=”20″]
[1] واللقب كذلك يُلمح إلى القاتل المتسلسل في لندن آخر القرن التاسع عشر: جاك السفّاح
Jack the ripper (مدير التحرير).
### خارج عقلك | توم تشاتفيلد – ت: محمد السعيد
عندما يكون هاتفي النقال بين يديّ، هل أكون أنا الشخص نفسه لو كان الهاتف في غرفة أخرى؟ من ناحية،...
### الدراما في التعليم: مقاربات وتطبيقات | نعيم حيماد
افتتاحيّة حظي استخدام الدراما في التعليمفي السنوات الأخيرة باهتمام كبير من قبل نخبة من المنظرين والممارسين للدراما في مجال التعليم....
### الحقائق المخفية | دي بي سي بيير – ت: محمد السعيد
يحمل جبل كلسي خشن في غرب إيران عددًا من النقوش البارزة، من بينها لوحة طولها خمسة وعشرين مترًا منقوشة...
### التغلُّب على كاشف الكذب | كلاريسا سيباغ-مونتِنفيوري – ت: محمد السعيد
حين اتُّهِمَتْ مربية الأطفال البريطانية لويز وودورد بهزِّ رضيع حتى الموت في مدينة نيوتن بولاية ماساتشوستس، لم تكتفِ بإعلان...
### عن منصة معنى
«معنى»، مؤسسة ثقافية تقدّمية ودار نشر تهتم بالفلسفة والمعرفة والفنون، عبر مجموعة متنوعة من المواد المقروءة والمسموعة والمرئية. انطلقت في 20 مارس 2019، بهدف إثراء المحتوى العربي، ورفع ذائقة ووعي المتلقّي المحلي والدولي، عبر الإنتاج الأصيل للمنصة والترجمة ونقل المعارف.
### روابط سريعة
### التصنيفات
### مرحبا بك!
قم بتسجيل الدخول إلى حسابك
تذكرني
### قم بإنشاء حساب جديد!
املأ النموذج أدناه للتسجيل
### طلب إعادة تعيين كلمة المرور
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان البريد الإلكتروني لإعادة تعيين كلمة المرور الخاصة بك.
### Add New Playlist
- Select Visibility -PublicPrivate
No Result
عرض جميع النتائج
-
00:00
00:00
-
00:00
00:00
|
article
|
Arabic
|
ar
|
الفنّ التجريدي: بين الماضي والحاضر - منصة معنى الثقافية
|
https://mana.net/abstract-art/
|
1,955 |
كان مسار الفن الغربي منذ عصر التنوير يتأرجح بين قطبي الدوغمائية النقدية والإبداع.
|
sentence
|
كان مسار الفن الغربي منذ عصر التنوير يتأرجح بين قطبي الدوغمائية النقدية والإبداع. تكمن المشكلة أنه في العقود الأخيرة، وفي ظلّ غياب أي مشروع نقدي متماسك، انجرف الفن نحو إرضاء اهتمامات دقيقة ومتنوعة تزداد باستمرار.
|
paragraph
|
Arabic
|
ar
|
الفنّ التجريدي: بين الماضي والحاضر - منصة معنى الثقافية
|
https://mana.net/abstract-art/
|
1,956 |
تكمن المشكلة أنه في العقود الأخيرة، وفي ظلّ غياب أي مشروع نقدي متماسك، انجرف الفن نحو إرضاء اهتمامات دقيقة ومتنوعة تزداد باستمرار.
|
sentence
|
كان مسار الفن الغربي منذ عصر التنوير يتأرجح بين قطبي الدوغمائية النقدية والإبداع. تكمن المشكلة أنه في العقود الأخيرة، وفي ظلّ غياب أي مشروع نقدي متماسك، انجرف الفن نحو إرضاء اهتمامات دقيقة ومتنوعة تزداد باستمرار.
|
paragraph
|
Arabic
|
ar
|
الفنّ التجريدي: بين الماضي والحاضر - منصة معنى الثقافية
|
https://mana.net/abstract-art/
|
1,957 |
هذا ليس بالضرورة أمرًا سيئًا. ولكن في عالم حيث «كل شيء مقبول – anything goes»، لا يوجد مجال لهذا النوع من الابتكار والتجاوز الذي أدى إلى ظهور الفن التجريدي في الغرب، وهذا ما جعل الفن الحديث فنًّا مثيرًا للغاية.
|
paragraph
|
لا توجد منتجات في سلة المشتريات.
No Result
عرض جميع النتائج
الثلاثاء, سبتمبر 10, 2024
No Result
عرض جميع النتائج
No Result
عرض جميع النتائج
# الفنّ التجريدي: بين الماضي والحاضر
## ترجمة: أنطونيوس نادر
AA
AA
إعادة تعيين
فنٌ مليء بالتحديات
ثمّة خطٌ رفيع يفصل بين الفن التجريدي ومجرد الزخرفة، ولوحة «رقم 32» (نُشرت عام 1950)، لجاكسون بولوك تتأرجح بين هذا الخطّ. فهي لا تشير إلى معنىً واضح، ولكن لا يمكن القول إنّها بلا معنى على الإطلاق. كما أنّها ليست معبّرة بشكلٍ مباشر، ولا يعني هذا أنها لا تعبّر عن مدلولٍ ما. تحمل هذه اللوحة الكثير من المضامين عن الفن الغربي بالنسبة إلى شخصٍ خبيرٍ في تاريخ الفن؛ أما بالنسبة إلى شخصٍ عادي، فقد يراها عملًا مبتذلًا بالكاد يعبّر عن أمرٍ ما.
اللوحة شبكة من الخطوط وبقعٍ من الألوان، رُسمت عن طريق صبّ طلاءٍ رخيص بعشوائيةٍ مباشرة على القماش. تتكون اللوحة من طلاءٍ أسود فقط وقماشٍ خام. واللوحة ضخمة؛ إذ يبلغ طولها تسعة أقدام وعرضها خمسة عشر قدمًا، وتغطي مجال رؤية المشاهد أثناء اقترابه منها. تقليديًّا، حتى اللوحات التجريدية تتكون من أجزاءٍ مترابطة مع بؤر تركيز (emphases) وعمقٍ يُنقل من خلال اللون والظلال، ولكن «رقم 32» ليس لها أجزاء؛ إنّها تتكون من تعالقات، والبؤرة فيها تكمن عبر امتداد سطح القماش المستطيل.
يمنحها ما سبق عمقًا سطحيًا، وربما لا عمق فيها: مجرّد طلاء على قماش. إنّها عبث بالشكل واللون. حتى اسمها، ببساطة رقمٌ معيّن – رقم 32 – يجعلها تنأى بنفسها عن أي فكرة مفادها أنها تعكس مدلولًا محدّدًا. تشير عناوين أعمال بولوك الأخرى إلى نوعٍ من الاختبار الشخصي، وإلى الاستخدام السمفوني المتعدد الطبقات للون والملمس؛ خذ مثلًا لوحاته التي تحمل اسم: «إيقاع الخريف»، و«الضباب الأرجواني»، و«الأقطاب الزرقاء»، و«انعكاس الدنقلة الكبير».
هذا لا ينطبق على لوحة «رقم 32»؛ شكلها الخام وبساطتها دليل على أنّ الفنان لم يخطط مسبقًا لرسمها؛ أيّ أنّه لم ينتق الألوان ولا الطبقات. يبدو بولوك هنا أكثر حضورًا، من خلال لمساته الحادة. بالنسبة إلى مؤيديّ عمل بولوك، تختصر هذه اللوحة خلاصة نظرة الفنان الجمالية. أما بالنسبة للبعض الآخر، فهي لوحة مبتذلة.
وصف جوزيف بويس -النحات الألماني في فترة ما بعد الحرب- الفنَّ التجريدي الأمريكي بأنه مجرد «تغليف»، أيّ سطح بلا محتوى. في هذا الصدد، قد يتفق البعض أن لوحة «رقم 32» تجسد فراغ الفكر والشعور ذاك. فقد رأى الروائي والناقد الفني روبرت كوتس أن فن بولوك لم يكن سوى «انفجارات» غير منظمة من الطاقة العشوائية. غير أنّ طائفة كبيرة من متذوقي الفن التجريدي لا تروق إليهم أعمال بولوك ويرونها فنًّا محيرًا، حتى إنّ بعضهم يراها إهانةً للذوق أو الحسّ السليم.
عُرف بولوك بلقب: «جاك فنان النقط» (Jack the Dripper) [1] في الأوساط الإعلامية المشككة بعمله حيث ادعى كثر أن أيّ شخص يمكنه أن يرسم كما يرسم بولوك إلّا أنّ أحدًا لم يتجرأ على فعل ذلك.
«رقم 32» - جاكسون بولوك«رقم 32» – جاكسون بولوك
بيد أنّ هذا هو مغزى الفن التجريدي في التقليد الغربي: إنّه تحدّ. وفي ظل الكثير هذه التحديات، تُعد لوحة « رقم 32» اللوحة الأكثر تمثيلًا لهذا الفن.
قصة الفنّ التجريدي
مسار قصة الفن التجريدي مضمّنة في الدراسات التاريخية الفنية، إلّا أنّ المحطات الرئيسة لهذا المسار كانت محط تغييرات مفاجئة كلما اكتشف مؤرخوّ الفن حقائق جديدة.
انطلق مسار الفن التجريدي بدءًا من القرن التاسع عشر وما تلاه؛ حيث استفاد الفنانون من مادة الطلاء والجوانب الشكلية للرسم مثل اللون والدرجة والخطوط. يُعرف هذا الانشغال بالجوانب غير التمثيلية (non-representative) للفن باسم «الشكلانية»، لأنّه انشغال «بالشكل»، أيّ بتوسل شكل المحتوى بدلًا من المحتوى في ذاته. بالنسبة إلى الفنانين في القرن التاسع عشر، صُنّف الفن التجريدي على أنّه «فنٌّ من أجل الفنّ»، وكانت الفكرة الشائعة مفادها أنّ المتذوق للفن يمكنه الاستمتاع بالعمل دون اللجوء إلى معنى أو حتى أي شيء آخر يمثل أمرًا ما.
تمثّل لوحة «الموسيقى الهادئة باللّونين الأسود والذهبي – الصاروخ الساقط» (1872)، للفنان جيمس مكنيل ويسلر هذا الاتجاه الذي تبلور لاحقًا في الفن التجريدي. إنّ مشهد ويسلر الغامض من الناحية المكانيّة يقترب إلى التجريد، وذلك بمحاولته نقل الشعور أو الانطباع الخاص بالمشهد بدلًا من إعادة إنتاجه بحذافيره.
«الموسيقى الهادئة باللونين الأسود والذهبي - الصاروخ الساقط» (1872-1877) - جيمس أبوت مكنيل ويسلير«الموسيقى الهادئة باللونين الأسود والذهبي – الصاروخ الساقط» (1872-1877) – جيمس أبوت مكنيل ويسلير
في عام 1877، انتقد جون روسكين – أبرز نقّاد بريطانيا في ذلك الوقت – عمل ويسلير هذا نقدًا لاذعًا فشبهه «بمن قام برمي الطلاء في وجه الجمهور». تأثر ويسلر بهذا الكلام، فرفع دعوى قضائية ضد روسكين، بيد أنّه خسرها لأن المسؤولين عرضوا اللوحة -خطأً- مقلوبةً على المحكمة. أفلس ويسلير بسبب هذه القضية، لكن مسيرة تطور الفن التجريدي استمرت.
من ناحيةٍ أخرى، تحديد أول فنان تجريدي في العالم موضوع نزاع. في نظر أبحاث تاريخ الفن التقليدية، كان فاسيلي كاندينسكي – فنان روسي الجنسية رسم لوحات تجريدية بالكامل في مطلع عام 1911- هو أول فنان تجريدي.
لم ينل الفن التجريدي الرائد لهيلما أف كلينت تقديرًا إلا قبل سنوات قريبة. هذه صورة للمعرض الشهير في متحف غاغينهايم، عام 2018 .لم ينل الفن التجريدي الرائد لهيلما أف كلينت تقديرًا إلا قبل سنوات قريبة. هذه صورة للمعرض الشهير في متحف غاغينهايم، عام 2018 .
ولكن في الآونة الأخيرة، وبفضل المعرض الرائد في متحف مقاطعة لوس أنجلوس للفنون في عام 1986 الذي حمل اسم «الروحانية في الفن: الرسم التجريدي 1890 – 1985»، وقع الاختيار على هيلما أف كلينت كأول رسامة تجريدية. بدأت كلينت في رسم لوحات تجريدية بدءًا من عام 1906، وحملت مجموعتها عنوان «الفوضى البدائية». كانت الفنانة متكتمة في ما يتعلق بأعمالها التجريدية، ولم تُعرض أيّ منها في معارض عامة، وبقيت غير معروفة حتى أزيح عنها الستار مؤخرًا.
ولعل الجدال حول هوية أول من مارس الفن التجريدي سيستم، لكن الحقيقة الأكثر أهمية هي أن العديد من الفنانين الأوروبيين البارزين قد توصّلوا في أعمالهم إلى التجريد بحلول الحرب العالمية الأولى. لقد وجد كل منهم طريقته الخاصة في التخلي عن الفن التشخيصي (figurative painting). وجديرٌ بالذكر أنّه لم تكن هناك حركة «تجريدية» دولية ذات رؤية أو بيان مشترك.
في ضوء ذلك، فإن السؤال الملحّ حقًا هو: لمَ لمْ يتبنى الفنانون الغربيون الفن التجريدي على امتداد قرون عديدة؟ لماذا كان التجريد غير ضروري أو لا معنى له أو غير مناسب أو حتى لا يمكن تقبّله لقرونٍ متوالية في الفن الغربي؟
ظهرت العديد من التفسيرات لشرح ذلك. إحدى النظريات الأكثر وضوحًا هي أن ظهور التصوير الفوتوغرافي بوصفه شكلًا من أشكال الفن، إضافةً إلى تطور الفن الحديث، سببان رئيسان لإزاحة الرسم التشخيصي.
ثمّة إجابات أخرى غير ملموسة لاستكشاف الأسباب: ربما عندما أصبحت الأعمال الفنية قابلة للاستهالاك بشكل متزايد، مثل السلع، بات من السهولة فصل اللوحات والمنحوتات عن التجارب المحددة لمبدعيها. ربما أدت الحداثة في الغرب إلى إفراغ الفن من المحتوى التشخيصي؛ مما دفع الفنانين أيضًا إلى التخلي عن التمثيل التشخيصي.
كل من هذه الإجابات معقدة وتتطلب الكثير من الشرح، ولا يمكن إلا أن تكون تخمينات. لا توجد إجابة واضحة لهذه المسألة. ربما يكون من الأفضل طرح السؤال حول سبب تقبّل الفن التجريدي فنًّا من الفنون الرسمية في تاريخ الفن الغربي في مرحلة معينة على علماء الأنثروبولوجيا بدلًا من طرحها على مؤرخي الفن. فما هو واضح أن الفن التجريدي كان موجودًا دائمًا في مناطق أخرى من العالم.
ما جعل الفن التجريدي فنًّا حديثًا على وجه التحديد في العالم الغربي هو نظام المعارض، الذي أعطى القيمة الفنية للأعمال المعروضة. وكما هو واضح فقد ازدهر التجريد لآلاف السنين المناطق الشرقية والجنوبية من العالم، دون عناء التحقق من مكانة الأعمال المعروضة في الصالونات [والمعارض، كما هو في العالم الغربي].
الواقع الافتراضي و«الافتراضية»
يتبنى بيبي كرمل وهو مؤرخ فني، في كتابه « الفن التجريدي: تاريخ عالمي»، فكرة أنّ الفن التجريدي كان دائمًا موجودًا بشكل طبيعي عندما ننظر إليه نظرة شاملة وعالمية، بيد أنّه يتحاشى طرح نظرية عن تطور الفن التجريدي. بالنسبة إلى كرمل، فإنّ هذا الفنّ متجذر في العالم الحقيقي، وهو ليس فنًّا «مجردًا» على الإطلاق، كما أنّه تقليد عالمي وليس محليًا.
في دراسته حول الفن التجريدي يقسم العمل الفني إلى خمس فئات واسعة تنتمي إلى العالم الحقيقي: الأجسام، والمناظر الطبيعية، والكون، والبنى، والعلامات والأنماط. من خلال فحص الفن التجريدي بهذه الطريقة، يرى كرمل في اللوحات التجريدية موضوعات قابلة للتحليل، بعكس النقاد والمؤرخين الأرثوذكسيين الذين رأوا فيها مجرّد توليفات شكلية مكوّنة من لون وشكل.
ربما يكون من الأفضل أن يطلق على الفن التجريدي: فن ما تم تجريده (abstracted art)؛ لأنّ الفنانين التجريديين عادةً ما يستخلصون ويجرّدون تعبيرات التجارب في شكل ولون، أكثر من كونها توليفات مكونة من شكل ولون. ومرّد ذلك الطبيعة الجوهرية للرسم والنحت؛ فهما (الشكل اللّون) وسيطان للتعبير، مثل الشاشة أو المسرح لخيال الفنان. كما هو الحال في المسرح أو السينما، فإنّ جمهور اللوحة أو المنحوتة يعلّق معتقداته من أجل أن يتقبل المشهد.
من المفيد التفكير في اللوحة التشخيصية التقليدية أو النحت على أنها حقيقة افتراضية. إذْ استخدم الفنانون لقرون عديدة الحيل البصرية -مثل المنظور الخطي، والتقصير المسبق، والتظليل- لمحاكاة الطريقة التي ندرك بها الأشياء في الفضاء الحقيقي. إنّ المشاهد تُنشأ في فضاء افتراضي – سواء كانت القاعدة التي تدعم التمثال أو القماش – ليراها المشاهدون بوصفها خدعة بصرية.
«القديس بطرس شفاء أحد الأشخاص وبعث تابيثا من الموت» ماسولينو دي بانيكال. اعتمد الرسم الغربي قبل القرن العشرين على الحيل البصرية لخلق واقع افتراضي. إحدى هذه الحيل هي المنظور الخطي، وهذه اللوحة هي أول مثال لاستخدام نقطة تلاشٍ متسقة.«القديس بطرس شفاء أحد الأشخاص وبعث تابيثا من الموت» ماسولينو دي بانيكال. اعتمد الرسم الغربي قبل القرن العشرين على الحيل البصرية لخلق واقع افتراضي. إحدى هذه الحيل هي المنظور الخطي، وهذه اللوحة هي أول مثال لاستخدام نقطة تلاشٍ متسقة.
يستمتع مشاهدوّ الأعمال الفنية العظيمة معنى ما يُرسم، ويقدرون الطريقة التي يتجلّى فيها الوهم عبر تمازج اللون والشكل.
يبقى الفن التجريدي، إلى حدٍ ما، ضمن إطار التجربة الجمالية. فقد سعت حركات الفن الحديث التي أدت إلى التجريد -أيّ «مدارس الفن»، مثل الانطباعية والفاوفية والتكعيبية- إلى تمثيل العالم بشكل مختلف عن كل الفنون التي سبقتها. إذْ ادعوا الاقتراب من الحقيقة الذاتية عبر تهميش جميع الحيل الوهمية التقليدية التي حاولت إعادة إنتاج الواقع بحذافيره كحقيقة موضوعية.
«الأحمر والأصفر والأزرق» (1925) واسيلي كاندينسكي. كان كاندينسكي يعدّ لفترةٍ طويلة أب الرسم التجريدي الغربي.«الأحمر والأصفر والأزرق» (1925) واسيلي كاندينسكي. كان كاندينسكي يعدّ لفترةٍ طويلة أب الرسم التجريدي الغربي.
بالنسبة إلى هذه المدارس، أصبح الفن أقل من أن يوصف بأنّه واقع افتراضي، لكنه مع ذلك احتفظ بالافتراضية، وأصبح افتراضيًا. لقد أخذ الفن التجريدي مسار التطور هذا إلى أقصاه: من الواقع الافتراضي إلى الافتراضية.
ماذا تعني «الافتراضية» هنا؟ إنّها الوجود كجوهر وتأثير، ولكن بدون اللجوء إلى الواقع. اللوحة التجريدية التي رسمها كاندينسكي، على سبيل المثال، ما زالت تُعدّ علاقة متبادلة بين الشكل واللون، و تعتمد على الرسم كمستوى تخطيطي: إنها نافذة تطلّ على «الواقع» الفردي الذي تصوّره كاندينسكي.
وما تزال العناصر في لوحات كاندينسكي تحظى بعلاقة متبادلة، كما هو الحال في فضاء الواقع الافتراضي للوحة التشخيصية؛ فجوهر الرسم سليم إذ إنّ ذلك الفضاء الافتراضي ما زال موجودًا. عندما يكون الفن التجريدي بناءً خالصًا، ويتخلص من المساحة الافتراضية الملازمة للرسم والنحت، يصبح متميزًا عنهما.
وصف دونالد جود الفنان التخفيفي (minimalist) مثل هذه الأعمال الفنية بأنها «أجسام محدّدة» (Specific Objects). إنّه مصطلح غير دقيق، ولكنه يصلح لإظهار أن مثل هذه الأعمال الفنية ليست رسمًا ولا نحتًا، ولكنها فئة أخرى تمامًا.
رأى دونالد جود أن أعماله وأعمال العديد من معاصريه تشغل مساحة هجينة، لا هي لوحات ولا هي نحت. عمل دون عنوان لدونالد جود.
استخدم جود هذا المصطلح لوصف أعماله الخاصة، ولكنه ينطبق على لوحات كازيمير ماليفيتش وفرانك ستيلا أحادية اللون، والتي تجعل اللوحة تندمج مع نفسها بالكامل، من أجل الوصول للتأثير الذي يأمل العمل في تحقيقه.
في مثل هذه الأعمال، لم يعد قماش اللّوحة (أو القاعدة) سطحًا تتفاعل فيه الأشكال والألوان في الفضاء الافتراضي. بدلاً من ذلك، تتفاعل الأشكال والألوان في الفضاء الحقيقي، في فضائنا.
تختلف معايير النجاح أو الفشل لهذه الأعمال عن الخصائص التقليدية للرسم والنحت. رأى جود أنّ خصائص الرسم والنحت تقف في طريق ما أراد تحقيقه من خلال اللون والشكل. في رأيه، كان لـ «أجسامه المحددة» تأثيرًا أحدّ من غيرها.
الواقع والأشكال الجديدة للإدراك الحسّي
الرسم نفسه له ثلاثة أنواع عامة من التجريد؛ أولًا، ثمّة أسلوب تعبيري تُرسم فيه الأشكال بحركاتٍ غير مقيدة؛ ثم هناك التجريد الهندسي حيث يتم هيكلة الأشكال؛ أما النوع الثالث، فهو تجريد مجال اللون حيث يتم عرض مساحات من الألوان بطريقةٍ لا شكل واضح لها.
لم تكن هذه «الأنماط» (styles) أنماطًا عرضيةً أو تعتمد على ذوق أو ميل الرسام كوسيلة لتحقيق هدفٍ ما من البحث الفني. وخير مثال على ذلك هو الفنان الذي غالبًا ما ينظر إلى عمله على أنّه ذروة التجريد الهندسي: بيت موندريان. إنّ لوحات بيت موندريان المكونة من شبكات (grids) ذات الخطوط السوداء والأجزاء الملونة على خلفية بيضاء؛ تهدف إلى استحضار «حقيقة أعلى».
بالنسبة إلى موندريان، كان الفن في جوهره معارضًا للواقع؛ «لأن الواقع يتعارض مع الروحي». بغض النظر عن هذه اللوحة الأشهر لموندريان، فإنّ جوانب الرسم التي تهم هذا الفنان حقًا لم تكن الجوانب المحددة للموضوع -أيّ ماذا أو ما يتم تصويره في اللوحة مثلًا- بل الجوانب القابلة للفهم عالميًا للشكل والخط واللون. إنّ لوحات موندريان، مثلها مثل لوحات الفنانين الآخرين، هي محاولة لاستخلاص الشكل واللون من أجل الاقتراب من ذلك الجوهر العالمي والروحي للفن.
عبّر موندريان عن رغبته في الوصول إلى «أساس» الأشياء من خلال الحدس، كالعديد من الفنانين التجريديين الآخرين في النصف الأول من القرن العشرين الذين رغبوا في الوصول إلى قوى غير مرئية حولنا، ولكنها معروفة أو محدوسة.
«التكوين الثاني باللون الأحمر والأزرق والأصفر» (1930) - بيت موندريان«التكوين الثاني باللون الأحمر والأزرق والأصفر» (1930) – بيت موندريان
في أواخر القرن التاسع عشر، لاحظ العلماء بشكلٍ أفضل مما سبق القوى غير المرئية مع انتشار التقنيات الجديدة، وأصبح من الواضح أن العالم أرحب مما يبدو للعين. في الوقت نفسه، ظهرت حركات روحية بديلة جمعت بين الأفكار الأفلاطونية والتصوف.
كان كلينت وموندريان من بين العديد من الفنانين الذين انغمسوا في أشكال الروحانية خارج العوالم التقليدية للدين. اعتقدت كلينت أن لوحاتها هي وحي عالم روحي، وأن مهمتها كانت العمل «على مستوى روحاني» لتمثيل روح الإنسان، بدلًا من صورته الفانية.
بحلول عشرينيات القرن الماضي، كانت نظرية فرويد عن للعقل البشري قد تغلغلت أيضًا في عالم الفن. كذلك السريالية، وهي حركة منظمة بإحكام بدأت مع بعض الفنانين الذين سعوا إلى التنقيب عن الإمكانات الإبداعية للعقل الباطن، وهي الحركة الثقافية التي كانت سائدة في أوروبا بين الحربين العالميتين.
لم تكن السريالية دوغمائية في محاولتها لاستكشاف اللاوعي، ولذلك ظهر عدد من الأساليب والطرق لمحاولة إخراج اللاوعي إلى السطح. إحدى هذه الأساليب كان الرسم الآلي (Automatism)، وهي عملية يتخلى فيها الفنان عن السيطرة الواعية لليد التي ترسم أو تصور. في هذا المجال، تبنى الفنانون مثل أندريه ماسون وخوان ميرو الفرصة لبناء صورهم باستخدام حركات حرّة، وحتى إلقاء الطلاء على القماش.
طور أرشيل غوركي -هو مهاجر أرمني عاش في الولايات المتحدة- أسلوبًا في الرسم يدمج بين الرسم الآلي وتجريد مجال الألوان. لوحاته في الأربعينيات حجمُها ضخم – ومرد ذلك تأثره بأعماله السابقة كفنان جداري مُعيّن من الدولة خلال السنوات الأخيرة من الكساد الكبير – لكنها معبّرة وغنائية في الرسم بالفرشاة.
ألهم إدماج غوركي للأنماط جيلًا واسعًا من الفنانين الأمريكيين في فترة ما بعد الحرب لاحتضان التجريد الواسع النطاق. ما نسميه الآن «التعبيرية التجريدية»، وكان ذاك الجيل في الواقع مجموعة فضفاضة من الفنانين الذين يستخدمون أنماطًا متعدّدة من أنماط التجريد.
ربما كان القاسم المشترك بين هؤلاء الفنانين – على الأقل في السنوات الأولى – هو دعم جيل جديد من النقاد بقيادة كليمنت غرينبيرغ، الذي كان يعتقد أن التجريد هو التعبير الأسمى للفن الغربي.
«الكبد هو مشط الديك» (1944) - أرشيل جوركي.«الكبد هو مشط الديك» (1944) – أرشيل جوركي.
الحداثة ومصير الفنّ الغربي
كان يُعتقد في بعض الأوساط الفكرية المؤثرة أنّ الفن يتقدم نحو هدف؛ وهذا المضمون يشتمل عليه مصطلح «الطليعية» (Avant-garde)، الذي يُوصف به الفنّانون الذين يبتكرون أرضية جمالية جديدة. أصل المصطلح فرنسي يُطلق على الجنود الذين يتقدمون إلى مناطق جديدة.
بالنسبة إلى غرينبيرغ، لم يكن هؤلاء الفنّانون يوسّعون حدود إمكانات الفن؛ بل كانوا يتقدمون نحو الهدف الحقيقي والمفرد لكل شكل فني.
يُعدّ غرينبيرغ شخصية مهمة في تاريخ الفن التجريدي، وذلك لأمرين: بوصفه مناصرًا رائدًا في مسألة تفوق الفن التجريدي على غيره من أنواع الرسم، وتأكيده للقوة التي امتلكها هذا الفن. كان ناقدًا في اللجنة الأمريكية للحريّة الثقافية التي تمولها الدولة، وهي مجموعة تم إنشاؤها لتعزيز الفن الأمريكي على المستوى الدولي.
أصبحت أفكار غرينبيرغ مؤثرة عندما كانت الولايات المتحدة جزءًا من الحرب على الفاشية والنازية، وخلال الحرب الباردة اللاحقة ضد الشيوعية السوفيتية. كانت معايير الفن الفاشي والسوفياتي واضحة، وهي ما تحددها السلطات الثقافية أنها كذلك، بيد أنّه ما لم يكن واضحًا هو معايير الفن «الجيد» وتحديدًا في الغرب الديمقراطي.
كان الماركسيون هم من تعاطف مع غرينبيرغ في البداية، لكن ارتبط تفكيره بشكلٍ متزايد بالهيمنة الثقافية الأمريكية. بالنسبة إليه، كان التجريد في أعمال بولوك فنًا مثاليًا لمجتمع ديمقراطي. تتجلى الحداثة في الفن، وفقًا لغرينبيرغ، في إطار التنوير الأوروبي؛ أيّ في فترة ازدهار الأفكار الفلسفية والعلمية التي أعطت الأولوية للعقل.
في مقالته المؤثرة « الرسم الحداثي» (1961)، وصفَ غرينبيرغ إيمانويل كانط – الفيلسوف الألماني في عصر التنوير – بأنّه «أول حداثي حقيقي». كان أسلوب كانط في «النقد» هو استخدام العقل لنقد العقل بغرض توضيحه، ومنحه استقلالية عن أنواع التفكير الأخرى.
«أولمبيا» - إدوارد مانيه (1863). بالنسبة إلى كليمنت غرينبيرغ، كان مانيه أول رسام حداثي. لقد رسم مانيه لوحاته بأسلوبٍ مسطّح بشكلٍ متعمد.«أولمبيا» – إدوارد مانيه (1863). بالنسبة إلى كليمنت غرينبيرغ، كان مانيه أول رسام حداثي. لقد رسم مانيه لوحاته بأسلوبٍ مسطّح بشكلٍ متعمد.
بالطريقة نفسها، كان الرسامون الحداثيون – من إدوارد مانيه في القرن التاسع عشر إلى موريس لويس، وهو رسام يعمل ينتمي إلى رسامي أسلوب مجال ألوان في الولايات المتحدة في الوقت الذي كتب فيه غرينبيرغ مقالته – يعملون على ترسيخ الفن التعبيري «بشكل صارم في مجال تخصصه».
رأى غرينبيرغ أن وضوح الفن التجريدي -الذي كان صادقًا بالنسبة إلى الوسيط الذي يُعبّر من خلاله- معارضٌ لـ«الفن الشعبي المبتذل [الكيتش]» الذي ينُتج على نطاق واسع في الثقافة الشعبية. إن إزالة «الكيتش» كانت مسألة استجلاء وتوضيح تحتاجها جميع الفنون لكي تصبح تعبيرًا عن إمكاناتها الجمالية الكامنة.
اللوحات مسطّحة، وإيهام العمق الذي نجده في معظم الفن الغربي كان انحرافًا عن جوهر فن الرسم ذاته. كانت استقلالية الشكل الفني في جميع خصائصه دون أن تتلوث بأشكال فنية أخرى. وفقًا لغرينبيرغ، يعدّ الشكل واللون من أهم خصائص الرسم، و أفضل تمثيل لها يكون بشكلٍ مسطّح.
وهكذا دافع غرينبيرغ عن «التسطيح» الذي تجلّى في لوحات الفنانين الأمريكيين التجريدية مثل جاكسون بولوك باعتباره تحقيقًا لهذا الوضوح الحداثي. لقد ضم هؤلاء الفنانين معًا ضمن فريق واحد، وهم يمثّلون المرحلة التالية في الحداثة، وقد حلّت رؤيتهم الأمريكية المميزة محلّ الفن الأوروبي الطليعي.
وفي الوقت الذي أصبح فيه الفن التجريدي الأمريكي مهيمنًا، تراجعت هيمنة غرينبيرغ النقدية، وظهرت أشكال جديدة من الفن الطليعي، مستوحاة مباشرة من الثقافة الجماهيرية، وحلّت محلّ التعبيرية التجريدية في المخيال العام. تبنى فنانوّ «البوب» مثل: آندي وارهول، وريتشارد هاميلتون هذا النوع من «الفن الشعبي المبتذل» الذي رآه غرينبيرغ تلويثًا للفن الحقيقي.
استمرت الأعمال الفنية التجريدية، ولكن تخلّى الفنّانون التجريديون الأكثر جرأة عن الفكرة الصارمة «للنقد الحداثي»، وعن الوضوح المتعلق بخصوصية الوسيط الفني، وذلك لصالح أشكال أخرى من التعبير.
نظر فنانوّ «ما بعد الحداثة» إلى السخرية وعملية الرسم نفسها، كطرق لتجاوز الطريق المسدود للحداثة. تبنى الألماني غيرهارد ريختر كلا النهجين؛ فبعض أعماله التجريدية في الستينيات كانت مصنوعة بممسحاتٍ بدلًا من الفرشاة، حتى يتمكن من لفت الانتباه إلى عملية صنع اللوحة نفسها.
كانت «اللوحات التجريدية» البارزة الأخرى التي رسمها ريختر في الواقع صورًا واقعية مرسومة بعناية تعكس لوحاته التجريدية الأخرى. أصبحت طلائعية الرسم التجريدي مفهومية أكثر، ما جعل ضمنيًّا قضية الرسم تحظى باستقلالية أقل مما كان كان يعتقد النقاد الحداثيون.
قلّد فنانوّ «نيو جيو»، مثل: الرسام بيتر هالي، والنحات أشلي بيكرتون اللغة البصرية للتجريد الهندسي، لكنهما دمجاها مع السلع الاستهلاكية بألوانٍ تجارية فاتحة وأحيانًا فلورية.
منذ ذلك الجيل ما بعد الحداثي من الرسامين والنحاتين الممتد من الستينيات إلى التسعينيات، ازدهر التجريد متفرّعًا إلى عددٍ لا يُحصى من الأساليب والمقاربات بجوار الفن التشخيصي. هنا يمكن القول إنّ التجريد المتحرّر من عبء التوقعات الحداثية هو ببساطة نهج للتعبير مثل أيّ نهج آخر.
