id
int32
0
61k
text
stringlengths
4
31.7k
text_type
stringclasses
7 values
context
stringlengths
4
31.7k
context_type
stringclasses
6 values
source_language_name
stringclasses
1 value
source_language_code
stringclasses
1 value
source_title
stringlengths
0
80
source_url
stringlengths
0
620
1,800
بدأت كلينت في رسم لوحات تجريدية بدءًا من عام 1906، وحملت مجموعتها عنوان «الفوضى البدائية».
sentence
ولكن في الآونة الأخيرة، وبفضل المعرض الرائد في متحف مقاطعة لوس أنجلوس للفنون في عام 1986 الذي حمل اسم «الروحانية في الفن: الرسم التجريدي 1890 – 1985»، وقع الاختيار على هيلما أف كلينت كأول رسامة تجريدية. بدأت كلينت في رسم لوحات تجريدية بدءًا من عام 1906، وحملت مجموعتها عنوان «الفوضى البدائية». كانت الفنانة متكتمة في ما يتعلق بأعمالها التجريدية، ولم تُعرض أيّ منها في معارض عامة، وبقيت غير معروفة حتى أزيح عنها الستار مؤخرًا.
paragraph
Arabic
ar
الفنّ التجريدي: بين الماضي والحاضر - منصة معنى الثقافية
https://mana.net/abstract-art/
1,801
كانت الفنانة متكتمة في ما يتعلق بأعمالها التجريدية، ولم تُعرض أيّ منها في معارض عامة، وبقيت غير معروفة حتى أزيح عنها الستار مؤخرًا.
sentence
ولكن في الآونة الأخيرة، وبفضل المعرض الرائد في متحف مقاطعة لوس أنجلوس للفنون في عام 1986 الذي حمل اسم «الروحانية في الفن: الرسم التجريدي 1890 – 1985»، وقع الاختيار على هيلما أف كلينت كأول رسامة تجريدية. بدأت كلينت في رسم لوحات تجريدية بدءًا من عام 1906، وحملت مجموعتها عنوان «الفوضى البدائية». كانت الفنانة متكتمة في ما يتعلق بأعمالها التجريدية، ولم تُعرض أيّ منها في معارض عامة، وبقيت غير معروفة حتى أزيح عنها الستار مؤخرًا.
paragraph
Arabic
ar
الفنّ التجريدي: بين الماضي والحاضر - منصة معنى الثقافية
https://mana.net/abstract-art/
1,802
ولعل الجدال حول هوية أول من مارس الفن التجريدي سيستم، لكن الحقيقة الأكثر أهمية هي أن العديد من الفنانين الأوروبيين البارزين قد توصّلوا في أعمالهم إلى التجريد بحلول الحرب العالمية الأولى. لقد وجد كل منهم طريقته الخاصة في التخلي عن الفن التشخيصي (figurative painting). وجديرٌ بالذكر أنّه لم تكن هناك حركة «تجريدية» دولية ذات رؤية أو بيان مشترك.
paragraph
لا توجد منتجات في سلة المشتريات. No Result عرض جميع النتائج الثلاثاء, سبتمبر 10, 2024 No Result عرض جميع النتائج No Result عرض جميع النتائج # الفنّ التجريدي: بين الماضي والحاضر ## ترجمة: أنطونيوس نادر AA AA إعادة تعيين فنٌ مليء بالتحديات ثمّة خطٌ رفيع يفصل بين الفن التجريدي ومجرد الزخرفة، ولوحة «رقم 32» (نُشرت عام 1950)، لجاكسون بولوك تتأرجح بين هذا الخطّ. فهي لا تشير إلى معنىً واضح، ولكن لا يمكن القول إنّها بلا معنى على الإطلاق. كما أنّها ليست معبّرة بشكلٍ مباشر، ولا يعني هذا أنها لا تعبّر عن مدلولٍ ما. تحمل هذه اللوحة الكثير من المضامين عن الفن الغربي بالنسبة إلى شخصٍ خبيرٍ في تاريخ الفن؛ أما بالنسبة إلى شخصٍ عادي، فقد يراها عملًا مبتذلًا بالكاد يعبّر عن أمرٍ ما. اللوحة شبكة من الخطوط وبقعٍ من الألوان، رُسمت عن طريق صبّ طلاءٍ رخيص بعشوائيةٍ مباشرة على القماش. تتكون اللوحة من طلاءٍ أسود فقط وقماشٍ خام. واللوحة ضخمة؛ إذ يبلغ طولها تسعة أقدام وعرضها خمسة عشر قدمًا، وتغطي مجال رؤية المشاهد أثناء اقترابه منها. تقليديًّا، حتى اللوحات التجريدية تتكون من أجزاءٍ مترابطة مع بؤر تركيز (emphases) وعمقٍ يُنقل من خلال اللون والظلال، ولكن «رقم 32» ليس لها أجزاء؛ إنّها تتكون من تعالقات، والبؤرة فيها تكمن عبر امتداد سطح القماش المستطيل. يمنحها ما سبق عمقًا سطحيًا، وربما لا عمق فيها: مجرّد طلاء على قماش. إنّها عبث بالشكل واللون. حتى اسمها، ببساطة رقمٌ معيّن – رقم 32 – يجعلها تنأى بنفسها عن أي فكرة مفادها أنها تعكس مدلولًا محدّدًا. تشير عناوين أعمال بولوك الأخرى إلى نوعٍ من الاختبار الشخصي، وإلى الاستخدام السمفوني المتعدد الطبقات للون والملمس؛ خذ مثلًا لوحاته التي تحمل اسم: «إيقاع الخريف»، و«الضباب الأرجواني»، و«الأقطاب الزرقاء»، و«انعكاس الدنقلة الكبير». هذا لا ينطبق على لوحة «رقم 32»؛ شكلها الخام وبساطتها دليل على أنّ الفنان لم يخطط مسبقًا لرسمها؛ أيّ أنّه لم ينتق الألوان ولا الطبقات. يبدو بولوك هنا أكثر حضورًا، من خلال لمساته الحادة. بالنسبة إلى مؤيديّ عمل بولوك، تختصر هذه اللوحة خلاصة نظرة الفنان الجمالية. أما بالنسبة للبعض الآخر، فهي لوحة مبتذلة. وصف جوزيف بويس -النحات الألماني في فترة ما بعد الحرب- الفنَّ التجريدي الأمريكي بأنه مجرد «تغليف»، أيّ سطح بلا محتوى. في هذا الصدد، قد يتفق البعض أن لوحة «رقم 32» تجسد فراغ الفكر والشعور ذاك. فقد رأى الروائي والناقد الفني روبرت كوتس أن فن بولوك لم يكن سوى «انفجارات» غير منظمة من الطاقة العشوائية. غير أنّ طائفة كبيرة من متذوقي الفن التجريدي لا تروق إليهم أعمال بولوك ويرونها فنًّا محيرًا، حتى إنّ بعضهم يراها إهانةً للذوق أو الحسّ السليم. عُرف بولوك بلقب: «جاك فنان النقط» (Jack the Dripper) [1] في الأوساط الإعلامية المشككة بعمله حيث ادعى كثر أن أيّ شخص يمكنه أن يرسم كما يرسم بولوك إلّا أنّ أحدًا لم يتجرأ على فعل ذلك. «رقم 32» - جاكسون بولوك«رقم 32» – جاكسون بولوك بيد أنّ هذا هو مغزى الفن التجريدي في التقليد الغربي: إنّه تحدّ. وفي ظل الكثير هذه التحديات، تُعد لوحة « رقم 32» اللوحة الأكثر تمثيلًا لهذا الفن. قصة الفنّ التجريدي مسار قصة الفن التجريدي مضمّنة في الدراسات التاريخية الفنية، إلّا أنّ المحطات الرئيسة لهذا المسار كانت محط تغييرات مفاجئة كلما اكتشف مؤرخوّ الفن حقائق جديدة. انطلق مسار الفن التجريدي بدءًا من القرن التاسع عشر وما تلاه؛ حيث استفاد الفنانون من مادة الطلاء والجوانب الشكلية للرسم مثل اللون والدرجة والخطوط. يُعرف هذا الانشغال بالجوانب غير التمثيلية (non-representative) للفن باسم «الشكلانية»، لأنّه انشغال «بالشكل»، أيّ بتوسل شكل المحتوى بدلًا من المحتوى في ذاته. بالنسبة إلى الفنانين في القرن التاسع عشر، صُنّف الفن التجريدي على أنّه «فنٌّ من أجل الفنّ»، وكانت الفكرة الشائعة مفادها أنّ المتذوق للفن يمكنه الاستمتاع بالعمل دون اللجوء إلى معنى أو حتى أي شيء آخر يمثل أمرًا ما. تمثّل لوحة «الموسيقى الهادئة باللّونين الأسود والذهبي – الصاروخ الساقط» (1872)، للفنان جيمس مكنيل ويسلر هذا الاتجاه الذي تبلور لاحقًا في الفن التجريدي.  إنّ مشهد ويسلر الغامض من الناحية المكانيّة يقترب إلى التجريد، وذلك بمحاولته نقل الشعور أو الانطباع الخاص بالمشهد بدلًا من إعادة إنتاجه بحذافيره. «الموسيقى الهادئة باللونين الأسود والذهبي - الصاروخ الساقط» (1872-1877) - جيمس أبوت مكنيل ويسلير«الموسيقى الهادئة باللونين الأسود والذهبي – الصاروخ الساقط» (1872-1877) – جيمس أبوت مكنيل ويسلير في عام 1877، انتقد جون روسكين – أبرز نقّاد بريطانيا في ذلك الوقت – عمل ويسلير هذا نقدًا لاذعًا فشبهه «بمن قام برمي الطلاء في وجه الجمهور». تأثر ويسلر بهذا الكلام، فرفع دعوى قضائية ضد روسكين، بيد أنّه خسرها لأن المسؤولين عرضوا اللوحة -خطأً- مقلوبةً على المحكمة. أفلس ويسلير بسبب هذه القضية، لكن مسيرة تطور الفن التجريدي استمرت. من ناحيةٍ أخرى، تحديد أول فنان تجريدي في العالم موضوع نزاع. في نظر أبحاث تاريخ الفن التقليدية، كان فاسيلي كاندينسكي – فنان روسي الجنسية رسم لوحات تجريدية بالكامل في مطلع عام 1911- هو أول فنان تجريدي. لم ينل الفن التجريدي الرائد لهيلما أف كلينت تقديرًا إلا قبل سنوات قريبة. هذه صورة للمعرض الشهير في  متحف غاغينهايم، عام 2018 .لم ينل الفن التجريدي الرائد لهيلما أف كلينت تقديرًا إلا قبل سنوات قريبة. هذه صورة للمعرض الشهير في  متحف غاغينهايم، عام 2018 . ولكن في الآونة الأخيرة، وبفضل المعرض الرائد في متحف مقاطعة لوس أنجلوس للفنون في عام 1986 الذي حمل اسم «الروحانية في الفن: الرسم التجريدي 1890 – 1985»، وقع الاختيار على هيلما أف كلينت كأول رسامة تجريدية. بدأت كلينت في رسم لوحات تجريدية بدءًا من عام 1906، وحملت مجموعتها عنوان «الفوضى البدائية». كانت الفنانة متكتمة في ما يتعلق بأعمالها التجريدية، ولم تُعرض أيّ منها في معارض عامة، وبقيت غير معروفة حتى أزيح عنها الستار مؤخرًا. ولعل الجدال حول هوية أول من مارس الفن التجريدي سيستم، لكن الحقيقة الأكثر أهمية هي أن العديد من الفنانين الأوروبيين البارزين قد توصّلوا في أعمالهم إلى التجريد بحلول الحرب العالمية الأولى. لقد وجد كل منهم طريقته الخاصة في التخلي عن الفن التشخيصي (figurative painting). وجديرٌ بالذكر أنّه لم تكن هناك حركة «تجريدية» دولية ذات رؤية أو بيان مشترك. في ضوء ذلك، فإن السؤال الملحّ حقًا هو: لمَ لمْ يتبنى الفنانون الغربيون الفن التجريدي على امتداد قرون عديدة؟ لماذا كان التجريد غير ضروري أو لا معنى له أو غير مناسب أو حتى لا يمكن تقبّله لقرونٍ متوالية في الفن الغربي؟ ظهرت العديد من التفسيرات لشرح ذلك. إحدى النظريات الأكثر وضوحًا هي أن ظهور التصوير الفوتوغرافي بوصفه شكلًا من أشكال الفن، إضافةً إلى تطور الفن الحديث، سببان رئيسان لإزاحة الرسم التشخيصي. ثمّة إجابات أخرى غير ملموسة لاستكشاف الأسباب: ربما عندما أصبحت الأعمال الفنية قابلة للاستهالاك بشكل متزايد، مثل السلع، بات من السهولة فصل اللوحات والمنحوتات عن التجارب المحددة لمبدعيها. ربما أدت الحداثة في الغرب إلى إفراغ الفن من المحتوى التشخيصي؛ مما دفع الفنانين أيضًا إلى التخلي عن التمثيل التشخيصي. كل من هذه الإجابات معقدة وتتطلب الكثير من الشرح، ولا يمكن إلا أن تكون تخمينات. لا توجد إجابة واضحة لهذه المسألة. ربما يكون من الأفضل طرح السؤال حول سبب تقبّل الفن التجريدي فنًّا من الفنون الرسمية في تاريخ الفن الغربي في مرحلة معينة على علماء الأنثروبولوجيا بدلًا من طرحها على مؤرخي الفن. فما هو واضح أن الفن التجريدي كان موجودًا دائمًا في مناطق أخرى من العالم. ما جعل الفن التجريدي فنًّا حديثًا على وجه التحديد في العالم الغربي هو نظام المعارض، الذي أعطى القيمة الفنية للأعمال المعروضة. وكما هو واضح فقد ازدهر التجريد لآلاف السنين المناطق الشرقية والجنوبية من العالم، دون عناء التحقق من مكانة الأعمال المعروضة في الصالونات [والمعارض، كما هو في العالم الغربي]. الواقع الافتراضي و«الافتراضية» يتبنى بيبي كرمل وهو مؤرخ فني، في كتابه « الفن التجريدي: تاريخ عالمي»، فكرة أنّ الفن التجريدي كان دائمًا موجودًا بشكل طبيعي عندما ننظر إليه نظرة شاملة وعالمية، بيد أنّه يتحاشى طرح نظرية عن تطور الفن التجريدي. بالنسبة إلى كرمل، فإنّ هذا الفنّ متجذر في العالم الحقيقي، وهو ليس فنًّا «مجردًا» على الإطلاق، كما أنّه تقليد عالمي وليس محليًا. في دراسته حول الفن التجريدي يقسم العمل الفني إلى خمس فئات واسعة تنتمي إلى العالم الحقيقي: الأجسام، والمناظر الطبيعية، والكون، والبنى، والعلامات والأنماط. من خلال فحص الفن التجريدي بهذه الطريقة، يرى كرمل في اللوحات التجريدية موضوعات قابلة للتحليل، بعكس النقاد والمؤرخين الأرثوذكسيين الذين رأوا فيها مجرّد توليفات شكلية مكوّنة من لون وشكل. ربما يكون من الأفضل أن يطلق على الفن التجريدي: فن ما تم تجريده (abstracted art)؛ لأنّ الفنانين التجريديين عادةً ما يستخلصون ويجرّدون تعبيرات التجارب في شكل ولون،  أكثر من كونها توليفات مكونة من شكل ولون. ومرّد ذلك الطبيعة الجوهرية للرسم والنحت؛ فهما (الشكل اللّون) وسيطان للتعبير، مثل الشاشة أو المسرح لخيال الفنان. كما هو الحال في المسرح أو السينما، فإنّ جمهور اللوحة أو المنحوتة يعلّق معتقداته من أجل أن يتقبل المشهد. من المفيد التفكير في اللوحة التشخيصية التقليدية أو النحت على أنها حقيقة افتراضية. إذْ استخدم الفنانون لقرون عديدة الحيل البصرية -مثل المنظور الخطي، والتقصير المسبق، والتظليل- لمحاكاة الطريقة التي ندرك بها الأشياء في الفضاء الحقيقي. إنّ المشاهد تُنشأ في فضاء افتراضي – سواء كانت القاعدة التي تدعم التمثال أو القماش – ليراها المشاهدون بوصفها خدعة بصرية. «القديس بطرس شفاء أحد الأشخاص وبعث تابيثا من الموت» ماسولينو دي بانيكال. اعتمد الرسم الغربي قبل القرن العشرين على الحيل البصرية لخلق واقع افتراضي. إحدى هذه الحيل هي المنظور الخطي، وهذه اللوحة هي أول مثال لاستخدام نقطة تلاشٍ متسقة.«القديس بطرس شفاء أحد الأشخاص وبعث تابيثا من الموت» ماسولينو دي بانيكال. اعتمد الرسم الغربي قبل القرن العشرين على الحيل البصرية لخلق واقع افتراضي. إحدى هذه الحيل هي المنظور الخطي، وهذه اللوحة هي أول مثال لاستخدام نقطة تلاشٍ متسقة. يستمتع مشاهدوّ الأعمال الفنية العظيمة معنى ما يُرسم، ويقدرون الطريقة التي يتجلّى فيها الوهم عبر تمازج اللون والشكل. يبقى الفن التجريدي، إلى حدٍ ما، ضمن إطار التجربة الجمالية. فقد سعت حركات الفن الحديث التي أدت إلى التجريد -أيّ «مدارس الفن»، مثل الانطباعية والفاوفية والتكعيبية- إلى تمثيل العالم بشكل مختلف عن كل الفنون التي سبقتها. إذْ ادعوا الاقتراب من الحقيقة الذاتية عبر تهميش جميع الحيل الوهمية التقليدية التي حاولت إعادة إنتاج الواقع بحذافيره كحقيقة موضوعية. «الأحمر والأصفر والأزرق» (1925) واسيلي كاندينسكي.  كان كاندينسكي يعدّ لفترةٍ طويلة أب الرسم التجريدي الغربي.«الأحمر والأصفر والأزرق» (1925) واسيلي كاندينسكي.  كان كاندينسكي يعدّ لفترةٍ طويلة أب الرسم التجريدي الغربي. بالنسبة إلى هذه المدارس، أصبح الفن أقل من أن يوصف بأنّه واقع افتراضي، لكنه مع ذلك احتفظ بالافتراضية، وأصبح افتراضيًا. لقد أخذ الفن التجريدي مسار التطور هذا إلى أقصاه: من الواقع الافتراضي إلى الافتراضية. ماذا تعني «الافتراضية» هنا؟ إنّها الوجود كجوهر وتأثير، ولكن بدون اللجوء إلى الواقع. اللوحة التجريدية التي رسمها كاندينسكي، على سبيل المثال، ما زالت تُعدّ علاقة متبادلة بين الشكل واللون، و تعتمد على الرسم كمستوى تخطيطي: إنها نافذة تطلّ على «الواقع» الفردي الذي تصوّره كاندينسكي. وما تزال العناصر في لوحات كاندينسكي تحظى بعلاقة متبادلة، كما هو الحال في فضاء الواقع الافتراضي للوحة التشخيصية؛ فجوهر الرسم سليم إذ إنّ ذلك الفضاء الافتراضي ما زال موجودًا. عندما يكون الفن التجريدي بناءً خالصًا، ويتخلص من المساحة الافتراضية الملازمة للرسم والنحت، يصبح متميزًا عنهما. وصف دونالد جود الفنان التخفيفي (minimalist) مثل هذه الأعمال الفنية بأنها «أجسام محدّدة» (Specific Objects). إنّه مصطلح غير دقيق، ولكنه يصلح لإظهار أن مثل هذه الأعمال الفنية ليست رسمًا ولا نحتًا، ولكنها فئة أخرى تمامًا. رأى دونالد جود أن أعماله وأعمال العديد من معاصريه تشغل مساحة هجينة، لا هي لوحات ولا هي نحت. عمل دون عنوان لدونالد جود. استخدم جود هذا المصطلح لوصف أعماله الخاصة، ولكنه ينطبق على لوحات كازيمير ماليفيتش وفرانك ستيلا أحادية اللون، والتي تجعل اللوحة تندمج مع نفسها بالكامل، من أجل الوصول للتأثير الذي يأمل العمل في تحقيقه. في مثل هذه الأعمال، لم يعد قماش اللّوحة (أو القاعدة) سطحًا تتفاعل فيه الأشكال والألوان في الفضاء الافتراضي. بدلاً من ذلك، تتفاعل الأشكال والألوان في الفضاء الحقيقي، في فضائنا. تختلف معايير النجاح أو الفشل لهذه الأعمال عن الخصائص التقليدية للرسم والنحت. رأى جود أنّ خصائص الرسم والنحت تقف في طريق ما أراد تحقيقه من خلال اللون والشكل. في رأيه، كان لـ «أجسامه المحددة» تأثيرًا أحدّ من غيرها. الواقع والأشكال الجديدة للإدراك الحسّي الرسم نفسه له ثلاثة أنواع عامة من التجريد؛ أولًا، ثمّة أسلوب تعبيري تُرسم فيه الأشكال بحركاتٍ غير مقيدة؛ ثم هناك التجريد الهندسي حيث يتم هيكلة الأشكال؛ أما النوع الثالث، فهو تجريد مجال اللون حيث يتم عرض مساحات من الألوان بطريقةٍ لا شكل واضح لها. لم تكن هذه «الأنماط» (styles) أنماطًا عرضيةً أو تعتمد على ذوق أو ميل الرسام كوسيلة لتحقيق هدفٍ ما من البحث الفني. وخير مثال على ذلك هو الفنان الذي غالبًا ما ينظر إلى عمله على أنّه ذروة التجريد الهندسي: بيت موندريان. إنّ لوحات بيت موندريان المكونة من شبكات (grids) ذات الخطوط السوداء والأجزاء الملونة على خلفية بيضاء؛ تهدف إلى استحضار «حقيقة أعلى». بالنسبة إلى موندريان، كان الفن في جوهره معارضًا للواقع؛ «لأن الواقع يتعارض مع الروحي». بغض النظر عن هذه اللوحة الأشهر لموندريان، فإنّ جوانب الرسم التي تهم هذا الفنان حقًا لم تكن الجوانب المحددة للموضوع -أيّ ماذا أو ما يتم تصويره في اللوحة مثلًا- بل الجوانب القابلة للفهم عالميًا للشكل والخط واللون. إنّ لوحات موندريان، مثلها مثل لوحات الفنانين الآخرين، هي محاولة لاستخلاص الشكل واللون من أجل الاقتراب من ذلك الجوهر العالمي والروحي للفن. عبّر موندريان عن رغبته في الوصول إلى «أساس» الأشياء من خلال الحدس، كالعديد من الفنانين التجريديين الآخرين في النصف الأول من القرن العشرين الذين رغبوا في الوصول إلى قوى غير مرئية حولنا، ولكنها معروفة أو محدوسة. «التكوين الثاني باللون الأحمر والأزرق والأصفر» (1930) - بيت موندريان«التكوين الثاني باللون الأحمر والأزرق والأصفر» (1930) – بيت موندريان في أواخر القرن التاسع عشر، لاحظ العلماء بشكلٍ أفضل مما سبق القوى غير المرئية مع انتشار التقنيات الجديدة، وأصبح من الواضح أن العالم أرحب مما يبدو للعين. في الوقت نفسه، ظهرت حركات روحية بديلة جمعت بين الأفكار الأفلاطونية والتصوف. كان كلينت وموندريان من بين العديد من الفنانين الذين انغمسوا في أشكال الروحانية خارج العوالم التقليدية للدين. اعتقدت كلينت أن لوحاتها هي وحي عالم روحي، وأن مهمتها كانت العمل «على مستوى روحاني» لتمثيل روح الإنسان، بدلًا من صورته الفانية. بحلول عشرينيات القرن الماضي، كانت نظرية فرويد عن للعقل البشري قد تغلغلت أيضًا في عالم الفن.  كذلك السريالية، وهي حركة منظمة بإحكام بدأت مع بعض الفنانين الذين سعوا إلى التنقيب عن الإمكانات الإبداعية للعقل الباطن، وهي الحركة الثقافية التي كانت سائدة في أوروبا بين الحربين العالميتين. لم تكن السريالية دوغمائية في محاولتها لاستكشاف اللاوعي، ولذلك ظهر عدد من الأساليب والطرق لمحاولة إخراج اللاوعي إلى السطح. إحدى هذه الأساليب كان الرسم الآلي (Automatism)، وهي عملية يتخلى فيها الفنان عن السيطرة الواعية لليد التي ترسم  أو تصور. في هذا المجال، تبنى الفنانون مثل أندريه ماسون وخوان ميرو الفرصة لبناء صورهم باستخدام حركات حرّة، وحتى إلقاء الطلاء على القماش. طور أرشيل غوركي -هو مهاجر أرمني عاش في الولايات المتحدة- أسلوبًا في الرسم يدمج بين الرسم الآلي وتجريد مجال الألوان. لوحاته في الأربعينيات حجمُها ضخم – ومرد ذلك تأثره بأعماله السابقة كفنان جداري مُعيّن من الدولة خلال السنوات الأخيرة من الكساد الكبير – لكنها معبّرة وغنائية في الرسم بالفرشاة. ألهم إدماج غوركي للأنماط جيلًا واسعًا من الفنانين الأمريكيين في فترة ما بعد الحرب لاحتضان التجريد الواسع النطاق. ما نسميه الآن «التعبيرية التجريدية»، وكان ذاك الجيل في الواقع مجموعة فضفاضة من الفنانين الذين يستخدمون أنماطًا متعدّدة من أنماط التجريد. ربما كان القاسم المشترك بين هؤلاء الفنانين – على الأقل في السنوات الأولى – هو دعم جيل جديد من النقاد بقيادة كليمنت غرينبيرغ، الذي كان يعتقد أن التجريد هو التعبير الأسمى للفن الغربي. «الكبد هو مشط الديك» (1944) - أرشيل جوركي.