وتجدر الإشارة إلى أنّ بعض الفنانين التجريديين استخدموا الحيل البصرية المستعملة في الفن التشخيصي – مثل المنظور والتظليل – في لوحاتهم. ولاستخدامهم هذا أهداف فريدة و غالبًا لا تهتم بالنظرية.
قلّد فنانوّ «ما بعد الحداثة» مثل: بيتر هالي اللغة البصرية المستعملة في الفن التجريدي الحديث (في حالة بيتر، التجريد الهندسي)، للتعليق على طبيعة الفن والمعنى نفسه. تمثّل هذه الكتل الملونة «الخلايا» و«الأنابيب».قلّد فنانوّ «ما بعد الحداثة» مثل: بيتر هالي اللغة البصرية المستعملة في الفن التجريدي الحديث (في حالة بيتر، التجريد الهندسي)، للتعليق على طبيعة الفن والمعنى نفسه. تمثّل هذه الكتل الملونة «الخلايا» و«الأنابيب».
هذا هو التحرّر نحو الأفضل بين الرسامين التجريديين الذين يمكنهم الالتزام برؤيةٍ فريدة بالرسم على القماش. لكن فكّ ارتباط الفن التجريدي عن إطاره الفلسفي الأوسع أدى أيضًا إلى انتشارٍ يثير التساؤل لأعمال تجريدية متنوعة قابلة للاستهلاك – بمعنى أنّها فقدت قيمتها، وباتت تُباع وتُشترى سريعًا بأسعارٍ مربحة – يشتريها المشترون المتضاربون.
دفع هذا التحول الناقد جيري سالتز إلى كتابة: « الزومبي على الجدران: لماذا يبدو الكثير من التجريد الجديد متشابهًا؟». وقد شبه اللّوحات التجريدية بصورة «الزومبي»، تحقيرًا لأعمال عددٍ من الرسامين التجريديين البارزين، الذين استخدموا الفنّ وجماليته لتقديم أعمال مبتذلة.
ومن المفارقات أن هؤلاء الفنانين نظروا إلى الشكلانية بوصفها فنًّا حداثيًّا متبنّين منظور غرينبيرغ، لكنهم بالطبع قدّموا أعمالًا في ظلّ فراغ تاريخي وبعد فترةٍ طويلة حين لم يُصبح التجريد مثيرًا للاهتمام أو راديكاليًا بأي وجه من الوجوه.
في الواقع، لم يصل مشروع الحداثة في الفن التجريدي إلى نهايته، بل النقد. إنّ النقد -أيّ الإطار الفلسفي الواسع الذي يصادق على الأعمال الفنية ويثمّنها لأهميتها الثقافية والتاريخية- هو ما فقد التوجه والسلطة.
كان مسار الفن الغربي منذ عصر التنوير يتأرجح بين قطبي الدوغمائية النقدية والإبداع. تكمن المشكلة أنه في العقود الأخيرة، وفي ظلّ غياب أي مشروع نقدي متماسك، انجرف الفن نحو إرضاء اهتمامات دقيقة ومتنوعة تزداد باستمرار.
في حين كانت هناك «حركات» و«مدارس» فنية -مصطلحان يشيران إلى الوجهة والانضباط- لم يعد لدينا الآن سوى «مشاهد».
هذا ليس بالضرورة أمرًا سيئًا. ولكن في عالم حيث «كل شيء مقبول – anything goes»، لا يوجد مجال لهذا النوع من الابتكار والتجاوز الذي أدى إلى ظهور الفن التجريدي في الغرب، وهذا ما جعل الفن الحديث فنًّا مثيرًا للغاية.
من الصعب في هذه اللحظة التاريخية أن ندرك ما الذي جعل لوحة بولوك «رقم 32» مثيرة للانقسام، ومخلخلةً جدًا للمعايير، وفي الوقت نفسه محتفظةً بقيمةٍ عالية جدًا لأولئك الذين يعتقدون أن للفنِّ مكانًا في المجتمع يتجاوز المتعة.
[divider style=”solid” top=”20″ bottom=”20″]
[1] واللقب كذلك يُلمح إلى القاتل المتسلسل في لندن آخر القرن التاسع عشر: جاك السفّاح
Jack the ripper (مدير التحرير).
### خارج عقلك | توم تشاتفيلد – ت: محمد السعيد
عندما يكون هاتفي النقال بين يديّ، هل أكون أنا الشخص نفسه لو كان الهاتف في غرفة أخرى؟ من ناحية،...
### الدراما في التعليم: مقاربات وتطبيقات | نعيم حيماد
افتتاحيّة حظي استخدام الدراما في التعليمفي السنوات الأخيرة باهتمام كبير من قبل نخبة من المنظرين والممارسين للدراما في مجال التعليم....
### الحقائق المخفية | دي بي سي بيير – ت: محمد السعيد
يحمل جبل كلسي خشن في غرب إيران عددًا من النقوش البارزة، من بينها لوحة طولها خمسة وعشرين مترًا منقوشة...
### التغلُّب على كاشف الكذب | كلاريسا سيباغ-مونتِنفيوري – ت: محمد السعيد
حين اتُّهِمَتْ مربية الأطفال البريطانية لويز وودورد بهزِّ رضيع حتى الموت في مدينة نيوتن بولاية ماساتشوستس، لم تكتفِ بإعلان...
### عن منصة معنى
«معنى»، مؤسسة ثقافية تقدّمية ودار نشر تهتم بالفلسفة والمعرفة والفنون، عبر مجموعة متنوعة من المواد المقروءة والمسموعة والمرئية. انطلقت في 20 مارس 2019، بهدف إثراء المحتوى العربي، ورفع ذائقة ووعي المتلقّي المحلي والدولي، عبر الإنتاج الأصيل للمنصة والترجمة ونقل المعارف.
### روابط سريعة
### التصنيفات
### مرحبا بك!
قم بتسجيل الدخول إلى حسابك
تذكرني
### قم بإنشاء حساب جديد!
املأ النموذج أدناه للتسجيل
### طلب إعادة تعيين كلمة المرور
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان البريد الإلكتروني لإعادة تعيين كلمة المرور الخاصة بك.
### Add New Playlist
- Select Visibility -PublicPrivate
No Result
عرض جميع النتائج
-
00:00
00:00
-
00:00
00:00
|
article
|
Arabic
|
ar
|
الفنّ التجريدي: بين الماضي والحاضر - منصة معنى الثقافية
|
https://mana.net/abstract-art/
|
1,958 |
ولكن في عالم حيث «كل شيء مقبول – anything goes»، لا يوجد مجال لهذا النوع من الابتكار والتجاوز الذي أدى إلى ظهور الفن التجريدي في الغرب، وهذا ما جعل الفن الحديث فنًّا مثيرًا للغاية.
|
sentence
|
هذا ليس بالضرورة أمرًا سيئًا. ولكن في عالم حيث «كل شيء مقبول – anything goes»، لا يوجد مجال لهذا النوع من الابتكار والتجاوز الذي أدى إلى ظهور الفن التجريدي في الغرب، وهذا ما جعل الفن الحديث فنًّا مثيرًا للغاية.
|
paragraph
|
Arabic
|
ar
|
الفنّ التجريدي: بين الماضي والحاضر - منصة معنى الثقافية
|
https://mana.net/abstract-art/
|
1,959 |
من الصعب في هذه اللحظة التاريخية أن ندرك ما الذي جعل لوحة بولوك «رقم 32» مثيرة للانقسام، ومخلخلةً جدًا للمعايير، وفي الوقت نفسه محتفظةً بقيمةٍ عالية جدًا لأولئك الذين يعتقدون أن للفنِّ مكانًا في المجتمع يتجاوز المتعة.
|
paragraph
|
لا توجد منتجات في سلة المشتريات.
No Result
عرض جميع النتائج
الثلاثاء, سبتمبر 10, 2024
No Result
عرض جميع النتائج
No Result
عرض جميع النتائج
# الفنّ التجريدي: بين الماضي والحاضر
## ترجمة: أنطونيوس نادر
AA
AA
إعادة تعيين
فنٌ مليء بالتحديات
ثمّة خطٌ رفيع يفصل بين الفن التجريدي ومجرد الزخرفة، ولوحة «رقم 32» (نُشرت عام 1950)، لجاكسون بولوك تتأرجح بين هذا الخطّ. فهي لا تشير إلى معنىً واضح، ولكن لا يمكن القول إنّها بلا معنى على الإطلاق. كما أنّها ليست معبّرة بشكلٍ مباشر، ولا يعني هذا أنها لا تعبّر عن مدلولٍ ما. تحمل هذه اللوحة الكثير من المضامين عن الفن الغربي بالنسبة إلى شخصٍ خبيرٍ في تاريخ الفن؛ أما بالنسبة إلى شخصٍ عادي، فقد يراها عملًا مبتذلًا بالكاد يعبّر عن أمرٍ ما.
اللوحة شبكة من الخطوط وبقعٍ من الألوان، رُسمت عن طريق صبّ طلاءٍ رخيص بعشوائيةٍ مباشرة على القماش. تتكون اللوحة من طلاءٍ أسود فقط وقماشٍ خام. واللوحة ضخمة؛ إذ يبلغ طولها تسعة أقدام وعرضها خمسة عشر قدمًا، وتغطي مجال رؤية المشاهد أثناء اقترابه منها. تقليديًّا، حتى اللوحات التجريدية تتكون من أجزاءٍ مترابطة مع بؤر تركيز (emphases) وعمقٍ يُنقل من خلال اللون والظلال، ولكن «رقم 32» ليس لها أجزاء؛ إنّها تتكون من تعالقات، والبؤرة فيها تكمن عبر امتداد سطح القماش المستطيل.
يمنحها ما سبق عمقًا سطحيًا، وربما لا عمق فيها: مجرّد طلاء على قماش. إنّها عبث بالشكل واللون. حتى اسمها، ببساطة رقمٌ معيّن – رقم 32 – يجعلها تنأى بنفسها عن أي فكرة مفادها أنها تعكس مدلولًا محدّدًا. تشير عناوين أعمال بولوك الأخرى إلى نوعٍ من الاختبار الشخصي، وإلى الاستخدام السمفوني المتعدد الطبقات للون والملمس؛ خذ مثلًا لوحاته التي تحمل اسم: «إيقاع الخريف»، و«الضباب الأرجواني»، و«الأقطاب الزرقاء»، و«انعكاس الدنقلة الكبير».
هذا لا ينطبق على لوحة «رقم 32»؛ شكلها الخام وبساطتها دليل على أنّ الفنان لم يخطط مسبقًا لرسمها؛ أيّ أنّه لم ينتق الألوان ولا الطبقات. يبدو بولوك هنا أكثر حضورًا، من خلال لمساته الحادة. بالنسبة إلى مؤيديّ عمل بولوك، تختصر هذه اللوحة خلاصة نظرة الفنان الجمالية. أما بالنسبة للبعض الآخر، فهي لوحة مبتذلة.
وصف جوزيف بويس -النحات الألماني في فترة ما بعد الحرب- الفنَّ التجريدي الأمريكي بأنه مجرد «تغليف»، أيّ سطح بلا محتوى. في هذا الصدد، قد يتفق البعض أن لوحة «رقم 32» تجسد فراغ الفكر والشعور ذاك. فقد رأى الروائي والناقد الفني روبرت كوتس أن فن بولوك لم يكن سوى «انفجارات» غير منظمة من الطاقة العشوائية. غير أنّ طائفة كبيرة من متذوقي الفن التجريدي لا تروق إليهم أعمال بولوك ويرونها فنًّا محيرًا، حتى إنّ بعضهم يراها إهانةً للذوق أو الحسّ السليم.
عُرف بولوك بلقب: «جاك فنان النقط» (Jack the Dripper) [1] في الأوساط الإعلامية المشككة بعمله حيث ادعى كثر أن أيّ شخص يمكنه أن يرسم كما يرسم بولوك إلّا أنّ أحدًا لم يتجرأ على فعل ذلك.
«رقم 32» - جاكسون بولوك«رقم 32» – جاكسون بولوك
بيد أنّ هذا هو مغزى الفن التجريدي في التقليد الغربي: إنّه تحدّ. وفي ظل الكثير هذه التحديات، تُعد لوحة « رقم 32» اللوحة الأكثر تمثيلًا لهذا الفن.
قصة الفنّ التجريدي
مسار قصة الفن التجريدي مضمّنة في الدراسات التاريخية الفنية، إلّا أنّ المحطات الرئيسة لهذا المسار كانت محط تغييرات مفاجئة كلما اكتشف مؤرخوّ الفن حقائق جديدة.
انطلق مسار الفن التجريدي بدءًا من القرن التاسع عشر وما تلاه؛ حيث استفاد الفنانون من مادة الطلاء والجوانب الشكلية للرسم مثل اللون والدرجة والخطوط. يُعرف هذا الانشغال بالجوانب غير التمثيلية (non-representative) للفن باسم «الشكلانية»، لأنّه انشغال «بالشكل»، أيّ بتوسل شكل المحتوى بدلًا من المحتوى في ذاته. بالنسبة إلى الفنانين في القرن التاسع عشر، صُنّف الفن التجريدي على أنّه «فنٌّ من أجل الفنّ»، وكانت الفكرة الشائعة مفادها أنّ المتذوق للفن يمكنه الاستمتاع بالعمل دون اللجوء إلى معنى أو حتى أي شيء آخر يمثل أمرًا ما.
تمثّل لوحة «الموسيقى الهادئة باللّونين الأسود والذهبي – الصاروخ الساقط» (1872)، للفنان جيمس مكنيل ويسلر هذا الاتجاه الذي تبلور لاحقًا في الفن التجريدي. إنّ مشهد ويسلر الغامض من الناحية المكانيّة يقترب إلى التجريد، وذلك بمحاولته نقل الشعور أو الانطباع الخاص بالمشهد بدلًا من إعادة إنتاجه بحذافيره.
«الموسيقى الهادئة باللونين الأسود والذهبي - الصاروخ الساقط» (1872-1877) - جيمس أبوت مكنيل ويسلير«الموسيقى الهادئة باللونين الأسود والذهبي – الصاروخ الساقط» (1872-1877) – جيمس أبوت مكنيل ويسلير
في عام 1877، انتقد جون روسكين – أبرز نقّاد بريطانيا في ذلك الوقت – عمل ويسلير هذا نقدًا لاذعًا فشبهه «بمن قام برمي الطلاء في وجه الجمهور». تأثر ويسلر بهذا الكلام، فرفع دعوى قضائية ضد روسكين، بيد أنّه خسرها لأن المسؤولين عرضوا اللوحة -خطأً- مقلوبةً على المحكمة. أفلس ويسلير بسبب هذه القضية، لكن مسيرة تطور الفن التجريدي استمرت.
من ناحيةٍ أخرى، تحديد أول فنان تجريدي في العالم موضوع نزاع. في نظر أبحاث تاريخ الفن التقليدية، كان فاسيلي كاندينسكي – فنان روسي الجنسية رسم لوحات تجريدية بالكامل في مطلع عام 1911- هو أول فنان تجريدي.
لم ينل الفن التجريدي الرائد لهيلما أف كلينت تقديرًا إلا قبل سنوات قريبة. هذه صورة للمعرض الشهير في متحف غاغينهايم، عام 2018 .لم ينل الفن التجريدي الرائد لهيلما أف كلينت تقديرًا إلا قبل سنوات قريبة. هذه صورة للمعرض الشهير في متحف غاغينهايم، عام 2018 .
ولكن في الآونة الأخيرة، وبفضل المعرض الرائد في متحف مقاطعة لوس أنجلوس للفنون في عام 1986 الذي حمل اسم «الروحانية في الفن: الرسم التجريدي 1890 – 1985»، وقع الاختيار على هيلما أف كلينت كأول رسامة تجريدية. بدأت كلينت في رسم لوحات تجريدية بدءًا من عام 1906، وحملت مجموعتها عنوان «الفوضى البدائية». كانت الفنانة متكتمة في ما يتعلق بأعمالها التجريدية، ولم تُعرض أيّ منها في معارض عامة، وبقيت غير معروفة حتى أزيح عنها الستار مؤخرًا.
ولعل الجدال حول هوية أول من مارس الفن التجريدي سيستم، لكن الحقيقة الأكثر أهمية هي أن العديد من الفنانين الأوروبيين البارزين قد توصّلوا في أعمالهم إلى التجريد بحلول الحرب العالمية الأولى. لقد وجد كل منهم طريقته الخاصة في التخلي عن الفن التشخيصي (figurative painting). وجديرٌ بالذكر أنّه لم تكن هناك حركة «تجريدية» دولية ذات رؤية أو بيان مشترك.
في ضوء ذلك، فإن السؤال الملحّ حقًا هو: لمَ لمْ يتبنى الفنانون الغربيون الفن التجريدي على امتداد قرون عديدة؟ لماذا كان التجريد غير ضروري أو لا معنى له أو غير مناسب أو حتى لا يمكن تقبّله لقرونٍ متوالية في الفن الغربي؟
ظهرت العديد من التفسيرات لشرح ذلك. إحدى النظريات الأكثر وضوحًا هي أن ظهور التصوير الفوتوغرافي بوصفه شكلًا من أشكال الفن، إضافةً إلى تطور الفن الحديث، سببان رئيسان لإزاحة الرسم التشخيصي.
ثمّة إجابات أخرى غير ملموسة لاستكشاف الأسباب: ربما عندما أصبحت الأعمال الفنية قابلة للاستهالاك بشكل متزايد، مثل السلع، بات من السهولة فصل اللوحات والمنحوتات عن التجارب المحددة لمبدعيها. ربما أدت الحداثة في الغرب إلى إفراغ الفن من المحتوى التشخيصي؛ مما دفع الفنانين أيضًا إلى التخلي عن التمثيل التشخيصي.
كل من هذه الإجابات معقدة وتتطلب الكثير من الشرح، ولا يمكن إلا أن تكون تخمينات. لا توجد إجابة واضحة لهذه المسألة. ربما يكون من الأفضل طرح السؤال حول سبب تقبّل الفن التجريدي فنًّا من الفنون الرسمية في تاريخ الفن الغربي في مرحلة معينة على علماء الأنثروبولوجيا بدلًا من طرحها على مؤرخي الفن. فما هو واضح أن الفن التجريدي كان موجودًا دائمًا في مناطق أخرى من العالم.
ما جعل الفن التجريدي فنًّا حديثًا على وجه التحديد في العالم الغربي هو نظام المعارض، الذي أعطى القيمة الفنية للأعمال المعروضة. وكما هو واضح فقد ازدهر التجريد لآلاف السنين المناطق الشرقية والجنوبية من العالم، دون عناء التحقق من مكانة الأعمال المعروضة في الصالونات [والمعارض، كما هو في العالم الغربي].
الواقع الافتراضي و«الافتراضية»
يتبنى بيبي كرمل وهو مؤرخ فني، في كتابه « الفن التجريدي: تاريخ عالمي»، فكرة أنّ الفن التجريدي كان دائمًا موجودًا بشكل طبيعي عندما ننظر إليه نظرة شاملة وعالمية، بيد أنّه يتحاشى طرح نظرية عن تطور الفن التجريدي. بالنسبة إلى كرمل، فإنّ هذا الفنّ متجذر في العالم الحقيقي، وهو ليس فنًّا «مجردًا» على الإطلاق، كما أنّه تقليد عالمي وليس محليًا.
في دراسته حول الفن التجريدي يقسم العمل الفني إلى خمس فئات واسعة تنتمي إلى العالم الحقيقي: الأجسام، والمناظر الطبيعية، والكون، والبنى، والعلامات والأنماط. من خلال فحص الفن التجريدي بهذه الطريقة، يرى كرمل في اللوحات التجريدية موضوعات قابلة للتحليل، بعكس النقاد والمؤرخين الأرثوذكسيين الذين رأوا فيها مجرّد توليفات شكلية مكوّنة من لون وشكل.
ربما يكون من الأفضل أن يطلق على الفن التجريدي: فن ما تم تجريده (abstracted art)؛ لأنّ الفنانين التجريديين عادةً ما يستخلصون ويجرّدون تعبيرات التجارب في شكل ولون، أكثر من كونها توليفات مكونة من شكل ولون. ومرّد ذلك الطبيعة الجوهرية للرسم والنحت؛ فهما (الشكل اللّون) وسيطان للتعبير، مثل الشاشة أو المسرح لخيال الفنان. كما هو الحال في المسرح أو السينما، فإنّ جمهور اللوحة أو المنحوتة يعلّق معتقداته من أجل أن يتقبل المشهد.
من المفيد التفكير في اللوحة التشخيصية التقليدية أو النحت على أنها حقيقة افتراضية. إذْ استخدم الفنانون لقرون عديدة الحيل البصرية -مثل المنظور الخطي، والتقصير المسبق، والتظليل- لمحاكاة الطريقة التي ندرك بها الأشياء في الفضاء الحقيقي. إنّ المشاهد تُنشأ في فضاء افتراضي – سواء كانت القاعدة التي تدعم التمثال أو القماش – ليراها المشاهدون بوصفها خدعة بصرية.
«القديس بطرس شفاء أحد الأشخاص وبعث تابيثا من الموت» ماسولينو دي بانيكال. اعتمد الرسم الغربي قبل القرن العشرين على الحيل البصرية لخلق واقع افتراضي. إحدى هذه الحيل هي المنظور الخطي، وهذه اللوحة هي أول مثال لاستخدام نقطة تلاشٍ متسقة.«القديس بطرس شفاء أحد الأشخاص وبعث تابيثا من الموت» ماسولينو دي بانيكال. اعتمد الرسم الغربي قبل القرن العشرين على الحيل البصرية لخلق واقع افتراضي. إحدى هذه الحيل هي المنظور الخطي، وهذه اللوحة هي أول مثال لاستخدام نقطة تلاشٍ متسقة.
يستمتع مشاهدوّ الأعمال الفنية العظيمة معنى ما يُرسم، ويقدرون الطريقة التي يتجلّى فيها الوهم عبر تمازج اللون والشكل.
يبقى الفن التجريدي، إلى حدٍ ما، ضمن إطار التجربة الجمالية. فقد سعت حركات الفن الحديث التي أدت إلى التجريد -أيّ «مدارس الفن»، مثل الانطباعية والفاوفية والتكعيبية- إلى تمثيل العالم بشكل مختلف عن كل الفنون التي سبقتها. إذْ ادعوا الاقتراب من الحقيقة الذاتية عبر تهميش جميع الحيل الوهمية التقليدية التي حاولت إعادة إنتاج الواقع بحذافيره كحقيقة موضوعية.
«الأحمر والأصفر والأزرق» (1925) واسيلي كاندينسكي. كان كاندينسكي يعدّ لفترةٍ طويلة أب الرسم التجريدي الغربي.«الأحمر والأصفر والأزرق» (1925) واسيلي كاندينسكي. كان كاندينسكي يعدّ لفترةٍ طويلة أب الرسم التجريدي الغربي.
بالنسبة إلى هذه المدارس، أصبح الفن أقل من أن يوصف بأنّه واقع افتراضي، لكنه مع ذلك احتفظ بالافتراضية، وأصبح افتراضيًا. لقد أخذ الفن التجريدي مسار التطور هذا إلى أقصاه: من الواقع الافتراضي إلى الافتراضية.
ماذا تعني «الافتراضية» هنا؟ إنّها الوجود كجوهر وتأثير، ولكن بدون اللجوء إلى الواقع. اللوحة التجريدية التي رسمها كاندينسكي، على سبيل المثال، ما زالت تُعدّ علاقة متبادلة بين الشكل واللون، و تعتمد على الرسم كمستوى تخطيطي: إنها نافذة تطلّ على «الواقع» الفردي الذي تصوّره كاندينسكي.
وما تزال العناصر في لوحات كاندينسكي تحظى بعلاقة متبادلة، كما هو الحال في فضاء الواقع الافتراضي للوحة التشخيصية؛ فجوهر الرسم سليم إذ إنّ ذلك الفضاء الافتراضي ما زال موجودًا. عندما يكون الفن التجريدي بناءً خالصًا، ويتخلص من المساحة الافتراضية الملازمة للرسم والنحت، يصبح متميزًا عنهما.
وصف دونالد جود الفنان التخفيفي (minimalist) مثل هذه الأعمال الفنية بأنها «أجسام محدّدة» (Specific Objects). إنّه مصطلح غير دقيق، ولكنه يصلح لإظهار أن مثل هذه الأعمال الفنية ليست رسمًا ولا نحتًا، ولكنها فئة أخرى تمامًا.
رأى دونالد جود أن أعماله وأعمال العديد من معاصريه تشغل مساحة هجينة، لا هي لوحات ولا هي نحت. عمل دون عنوان لدونالد جود.
استخدم جود هذا المصطلح لوصف أعماله الخاصة، ولكنه ينطبق على لوحات كازيمير ماليفيتش وفرانك ستيلا أحادية اللون، والتي تجعل اللوحة تندمج مع نفسها بالكامل، من أجل الوصول للتأثير الذي يأمل العمل في تحقيقه.
في مثل هذه الأعمال، لم يعد قماش اللّوحة (أو القاعدة) سطحًا تتفاعل فيه الأشكال والألوان في الفضاء الافتراضي. بدلاً من ذلك، تتفاعل الأشكال والألوان في الفضاء الحقيقي، في فضائنا.
تختلف معايير النجاح أو الفشل لهذه الأعمال عن الخصائص التقليدية للرسم والنحت. رأى جود أنّ خصائص الرسم والنحت تقف في طريق ما أراد تحقيقه من خلال اللون والشكل. في رأيه، كان لـ «أجسامه المحددة» تأثيرًا أحدّ من غيرها.
الواقع والأشكال الجديدة للإدراك الحسّي
الرسم نفسه له ثلاثة أنواع عامة من التجريد؛ أولًا، ثمّة أسلوب تعبيري تُرسم فيه الأشكال بحركاتٍ غير مقيدة؛ ثم هناك التجريد الهندسي حيث يتم هيكلة الأشكال؛ أما النوع الثالث، فهو تجريد مجال اللون حيث يتم عرض مساحات من الألوان بطريقةٍ لا شكل واضح لها.
لم تكن هذه «الأنماط» (styles) أنماطًا عرضيةً أو تعتمد على ذوق أو ميل الرسام كوسيلة لتحقيق هدفٍ ما من البحث الفني. وخير مثال على ذلك هو الفنان الذي غالبًا ما ينظر إلى عمله على أنّه ذروة التجريد الهندسي: بيت موندريان. إنّ لوحات بيت موندريان المكونة من شبكات (grids) ذات الخطوط السوداء والأجزاء الملونة على خلفية بيضاء؛ تهدف إلى استحضار «حقيقة أعلى».
بالنسبة إلى موندريان، كان الفن في جوهره معارضًا للواقع؛ «لأن الواقع يتعارض مع الروحي». بغض النظر عن هذه اللوحة الأشهر لموندريان، فإنّ جوانب الرسم التي تهم هذا الفنان حقًا لم تكن الجوانب المحددة للموضوع -أيّ ماذا أو ما يتم تصويره في اللوحة مثلًا- بل الجوانب القابلة للفهم عالميًا للشكل والخط واللون. إنّ لوحات موندريان، مثلها مثل لوحات الفنانين الآخرين، هي محاولة لاستخلاص الشكل واللون من أجل الاقتراب من ذلك الجوهر العالمي والروحي للفن.
عبّر موندريان عن رغبته في الوصول إلى «أساس» الأشياء من خلال الحدس، كالعديد من الفنانين التجريديين الآخرين في النصف الأول من القرن العشرين الذين رغبوا في الوصول إلى قوى غير مرئية حولنا، ولكنها معروفة أو محدوسة.
«التكوين الثاني باللون الأحمر والأزرق والأصفر» (1930) - بيت موندريان«التكوين الثاني باللون الأحمر والأزرق والأصفر» (1930) – بيت موندريان
في أواخر القرن التاسع عشر، لاحظ العلماء بشكلٍ أفضل مما سبق القوى غير المرئية مع انتشار التقنيات الجديدة، وأصبح من الواضح أن العالم أرحب مما يبدو للعين. في الوقت نفسه، ظهرت حركات روحية بديلة جمعت بين الأفكار الأفلاطونية والتصوف.
كان كلينت وموندريان من بين العديد من الفنانين الذين انغمسوا في أشكال الروحانية خارج العوالم التقليدية للدين. اعتقدت كلينت أن لوحاتها هي وحي عالم روحي، وأن مهمتها كانت العمل «على مستوى روحاني» لتمثيل روح الإنسان، بدلًا من صورته الفانية.
بحلول عشرينيات القرن الماضي، كانت نظرية فرويد عن للعقل البشري قد تغلغلت أيضًا في عالم الفن. كذلك السريالية، وهي حركة منظمة بإحكام بدأت مع بعض الفنانين الذين سعوا إلى التنقيب عن الإمكانات الإبداعية للعقل الباطن، وهي الحركة الثقافية التي كانت سائدة في أوروبا بين الحربين العالميتين.
لم تكن السريالية دوغمائية في محاولتها لاستكشاف اللاوعي، ولذلك ظهر عدد من الأساليب والطرق لمحاولة إخراج اللاوعي إلى السطح. إحدى هذه الأساليب كان الرسم الآلي (Automatism)، وهي عملية يتخلى فيها الفنان عن السيطرة الواعية لليد التي ترسم أو تصور. في هذا المجال، تبنى الفنانون مثل أندريه ماسون وخوان ميرو الفرصة لبناء صورهم باستخدام حركات حرّة، وحتى إلقاء الطلاء على القماش.
طور أرشيل غوركي -هو مهاجر أرمني عاش في الولايات المتحدة- أسلوبًا في الرسم يدمج بين الرسم الآلي وتجريد مجال الألوان. لوحاته في الأربعينيات حجمُها ضخم – ومرد ذلك تأثره بأعماله السابقة كفنان جداري مُعيّن من الدولة خلال السنوات الأخيرة من الكساد الكبير – لكنها معبّرة وغنائية في الرسم بالفرشاة.
ألهم إدماج غوركي للأنماط جيلًا واسعًا من الفنانين الأمريكيين في فترة ما بعد الحرب لاحتضان التجريد الواسع النطاق. ما نسميه الآن «التعبيرية التجريدية»، وكان ذاك الجيل في الواقع مجموعة فضفاضة من الفنانين الذين يستخدمون أنماطًا متعدّدة من أنماط التجريد.
ربما كان القاسم المشترك بين هؤلاء الفنانين – على الأقل في السنوات الأولى – هو دعم جيل جديد من النقاد بقيادة كليمنت غرينبيرغ، الذي كان يعتقد أن التجريد هو التعبير الأسمى للفن الغربي.
«الكبد هو مشط الديك» (1944) - أرشيل جوركي.«الكبد هو مشط الديك» (1944) – أرشيل جوركي.
الحداثة ومصير الفنّ الغربي
كان يُعتقد في بعض الأوساط الفكرية المؤثرة أنّ الفن يتقدم نحو هدف؛ وهذا المضمون يشتمل عليه مصطلح «الطليعية» (Avant-garde)، الذي يُوصف به الفنّانون الذين يبتكرون أرضية جمالية جديدة. أصل المصطلح فرنسي يُطلق على الجنود الذين يتقدمون إلى مناطق جديدة.
بالنسبة إلى غرينبيرغ، لم يكن هؤلاء الفنّانون يوسّعون حدود إمكانات الفن؛ بل كانوا يتقدمون نحو الهدف الحقيقي والمفرد لكل شكل فني.
يُعدّ غرينبيرغ شخصية مهمة في تاريخ الفن التجريدي، وذلك لأمرين: بوصفه مناصرًا رائدًا في مسألة تفوق الفن التجريدي على غيره من أنواع الرسم، وتأكيده للقوة التي امتلكها هذا الفن. كان ناقدًا في اللجنة الأمريكية للحريّة الثقافية التي تمولها الدولة، وهي مجموعة تم إنشاؤها لتعزيز الفن الأمريكي على المستوى الدولي.
أصبحت أفكار غرينبيرغ مؤثرة عندما كانت الولايات المتحدة جزءًا من الحرب على الفاشية والنازية، وخلال الحرب الباردة اللاحقة ضد الشيوعية السوفيتية. كانت معايير الفن الفاشي والسوفياتي واضحة، وهي ما تحددها السلطات الثقافية أنها كذلك، بيد أنّه ما لم يكن واضحًا هو معايير الفن «الجيد» وتحديدًا في الغرب الديمقراطي.
كان الماركسيون هم من تعاطف مع غرينبيرغ في البداية، لكن ارتبط تفكيره بشكلٍ متزايد بالهيمنة الثقافية الأمريكية. بالنسبة إليه، كان التجريد في أعمال بولوك فنًا مثاليًا لمجتمع ديمقراطي. تتجلى الحداثة في الفن، وفقًا لغرينبيرغ، في إطار التنوير الأوروبي؛ أيّ في فترة ازدهار الأفكار الفلسفية والعلمية التي أعطت الأولوية للعقل.
في مقالته المؤثرة « الرسم الحداثي» (1961)، وصفَ غرينبيرغ إيمانويل كانط – الفيلسوف الألماني في عصر التنوير – بأنّه «أول حداثي حقيقي». كان أسلوب كانط في «النقد» هو استخدام العقل لنقد العقل بغرض توضيحه، ومنحه استقلالية عن أنواع التفكير الأخرى.
«أولمبيا» - إدوارد مانيه (1863). بالنسبة إلى كليمنت غرينبيرغ، كان مانيه أول رسام حداثي. لقد رسم مانيه لوحاته بأسلوبٍ مسطّح بشكلٍ متعمد.«أولمبيا» – إدوارد مانيه (1863). بالنسبة إلى كليمنت غرينبيرغ، كان مانيه أول رسام حداثي. لقد رسم مانيه لوحاته بأسلوبٍ مسطّح بشكلٍ متعمد.
بالطريقة نفسها، كان الرسامون الحداثيون – من إدوارد مانيه في القرن التاسع عشر إلى موريس لويس، وهو رسام يعمل ينتمي إلى رسامي أسلوب مجال ألوان في الولايات المتحدة في الوقت الذي كتب فيه غرينبيرغ مقالته – يعملون على ترسيخ الفن التعبيري «بشكل صارم في مجال تخصصه».
رأى غرينبيرغ أن وضوح الفن التجريدي -الذي كان صادقًا بالنسبة إلى الوسيط الذي يُعبّر من خلاله- معارضٌ لـ«الفن الشعبي المبتذل [الكيتش]» الذي ينُتج على نطاق واسع في الثقافة الشعبية. إن إزالة «الكيتش» كانت مسألة استجلاء وتوضيح تحتاجها جميع الفنون لكي تصبح تعبيرًا عن إمكاناتها الجمالية الكامنة.