«الكبد هو مشط الديك» (1944) – أرشيل جوركي. الحداثة ومصير الفنّ الغربي كان يُعتقد في بعض الأوساط الفكرية المؤثرة أنّ الفن يتقدم نحو هدف؛ وهذا المضمون يشتمل عليه مصطلح «الطليعية» (Avant-garde)، الذي يُوصف به الفنّانون الذين يبتكرون أرضية جمالية جديدة. أصل المصطلح فرنسي يُطلق على الجنود الذين يتقدمون إلى مناطق جديدة. بالنسبة إلى غرينبيرغ، لم يكن هؤلاء الفنّانون يوسّعون حدود إمكانات الفن؛ بل كانوا يتقدمون نحو الهدف الحقيقي والمفرد لكل شكل فني. يُعدّ غرينبيرغ شخصية مهمة في تاريخ الفن التجريدي، وذلك لأمرين: بوصفه مناصرًا رائدًا في مسألة تفوق الفن التجريدي على غيره من أنواع الرسم، وتأكيده للقوة التي امتلكها هذا الفن. كان ناقدًا في اللجنة الأمريكية للحريّة الثقافية التي تمولها الدولة، وهي مجموعة تم إنشاؤها لتعزيز الفن الأمريكي على المستوى الدولي. أصبحت أفكار غرينبيرغ مؤثرة عندما كانت الولايات المتحدة جزءًا من الحرب على الفاشية والنازية، وخلال الحرب الباردة اللاحقة ضد الشيوعية السوفيتية. كانت معايير الفن الفاشي والسوفياتي واضحة، وهي ما تحددها السلطات الثقافية أنها كذلك، بيد أنّه ما لم يكن واضحًا هو معايير الفن «الجيد» وتحديدًا في الغرب الديمقراطي. كان الماركسيون هم من تعاطف مع غرينبيرغ في البداية، لكن ارتبط تفكيره بشكلٍ متزايد بالهيمنة الثقافية الأمريكية. بالنسبة إليه، كان التجريد في أعمال بولوك فنًا مثاليًا لمجتمع ديمقراطي. تتجلى الحداثة في الفن، وفقًا لغرينبيرغ، في إطار التنوير الأوروبي؛ أيّ في فترة ازدهار الأفكار الفلسفية والعلمية التي أعطت الأولوية للعقل. في مقالته المؤثرة « الرسم الحداثي» (1961)، وصفَ غرينبيرغ إيمانويل كانط – الفيلسوف الألماني في عصر التنوير – بأنّه «أول حداثي حقيقي». كان أسلوب كانط في «النقد» هو استخدام العقل لنقد العقل بغرض توضيحه، ومنحه استقلالية عن أنواع التفكير الأخرى. «أولمبيا» - إدوارد مانيه (1863). بالنسبة إلى كليمنت غرينبيرغ، كان مانيه أول رسام حداثي. لقد رسم مانيه لوحاته بأسلوبٍ مسطّح بشكلٍ متعمد.«أولمبيا» – إدوارد مانيه (1863). بالنسبة إلى كليمنت غرينبيرغ، كان مانيه أول رسام حداثي. لقد رسم مانيه لوحاته بأسلوبٍ مسطّح بشكلٍ متعمد. بالطريقة نفسها، كان الرسامون الحداثيون – من إدوارد مانيه في القرن التاسع عشر إلى موريس لويس، وهو رسام يعمل ينتمي إلى رسامي أسلوب مجال ألوان في الولايات المتحدة في الوقت الذي كتب فيه غرينبيرغ مقالته – يعملون على ترسيخ الفن التعبيري «بشكل صارم في مجال تخصصه». رأى غرينبيرغ أن وضوح الفن التجريدي -الذي كان صادقًا بالنسبة إلى الوسيط الذي يُعبّر من خلاله- معارضٌ لـ«الفن الشعبي المبتذل [الكيتش]» الذي ينُتج على نطاق واسع في الثقافة الشعبية. إن إزالة «الكيتش» كانت مسألة استجلاء وتوضيح تحتاجها جميع الفنون لكي تصبح تعبيرًا عن إمكاناتها الجمالية الكامنة. اللوحات مسطّحة، وإيهام العمق الذي نجده في معظم الفن الغربي كان انحرافًا عن جوهر فن الرسم ذاته. كانت استقلالية الشكل الفني في جميع خصائصه دون أن تتلوث بأشكال فنية أخرى. وفقًا لغرينبيرغ، يعدّ الشكل واللون من أهم خصائص الرسم، و أفضل تمثيل لها يكون بشكلٍ مسطّح. وهكذا دافع غرينبيرغ عن «التسطيح» الذي تجلّى في لوحات الفنانين الأمريكيين التجريدية مثل جاكسون بولوك باعتباره تحقيقًا لهذا الوضوح الحداثي. لقد ضم هؤلاء الفنانين معًا ضمن فريق واحد، وهم يمثّلون المرحلة التالية في الحداثة، وقد حلّت رؤيتهم الأمريكية المميزة محلّ الفن الأوروبي الطليعي. وفي الوقت الذي أصبح فيه الفن التجريدي الأمريكي مهيمنًا، تراجعت هيمنة غرينبيرغ النقدية، وظهرت أشكال جديدة من الفن الطليعي، مستوحاة مباشرة من الثقافة الجماهيرية، وحلّت محلّ التعبيرية التجريدية في المخيال العام. تبنى فنانوّ «البوب» مثل: آندي وارهول، وريتشارد هاميلتون هذا النوع من «الفن الشعبي المبتذل» الذي رآه غرينبيرغ تلويثًا للفن الحقيقي. استمرت الأعمال الفنية التجريدية، ولكن تخلّى الفنّانون التجريديون الأكثر جرأة عن الفكرة الصارمة «للنقد الحداثي»، وعن الوضوح المتعلق بخصوصية الوسيط الفني، وذلك لصالح أشكال أخرى من التعبير. نظر فنانوّ «ما بعد الحداثة» إلى السخرية وعملية الرسم نفسها، كطرق لتجاوز الطريق المسدود للحداثة. تبنى الألماني غيرهارد ريختر كلا النهجين؛ فبعض أعماله التجريدية في الستينيات كانت مصنوعة بممسحاتٍ بدلًا من الفرشاة، حتى يتمكن من لفت الانتباه إلى عملية صنع اللوحة نفسها. كانت «اللوحات التجريدية» البارزة الأخرى التي رسمها ريختر في الواقع صورًا واقعية مرسومة بعناية تعكس لوحاته التجريدية الأخرى. أصبحت طلائعية الرسم التجريدي مفهومية أكثر، ما جعل ضمنيًّا قضية الرسم تحظى باستقلالية أقل مما كان كان يعتقد النقاد الحداثيون. قلّد فنانوّ «نيو جيو»، مثل: الرسام بيتر هالي، والنحات أشلي بيكرتون اللغة البصرية للتجريد الهندسي، لكنهما دمجاها مع السلع الاستهلاكية بألوانٍ تجارية فاتحة وأحيانًا فلورية. منذ ذلك الجيل ما بعد الحداثي من الرسامين والنحاتين الممتد من الستينيات إلى التسعينيات، ازدهر التجريد متفرّعًا إلى عددٍ لا يُحصى من الأساليب والمقاربات بجوار الفن التشخيصي. هنا يمكن القول إنّ التجريد المتحرّر من عبء التوقعات الحداثية هو ببساطة نهج للتعبير مثل أيّ نهج آخر. وتجدر الإشارة إلى أنّ بعض الفنانين التجريديين استخدموا الحيل البصرية المستعملة في الفن التشخيصي – مثل المنظور والتظليل – في لوحاتهم. ولاستخدامهم هذا أهداف فريدة و غالبًا لا تهتم بالنظرية. قلّد فنانوّ «ما بعد الحداثة» مثل: بيتر هالي اللغة البصرية المستعملة في الفن التجريدي الحديث (في حالة بيتر، التجريد الهندسي)، للتعليق على طبيعة الفن والمعنى نفسه. تمثّل هذه الكتل الملونة «الخلايا» و«الأنابيب».قلّد فنانوّ «ما بعد الحداثة» مثل: بيتر هالي اللغة البصرية المستعملة في الفن التجريدي الحديث (في حالة بيتر، التجريد الهندسي)، للتعليق على طبيعة الفن والمعنى نفسه. تمثّل هذه الكتل الملونة «الخلايا» و«الأنابيب». هذا هو التحرّر نحو الأفضل بين الرسامين التجريديين الذين يمكنهم الالتزام برؤيةٍ فريدة بالرسم على القماش. لكن فكّ ارتباط الفن التجريدي عن إطاره الفلسفي الأوسع أدى أيضًا إلى انتشارٍ يثير التساؤل لأعمال تجريدية متنوعة قابلة للاستهلاك – بمعنى أنّها فقدت قيمتها، وباتت تُباع وتُشترى سريعًا بأسعارٍ مربحة – يشتريها المشترون المتضاربون. دفع هذا التحول الناقد جيري سالتز إلى كتابة: « الزومبي على الجدران: لماذا يبدو الكثير من التجريد الجديد متشابهًا؟». وقد شبه اللّوحات التجريدية بصورة «الزومبي»، تحقيرًا لأعمال عددٍ من الرسامين التجريديين البارزين، الذين استخدموا الفنّ وجماليته لتقديم أعمال مبتذلة. ومن المفارقات أن هؤلاء الفنانين نظروا إلى الشكلانية بوصفها فنًّا حداثيًّا متبنّين منظور غرينبيرغ، لكنهم بالطبع قدّموا أعمالًا في ظلّ فراغ تاريخي وبعد فترةٍ طويلة حين لم يُصبح التجريد مثيرًا للاهتمام أو راديكاليًا بأي وجه من الوجوه. في الواقع، لم يصل مشروع الحداثة  في الفن التجريدي إلى نهايته، بل النقد. إنّ النقد -أيّ الإطار الفلسفي الواسع الذي يصادق على الأعمال الفنية ويثمّنها لأهميتها الثقافية والتاريخية- هو ما فقد التوجه والسلطة. كان مسار الفن الغربي منذ عصر التنوير يتأرجح بين قطبي الدوغمائية النقدية والإبداع. تكمن المشكلة أنه في العقود الأخيرة، وفي ظلّ غياب أي مشروع نقدي متماسك، انجرف الفن نحو إرضاء اهتمامات دقيقة ومتنوعة تزداد باستمرار. في حين كانت هناك «حركات» و«مدارس» فنية -مصطلحان يشيران إلى الوجهة والانضباط- لم يعد لدينا الآن سوى «مشاهد». هذا ليس بالضرورة أمرًا سيئًا. ولكن في عالم حيث «كل شيء مقبول – anything goes»، لا يوجد مجال لهذا النوع من الابتكار والتجاوز الذي أدى إلى ظهور الفن التجريدي في الغرب، وهذا ما جعل الفن الحديث فنًّا مثيرًا للغاية. من الصعب في هذه اللحظة التاريخية أن ندرك ما الذي جعل لوحة بولوك «رقم 32» مثيرة للانقسام، ومخلخلةً جدًا للمعايير، وفي الوقت نفسه محتفظةً بقيمةٍ عالية جدًا لأولئك الذين يعتقدون أن للفنِّ مكانًا في المجتمع يتجاوز المتعة. [divider style=”solid” top=”20″ bottom=”20″] [1] واللقب كذلك يُلمح إلى القاتل المتسلسل في لندن آخر القرن التاسع عشر: جاك السفّاح Jack the ripper (مدير التحرير). ### خارج عقلك | توم تشاتفيلد – ت: محمد السعيد                  عندما يكون هاتفي النقال بين يديّ، هل أكون أنا الشخص نفسه لو كان الهاتف في غرفة أخرى؟ من ناحية،... ### الدراما في التعليم: مقاربات وتطبيقات | نعيم حيماد افتتاحيّة حظي استخدام الدراما في التعليمفي السنوات الأخيرة باهتمام كبير من قبل نخبة من المنظرين والممارسين للدراما في مجال التعليم.... ### الحقائق المخفية | دي بي سي بيير – ت: محمد السعيد       يحمل جبل كلسي خشن في غرب إيران عددًا من النقوش البارزة، من بينها لوحة طولها خمسة وعشرين مترًا منقوشة... ### التغلُّب على كاشف الكذب | كلاريسا سيباغ-مونتِنفيوري – ت: محمد السعيد          حين  اتُّهِمَتْ مربية الأطفال البريطانية لويز وودورد بهزِّ رضيع حتى الموت في مدينة نيوتن بولاية ماساتشوستس، لم تكتفِ بإعلان... ### عن منصة معنى «معنى»، مؤسسة ثقافية تقدّمية ودار نشر تهتم بالفلسفة والمعرفة والفنون، عبر مجموعة متنوعة من المواد المقروءة والمسموعة والمرئية. انطلقت في 20 مارس 2019، بهدف إثراء المحتوى العربي، ورفع ذائقة ووعي المتلقّي المحلي والدولي، عبر الإنتاج الأصيل للمنصة والترجمة ونقل المعارف. ### روابط سريعة ### التصنيفات ### مرحبا بك! قم بتسجيل الدخول إلى حسابك تذكرني ### قم بإنشاء حساب جديد! املأ النموذج أدناه للتسجيل ### طلب إعادة تعيين كلمة المرور يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان البريد الإلكتروني لإعادة تعيين كلمة المرور الخاصة بك. ### Add New Playlist - Select Visibility -PublicPrivate No Result عرض جميع النتائج - 00:00 00:00 - 00:00 00:00
article
Arabic
ar
الفنّ التجريدي: بين الماضي والحاضر - منصة معنى الثقافية
https://mana.net/abstract-art/
1,803
ولعل الجدال حول هوية أول من مارس الفن التجريدي سيستم، لكن الحقيقة الأكثر أهمية هي أن العديد من الفنانين الأوروبيين البارزين قد توصّلوا في أعمالهم إلى التجريد بحلول الحرب العالمية الأولى.
sentence
ولعل الجدال حول هوية أول من مارس الفن التجريدي سيستم، لكن الحقيقة الأكثر أهمية هي أن العديد من الفنانين الأوروبيين البارزين قد توصّلوا في أعمالهم إلى التجريد بحلول الحرب العالمية الأولى. لقد وجد كل منهم طريقته الخاصة في التخلي عن الفن التشخيصي (figurative painting). وجديرٌ بالذكر أنّه لم تكن هناك حركة «تجريدية» دولية ذات رؤية أو بيان مشترك.
paragraph
Arabic
ar
الفنّ التجريدي: بين الماضي والحاضر - منصة معنى الثقافية
https://mana.net/abstract-art/
1,804
لقد وجد كل منهم طريقته الخاصة في التخلي عن الفن التشخيصي (figurative painting).
sentence
ولعل الجدال حول هوية أول من مارس الفن التجريدي سيستم، لكن الحقيقة الأكثر أهمية هي أن العديد من الفنانين الأوروبيين البارزين قد توصّلوا في أعمالهم إلى التجريد بحلول الحرب العالمية الأولى. لقد وجد كل منهم طريقته الخاصة في التخلي عن الفن التشخيصي (figurative painting). وجديرٌ بالذكر أنّه لم تكن هناك حركة «تجريدية» دولية ذات رؤية أو بيان مشترك.
paragraph
Arabic
ar
الفنّ التجريدي: بين الماضي والحاضر - منصة معنى الثقافية
https://mana.net/abstract-art/
1,805
وجديرٌ بالذكر أنّه لم تكن هناك حركة «تجريدية» دولية ذات رؤية أو بيان مشترك.
sentence
ولعل الجدال حول هوية أول من مارس الفن التجريدي سيستم، لكن الحقيقة الأكثر أهمية هي أن العديد من الفنانين الأوروبيين البارزين قد توصّلوا في أعمالهم إلى التجريد بحلول الحرب العالمية الأولى. لقد وجد كل منهم طريقته الخاصة في التخلي عن الفن التشخيصي (figurative painting). وجديرٌ بالذكر أنّه لم تكن هناك حركة «تجريدية» دولية ذات رؤية أو بيان مشترك.
paragraph
Arabic
ar
الفنّ التجريدي: بين الماضي والحاضر - منصة معنى الثقافية
https://mana.net/abstract-art/
1,806
في ضوء ذلك، فإن السؤال الملحّ حقًا هو: لمَ لمْ يتبنى الفنانون الغربيون الفن التجريدي على امتداد قرون عديدة؟ لماذا كان التجريد غير ضروري أو لا معنى له أو غير مناسب أو حتى لا يمكن تقبّله لقرونٍ متوالية في الفن الغربي؟
paragraph
لا توجد منتجات في سلة المشتريات. No Result عرض جميع النتائج الثلاثاء, سبتمبر 10, 2024 No Result عرض جميع النتائج No Result عرض جميع النتائج # الفنّ التجريدي: بين الماضي والحاضر ## ترجمة: أنطونيوس نادر AA AA إعادة تعيين فنٌ مليء بالتحديات ثمّة خطٌ رفيع يفصل بين الفن التجريدي ومجرد الزخرفة، ولوحة «رقم 32» (نُشرت عام 1950)، لجاكسون بولوك تتأرجح بين هذا الخطّ. فهي لا تشير إلى معنىً واضح، ولكن لا يمكن القول إنّها بلا معنى على الإطلاق. كما أنّها ليست معبّرة بشكلٍ مباشر، ولا يعني هذا أنها لا تعبّر عن مدلولٍ ما. تحمل هذه اللوحة الكثير من المضامين عن الفن الغربي بالنسبة إلى شخصٍ خبيرٍ في تاريخ الفن؛ أما بالنسبة إلى شخصٍ عادي، فقد يراها عملًا مبتذلًا بالكاد يعبّر عن أمرٍ ما. اللوحة شبكة من الخطوط وبقعٍ من الألوان، رُسمت عن طريق صبّ طلاءٍ رخيص بعشوائيةٍ مباشرة على القماش. تتكون اللوحة من طلاءٍ أسود فقط وقماشٍ خام. واللوحة ضخمة؛ إذ يبلغ طولها تسعة أقدام وعرضها خمسة عشر قدمًا، وتغطي مجال رؤية المشاهد أثناء اقترابه منها. تقليديًّا، حتى اللوحات التجريدية تتكون من أجزاءٍ مترابطة مع بؤر تركيز (emphases) وعمقٍ يُنقل من خلال اللون والظلال، ولكن «رقم 32» ليس لها أجزاء؛ إنّها تتكون من تعالقات، والبؤرة فيها تكمن عبر امتداد سطح القماش المستطيل. يمنحها ما سبق عمقًا سطحيًا، وربما لا عمق فيها: مجرّد طلاء على قماش. إنّها عبث بالشكل واللون. حتى اسمها، ببساطة رقمٌ معيّن – رقم 32 – يجعلها تنأى بنفسها عن أي فكرة مفادها أنها تعكس مدلولًا محدّدًا. تشير عناوين أعمال بولوك الأخرى إلى نوعٍ من الاختبار الشخصي، وإلى الاستخدام السمفوني المتعدد الطبقات للون والملمس؛ خذ مثلًا لوحاته التي تحمل اسم: «إيقاع الخريف»، و«الضباب الأرجواني»، و«الأقطاب الزرقاء»، و«انعكاس الدنقلة الكبير». هذا لا ينطبق على لوحة «رقم 32»؛ شكلها الخام وبساطتها دليل على أنّ الفنان لم يخطط مسبقًا لرسمها؛ أيّ أنّه لم ينتق الألوان ولا الطبقات. يبدو بولوك هنا أكثر حضورًا، من خلال لمساته الحادة. بالنسبة إلى مؤيديّ عمل بولوك، تختصر هذه اللوحة خلاصة نظرة الفنان الجمالية. أما بالنسبة للبعض الآخر، فهي لوحة مبتذلة. وصف جوزيف بويس -النحات الألماني في فترة ما بعد الحرب- الفنَّ التجريدي الأمريكي بأنه مجرد «تغليف»، أيّ سطح بلا محتوى. في هذا الصدد، قد يتفق البعض أن لوحة «رقم 32» تجسد فراغ الفكر والشعور ذاك. فقد رأى الروائي والناقد الفني روبرت كوتس أن فن بولوك لم يكن سوى «انفجارات» غير منظمة من الطاقة العشوائية. غير أنّ طائفة كبيرة من متذوقي الفن التجريدي لا تروق إليهم أعمال بولوك ويرونها فنًّا محيرًا، حتى إنّ بعضهم يراها إهانةً للذوق أو الحسّ السليم. عُرف بولوك بلقب: «جاك فنان النقط» (Jack the Dripper) [1] في الأوساط الإعلامية المشككة بعمله حيث ادعى كثر أن أيّ شخص يمكنه أن يرسم كما يرسم بولوك إلّا أنّ أحدًا لم يتجرأ على فعل ذلك. «رقم 32» - جاكسون بولوك«رقم 32» – جاكسون بولوك بيد أنّ هذا هو مغزى الفن التجريدي في التقليد الغربي: إنّه تحدّ. وفي ظل الكثير هذه التحديات، تُعد لوحة « رقم 32» اللوحة الأكثر تمثيلًا لهذا الفن. قصة الفنّ التجريدي مسار قصة الفن التجريدي مضمّنة في الدراسات التاريخية الفنية، إلّا أنّ المحطات الرئيسة لهذا المسار كانت محط تغييرات مفاجئة كلما اكتشف مؤرخوّ الفن حقائق جديدة. انطلق مسار الفن التجريدي بدءًا من القرن التاسع عشر وما تلاه؛ حيث استفاد الفنانون من مادة الطلاء والجوانب الشكلية للرسم مثل اللون والدرجة والخطوط. يُعرف هذا الانشغال بالجوانب غير التمثيلية (non-representative) للفن باسم «الشكلانية»، لأنّه انشغال «بالشكل»، أيّ بتوسل شكل المحتوى بدلًا من المحتوى في ذاته. بالنسبة إلى الفنانين في القرن التاسع عشر، صُنّف الفن التجريدي على أنّه «فنٌّ من أجل الفنّ»، وكانت الفكرة الشائعة مفادها أنّ المتذوق للفن يمكنه الاستمتاع بالعمل دون اللجوء إلى معنى أو حتى أي شيء آخر يمثل أمرًا ما. تمثّل لوحة «الموسيقى الهادئة باللّونين الأسود والذهبي – الصاروخ الساقط» (1872)، للفنان جيمس مكنيل ويسلر هذا الاتجاه الذي تبلور لاحقًا في الفن التجريدي.  إنّ مشهد ويسلر الغامض من الناحية المكانيّة يقترب إلى التجريد، وذلك بمحاولته نقل الشعور أو الانطباع الخاص بالمشهد بدلًا من إعادة إنتاجه بحذافيره. «الموسيقى الهادئة باللونين الأسود والذهبي - الصاروخ الساقط» (1872-1877) - جيمس أبوت مكنيل ويسلير«الموسيقى الهادئة باللونين الأسود والذهبي – الصاروخ الساقط» (1872-1877) – جيمس أبوت مكنيل ويسلير في عام 1877، انتقد جون روسكين – أبرز نقّاد بريطانيا في ذلك الوقت – عمل ويسلير هذا نقدًا لاذعًا فشبهه «بمن قام برمي الطلاء في وجه الجمهور». تأثر ويسلر بهذا الكلام، فرفع دعوى قضائية ضد روسكين، بيد أنّه خسرها لأن المسؤولين عرضوا اللوحة -خطأً- مقلوبةً على المحكمة. أفلس ويسلير بسبب هذه القضية، لكن مسيرة تطور الفن التجريدي استمرت. من ناحيةٍ أخرى، تحديد أول فنان تجريدي في العالم موضوع نزاع. في نظر أبحاث تاريخ الفن التقليدية، كان فاسيلي كاندينسكي – فنان روسي الجنسية رسم لوحات تجريدية بالكامل في مطلع عام 1911- هو أول فنان تجريدي. لم ينل الفن التجريدي الرائد لهيلما أف كلينت تقديرًا إلا قبل سنوات قريبة. هذه صورة للمعرض الشهير في  متحف غاغينهايم، عام 2018 .لم ينل الفن التجريدي الرائد لهيلما أف كلينت تقديرًا إلا قبل سنوات قريبة. هذه صورة للمعرض الشهير في  متحف غاغينهايم، عام 2018 . ولكن في الآونة الأخيرة، وبفضل المعرض الرائد في متحف مقاطعة لوس أنجلوس للفنون في عام 1986 الذي حمل اسم «الروحانية في الفن: الرسم التجريدي 1890 – 1985»، وقع الاختيار على هيلما أف كلينت كأول رسامة تجريدية. بدأت كلينت في رسم لوحات تجريدية بدءًا من عام 1906، وحملت مجموعتها عنوان «الفوضى البدائية». كانت الفنانة متكتمة في ما يتعلق بأعمالها التجريدية، ولم تُعرض أيّ منها في معارض عامة، وبقيت غير معروفة حتى أزيح عنها الستار مؤخرًا. ولعل الجدال حول هوية أول من مارس الفن التجريدي سيستم، لكن الحقيقة الأكثر أهمية هي أن العديد من الفنانين الأوروبيين البارزين قد توصّلوا في أعمالهم إلى التجريد بحلول الحرب العالمية الأولى. لقد وجد كل منهم طريقته الخاصة في التخلي عن الفن التشخيصي (figurative painting). وجديرٌ بالذكر أنّه لم تكن هناك حركة «تجريدية» دولية ذات رؤية أو بيان مشترك. في ضوء ذلك، فإن السؤال الملحّ حقًا هو: لمَ لمْ يتبنى الفنانون الغربيون الفن التجريدي على امتداد قرون عديدة؟ لماذا كان التجريد غير ضروري أو لا معنى له أو غير مناسب أو حتى لا يمكن تقبّله لقرونٍ متوالية في الفن الغربي؟ ظهرت العديد من التفسيرات لشرح ذلك. إحدى النظريات الأكثر وضوحًا هي أن ظهور التصوير الفوتوغرافي بوصفه شكلًا من أشكال الفن، إضافةً إلى تطور الفن الحديث، سببان رئيسان لإزاحة الرسم التشخيصي. ثمّة إجابات أخرى غير ملموسة لاستكشاف الأسباب: ربما عندما أصبحت الأعمال الفنية قابلة للاستهالاك بشكل متزايد، مثل السلع، بات من السهولة فصل اللوحات والمنحوتات عن التجارب المحددة لمبدعيها. ربما أدت الحداثة في الغرب إلى إفراغ الفن من المحتوى التشخيصي؛ مما دفع الفنانين أيضًا إلى التخلي عن التمثيل التشخيصي. كل من هذه الإجابات معقدة وتتطلب الكثير من الشرح، ولا يمكن إلا أن تكون تخمينات. لا توجد إجابة واضحة لهذه المسألة. ربما يكون من الأفضل طرح السؤال حول سبب تقبّل الفن التجريدي فنًّا من الفنون الرسمية في تاريخ الفن الغربي في مرحلة معينة على علماء الأنثروبولوجيا بدلًا من طرحها على مؤرخي الفن. فما هو واضح أن الفن التجريدي كان موجودًا دائمًا في مناطق أخرى من العالم. ما جعل الفن التجريدي فنًّا حديثًا على وجه التحديد في العالم الغربي هو نظام المعارض، الذي أعطى القيمة الفنية للأعمال المعروضة. وكما هو واضح فقد ازدهر التجريد لآلاف السنين المناطق الشرقية والجنوبية من العالم، دون عناء التحقق من مكانة الأعمال المعروضة في الصالونات [والمعارض، كما هو في العالم الغربي]. الواقع الافتراضي و«الافتراضية» يتبنى بيبي كرمل وهو مؤرخ فني، في كتابه « الفن التجريدي: تاريخ عالمي»، فكرة أنّ الفن التجريدي كان دائمًا موجودًا بشكل طبيعي عندما ننظر إليه نظرة شاملة وعالمية، بيد أنّه يتحاشى طرح نظرية عن تطور الفن التجريدي. بالنسبة إلى كرمل، فإنّ هذا الفنّ متجذر في العالم الحقيقي، وهو ليس فنًّا «مجردًا» على الإطلاق، كما أنّه تقليد عالمي وليس محليًا. في دراسته حول الفن التجريدي يقسم العمل الفني إلى خمس فئات واسعة تنتمي إلى العالم الحقيقي: الأجسام، والمناظر الطبيعية، والكون، والبنى، والعلامات والأنماط. من خلال فحص الفن التجريدي بهذه الطريقة، يرى كرمل في اللوحات التجريدية موضوعات قابلة للتحليل، بعكس النقاد والمؤرخين الأرثوذكسيين الذين رأوا فيها مجرّد توليفات شكلية مكوّنة من لون وشكل. ربما يكون من الأفضل أن يطلق على الفن التجريدي: فن ما تم تجريده (abstracted art)؛ لأنّ الفنانين التجريديين عادةً ما يستخلصون ويجرّدون تعبيرات التجارب في شكل ولون،  أكثر من كونها توليفات مكونة من شكل ولون. ومرّد ذلك الطبيعة الجوهرية للرسم والنحت؛ فهما (الشكل اللّون) وسيطان للتعبير، مثل الشاشة أو المسرح لخيال الفنان. كما هو الحال في المسرح أو السينما، فإنّ جمهور اللوحة أو المنحوتة يعلّق معتقداته من أجل أن يتقبل المشهد. من المفيد التفكير في اللوحة التشخيصية التقليدية أو النحت على أنها حقيقة افتراضية. إذْ استخدم الفنانون لقرون عديدة الحيل البصرية -مثل المنظور الخطي، والتقصير المسبق، والتظليل- لمحاكاة الطريقة التي ندرك بها الأشياء في الفضاء الحقيقي. إنّ المشاهد تُنشأ في فضاء افتراضي – سواء كانت القاعدة التي تدعم التمثال أو القماش – ليراها المشاهدون بوصفها خدعة بصرية. «القديس بطرس شفاء أحد الأشخاص وبعث تابيثا من الموت» ماسولينو دي بانيكال. اعتمد الرسم الغربي قبل القرن العشرين على الحيل البصرية لخلق واقع افتراضي. إحدى هذه الحيل هي المنظور الخطي، وهذه اللوحة هي أول مثال لاستخدام نقطة تلاشٍ متسقة.«القديس بطرس شفاء أحد الأشخاص وبعث تابيثا من الموت» ماسولينو دي بانيكال. اعتمد الرسم الغربي قبل القرن العشرين على الحيل البصرية لخلق واقع افتراضي. إحدى هذه الحيل هي المنظور الخطي، وهذه اللوحة هي أول مثال لاستخدام نقطة تلاشٍ متسقة. يستمتع مشاهدوّ الأعمال الفنية العظيمة معنى ما يُرسم، ويقدرون الطريقة التي يتجلّى فيها الوهم عبر تمازج اللون والشكل. يبقى الفن التجريدي، إلى حدٍ ما، ضمن إطار التجربة الجمالية. فقد سعت حركات الفن الحديث التي أدت إلى التجريد -أيّ «مدارس الفن»، مثل الانطباعية والفاوفية والتكعيبية- إلى تمثيل العالم بشكل مختلف عن كل الفنون التي سبقتها. إذْ ادعوا الاقتراب من الحقيقة الذاتية عبر تهميش جميع الحيل الوهمية التقليدية التي حاولت إعادة إنتاج الواقع بحذافيره كحقيقة موضوعية. «الأحمر والأصفر والأزرق» (1925) واسيلي كاندينسكي.  كان كاندينسكي يعدّ لفترةٍ طويلة أب الرسم التجريدي الغربي.«الأحمر والأصفر والأزرق» (1925) واسيلي كاندينسكي.  كان كاندينسكي يعدّ لفترةٍ طويلة أب الرسم التجريدي الغربي. بالنسبة إلى هذه المدارس، أصبح الفن أقل من أن يوصف بأنّه واقع افتراضي، لكنه مع ذلك احتفظ بالافتراضية، وأصبح افتراضيًا. لقد أخذ الفن التجريدي مسار التطور هذا إلى أقصاه: من الواقع الافتراضي إلى الافتراضية. ماذا تعني «الافتراضية» هنا؟ إنّها الوجود كجوهر وتأثير، ولكن بدون اللجوء إلى الواقع. اللوحة التجريدية التي رسمها كاندينسكي، على سبيل المثال، ما زالت تُعدّ علاقة متبادلة بين الشكل واللون، و تعتمد على الرسم كمستوى تخطيطي: إنها نافذة تطلّ على «الواقع» الفردي الذي تصوّره كاندينسكي. وما تزال العناصر في لوحات كاندينسكي تحظى بعلاقة متبادلة، كما هو الحال في فضاء الواقع الافتراضي للوحة التشخيصية؛ فجوهر الرسم سليم إذ إنّ ذلك الفضاء الافتراضي ما زال موجودًا. عندما يكون الفن التجريدي بناءً خالصًا، ويتخلص من المساحة الافتراضية الملازمة للرسم والنحت، يصبح متميزًا عنهما. وصف دونالد جود الفنان التخفيفي (minimalist) مثل هذه الأعمال الفنية بأنها «أجسام محدّدة» (Specific Objects). إنّه مصطلح غير دقيق، ولكنه يصلح لإظهار أن مثل هذه الأعمال الفنية ليست رسمًا ولا نحتًا، ولكنها فئة أخرى تمامًا. رأى دونالد جود أن أعماله وأعمال العديد من معاصريه تشغل مساحة هجينة، لا هي لوحات ولا هي نحت. عمل دون عنوان لدونالد جود. استخدم جود هذا المصطلح لوصف أعماله الخاصة، ولكنه ينطبق على لوحات كازيمير ماليفيتش وفرانك ستيلا أحادية اللون، والتي تجعل اللوحة تندمج مع نفسها بالكامل، من أجل الوصول للتأثير الذي يأمل العمل في تحقيقه. في مثل هذه الأعمال، لم يعد قماش اللّوحة (أو القاعدة) سطحًا تتفاعل فيه الأشكال والألوان في الفضاء الافتراضي. بدلاً من ذلك، تتفاعل الأشكال والألوان في الفضاء الحقيقي، في فضائنا. تختلف معايير النجاح أو الفشل لهذه الأعمال عن الخصائص التقليدية للرسم والنحت. رأى جود أنّ خصائص الرسم والنحت تقف في طريق ما أراد تحقيقه من خلال اللون والشكل. في رأيه، كان لـ «أجسامه المحددة» تأثيرًا أحدّ من غيرها. الواقع والأشكال الجديدة للإدراك الحسّي الرسم نفسه له ثلاثة أنواع عامة من التجريد؛ أولًا، ثمّة أسلوب تعبيري تُرسم فيه الأشكال بحركاتٍ غير مقيدة؛ ثم هناك التجريد الهندسي حيث يتم هيكلة الأشكال؛ أما النوع الثالث، فهو تجريد مجال اللون حيث يتم عرض مساحات من الألوان بطريقةٍ لا شكل واضح لها. لم تكن هذه «الأنماط» (styles) أنماطًا عرضيةً أو تعتمد على ذوق أو ميل الرسام كوسيلة لتحقيق هدفٍ ما من البحث الفني. وخير مثال على ذلك هو الفنان الذي غالبًا ما ينظر إلى عمله على أنّه ذروة التجريد الهندسي: بيت موندريان. إنّ لوحات بيت موندريان المكونة من شبكات (grids) ذات الخطوط السوداء والأجزاء الملونة على خلفية بيضاء؛ تهدف إلى استحضار «حقيقة أعلى». بالنسبة إلى موندريان، كان الفن في جوهره معارضًا للواقع؛ «لأن الواقع يتعارض مع الروحي». بغض النظر عن هذه اللوحة الأشهر لموندريان، فإنّ جوانب الرسم التي تهم هذا الفنان حقًا لم تكن الجوانب المحددة للموضوع -أيّ ماذا أو ما يتم تصويره في اللوحة مثلًا- بل الجوانب القابلة للفهم عالميًا للشكل والخط واللون. إنّ لوحات موندريان، مثلها مثل لوحات الفنانين الآخرين، هي محاولة لاستخلاص الشكل واللون من أجل الاقتراب من ذلك الجوهر العالمي والروحي للفن. عبّر موندريان عن رغبته في الوصول إلى «أساس» الأشياء من خلال الحدس، كالعديد من الفنانين التجريديين الآخرين في النصف الأول من القرن العشرين الذين رغبوا في الوصول إلى قوى غير مرئية حولنا، ولكنها معروفة أو محدوسة. «التكوين الثاني باللون الأحمر والأزرق والأصفر» (1930) - بيت موندريان«التكوين الثاني باللون الأحمر والأزرق والأصفر» (1930) – بيت موندريان في أواخر القرن التاسع عشر، لاحظ العلماء بشكلٍ أفضل مما سبق القوى غير المرئية مع انتشار التقنيات الجديدة، وأصبح من الواضح أن العالم أرحب مما يبدو للعين. في الوقت نفسه، ظهرت حركات روحية بديلة جمعت بين الأفكار الأفلاطونية والتصوف. كان كلينت وموندريان من بين العديد من الفنانين الذين انغمسوا في أشكال الروحانية خارج العوالم التقليدية للدين. اعتقدت كلينت أن لوحاتها هي وحي عالم روحي، وأن مهمتها كانت العمل «على مستوى روحاني» لتمثيل روح الإنسان، بدلًا من صورته الفانية. بحلول عشرينيات القرن الماضي، كانت نظرية فرويد عن للعقل البشري قد تغلغلت أيضًا في عالم الفن.  كذلك السريالية، وهي حركة منظمة بإحكام بدأت مع بعض الفنانين الذين سعوا إلى التنقيب عن الإمكانات الإبداعية للعقل الباطن، وهي الحركة الثقافية التي كانت سائدة في أوروبا بين الحربين العالميتين. لم تكن السريالية دوغمائية في محاولتها لاستكشاف اللاوعي، ولذلك ظهر عدد من الأساليب والطرق لمحاولة إخراج اللاوعي إلى السطح. إحدى هذه الأساليب كان الرسم الآلي (Automatism)، وهي عملية يتخلى فيها الفنان عن السيطرة الواعية لليد التي ترسم  أو تصور. في هذا المجال، تبنى الفنانون مثل أندريه ماسون وخوان ميرو الفرصة لبناء صورهم باستخدام حركات حرّة، وحتى إلقاء الطلاء على القماش. طور أرشيل غوركي -هو مهاجر أرمني عاش في الولايات المتحدة- أسلوبًا في الرسم يدمج بين الرسم الآلي وتجريد مجال الألوان. لوحاته في الأربعينيات حجمُها ضخم – ومرد ذلك تأثره بأعماله السابقة كفنان جداري مُعيّن من الدولة خلال السنوات الأخيرة من الكساد الكبير – لكنها معبّرة وغنائية في الرسم بالفرشاة. ألهم إدماج غوركي للأنماط جيلًا واسعًا من الفنانين الأمريكيين في فترة ما بعد الحرب لاحتضان التجريد الواسع النطاق. ما نسميه الآن «التعبيرية التجريدية»، وكان ذاك الجيل في الواقع مجموعة فضفاضة من الفنانين الذين يستخدمون أنماطًا متعدّدة من أنماط التجريد. ربما كان القاسم المشترك بين هؤلاء الفنانين – على الأقل في السنوات الأولى – هو دعم جيل جديد من النقاد بقيادة كليمنت غرينبيرغ، الذي كان يعتقد أن التجريد هو التعبير الأسمى للفن الغربي. «الكبد هو مشط الديك» (1944) - أرشيل جوركي.«الكبد هو مشط الديك» (1944) – أرشيل جوركي. الحداثة ومصير الفنّ الغربي كان يُعتقد في بعض الأوساط الفكرية المؤثرة أنّ الفن يتقدم نحو هدف؛ وهذا المضمون يشتمل عليه مصطلح «الطليعية» (Avant-garde)، الذي يُوصف به الفنّانون الذين يبتكرون أرضية جمالية جديدة. أصل المصطلح فرنسي يُطلق على الجنود الذين يتقدمون إلى مناطق جديدة. بالنسبة إلى غرينبيرغ، لم يكن هؤلاء الفنّانون يوسّعون حدود إمكانات الفن؛ بل كانوا يتقدمون نحو الهدف الحقيقي والمفرد لكل شكل فني. يُعدّ غرينبيرغ شخصية مهمة في تاريخ الفن التجريدي، وذلك لأمرين: بوصفه مناصرًا رائدًا في مسألة تفوق الفن التجريدي على غيره من أنواع الرسم، وتأكيده للقوة التي امتلكها هذا الفن. كان ناقدًا في اللجنة الأمريكية للحريّة الثقافية التي تمولها الدولة، وهي مجموعة تم إنشاؤها لتعزيز الفن الأمريكي على المستوى الدولي. أصبحت أفكار غرينبيرغ مؤثرة عندما كانت الولايات المتحدة جزءًا من الحرب على الفاشية والنازية، وخلال الحرب الباردة اللاحقة ضد الشيوعية السوفيتية. كانت معايير الفن الفاشي والسوفياتي واضحة، وهي ما تحددها السلطات الثقافية أنها كذلك، بيد أنّه ما لم يكن واضحًا هو معايير الفن «الجيد» وتحديدًا في الغرب الديمقراطي. كان الماركسيون هم من تعاطف مع غرينبيرغ في البداية، لكن ارتبط تفكيره بشكلٍ متزايد بالهيمنة الثقافية الأمريكية. بالنسبة إليه، كان التجريد في أعمال بولوك فنًا مثاليًا لمجتمع ديمقراطي. تتجلى الحداثة في الفن، وفقًا لغرينبيرغ، في إطار التنوير الأوروبي؛ أيّ في فترة ازدهار الأفكار الفلسفية والعلمية التي أعطت الأولوية للعقل. في مقالته المؤثرة « الرسم الحداثي» (1961)، وصفَ غرينبيرغ إيمانويل كانط – الفيلسوف الألماني في عصر التنوير – بأنّه «أول حداثي حقيقي». كان أسلوب كانط في «النقد» هو استخدام العقل لنقد العقل بغرض توضيحه، ومنحه استقلالية عن أنواع التفكير الأخرى. «أولمبيا» - إدوارد مانيه (1863). بالنسبة إلى كليمنت غرينبيرغ، كان مانيه أول رسام حداثي. لقد رسم مانيه لوحاته بأسلوبٍ مسطّح بشكلٍ متعمد.