اللوحات مسطّحة، وإيهام العمق الذي نجده في معظم الفن الغربي كان انحرافًا عن جوهر فن الرسم ذاته. كانت استقلالية الشكل الفني في جميع خصائصه دون أن تتلوث بأشكال فنية أخرى. وفقًا لغرينبيرغ، يعدّ الشكل واللون من أهم خصائص الرسم، و أفضل تمثيل لها يكون بشكلٍ مسطّح.
وهكذا دافع غرينبيرغ عن «التسطيح» الذي تجلّى في لوحات الفنانين الأمريكيين التجريدية مثل جاكسون بولوك باعتباره تحقيقًا لهذا الوضوح الحداثي. لقد ضم هؤلاء الفنانين معًا ضمن فريق واحد، وهم يمثّلون المرحلة التالية في الحداثة، وقد حلّت رؤيتهم الأمريكية المميزة محلّ الفن الأوروبي الطليعي.
وفي الوقت الذي أصبح فيه الفن التجريدي الأمريكي مهيمنًا، تراجعت هيمنة غرينبيرغ النقدية، وظهرت أشكال جديدة من الفن الطليعي، مستوحاة مباشرة من الثقافة الجماهيرية، وحلّت محلّ التعبيرية التجريدية في المخيال العام. تبنى فنانوّ «البوب» مثل: آندي وارهول، وريتشارد هاميلتون هذا النوع من «الفن الشعبي المبتذل» الذي رآه غرينبيرغ تلويثًا للفن الحقيقي.
استمرت الأعمال الفنية التجريدية، ولكن تخلّى الفنّانون التجريديون الأكثر جرأة عن الفكرة الصارمة «للنقد الحداثي»، وعن الوضوح المتعلق بخصوصية الوسيط الفني، وذلك لصالح أشكال أخرى من التعبير.
نظر فنانوّ «ما بعد الحداثة» إلى السخرية وعملية الرسم نفسها، كطرق لتجاوز الطريق المسدود للحداثة. تبنى الألماني غيرهارد ريختر كلا النهجين؛ فبعض أعماله التجريدية في الستينيات كانت مصنوعة بممسحاتٍ بدلًا من الفرشاة، حتى يتمكن من لفت الانتباه إلى عملية صنع اللوحة نفسها.
كانت «اللوحات التجريدية» البارزة الأخرى التي رسمها ريختر في الواقع صورًا واقعية مرسومة بعناية تعكس لوحاته التجريدية الأخرى. أصبحت طلائعية الرسم التجريدي مفهومية أكثر، ما جعل ضمنيًّا قضية الرسم تحظى باستقلالية أقل مما كان كان يعتقد النقاد الحداثيون.
قلّد فنانوّ «نيو جيو»، مثل: الرسام بيتر هالي، والنحات أشلي بيكرتون اللغة البصرية للتجريد الهندسي، لكنهما دمجاها مع السلع الاستهلاكية بألوانٍ تجارية فاتحة وأحيانًا فلورية.
منذ ذلك الجيل ما بعد الحداثي من الرسامين والنحاتين الممتد من الستينيات إلى التسعينيات، ازدهر التجريد متفرّعًا إلى عددٍ لا يُحصى من الأساليب والمقاربات بجوار الفن التشخيصي. هنا يمكن القول إنّ التجريد المتحرّر من عبء التوقعات الحداثية هو ببساطة نهج للتعبير مثل أيّ نهج آخر.
وتجدر الإشارة إلى أنّ بعض الفنانين التجريديين استخدموا الحيل البصرية المستعملة في الفن التشخيصي – مثل المنظور والتظليل – في لوحاتهم. ولاستخدامهم هذا أهداف فريدة و غالبًا لا تهتم بالنظرية.
قلّد فنانوّ «ما بعد الحداثة» مثل: بيتر هالي اللغة البصرية المستعملة في الفن التجريدي الحديث (في حالة بيتر، التجريد الهندسي)، للتعليق على طبيعة الفن والمعنى نفسه. تمثّل هذه الكتل الملونة «الخلايا» و«الأنابيب».قلّد فنانوّ «ما بعد الحداثة» مثل: بيتر هالي اللغة البصرية المستعملة في الفن التجريدي الحديث (في حالة بيتر، التجريد الهندسي)، للتعليق على طبيعة الفن والمعنى نفسه. تمثّل هذه الكتل الملونة «الخلايا» و«الأنابيب».
هذا هو التحرّر نحو الأفضل بين الرسامين التجريديين الذين يمكنهم الالتزام برؤيةٍ فريدة بالرسم على القماش. لكن فكّ ارتباط الفن التجريدي عن إطاره الفلسفي الأوسع أدى أيضًا إلى انتشارٍ يثير التساؤل لأعمال تجريدية متنوعة قابلة للاستهلاك – بمعنى أنّها فقدت قيمتها، وباتت تُباع وتُشترى سريعًا بأسعارٍ مربحة – يشتريها المشترون المتضاربون.
دفع هذا التحول الناقد جيري سالتز إلى كتابة: « الزومبي على الجدران: لماذا يبدو الكثير من التجريد الجديد متشابهًا؟». وقد شبه اللّوحات التجريدية بصورة «الزومبي»، تحقيرًا لأعمال عددٍ من الرسامين التجريديين البارزين، الذين استخدموا الفنّ وجماليته لتقديم أعمال مبتذلة.
ومن المفارقات أن هؤلاء الفنانين نظروا إلى الشكلانية بوصفها فنًّا حداثيًّا متبنّين منظور غرينبيرغ، لكنهم بالطبع قدّموا أعمالًا في ظلّ فراغ تاريخي وبعد فترةٍ طويلة حين لم يُصبح التجريد مثيرًا للاهتمام أو راديكاليًا بأي وجه من الوجوه.
في الواقع، لم يصل مشروع الحداثة في الفن التجريدي إلى نهايته، بل النقد. إنّ النقد -أيّ الإطار الفلسفي الواسع الذي يصادق على الأعمال الفنية ويثمّنها لأهميتها الثقافية والتاريخية- هو ما فقد التوجه والسلطة.
كان مسار الفن الغربي منذ عصر التنوير يتأرجح بين قطبي الدوغمائية النقدية والإبداع. تكمن المشكلة أنه في العقود الأخيرة، وفي ظلّ غياب أي مشروع نقدي متماسك، انجرف الفن نحو إرضاء اهتمامات دقيقة ومتنوعة تزداد باستمرار.
في حين كانت هناك «حركات» و«مدارس» فنية -مصطلحان يشيران إلى الوجهة والانضباط- لم يعد لدينا الآن سوى «مشاهد».
هذا ليس بالضرورة أمرًا سيئًا. ولكن في عالم حيث «كل شيء مقبول – anything goes»، لا يوجد مجال لهذا النوع من الابتكار والتجاوز الذي أدى إلى ظهور الفن التجريدي في الغرب، وهذا ما جعل الفن الحديث فنًّا مثيرًا للغاية.
من الصعب في هذه اللحظة التاريخية أن ندرك ما الذي جعل لوحة بولوك «رقم 32» مثيرة للانقسام، ومخلخلةً جدًا للمعايير، وفي الوقت نفسه محتفظةً بقيمةٍ عالية جدًا لأولئك الذين يعتقدون أن للفنِّ مكانًا في المجتمع يتجاوز المتعة.
[divider style=”solid” top=”20″ bottom=”20″]
[1] واللقب كذلك يُلمح إلى القاتل المتسلسل في لندن آخر القرن التاسع عشر: جاك السفّاح
Jack the ripper (مدير التحرير).
### خارج عقلك | توم تشاتفيلد – ت: محمد السعيد
عندما يكون هاتفي النقال بين يديّ، هل أكون أنا الشخص نفسه لو كان الهاتف في غرفة أخرى؟ من ناحية،...
### الدراما في التعليم: مقاربات وتطبيقات | نعيم حيماد
افتتاحيّة حظي استخدام الدراما في التعليمفي السنوات الأخيرة باهتمام كبير من قبل نخبة من المنظرين والممارسين للدراما في مجال التعليم....
### الحقائق المخفية | دي بي سي بيير – ت: محمد السعيد
يحمل جبل كلسي خشن في غرب إيران عددًا من النقوش البارزة، من بينها لوحة طولها خمسة وعشرين مترًا منقوشة...
### التغلُّب على كاشف الكذب | كلاريسا سيباغ-مونتِنفيوري – ت: محمد السعيد
حين اتُّهِمَتْ مربية الأطفال البريطانية لويز وودورد بهزِّ رضيع حتى الموت في مدينة نيوتن بولاية ماساتشوستس، لم تكتفِ بإعلان...
### عن منصة معنى
«معنى»، مؤسسة ثقافية تقدّمية ودار نشر تهتم بالفلسفة والمعرفة والفنون، عبر مجموعة متنوعة من المواد المقروءة والمسموعة والمرئية. انطلقت في 20 مارس 2019، بهدف إثراء المحتوى العربي، ورفع ذائقة ووعي المتلقّي المحلي والدولي، عبر الإنتاج الأصيل للمنصة والترجمة ونقل المعارف.
### روابط سريعة
### التصنيفات
### مرحبا بك!
قم بتسجيل الدخول إلى حسابك
تذكرني
### قم بإنشاء حساب جديد!
املأ النموذج أدناه للتسجيل
### طلب إعادة تعيين كلمة المرور
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان البريد الإلكتروني لإعادة تعيين كلمة المرور الخاصة بك.
### Add New Playlist
- Select Visibility -PublicPrivate
No Result
عرض جميع النتائج
-
00:00
00:00
-
00:00
00:00
|
article
|
Arabic
|
ar
|
الفنّ التجريدي: بين الماضي والحاضر - منصة معنى الثقافية
|
https://mana.net/abstract-art/
|
1,960 |
«معنى»، مؤسسة ثقافية تقدّمية ودار نشر تهتم بالفلسفة والمعرفة والفنون، عبر مجموعة متنوعة من المواد المقروءة والمسموعة والمرئية. انطلقت في 20 مارس 2019، بهدف إثراء المحتوى العربي، ورفع ذائقة ووعي المتلقّي المحلي والدولي، عبر الإنتاج الأصيل للمنصة والترجمة ونقل المعارف.
|
paragraph
|
لا توجد منتجات في سلة المشتريات.
No Result
عرض جميع النتائج
الثلاثاء, سبتمبر 10, 2024
No Result
عرض جميع النتائج
No Result
عرض جميع النتائج
# الفنّ التجريدي: بين الماضي والحاضر
## ترجمة: أنطونيوس نادر
AA
AA
إعادة تعيين
فنٌ مليء بالتحديات
ثمّة خطٌ رفيع يفصل بين الفن التجريدي ومجرد الزخرفة، ولوحة «رقم 32» (نُشرت عام 1950)، لجاكسون بولوك تتأرجح بين هذا الخطّ. فهي لا تشير إلى معنىً واضح، ولكن لا يمكن القول إنّها بلا معنى على الإطلاق. كما أنّها ليست معبّرة بشكلٍ مباشر، ولا يعني هذا أنها لا تعبّر عن مدلولٍ ما. تحمل هذه اللوحة الكثير من المضامين عن الفن الغربي بالنسبة إلى شخصٍ خبيرٍ في تاريخ الفن؛ أما بالنسبة إلى شخصٍ عادي، فقد يراها عملًا مبتذلًا بالكاد يعبّر عن أمرٍ ما.
اللوحة شبكة من الخطوط وبقعٍ من الألوان، رُسمت عن طريق صبّ طلاءٍ رخيص بعشوائيةٍ مباشرة على القماش. تتكون اللوحة من طلاءٍ أسود فقط وقماشٍ خام. واللوحة ضخمة؛ إذ يبلغ طولها تسعة أقدام وعرضها خمسة عشر قدمًا، وتغطي مجال رؤية المشاهد أثناء اقترابه منها. تقليديًّا، حتى اللوحات التجريدية تتكون من أجزاءٍ مترابطة مع بؤر تركيز (emphases) وعمقٍ يُنقل من خلال اللون والظلال، ولكن «رقم 32» ليس لها أجزاء؛ إنّها تتكون من تعالقات، والبؤرة فيها تكمن عبر امتداد سطح القماش المستطيل.
يمنحها ما سبق عمقًا سطحيًا، وربما لا عمق فيها: مجرّد طلاء على قماش. إنّها عبث بالشكل واللون. حتى اسمها، ببساطة رقمٌ معيّن – رقم 32 – يجعلها تنأى بنفسها عن أي فكرة مفادها أنها تعكس مدلولًا محدّدًا. تشير عناوين أعمال بولوك الأخرى إلى نوعٍ من الاختبار الشخصي، وإلى الاستخدام السمفوني المتعدد الطبقات للون والملمس؛ خذ مثلًا لوحاته التي تحمل اسم: «إيقاع الخريف»، و«الضباب الأرجواني»، و«الأقطاب الزرقاء»، و«انعكاس الدنقلة الكبير».
هذا لا ينطبق على لوحة «رقم 32»؛ شكلها الخام وبساطتها دليل على أنّ الفنان لم يخطط مسبقًا لرسمها؛ أيّ أنّه لم ينتق الألوان ولا الطبقات. يبدو بولوك هنا أكثر حضورًا، من خلال لمساته الحادة. بالنسبة إلى مؤيديّ عمل بولوك، تختصر هذه اللوحة خلاصة نظرة الفنان الجمالية. أما بالنسبة للبعض الآخر، فهي لوحة مبتذلة.
وصف جوزيف بويس -النحات الألماني في فترة ما بعد الحرب- الفنَّ التجريدي الأمريكي بأنه مجرد «تغليف»، أيّ سطح بلا محتوى. في هذا الصدد، قد يتفق البعض أن لوحة «رقم 32» تجسد فراغ الفكر والشعور ذاك. فقد رأى الروائي والناقد الفني روبرت كوتس أن فن بولوك لم يكن سوى «انفجارات» غير منظمة من الطاقة العشوائية. غير أنّ طائفة كبيرة من متذوقي الفن التجريدي لا تروق إليهم أعمال بولوك ويرونها فنًّا محيرًا، حتى إنّ بعضهم يراها إهانةً للذوق أو الحسّ السليم.
عُرف بولوك بلقب: «جاك فنان النقط» (Jack the Dripper) [1] في الأوساط الإعلامية المشككة بعمله حيث ادعى كثر أن أيّ شخص يمكنه أن يرسم كما يرسم بولوك إلّا أنّ أحدًا لم يتجرأ على فعل ذلك.
«رقم 32» - جاكسون بولوك«رقم 32» – جاكسون بولوك
بيد أنّ هذا هو مغزى الفن التجريدي في التقليد الغربي: إنّه تحدّ. وفي ظل الكثير هذه التحديات، تُعد لوحة « رقم 32» اللوحة الأكثر تمثيلًا لهذا الفن.
قصة الفنّ التجريدي
مسار قصة الفن التجريدي مضمّنة في الدراسات التاريخية الفنية، إلّا أنّ المحطات الرئيسة لهذا المسار كانت محط تغييرات مفاجئة كلما اكتشف مؤرخوّ الفن حقائق جديدة.
انطلق مسار الفن التجريدي بدءًا من القرن التاسع عشر وما تلاه؛ حيث استفاد الفنانون من مادة الطلاء والجوانب الشكلية للرسم مثل اللون والدرجة والخطوط. يُعرف هذا الانشغال بالجوانب غير التمثيلية (non-representative) للفن باسم «الشكلانية»، لأنّه انشغال «بالشكل»، أيّ بتوسل شكل المحتوى بدلًا من المحتوى في ذاته. بالنسبة إلى الفنانين في القرن التاسع عشر، صُنّف الفن التجريدي على أنّه «فنٌّ من أجل الفنّ»، وكانت الفكرة الشائعة مفادها أنّ المتذوق للفن يمكنه الاستمتاع بالعمل دون اللجوء إلى معنى أو حتى أي شيء آخر يمثل أمرًا ما.
تمثّل لوحة «الموسيقى الهادئة باللّونين الأسود والذهبي – الصاروخ الساقط» (1872)، للفنان جيمس مكنيل ويسلر هذا الاتجاه الذي تبلور لاحقًا في الفن التجريدي. إنّ مشهد ويسلر الغامض من الناحية المكانيّة يقترب إلى التجريد، وذلك بمحاولته نقل الشعور أو الانطباع الخاص بالمشهد بدلًا من إعادة إنتاجه بحذافيره.
«الموسيقى الهادئة باللونين الأسود والذهبي - الصاروخ الساقط» (1872-1877) - جيمس أبوت مكنيل ويسلير«الموسيقى الهادئة باللونين الأسود والذهبي – الصاروخ الساقط» (1872-1877) – جيمس أبوت مكنيل ويسلير
في عام 1877، انتقد جون روسكين – أبرز نقّاد بريطانيا في ذلك الوقت – عمل ويسلير هذا نقدًا لاذعًا فشبهه «بمن قام برمي الطلاء في وجه الجمهور». تأثر ويسلر بهذا الكلام، فرفع دعوى قضائية ضد روسكين، بيد أنّه خسرها لأن المسؤولين عرضوا اللوحة -خطأً- مقلوبةً على المحكمة. أفلس ويسلير بسبب هذه القضية، لكن مسيرة تطور الفن التجريدي استمرت.
من ناحيةٍ أخرى، تحديد أول فنان تجريدي في العالم موضوع نزاع. في نظر أبحاث تاريخ الفن التقليدية، كان فاسيلي كاندينسكي – فنان روسي الجنسية رسم لوحات تجريدية بالكامل في مطلع عام 1911- هو أول فنان تجريدي.
لم ينل الفن التجريدي الرائد لهيلما أف كلينت تقديرًا إلا قبل سنوات قريبة. هذه صورة للمعرض الشهير في متحف غاغينهايم، عام 2018 .لم ينل الفن التجريدي الرائد لهيلما أف كلينت تقديرًا إلا قبل سنوات قريبة. هذه صورة للمعرض الشهير في متحف غاغينهايم، عام 2018 .
ولكن في الآونة الأخيرة، وبفضل المعرض الرائد في متحف مقاطعة لوس أنجلوس للفنون في عام 1986 الذي حمل اسم «الروحانية في الفن: الرسم التجريدي 1890 – 1985»، وقع الاختيار على هيلما أف كلينت كأول رسامة تجريدية. بدأت كلينت في رسم لوحات تجريدية بدءًا من عام 1906، وحملت مجموعتها عنوان «الفوضى البدائية». كانت الفنانة متكتمة في ما يتعلق بأعمالها التجريدية، ولم تُعرض أيّ منها في معارض عامة، وبقيت غير معروفة حتى أزيح عنها الستار مؤخرًا.
ولعل الجدال حول هوية أول من مارس الفن التجريدي سيستم، لكن الحقيقة الأكثر أهمية هي أن العديد من الفنانين الأوروبيين البارزين قد توصّلوا في أعمالهم إلى التجريد بحلول الحرب العالمية الأولى. لقد وجد كل منهم طريقته الخاصة في التخلي عن الفن التشخيصي (figurative painting). وجديرٌ بالذكر أنّه لم تكن هناك حركة «تجريدية» دولية ذات رؤية أو بيان مشترك.
في ضوء ذلك، فإن السؤال الملحّ حقًا هو: لمَ لمْ يتبنى الفنانون الغربيون الفن التجريدي على امتداد قرون عديدة؟ لماذا كان التجريد غير ضروري أو لا معنى له أو غير مناسب أو حتى لا يمكن تقبّله لقرونٍ متوالية في الفن الغربي؟
ظهرت العديد من التفسيرات لشرح ذلك. إحدى النظريات الأكثر وضوحًا هي أن ظهور التصوير الفوتوغرافي بوصفه شكلًا من أشكال الفن، إضافةً إلى تطور الفن الحديث، سببان رئيسان لإزاحة الرسم التشخيصي.
ثمّة إجابات أخرى غير ملموسة لاستكشاف الأسباب: ربما عندما أصبحت الأعمال الفنية قابلة للاستهالاك بشكل متزايد، مثل السلع، بات من السهولة فصل اللوحات والمنحوتات عن التجارب المحددة لمبدعيها. ربما أدت الحداثة في الغرب إلى إفراغ الفن من المحتوى التشخيصي؛ مما دفع الفنانين أيضًا إلى التخلي عن التمثيل التشخيصي.
كل من هذه الإجابات معقدة وتتطلب الكثير من الشرح، ولا يمكن إلا أن تكون تخمينات. لا توجد إجابة واضحة لهذه المسألة. ربما يكون من الأفضل طرح السؤال حول سبب تقبّل الفن التجريدي فنًّا من الفنون الرسمية في تاريخ الفن الغربي في مرحلة معينة على علماء الأنثروبولوجيا بدلًا من طرحها على مؤرخي الفن. فما هو واضح أن الفن التجريدي كان موجودًا دائمًا في مناطق أخرى من العالم.
ما جعل الفن التجريدي فنًّا حديثًا على وجه التحديد في العالم الغربي هو نظام المعارض، الذي أعطى القيمة الفنية للأعمال المعروضة. وكما هو واضح فقد ازدهر التجريد لآلاف السنين المناطق الشرقية والجنوبية من العالم، دون عناء التحقق من مكانة الأعمال المعروضة في الصالونات [والمعارض، كما هو في العالم الغربي].
الواقع الافتراضي و«الافتراضية»
يتبنى بيبي كرمل وهو مؤرخ فني، في كتابه « الفن التجريدي: تاريخ عالمي»، فكرة أنّ الفن التجريدي كان دائمًا موجودًا بشكل طبيعي عندما ننظر إليه نظرة شاملة وعالمية، بيد أنّه يتحاشى طرح نظرية عن تطور الفن التجريدي. بالنسبة إلى كرمل، فإنّ هذا الفنّ متجذر في العالم الحقيقي، وهو ليس فنًّا «مجردًا» على الإطلاق، كما أنّه تقليد عالمي وليس محليًا.
في دراسته حول الفن التجريدي يقسم العمل الفني إلى خمس فئات واسعة تنتمي إلى العالم الحقيقي: الأجسام، والمناظر الطبيعية، والكون، والبنى، والعلامات والأنماط. من خلال فحص الفن التجريدي بهذه الطريقة، يرى كرمل في اللوحات التجريدية موضوعات قابلة للتحليل، بعكس النقاد والمؤرخين الأرثوذكسيين الذين رأوا فيها مجرّد توليفات شكلية مكوّنة من لون وشكل.
ربما يكون من الأفضل أن يطلق على الفن التجريدي: فن ما تم تجريده (abstracted art)؛ لأنّ الفنانين التجريديين عادةً ما يستخلصون ويجرّدون تعبيرات التجارب في شكل ولون، أكثر من كونها توليفات مكونة من شكل ولون. ومرّد ذلك الطبيعة الجوهرية للرسم والنحت؛ فهما (الشكل اللّون) وسيطان للتعبير، مثل الشاشة أو المسرح لخيال الفنان. كما هو الحال في المسرح أو السينما، فإنّ جمهور اللوحة أو المنحوتة يعلّق معتقداته من أجل أن يتقبل المشهد.
من المفيد التفكير في اللوحة التشخيصية التقليدية أو النحت على أنها حقيقة افتراضية. إذْ استخدم الفنانون لقرون عديدة الحيل البصرية -مثل المنظور الخطي، والتقصير المسبق، والتظليل- لمحاكاة الطريقة التي ندرك بها الأشياء في الفضاء الحقيقي. إنّ المشاهد تُنشأ في فضاء افتراضي – سواء كانت القاعدة التي تدعم التمثال أو القماش – ليراها المشاهدون بوصفها خدعة بصرية.
«القديس بطرس شفاء أحد الأشخاص وبعث تابيثا من الموت» ماسولينو دي بانيكال. اعتمد الرسم الغربي قبل القرن العشرين على الحيل البصرية لخلق واقع افتراضي. إحدى هذه الحيل هي المنظور الخطي، وهذه اللوحة هي أول مثال لاستخدام نقطة تلاشٍ متسقة.«القديس بطرس شفاء أحد الأشخاص وبعث تابيثا من الموت» ماسولينو دي بانيكال. اعتمد الرسم الغربي قبل القرن العشرين على الحيل البصرية لخلق واقع افتراضي. إحدى هذه الحيل هي المنظور الخطي، وهذه اللوحة هي أول مثال لاستخدام نقطة تلاشٍ متسقة.
يستمتع مشاهدوّ الأعمال الفنية العظيمة معنى ما يُرسم، ويقدرون الطريقة التي يتجلّى فيها الوهم عبر تمازج اللون والشكل.
يبقى الفن التجريدي، إلى حدٍ ما، ضمن إطار التجربة الجمالية. فقد سعت حركات الفن الحديث التي أدت إلى التجريد -أيّ «مدارس الفن»، مثل الانطباعية والفاوفية والتكعيبية- إلى تمثيل العالم بشكل مختلف عن كل الفنون التي سبقتها. إذْ ادعوا الاقتراب من الحقيقة الذاتية عبر تهميش جميع الحيل الوهمية التقليدية التي حاولت إعادة إنتاج الواقع بحذافيره كحقيقة موضوعية.
«الأحمر والأصفر والأزرق» (1925) واسيلي كاندينسكي. كان كاندينسكي يعدّ لفترةٍ طويلة أب الرسم التجريدي الغربي.«الأحمر والأصفر والأزرق» (1925) واسيلي كاندينسكي. كان كاندينسكي يعدّ لفترةٍ طويلة أب الرسم التجريدي الغربي.
بالنسبة إلى هذه المدارس، أصبح الفن أقل من أن يوصف بأنّه واقع افتراضي، لكنه مع ذلك احتفظ بالافتراضية، وأصبح افتراضيًا. لقد أخذ الفن التجريدي مسار التطور هذا إلى أقصاه: من الواقع الافتراضي إلى الافتراضية.
ماذا تعني «الافتراضية» هنا؟ إنّها الوجود كجوهر وتأثير، ولكن بدون اللجوء إلى الواقع. اللوحة التجريدية التي رسمها كاندينسكي، على سبيل المثال، ما زالت تُعدّ علاقة متبادلة بين الشكل واللون، و تعتمد على الرسم كمستوى تخطيطي: إنها نافذة تطلّ على «الواقع» الفردي الذي تصوّره كاندينسكي.
وما تزال العناصر في لوحات كاندينسكي تحظى بعلاقة متبادلة، كما هو الحال في فضاء الواقع الافتراضي للوحة التشخيصية؛ فجوهر الرسم سليم إذ إنّ ذلك الفضاء الافتراضي ما زال موجودًا. عندما يكون الفن التجريدي بناءً خالصًا، ويتخلص من المساحة الافتراضية الملازمة للرسم والنحت، يصبح متميزًا عنهما.
وصف دونالد جود الفنان التخفيفي (minimalist) مثل هذه الأعمال الفنية بأنها «أجسام محدّدة» (Specific Objects). إنّه مصطلح غير دقيق، ولكنه يصلح لإظهار أن مثل هذه الأعمال الفنية ليست رسمًا ولا نحتًا، ولكنها فئة أخرى تمامًا.
رأى دونالد جود أن أعماله وأعمال العديد من معاصريه تشغل مساحة هجينة، لا هي لوحات ولا هي نحت. عمل دون عنوان لدونالد جود.
استخدم جود هذا المصطلح لوصف أعماله الخاصة، ولكنه ينطبق على لوحات كازيمير ماليفيتش وفرانك ستيلا أحادية اللون، والتي تجعل اللوحة تندمج مع نفسها بالكامل، من أجل الوصول للتأثير الذي يأمل العمل في تحقيقه.
في مثل هذه الأعمال، لم يعد قماش اللّوحة (أو القاعدة) سطحًا تتفاعل فيه الأشكال والألوان في الفضاء الافتراضي. بدلاً من ذلك، تتفاعل الأشكال والألوان في الفضاء الحقيقي، في فضائنا.
تختلف معايير النجاح أو الفشل لهذه الأعمال عن الخصائص التقليدية للرسم والنحت. رأى جود أنّ خصائص الرسم والنحت تقف في طريق ما أراد تحقيقه من خلال اللون والشكل. في رأيه، كان لـ «أجسامه المحددة» تأثيرًا أحدّ من غيرها.
الواقع والأشكال الجديدة للإدراك الحسّي
الرسم نفسه له ثلاثة أنواع عامة من التجريد؛ أولًا، ثمّة أسلوب تعبيري تُرسم فيه الأشكال بحركاتٍ غير مقيدة؛ ثم هناك التجريد الهندسي حيث يتم هيكلة الأشكال؛ أما النوع الثالث، فهو تجريد مجال اللون حيث يتم عرض مساحات من الألوان بطريقةٍ لا شكل واضح لها.
لم تكن هذه «الأنماط» (styles) أنماطًا عرضيةً أو تعتمد على ذوق أو ميل الرسام كوسيلة لتحقيق هدفٍ ما من البحث الفني. وخير مثال على ذلك هو الفنان الذي غالبًا ما ينظر إلى عمله على أنّه ذروة التجريد الهندسي: بيت موندريان. إنّ لوحات بيت موندريان المكونة من شبكات (grids) ذات الخطوط السوداء والأجزاء الملونة على خلفية بيضاء؛ تهدف إلى استحضار «حقيقة أعلى».
بالنسبة إلى موندريان، كان الفن في جوهره معارضًا للواقع؛ «لأن الواقع يتعارض مع الروحي». بغض النظر عن هذه اللوحة الأشهر لموندريان، فإنّ جوانب الرسم التي تهم هذا الفنان حقًا لم تكن الجوانب المحددة للموضوع -أيّ ماذا أو ما يتم تصويره في اللوحة مثلًا- بل الجوانب القابلة للفهم عالميًا للشكل والخط واللون. إنّ لوحات موندريان، مثلها مثل لوحات الفنانين الآخرين، هي محاولة لاستخلاص الشكل واللون من أجل الاقتراب من ذلك الجوهر العالمي والروحي للفن.
عبّر موندريان عن رغبته في الوصول إلى «أساس» الأشياء من خلال الحدس، كالعديد من الفنانين التجريديين الآخرين في النصف الأول من القرن العشرين الذين رغبوا في الوصول إلى قوى غير مرئية حولنا، ولكنها معروفة أو محدوسة.
«التكوين الثاني باللون الأحمر والأزرق والأصفر» (1930) - بيت موندريان«التكوين الثاني باللون الأحمر والأزرق والأصفر» (1930) – بيت موندريان
في أواخر القرن التاسع عشر، لاحظ العلماء بشكلٍ أفضل مما سبق القوى غير المرئية مع انتشار التقنيات الجديدة، وأصبح من الواضح أن العالم أرحب مما يبدو للعين. في الوقت نفسه، ظهرت حركات روحية بديلة جمعت بين الأفكار الأفلاطونية والتصوف.
كان كلينت وموندريان من بين العديد من الفنانين الذين انغمسوا في أشكال الروحانية خارج العوالم التقليدية للدين. اعتقدت كلينت أن لوحاتها هي وحي عالم روحي، وأن مهمتها كانت العمل «على مستوى روحاني» لتمثيل روح الإنسان، بدلًا من صورته الفانية.
بحلول عشرينيات القرن الماضي، كانت نظرية فرويد عن للعقل البشري قد تغلغلت أيضًا في عالم الفن. كذلك السريالية، وهي حركة منظمة بإحكام بدأت مع بعض الفنانين الذين سعوا إلى التنقيب عن الإمكانات الإبداعية للعقل الباطن، وهي الحركة الثقافية التي كانت سائدة في أوروبا بين الحربين العالميتين.
لم تكن السريالية دوغمائية في محاولتها لاستكشاف اللاوعي، ولذلك ظهر عدد من الأساليب والطرق لمحاولة إخراج اللاوعي إلى السطح. إحدى هذه الأساليب كان الرسم الآلي (Automatism)، وهي عملية يتخلى فيها الفنان عن السيطرة الواعية لليد التي ترسم أو تصور. في هذا المجال، تبنى الفنانون مثل أندريه ماسون وخوان ميرو الفرصة لبناء صورهم باستخدام حركات حرّة، وحتى إلقاء الطلاء على القماش.
طور أرشيل غوركي -هو مهاجر أرمني عاش في الولايات المتحدة- أسلوبًا في الرسم يدمج بين الرسم الآلي وتجريد مجال الألوان. لوحاته في الأربعينيات حجمُها ضخم – ومرد ذلك تأثره بأعماله السابقة كفنان جداري مُعيّن من الدولة خلال السنوات الأخيرة من الكساد الكبير – لكنها معبّرة وغنائية في الرسم بالفرشاة.
ألهم إدماج غوركي للأنماط جيلًا واسعًا من الفنانين الأمريكيين في فترة ما بعد الحرب لاحتضان التجريد الواسع النطاق. ما نسميه الآن «التعبيرية التجريدية»، وكان ذاك الجيل في الواقع مجموعة فضفاضة من الفنانين الذين يستخدمون أنماطًا متعدّدة من أنماط التجريد.
ربما كان القاسم المشترك بين هؤلاء الفنانين – على الأقل في السنوات الأولى – هو دعم جيل جديد من النقاد بقيادة كليمنت غرينبيرغ، الذي كان يعتقد أن التجريد هو التعبير الأسمى للفن الغربي.
«الكبد هو مشط الديك» (1944) - أرشيل جوركي.«الكبد هو مشط الديك» (1944) – أرشيل جوركي.
الحداثة ومصير الفنّ الغربي
كان يُعتقد في بعض الأوساط الفكرية المؤثرة أنّ الفن يتقدم نحو هدف؛ وهذا المضمون يشتمل عليه مصطلح «الطليعية» (Avant-garde)، الذي يُوصف به الفنّانون الذين يبتكرون أرضية جمالية جديدة. أصل المصطلح فرنسي يُطلق على الجنود الذين يتقدمون إلى مناطق جديدة.
بالنسبة إلى غرينبيرغ، لم يكن هؤلاء الفنّانون يوسّعون حدود إمكانات الفن؛ بل كانوا يتقدمون نحو الهدف الحقيقي والمفرد لكل شكل فني.
يُعدّ غرينبيرغ شخصية مهمة في تاريخ الفن التجريدي، وذلك لأمرين: بوصفه مناصرًا رائدًا في مسألة تفوق الفن التجريدي على غيره من أنواع الرسم، وتأكيده للقوة التي امتلكها هذا الفن. كان ناقدًا في اللجنة الأمريكية للحريّة الثقافية التي تمولها الدولة، وهي مجموعة تم إنشاؤها لتعزيز الفن الأمريكي على المستوى الدولي.
أصبحت أفكار غرينبيرغ مؤثرة عندما كانت الولايات المتحدة جزءًا من الحرب على الفاشية والنازية، وخلال الحرب الباردة اللاحقة ضد الشيوعية السوفيتية. كانت معايير الفن الفاشي والسوفياتي واضحة، وهي ما تحددها السلطات الثقافية أنها كذلك، بيد أنّه ما لم يكن واضحًا هو معايير الفن «الجيد» وتحديدًا في الغرب الديمقراطي.
كان الماركسيون هم من تعاطف مع غرينبيرغ في البداية، لكن ارتبط تفكيره بشكلٍ متزايد بالهيمنة الثقافية الأمريكية. بالنسبة إليه، كان التجريد في أعمال بولوك فنًا مثاليًا لمجتمع ديمقراطي. تتجلى الحداثة في الفن، وفقًا لغرينبيرغ، في إطار التنوير الأوروبي؛ أيّ في فترة ازدهار الأفكار الفلسفية والعلمية التي أعطت الأولوية للعقل.
في مقالته المؤثرة « الرسم الحداثي» (1961)، وصفَ غرينبيرغ إيمانويل كانط – الفيلسوف الألماني في عصر التنوير – بأنّه «أول حداثي حقيقي». كان أسلوب كانط في «النقد» هو استخدام العقل لنقد العقل بغرض توضيحه، ومنحه استقلالية عن أنواع التفكير الأخرى.
«أولمبيا» - إدوارد مانيه (1863). بالنسبة إلى كليمنت غرينبيرغ، كان مانيه أول رسام حداثي. لقد رسم مانيه لوحاته بأسلوبٍ مسطّح بشكلٍ متعمد.«أولمبيا» – إدوارد مانيه (1863). بالنسبة إلى كليمنت غرينبيرغ، كان مانيه أول رسام حداثي. لقد رسم مانيه لوحاته بأسلوبٍ مسطّح بشكلٍ متعمد.
بالطريقة نفسها، كان الرسامون الحداثيون – من إدوارد مانيه في القرن التاسع عشر إلى موريس لويس، وهو رسام يعمل ينتمي إلى رسامي أسلوب مجال ألوان في الولايات المتحدة في الوقت الذي كتب فيه غرينبيرغ مقالته – يعملون على ترسيخ الفن التعبيري «بشكل صارم في مجال تخصصه».
رأى غرينبيرغ أن وضوح الفن التجريدي -الذي كان صادقًا بالنسبة إلى الوسيط الذي يُعبّر من خلاله- معارضٌ لـ«الفن الشعبي المبتذل [الكيتش]» الذي ينُتج على نطاق واسع في الثقافة الشعبية. إن إزالة «الكيتش» كانت مسألة استجلاء وتوضيح تحتاجها جميع الفنون لكي تصبح تعبيرًا عن إمكاناتها الجمالية الكامنة.
اللوحات مسطّحة، وإيهام العمق الذي نجده في معظم الفن الغربي كان انحرافًا عن جوهر فن الرسم ذاته. كانت استقلالية الشكل الفني في جميع خصائصه دون أن تتلوث بأشكال فنية أخرى. وفقًا لغرينبيرغ، يعدّ الشكل واللون من أهم خصائص الرسم، و أفضل تمثيل لها يكون بشكلٍ مسطّح.
وهكذا دافع غرينبيرغ عن «التسطيح» الذي تجلّى في لوحات الفنانين الأمريكيين التجريدية مثل جاكسون بولوك باعتباره تحقيقًا لهذا الوضوح الحداثي. لقد ضم هؤلاء الفنانين معًا ضمن فريق واحد، وهم يمثّلون المرحلة التالية في الحداثة، وقد حلّت رؤيتهم الأمريكية المميزة محلّ الفن الأوروبي الطليعي.
وفي الوقت الذي أصبح فيه الفن التجريدي الأمريكي مهيمنًا، تراجعت هيمنة غرينبيرغ النقدية، وظهرت أشكال جديدة من الفن الطليعي، مستوحاة مباشرة من الثقافة الجماهيرية، وحلّت محلّ التعبيرية التجريدية في المخيال العام. تبنى فنانوّ «البوب» مثل: آندي وارهول، وريتشارد هاميلتون هذا النوع من «الفن الشعبي المبتذل» الذي رآه غرينبيرغ تلويثًا للفن الحقيقي.
استمرت الأعمال الفنية التجريدية، ولكن تخلّى الفنّانون التجريديون الأكثر جرأة عن الفكرة الصارمة «للنقد الحداثي»، وعن الوضوح المتعلق بخصوصية الوسيط الفني، وذلك لصالح أشكال أخرى من التعبير.
نظر فنانوّ «ما بعد الحداثة» إلى السخرية وعملية الرسم نفسها، كطرق لتجاوز الطريق المسدود للحداثة. تبنى الألماني غيرهارد ريختر كلا النهجين؛ فبعض أعماله التجريدية في الستينيات كانت مصنوعة بممسحاتٍ بدلًا من الفرشاة، حتى يتمكن من لفت الانتباه إلى عملية صنع اللوحة نفسها.
كانت «اللوحات التجريدية» البارزة الأخرى التي رسمها ريختر في الواقع صورًا واقعية مرسومة بعناية تعكس لوحاته التجريدية الأخرى. أصبحت طلائعية الرسم التجريدي مفهومية أكثر، ما جعل ضمنيًّا قضية الرسم تحظى باستقلالية أقل مما كان كان يعتقد النقاد الحداثيون.
قلّد فنانوّ «نيو جيو»، مثل: الرسام بيتر هالي، والنحات أشلي بيكرتون اللغة البصرية للتجريد الهندسي، لكنهما دمجاها مع السلع الاستهلاكية بألوانٍ تجارية فاتحة وأحيانًا فلورية.
منذ ذلك الجيل ما بعد الحداثي من الرسامين والنحاتين الممتد من الستينيات إلى التسعينيات، ازدهر التجريد متفرّعًا إلى عددٍ لا يُحصى من الأساليب والمقاربات بجوار الفن التشخيصي. هنا يمكن القول إنّ التجريد المتحرّر من عبء التوقعات الحداثية هو ببساطة نهج للتعبير مثل أيّ نهج آخر.
وتجدر الإشارة إلى أنّ بعض الفنانين التجريديين استخدموا الحيل البصرية المستعملة في الفن التشخيصي – مثل المنظور والتظليل – في لوحاتهم. ولاستخدامهم هذا أهداف فريدة و غالبًا لا تهتم بالنظرية.
قلّد فنانوّ «ما بعد الحداثة» مثل: بيتر هالي اللغة البصرية المستعملة في الفن التجريدي الحديث (في حالة بيتر، التجريد الهندسي)، للتعليق على طبيعة الفن والمعنى نفسه. تمثّل هذه الكتل الملونة «الخلايا» و«الأنابيب».قلّد فنانوّ «ما بعد الحداثة» مثل: بيتر هالي اللغة البصرية المستعملة في الفن التجريدي الحديث (في حالة بيتر، التجريد الهندسي)، للتعليق على طبيعة الفن والمعنى نفسه. تمثّل هذه الكتل الملونة «الخلايا» و«الأنابيب».
هذا هو التحرّر نحو الأفضل بين الرسامين التجريديين الذين يمكنهم الالتزام برؤيةٍ فريدة بالرسم على القماش. لكن فكّ ارتباط الفن التجريدي عن إطاره الفلسفي الأوسع أدى أيضًا إلى انتشارٍ يثير التساؤل لأعمال تجريدية متنوعة قابلة للاستهلاك – بمعنى أنّها فقدت قيمتها، وباتت تُباع وتُشترى سريعًا بأسعارٍ مربحة – يشتريها المشترون المتضاربون.
دفع هذا التحول الناقد جيري سالتز إلى كتابة: « الزومبي على الجدران: لماذا يبدو الكثير من التجريد الجديد متشابهًا؟». وقد شبه اللّوحات التجريدية بصورة «الزومبي»، تحقيرًا لأعمال عددٍ من الرسامين التجريديين البارزين، الذين استخدموا الفنّ وجماليته لتقديم أعمال مبتذلة.
ومن المفارقات أن هؤلاء الفنانين نظروا إلى الشكلانية بوصفها فنًّا حداثيًّا متبنّين منظور غرينبيرغ، لكنهم بالطبع قدّموا أعمالًا في ظلّ فراغ تاريخي وبعد فترةٍ طويلة حين لم يُصبح التجريد مثيرًا للاهتمام أو راديكاليًا بأي وجه من الوجوه.
في الواقع، لم يصل مشروع الحداثة في الفن التجريدي إلى نهايته، بل النقد. إنّ النقد -أيّ الإطار الفلسفي الواسع الذي يصادق على الأعمال الفنية ويثمّنها لأهميتها الثقافية والتاريخية- هو ما فقد التوجه والسلطة.
كان مسار الفن الغربي منذ عصر التنوير يتأرجح بين قطبي الدوغمائية النقدية والإبداع. تكمن المشكلة أنه في العقود الأخيرة، وفي ظلّ غياب أي مشروع نقدي متماسك، انجرف الفن نحو إرضاء اهتمامات دقيقة ومتنوعة تزداد باستمرار.
في حين كانت هناك «حركات» و«مدارس» فنية -مصطلحان يشيران إلى الوجهة والانضباط- لم يعد لدينا الآن سوى «مشاهد».
هذا ليس بالضرورة أمرًا سيئًا. ولكن في عالم حيث «كل شيء مقبول – anything goes»، لا يوجد مجال لهذا النوع من الابتكار والتجاوز الذي أدى إلى ظهور الفن التجريدي في الغرب، وهذا ما جعل الفن الحديث فنًّا مثيرًا للغاية.
من الصعب في هذه اللحظة التاريخية أن ندرك ما الذي جعل لوحة بولوك «رقم 32» مثيرة للانقسام، ومخلخلةً جدًا للمعايير، وفي الوقت نفسه محتفظةً بقيمةٍ عالية جدًا لأولئك الذين يعتقدون أن للفنِّ مكانًا في المجتمع يتجاوز المتعة.
[divider style=”solid” top=”20″ bottom=”20″]
[1] واللقب كذلك يُلمح إلى القاتل المتسلسل في لندن آخر القرن التاسع عشر: جاك السفّاح
Jack the ripper (مدير التحرير).
### خارج عقلك | توم تشاتفيلد – ت: محمد السعيد
عندما يكون هاتفي النقال بين يديّ، هل أكون أنا الشخص نفسه لو كان الهاتف في غرفة أخرى؟ من ناحية،...
### الدراما في التعليم: مقاربات وتطبيقات | نعيم حيماد
افتتاحيّة حظي استخدام الدراما في التعليمفي السنوات الأخيرة باهتمام كبير من قبل نخبة من المنظرين والممارسين للدراما في مجال التعليم....
### الحقائق المخفية | دي بي سي بيير – ت: محمد السعيد
يحمل جبل كلسي خشن في غرب إيران عددًا من النقوش البارزة، من بينها لوحة طولها خمسة وعشرين مترًا منقوشة...
### التغلُّب على كاشف الكذب | كلاريسا سيباغ-مونتِنفيوري – ت: محمد السعيد
حين اتُّهِمَتْ مربية الأطفال البريطانية لويز وودورد بهزِّ رضيع حتى الموت في مدينة نيوتن بولاية ماساتشوستس، لم تكتفِ بإعلان...
### عن منصة معنى
«معنى»، مؤسسة ثقافية تقدّمية ودار نشر تهتم بالفلسفة والمعرفة والفنون، عبر مجموعة متنوعة من المواد المقروءة والمسموعة والمرئية. انطلقت في 20 مارس 2019، بهدف إثراء المحتوى العربي، ورفع ذائقة ووعي المتلقّي المحلي والدولي، عبر الإنتاج الأصيل للمنصة والترجمة ونقل المعارف.
### روابط سريعة
### التصنيفات
### مرحبا بك!
قم بتسجيل الدخول إلى حسابك
تذكرني
### قم بإنشاء حساب جديد!
املأ النموذج أدناه للتسجيل
### طلب إعادة تعيين كلمة المرور
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان البريد الإلكتروني لإعادة تعيين كلمة المرور الخاصة بك.
### Add New Playlist
- Select Visibility -PublicPrivate
No Result
عرض جميع النتائج
-
00:00
00:00
-
00:00
00:00
|
article
|
Arabic
|
ar
|
الفنّ التجريدي: بين الماضي والحاضر - منصة معنى الثقافية
|
https://mana.net/abstract-art/
|
1,961 |
«معنى»، مؤسسة ثقافية تقدّمية ودار نشر تهتم بالفلسفة والمعرفة والفنون، عبر مجموعة متنوعة من المواد المقروءة والمسموعة والمرئية.
|
sentence
|
«معنى»، مؤسسة ثقافية تقدّمية ودار نشر تهتم بالفلسفة والمعرفة والفنون، عبر مجموعة متنوعة من المواد المقروءة والمسموعة والمرئية. انطلقت في 20 مارس 2019، بهدف إثراء المحتوى العربي، ورفع ذائقة ووعي المتلقّي المحلي والدولي، عبر الإنتاج الأصيل للمنصة والترجمة ونقل المعارف.
|
paragraph
|
Arabic
|
ar
|
الفنّ التجريدي: بين الماضي والحاضر - منصة معنى الثقافية
|
https://mana.net/abstract-art/
|
1,962 |
انطلقت في 20 مارس 2019، بهدف إثراء المحتوى العربي، ورفع ذائقة ووعي المتلقّي المحلي والدولي، عبر الإنتاج الأصيل للمنصة والترجمة ونقل المعارف.
|
sentence
|
«معنى»، مؤسسة ثقافية تقدّمية ودار نشر تهتم بالفلسفة والمعرفة والفنون، عبر مجموعة متنوعة من المواد المقروءة والمسموعة والمرئية. انطلقت في 20 مارس 2019، بهدف إثراء المحتوى العربي، ورفع ذائقة ووعي المتلقّي المحلي والدولي، عبر الإنتاج الأصيل للمنصة والترجمة ونقل المعارف.
|
paragraph
|
Arabic
|
ar
|
الفنّ التجريدي: بين الماضي والحاضر - منصة معنى الثقافية
|
https://mana.net/abstract-art/
|
1,963 |
مفهوم الفن التجريدي - موضوع
|
title
|
تاريخ الفن التجريدي
|
query
|
Arabic
|
ar
|
مفهوم الفن التجريدي - موضوع
|
https://mawdoo3.com/%D9%85%D9%81%D9%87%D9%88%D9%85_%D8%A7%D9%84%D9%81%D9%86_%D8%A7%D9%84%D8%AA%D8%AC%D8%B1%D9%8A%D8%AF%D9%8A
|
1,964 |
كانت أولى أعمال كاندينسكي الفنيّة التجريديّة عام 1910م، وذلك بعرضه لوحته تحت عنوان تجريد، وقال في ذلك: "يجب أن يُصبح الفنّ مُجرّداً عن أصله ويرتبط بمعنى مُحدد معروف"، إذ يقصد من أنّ للألوان والأشكال معاني مُستقلّة عن معانيها الأصليّة في الطبيعة، وهي تكتسب معانيها الجديدة بصياغة الفنان لها لتؤدّي دلالةً يُريدها ومعاني مُعيّنةً يهدف إليها، وكان نهج كاندينسكي في أعماله الفنيّة من خلال إعادة صياغة معاني الألوان بما يتوافق مع أفكاره، مع إعادة تنظيم الأشكال بشكل يعكس دلالاتٍ معيّنةً، ويصف النّاقد ماريون مليز هذا النهج قائلاً: "عندما شاهدت من كاندينسكي شعرت بأنني تائه في عالم التعريفات الساحرة".
|
sentence
|
كانت أولى أعمال كاندينسكي الفنيّة التجريديّة عام 1910م، وذلك بعرضه لوحته تحت عنوان تجريد، وقال في ذلك: "يجب أن يُصبح الفنّ مُجرّداً عن أصله ويرتبط بمعنى مُحدد معروف"، إذ يقصد من أنّ للألوان والأشكال معاني مُستقلّة عن معانيها الأصليّة في الطبيعة، وهي تكتسب معانيها الجديدة بصياغة الفنان لها لتؤدّي دلالةً يُريدها ومعاني مُعيّنةً يهدف إليها، وكان نهج كاندينسكي في أعماله الفنيّة من خلال إعادة صياغة معاني الألوان بما يتوافق مع أفكاره، مع إعادة تنظيم الأشكال بشكل يعكس دلالاتٍ معيّنةً، ويصف النّاقد ماريون مليز هذا النهج قائلاً: "عندما شاهدت من كاندينسكي شعرت بأنني تائه في عالم التعريفات الساحرة". الجدير بالذكر أنّ الأساس الذي اعتمده كاندينسكي في نظريته الجماليّة للفن كان الفيلسوف الألمانيّ شوبنهاور قد بدأ بها قبله، فهي نظريّة قائمة على أساس فصل النّموذج العضويّ عن الأشكال الطبيعيّة، بالإضافة إلى كَوْن البناء التصويريّ للأشياء يجب أن يكون حرّاً دون الإشارة إلى الأشكال الطبيعيّة.[٧]
|
paragraph
|
Arabic
|
ar
|
مفهوم الفن التجريدي - موضوع
|
https://mawdoo3.com/%D9%85%D9%81%D9%87%D9%88%D9%85_%D8%A7%D9%84%D9%81%D9%86_%D8%A7%D9%84%D8%AA%D8%AC%D8%B1%D9%8A%D8%AF%D9%8A
|
1,965 |
الجدير بالذكر أنّ الأساس الذي اعتمده كاندينسكي في نظريته الجماليّة للفن كان الفيلسوف الألمانيّ شوبنهاور قد بدأ بها قبله، فهي نظريّة قائمة على أساس فصل النّموذج العضويّ عن الأشكال الطبيعيّة، بالإضافة إلى كَوْن البناء التصويريّ للأشياء يجب أن يكون حرّاً دون الإشارة إلى الأشكال الطبيعيّة.[
|
sentence
|
كانت أولى أعمال كاندينسكي الفنيّة التجريديّة عام 1910م، وذلك بعرضه لوحته تحت عنوان تجريد، وقال في ذلك: "يجب أن يُصبح الفنّ مُجرّداً عن أصله ويرتبط بمعنى مُحدد معروف"، إذ يقصد من أنّ للألوان والأشكال معاني مُستقلّة عن معانيها الأصليّة في الطبيعة، وهي تكتسب معانيها الجديدة بصياغة الفنان لها لتؤدّي دلالةً يُريدها ومعاني مُعيّنةً يهدف إليها، وكان نهج كاندينسكي في أعماله الفنيّة من خلال إعادة صياغة معاني الألوان بما يتوافق مع أفكاره، مع إعادة تنظيم الأشكال بشكل يعكس دلالاتٍ معيّنةً، ويصف النّاقد ماريون مليز هذا النهج قائلاً: "عندما شاهدت من كاندينسكي شعرت بأنني تائه في عالم التعريفات الساحرة". الجدير بالذكر أنّ الأساس الذي اعتمده كاندينسكي في نظريته الجماليّة للفن كان الفيلسوف الألمانيّ شوبنهاور قد بدأ بها قبله، فهي نظريّة قائمة على أساس فصل النّموذج العضويّ عن الأشكال الطبيعيّة، بالإضافة إلى كَوْن البناء التصويريّ للأشياء يجب أن يكون حرّاً دون الإشارة إلى الأشكال الطبيعيّة.[٧]
|
paragraph
|
Arabic
|
ar
|
مفهوم الفن التجريدي - موضوع
|
https://mawdoo3.com/%D9%85%D9%81%D9%87%D9%88%D9%85_%D8%A7%D9%84%D9%81%D9%86_%D8%A7%D9%84%D8%AA%D8%AC%D8%B1%D9%8A%D8%AF%D9%8A
|
1,966 |
الفن التجريدي - الفن هو ابداع
|
title
|
تاريخ الفن التجريدي
|
query
|
Arabic
|
ar
|
الفن التجريدي - الفن هو ابداع
|
https://artmatey.weebly.com/1575160416011606-15751604157815801585161015831610.html
|
1,967 |
## الفن التجريدي Art Abstrait
Photo
الفن التجريدي فن يعتمد في الأداء على أشكال مجردة تنأى عن مشابهة المشخصات و المرئيات في صورتها الطبيعية و الواقعية.
ويتميز بقدرة الفنان على رسم الشكل الذي يتخيله سواء من الواقع أو الخيال في شكل جديد تماما قد يتشابه أو لا يتشابه مع الشكل الأصلي للرسم النهائي مع البعد عن الأشكال الهندسية. ومن رواد هذا الفن التجريدي الفنان العالمي بيكاسو.
مقدمة:اهتمت المدرسة التجريدية الفنية بالأصل الطبيعي، ورؤيته من زاوية هندسية، حيث تتحول المناظر إلى مجرد مثلثات ومربعات ودوائر، وتظهر اللوحة التجريدية أشبه ما تكون بقصاصات الورق المتراكمة أو بقطاعات من الصخور أو أشكال السحب، أي مجرد قطع إيقاعية مترابطة ليست لها دلائل بصرية مباشرة، وإن كانت تحمل في طياتها شيئاً من خلاصة التجربة التشكيلية التي مر بها الفنان. وعموماً فإن المذهب التجريدي في الرسم، يسعى إلى البحث عن جوهر الأشياء والتعبير عنها في أشكال موجزة تحمل في داخلها الخبرات الفنية، التي أثارت وجدان الفنان التجريدي. وكلمة "تجريد" تعني التخلص من كل آثار الواقع والارتباط به، فالجسم الكروي تجريد لعدد كبير من الأشكال التي تحمل هذا الطابع: كالتفاحة والشمس وكرة اللعب وما إلى ذلك، فالشكل الواحد قد يوحي بمعان متعددة، فيبدو للمشاهد أكثر ثراء. ولا تهتم المدرسة التجريدية بالأشكال الساكنة فقط، ولكن أيضاً بالأشكال المتحركة خاصة ما تحدثه بتأثير الضوء، كما في ظلال أوراق الأشجار التي يبعثه ضوء الشمس الموجه عليها، حيث تظهر الظلال كمساحات متكررة تحصر فراغات ضوئية فاتحة، ولا تبدو الأوراق بشكلها الطبيعي عندما تكون ظلالاً، بل يشكل تجريدي، وقد نجح الفنان كاندسكي –وهو أحد فناني التجريدية العالميين- في بث الروح في مربعاته ومستطيلاته ودوائره وخطوطه المستقيمة أو المنحنية، بإعطائها لوناً معيناً وترتيبها وفق نظام معين. ويبدو هذا واضحاً في لوحته "تكوين" التي رسمها عام 1914 م،
كان التطور الآخر فى تاريخ الفن فى اتجاه بزوغ التيارات التجريدية والاستخدامات البارعة للخامات ومحاولات الاستقلال عن العالم الواقعى ؛على اعتبار أنه مصدر للموضوعات والأفكار .وتنشأ النظريات عن الطاقة الدرامية للخطوط الرأس-أفقية ؛[···] وهكذا توصلت التجريدية إلى النتيجة النهائية لتنقية العالم الظاهرى ؛كبداية لقطع الرابطة بين الفنان والواقع تدريجيا .[···] لقد شبه فاسيلى كاندنسكى [166-1944] أعماله فى التصوير بالأعمال الموسيقية وكان يستخدم الألوان والأشكال المجردة وكأنها أنغام ؛وفى ذلك المجال تطورت تجاربه إلى أن تكشف لديه إمكانية الاستغناء عن الأشكال الطبيعية .
عالمياً:كان قد أعاد الفيلسوف نيتشه 1844-1900 بمفهومه عن إرادة القوة الاعتبار للجسدى فى مقابل الروحى ؛ووجه قوة الإرادة الإبداعية نحو جمالية الجسد أما ماليفتش 1878-1935 الذى تميز بفنه غير الشخصى البسيط وغير المزخرف ؛ فقد أراد تصوير مالا يرى[···] لقد عبر الفنان عن رغبته فى أن تصبح الحداثة شكلاً لقوة الإنسان الذى يكرس طاقته من أجل خلق الأشكال الجديدة.
عربياً:ومن أشهر الفنانين التجريديين فى مصر الفنان محسن عطيه.وقد أكد على ذلك المعنى الناقد الفنى صلاح بيصار حين كتب فى مقالته بعنوان من شفرات التجريد إلى مرافئ الدهشة يقول: من بين قلةقليلة من فنانينا ··ظل الفنان محسن عطيه مخلصاً للوحة التجريد؛ من بدايةالسبعينيات من القرن العشرين وحتى الآن؛ مؤكدا على أن اللغة البصرية بما تحمل من رموز وما تعكس من خطوط وألوان وتراكيب وصيغ؛ تبدو فى شفرات تجريدية قادرة على أن تنقلنا إلى مرافئ الدهشة ومنافذ الحلم ؛خاصة وأعماله فيها من رحيق الأشياء وسحر الأزمنة والأمكنة؛بل وبقايا عناصر من روح الحياةووشوشات النور للظلمة وهمس الموجودات ،على الرغم من التلخيص الشديد والإيجاز ولاختزال.لقد بزغت معالم أسلوبه فترة السعينيات 1972-1976 وامتدت بمزيج من التعبيرية و التجريدية مع ومضات رمزية منذ اشتراكه فى معارض جماعة الدعوة للآخرالتى أقامت معظم معارضها فى قاعات أتيليه القاهرة بوسط البلد. [··]وفى معرضه الذى أقيم بقاعةإكسترا على نيل الزمالك[···]فقد عمق محسن عطيه هذا الاتجاه إلى حد أن أصبح علامة من علامات فنه ينساب بالنغمات اللونية أشبه بدرجات السلم الموسيقى ؛[···]على اعتبار أن المذهب التجريدى فى الرسم ، يسعى إلى البحث عن جوهر الشياءوالتعبير عنها فى أشكال موجزة تحمل داخلها الخبرات الفنية.. أشكال رمزية تعانق الأسطورة..خاصةوالرمز[...] هو الصيغة المناسبة للتعبير عن الحقائق المجهولة مثلما أن الأسطورة تمثل استعارات من المظاهر الطبيعية ،من أجل أن تعكس العالمين الداخلى والخارجى.
|
article
|
الفن التجريدي - الفن هو ابداع
|
title
|
Arabic
|
ar
|
الفن التجريدي - الفن هو ابداع
|
https://artmatey.weebly.com/1575160416011606-15751604157815801585161015831610.html
|
1,968 |
ويتميز بقدرة الفنان على رسم الشكل الذي يتخيله سواء من الواقع أو الخيال في شكل جديد تماما قد يتشابه أو لا يتشابه مع الشكل الأصلي للرسم النهائي مع البعد عن الأشكال الهندسية. ومن رواد هذا الفن التجريدي الفنان العالمي بيكاسو.
|
paragraph
|
## الفن التجريدي Art Abstrait
Photo
الفن التجريدي فن يعتمد في الأداء على أشكال مجردة تنأى عن مشابهة المشخصات و المرئيات في صورتها الطبيعية و الواقعية.
ويتميز بقدرة الفنان على رسم الشكل الذي يتخيله سواء من الواقع أو الخيال في شكل جديد تماما قد يتشابه أو لا يتشابه مع الشكل الأصلي للرسم النهائي مع البعد عن الأشكال الهندسية. ومن رواد هذا الفن التجريدي الفنان العالمي بيكاسو.
مقدمة:اهتمت المدرسة التجريدية الفنية بالأصل الطبيعي، ورؤيته من زاوية هندسية، حيث تتحول المناظر إلى مجرد مثلثات ومربعات ودوائر، وتظهر اللوحة التجريدية أشبه ما تكون بقصاصات الورق المتراكمة أو بقطاعات من الصخور أو أشكال السحب، أي مجرد قطع إيقاعية مترابطة ليست لها دلائل بصرية مباشرة، وإن كانت تحمل في طياتها شيئاً من خلاصة التجربة التشكيلية التي مر بها الفنان. وعموماً فإن المذهب التجريدي في الرسم، يسعى إلى البحث عن جوهر الأشياء والتعبير عنها في أشكال موجزة تحمل في داخلها الخبرات الفنية، التي أثارت وجدان الفنان التجريدي. وكلمة "تجريد" تعني التخلص من كل آثار الواقع والارتباط به، فالجسم الكروي تجريد لعدد كبير من الأشكال التي تحمل هذا الطابع: كالتفاحة والشمس وكرة اللعب وما إلى ذلك، فالشكل الواحد قد يوحي بمعان متعددة، فيبدو للمشاهد أكثر ثراء. ولا تهتم المدرسة التجريدية بالأشكال الساكنة فقط، ولكن أيضاً بالأشكال المتحركة خاصة ما تحدثه بتأثير الضوء، كما في ظلال أوراق الأشجار التي يبعثه ضوء الشمس الموجه عليها، حيث تظهر الظلال كمساحات متكررة تحصر فراغات ضوئية فاتحة، ولا تبدو الأوراق بشكلها الطبيعي عندما تكون ظلالاً، بل يشكل تجريدي، وقد نجح الفنان كاندسكي –وهو أحد فناني التجريدية العالميين- في بث الروح في مربعاته ومستطيلاته ودوائره وخطوطه المستقيمة أو المنحنية، بإعطائها لوناً معيناً وترتيبها وفق نظام معين. ويبدو هذا واضحاً في لوحته "تكوين" التي رسمها عام 1914 م،
كان التطور الآخر فى تاريخ الفن فى اتجاه بزوغ التيارات التجريدية والاستخدامات البارعة للخامات ومحاولات الاستقلال عن العالم الواقعى ؛على اعتبار أنه مصدر للموضوعات والأفكار .وتنشأ النظريات عن الطاقة الدرامية للخطوط الرأس-أفقية ؛[···] وهكذا توصلت التجريدية إلى النتيجة النهائية لتنقية العالم الظاهرى ؛كبداية لقطع الرابطة بين الفنان والواقع تدريجيا .[···] لقد شبه فاسيلى كاندنسكى [166-1944] أعماله فى التصوير بالأعمال الموسيقية وكان يستخدم الألوان والأشكال المجردة وكأنها أنغام ؛وفى ذلك المجال تطورت تجاربه إلى أن تكشف لديه إمكانية الاستغناء عن الأشكال الطبيعية .
عالمياً:كان قد أعاد الفيلسوف نيتشه 1844-1900 بمفهومه عن إرادة القوة الاعتبار للجسدى فى مقابل الروحى ؛ووجه قوة الإرادة الإبداعية نحو جمالية الجسد أما ماليفتش 1878-1935 الذى تميز بفنه غير الشخصى البسيط وغير المزخرف ؛ فقد أراد تصوير مالا يرى[···] لقد عبر الفنان عن رغبته فى أن تصبح الحداثة شكلاً لقوة الإنسان الذى يكرس طاقته من أجل خلق الأشكال الجديدة.
عربياً:ومن أشهر الفنانين التجريديين فى مصر الفنان محسن عطيه.وقد أكد على ذلك المعنى الناقد الفنى صلاح بيصار حين كتب فى مقالته بعنوان من شفرات التجريد إلى مرافئ الدهشة يقول: من بين قلةقليلة من فنانينا ··ظل الفنان محسن عطيه مخلصاً للوحة التجريد؛ من بدايةالسبعينيات من القرن العشرين وحتى الآن؛ مؤكدا على أن اللغة البصرية بما تحمل من رموز وما تعكس من خطوط وألوان وتراكيب وصيغ؛ تبدو فى شفرات تجريدية قادرة على أن تنقلنا إلى مرافئ الدهشة ومنافذ الحلم ؛خاصة وأعماله فيها من رحيق الأشياء وسحر الأزمنة والأمكنة؛بل وبقايا عناصر من روح الحياةووشوشات النور للظلمة وهمس الموجودات ،على الرغم من التلخيص الشديد والإيجاز ولاختزال.لقد بزغت معالم أسلوبه فترة السعينيات 1972-1976 وامتدت بمزيج من التعبيرية و التجريدية مع ومضات رمزية منذ اشتراكه فى معارض جماعة الدعوة للآخرالتى أقامت معظم معارضها فى قاعات أتيليه القاهرة بوسط البلد. [··]وفى معرضه الذى أقيم بقاعةإكسترا على نيل الزمالك[···]فقد عمق محسن عطيه هذا الاتجاه إلى حد أن أصبح علامة من علامات فنه ينساب بالنغمات اللونية أشبه بدرجات السلم الموسيقى ؛[···]على اعتبار أن المذهب التجريدى فى الرسم ، يسعى إلى البحث عن جوهر الشياءوالتعبير عنها فى أشكال موجزة تحمل داخلها الخبرات الفنية.. أشكال رمزية تعانق الأسطورة..خاصةوالرمز[...] هو الصيغة المناسبة للتعبير عن الحقائق المجهولة مثلما أن الأسطورة تمثل استعارات من المظاهر الطبيعية ،من أجل أن تعكس العالمين الداخلى والخارجى.
|
article
|
Arabic
|
ar
|
الفن التجريدي - الفن هو ابداع
|
https://artmatey.weebly.com/1575160416011606-15751604157815801585161015831610.html
|
1,969 |
ويتميز بقدرة الفنان على رسم الشكل الذي يتخيله سواء من الواقع أو الخيال في شكل جديد تماما قد يتشابه أو لا يتشابه مع الشكل الأصلي للرسم النهائي مع البعد عن الأشكال الهندسية.
|
sentence
|
ويتميز بقدرة الفنان على رسم الشكل الذي يتخيله سواء من الواقع أو الخيال في شكل جديد تماما قد يتشابه أو لا يتشابه مع الشكل الأصلي للرسم النهائي مع البعد عن الأشكال الهندسية. ومن رواد هذا الفن التجريدي الفنان العالمي بيكاسو.
|
paragraph
|
Arabic
|
ar
|
الفن التجريدي - الفن هو ابداع
|
https://artmatey.weebly.com/1575160416011606-15751604157815801585161015831610.html
|
1,970 |
مقدمة:اهتمت المدرسة التجريدية الفنية بالأصل الطبيعي، ورؤيته من زاوية هندسية، حيث تتحول المناظر إلى مجرد مثلثات ومربعات ودوائر، وتظهر اللوحة التجريدية أشبه ما تكون بقصاصات الورق المتراكمة أو بقطاعات من الصخور أو أشكال السحب، أي مجرد قطع إيقاعية مترابطة ليست لها دلائل بصرية مباشرة، وإن كانت تحمل في طياتها شيئاً من خلاصة التجربة التشكيلية التي مر بها الفنان. وعموماً فإن المذهب التجريدي في الرسم، يسعى إلى البحث عن جوهر الأشياء والتعبير عنها في أشكال موجزة تحمل في داخلها الخبرات الفنية، التي أثارت وجدان الفنان التجريدي. وكلمة "تجريد" تعني التخلص من كل آثار الواقع والارتباط به، فالجسم الكروي تجريد لعدد كبير من الأشكال التي تحمل هذا الطابع: كالتفاحة والشمس وكرة اللعب وما إلى ذلك، فالشكل الواحد قد يوحي بمعان متعددة، فيبدو للمشاهد أكثر ثراء. ولا تهتم المدرسة التجريدية بالأشكال الساكنة فقط، ولكن أيضاً بالأشكال المتحركة خاصة ما تحدثه بتأثير الضوء، كما في ظلال أوراق الأشجار التي يبعثه ضوء الشمس الموجه عليها، حيث تظهر الظلال كمساحات متكررة تحصر فراغات ضوئية فاتحة، ولا تبدو الأوراق بشكلها الطبيعي عندما تكون ظلالاً، بل يشكل تجريدي، وقد نجح الفنان كاندسكي –وهو أحد فناني التجريدية العالميين- في بث الروح في مربعاته ومستطيلاته ودوائره وخطوطه المستقيمة أو المنحنية، بإعطائها لوناً معيناً وترتيبها وفق نظام معين. ويبدو هذا واضحاً في لوحته "تكوين" التي رسمها عام 1914 م،
|
paragraph
|
## الفن التجريدي Art Abstrait
Photo
الفن التجريدي فن يعتمد في الأداء على أشكال مجردة تنأى عن مشابهة المشخصات و المرئيات في صورتها الطبيعية و الواقعية.