«أولمبيا» – إدوارد مانيه (1863). بالنسبة إلى كليمنت غرينبيرغ، كان مانيه أول رسام حداثي. لقد رسم مانيه لوحاته بأسلوبٍ مسطّح بشكلٍ متعمد. بالطريقة نفسها، كان الرسامون الحداثيون – من إدوارد مانيه في القرن التاسع عشر إلى موريس لويس، وهو رسام يعمل ينتمي إلى رسامي أسلوب مجال ألوان في الولايات المتحدة في الوقت الذي كتب فيه غرينبيرغ مقالته – يعملون على ترسيخ الفن التعبيري «بشكل صارم في مجال تخصصه». رأى غرينبيرغ أن وضوح الفن التجريدي -الذي كان صادقًا بالنسبة إلى الوسيط الذي يُعبّر من خلاله- معارضٌ لـ«الفن الشعبي المبتذل [الكيتش]» الذي ينُتج على نطاق واسع في الثقافة الشعبية. إن إزالة «الكيتش» كانت مسألة استجلاء وتوضيح تحتاجها جميع الفنون لكي تصبح تعبيرًا عن إمكاناتها الجمالية الكامنة. اللوحات مسطّحة، وإيهام العمق الذي نجده في معظم الفن الغربي كان انحرافًا عن جوهر فن الرسم ذاته. كانت استقلالية الشكل الفني في جميع خصائصه دون أن تتلوث بأشكال فنية أخرى. وفقًا لغرينبيرغ، يعدّ الشكل واللون من أهم خصائص الرسم، و أفضل تمثيل لها يكون بشكلٍ مسطّح. وهكذا دافع غرينبيرغ عن «التسطيح» الذي تجلّى في لوحات الفنانين الأمريكيين التجريدية مثل جاكسون بولوك باعتباره تحقيقًا لهذا الوضوح الحداثي. لقد ضم هؤلاء الفنانين معًا ضمن فريق واحد، وهم يمثّلون المرحلة التالية في الحداثة، وقد حلّت رؤيتهم الأمريكية المميزة محلّ الفن الأوروبي الطليعي. وفي الوقت الذي أصبح فيه الفن التجريدي الأمريكي مهيمنًا، تراجعت هيمنة غرينبيرغ النقدية، وظهرت أشكال جديدة من الفن الطليعي، مستوحاة مباشرة من الثقافة الجماهيرية، وحلّت محلّ التعبيرية التجريدية في المخيال العام. تبنى فنانوّ «البوب» مثل: آندي وارهول، وريتشارد هاميلتون هذا النوع من «الفن الشعبي المبتذل» الذي رآه غرينبيرغ تلويثًا للفن الحقيقي. استمرت الأعمال الفنية التجريدية، ولكن تخلّى الفنّانون التجريديون الأكثر جرأة عن الفكرة الصارمة «للنقد الحداثي»، وعن الوضوح المتعلق بخصوصية الوسيط الفني، وذلك لصالح أشكال أخرى من التعبير. نظر فنانوّ «ما بعد الحداثة» إلى السخرية وعملية الرسم نفسها، كطرق لتجاوز الطريق المسدود للحداثة. تبنى الألماني غيرهارد ريختر كلا النهجين؛ فبعض أعماله التجريدية في الستينيات كانت مصنوعة بممسحاتٍ بدلًا من الفرشاة، حتى يتمكن من لفت الانتباه إلى عملية صنع اللوحة نفسها. كانت «اللوحات التجريدية» البارزة الأخرى التي رسمها ريختر في الواقع صورًا واقعية مرسومة بعناية تعكس لوحاته التجريدية الأخرى. أصبحت طلائعية الرسم التجريدي مفهومية أكثر، ما جعل ضمنيًّا قضية الرسم تحظى باستقلالية أقل مما كان كان يعتقد النقاد الحداثيون. قلّد فنانوّ «نيو جيو»، مثل: الرسام بيتر هالي، والنحات أشلي بيكرتون اللغة البصرية للتجريد الهندسي، لكنهما دمجاها مع السلع الاستهلاكية بألوانٍ تجارية فاتحة وأحيانًا فلورية. منذ ذلك الجيل ما بعد الحداثي من الرسامين والنحاتين الممتد من الستينيات إلى التسعينيات، ازدهر التجريد متفرّعًا إلى عددٍ لا يُحصى من الأساليب والمقاربات بجوار الفن التشخيصي. هنا يمكن القول إنّ التجريد المتحرّر من عبء التوقعات الحداثية هو ببساطة نهج للتعبير مثل أيّ نهج آخر. وتجدر الإشارة إلى أنّ بعض الفنانين التجريديين استخدموا الحيل البصرية المستعملة في الفن التشخيصي – مثل المنظور والتظليل – في لوحاتهم. ولاستخدامهم هذا أهداف فريدة و غالبًا لا تهتم بالنظرية. قلّد فنانوّ «ما بعد الحداثة» مثل: بيتر هالي اللغة البصرية المستعملة في الفن التجريدي الحديث (في حالة بيتر، التجريد الهندسي)، للتعليق على طبيعة الفن والمعنى نفسه. تمثّل هذه الكتل الملونة «الخلايا» و«الأنابيب».قلّد فنانوّ «ما بعد الحداثة» مثل: بيتر هالي اللغة البصرية المستعملة في الفن التجريدي الحديث (في حالة بيتر، التجريد الهندسي)، للتعليق على طبيعة الفن والمعنى نفسه. تمثّل هذه الكتل الملونة «الخلايا» و«الأنابيب». هذا هو التحرّر نحو الأفضل بين الرسامين التجريديين الذين يمكنهم الالتزام برؤيةٍ فريدة بالرسم على القماش. لكن فكّ ارتباط الفن التجريدي عن إطاره الفلسفي الأوسع أدى أيضًا إلى انتشارٍ يثير التساؤل لأعمال تجريدية متنوعة قابلة للاستهلاك – بمعنى أنّها فقدت قيمتها، وباتت تُباع وتُشترى سريعًا بأسعارٍ مربحة – يشتريها المشترون المتضاربون. دفع هذا التحول الناقد جيري سالتز إلى كتابة: « الزومبي على الجدران: لماذا يبدو الكثير من التجريد الجديد متشابهًا؟». وقد شبه اللّوحات التجريدية بصورة «الزومبي»، تحقيرًا لأعمال عددٍ من الرسامين التجريديين البارزين، الذين استخدموا الفنّ وجماليته لتقديم أعمال مبتذلة. ومن المفارقات أن هؤلاء الفنانين نظروا إلى الشكلانية بوصفها فنًّا حداثيًّا متبنّين منظور غرينبيرغ، لكنهم بالطبع قدّموا أعمالًا في ظلّ فراغ تاريخي وبعد فترةٍ طويلة حين لم يُصبح التجريد مثيرًا للاهتمام أو راديكاليًا بأي وجه من الوجوه. في الواقع، لم يصل مشروع الحداثة  في الفن التجريدي إلى نهايته، بل النقد. إنّ النقد -أيّ الإطار الفلسفي الواسع الذي يصادق على الأعمال الفنية ويثمّنها لأهميتها الثقافية والتاريخية- هو ما فقد التوجه والسلطة. كان مسار الفن الغربي منذ عصر التنوير يتأرجح بين قطبي الدوغمائية النقدية والإبداع. تكمن المشكلة أنه في العقود الأخيرة، وفي ظلّ غياب أي مشروع نقدي متماسك، انجرف الفن نحو إرضاء اهتمامات دقيقة ومتنوعة تزداد باستمرار. في حين كانت هناك «حركات» و«مدارس» فنية -مصطلحان يشيران إلى الوجهة والانضباط- لم يعد لدينا الآن سوى «مشاهد». هذا ليس بالضرورة أمرًا سيئًا. ولكن في عالم حيث «كل شيء مقبول – anything goes»، لا يوجد مجال لهذا النوع من الابتكار والتجاوز الذي أدى إلى ظهور الفن التجريدي في الغرب، وهذا ما جعل الفن الحديث فنًّا مثيرًا للغاية. من الصعب في هذه اللحظة التاريخية أن ندرك ما الذي جعل لوحة بولوك «رقم 32» مثيرة للانقسام، ومخلخلةً جدًا للمعايير، وفي الوقت نفسه محتفظةً بقيمةٍ عالية جدًا لأولئك الذين يعتقدون أن للفنِّ مكانًا في المجتمع يتجاوز المتعة. [divider style=”solid” top=”20″ bottom=”20″] [1] واللقب كذلك يُلمح إلى القاتل المتسلسل في لندن آخر القرن التاسع عشر: جاك السفّاح Jack the ripper (مدير التحرير). ### خارج عقلك | توم تشاتفيلد – ت: محمد السعيد                  عندما يكون هاتفي النقال بين يديّ، هل أكون أنا الشخص نفسه لو كان الهاتف في غرفة أخرى؟ من ناحية،... ### الدراما في التعليم: مقاربات وتطبيقات | نعيم حيماد افتتاحيّة حظي استخدام الدراما في التعليمفي السنوات الأخيرة باهتمام كبير من قبل نخبة من المنظرين والممارسين للدراما في مجال التعليم.... ### الحقائق المخفية | دي بي سي بيير – ت: محمد السعيد       يحمل جبل كلسي خشن في غرب إيران عددًا من النقوش البارزة، من بينها لوحة طولها خمسة وعشرين مترًا منقوشة... ### التغلُّب على كاشف الكذب | كلاريسا سيباغ-مونتِنفيوري – ت: محمد السعيد          حين  اتُّهِمَتْ مربية الأطفال البريطانية لويز وودورد بهزِّ رضيع حتى الموت في مدينة نيوتن بولاية ماساتشوستس، لم تكتفِ بإعلان... ### عن منصة معنى «معنى»، مؤسسة ثقافية تقدّمية ودار نشر تهتم بالفلسفة والمعرفة والفنون، عبر مجموعة متنوعة من المواد المقروءة والمسموعة والمرئية. انطلقت في 20 مارس 2019، بهدف إثراء المحتوى العربي، ورفع ذائقة ووعي المتلقّي المحلي والدولي، عبر الإنتاج الأصيل للمنصة والترجمة ونقل المعارف. ### روابط سريعة ### التصنيفات ### مرحبا بك! قم بتسجيل الدخول إلى حسابك تذكرني ### قم بإنشاء حساب جديد! املأ النموذج أدناه للتسجيل ### طلب إعادة تعيين كلمة المرور يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان البريد الإلكتروني لإعادة تعيين كلمة المرور الخاصة بك. ### Add New Playlist - Select Visibility -PublicPrivate No Result عرض جميع النتائج - 00:00 00:00 - 00:00 00:00
article
Arabic
ar
الفنّ التجريدي: بين الماضي والحاضر - منصة معنى الثقافية
https://mana.net/abstract-art/
1,807
في ضوء ذلك، فإن السؤال الملحّ حقًا هو: لمَ لمْ يتبنى الفنانون الغربيون الفن التجريدي على امتداد قرون عديدة؟
sentence
في ضوء ذلك، فإن السؤال الملحّ حقًا هو: لمَ لمْ يتبنى الفنانون الغربيون الفن التجريدي على امتداد قرون عديدة؟ لماذا كان التجريد غير ضروري أو لا معنى له أو غير مناسب أو حتى لا يمكن تقبّله لقرونٍ متوالية في الفن الغربي؟
paragraph
Arabic
ar
الفنّ التجريدي: بين الماضي والحاضر - منصة معنى الثقافية
https://mana.net/abstract-art/
1,808
لماذا كان التجريد غير ضروري أو لا معنى له أو غير مناسب أو حتى لا يمكن تقبّله لقرونٍ متوالية في الفن الغربي؟
sentence
في ضوء ذلك، فإن السؤال الملحّ حقًا هو: لمَ لمْ يتبنى الفنانون الغربيون الفن التجريدي على امتداد قرون عديدة؟ لماذا كان التجريد غير ضروري أو لا معنى له أو غير مناسب أو حتى لا يمكن تقبّله لقرونٍ متوالية في الفن الغربي؟
paragraph
Arabic
ar
الفنّ التجريدي: بين الماضي والحاضر - منصة معنى الثقافية
https://mana.net/abstract-art/
1,809
ظهرت العديد من التفسيرات لشرح ذلك. إحدى النظريات الأكثر وضوحًا هي أن ظهور التصوير الفوتوغرافي بوصفه شكلًا من أشكال الفن، إضافةً إلى تطور الفن الحديث، سببان رئيسان لإزاحة الرسم التشخيصي.