ويتميز بقدرة الفنان على رسم الشكل الذي يتخيله سواء من الواقع أو الخيال في شكل جديد تماما قد يتشابه أو لا يتشابه مع الشكل الأصلي للرسم النهائي مع البعد عن الأشكال الهندسية. ومن رواد هذا الفن التجريدي الفنان العالمي بيكاسو.
مقدمة:اهتمت المدرسة التجريدية الفنية بالأصل الطبيعي، ورؤيته من زاوية هندسية، حيث تتحول المناظر إلى مجرد مثلثات ومربعات ودوائر، وتظهر اللوحة التجريدية أشبه ما تكون بقصاصات الورق المتراكمة أو بقطاعات من الصخور أو أشكال السحب، أي مجرد قطع إيقاعية مترابطة ليست لها دلائل بصرية مباشرة، وإن كانت تحمل في طياتها شيئاً من خلاصة التجربة التشكيلية التي مر بها الفنان. وعموماً فإن المذهب التجريدي في الرسم، يسعى إلى البحث عن جوهر الأشياء والتعبير عنها في أشكال موجزة تحمل في داخلها الخبرات الفنية، التي أثارت وجدان الفنان التجريدي. وكلمة "تجريد" تعني التخلص من كل آثار الواقع والارتباط به، فالجسم الكروي تجريد لعدد كبير من الأشكال التي تحمل هذا الطابع: كالتفاحة والشمس وكرة اللعب وما إلى ذلك، فالشكل الواحد قد يوحي بمعان متعددة، فيبدو للمشاهد أكثر ثراء. ولا تهتم المدرسة التجريدية بالأشكال الساكنة فقط، ولكن أيضاً بالأشكال المتحركة خاصة ما تحدثه بتأثير الضوء، كما في ظلال أوراق الأشجار التي يبعثه ضوء الشمس الموجه عليها، حيث تظهر الظلال كمساحات متكررة تحصر فراغات ضوئية فاتحة، ولا تبدو الأوراق بشكلها الطبيعي عندما تكون ظلالاً، بل يشكل تجريدي، وقد نجح الفنان كاندسكي –وهو أحد فناني التجريدية العالميين- في بث الروح في مربعاته ومستطيلاته ودوائره وخطوطه المستقيمة أو المنحنية، بإعطائها لوناً معيناً وترتيبها وفق نظام معين. ويبدو هذا واضحاً في لوحته "تكوين" التي رسمها عام 1914 م،
كان التطور الآخر فى تاريخ الفن فى اتجاه بزوغ التيارات التجريدية والاستخدامات البارعة للخامات ومحاولات الاستقلال عن العالم الواقعى ؛على اعتبار أنه مصدر للموضوعات والأفكار .وتنشأ النظريات عن الطاقة الدرامية للخطوط الرأس-أفقية ؛[···] وهكذا توصلت التجريدية إلى النتيجة النهائية لتنقية العالم الظاهرى ؛كبداية لقطع الرابطة بين الفنان والواقع تدريجيا .[···] لقد شبه فاسيلى كاندنسكى [166-1944] أعماله فى التصوير بالأعمال الموسيقية وكان يستخدم الألوان والأشكال المجردة وكأنها أنغام ؛وفى ذلك المجال تطورت تجاربه إلى أن تكشف لديه إمكانية الاستغناء عن الأشكال الطبيعية .
عالمياً:كان قد أعاد الفيلسوف نيتشه 1844-1900 بمفهومه عن إرادة القوة الاعتبار للجسدى فى مقابل الروحى ؛ووجه قوة الإرادة الإبداعية نحو جمالية الجسد أما ماليفتش 1878-1935 الذى تميز بفنه غير الشخصى البسيط وغير المزخرف ؛ فقد أراد تصوير مالا يرى[···] لقد عبر الفنان عن رغبته فى أن تصبح الحداثة شكلاً لقوة الإنسان الذى يكرس طاقته من أجل خلق الأشكال الجديدة.
عربياً:ومن أشهر الفنانين التجريديين فى مصر الفنان محسن عطيه.وقد أكد على ذلك المعنى الناقد الفنى صلاح بيصار حين كتب فى مقالته بعنوان من شفرات التجريد إلى مرافئ الدهشة يقول: من بين قلةقليلة من فنانينا ··ظل الفنان محسن عطيه مخلصاً للوحة التجريد؛ من بدايةالسبعينيات من القرن العشرين وحتى الآن؛ مؤكدا على أن اللغة البصرية بما تحمل من رموز وما تعكس من خطوط وألوان وتراكيب وصيغ؛ تبدو فى شفرات تجريدية قادرة على أن تنقلنا إلى مرافئ الدهشة ومنافذ الحلم ؛خاصة وأعماله فيها من رحيق الأشياء وسحر الأزمنة والأمكنة؛بل وبقايا عناصر من روح الحياةووشوشات النور للظلمة وهمس الموجودات ،على الرغم من التلخيص الشديد والإيجاز ولاختزال.لقد بزغت معالم أسلوبه فترة السعينيات 1972-1976 وامتدت بمزيج من التعبيرية و التجريدية مع ومضات رمزية منذ اشتراكه فى معارض جماعة الدعوة للآخرالتى أقامت معظم معارضها فى قاعات أتيليه القاهرة بوسط البلد. [··]وفى معرضه الذى أقيم بقاعةإكسترا على نيل الزمالك[···]فقد عمق محسن عطيه هذا الاتجاه إلى حد أن أصبح علامة من علامات فنه ينساب بالنغمات اللونية أشبه بدرجات السلم الموسيقى ؛[···]على اعتبار أن المذهب التجريدى فى الرسم ، يسعى إلى البحث عن جوهر الشياءوالتعبير عنها فى أشكال موجزة تحمل داخلها الخبرات الفنية.. أشكال رمزية تعانق الأسطورة..خاصةوالرمز[...] هو الصيغة المناسبة للتعبير عن الحقائق المجهولة مثلما أن الأسطورة تمثل استعارات من المظاهر الطبيعية ،من أجل أن تعكس العالمين الداخلى والخارجى.
|
article
|
Arabic
|
ar
|
الفن التجريدي - الفن هو ابداع
|
https://artmatey.weebly.com/1575160416011606-15751604157815801585161015831610.html
|
1,971 |
مقدمة:اهتمت المدرسة التجريدية الفنية بالأصل الطبيعي، ورؤيته من زاوية هندسية، حيث تتحول المناظر إلى مجرد مثلثات ومربعات ودوائر، وتظهر اللوحة التجريدية أشبه ما تكون بقصاصات الورق المتراكمة أو بقطاعات من الصخور أو أشكال السحب، أي مجرد قطع إيقاعية مترابطة ليست لها دلائل بصرية مباشرة، وإن كانت تحمل في طياتها شيئاً من خلاصة التجربة التشكيلية التي مر بها الفنان.
|
sentence
|
مقدمة:اهتمت المدرسة التجريدية الفنية بالأصل الطبيعي، ورؤيته من زاوية هندسية، حيث تتحول المناظر إلى مجرد مثلثات ومربعات ودوائر، وتظهر اللوحة التجريدية أشبه ما تكون بقصاصات الورق المتراكمة أو بقطاعات من الصخور أو أشكال السحب، أي مجرد قطع إيقاعية مترابطة ليست لها دلائل بصرية مباشرة، وإن كانت تحمل في طياتها شيئاً من خلاصة التجربة التشكيلية التي مر بها الفنان. وعموماً فإن المذهب التجريدي في الرسم، يسعى إلى البحث عن جوهر الأشياء والتعبير عنها في أشكال موجزة تحمل في داخلها الخبرات الفنية، التي أثارت وجدان الفنان التجريدي. وكلمة "تجريد" تعني التخلص من كل آثار الواقع والارتباط به، فالجسم الكروي تجريد لعدد كبير من الأشكال التي تحمل هذا الطابع: كالتفاحة والشمس وكرة اللعب وما إلى ذلك، فالشكل الواحد قد يوحي بمعان متعددة، فيبدو للمشاهد أكثر ثراء. ولا تهتم المدرسة التجريدية بالأشكال الساكنة فقط، ولكن أيضاً بالأشكال المتحركة خاصة ما تحدثه بتأثير الضوء، كما في ظلال أوراق الأشجار التي يبعثه ضوء الشمس الموجه عليها، حيث تظهر الظلال كمساحات متكررة تحصر فراغات ضوئية فاتحة، ولا تبدو الأوراق بشكلها الطبيعي عندما تكون ظلالاً، بل يشكل تجريدي، وقد نجح الفنان كاندسكي –وهو أحد فناني التجريدية العالميين- في بث الروح في مربعاته ومستطيلاته ودوائره وخطوطه المستقيمة أو المنحنية، بإعطائها لوناً معيناً وترتيبها وفق نظام معين. ويبدو هذا واضحاً في لوحته "تكوين" التي رسمها عام 1914 م،
|
paragraph
|
Arabic
|
ar
|
الفن التجريدي - الفن هو ابداع
|
https://artmatey.weebly.com/1575160416011606-15751604157815801585161015831610.html
|
1,972 |
وعموماً فإن المذهب التجريدي في الرسم، يسعى إلى البحث عن جوهر الأشياء والتعبير عنها في أشكال موجزة تحمل في داخلها الخبرات الفنية، التي أثارت وجدان الفنان التجريدي.
|
sentence
|
مقدمة:اهتمت المدرسة التجريدية الفنية بالأصل الطبيعي، ورؤيته من زاوية هندسية، حيث تتحول المناظر إلى مجرد مثلثات ومربعات ودوائر، وتظهر اللوحة التجريدية أشبه ما تكون بقصاصات الورق المتراكمة أو بقطاعات من الصخور أو أشكال السحب، أي مجرد قطع إيقاعية مترابطة ليست لها دلائل بصرية مباشرة، وإن كانت تحمل في طياتها شيئاً من خلاصة التجربة التشكيلية التي مر بها الفنان. وعموماً فإن المذهب التجريدي في الرسم، يسعى إلى البحث عن جوهر الأشياء والتعبير عنها في أشكال موجزة تحمل في داخلها الخبرات الفنية، التي أثارت وجدان الفنان التجريدي. وكلمة "تجريد" تعني التخلص من كل آثار الواقع والارتباط به، فالجسم الكروي تجريد لعدد كبير من الأشكال التي تحمل هذا الطابع: كالتفاحة والشمس وكرة اللعب وما إلى ذلك، فالشكل الواحد قد يوحي بمعان متعددة، فيبدو للمشاهد أكثر ثراء. ولا تهتم المدرسة التجريدية بالأشكال الساكنة فقط، ولكن أيضاً بالأشكال المتحركة خاصة ما تحدثه بتأثير الضوء، كما في ظلال أوراق الأشجار التي يبعثه ضوء الشمس الموجه عليها، حيث تظهر الظلال كمساحات متكررة تحصر فراغات ضوئية فاتحة، ولا تبدو الأوراق بشكلها الطبيعي عندما تكون ظلالاً، بل يشكل تجريدي، وقد نجح الفنان كاندسكي –وهو أحد فناني التجريدية العالميين- في بث الروح في مربعاته ومستطيلاته ودوائره وخطوطه المستقيمة أو المنحنية، بإعطائها لوناً معيناً وترتيبها وفق نظام معين. ويبدو هذا واضحاً في لوحته "تكوين" التي رسمها عام 1914 م،
|
paragraph
|
Arabic
|
ar
|
الفن التجريدي - الفن هو ابداع
|
https://artmatey.weebly.com/1575160416011606-15751604157815801585161015831610.html
|
1,973 |
وكلمة "تجريد" تعني التخلص من كل آثار الواقع والارتباط به، فالجسم الكروي تجريد لعدد كبير من الأشكال التي تحمل هذا الطابع: كالتفاحة والشمس وكرة اللعب وما إلى ذلك، فالشكل الواحد قد يوحي بمعان متعددة، فيبدو للمشاهد أكثر ثراء.
|
sentence
|
مقدمة:اهتمت المدرسة التجريدية الفنية بالأصل الطبيعي، ورؤيته من زاوية هندسية، حيث تتحول المناظر إلى مجرد مثلثات ومربعات ودوائر، وتظهر اللوحة التجريدية أشبه ما تكون بقصاصات الورق المتراكمة أو بقطاعات من الصخور أو أشكال السحب، أي مجرد قطع إيقاعية مترابطة ليست لها دلائل بصرية مباشرة، وإن كانت تحمل في طياتها شيئاً من خلاصة التجربة التشكيلية التي مر بها الفنان. وعموماً فإن المذهب التجريدي في الرسم، يسعى إلى البحث عن جوهر الأشياء والتعبير عنها في أشكال موجزة تحمل في داخلها الخبرات الفنية، التي أثارت وجدان الفنان التجريدي. وكلمة "تجريد" تعني التخلص من كل آثار الواقع والارتباط به، فالجسم الكروي تجريد لعدد كبير من الأشكال التي تحمل هذا الطابع: كالتفاحة والشمس وكرة اللعب وما إلى ذلك، فالشكل الواحد قد يوحي بمعان متعددة، فيبدو للمشاهد أكثر ثراء. ولا تهتم المدرسة التجريدية بالأشكال الساكنة فقط، ولكن أيضاً بالأشكال المتحركة خاصة ما تحدثه بتأثير الضوء، كما في ظلال أوراق الأشجار التي يبعثه ضوء الشمس الموجه عليها، حيث تظهر الظلال كمساحات متكررة تحصر فراغات ضوئية فاتحة، ولا تبدو الأوراق بشكلها الطبيعي عندما تكون ظلالاً، بل يشكل تجريدي، وقد نجح الفنان كاندسكي –وهو أحد فناني التجريدية العالميين- في بث الروح في مربعاته ومستطيلاته ودوائره وخطوطه المستقيمة أو المنحنية، بإعطائها لوناً معيناً وترتيبها وفق نظام معين. ويبدو هذا واضحاً في لوحته "تكوين" التي رسمها عام 1914 م،
|
paragraph
|
Arabic
|
ar
|
الفن التجريدي - الفن هو ابداع
|
https://artmatey.weebly.com/1575160416011606-15751604157815801585161015831610.html
|
1,974 |
ولا تهتم المدرسة التجريدية بالأشكال الساكنة فقط، ولكن أيضاً بالأشكال المتحركة خاصة ما تحدثه بتأثير الضوء، كما في ظلال أوراق الأشجار التي يبعثه ضوء الشمس الموجه عليها، حيث تظهر الظلال كمساحات متكررة تحصر فراغات ضوئية فاتحة، ولا تبدو الأوراق بشكلها الطبيعي عندما تكون ظلالاً، بل يشكل تجريدي، وقد نجح الفنان كاندسكي –وهو أحد فناني التجريدية العالميين- في بث الروح في مربعاته ومستطيلاته ودوائره وخطوطه المستقيمة أو المنحنية، بإعطائها لوناً معيناً وترتيبها وفق نظام معين.
|
sentence
|
مقدمة:اهتمت المدرسة التجريدية الفنية بالأصل الطبيعي، ورؤيته من زاوية هندسية، حيث تتحول المناظر إلى مجرد مثلثات ومربعات ودوائر، وتظهر اللوحة التجريدية أشبه ما تكون بقصاصات الورق المتراكمة أو بقطاعات من الصخور أو أشكال السحب، أي مجرد قطع إيقاعية مترابطة ليست لها دلائل بصرية مباشرة، وإن كانت تحمل في طياتها شيئاً من خلاصة التجربة التشكيلية التي مر بها الفنان. وعموماً فإن المذهب التجريدي في الرسم، يسعى إلى البحث عن جوهر الأشياء والتعبير عنها في أشكال موجزة تحمل في داخلها الخبرات الفنية، التي أثارت وجدان الفنان التجريدي. وكلمة "تجريد" تعني التخلص من كل آثار الواقع والارتباط به، فالجسم الكروي تجريد لعدد كبير من الأشكال التي تحمل هذا الطابع: كالتفاحة والشمس وكرة اللعب وما إلى ذلك، فالشكل الواحد قد يوحي بمعان متعددة، فيبدو للمشاهد أكثر ثراء. ولا تهتم المدرسة التجريدية بالأشكال الساكنة فقط، ولكن أيضاً بالأشكال المتحركة خاصة ما تحدثه بتأثير الضوء، كما في ظلال أوراق الأشجار التي يبعثه ضوء الشمس الموجه عليها، حيث تظهر الظلال كمساحات متكررة تحصر فراغات ضوئية فاتحة، ولا تبدو الأوراق بشكلها الطبيعي عندما تكون ظلالاً، بل يشكل تجريدي، وقد نجح الفنان كاندسكي –وهو أحد فناني التجريدية العالميين- في بث الروح في مربعاته ومستطيلاته ودوائره وخطوطه المستقيمة أو المنحنية، بإعطائها لوناً معيناً وترتيبها وفق نظام معين. ويبدو هذا واضحاً في لوحته "تكوين" التي رسمها عام 1914 م،
|
paragraph
|
Arabic
|
ar
|
الفن التجريدي - الفن هو ابداع
|
https://artmatey.weebly.com/1575160416011606-15751604157815801585161015831610.html
|
1,975 |
ويبدو هذا واضحاً في لوحته "تكوين" التي رسمها عام 1914 م،
|
sentence
|
مقدمة:اهتمت المدرسة التجريدية الفنية بالأصل الطبيعي، ورؤيته من زاوية هندسية، حيث تتحول المناظر إلى مجرد مثلثات ومربعات ودوائر، وتظهر اللوحة التجريدية أشبه ما تكون بقصاصات الورق المتراكمة أو بقطاعات من الصخور أو أشكال السحب، أي مجرد قطع إيقاعية مترابطة ليست لها دلائل بصرية مباشرة، وإن كانت تحمل في طياتها شيئاً من خلاصة التجربة التشكيلية التي مر بها الفنان. وعموماً فإن المذهب التجريدي في الرسم، يسعى إلى البحث عن جوهر الأشياء والتعبير عنها في أشكال موجزة تحمل في داخلها الخبرات الفنية، التي أثارت وجدان الفنان التجريدي. وكلمة "تجريد" تعني التخلص من كل آثار الواقع والارتباط به، فالجسم الكروي تجريد لعدد كبير من الأشكال التي تحمل هذا الطابع: كالتفاحة والشمس وكرة اللعب وما إلى ذلك، فالشكل الواحد قد يوحي بمعان متعددة، فيبدو للمشاهد أكثر ثراء. ولا تهتم المدرسة التجريدية بالأشكال الساكنة فقط، ولكن أيضاً بالأشكال المتحركة خاصة ما تحدثه بتأثير الضوء، كما في ظلال أوراق الأشجار التي يبعثه ضوء الشمس الموجه عليها، حيث تظهر الظلال كمساحات متكررة تحصر فراغات ضوئية فاتحة، ولا تبدو الأوراق بشكلها الطبيعي عندما تكون ظلالاً، بل يشكل تجريدي، وقد نجح الفنان كاندسكي –وهو أحد فناني التجريدية العالميين- في بث الروح في مربعاته ومستطيلاته ودوائره وخطوطه المستقيمة أو المنحنية، بإعطائها لوناً معيناً وترتيبها وفق نظام معين. ويبدو هذا واضحاً في لوحته "تكوين" التي رسمها عام 1914 م،
|
paragraph
|
Arabic
|
ar
|
الفن التجريدي - الفن هو ابداع
|
https://artmatey.weebly.com/1575160416011606-15751604157815801585161015831610.html
|
1,976 |
كان التطور الآخر فى تاريخ الفن فى اتجاه بزوغ التيارات التجريدية والاستخدامات البارعة للخامات ومحاولات الاستقلال عن العالم الواقعى ؛على اعتبار أنه مصدر للموضوعات والأفكار .وتنشأ النظريات عن الطاقة الدرامية للخطوط الرأس-أفقية ؛[···] وهكذا توصلت التجريدية إلى النتيجة النهائية لتنقية العالم الظاهرى ؛كبداية لقطع الرابطة بين الفنان والواقع تدريجيا .[···] لقد شبه فاسيلى كاندنسكى [166-1944] أعماله فى التصوير بالأعمال الموسيقية وكان يستخدم الألوان والأشكال المجردة وكأنها أنغام ؛وفى ذلك المجال تطورت تجاربه إلى أن تكشف لديه إمكانية الاستغناء عن الأشكال الطبيعية .
|
paragraph
|
## الفن التجريدي Art Abstrait
Photo
الفن التجريدي فن يعتمد في الأداء على أشكال مجردة تنأى عن مشابهة المشخصات و المرئيات في صورتها الطبيعية و الواقعية.
ويتميز بقدرة الفنان على رسم الشكل الذي يتخيله سواء من الواقع أو الخيال في شكل جديد تماما قد يتشابه أو لا يتشابه مع الشكل الأصلي للرسم النهائي مع البعد عن الأشكال الهندسية. ومن رواد هذا الفن التجريدي الفنان العالمي بيكاسو.
مقدمة:اهتمت المدرسة التجريدية الفنية بالأصل الطبيعي، ورؤيته من زاوية هندسية، حيث تتحول المناظر إلى مجرد مثلثات ومربعات ودوائر، وتظهر اللوحة التجريدية أشبه ما تكون بقصاصات الورق المتراكمة أو بقطاعات من الصخور أو أشكال السحب، أي مجرد قطع إيقاعية مترابطة ليست لها دلائل بصرية مباشرة، وإن كانت تحمل في طياتها شيئاً من خلاصة التجربة التشكيلية التي مر بها الفنان. وعموماً فإن المذهب التجريدي في الرسم، يسعى إلى البحث عن جوهر الأشياء والتعبير عنها في أشكال موجزة تحمل في داخلها الخبرات الفنية، التي أثارت وجدان الفنان التجريدي. وكلمة "تجريد" تعني التخلص من كل آثار الواقع والارتباط به، فالجسم الكروي تجريد لعدد كبير من الأشكال التي تحمل هذا الطابع: كالتفاحة والشمس وكرة اللعب وما إلى ذلك، فالشكل الواحد قد يوحي بمعان متعددة، فيبدو للمشاهد أكثر ثراء. ولا تهتم المدرسة التجريدية بالأشكال الساكنة فقط، ولكن أيضاً بالأشكال المتحركة خاصة ما تحدثه بتأثير الضوء، كما في ظلال أوراق الأشجار التي يبعثه ضوء الشمس الموجه عليها، حيث تظهر الظلال كمساحات متكررة تحصر فراغات ضوئية فاتحة، ولا تبدو الأوراق بشكلها الطبيعي عندما تكون ظلالاً، بل يشكل تجريدي، وقد نجح الفنان كاندسكي –وهو أحد فناني التجريدية العالميين- في بث الروح في مربعاته ومستطيلاته ودوائره وخطوطه المستقيمة أو المنحنية، بإعطائها لوناً معيناً وترتيبها وفق نظام معين. ويبدو هذا واضحاً في لوحته "تكوين" التي رسمها عام 1914 م،
كان التطور الآخر فى تاريخ الفن فى اتجاه بزوغ التيارات التجريدية والاستخدامات البارعة للخامات ومحاولات الاستقلال عن العالم الواقعى ؛على اعتبار أنه مصدر للموضوعات والأفكار .وتنشأ النظريات عن الطاقة الدرامية للخطوط الرأس-أفقية ؛[···] وهكذا توصلت التجريدية إلى النتيجة النهائية لتنقية العالم الظاهرى ؛كبداية لقطع الرابطة بين الفنان والواقع تدريجيا .[···] لقد شبه فاسيلى كاندنسكى [166-1944] أعماله فى التصوير بالأعمال الموسيقية وكان يستخدم الألوان والأشكال المجردة وكأنها أنغام ؛وفى ذلك المجال تطورت تجاربه إلى أن تكشف لديه إمكانية الاستغناء عن الأشكال الطبيعية .
عالمياً:كان قد أعاد الفيلسوف نيتشه 1844-1900 بمفهومه عن إرادة القوة الاعتبار للجسدى فى مقابل الروحى ؛ووجه قوة الإرادة الإبداعية نحو جمالية الجسد أما ماليفتش 1878-1935 الذى تميز بفنه غير الشخصى البسيط وغير المزخرف ؛ فقد أراد تصوير مالا يرى[···] لقد عبر الفنان عن رغبته فى أن تصبح الحداثة شكلاً لقوة الإنسان الذى يكرس طاقته من أجل خلق الأشكال الجديدة.
عربياً:ومن أشهر الفنانين التجريديين فى مصر الفنان محسن عطيه.وقد أكد على ذلك المعنى الناقد الفنى صلاح بيصار حين كتب فى مقالته بعنوان من شفرات التجريد إلى مرافئ الدهشة يقول: من بين قلةقليلة من فنانينا ··ظل الفنان محسن عطيه مخلصاً للوحة التجريد؛ من بدايةالسبعينيات من القرن العشرين وحتى الآن؛ مؤكدا على أن اللغة البصرية بما تحمل من رموز وما تعكس من خطوط وألوان وتراكيب وصيغ؛ تبدو فى شفرات تجريدية قادرة على أن تنقلنا إلى مرافئ الدهشة ومنافذ الحلم ؛خاصة وأعماله فيها من رحيق الأشياء وسحر الأزمنة والأمكنة؛بل وبقايا عناصر من روح الحياةووشوشات النور للظلمة وهمس الموجودات ،على الرغم من التلخيص الشديد والإيجاز ولاختزال.لقد بزغت معالم أسلوبه فترة السعينيات 1972-1976 وامتدت بمزيج من التعبيرية و التجريدية مع ومضات رمزية منذ اشتراكه فى معارض جماعة الدعوة للآخرالتى أقامت معظم معارضها فى قاعات أتيليه القاهرة بوسط البلد. [··]وفى معرضه الذى أقيم بقاعةإكسترا على نيل الزمالك[···]فقد عمق محسن عطيه هذا الاتجاه إلى حد أن أصبح علامة من علامات فنه ينساب بالنغمات اللونية أشبه بدرجات السلم الموسيقى ؛[···]على اعتبار أن المذهب التجريدى فى الرسم ، يسعى إلى البحث عن جوهر الشياءوالتعبير عنها فى أشكال موجزة تحمل داخلها الخبرات الفنية.. أشكال رمزية تعانق الأسطورة..خاصةوالرمز[...] هو الصيغة المناسبة للتعبير عن الحقائق المجهولة مثلما أن الأسطورة تمثل استعارات من المظاهر الطبيعية ،من أجل أن تعكس العالمين الداخلى والخارجى.
|
article
|
Arabic
|
ar
|
الفن التجريدي - الفن هو ابداع
|
https://artmatey.weebly.com/1575160416011606-15751604157815801585161015831610.html
|
1,977 |
كان التطور الآخر فى تاريخ الفن فى اتجاه بزوغ التيارات التجريدية والاستخدامات البارعة للخامات ومحاولات الاستقلال عن العالم الواقعى ؛على اعتبار أنه مصدر للموضوعات والأفكار .
|
sentence
|
كان التطور الآخر فى تاريخ الفن فى اتجاه بزوغ التيارات التجريدية والاستخدامات البارعة للخامات ومحاولات الاستقلال عن العالم الواقعى ؛على اعتبار أنه مصدر للموضوعات والأفكار .وتنشأ النظريات عن الطاقة الدرامية للخطوط الرأس-أفقية ؛[···] وهكذا توصلت التجريدية إلى النتيجة النهائية لتنقية العالم الظاهرى ؛كبداية لقطع الرابطة بين الفنان والواقع تدريجيا .[···] لقد شبه فاسيلى كاندنسكى [166-1944] أعماله فى التصوير بالأعمال الموسيقية وكان يستخدم الألوان والأشكال المجردة وكأنها أنغام ؛وفى ذلك المجال تطورت تجاربه إلى أن تكشف لديه إمكانية الاستغناء عن الأشكال الطبيعية .
|
paragraph
|
Arabic
|
ar
|
الفن التجريدي - الفن هو ابداع
|
https://artmatey.weebly.com/1575160416011606-15751604157815801585161015831610.html
|
1,978 |
وتنشأ النظريات عن الطاقة الدرامية للخطوط الرأس-أفقية ؛[···] وهكذا توصلت التجريدية إلى النتيجة النهائية لتنقية العالم الظاهرى ؛كبداية لقطع الرابطة بين الفنان والواقع تدريجيا .[
|
sentence
|
كان التطور الآخر فى تاريخ الفن فى اتجاه بزوغ التيارات التجريدية والاستخدامات البارعة للخامات ومحاولات الاستقلال عن العالم الواقعى ؛على اعتبار أنه مصدر للموضوعات والأفكار .وتنشأ النظريات عن الطاقة الدرامية للخطوط الرأس-أفقية ؛[···] وهكذا توصلت التجريدية إلى النتيجة النهائية لتنقية العالم الظاهرى ؛كبداية لقطع الرابطة بين الفنان والواقع تدريجيا .[···] لقد شبه فاسيلى كاندنسكى [166-1944] أعماله فى التصوير بالأعمال الموسيقية وكان يستخدم الألوان والأشكال المجردة وكأنها أنغام ؛وفى ذلك المجال تطورت تجاربه إلى أن تكشف لديه إمكانية الاستغناء عن الأشكال الطبيعية .
|
paragraph
|
Arabic
|
ar
|
الفن التجريدي - الفن هو ابداع
|
https://artmatey.weebly.com/1575160416011606-15751604157815801585161015831610.html
|
1,979 |
···] لقد شبه فاسيلى كاندنسكى [166-1944] أعماله فى التصوير بالأعمال الموسيقية وكان يستخدم الألوان والأشكال المجردة وكأنها أنغام ؛وفى ذلك المجال تطورت تجاربه إلى أن تكشف لديه إمكانية الاستغناء عن الأشكال الطبيعية .
|
sentence
|
كان التطور الآخر فى تاريخ الفن فى اتجاه بزوغ التيارات التجريدية والاستخدامات البارعة للخامات ومحاولات الاستقلال عن العالم الواقعى ؛على اعتبار أنه مصدر للموضوعات والأفكار .وتنشأ النظريات عن الطاقة الدرامية للخطوط الرأس-أفقية ؛[···] وهكذا توصلت التجريدية إلى النتيجة النهائية لتنقية العالم الظاهرى ؛كبداية لقطع الرابطة بين الفنان والواقع تدريجيا .[···] لقد شبه فاسيلى كاندنسكى [166-1944] أعماله فى التصوير بالأعمال الموسيقية وكان يستخدم الألوان والأشكال المجردة وكأنها أنغام ؛وفى ذلك المجال تطورت تجاربه إلى أن تكشف لديه إمكانية الاستغناء عن الأشكال الطبيعية .
|
paragraph
|
Arabic
|
ar
|
الفن التجريدي - الفن هو ابداع
|
https://artmatey.weebly.com/1575160416011606-15751604157815801585161015831610.html
|
1,980 |
عالمياً:كان قد أعاد الفيلسوف نيتشه 1844-1900 بمفهومه عن إرادة القوة الاعتبار للجسدى فى مقابل الروحى ؛ووجه قوة الإرادة الإبداعية نحو جمالية الجسد أما ماليفتش 1878-1935 الذى تميز بفنه غير الشخصى البسيط وغير المزخرف ؛ فقد أراد تصوير مالا يرى[···] لقد عبر الفنان عن رغبته فى أن تصبح الحداثة شكلاً لقوة الإنسان الذى يكرس طاقته من أجل خلق الأشكال الجديدة.
|
paragraph
|
## الفن التجريدي Art Abstrait
Photo
الفن التجريدي فن يعتمد في الأداء على أشكال مجردة تنأى عن مشابهة المشخصات و المرئيات في صورتها الطبيعية و الواقعية.
ويتميز بقدرة الفنان على رسم الشكل الذي يتخيله سواء من الواقع أو الخيال في شكل جديد تماما قد يتشابه أو لا يتشابه مع الشكل الأصلي للرسم النهائي مع البعد عن الأشكال الهندسية. ومن رواد هذا الفن التجريدي الفنان العالمي بيكاسو.
مقدمة:اهتمت المدرسة التجريدية الفنية بالأصل الطبيعي، ورؤيته من زاوية هندسية، حيث تتحول المناظر إلى مجرد مثلثات ومربعات ودوائر، وتظهر اللوحة التجريدية أشبه ما تكون بقصاصات الورق المتراكمة أو بقطاعات من الصخور أو أشكال السحب، أي مجرد قطع إيقاعية مترابطة ليست لها دلائل بصرية مباشرة، وإن كانت تحمل في طياتها شيئاً من خلاصة التجربة التشكيلية التي مر بها الفنان. وعموماً فإن المذهب التجريدي في الرسم، يسعى إلى البحث عن جوهر الأشياء والتعبير عنها في أشكال موجزة تحمل في داخلها الخبرات الفنية، التي أثارت وجدان الفنان التجريدي. وكلمة "تجريد" تعني التخلص من كل آثار الواقع والارتباط به، فالجسم الكروي تجريد لعدد كبير من الأشكال التي تحمل هذا الطابع: كالتفاحة والشمس وكرة اللعب وما إلى ذلك، فالشكل الواحد قد يوحي بمعان متعددة، فيبدو للمشاهد أكثر ثراء. ولا تهتم المدرسة التجريدية بالأشكال الساكنة فقط، ولكن أيضاً بالأشكال المتحركة خاصة ما تحدثه بتأثير الضوء، كما في ظلال أوراق الأشجار التي يبعثه ضوء الشمس الموجه عليها، حيث تظهر الظلال كمساحات متكررة تحصر فراغات ضوئية فاتحة، ولا تبدو الأوراق بشكلها الطبيعي عندما تكون ظلالاً، بل يشكل تجريدي، وقد نجح الفنان كاندسكي –وهو أحد فناني التجريدية العالميين- في بث الروح في مربعاته ومستطيلاته ودوائره وخطوطه المستقيمة أو المنحنية، بإعطائها لوناً معيناً وترتيبها وفق نظام معين. ويبدو هذا واضحاً في لوحته "تكوين" التي رسمها عام 1914 م،
كان التطور الآخر فى تاريخ الفن فى اتجاه بزوغ التيارات التجريدية والاستخدامات البارعة للخامات ومحاولات الاستقلال عن العالم الواقعى ؛على اعتبار أنه مصدر للموضوعات والأفكار .وتنشأ النظريات عن الطاقة الدرامية للخطوط الرأس-أفقية ؛[···] وهكذا توصلت التجريدية إلى النتيجة النهائية لتنقية العالم الظاهرى ؛كبداية لقطع الرابطة بين الفنان والواقع تدريجيا .[···] لقد شبه فاسيلى كاندنسكى [166-1944] أعماله فى التصوير بالأعمال الموسيقية وكان يستخدم الألوان والأشكال المجردة وكأنها أنغام ؛وفى ذلك المجال تطورت تجاربه إلى أن تكشف لديه إمكانية الاستغناء عن الأشكال الطبيعية .