paragraph
لا توجد منتجات في سلة المشتريات. No Result عرض جميع النتائج الثلاثاء, سبتمبر 10, 2024 No Result عرض جميع النتائج No Result عرض جميع النتائج # الفنّ التجريدي: بين الماضي والحاضر ## ترجمة: أنطونيوس نادر AA AA إعادة تعيين فنٌ مليء بالتحديات ثمّة خطٌ رفيع يفصل بين الفن التجريدي ومجرد الزخرفة، ولوحة «رقم 32» (نُشرت عام 1950)، لجاكسون بولوك تتأرجح بين هذا الخطّ. فهي لا تشير إلى معنىً واضح، ولكن لا يمكن القول إنّها بلا معنى على الإطلاق. كما أنّها ليست معبّرة بشكلٍ مباشر، ولا يعني هذا أنها لا تعبّر عن مدلولٍ ما. تحمل هذه اللوحة الكثير من المضامين عن الفن الغربي بالنسبة إلى شخصٍ خبيرٍ في تاريخ الفن؛ أما بالنسبة إلى شخصٍ عادي، فقد يراها عملًا مبتذلًا بالكاد يعبّر عن أمرٍ ما. اللوحة شبكة من الخطوط وبقعٍ من الألوان، رُسمت عن طريق صبّ طلاءٍ رخيص بعشوائيةٍ مباشرة على القماش. تتكون اللوحة من طلاءٍ أسود فقط وقماشٍ خام. واللوحة ضخمة؛ إذ يبلغ طولها تسعة أقدام وعرضها خمسة عشر قدمًا، وتغطي مجال رؤية المشاهد أثناء اقترابه منها. تقليديًّا، حتى اللوحات التجريدية تتكون من أجزاءٍ مترابطة مع بؤر تركيز (emphases) وعمقٍ يُنقل من خلال اللون والظلال، ولكن «رقم 32» ليس لها أجزاء؛ إنّها تتكون من تعالقات، والبؤرة فيها تكمن عبر امتداد سطح القماش المستطيل. يمنحها ما سبق عمقًا سطحيًا، وربما لا عمق فيها: مجرّد طلاء على قماش. إنّها عبث بالشكل واللون. حتى اسمها، ببساطة رقمٌ معيّن – رقم 32 – يجعلها تنأى بنفسها عن أي فكرة مفادها أنها تعكس مدلولًا محدّدًا. تشير عناوين أعمال بولوك الأخرى إلى نوعٍ من الاختبار الشخصي، وإلى الاستخدام السمفوني المتعدد الطبقات للون والملمس؛ خذ مثلًا لوحاته التي تحمل اسم: «إيقاع الخريف»، و«الضباب الأرجواني»، و«الأقطاب الزرقاء»، و«انعكاس الدنقلة الكبير». هذا لا ينطبق على لوحة «رقم 32»؛ شكلها الخام وبساطتها دليل على أنّ الفنان لم يخطط مسبقًا لرسمها؛ أيّ أنّه لم ينتق الألوان ولا الطبقات. يبدو بولوك هنا أكثر حضورًا، من خلال لمساته الحادة. بالنسبة إلى مؤيديّ عمل بولوك، تختصر هذه اللوحة خلاصة نظرة الفنان الجمالية. أما بالنسبة للبعض الآخر، فهي لوحة مبتذلة. وصف جوزيف بويس -النحات الألماني في فترة ما بعد الحرب- الفنَّ التجريدي الأمريكي بأنه مجرد «تغليف»، أيّ سطح بلا محتوى. في هذا الصدد، قد يتفق البعض أن لوحة «رقم 32» تجسد فراغ الفكر والشعور ذاك. فقد رأى الروائي والناقد الفني روبرت كوتس أن فن بولوك لم يكن سوى «انفجارات» غير منظمة من الطاقة العشوائية. غير أنّ طائفة كبيرة من متذوقي الفن التجريدي لا تروق إليهم أعمال بولوك ويرونها فنًّا محيرًا، حتى إنّ بعضهم يراها إهانةً للذوق أو الحسّ السليم. عُرف بولوك بلقب: «جاك فنان النقط» (Jack the Dripper) [1] في الأوساط الإعلامية المشككة بعمله حيث ادعى كثر أن أيّ شخص يمكنه أن يرسم كما يرسم بولوك إلّا أنّ أحدًا لم يتجرأ على فعل ذلك. «رقم 32» - جاكسون بولوك«رقم 32» – جاكسون بولوك بيد أنّ هذا هو مغزى الفن التجريدي في التقليد الغربي: إنّه تحدّ. وفي ظل الكثير هذه التحديات، تُعد لوحة « رقم 32» اللوحة الأكثر تمثيلًا لهذا الفن. قصة الفنّ التجريدي مسار قصة الفن التجريدي مضمّنة في الدراسات التاريخية الفنية، إلّا أنّ المحطات الرئيسة لهذا المسار كانت محط تغييرات مفاجئة كلما اكتشف مؤرخوّ الفن حقائق جديدة. انطلق مسار الفن التجريدي بدءًا من القرن التاسع عشر وما تلاه؛ حيث استفاد الفنانون من مادة الطلاء والجوانب الشكلية للرسم مثل اللون والدرجة والخطوط. يُعرف هذا الانشغال بالجوانب غير التمثيلية (non-representative) للفن باسم «الشكلانية»، لأنّه انشغال «بالشكل»، أيّ بتوسل شكل المحتوى بدلًا من المحتوى في ذاته. بالنسبة إلى الفنانين في القرن التاسع عشر، صُنّف الفن التجريدي على أنّه «فنٌّ من أجل الفنّ»، وكانت الفكرة الشائعة مفادها أنّ المتذوق للفن يمكنه الاستمتاع بالعمل دون اللجوء إلى معنى أو حتى أي شيء آخر يمثل أمرًا ما. تمثّل لوحة «الموسيقى الهادئة باللّونين الأسود والذهبي – الصاروخ الساقط» (1872)، للفنان جيمس مكنيل ويسلر هذا الاتجاه الذي تبلور لاحقًا في الفن التجريدي.  إنّ مشهد ويسلر الغامض من الناحية المكانيّة يقترب إلى التجريد، وذلك بمحاولته نقل الشعور أو الانطباع الخاص بالمشهد بدلًا من إعادة إنتاجه بحذافيره. «الموسيقى الهادئة باللونين الأسود والذهبي - الصاروخ الساقط» (1872-1877) - جيمس أبوت مكنيل ويسلير«الموسيقى الهادئة باللونين الأسود والذهبي – الصاروخ الساقط» (1872-1877) – جيمس أبوت مكنيل ويسلير في عام 1877، انتقد جون روسكين – أبرز نقّاد بريطانيا في ذلك الوقت – عمل ويسلير هذا نقدًا لاذعًا فشبهه «بمن قام برمي الطلاء في وجه الجمهور». تأثر ويسلر بهذا الكلام، فرفع دعوى قضائية ضد روسكين، بيد أنّه خسرها لأن المسؤولين عرضوا اللوحة -خطأً- مقلوبةً على المحكمة. أفلس ويسلير بسبب هذه القضية، لكن مسيرة تطور الفن التجريدي استمرت. من ناحيةٍ أخرى، تحديد أول فنان تجريدي في العالم موضوع نزاع. في نظر أبحاث تاريخ الفن التقليدية، كان فاسيلي كاندينسكي – فنان روسي الجنسية رسم لوحات تجريدية بالكامل في مطلع عام 1911- هو أول فنان تجريدي. لم ينل الفن التجريدي الرائد لهيلما أف كلينت تقديرًا إلا قبل سنوات قريبة. هذه صورة للمعرض الشهير في  متحف غاغينهايم، عام 2018 .لم ينل الفن التجريدي الرائد لهيلما أف كلينت تقديرًا إلا قبل سنوات قريبة. هذه صورة للمعرض الشهير في  متحف غاغينهايم، عام 2018 . ولكن في الآونة الأخيرة، وبفضل المعرض الرائد في متحف مقاطعة لوس أنجلوس للفنون في عام 1986 الذي حمل اسم «الروحانية في الفن: الرسم التجريدي 1890 – 1985»، وقع الاختيار على هيلما أف كلينت كأول رسامة تجريدية. بدأت كلينت في رسم لوحات تجريدية بدءًا من عام 1906، وحملت مجموعتها عنوان «الفوضى البدائية». كانت الفنانة متكتمة في ما يتعلق بأعمالها التجريدية، ولم تُعرض أيّ منها في معارض عامة، وبقيت غير معروفة حتى أزيح عنها الستار مؤخرًا. ولعل الجدال حول هوية أول من مارس الفن التجريدي سيستم، لكن الحقيقة الأكثر أهمية هي أن العديد من الفنانين الأوروبيين البارزين قد توصّلوا في أعمالهم إلى التجريد بحلول الحرب العالمية الأولى. لقد وجد كل منهم طريقته الخاصة في التخلي عن الفن التشخيصي (figurative painting). وجديرٌ بالذكر أنّه لم تكن هناك حركة «تجريدية» دولية ذات رؤية أو بيان مشترك. في ضوء ذلك، فإن السؤال الملحّ حقًا هو: لمَ لمْ يتبنى الفنانون الغربيون الفن التجريدي على امتداد قرون عديدة؟ لماذا كان التجريد غير ضروري أو لا معنى له أو غير مناسب أو حتى لا يمكن تقبّله لقرونٍ متوالية في الفن الغربي؟ ظهرت العديد من التفسيرات لشرح ذلك. إحدى النظريات الأكثر وضوحًا هي أن ظهور التصوير الفوتوغرافي بوصفه شكلًا من أشكال الفن، إضافةً إلى تطور الفن الحديث، سببان رئيسان لإزاحة الرسم التشخيصي. ثمّة إجابات أخرى غير ملموسة لاستكشاف الأسباب: ربما عندما أصبحت الأعمال الفنية قابلة للاستهالاك بشكل متزايد، مثل السلع، بات من السهولة فصل اللوحات والمنحوتات عن التجارب المحددة لمبدعيها. ربما أدت الحداثة في الغرب إلى إفراغ الفن من المحتوى التشخيصي؛ مما دفع الفنانين أيضًا إلى التخلي عن التمثيل التشخيصي. كل من هذه الإجابات معقدة وتتطلب الكثير من الشرح، ولا يمكن إلا أن تكون تخمينات. لا توجد إجابة واضحة لهذه المسألة. ربما يكون من الأفضل طرح السؤال حول سبب تقبّل الفن التجريدي فنًّا من الفنون الرسمية في تاريخ الفن الغربي في مرحلة معينة على علماء الأنثروبولوجيا بدلًا من طرحها على مؤرخي الفن. فما هو واضح أن الفن التجريدي كان موجودًا دائمًا في مناطق أخرى من العالم. ما جعل الفن التجريدي فنًّا حديثًا على وجه التحديد في العالم الغربي هو نظام المعارض، الذي أعطى القيمة الفنية للأعمال المعروضة. وكما هو واضح فقد ازدهر التجريد لآلاف السنين المناطق الشرقية والجنوبية من العالم، دون عناء التحقق من مكانة الأعمال المعروضة في الصالونات [والمعارض، كما هو في العالم الغربي]. الواقع الافتراضي و«الافتراضية» يتبنى بيبي كرمل وهو مؤرخ فني، في كتابه « الفن التجريدي: تاريخ عالمي»، فكرة أنّ الفن التجريدي كان دائمًا موجودًا بشكل طبيعي عندما ننظر إليه نظرة شاملة وعالمية، بيد أنّه يتحاشى طرح نظرية عن تطور الفن التجريدي. بالنسبة إلى كرمل، فإنّ هذا الفنّ متجذر في العالم الحقيقي، وهو ليس فنًّا «مجردًا» على الإطلاق، كما أنّه تقليد عالمي وليس محليًا. في دراسته حول الفن التجريدي يقسم العمل الفني إلى خمس فئات واسعة تنتمي إلى العالم الحقيقي: الأجسام، والمناظر