عالمياً:كان قد أعاد الفيلسوف نيتشه 1844-1900 بمفهومه عن إرادة القوة الاعتبار للجسدى فى مقابل الروحى ؛ووجه قوة الإرادة الإبداعية نحو جمالية الجسد أما ماليفتش 1878-1935 الذى تميز بفنه غير الشخصى البسيط وغير المزخرف ؛ فقد أراد تصوير مالا يرى[···] لقد عبر الفنان عن رغبته فى أن تصبح الحداثة شكلاً لقوة الإنسان الذى يكرس طاقته من أجل خلق الأشكال الجديدة.
عربياً:ومن أشهر الفنانين التجريديين فى مصر الفنان محسن عطيه.وقد أكد على ذلك المعنى الناقد الفنى صلاح بيصار حين كتب فى مقالته بعنوان من شفرات التجريد إلى مرافئ الدهشة يقول: من بين قلةقليلة من فنانينا ··ظل الفنان محسن عطيه مخلصاً للوحة التجريد؛ من بدايةالسبعينيات من القرن العشرين وحتى الآن؛ مؤكدا على أن اللغة البصرية بما تحمل من رموز وما تعكس من خطوط وألوان وتراكيب وصيغ؛ تبدو فى شفرات تجريدية قادرة على أن تنقلنا إلى مرافئ الدهشة ومنافذ الحلم ؛خاصة وأعماله فيها من رحيق الأشياء وسحر الأزمنة والأمكنة؛بل وبقايا عناصر من روح الحياةووشوشات النور للظلمة وهمس الموجودات ،على الرغم من التلخيص الشديد والإيجاز ولاختزال.لقد بزغت معالم أسلوبه فترة السعينيات 1972-1976 وامتدت بمزيج من التعبيرية و التجريدية مع ومضات رمزية منذ اشتراكه فى معارض جماعة الدعوة للآخرالتى أقامت معظم معارضها فى قاعات أتيليه القاهرة بوسط البلد. [··]وفى معرضه الذى أقيم بقاعةإكسترا على نيل الزمالك[···]فقد عمق محسن عطيه هذا الاتجاه إلى حد أن أصبح علامة من علامات فنه ينساب بالنغمات اللونية أشبه بدرجات السلم الموسيقى ؛[···]على اعتبار أن المذهب التجريدى فى الرسم ، يسعى إلى البحث عن جوهر الشياءوالتعبير عنها فى أشكال موجزة تحمل داخلها الخبرات الفنية.. أشكال رمزية تعانق الأسطورة..خاصةوالرمز[...] هو الصيغة المناسبة للتعبير عن الحقائق المجهولة مثلما أن الأسطورة تمثل استعارات من المظاهر الطبيعية ،من أجل أن تعكس العالمين الداخلى والخارجى.
|
article
|
Arabic
|
ar
|
الفن التجريدي - الفن هو ابداع
|
https://artmatey.weebly.com/1575160416011606-15751604157815801585161015831610.html
|
1,981 |
عربياً:ومن أشهر الفنانين التجريديين فى مصر الفنان محسن عطيه.وقد أكد على ذلك المعنى الناقد الفنى صلاح بيصار حين كتب فى مقالته بعنوان من شفرات التجريد إلى مرافئ الدهشة يقول: من بين قلةقليلة من فنانينا ··ظل الفنان محسن عطيه مخلصاً للوحة التجريد؛ من بدايةالسبعينيات من القرن العشرين وحتى الآن؛ مؤكدا على أن اللغة البصرية بما تحمل من رموز وما تعكس من خطوط وألوان وتراكيب وصيغ؛ تبدو فى شفرات تجريدية قادرة على أن تنقلنا إلى مرافئ الدهشة ومنافذ الحلم ؛خاصة وأعماله فيها من رحيق الأشياء وسحر الأزمنة والأمكنة؛بل وبقايا عناصر من روح الحياةووشوشات النور للظلمة وهمس الموجودات ،على الرغم من التلخيص الشديد والإيجاز ولاختزال.لقد بزغت معالم أسلوبه فترة السعينيات 1972-1976 وامتدت بمزيج من التعبيرية و التجريدية مع ومضات رمزية منذ اشتراكه فى معارض جماعة الدعوة للآخرالتى أقامت معظم معارضها فى قاعات أتيليه القاهرة بوسط البلد. [··]وفى معرضه الذى أقيم بقاعةإكسترا على نيل الزمالك[···]فقد عمق محسن عطيه هذا الاتجاه إلى حد أن أصبح علامة من علامات فنه ينساب بالنغمات اللونية أشبه بدرجات السلم الموسيقى ؛[···]على اعتبار أن المذهب التجريدى فى الرسم ، يسعى إلى البحث عن جوهر الشياءوالتعبير عنها فى أشكال موجزة تحمل داخلها الخبرات الفنية.. أشكال رمزية تعانق الأسطورة..خاصةوالرمز[...] هو الصيغة المناسبة للتعبير عن الحقائق المجهولة مثلما أن الأسطورة تمثل استعارات من المظاهر الطبيعية ،من أجل أن تعكس العالمين الداخلى والخارجى.
|
paragraph
|
## الفن التجريدي Art Abstrait
Photo
الفن التجريدي فن يعتمد في الأداء على أشكال مجردة تنأى عن مشابهة المشخصات و المرئيات في صورتها الطبيعية و الواقعية.
ويتميز بقدرة الفنان على رسم الشكل الذي يتخيله سواء من الواقع أو الخيال في شكل جديد تماما قد يتشابه أو لا يتشابه مع الشكل الأصلي للرسم النهائي مع البعد عن الأشكال الهندسية. ومن رواد هذا الفن التجريدي الفنان العالمي بيكاسو.
مقدمة:اهتمت المدرسة التجريدية الفنية بالأصل الطبيعي، ورؤيته من زاوية هندسية، حيث تتحول المناظر إلى مجرد مثلثات ومربعات ودوائر، وتظهر اللوحة التجريدية أشبه ما تكون بقصاصات الورق المتراكمة أو بقطاعات من الصخور أو أشكال السحب، أي مجرد قطع إيقاعية مترابطة ليست لها دلائل بصرية مباشرة، وإن كانت تحمل في طياتها شيئاً من خلاصة التجربة التشكيلية التي مر بها الفنان. وعموماً فإن المذهب التجريدي في الرسم، يسعى إلى البحث عن جوهر الأشياء والتعبير عنها في أشكال موجزة تحمل في داخلها الخبرات الفنية، التي أثارت وجدان الفنان التجريدي. وكلمة "تجريد" تعني التخلص من كل آثار الواقع والارتباط به، فالجسم الكروي تجريد لعدد كبير من الأشكال التي تحمل هذا الطابع: كالتفاحة والشمس وكرة اللعب وما إلى ذلك، فالشكل الواحد قد يوحي بمعان متعددة، فيبدو للمشاهد أكثر ثراء. ولا تهتم المدرسة التجريدية بالأشكال الساكنة فقط، ولكن أيضاً بالأشكال المتحركة خاصة ما تحدثه بتأثير الضوء، كما في ظلال أوراق الأشجار التي يبعثه ضوء الشمس الموجه عليها، حيث تظهر الظلال كمساحات متكررة تحصر فراغات ضوئية فاتحة، ولا تبدو الأوراق بشكلها الطبيعي عندما تكون ظلالاً، بل يشكل تجريدي، وقد نجح الفنان كاندسكي –وهو أحد فناني التجريدية العالميين- في بث الروح في مربعاته ومستطيلاته ودوائره وخطوطه المستقيمة أو المنحنية، بإعطائها لوناً معيناً وترتيبها وفق نظام معين. ويبدو هذا واضحاً في لوحته "تكوين" التي رسمها عام 1914 م،
كان التطور الآخر فى تاريخ الفن فى اتجاه بزوغ التيارات التجريدية والاستخدامات البارعة للخامات ومحاولات الاستقلال عن العالم الواقعى ؛على اعتبار أنه مصدر للموضوعات والأفكار .وتنشأ النظريات عن الطاقة الدرامية للخطوط الرأس-أفقية ؛[···] وهكذا توصلت التجريدية إلى النتيجة النهائية لتنقية العالم الظاهرى ؛كبداية لقطع الرابطة بين الفنان والواقع تدريجيا .[···] لقد شبه فاسيلى كاندنسكى [166-1944] أعماله فى التصوير بالأعمال الموسيقية وكان يستخدم الألوان والأشكال المجردة وكأنها أنغام ؛وفى ذلك المجال تطورت تجاربه إلى أن تكشف لديه إمكانية الاستغناء عن الأشكال الطبيعية .
عالمياً:كان قد أعاد الفيلسوف نيتشه 1844-1900 بمفهومه عن إرادة القوة الاعتبار للجسدى فى مقابل الروحى ؛ووجه قوة الإرادة الإبداعية نحو جمالية الجسد أما ماليفتش 1878-1935 الذى تميز بفنه غير الشخصى البسيط وغير المزخرف ؛ فقد أراد تصوير مالا يرى[···] لقد عبر الفنان عن رغبته فى أن تصبح الحداثة شكلاً لقوة الإنسان الذى يكرس طاقته من أجل خلق الأشكال الجديدة.
عربياً:ومن أشهر الفنانين التجريديين فى مصر الفنان محسن عطيه.وقد أكد على ذلك المعنى الناقد الفنى صلاح بيصار حين كتب فى مقالته بعنوان من شفرات التجريد إلى مرافئ الدهشة يقول: من بين قلةقليلة من فنانينا ··ظل الفنان محسن عطيه مخلصاً للوحة التجريد؛ من بدايةالسبعينيات من القرن العشرين وحتى الآن؛ مؤكدا على أن اللغة البصرية بما تحمل من رموز وما تعكس من خطوط وألوان وتراكيب وصيغ؛ تبدو فى شفرات تجريدية قادرة على أن تنقلنا إلى مرافئ الدهشة ومنافذ الحلم ؛خاصة وأعماله فيها من رحيق الأشياء وسحر الأزمنة والأمكنة؛بل وبقايا عناصر من روح الحياةووشوشات النور للظلمة وهمس الموجودات ،على الرغم من التلخيص الشديد والإيجاز ولاختزال.لقد بزغت معالم أسلوبه فترة السعينيات 1972-1976 وامتدت بمزيج من التعبيرية و التجريدية مع ومضات رمزية منذ اشتراكه فى معارض جماعة الدعوة للآخرالتى أقامت معظم معارضها فى قاعات أتيليه القاهرة بوسط البلد. [··]وفى معرضه الذى أقيم بقاعةإكسترا على نيل الزمالك[···]فقد عمق محسن عطيه هذا الاتجاه إلى حد أن أصبح علامة من علامات فنه ينساب بالنغمات اللونية أشبه بدرجات السلم الموسيقى ؛[···]على اعتبار أن المذهب التجريدى فى الرسم ، يسعى إلى البحث عن جوهر الشياءوالتعبير عنها فى أشكال موجزة تحمل داخلها الخبرات الفنية.. أشكال رمزية تعانق الأسطورة..خاصةوالرمز[...] هو الصيغة المناسبة للتعبير عن الحقائق المجهولة مثلما أن الأسطورة تمثل استعارات من المظاهر الطبيعية ،من أجل أن تعكس العالمين الداخلى والخارجى.
|
article
|
Arabic
|
ar
|
الفن التجريدي - الفن هو ابداع
|
https://artmatey.weebly.com/1575160416011606-15751604157815801585161015831610.html
|
1,982 |
عربياً:ومن أشهر الفنانين التجريديين فى مصر الفنان محسن عطيه.
|
sentence
|
عربياً:ومن أشهر الفنانين التجريديين فى مصر الفنان محسن عطيه.وقد أكد على ذلك المعنى الناقد الفنى صلاح بيصار حين كتب فى مقالته بعنوان من شفرات التجريد إلى مرافئ الدهشة يقول: من بين قلةقليلة من فنانينا ··ظل الفنان محسن عطيه مخلصاً للوحة التجريد؛ من بدايةالسبعينيات من القرن العشرين وحتى الآن؛ مؤكدا على أن اللغة البصرية بما تحمل من رموز وما تعكس من خطوط وألوان وتراكيب وصيغ؛ تبدو فى شفرات تجريدية قادرة على أن تنقلنا إلى مرافئ الدهشة ومنافذ الحلم ؛خاصة وأعماله فيها من رحيق الأشياء وسحر الأزمنة والأمكنة؛بل وبقايا عناصر من روح الحياةووشوشات النور للظلمة وهمس الموجودات ،على الرغم من التلخيص الشديد والإيجاز ولاختزال.لقد بزغت معالم أسلوبه فترة السعينيات 1972-1976 وامتدت بمزيج من التعبيرية و التجريدية مع ومضات رمزية منذ اشتراكه فى معارض جماعة الدعوة للآخرالتى أقامت معظم معارضها فى قاعات أتيليه القاهرة بوسط البلد. [··]وفى معرضه الذى أقيم بقاعةإكسترا على نيل الزمالك[···]فقد عمق محسن عطيه هذا الاتجاه إلى حد أن أصبح علامة من علامات فنه ينساب بالنغمات اللونية أشبه بدرجات السلم الموسيقى ؛[···]على اعتبار أن المذهب التجريدى فى الرسم ، يسعى إلى البحث عن جوهر الشياءوالتعبير عنها فى أشكال موجزة تحمل داخلها الخبرات الفنية.. أشكال رمزية تعانق الأسطورة..خاصةوالرمز[...] هو الصيغة المناسبة للتعبير عن الحقائق المجهولة مثلما أن الأسطورة تمثل استعارات من المظاهر الطبيعية ،من أجل أن تعكس العالمين الداخلى والخارجى.
|
paragraph
|
Arabic
|
ar
|
الفن التجريدي - الفن هو ابداع
|
https://artmatey.weebly.com/1575160416011606-15751604157815801585161015831610.html
|
1,983 |
وقد أكد على ذلك المعنى الناقد الفنى صلاح بيصار حين كتب فى مقالته بعنوان من شفرات التجريد إلى مرافئ الدهشة يقول: من بين قلةقليلة من فنانينا ··ظل الفنان محسن عطيه مخلصاً للوحة التجريد؛ من بدايةالسبعينيات من القرن العشرين وحتى الآن؛ مؤكدا على أن اللغة البصرية بما تحمل من رموز وما تعكس من خطوط وألوان وتراكيب وصيغ؛ تبدو فى شفرات تجريدية قادرة على أن تنقلنا إلى مرافئ الدهشة ومنافذ الحلم ؛خاصة وأعماله فيها من رحيق الأشياء وسحر الأزمنة والأمكنة؛بل وبقايا عناصر من روح الحياةووشوشات النور للظلمة وهمس الموجودات ،على الرغم من التلخيص الشديد والإيجاز ولاختزال.
|
sentence
|
عربياً:ومن أشهر الفنانين التجريديين فى مصر الفنان محسن عطيه.وقد أكد على ذلك المعنى الناقد الفنى صلاح بيصار حين كتب فى مقالته بعنوان من شفرات التجريد إلى مرافئ الدهشة يقول: من بين قلةقليلة من فنانينا ··ظل الفنان محسن عطيه مخلصاً للوحة التجريد؛ من بدايةالسبعينيات من القرن العشرين وحتى الآن؛ مؤكدا على أن اللغة البصرية بما تحمل من رموز وما تعكس من خطوط وألوان وتراكيب وصيغ؛ تبدو فى شفرات تجريدية قادرة على أن تنقلنا إلى مرافئ الدهشة ومنافذ الحلم ؛خاصة وأعماله فيها من رحيق الأشياء وسحر الأزمنة والأمكنة؛بل وبقايا عناصر من روح الحياةووشوشات النور للظلمة وهمس الموجودات ،على الرغم من التلخيص الشديد والإيجاز ولاختزال.لقد بزغت معالم أسلوبه فترة السعينيات 1972-1976 وامتدت بمزيج من التعبيرية و التجريدية مع ومضات رمزية منذ اشتراكه فى معارض جماعة الدعوة للآخرالتى أقامت معظم معارضها فى قاعات أتيليه القاهرة بوسط البلد. [··]وفى معرضه الذى أقيم بقاعةإكسترا على نيل الزمالك[···]فقد عمق محسن عطيه هذا الاتجاه إلى حد أن أصبح علامة من علامات فنه ينساب بالنغمات اللونية أشبه بدرجات السلم الموسيقى ؛[···]على اعتبار أن المذهب التجريدى فى الرسم ، يسعى إلى البحث عن جوهر الشياءوالتعبير عنها فى أشكال موجزة تحمل داخلها الخبرات الفنية.. أشكال رمزية تعانق الأسطورة..خاصةوالرمز[...] هو الصيغة المناسبة للتعبير عن الحقائق المجهولة مثلما أن الأسطورة تمثل استعارات من المظاهر الطبيعية ،من أجل أن تعكس العالمين الداخلى والخارجى.
|
paragraph
|
Arabic
|
ar
|
الفن التجريدي - الفن هو ابداع
|
https://artmatey.weebly.com/1575160416011606-15751604157815801585161015831610.html
|
1,984 |
لقد بزغت معالم أسلوبه فترة السعينيات 1972-1976 وامتدت بمزيج من التعبيرية و التجريدية مع ومضات رمزية منذ اشتراكه فى معارض جماعة الدعوة للآخرالتى أقامت معظم معارضها فى قاعات أتيليه القاهرة بوسط البلد.
|
sentence
|
عربياً:ومن أشهر الفنانين التجريديين فى مصر الفنان محسن عطيه.وقد أكد على ذلك المعنى الناقد الفنى صلاح بيصار حين كتب فى مقالته بعنوان من شفرات التجريد إلى مرافئ الدهشة يقول: من بين قلةقليلة من فنانينا ··ظل الفنان محسن عطيه مخلصاً للوحة التجريد؛ من بدايةالسبعينيات من القرن العشرين وحتى الآن؛ مؤكدا على أن اللغة البصرية بما تحمل من رموز وما تعكس من خطوط وألوان وتراكيب وصيغ؛ تبدو فى شفرات تجريدية قادرة على أن تنقلنا إلى مرافئ الدهشة ومنافذ الحلم ؛خاصة وأعماله فيها من رحيق الأشياء وسحر الأزمنة والأمكنة؛بل وبقايا عناصر من روح الحياةووشوشات النور للظلمة وهمس الموجودات ،على الرغم من التلخيص الشديد والإيجاز ولاختزال.لقد بزغت معالم أسلوبه فترة السعينيات 1972-1976 وامتدت بمزيج من التعبيرية و التجريدية مع ومضات رمزية منذ اشتراكه فى معارض جماعة الدعوة للآخرالتى أقامت معظم معارضها فى قاعات أتيليه القاهرة بوسط البلد. [··]وفى معرضه الذى أقيم بقاعةإكسترا على نيل الزمالك[···]فقد عمق محسن عطيه هذا الاتجاه إلى حد أن أصبح علامة من علامات فنه ينساب بالنغمات اللونية أشبه بدرجات السلم الموسيقى ؛[···]على اعتبار أن المذهب التجريدى فى الرسم ، يسعى إلى البحث عن جوهر الشياءوالتعبير عنها فى أشكال موجزة تحمل داخلها الخبرات الفنية.. أشكال رمزية تعانق الأسطورة..خاصةوالرمز[...] هو الصيغة المناسبة للتعبير عن الحقائق المجهولة مثلما أن الأسطورة تمثل استعارات من المظاهر الطبيعية ،من أجل أن تعكس العالمين الداخلى والخارجى.
|
paragraph
|
Arabic
|
ar
|
الفن التجريدي - الفن هو ابداع
|
https://artmatey.weebly.com/1575160416011606-15751604157815801585161015831610.html
|
1,985 |
[··]وفى معرضه الذى أقيم بقاعةإكسترا على نيل الزمالك[···]فقد عمق محسن عطيه هذا الاتجاه إلى حد أن أصبح علامة من علامات فنه ينساب بالنغمات اللونية أشبه بدرجات السلم الموسيقى ؛[···]على اعتبار أن المذهب التجريدى فى الرسم ، يسعى إلى البحث عن جوهر الشياءوالتعبير عنها فى أشكال موجزة تحمل داخلها الخبرات الفنية..
|
sentence
|
عربياً:ومن أشهر الفنانين التجريديين فى مصر الفنان محسن عطيه.وقد أكد على ذلك المعنى الناقد الفنى صلاح بيصار حين كتب فى مقالته بعنوان من شفرات التجريد إلى مرافئ الدهشة يقول: من بين قلةقليلة من فنانينا ··ظل الفنان محسن عطيه مخلصاً للوحة التجريد؛ من بدايةالسبعينيات من القرن العشرين وحتى الآن؛ مؤكدا على أن اللغة البصرية بما تحمل من رموز وما تعكس من خطوط وألوان وتراكيب وصيغ؛ تبدو فى شفرات تجريدية قادرة على أن تنقلنا إلى مرافئ الدهشة ومنافذ الحلم ؛خاصة وأعماله فيها من رحيق الأشياء وسحر الأزمنة والأمكنة؛بل وبقايا عناصر من روح الحياةووشوشات النور للظلمة وهمس الموجودات ،على الرغم من التلخيص الشديد والإيجاز ولاختزال.لقد بزغت معالم أسلوبه فترة السعينيات 1972-1976 وامتدت بمزيج من التعبيرية و التجريدية مع ومضات رمزية منذ اشتراكه فى معارض جماعة الدعوة للآخرالتى أقامت معظم معارضها فى قاعات أتيليه القاهرة بوسط البلد. [··]وفى معرضه الذى أقيم بقاعةإكسترا على نيل الزمالك[···]فقد عمق محسن عطيه هذا الاتجاه إلى حد أن أصبح علامة من علامات فنه ينساب بالنغمات اللونية أشبه بدرجات السلم الموسيقى ؛[···]على اعتبار أن المذهب التجريدى فى الرسم ، يسعى إلى البحث عن جوهر الشياءوالتعبير عنها فى أشكال موجزة تحمل داخلها الخبرات الفنية.. أشكال رمزية تعانق الأسطورة..خاصةوالرمز[...] هو الصيغة المناسبة للتعبير عن الحقائق المجهولة مثلما أن الأسطورة تمثل استعارات من المظاهر الطبيعية ،من أجل أن تعكس العالمين الداخلى والخارجى.
|
paragraph
|
Arabic
|
ar
|
الفن التجريدي - الفن هو ابداع
|
https://artmatey.weebly.com/1575160416011606-15751604157815801585161015831610.html
|
1,986 |
هو الصيغة المناسبة للتعبير عن الحقائق المجهولة مثلما أن الأسطورة تمثل استعارات من المظاهر الطبيعية ،من أجل أن تعكس العالمين الداخلى والخارجى.
|
sentence
|
عربياً:ومن أشهر الفنانين التجريديين فى مصر الفنان محسن عطيه.وقد أكد على ذلك المعنى الناقد الفنى صلاح بيصار حين كتب فى مقالته بعنوان من شفرات التجريد إلى مرافئ الدهشة يقول: من بين قلةقليلة من فنانينا ··ظل الفنان محسن عطيه مخلصاً للوحة التجريد؛ من بدايةالسبعينيات من القرن العشرين وحتى الآن؛ مؤكدا على أن اللغة البصرية بما تحمل من رموز وما تعكس من خطوط وألوان وتراكيب وصيغ؛ تبدو فى شفرات تجريدية قادرة على أن تنقلنا إلى مرافئ الدهشة ومنافذ الحلم ؛خاصة وأعماله فيها من رحيق الأشياء وسحر الأزمنة والأمكنة؛بل وبقايا عناصر من روح الحياةووشوشات النور للظلمة وهمس الموجودات ،على الرغم من التلخيص الشديد والإيجاز ولاختزال.لقد بزغت معالم أسلوبه فترة السعينيات 1972-1976 وامتدت بمزيج من التعبيرية و التجريدية مع ومضات رمزية منذ اشتراكه فى معارض جماعة الدعوة للآخرالتى أقامت معظم معارضها فى قاعات أتيليه القاهرة بوسط البلد. [··]وفى معرضه الذى أقيم بقاعةإكسترا على نيل الزمالك[···]فقد عمق محسن عطيه هذا الاتجاه إلى حد أن أصبح علامة من علامات فنه ينساب بالنغمات اللونية أشبه بدرجات السلم الموسيقى ؛[···]على اعتبار أن المذهب التجريدى فى الرسم ، يسعى إلى البحث عن جوهر الشياءوالتعبير عنها فى أشكال موجزة تحمل داخلها الخبرات الفنية.. أشكال رمزية تعانق الأسطورة..خاصةوالرمز[...] هو الصيغة المناسبة للتعبير عن الحقائق المجهولة مثلما أن الأسطورة تمثل استعارات من المظاهر الطبيعية ،من أجل أن تعكس العالمين الداخلى والخارجى.
|
paragraph
|
Arabic
|
ar
|
الفن التجريدي - الفن هو ابداع
|
https://artmatey.weebly.com/1575160416011606-15751604157815801585161015831610.html
|
1,987 |
الفن التجريدي - الموسوعة العربية
|
title
|
تاريخ الفن التجريدي
|
query
|
Arabic
|
ar
|
الفن التجريدي - الموسوعة العربية
|
https://arab-ency.com.sy/ency/details/9117/14
|
1,988 |
Toggle navigation
# logo
# logo
# logo
# logo
# logo
بحث ضمن العنوانبحث ضمن المحتوى
جميع الكلماتاحد الكلمات
التصنيف العلميالهندسةالزراعة و البيطرةالصناعةالتقنيات (التكنولوجية)الأدباللغةالآداب الجرمانيةالآداب اللاتينيةالآداب الأخرىالآداب القديمةالتاريخ و الجغرافية و الآثارالفلسفة و علم الاجتماع و العقائدالصحافة و الإعلامطب الأسنانطب بشريصيدلةتربية و علم نفسالعمارة و الفنون التشكيلية والزخرفيةالموسيقى والسينما والمسرحالقانونالاقتصادالسياسةالشريعةعلم طبقات الأرض و علوم البحارالرياضيات و الفلكعلم الحياة( الحيوان و النبات)الكيمياء و الفيزياءالتاريخاللغة العربية والأدب العربي
### الفن التجريدي
#### فن تجريدي
#### Abstract art - Art abstrait
الفن التجريدي
الفن
التجريدي abstract art مفهوم ينطبق على الفنون اللاتشخيصيّة non
figuratifs التي تعتمد القيم
التشكيلية الخالصة من دون غيرها - التشكيل بالأشكال والألوان والمواد بمعزل عن كل
محتوى أدبي أو سردي أو موضوعي، وهو اتجاه في التصوير والنحت، تنفصل صيغه عن
الموضوع المألوف والواقع، لتشكل صورةً غير مشخصةnon
représentatif.
استمرَّ
الفن المشخص راسخاً في الفن التشكيلي معبراً عن الأشكال والشخوص والطبيعة، ومع أن
الفنان كان يضفي في كثير من الأحيان على أعماله المشخصة شحنات من انفعالاته
الداخلية، وتخيلاته المستوحاة من عالمه الداخلي، قد لا تتفق مع منطق الواقع المرئي
والموضوعي، إلا أن الفن التجريدي أعفى الفنان من الاتكاء على أي صيغة مألوفة،
مستبقياً فقط، انعكاسات عالمه الباطني أو الخيالي في عمله الفني.
كان التغيير
الجمالي والفلسفي بين الاتجاهين مختلفاً جداً، حتى إن مبادئ علم الجمال التقليدي،
لم تعد قادرة على صوغ قواعد جمالية لهذا الفن، الذي لم يعد مجرد اتجاه أو أسلوب من
أساليب الفن المعاصر، مثل الانطباعية[ر] أو التعبيرية[ر] أو الوحشية[ر]، بل أصبح
تياراً فنياً، موازياً ضمن مدارس متنوعة ومفاهيم مختلفة.
ومن الممكن
الاعتقاد أن النزعة التجريدية في الفن كانت تعبيراً عن نزوع روحاني تصاعدي، كما هو
التجريد في الفن الإسلامي، ومما يُرى في الرقش العربي arabesque، أو هي تعبير عما في الألوان والخطوط والأشكال الخالصة من موسيقى
وعمارة وحركة كما هو الحال في الفن الحديث.
ولعل أول من
تحدث في ماهية التجريد الفني، هو ڤيلهلم ڤورينغر W.Worringer
في كتابه «التجريد والتعاطف» Abstraktion und Einfühlung، وفيه أوضح أن التجريد يعني الانصراف عن الواقع.
فاسيلي كاندينسكي: «منظر مع كنيسة» (1913)
ومع أن
التجريد يعود إلى فنون ما قبل التاريخ، إلا أنه بمفهومه المعاصر ظهر في بداية
القرن العشرين على يد مجموعة من المصورين والنحاتين من جنسيات مختلفة، وكانت
مقدماته قد بدت منذ الانطباعية المحدثة حيث تجرأ الفنان على تفتيت الصورة الواقعية
إلى بقع من الألوان الأساسية والمتممة. وتابعت التعبيرية تجاوز الشكل الواقعي
لصالح المعنى، مما مهَّد للتحرر المتزايد من الشكل المشخص، حتى بلوغه حدود التجريد
الذي قدمه المصور الروسي كاندينسكي Kandinsky والمصور الهولندي موندريان Mondrian منذ العام العاشر من القرن العشرين. حيث لم يعد في أعمالهما، أي
أثر للواقع والحقيقة، بل ثمة واقع جديد لم يكن له محل في ذاكرة المتلقي، ابتكره
الفنان معتمداً على نظرية جديدة، ومفهوم جمالي جديد، توضح في كتاب «من الروحي في
الفن» Du Spirituel dans l’art لكاندينسكي ونظرية «التشكيلية المحدثة» le
néo-plasticisme لموندريان شاركه
فيها ڤان دوسبورغ van Doesburg.
ألبرتو مانييلي: «تشكيل رقم 0526»(1915)
وإذا كانت
التجريدية عند كاندينسكي روحانية، تعتمد على صيغ مطلقة، فإن التجريدية عند
موندريان هندسية تعتمد على أشكال هندسية بذاتها، تملؤها طبقات لونية تتفاعل مع
بعضها. ولكن مالفيتش Malevitch الذي وجد في الاتجاهين تسطيحاً جمالياً سعى إلى إنشاء اتجاه أطلق
عليه اسم الأوجية Suprématisme تمسّك فيه بالشكل المحض واللون المحض لكي يرفع الشكل المجرد إلى
المرتبة الروحية.
ولكن تيار
التجريدية مازال مديناً لكاندينسكي في أعماله الخيالية التي تعبر عن طبع غنائي
شرقي ثرّ جاء به كاندينسكي من روسيا بعد نزوحه منها، كما هو مَدين لموندريان في
العودة إلى الأشكال الهندسية المجردة، وتنسيقها لكي تحدث حواراً فكرياً أكثر منه
حواراً موسيقياً شاعرياً.
ثم امتدت
التجربة لكي تظهر في أعمال بول كلي Klee السويسري الذي تأثر بالفن العربي بعد زيارته إلى القيروان. كما
تأثَّر بالموسيقى التي أتقنها من والده، فكانت التجريدية التأملية. هكذا بدت أنماط
متنوعة من التجريدية، فإضافة إلى كاندينسكي وموندريان وبول كلي كان مالڤيتش
وكوبكا Kupka
ودولوني Delaunay وبِڤسنر Pevsner يقدّم كلّ منهم لوناً خاصاً من التجريدية المحضة.
سار هؤلاء
التجريديون في اتجاهات مختلفة ابتدعوها، فالتصقت ملامح كل أسلوب بصاحبها، إذ كان
الإبداع والابتكار عنوان كل اتجاه من اتجاهات هؤلاء الرواد الذين أسسوا في النصف
الأول من القرن الماضي هذا الفن، الذي تطور سريعاً وانتشر خارج حدود أوربا لكي
يتبنّاه الفنانون في جميع أنحاء العالم.
ولعلَّ كل
واحد من هؤلاء الرواد، شكَّل مرتكزاً في أسلوبه يقوم على مفهوم جمالي نسبي يساعد
على تنظير هذا الفن، الذي تجاوز جميع مواصفات الفن التقليدي والمدارس الحديثة التي
حورت الشكل من دون أن تتخلى عنه.
كان التجريد
انقلاباً كاملاً في مفهوم الفن التشكيلي. فقد تميَّز هذا الفن بالتطور والتعددية
الأسلوبية، كما تميّز أيضاً بمقدرته على التأقلم مع الفنون المحلية والتقليدية
الشائعة في الحضارات الأخرى، كالحضارة الإفريقية، والحضارة الشرق آسيوية، والحضارة
العربية. وكان السبب الأساسي لهذا الانتشار الواسع هو الحرية التي منحت للفنان كي
يترك خياله منطلقاً لابتكار الأسلوب الذي يساعده على تجديد الصيغ الخطية واللونية،
بعيداً عن أي قيد واقعي أو موضوعي، متخلياً عن أي ارتباط بأشكال الطبيعة، فاسحاً
المجال للمتلقي أن يرى صيغاً تشكيلية مطلقة، من حقه أن يؤولها كما يشاء، فهي لا
تحمل أي مضمون يفرض نفسه عليه، وهكذا تدعو التجريدية إلى مشاركة المتلقي في إعطاء
اللوحة التجريدية مضموناً يختاره هو، ولا يفرضه الفنان.
ولكن السؤال
الذي يطرحه نقاد هذا الفن، على الفنان التجريدي: هل يعرض في صيغه المجردة ما يعكس
عالمه الداخلي، أم لعله الفكر الرياضي أو التجريب أو المصادفة التي تؤدي إلى صياغة
اللوحة؟. فالعالم الداخلي الذي كان معبراً عنه في الأعمال التشبيهية، كان مبرراً
لأن الموضوعات الواقعية مهما كانت محرفة، فهي تبقى الوسيلة لنقل الانفعال الداخلي
واللاشعور، مما يساعد المتلقي على قراءة هذا الانفعال بوضوح، ولذلك يرى بعض نقاد
التجريدية أنها وصلت إلى نقطة الصفر، إلى العدمية أو إلى اللافن.
ويبرر
التجريديون فنهم بأنه فن خالص يعبر كالموسيقى عن أنغام وإيقاعات وتوافقات لونية
وخطية، من دون تدخل الأشكال والأشياء التي تزاحم الفن الخالص في إقحام مفهومها
المادي القائم على المنفعة أو اللذة أو الخطاب المباشر، فالعمل التجريدي ليس
موضوعياً، ولكنه يقوم على الفطنة والذكاء والثقافة، وهذا ما يبدو في أعمال الجيل
الثاني من التجريديين من أمثال هربان Herbin ونيكلسون Nicholson وڤازاريلي Vasarély.
ومع ذلك فإن
ما يقدمه التجريديون من صيغ لا تتصل بالواقع، لا يعني أنهم لا يقدمون موضوعاً ما،
إنه موضوع يعبر عن الانفعال من دون أن يعبر عن شيء معين، ولكنه يبقى موضوعاً
تشكيلياً في التصوير وفي النحت، ولذلك فإن الجمهور الذي يدّعي عدم فهم العمل
التجريدي سوف يقتنع أن ثمة موضوعات جديدة في الفن لا حدّ لأشكالها، تختلف في
ماهيتها عن ماهية الأشياء والأشكال المألوفة، التي لم تعد محاكاتها هماً تشكيلياً،
بعد أن تقدمت الوسائل الآلية التصويرية، في نقلها بدقة وبأساليب يعتز بها المصورون
الضوئيون.
كازيمير ماليفيتش: «تشكيل تسلطي» (1914-1918)
ويبقى هدف
المصور التجريدي أن يترك للمتلقي أمام العمل الفني حق الانفعال الجمالي وليس
الانفعال النفعي، وحق تبادل الانفعال الذي عاشه الفنان التجريدي، وهو انفعال جمالي
بالضرورة، مع انفعاله وتذوقه هو. ومثال هذا الانفعال الفني يبدو واضحاً في أعمال
ماتيو Mathieu
الفرنسي وبولّوك Pollock الأمريكي وهارتونغ Hartung الألماني، كما ترك له في الفن البصري Op.
art فرصة الإيهام البصري لرؤية
الصيغ التجريدية متحركة، كما فعل فازاريلّي. أو متحركة بوساطة الكهرباء كما في
أعمال شوفِر Schöffer.
وفي مجال
النحت قدمت التجريدية فرصة التأكيد على خصائصه المحضة وهي الشكل والفضاء.
كان هنري
مور Moore
قد مهّد للتجريدية في النحت، ولكن ظهور الابتكارات التقانية ساعد على إمداد النحت
بفرص تجريدية لا حدود لها، ولاسيما عند الانصراف إلى الحركية في النحت التي استمدت
طاقتها من الرياح كما فعل كالدر Calder، أو من الكهرباء أو المغنطيس أو الماء.
ولكن
استغلال الفضاء والفراغ، سمح للنحاتين من أمثال برانكوزي Brancusi أن يستغل البساطة «للتعبير عن المعنى الحقيقي للأشياء»، كما يقول.
كما سمحت للنحات غونثالِس Gonzales ولغيره من النحاتين الإسبان استغلال الشكل المجرد، ليس بوصفه
الخام، بل بتشكيله المطلق الجوهري.
وتتمثل
براعة روبرت ياكوبسِن R.Jacobsen الدنماركي الأمريكي في استغلال المعدن معبراً عن طاقته الحركية من
دون أن يباشر التحريك كما فعل كالدر.
أما
بِڤسنر وأخوه غابو Gabo، فقد قدما أعمالاً نحتية تقوم على إعادة إنشاء الكون بعمارة
فضائية دقيقة، تضعنا أمام عالم نحتي مصغرَّ، ولكنه ذو دلالة بليغة. وعشرات من
النحاتين جذبتهم هذه التكوينات الإنشائية باستعمال المعدن مباشرة، وليس عن طريق
صهره وسكبه كما يتم في التماثيل البرونزية، بل تطرف استعمال المعدن إلى استعمال
المعادن الفضلات.
وبقي جان
آرب Arp
الذي ابتدأ دادائياً، ملتصقاً بعالم الكتل الضخمة التي تُمّثل موقفاً تجريدياً
صخرياً. ويرى آرب أن التجريدية فن يعبر عن المطلق.
ليس من
السهل حصر الفنانين التجريديين، فثّمة معجم يتحدَّث عنهم وعن أعمالهم، كما ليس من
السهل حصر اتجاهات الفن التجريدي الذي أصبح شخصانياً محضاً لا حدود لتنوع أسلوبه.
ولأنَّ
التجريدية أصبحت فناً شاملاً يمثل الحداثة، فلقد شملت العمارة التي انقلبت
واجهاتها وإكساؤها وشكلها، إلى تشـكيل نحتي، مثل بناء كنيـسة نوتردام في رونـشان
بفرنـسا للمعمار لوكوربوزييه Le Corbusier، وبناء مركز بومبيدو للمعمارين روجرز Rogers وبيانو Piano، وفيه تطابق في استعمال المفردات المعدنية مع النحت الحديث.
ومن العمارات
الحديثة التجريدية عمارة برج العرب في دبي، وبرج المملكة في الرياض، ومن أشهر
المعماريين الذين تبنوا التجريدية في العالم، لويد رايت L.Wright في بناء متحف غوغنهايم في نيويورك، والمعمار غاودي Gaudï الإسباني في عمارة
كنيسة ساغرادا فاميليا في برشلونة، وجون أريسون J.Arison الدنماركي الذي صمم دار الأوبرا في سيدني.
واستمدت
الطباعة القماشية أيضاً عناصر من التجريدية تحاكي الصيغ التي أبدعها كبار
التجريديين.
وانتقلت
التجريدية إلى أشكال الطائرات والسيارات والأدوات الكهربائية وإلى كثير من الأشياء
الشائعة في عالم اليوم.
عفيف البهنسي
الموضوعات ذات الصلة:
أورفيوس
والأورفية ـ الباوهاوس ـ بفسنر (الأخوان ـ) ـ كاندينسكي (فاسيلي ـ) ـ موندريان
(بييت ـ).
مراجع للاستزادة:
- M.BRION,
Art Abstrait (éd. Albain Michel, Paris 1956).
- M.SEUFORE,
Dictionnaire de la peinture abstraite (éd. Fernand Hazan, Paris 1956).
##### التصنيف : العمارة و الفنون التشكيلية والزخرفية
##### النوع : عمارة وفنون تشكيلية
##### المجلد: المجلد الرابع عشر
##### رقم الصفحة ضمن المجلد : 711
مشاركة :
### اترك تعليقك
الاسم
البريد الإلكتروني
نص التعليق
كود التحقق
### آخر أخبار الهيئة :
### البحوث الأكثر قراءة
### هل تعلم ؟؟
عدد الزوار حاليا : 1554
الكل : 50798722
اليوم : 139062
## السياسة الاقتصادية
السياسة الاقتصادية
هي مجموعة الإجراءات التي تتبناها الدولة لتسهيل
عملية تحقيق الأهداف المرغوبة في المجال الاقتصادي، وضمان تنفيذها. وإذا كانت تلك
الأهداف تمثل أولويات يراد الوصول إليها، فإن السياسة الاقتصادية economic policy
تعدّ إحدى أهم الأدوات التي يؤدي استخدامها وتطبيقها إلى تحقيق تلك الأهداف وفق الأولويات
المعتمدة بأفضل الشروط، أي في إطار الاستغلال الأمثل للموارد المتاحة أو المتوقع
إتاحتها.
### المجلدات الصادرة عن الموسوعة العربية :
-
#### المجلد الأول
-
#### المجلد الثاني
-
#### المجلد الثالث
-
#### المجلد الرابع
-
#### المجلد الخامس
-
#### المجلد السادس
-
#### المجلد السابع
-
#### المجلدالثامن
-
#### المجلد التاسع
-
#### المجلد العاشر
-
#### المجلد الحادي عشر
-
#### المجلد الثاني عشر
-
#### المجلد الثالث عشر
-
#### المجلد الرابع عشر
-
#### المجلد الخامس عشر
-
#### المجلد السادس عشر
-
#### المجلد السابع عشر
-
#### المجلد الثامن عشر
-
#### المجلد التاسع عشر
-
#### المجلد العشرون
-
#### المجلد الواحد والعشرون
-
#### المجلد الثاني والعشرون
arab-ency.com.sy © All Rights Reserved
|
article
|
الفن التجريدي - الموسوعة العربية
|
title
|
Arabic
|
ar
|
الفن التجريدي - الموسوعة العربية
|
https://arab-ency.com.sy/ency/details/9117/14
|
1,989 |
التصنيف العلميالهندسةالزراعة و البيطرةالصناعةالتقنيات (التكنولوجية)الأدباللغةالآداب الجرمانيةالآداب اللاتينيةالآداب الأخرىالآداب القديمةالتاريخ و الجغرافية و الآثارالفلسفة و علم الاجتماع و العقائدالصحافة و الإعلامطب الأسنانطب بشريصيدلةتربية و علم نفسالعمارة و الفنون التشكيلية والزخرفيةالموسيقى والسينما والمسرحالقانونالاقتصادالسياسةالشريعةعلم طبقات الأرض و علوم البحارالرياضيات و الفلكعلم الحياة( الحيوان و النبات)الكيمياء و الفيزياءالتاريخاللغة العربية والأدب العربي
|
paragraph
|
Toggle navigation
# logo
# logo
# logo
# logo
# logo
بحث ضمن العنوانبحث ضمن المحتوى
جميع الكلماتاحد الكلمات
التصنيف العلميالهندسةالزراعة و البيطرةالصناعةالتقنيات (التكنولوجية)الأدباللغةالآداب الجرمانيةالآداب اللاتينيةالآداب الأخرىالآداب القديمةالتاريخ و الجغرافية و الآثارالفلسفة و علم الاجتماع و العقائدالصحافة و الإعلامطب الأسنانطب بشريصيدلةتربية و علم نفسالعمارة و الفنون التشكيلية والزخرفيةالموسيقى والسينما والمسرحالقانونالاقتصادالسياسةالشريعةعلم طبقات الأرض و علوم البحارالرياضيات و الفلكعلم الحياة( الحيوان و النبات)الكيمياء و الفيزياءالتاريخاللغة العربية والأدب العربي
### الفن التجريدي
#### فن تجريدي
#### Abstract art - Art abstrait
الفن التجريدي
الفن
التجريدي abstract art مفهوم ينطبق على الفنون اللاتشخيصيّة non
figuratifs التي تعتمد القيم
التشكيلية الخالصة من دون غيرها - التشكيل بالأشكال والألوان والمواد بمعزل عن كل
محتوى أدبي أو سردي أو موضوعي، وهو اتجاه في التصوير والنحت، تنفصل صيغه عن
الموضوع المألوف والواقع، لتشكل صورةً غير مشخصةnon
représentatif.
استمرَّ
الفن المشخص راسخاً في الفن التشكيلي معبراً عن الأشكال والشخوص والطبيعة، ومع أن
الفنان كان يضفي في كثير من الأحيان على أعماله المشخصة شحنات من انفعالاته
الداخلية، وتخيلاته المستوحاة من عالمه الداخلي، قد لا تتفق مع منطق الواقع المرئي
والموضوعي، إلا أن الفن التجريدي أعفى الفنان من الاتكاء على أي صيغة مألوفة،
مستبقياً فقط، انعكاسات عالمه الباطني أو الخيالي في عمله الفني.
كان التغيير
الجمالي والفلسفي بين الاتجاهين مختلفاً جداً، حتى إن مبادئ علم الجمال التقليدي،
لم تعد قادرة على صوغ قواعد جمالية لهذا الفن، الذي لم يعد مجرد اتجاه أو أسلوب من
أساليب الفن المعاصر، مثل الانطباعية[ر] أو التعبيرية[ر] أو الوحشية[ر]، بل أصبح
تياراً فنياً، موازياً ضمن مدارس متنوعة ومفاهيم مختلفة.
ومن الممكن
الاعتقاد أن النزعة التجريدية في الفن كانت تعبيراً عن نزوع روحاني تصاعدي، كما هو
التجريد في الفن الإسلامي، ومما يُرى في الرقش العربي arabesque، أو هي تعبير عما في الألوان والخطوط والأشكال الخالصة من موسيقى
وعمارة وحركة كما هو الحال في الفن الحديث.
ولعل أول من
تحدث في ماهية التجريد الفني، هو ڤيلهلم ڤورينغر W.Worringer
في كتابه «التجريد والتعاطف» Abstraktion und Einfühlung، وفيه أوضح أن التجريد يعني الانصراف عن الواقع.
فاسيلي كاندينسكي: «منظر مع كنيسة» (1913)
ومع أن
التجريد يعود إلى فنون ما قبل التاريخ، إلا أنه بمفهومه المعاصر ظهر في بداية
القرن العشرين على يد مجموعة من المصورين والنحاتين من جنسيات مختلفة، وكانت
مقدماته قد بدت منذ الانطباعية المحدثة حيث تجرأ الفنان على تفتيت الصورة الواقعية
إلى بقع من الألوان الأساسية والمتممة. وتابعت التعبيرية تجاوز الشكل الواقعي
لصالح المعنى، مما مهَّد للتحرر المتزايد من الشكل المشخص، حتى بلوغه حدود التجريد
الذي قدمه المصور الروسي كاندينسكي Kandinsky والمصور الهولندي موندريان Mondrian منذ العام العاشر من القرن العشرين. حيث لم يعد في أعمالهما، أي
أثر للواقع والحقيقة، بل ثمة واقع جديد لم يكن له محل في ذاكرة المتلقي، ابتكره
الفنان معتمداً على نظرية جديدة، ومفهوم جمالي جديد، توضح في كتاب «من الروحي في
الفن» Du Spirituel dans l’art لكاندينسكي ونظرية «التشكيلية المحدثة» le
néo-plasticisme لموندريان شاركه
فيها ڤان دوسبورغ van Doesburg.
ألبرتو مانييلي: «تشكيل رقم 0526»(1915)
وإذا كانت
التجريدية عند كاندينسكي روحانية، تعتمد على صيغ مطلقة، فإن التجريدية عند
موندريان هندسية تعتمد على أشكال هندسية بذاتها، تملؤها طبقات لونية تتفاعل مع
بعضها. ولكن مالفيتش Malevitch الذي وجد في الاتجاهين تسطيحاً جمالياً سعى إلى إنشاء اتجاه أطلق
عليه اسم الأوجية Suprématisme تمسّك فيه بالشكل المحض واللون المحض لكي يرفع الشكل المجرد إلى
المرتبة الروحية.
ولكن تيار
التجريدية مازال مديناً لكاندينسكي في أعماله الخيالية التي تعبر عن طبع غنائي
شرقي ثرّ جاء به كاندينسكي من روسيا بعد نزوحه منها، كما هو مَدين لموندريان في
العودة إلى الأشكال الهندسية المجردة، وتنسيقها لكي تحدث حواراً فكرياً أكثر منه
حواراً موسيقياً شاعرياً.
ثم امتدت
التجربة لكي تظهر في أعمال بول كلي Klee السويسري الذي تأثر بالفن العربي بعد زيارته إلى القيروان. كما
تأثَّر بالموسيقى التي أتقنها من والده، فكانت التجريدية التأملية. هكذا بدت أنماط
متنوعة من التجريدية، فإضافة إلى كاندينسكي وموندريان وبول كلي كان مالڤيتش
وكوبكا Kupka
ودولوني Delaunay وبِڤسنر Pevsner يقدّم كلّ منهم لوناً خاصاً من التجريدية المحضة.
سار هؤلاء
التجريديون في اتجاهات مختلفة ابتدعوها، فالتصقت ملامح كل أسلوب بصاحبها، إذ كان
الإبداع والابتكار عنوان كل اتجاه من اتجاهات هؤلاء الرواد الذين أسسوا في النصف
الأول من القرن الماضي هذا الفن، الذي تطور سريعاً وانتشر خارج حدود أوربا لكي
يتبنّاه الفنانون في جميع أنحاء العالم.
ولعلَّ كل
واحد من هؤلاء الرواد، شكَّل مرتكزاً في أسلوبه يقوم على مفهوم جمالي نسبي يساعد
على تنظير هذا الفن، الذي تجاوز جميع مواصفات الفن التقليدي والمدارس الحديثة التي
حورت الشكل من دون أن تتخلى عنه.
كان التجريد
انقلاباً كاملاً في مفهوم الفن التشكيلي. فقد تميَّز هذا الفن بالتطور والتعددية
الأسلوبية، كما تميّز أيضاً بمقدرته على التأقلم مع الفنون المحلية والتقليدية
الشائعة في الحضارات الأخرى، كالحضارة الإفريقية، والحضارة الشرق آسيوية، والحضارة
العربية. وكان السبب الأساسي لهذا الانتشار الواسع هو الحرية التي منحت للفنان كي
يترك خياله منطلقاً لابتكار الأسلوب الذي يساعده على تجديد الصيغ الخطية واللونية،
بعيداً عن أي قيد واقعي أو موضوعي، متخلياً عن أي ارتباط بأشكال الطبيعة، فاسحاً
المجال للمتلقي أن يرى صيغاً تشكيلية مطلقة، من حقه أن يؤولها كما يشاء، فهي لا
تحمل أي مضمون يفرض نفسه عليه، وهكذا تدعو التجريدية إلى مشاركة المتلقي في إعطاء
اللوحة التجريدية مضموناً يختاره هو، ولا يفرضه الفنان.
ولكن السؤال
الذي يطرحه نقاد هذا الفن، على الفنان التجريدي: هل يعرض في صيغه المجردة ما يعكس
عالمه الداخلي، أم لعله الفكر الرياضي أو التجريب أو المصادفة التي تؤدي إلى صياغة
اللوحة؟. فالعالم الداخلي الذي كان معبراً عنه في الأعمال التشبيهية، كان مبرراً
لأن الموضوعات الواقعية مهما كانت محرفة، فهي تبقى الوسيلة لنقل الانفعال الداخلي
واللاشعور، مما يساعد المتلقي على قراءة هذا الانفعال بوضوح، ولذلك يرى بعض نقاد
التجريدية أنها وصلت إلى نقطة الصفر، إلى العدمية أو إلى اللافن.
ويبرر
التجريديون فنهم بأنه فن خالص يعبر كالموسيقى عن أنغام وإيقاعات وتوافقات لونية
وخطية، من دون تدخل الأشكال والأشياء التي تزاحم الفن الخالص في إقحام مفهومها
المادي القائم على المنفعة أو اللذة أو الخطاب المباشر، فالعمل التجريدي ليس
موضوعياً، ولكنه يقوم على الفطنة والذكاء والثقافة، وهذا ما يبدو في أعمال الجيل
الثاني من التجريديين من أمثال هربان Herbin ونيكلسون Nicholson وڤازاريلي Vasarély.
ومع ذلك فإن
ما يقدمه التجريديون من صيغ لا تتصل بالواقع، لا يعني أنهم لا يقدمون موضوعاً ما،
إنه موضوع يعبر عن الانفعال من دون أن يعبر عن شيء معين، ولكنه يبقى موضوعاً
تشكيلياً في التصوير وفي النحت، ولذلك فإن الجمهور الذي يدّعي عدم فهم العمل
التجريدي سوف يقتنع أن ثمة موضوعات جديدة في الفن لا حدّ لأشكالها، تختلف في
ماهيتها عن ماهية الأشياء والأشكال المألوفة، التي لم تعد محاكاتها هماً تشكيلياً،
بعد أن تقدمت الوسائل الآلية التصويرية، في نقلها بدقة وبأساليب يعتز بها المصورون
الضوئيون.
كازيمير ماليفيتش: «تشكيل تسلطي» (1914-1918)
ويبقى هدف
المصور التجريدي أن يترك للمتلقي أمام العمل الفني حق الانفعال الجمالي وليس
الانفعال النفعي، وحق تبادل الانفعال الذي عاشه الفنان التجريدي، وهو انفعال جمالي
بالضرورة، مع انفعاله وتذوقه هو. ومثال هذا الانفعال الفني يبدو واضحاً في أعمال
ماتيو Mathieu
الفرنسي وبولّوك Pollock الأمريكي وهارتونغ Hartung الألماني، كما ترك له في الفن البصري Op.
art فرصة الإيهام البصري لرؤية
الصيغ التجريدية متحركة، كما فعل فازاريلّي. أو متحركة بوساطة الكهرباء كما في
أعمال شوفِر Schöffer.
وفي مجال
النحت قدمت التجريدية فرصة التأكيد على خصائصه المحضة وهي الشكل والفضاء.
كان هنري
مور Moore
قد مهّد للتجريدية في النحت، ولكن ظهور الابتكارات التقانية ساعد على إمداد النحت
بفرص تجريدية لا حدود لها، ولاسيما عند الانصراف إلى الحركية في النحت التي استمدت
طاقتها من الرياح كما فعل كالدر Calder، أو من الكهرباء أو المغنطيس أو الماء.
ولكن
استغلال الفضاء والفراغ، سمح للنحاتين من أمثال برانكوزي Brancusi أن يستغل البساطة «للتعبير عن المعنى الحقيقي للأشياء»، كما يقول.
كما سمحت للنحات غونثالِس Gonzales ولغيره من النحاتين الإسبان استغلال الشكل المجرد، ليس بوصفه
الخام، بل بتشكيله المطلق الجوهري.
وتتمثل
براعة روبرت ياكوبسِن R.Jacobsen الدنماركي الأمريكي في استغلال المعدن معبراً عن طاقته الحركية من
دون أن يباشر التحريك كما فعل كالدر.
أما
بِڤسنر وأخوه غابو Gabo، فقد قدما أعمالاً نحتية تقوم على إعادة إنشاء الكون بعمارة
فضائية دقيقة، تضعنا أمام عالم نحتي مصغرَّ، ولكنه ذو دلالة بليغة. وعشرات من
النحاتين جذبتهم هذه التكوينات الإنشائية باستعمال المعدن مباشرة، وليس عن طريق
صهره وسكبه كما يتم في التماثيل البرونزية، بل تطرف استعمال المعدن إلى استعمال
المعادن الفضلات.
وبقي جان
آرب Arp
الذي ابتدأ دادائياً، ملتصقاً بعالم الكتل الضخمة التي تُمّثل موقفاً تجريدياً
صخرياً. ويرى آرب أن التجريدية فن يعبر عن المطلق.
ليس من
السهل حصر الفنانين التجريديين، فثّمة معجم يتحدَّث عنهم وعن أعمالهم، كما ليس من
السهل حصر اتجاهات الفن التجريدي الذي أصبح شخصانياً محضاً لا حدود لتنوع أسلوبه.
ولأنَّ
التجريدية أصبحت فناً شاملاً يمثل الحداثة، فلقد شملت العمارة التي انقلبت
واجهاتها وإكساؤها وشكلها، إلى تشـكيل نحتي، مثل بناء كنيـسة نوتردام في رونـشان
بفرنـسا للمعمار لوكوربوزييه Le Corbusier، وبناء مركز بومبيدو للمعمارين روجرز Rogers وبيانو Piano، وفيه تطابق في استعمال المفردات المعدنية مع النحت الحديث.
ومن العمارات
الحديثة التجريدية عمارة برج العرب في دبي، وبرج المملكة في الرياض، ومن أشهر
المعماريين الذين تبنوا التجريدية في العالم، لويد رايت L.Wright في بناء متحف غوغنهايم في نيويورك، والمعمار غاودي Gaudï الإسباني في عمارة
كنيسة ساغرادا فاميليا في برشلونة، وجون أريسون J.Arison الدنماركي الذي صمم دار الأوبرا في سيدني.
واستمدت
الطباعة القماشية أيضاً عناصر من التجريدية تحاكي الصيغ التي أبدعها كبار
التجريديين.
وانتقلت
التجريدية إلى أشكال الطائرات والسيارات والأدوات الكهربائية وإلى كثير من الأشياء
الشائعة في عالم اليوم.
عفيف البهنسي
الموضوعات ذات الصلة:
أورفيوس
والأورفية ـ الباوهاوس ـ بفسنر (الأخوان ـ) ـ كاندينسكي (فاسيلي ـ) ـ موندريان
(بييت ـ).
مراجع للاستزادة:
- M.BRION,
Art Abstrait (éd. Albain Michel, Paris 1956).
- M.SEUFORE,
Dictionnaire de la peinture abstraite (éd. Fernand Hazan, Paris 1956).
##### التصنيف : العمارة و الفنون التشكيلية والزخرفية
##### النوع : عمارة وفنون تشكيلية
##### المجلد: المجلد الرابع عشر
##### رقم الصفحة ضمن المجلد : 711
مشاركة :
### اترك تعليقك
الاسم
البريد الإلكتروني
نص التعليق
كود التحقق
### آخر أخبار الهيئة :
### البحوث الأكثر قراءة
### هل تعلم ؟؟
عدد الزوار حاليا : 1554
الكل : 50798722
اليوم : 139062
## السياسة الاقتصادية
السياسة الاقتصادية
هي مجموعة الإجراءات التي تتبناها الدولة لتسهيل
عملية تحقيق الأهداف المرغوبة في المجال الاقتصادي، وضمان تنفيذها. وإذا كانت تلك
الأهداف تمثل أولويات يراد الوصول إليها، فإن السياسة الاقتصادية economic policy
تعدّ إحدى أهم الأدوات التي يؤدي استخدامها وتطبيقها إلى تحقيق تلك الأهداف وفق الأولويات
المعتمدة بأفضل الشروط، أي في إطار الاستغلال الأمثل للموارد المتاحة أو المتوقع
إتاحتها.
### المجلدات الصادرة عن الموسوعة العربية :
-
#### المجلد الأول
-
#### المجلد الثاني
-
#### المجلد الثالث
-
#### المجلد الرابع
-
#### المجلد الخامس
-
#### المجلد السادس
-
#### المجلد السابع
-
#### المجلدالثامن
-
#### المجلد التاسع
-
#### المجلد العاشر
-
#### المجلد الحادي عشر
-
#### المجلد الثاني عشر
-
#### المجلد الثالث عشر
-
#### المجلد الرابع عشر
-
#### المجلد الخامس عشر
-
#### المجلد السادس عشر
-
#### المجلد السابع عشر
-
#### المجلد الثامن عشر
-
#### المجلد التاسع عشر
-
#### المجلد العشرون
-
#### المجلد الواحد والعشرون
-
#### المجلد الثاني والعشرون
arab-ency.com.sy © All Rights Reserved
|
article
|
Arabic
|
ar
|
الفن التجريدي - الموسوعة العربية
|
https://arab-ency.com.sy/ency/details/9117/14
|
1,990 |
الفن
التجريدي abstract art مفهوم ينطبق على الفنون اللاتشخيصيّة non
figuratifs التي تعتمد القيم
التشكيلية الخالصة من دون غيرها - التشكيل بالأشكال والألوان والمواد بمعزل عن كل
محتوى أدبي أو سردي أو موضوعي، وهو اتجاه في التصوير والنحت، تنفصل صيغه عن
الموضوع المألوف والواقع، لتشكل صورةً غير مشخصةnon
représentatif.
|
paragraph
|
Toggle navigation
# logo
# logo
# logo
# logo
# logo
بحث ضمن العنوانبحث ضمن المحتوى
جميع الكلماتاحد الكلمات
التصنيف العلميالهندسةالزراعة و البيطرةالصناعةالتقنيات (التكنولوجية)الأدباللغةالآداب الجرمانيةالآداب اللاتينيةالآداب الأخرىالآداب القديمةالتاريخ و الجغرافية و الآثارالفلسفة و علم الاجتماع و العقائدالصحافة و الإعلامطب الأسنانطب بشريصيدلةتربية و علم نفسالعمارة و الفنون التشكيلية والزخرفيةالموسيقى والسينما والمسرحالقانونالاقتصادالسياسةالشريعةعلم طبقات الأرض و علوم البحارالرياضيات و الفلكعلم الحياة( الحيوان و النبات)الكيمياء و الفيزياءالتاريخاللغة العربية والأدب العربي
### الفن التجريدي
#### فن تجريدي
#### Abstract art - Art abstrait
الفن التجريدي
الفن
التجريدي abstract art مفهوم ينطبق على الفنون اللاتشخيصيّة non
figuratifs التي تعتمد القيم
التشكيلية الخالصة من دون غيرها - التشكيل بالأشكال والألوان والمواد بمعزل عن كل
محتوى أدبي أو سردي أو موضوعي، وهو اتجاه في التصوير والنحت، تنفصل صيغه عن
الموضوع المألوف والواقع، لتشكل صورةً غير مشخصةnon
représentatif.
استمرَّ
الفن المشخص راسخاً في الفن التشكيلي معبراً عن الأشكال والشخوص والطبيعة، ومع أن
الفنان كان يضفي في كثير من الأحيان على أعماله المشخصة شحنات من انفعالاته
الداخلية، وتخيلاته المستوحاة من عالمه الداخلي، قد لا تتفق مع منطق الواقع المرئي
والموضوعي، إلا أن الفن التجريدي أعفى الفنان من الاتكاء على أي صيغة مألوفة،
مستبقياً فقط، انعكاسات عالمه الباطني أو الخيالي في عمله الفني.
كان التغيير
الجمالي والفلسفي بين الاتجاهين مختلفاً جداً، حتى إن مبادئ علم الجمال التقليدي،
لم تعد قادرة على صوغ قواعد جمالية لهذا الفن، الذي لم يعد مجرد اتجاه أو أسلوب من
أساليب الفن المعاصر، مثل الانطباعية[ر] أو التعبيرية[ر] أو الوحشية[ر]، بل أصبح
تياراً فنياً، موازياً ضمن مدارس متنوعة ومفاهيم مختلفة.
ومن الممكن
الاعتقاد أن النزعة التجريدية في الفن كانت تعبيراً عن نزوع روحاني تصاعدي، كما هو
التجريد في الفن الإسلامي، ومما يُرى في الرقش العربي arabesque، أو هي تعبير عما في الألوان والخطوط والأشكال الخالصة من موسيقى
وعمارة وحركة كما هو الحال في الفن الحديث.
ولعل أول من
تحدث في ماهية التجريد الفني، هو ڤيلهلم ڤورينغر W.Worringer
في كتابه «التجريد والتعاطف» Abstraktion und Einfühlung، وفيه أوضح أن التجريد يعني الانصراف عن الواقع.
فاسيلي كاندينسكي: «منظر مع كنيسة» (1913)
ومع أن
التجريد يعود إلى فنون ما قبل التاريخ، إلا أنه بمفهومه المعاصر ظهر في بداية
القرن العشرين على يد مجموعة من المصورين والنحاتين من جنسيات مختلفة، وكانت
مقدماته قد بدت منذ الانطباعية المحدثة حيث تجرأ الفنان على تفتيت الصورة الواقعية
إلى بقع من الألوان الأساسية والمتممة. وتابعت التعبيرية تجاوز الشكل الواقعي
لصالح المعنى، مما مهَّد للتحرر المتزايد من الشكل المشخص، حتى بلوغه حدود التجريد
الذي قدمه المصور الروسي كاندينسكي Kandinsky والمصور الهولندي موندريان Mondrian منذ العام العاشر من القرن العشرين. حيث لم يعد في أعمالهما، أي
أثر للواقع والحقيقة، بل ثمة واقع جديد لم يكن له محل في ذاكرة المتلقي، ابتكره
الفنان معتمداً على نظرية جديدة، ومفهوم جمالي جديد، توضح في كتاب «من الروحي في
الفن» Du Spirituel dans l’art لكاندينسكي ونظرية «التشكيلية المحدثة» le
néo-plasticisme لموندريان شاركه
فيها ڤان دوسبورغ van Doesburg.
ألبرتو مانييلي: «تشكيل رقم 0526»(1915)
وإذا كانت
التجريدية عند كاندينسكي روحانية، تعتمد على صيغ مطلقة، فإن التجريدية عند
موندريان هندسية تعتمد على أشكال هندسية بذاتها، تملؤها طبقات لونية تتفاعل مع
بعضها. ولكن مالفيتش Malevitch الذي وجد في الاتجاهين تسطيحاً جمالياً سعى إلى إنشاء اتجاه أطلق
عليه اسم الأوجية Suprématisme تمسّك فيه بالشكل المحض واللون المحض لكي يرفع الشكل المجرد إلى
المرتبة الروحية.
ولكن تيار
التجريدية مازال مديناً لكاندينسكي في أعماله الخيالية التي تعبر عن طبع غنائي
شرقي ثرّ جاء به كاندينسكي من روسيا بعد نزوحه منها، كما هو مَدين لموندريان في
العودة إلى الأشكال الهندسية المجردة، وتنسيقها لكي تحدث حواراً فكرياً أكثر منه
حواراً موسيقياً شاعرياً.
ثم امتدت
التجربة لكي تظهر في أعمال بول كلي Klee السويسري الذي تأثر بالفن العربي بعد زيارته إلى القيروان. كما
تأثَّر بالموسيقى التي أتقنها من والده، فكانت التجريدية التأملية. هكذا بدت أنماط
متنوعة من التجريدية، فإضافة إلى كاندينسكي وموندريان وبول كلي كان مالڤيتش
وكوبكا Kupka
ودولوني Delaunay وبِڤسنر Pevsner يقدّم كلّ منهم لوناً خاصاً من التجريدية المحضة.
سار هؤلاء
التجريديون في اتجاهات مختلفة ابتدعوها، فالتصقت ملامح كل أسلوب بصاحبها، إذ كان
الإبداع والابتكار عنوان كل اتجاه من اتجاهات هؤلاء الرواد الذين أسسوا في النصف
الأول من القرن الماضي هذا الفن، الذي تطور سريعاً وانتشر خارج حدود أوربا لكي
يتبنّاه الفنانون في جميع أنحاء العالم.
ولعلَّ كل
واحد من هؤلاء الرواد، شكَّل مرتكزاً في أسلوبه يقوم على مفهوم جمالي نسبي يساعد
على تنظير هذا الفن، الذي تجاوز جميع مواصفات الفن التقليدي والمدارس الحديثة التي
حورت الشكل من دون أن تتخلى عنه.
كان التجريد
انقلاباً كاملاً في مفهوم الفن التشكيلي. فقد تميَّز هذا الفن بالتطور والتعددية
الأسلوبية، كما تميّز أيضاً بمقدرته على التأقلم مع الفنون المحلية والتقليدية
الشائعة في الحضارات الأخرى، كالحضارة الإفريقية، والحضارة الشرق آسيوية، والحضارة
العربية. وكان السبب الأساسي لهذا الانتشار الواسع هو الحرية التي منحت للفنان كي
يترك خياله منطلقاً لابتكار الأسلوب الذي يساعده على تجديد الصيغ الخطية واللونية،
بعيداً عن أي قيد واقعي أو موضوعي، متخلياً عن أي ارتباط بأشكال الطبيعة، فاسحاً
المجال للمتلقي أن يرى صيغاً تشكيلية مطلقة، من حقه أن يؤولها كما يشاء، فهي لا
تحمل أي مضمون يفرض نفسه عليه، وهكذا تدعو التجريدية إلى مشاركة المتلقي في إعطاء
اللوحة التجريدية مضموناً يختاره هو، ولا يفرضه الفنان.
ولكن السؤال
الذي يطرحه نقاد هذا الفن، على الفنان التجريدي: هل يعرض في صيغه المجردة ما يعكس
عالمه الداخلي، أم لعله الفكر الرياضي أو التجريب أو المصادفة التي تؤدي إلى صياغة
اللوحة؟. فالعالم الداخلي الذي كان معبراً عنه في الأعمال التشبيهية، كان مبرراً
لأن الموضوعات الواقعية مهما كانت محرفة، فهي تبقى الوسيلة لنقل الانفعال الداخلي
واللاشعور، مما يساعد المتلقي على قراءة هذا الانفعال بوضوح، ولذلك يرى بعض نقاد
التجريدية أنها وصلت إلى نقطة الصفر، إلى العدمية أو إلى اللافن.
ويبرر
التجريديون فنهم بأنه فن خالص يعبر كالموسيقى عن أنغام وإيقاعات وتوافقات لونية
وخطية، من دون تدخل الأشكال والأشياء التي تزاحم الفن الخالص في إقحام مفهومها
المادي القائم على المنفعة أو اللذة أو الخطاب المباشر، فالعمل التجريدي ليس
موضوعياً، ولكنه يقوم على الفطنة والذكاء والثقافة، وهذا ما يبدو في أعمال الجيل
الثاني من التجريديين من أمثال هربان Herbin ونيكلسون Nicholson وڤازاريلي Vasarély.
ومع ذلك فإن
ما يقدمه التجريديون من صيغ لا تتصل بالواقع، لا يعني أنهم لا يقدمون موضوعاً ما،
إنه موضوع يعبر عن الانفعال من دون أن يعبر عن شيء معين، ولكنه يبقى موضوعاً
تشكيلياً في التصوير وفي النحت، ولذلك فإن الجمهور الذي يدّعي عدم فهم العمل
التجريدي سوف يقتنع أن ثمة موضوعات جديدة في الفن لا حدّ لأشكالها، تختلف في
ماهيتها عن ماهية الأشياء والأشكال المألوفة، التي لم تعد محاكاتها هماً تشكيلياً،
بعد أن تقدمت الوسائل الآلية التصويرية، في نقلها بدقة وبأساليب يعتز بها المصورون
الضوئيون.
كازيمير ماليفيتش: «تشكيل تسلطي» (1914-1918)
ويبقى هدف
المصور التجريدي أن يترك للمتلقي أمام العمل الفني حق الانفعال الجمالي وليس
الانفعال النفعي، وحق تبادل الانفعال الذي عاشه الفنان التجريدي، وهو انفعال جمالي
بالضرورة، مع انفعاله وتذوقه هو. ومثال هذا الانفعال الفني يبدو واضحاً في أعمال
ماتيو Mathieu
الفرنسي وبولّوك Pollock الأمريكي وهارتونغ Hartung الألماني، كما ترك له في الفن البصري Op.
art فرصة الإيهام البصري لرؤية
الصيغ التجريدية متحركة، كما فعل فازاريلّي. أو متحركة بوساطة الكهرباء كما في
أعمال شوفِر Schöffer.
وفي مجال
النحت قدمت التجريدية فرصة التأكيد على خصائصه المحضة وهي الشكل والفضاء.
كان هنري
مور Moore
قد مهّد للتجريدية في النحت، ولكن ظهور الابتكارات التقانية ساعد على إمداد النحت
بفرص تجريدية لا حدود لها، ولاسيما عند الانصراف إلى الحركية في النحت التي استمدت
طاقتها من الرياح كما فعل كالدر Calder، أو من الكهرباء أو المغنطيس أو الماء.
ولكن
استغلال الفضاء والفراغ، سمح للنحاتين من أمثال برانكوزي Brancusi أن يستغل البساطة «للتعبير عن المعنى الحقيقي للأشياء»، كما يقول.
كما سمحت للنحات غونثالِس Gonzales ولغيره من النحاتين الإسبان استغلال الشكل المجرد، ليس بوصفه
الخام، بل بتشكيله المطلق الجوهري.
وتتمثل
براعة روبرت ياكوبسِن R.Jacobsen الدنماركي الأمريكي في استغلال المعدن معبراً عن طاقته الحركية من
دون أن يباشر التحريك كما فعل كالدر.
أما
بِڤسنر وأخوه غابو Gabo، فقد قدما أعمالاً نحتية تقوم على إعادة إنشاء الكون بعمارة
فضائية دقيقة، تضعنا أمام عالم نحتي مصغرَّ، ولكنه ذو دلالة بليغة. وعشرات من
النحاتين جذبتهم هذه التكوينات الإنشائية باستعمال المعدن مباشرة، وليس عن طريق
صهره وسكبه كما يتم في التماثيل البرونزية، بل تطرف استعمال المعدن إلى استعمال
المعادن الفضلات.
وبقي جان
آرب Arp
الذي ابتدأ دادائياً، ملتصقاً بعالم الكتل الضخمة التي تُمّثل موقفاً تجريدياً
صخرياً. ويرى آرب أن التجريدية فن يعبر عن المطلق.
ليس من
السهل حصر الفنانين التجريديين، فثّمة معجم يتحدَّث عنهم وعن أعمالهم، كما ليس من
السهل حصر اتجاهات الفن التجريدي الذي أصبح شخصانياً محضاً لا حدود لتنوع أسلوبه.
ولأنَّ
التجريدية أصبحت فناً شاملاً يمثل الحداثة، فلقد شملت العمارة التي انقلبت
واجهاتها وإكساؤها وشكلها، إلى تشـكيل نحتي، مثل بناء كنيـسة نوتردام في رونـشان
بفرنـسا للمعمار لوكوربوزييه Le Corbusier، وبناء مركز بومبيدو للمعمارين روجرز Rogers وبيانو Piano، وفيه تطابق في استعمال المفردات المعدنية مع النحت الحديث.
ومن العمارات
الحديثة التجريدية عمارة برج العرب في دبي، وبرج المملكة في الرياض، ومن أشهر
المعماريين الذين تبنوا التجريدية في العالم، لويد رايت L.Wright في بناء متحف غوغنهايم في نيويورك، والمعمار غاودي Gaudï الإسباني في عمارة
كنيسة ساغرادا فاميليا في برشلونة، وجون أريسون J.Arison الدنماركي الذي صمم دار الأوبرا في سيدني.
واستمدت
الطباعة القماشية أيضاً عناصر من التجريدية تحاكي الصيغ التي أبدعها كبار
التجريديين.
وانتقلت
التجريدية إلى أشكال الطائرات والسيارات والأدوات الكهربائية وإلى كثير من الأشياء
الشائعة في عالم اليوم.
عفيف البهنسي
الموضوعات ذات الصلة:
أورفيوس
والأورفية ـ الباوهاوس ـ بفسنر (الأخوان ـ) ـ كاندينسكي (فاسيلي ـ) ـ موندريان
(بييت ـ).
مراجع للاستزادة:
- M.BRION,
Art Abstrait (éd. Albain Michel, Paris 1956).
- M.SEUFORE,
Dictionnaire de la peinture abstraite (éd. Fernand Hazan, Paris 1956).
##### التصنيف : العمارة و الفنون التشكيلية والزخرفية
##### النوع : عمارة وفنون تشكيلية
##### المجلد: المجلد الرابع عشر
##### رقم الصفحة ضمن المجلد : 711
مشاركة :
### اترك تعليقك
الاسم
البريد الإلكتروني
نص التعليق
كود التحقق
### آخر أخبار الهيئة :
### البحوث الأكثر قراءة
### هل تعلم ؟؟
عدد الزوار حاليا : 1554
الكل : 50798722
اليوم : 139062
## السياسة الاقتصادية
السياسة الاقتصادية
هي مجموعة الإجراءات التي تتبناها الدولة لتسهيل
عملية تحقيق الأهداف المرغوبة في المجال الاقتصادي، وضمان تنفيذها. وإذا كانت تلك
الأهداف تمثل أولويات يراد الوصول إليها، فإن السياسة الاقتصادية economic policy
تعدّ إحدى أهم الأدوات التي يؤدي استخدامها وتطبيقها إلى تحقيق تلك الأهداف وفق الأولويات
المعتمدة بأفضل الشروط، أي في إطار الاستغلال الأمثل للموارد المتاحة أو المتوقع
إتاحتها.
### المجلدات الصادرة عن الموسوعة العربية :
-
#### المجلد الأول
-
#### المجلد الثاني
-
#### المجلد الثالث
-
#### المجلد الرابع
-
#### المجلد الخامس
-
#### المجلد السادس
-
#### المجلد السابع
-
#### المجلدالثامن
-
#### المجلد التاسع
-
#### المجلد العاشر
-
#### المجلد الحادي عشر
-
#### المجلد الثاني عشر
-
#### المجلد الثالث عشر
-
#### المجلد الرابع عشر
-
#### المجلد الخامس عشر
-
#### المجلد السادس عشر
-
#### المجلد السابع عشر
-
#### المجلد الثامن عشر
-
#### المجلد التاسع عشر
-
#### المجلد العشرون
-
#### المجلد الواحد والعشرون
-
#### المجلد الثاني والعشرون
arab-ency.com.sy © All Rights Reserved
|
article
|
Arabic
|
ar
|
الفن التجريدي - الموسوعة العربية
|
https://arab-ency.com.sy/ency/details/9117/14
|
1,991 |
التجريدي abstract art مفهوم ينطبق على الفنون اللاتشخيصيّة non
|
sentence
|
الفن
التجريدي abstract art مفهوم ينطبق على الفنون اللاتشخيصيّة non
figuratifs التي تعتمد القيم
التشكيلية الخالصة من دون غيرها - التشكيل بالأشكال والألوان والمواد بمعزل عن كل
محتوى أدبي أو سردي أو موضوعي، وهو اتجاه في التصوير والنحت، تنفصل صيغه عن
الموضوع المألوف والواقع، لتشكل صورةً غير مشخصةnon
représentatif.
|
paragraph
|
Arabic
|
ar
|
الفن التجريدي - الموسوعة العربية
|
https://arab-ency.com.sy/ency/details/9117/14
|
1,992 |
التشكيلية الخالصة من دون غيرها - التشكيل بالأشكال والألوان والمواد بمعزل عن كل
|
sentence
|
الفن
التجريدي abstract art مفهوم ينطبق على الفنون اللاتشخيصيّة non
figuratifs التي تعتمد القيم
التشكيلية الخالصة من دون غيرها - التشكيل بالأشكال والألوان والمواد بمعزل عن كل
محتوى أدبي أو سردي أو موضوعي، وهو اتجاه في التصوير والنحت، تنفصل صيغه عن
الموضوع المألوف والواقع، لتشكل صورةً غير مشخصةnon
représentatif.
|
paragraph
|
Arabic
|
ar
|
الفن التجريدي - الموسوعة العربية
|
https://arab-ency.com.sy/ency/details/9117/14
|
1,993 |
محتوى أدبي أو سردي أو موضوعي، وهو اتجاه في التصوير والنحت، تنفصل صيغه عن
|
sentence
|
الفن
التجريدي abstract art مفهوم ينطبق على الفنون اللاتشخيصيّة non
figuratifs التي تعتمد القيم
التشكيلية الخالصة من دون غيرها - التشكيل بالأشكال والألوان والمواد بمعزل عن كل
محتوى أدبي أو سردي أو موضوعي، وهو اتجاه في التصوير والنحت، تنفصل صيغه عن
الموضوع المألوف والواقع، لتشكل صورةً غير مشخصةnon
représentatif.
|
paragraph
|
Arabic
|
ar
|
الفن التجريدي - الموسوعة العربية
|
https://arab-ency.com.sy/ency/details/9117/14
|
1,994 |
استمرَّ
الفن المشخص راسخاً في الفن التشكيلي معبراً عن الأشكال والشخوص والطبيعة، ومع أن
الفنان كان يضفي في كثير من الأحيان على أعماله المشخصة شحنات من انفعالاته
الداخلية، وتخيلاته المستوحاة من عالمه الداخلي، قد لا تتفق مع منطق الواقع المرئي
والموضوعي، إلا أن الفن التجريدي أعفى الفنان من الاتكاء على أي صيغة مألوفة،
مستبقياً فقط، انعكاسات عالمه الباطني أو الخيالي في عمله الفني.
|
paragraph
|
Toggle navigation
# logo
# logo
# logo
# logo
# logo
بحث ضمن العنوانبحث ضمن المحتوى
جميع الكلماتاحد الكلمات
التصنيف العلميالهندسةالزراعة و البيطرةالصناعةالتقنيات (التكنولوجية)الأدباللغةالآداب الجرمانيةالآداب اللاتينيةالآداب الأخرىالآداب القديمةالتاريخ و الجغرافية و الآثارالفلسفة و علم الاجتماع و العقائدالصحافة و الإعلامطب الأسنانطب بشريصيدلةتربية و علم نفسالعمارة و الفنون التشكيلية والزخرفيةالموسيقى والسينما والمسرحالقانونالاقتصادالسياسةالشريعةعلم طبقات الأرض و علوم البحارالرياضيات و الفلكعلم الحياة( الحيوان و النبات)الكيمياء و الفيزياءالتاريخاللغة العربية والأدب العربي
### الفن التجريدي
#### فن تجريدي
#### Abstract art - Art abstrait
الفن التجريدي
الفن
التجريدي abstract art مفهوم ينطبق على الفنون اللاتشخيصيّة non
figuratifs التي تعتمد القيم
التشكيلية الخالصة من دون غيرها - التشكيل بالأشكال والألوان والمواد بمعزل عن كل
محتوى أدبي أو سردي أو موضوعي، وهو اتجاه في التصوير والنحت، تنفصل صيغه عن
الموضوع المألوف والواقع، لتشكل صورةً غير مشخصةnon
représentatif.
استمرَّ
الفن المشخص راسخاً في الفن التشكيلي معبراً عن الأشكال والشخوص والطبيعة، ومع أن
الفنان كان يضفي في كثير من الأحيان على أعماله المشخصة شحنات من انفعالاته
الداخلية، وتخيلاته المستوحاة من عالمه الداخلي، قد لا تتفق مع منطق الواقع المرئي
والموضوعي، إلا أن الفن التجريدي أعفى الفنان من الاتكاء على أي صيغة مألوفة،
مستبقياً فقط، انعكاسات عالمه الباطني أو الخيالي في عمله الفني.
كان التغيير
الجمالي والفلسفي بين الاتجاهين مختلفاً جداً، حتى إن مبادئ علم الجمال التقليدي،
لم تعد قادرة على صوغ قواعد جمالية لهذا الفن، الذي لم يعد مجرد اتجاه أو أسلوب من
أساليب الفن المعاصر، مثل الانطباعية[ر] أو التعبيرية[ر] أو الوحشية[ر]، بل أصبح
تياراً فنياً، موازياً ضمن مدارس متنوعة ومفاهيم مختلفة.
ومن الممكن
الاعتقاد أن النزعة التجريدية في الفن كانت تعبيراً عن نزوع روحاني تصاعدي، كما هو
التجريد في الفن الإسلامي، ومما يُرى في الرقش العربي arabesque، أو هي تعبير عما في الألوان والخطوط والأشكال الخالصة من موسيقى
وعمارة وحركة كما هو الحال في الفن الحديث.
ولعل أول من
تحدث في ماهية التجريد الفني، هو ڤيلهلم ڤورينغر W.Worringer
في كتابه «التجريد والتعاطف» Abstraktion und Einfühlung، وفيه أوضح أن التجريد يعني الانصراف عن الواقع.
فاسيلي كاندينسكي: «منظر مع كنيسة» (1913)
ومع أن
التجريد يعود إلى فنون ما قبل التاريخ، إلا أنه بمفهومه المعاصر ظهر في بداية
القرن العشرين على يد مجموعة من المصورين والنحاتين من جنسيات مختلفة، وكانت
مقدماته قد بدت منذ الانطباعية المحدثة حيث تجرأ الفنان على تفتيت الصورة الواقعية
إلى بقع من الألوان الأساسية والمتممة. وتابعت التعبيرية تجاوز الشكل الواقعي
لصالح المعنى، مما مهَّد للتحرر المتزايد من الشكل المشخص، حتى بلوغه حدود التجريد
الذي قدمه المصور الروسي كاندينسكي Kandinsky والمصور الهولندي موندريان Mondrian منذ العام العاشر من القرن العشرين. حيث لم يعد في أعمالهما، أي
أثر للواقع والحقيقة، بل ثمة واقع جديد لم يكن له محل في ذاكرة المتلقي، ابتكره
الفنان معتمداً على نظرية جديدة، ومفهوم جمالي جديد، توضح في كتاب «من الروحي في
الفن» Du Spirituel dans l’art لكاندينسكي ونظرية «التشكيلية المحدثة» le
néo-plasticisme لموندريان شاركه
فيها ڤان دوسبورغ van Doesburg.
ألبرتو مانييلي: «تشكيل رقم 0526»(1915)
وإذا كانت
التجريدية عند كاندينسكي روحانية، تعتمد على صيغ مطلقة، فإن التجريدية عند
موندريان هندسية تعتمد على أشكال هندسية بذاتها، تملؤها طبقات لونية تتفاعل مع
بعضها. ولكن مالفيتش Malevitch الذي وجد في الاتجاهين تسطيحاً جمالياً سعى إلى إنشاء اتجاه أطلق
عليه اسم الأوجية Suprématisme تمسّك فيه بالشكل المحض واللون المحض لكي يرفع الشكل المجرد إلى
المرتبة الروحية.
ولكن تيار
التجريدية مازال مديناً لكاندينسكي في أعماله الخيالية التي تعبر عن طبع غنائي
شرقي ثرّ جاء به كاندينسكي من روسيا بعد نزوحه منها، كما هو مَدين لموندريان في
العودة إلى الأشكال الهندسية المجردة، وتنسيقها لكي تحدث حواراً فكرياً أكثر منه
حواراً موسيقياً شاعرياً.
ثم امتدت
التجربة لكي تظهر في أعمال بول كلي Klee السويسري الذي تأثر بالفن العربي بعد زيارته إلى القيروان. كما
تأثَّر بالموسيقى التي أتقنها من والده، فكانت التجريدية التأملية. هكذا بدت أنماط
متنوعة من التجريدية، فإضافة إلى كاندينسكي وموندريان وبول كلي كان مالڤيتش
وكوبكا Kupka
ودولوني Delaunay وبِڤسنر Pevsner يقدّم كلّ منهم لوناً خاصاً من التجريدية المحضة.
سار هؤلاء
التجريديون في اتجاهات مختلفة ابتدعوها، فالتصقت ملامح كل أسلوب بصاحبها، إذ كان
الإبداع والابتكار عنوان كل اتجاه من اتجاهات هؤلاء الرواد الذين أسسوا في النصف
الأول من القرن الماضي هذا الفن، الذي تطور سريعاً وانتشر خارج حدود أوربا لكي
يتبنّاه الفنانون في جميع أنحاء العالم.
ولعلَّ كل
واحد من هؤلاء الرواد، شكَّل مرتكزاً في أسلوبه يقوم على مفهوم جمالي نسبي يساعد
على تنظير هذا الفن، الذي تجاوز جميع مواصفات الفن التقليدي والمدارس الحديثة التي
حورت الشكل من دون أن تتخلى عنه.
كان التجريد
انقلاباً كاملاً في مفهوم الفن التشكيلي. فقد تميَّز هذا الفن بالتطور والتعددية
الأسلوبية، كما تميّز أيضاً بمقدرته على التأقلم مع الفنون المحلية والتقليدية
الشائعة في الحضارات الأخرى، كالحضارة الإفريقية، والحضارة الشرق آسيوية، والحضارة
العربية. وكان السبب الأساسي لهذا الانتشار الواسع هو الحرية التي منحت للفنان كي
يترك خياله منطلقاً لابتكار الأسلوب الذي يساعده على تجديد الصيغ الخطية واللونية،
بعيداً عن أي قيد واقعي أو موضوعي، متخلياً عن أي ارتباط بأشكال الطبيعة، فاسحاً
المجال للمتلقي أن يرى صيغاً تشكيلية مطلقة، من حقه أن يؤولها كما يشاء، فهي لا
تحمل أي مضمون يفرض نفسه عليه، وهكذا تدعو التجريدية إلى مشاركة المتلقي في إعطاء
اللوحة التجريدية مضموناً يختاره هو، ولا يفرضه الفنان.
ولكن السؤال
الذي يطرحه نقاد هذا الفن، على الفنان التجريدي: هل يعرض في صيغه المجردة ما يعكس
عالمه الداخلي، أم لعله الفكر الرياضي أو التجريب أو المصادفة التي تؤدي إلى صياغة
اللوحة؟. فالعالم الداخلي الذي كان معبراً عنه في الأعمال التشبيهية، كان مبرراً
لأن الموضوعات الواقعية مهما كانت محرفة، فهي تبقى الوسيلة لنقل الانفعال الداخلي
واللاشعور، مما يساعد المتلقي على قراءة هذا الانفعال بوضوح، ولذلك يرى بعض نقاد
التجريدية أنها وصلت إلى نقطة الصفر، إلى العدمية أو إلى اللافن.
ويبرر
التجريديون فنهم بأنه فن خالص يعبر كالموسيقى عن أنغام وإيقاعات وتوافقات لونية
وخطية، من دون تدخل الأشكال والأشياء التي تزاحم الفن الخالص في إقحام مفهومها
المادي القائم على المنفعة أو اللذة أو الخطاب المباشر، فالعمل التجريدي ليس
موضوعياً، ولكنه يقوم على الفطنة والذكاء والثقافة، وهذا ما يبدو في أعمال الجيل
الثاني من التجريديين من أمثال هربان Herbin ونيكلسون Nicholson وڤازاريلي Vasarély.
ومع ذلك فإن
ما يقدمه التجريديون من صيغ لا تتصل بالواقع، لا يعني أنهم لا يقدمون موضوعاً ما،
إنه موضوع يعبر عن الانفعال من دون أن يعبر عن شيء معين، ولكنه يبقى موضوعاً
تشكيلياً في التصوير وفي النحت، ولذلك فإن الجمهور الذي يدّعي عدم فهم العمل
التجريدي سوف يقتنع أن ثمة موضوعات جديدة في الفن لا حدّ لأشكالها، تختلف في
ماهيتها عن ماهية الأشياء والأشكال المألوفة، التي لم تعد محاكاتها هماً تشكيلياً،
بعد أن تقدمت الوسائل الآلية التصويرية، في نقلها بدقة وبأساليب يعتز بها المصورون
الضوئيون.
كازيمير ماليفيتش: «تشكيل تسلطي» (1914-1918)
ويبقى هدف
المصور التجريدي أن يترك للمتلقي أمام العمل الفني حق الانفعال الجمالي وليس
الانفعال النفعي، وحق تبادل الانفعال الذي عاشه الفنان التجريدي، وهو انفعال جمالي
بالضرورة، مع انفعاله وتذوقه هو. ومثال هذا الانفعال الفني يبدو واضحاً في أعمال
ماتيو Mathieu
الفرنسي وبولّوك Pollock الأمريكي وهارتونغ Hartung الألماني، كما ترك له في الفن البصري Op.
art فرصة الإيهام البصري لرؤية
الصيغ التجريدية متحركة، كما فعل فازاريلّي. أو متحركة بوساطة الكهرباء كما في
أعمال شوفِر Schöffer.
وفي مجال
النحت قدمت التجريدية فرصة التأكيد على خصائصه المحضة وهي الشكل والفضاء.
كان هنري
مور Moore
قد مهّد للتجريدية في النحت، ولكن ظهور الابتكارات التقانية ساعد على إمداد النحت
بفرص تجريدية لا حدود لها، ولاسيما عند الانصراف إلى الحركية في النحت التي استمدت
طاقتها من الرياح كما فعل كالدر Calder، أو من الكهرباء أو المغنطيس أو الماء.
ولكن
استغلال الفضاء والفراغ، سمح للنحاتين من أمثال برانكوزي Brancusi أن يستغل البساطة «للتعبير عن المعنى الحقيقي للأشياء»، كما يقول.
كما سمحت للنحات غونثالِس Gonzales ولغيره من النحاتين الإسبان استغلال الشكل المجرد، ليس بوصفه
الخام، بل بتشكيله المطلق الجوهري.
وتتمثل
براعة روبرت ياكوبسِن R.Jacobsen الدنماركي الأمريكي في استغلال المعدن معبراً عن طاقته الحركية من
دون أن يباشر التحريك كما فعل كالدر.
أما
بِڤسنر وأخوه غابو Gabo، فقد قدما أعمالاً نحتية تقوم على إعادة إنشاء الكون بعمارة
فضائية دقيقة، تضعنا أمام عالم نحتي مصغرَّ، ولكنه ذو دلالة بليغة. وعشرات من
النحاتين جذبتهم هذه التكوينات الإنشائية باستعمال المعدن مباشرة، وليس عن طريق
صهره وسكبه كما يتم في التماثيل البرونزية، بل تطرف استعمال المعدن إلى استعمال
المعادن الفضلات.
وبقي جان
آرب Arp
الذي ابتدأ دادائياً، ملتصقاً بعالم الكتل الضخمة التي تُمّثل موقفاً تجريدياً
صخرياً. ويرى آرب أن التجريدية فن يعبر عن المطلق.
ليس من
السهل حصر الفنانين التجريديين، فثّمة معجم يتحدَّث عنهم وعن أعمالهم، كما ليس من
السهل حصر اتجاهات الفن التجريدي الذي أصبح شخصانياً محضاً لا حدود لتنوع أسلوبه.
ولأنَّ
التجريدية أصبحت فناً شاملاً يمثل الحداثة، فلقد شملت العمارة التي انقلبت
واجهاتها وإكساؤها وشكلها، إلى تشـكيل نحتي، مثل بناء كنيـسة نوتردام في رونـشان
بفرنـسا للمعمار لوكوربوزييه Le Corbusier، وبناء مركز بومبيدو للمعمارين روجرز Rogers وبيانو Piano، وفيه تطابق في استعمال المفردات المعدنية مع النحت الحديث.
ومن العمارات
الحديثة التجريدية عمارة برج العرب في دبي، وبرج المملكة في الرياض، ومن أشهر
المعماريين الذين تبنوا التجريدية في العالم، لويد رايت L.Wright في بناء متحف غوغنهايم في نيويورك، والمعمار غاودي Gaudï الإسباني في عمارة
كنيسة ساغرادا فاميليا في برشلونة، وجون أريسون J.Arison الدنماركي الذي صمم دار الأوبرا في سيدني.
واستمدت
الطباعة القماشية أيضاً عناصر من التجريدية تحاكي الصيغ التي أبدعها كبار
التجريديين.
وانتقلت
التجريدية إلى أشكال الطائرات والسيارات والأدوات الكهربائية وإلى كثير من الأشياء
الشائعة في عالم اليوم.
عفيف البهنسي
الموضوعات ذات الصلة:
أورفيوس
والأورفية ـ الباوهاوس ـ بفسنر (الأخوان ـ) ـ كاندينسكي (فاسيلي ـ) ـ موندريان
(بييت ـ).
مراجع للاستزادة:
- M.BRION,
Art Abstrait (éd. Albain Michel, Paris 1956).
- M.SEUFORE,
Dictionnaire de la peinture abstraite (éd. Fernand Hazan, Paris 1956).
##### التصنيف : العمارة و الفنون التشكيلية والزخرفية
##### النوع : عمارة وفنون تشكيلية
##### المجلد: المجلد الرابع عشر
##### رقم الصفحة ضمن المجلد : 711
مشاركة :
### اترك تعليقك
الاسم
البريد الإلكتروني
نص التعليق
كود التحقق
### آخر أخبار الهيئة :
### البحوث الأكثر قراءة
### هل تعلم ؟؟
عدد الزوار حاليا : 1554
الكل : 50798722
اليوم : 139062
## السياسة الاقتصادية
السياسة الاقتصادية
هي مجموعة الإجراءات التي تتبناها الدولة لتسهيل
عملية تحقيق الأهداف المرغوبة في المجال الاقتصادي، وضمان تنفيذها. وإذا كانت تلك
الأهداف تمثل أولويات يراد الوصول إليها، فإن السياسة الاقتصادية economic policy
تعدّ إحدى أهم الأدوات التي يؤدي استخدامها وتطبيقها إلى تحقيق تلك الأهداف وفق الأولويات
المعتمدة بأفضل الشروط، أي في إطار الاستغلال الأمثل للموارد المتاحة أو المتوقع
إتاحتها.
### المجلدات الصادرة عن الموسوعة العربية :
-
#### المجلد الأول
-
#### المجلد الثاني
-
#### المجلد الثالث
-
#### المجلد الرابع
-
#### المجلد الخامس
-
#### المجلد السادس
-
#### المجلد السابع
-
#### المجلدالثامن
-
#### المجلد التاسع
-
#### المجلد العاشر
-
#### المجلد الحادي عشر
-
#### المجلد الثاني عشر
-
#### المجلد الثالث عشر
-
#### المجلد الرابع عشر
-
#### المجلد الخامس عشر
-
#### المجلد السادس عشر
-
#### المجلد السابع عشر
-
#### المجلد الثامن عشر
-
#### المجلد التاسع عشر
-
#### المجلد العشرون
-
#### المجلد الواحد والعشرون
-
#### المجلد الثاني والعشرون
arab-ency.com.sy © All Rights Reserved
|
article
|
Arabic
|
ar
|
الفن التجريدي - الموسوعة العربية
|
https://arab-ency.com.sy/ency/details/9117/14
|
1,995 |
الفن المشخص راسخاً في الفن التشكيلي معبراً عن الأشكال والشخوص والطبيعة، ومع أن
|
sentence
|
استمرَّ
الفن المشخص راسخاً في الفن التشكيلي معبراً عن الأشكال والشخوص والطبيعة، ومع أن
الفنان كان يضفي في كثير من الأحيان على أعماله المشخصة شحنات من انفعالاته
الداخلية، وتخيلاته المستوحاة من عالمه الداخلي، قد لا تتفق مع منطق الواقع المرئي
والموضوعي، إلا أن الفن التجريدي أعفى الفنان من الاتكاء على أي صيغة مألوفة،
مستبقياً فقط، انعكاسات عالمه الباطني أو الخيالي في عمله الفني.
|
paragraph
|
Arabic
|
ar
|
الفن التجريدي - الموسوعة العربية
|
https://arab-ency.com.sy/ency/details/9117/14
|
1,996 |
الفنان كان يضفي في كثير من الأحيان على أعماله المشخصة شحنات من انفعالاته
|
sentence
|
استمرَّ
الفن المشخص راسخاً في الفن التشكيلي معبراً عن الأشكال والشخوص والطبيعة، ومع أن
الفنان كان يضفي في كثير من الأحيان على أعماله المشخصة شحنات من انفعالاته
الداخلية، وتخيلاته المستوحاة من عالمه الداخلي، قد لا تتفق مع منطق الواقع المرئي
والموضوعي، إلا أن الفن التجريدي أعفى الفنان من الاتكاء على أي صيغة مألوفة،
مستبقياً فقط، انعكاسات عالمه الباطني أو الخيالي في عمله الفني.
|
paragraph
|
Arabic
|
ar
|
الفن التجريدي - الموسوعة العربية
|
https://arab-ency.com.sy/ency/details/9117/14
|
1,997 |
الداخلية، وتخيلاته المستوحاة من عالمه الداخلي، قد لا تتفق مع منطق الواقع المرئي
|
sentence
|
استمرَّ
الفن المشخص راسخاً في الفن التشكيلي معبراً عن الأشكال والشخوص والطبيعة، ومع أن
الفنان كان يضفي في كثير من الأحيان على أعماله المشخصة شحنات من انفعالاته
الداخلية، وتخيلاته المستوحاة من عالمه الداخلي، قد لا تتفق مع منطق الواقع المرئي
والموضوعي، إلا أن الفن التجريدي أعفى الفنان من الاتكاء على أي صيغة مألوفة،
مستبقياً فقط، انعكاسات عالمه الباطني أو الخيالي في عمله الفني.
|
paragraph
|
Arabic
|
ar
|
الفن التجريدي - الموسوعة العربية
|
https://arab-ency.com.sy/ency/details/9117/14
|
1,998 |
والموضوعي، إلا أن الفن التجريدي أعفى الفنان من الاتكاء على أي صيغة مألوفة،
|
sentence
|
استمرَّ
الفن المشخص راسخاً في الفن التشكيلي معبراً عن الأشكال والشخوص والطبيعة، ومع أن
الفنان كان يضفي في كثير من الأحيان على أعماله المشخصة شحنات من انفعالاته
الداخلية، وتخيلاته المستوحاة من عالمه الداخلي، قد لا تتفق مع منطق الواقع المرئي
والموضوعي، إلا أن الفن التجريدي أعفى الفنان من الاتكاء على أي صيغة مألوفة،
مستبقياً فقط، انعكاسات عالمه الباطني أو الخيالي في عمله الفني.
|
paragraph
|
Arabic
|
ar
|
الفن التجريدي - الموسوعة العربية
|
https://arab-ency.com.sy/ency/details/9117/14
|
1,999 |
مستبقياً فقط، انعكاسات عالمه الباطني أو الخيالي في عمله الفني.
|
sentence
|
استمرَّ
الفن المشخص راسخاً في الفن التشكيلي معبراً عن الأشكال والشخوص والطبيعة، ومع أن
الفنان كان يضفي في كثير من الأحيان على أعماله المشخصة شحنات من انفعالاته
الداخلية، وتخيلاته المستوحاة من عالمه الداخلي، قد لا تتفق مع منطق الواقع المرئي
والموضوعي، إلا أن الفن التجريدي أعفى الفنان من الاتكاء على أي صيغة مألوفة،
مستبقياً فقط، انعكاسات عالمه الباطني أو الخيالي في عمله الفني.
|
paragraph
|
Arabic
|
ar
|
الفن التجريدي - الموسوعة العربية
|
https://arab-ency.com.sy/ency/details/9117/14
|
Subsets and Splits
No community queries yet
The top public SQL queries from the community will appear here once available.