الطبيعية، والكون، والبنى، والعلامات والأنماط. من خلال فحص الفن التجريدي بهذه الطريقة، يرى كرمل في اللوحات التجريدية موضوعات قابلة للتحليل، بعكس النقاد والمؤرخين الأرثوذكسيين الذين رأوا فيها مجرّد توليفات شكلية مكوّنة من لون وشكل. ربما يكون من الأفضل أن يطلق على الفن التجريدي: فن ما تم تجريده (abstracted art)؛ لأنّ الفنانين التجريديين عادةً ما يستخلصون ويجرّدون تعبيرات التجارب في شكل ولون،  أكثر من كونها توليفات مكونة من شكل ولون. ومرّد ذلك الطبيعة الجوهرية للرسم والنحت؛ فهما (الشكل اللّون) وسيطان للتعبير، مثل الشاشة أو المسرح لخيال الفنان. كما هو الحال في المسرح أو السينما، فإنّ جمهور اللوحة أو المنحوتة يعلّق معتقداته من أجل أن يتقبل المشهد. من المفيد التفكير في اللوحة التشخيصية التقليدية أو النحت على أنها حقيقة افتراضية. إذْ استخدم الفنانون لقرون عديدة الحيل البصرية -مثل المنظور الخطي، والتقصير المسبق، والتظليل- لمحاكاة الطريقة التي ندرك بها الأشياء في الفضاء الحقيقي. إنّ المشاهد تُنشأ في فضاء افتراضي – سواء كانت القاعدة التي تدعم التمثال أو القماش – ليراها المشاهدون بوصفها خدعة بصرية. «القديس بطرس شفاء أحد الأشخاص وبعث تابيثا من الموت» ماسولينو دي بانيكال. اعتمد الرسم الغربي قبل القرن العشرين على الحيل البصرية لخلق واقع افتراضي. إحدى هذه الحيل هي المنظور الخطي، وهذه اللوحة هي أول مثال لاستخدام نقطة تلاشٍ متسقة.«القديس بطرس شفاء أحد الأشخاص وبعث تابيثا من الموت» ماسولينو دي بانيكال. اعتمد الرسم الغربي قبل القرن العشرين على الحيل البصرية لخلق واقع افتراضي. إحدى هذه الحيل هي المنظور الخطي، وهذه اللوحة هي أول مثال لاستخدام نقطة تلاشٍ متسقة. يستمتع مشاهدوّ الأعمال الفنية العظيمة معنى ما يُرسم، ويقدرون الطريقة التي يتجلّى فيها الوهم عبر تمازج اللون والشكل. يبقى الفن التجريدي، إلى حدٍ ما، ضمن إطار التجربة الجمالية. فقد سعت حركات الفن الحديث التي أدت إلى التجريد -أيّ «مدارس الفن»، مثل الانطباعية والفاوفية والتكعيبية- إلى تمثيل العالم بشكل مختلف عن كل الفنون التي سبقتها. إذْ ادعوا الاقتراب من الحقيقة الذاتية عبر تهميش جميع الحيل الوهمية التقليدية التي حاولت إعادة إنتاج الواقع بحذافيره كحقيقة موضوعية. «الأحمر والأصفر والأزرق» (1925) واسيلي كاندينسكي.  كان كاندينسكي يعدّ لفترةٍ طويلة أب الرسم التجريدي الغربي.«الأحمر والأصفر والأزرق» (1925) واسيلي كاندينسكي.  كان كاندينسكي يعدّ لفترةٍ طويلة أب الرسم التجريدي الغربي. بالنسبة إلى هذه المدارس، أصبح الفن أقل من أن يوصف بأنّه واقع افتراضي، لكنه مع ذلك احتفظ بالافتراضية، وأصبح افتراضيًا. لقد أخذ الفن التجريدي مسار التطور هذا إلى أقصاه: من الواقع الافتراضي إلى الافتراضية. ماذا تعني «الافتراضية» هنا؟ إنّها الوجود كجوهر وتأثير، ولكن بدون اللجوء إلى الواقع. اللوحة التجريدية التي رسمها كاندينسكي، على سبيل المثال، ما زالت تُعدّ علاقة متبادلة بين الشكل واللون، و تعتمد على الرسم كمستوى تخطيطي: إنها نافذة تطلّ على «الواقع» الفردي الذي تصوّره كاندينسكي. وما تزال العناصر في لوحات كاندينسكي تحظى بعلاقة متبادلة، كما هو الحال في فضاء الواقع الافتراضي للوحة التشخيصية؛ فجوهر الرسم سليم إذ إنّ ذلك الفضاء الافتراضي ما زال موجودًا. عندما يكون الفن التجريدي بناءً خالصًا، ويتخلص من المساحة الافتراضية الملازمة للرسم والنحت، يصبح متميزًا عنهما. وصف دونالد جود الفنان التخفيفي (minimalist) مثل هذه الأعمال الفنية بأنها «أجسام محدّدة» (Specific Objects). إنّه مصطلح غير دقيق، ولكنه يصلح لإظهار أن مثل هذه الأعمال الفنية ليست رسمًا ولا نحتًا، ولكنها فئة أخرى تمامًا. رأى دونالد جود أن أعماله وأعمال العديد من معاصريه تشغل مساحة هجينة، لا هي لوحات ولا هي نحت. عمل دون عنوان لدونالد جود. استخدم جود هذا المصطلح لوصف أعماله الخاصة، ولكنه ينطبق على لوحات كازيمير ماليفيتش وفرانك ستيلا أحادية اللون، والتي تجعل اللوحة تندمج مع نفسها بالكامل، من أجل الوصول للتأثير الذي يأمل العمل في تحقيقه. في مثل هذه الأعمال، لم يعد قماش اللّوحة (أو القاعدة) سطحًا تتفاعل فيه الأشكال والألوان في الفضاء الافتراضي. بدلاً من ذلك، تتفاعل الأشكال والألوان في الفضاء الحقيقي، في فضائنا. تختلف معايير النجاح أو الفشل لهذه الأعمال عن الخصائص التقليدية للرسم والنحت. رأى جود أنّ خصائص الرسم والنحت تقف في طريق ما أراد تحقيقه من خلال اللون والشكل. في رأيه، كان لـ «أجسامه المحددة» تأثيرًا أحدّ من غيرها. الواقع والأشكال الجديدة للإدراك الحسّي الرسم نفسه له ثلاثة أنواع عامة من التجريد؛ أولًا، ثمّة أسلوب تعبيري تُرسم فيه الأشكال بحركاتٍ غير مقيدة؛ ثم هناك التجريد الهندسي حيث يتم هيكلة الأشكال؛ أما النوع الثالث، فهو تجريد مجال اللون حيث يتم عرض مساحات من الألوان بطريقةٍ لا شكل واضح لها. لم تكن هذه «الأنماط» (styles) أنماطًا عرضيةً أو تعتمد على ذوق أو ميل الرسام كوسيلة لتحقيق هدفٍ ما من البحث الفني. وخير مثال على ذلك هو الفنان الذي غالبًا ما ينظر إلى عمله على أنّه ذروة التجريد الهندسي: بيت موندريان. إنّ لوحات بيت موندريان المكونة من شبكات (grids) ذات الخطوط السوداء والأجزاء الملونة على خلفية بيضاء؛ تهدف إلى استحضار «حقيقة أعلى». بالنسبة إلى موندريان، كان الفن في جوهره معارضًا للواقع؛ «لأن الواقع يتعارض مع الروحي». بغض النظر عن هذه اللوحة الأشهر لموندريان، فإنّ جوانب الرسم التي تهم هذا الفنان حقًا لم تكن الجوانب المحددة للموضوع -أيّ ماذا أو ما يتم تصويره في اللوحة مثلًا- بل الجوانب القابلة للفهم عالميًا للشكل والخط واللون. إنّ لوحات موندريان، مثلها مثل لوحات الفنانين الآخرين، هي محاولة لاستخلاص الشكل واللون من أجل الاقتراب من ذلك الجوهر العالمي والروحي للفن. عبّر موندريان عن رغبته في الوصول إلى «أساس» الأشياء من خلال الحدس، كالعديد من الفنانين التجريديين الآخرين في النصف الأول من القرن العشرين الذين رغبوا في الوصول إلى قوى غير مرئية حولنا، ولكنها معروفة أو محدوسة. «التكوين الثاني باللون الأحمر والأزرق والأصفر» (1930) - بيت موندريان«التكوين الثاني باللون الأحمر والأزرق والأصفر» (1930) – بيت موندريان في أواخر القرن التاسع عشر، لاحظ العلماء بشكلٍ أفضل مما سبق القوى غير المرئية مع انتشار التقنيات الجديدة، وأصبح من الواضح أن العالم أرحب مما يبدو للعين. في الوقت نفسه، ظهرت حركات روحية بديلة جمعت بين الأفكار الأفلاطونية والتصوف. كان كلينت وموندريان من بين العديد من الفنانين الذين انغمسوا في أشكال الروحانية خارج العوالم التقليدية للدين. اعتقدت كلينت أن لوحاتها هي وحي عالم روحي، وأن مهمتها كانت العمل «على مستوى روحاني» لتمثيل روح الإنسان، بدلًا من صورته الفانية. بحلول عشرينيات القرن الماضي، كانت نظرية فرويد عن للعقل البشري قد تغلغلت أيضًا في عالم الفن.  كذلك السريالية، وهي حركة منظمة بإحكام بدأت مع بعض الفنانين الذين سعوا إلى التنقيب عن الإمكانات الإبداعية للعقل الباطن، وهي الحركة الثقافية التي كانت سائدة في أوروبا بين الحربين العالميتين. لم تكن السريالية دوغمائية في محاولتها لاستكشاف اللاوعي، ولذلك ظهر عدد من الأساليب والطرق لمحاولة إخراج اللاوعي إلى السطح. إحدى هذه الأساليب كان الرسم الآلي (Automatism)، وهي عملية يتخلى فيها الفنان عن السيطرة الواعية لليد التي ترسم  أو تصور. في هذا المجال، تبنى الفنانون مثل أندريه ماسون وخوان ميرو الفرصة لبناء صورهم باستخدام حركات حرّة، وحتى إلقاء الطلاء على القماش. طور أرشيل غوركي -هو مهاجر أرمني عاش في الولايات المتحدة- أسلوبًا في الرسم يدمج بين الرسم الآلي وتجريد مجال الألوان. لوحاته في الأربعينيات حجمُها ضخم – ومرد ذلك تأثره بأعماله السابقة كفنان جداري مُعيّن من الدولة خلال السنوات الأخيرة من الكساد الكبير – لكنها معبّرة وغنائية في الرسم بالفرشاة. ألهم إدماج غوركي للأنماط جيلًا واسعًا من الفنانين الأمريكيين في فترة ما بعد الحرب لاحتضان التجريد الواسع النطاق. ما نسميه الآن «التعبيرية التجريدية»، وكان ذاك الجيل في الواقع مجموعة فضفاضة من الفنانين الذين يستخدمون أنماطًا متعدّدة من أنماط التجريد. ربما كان القاسم المشترك بين هؤلاء الفنانين – على الأقل في السنوات الأولى – هو دعم جيل جديد من النقاد بقيادة كليمنت غرينبيرغ، الذي كان يعتقد أن التجريد هو التعبير الأسمى للفن الغربي. «الكبد هو مشط الديك» (1944) - أرشيل جوركي.«الكبد هو مشط الديك» (1944) – أرشيل جوركي. الحداثة ومصير الفنّ الغربي كان يُعتقد في بعض الأوساط الفكرية المؤثرة أنّ الفن يتقدم نحو هدف؛ وهذا المضمون يشتمل عليه مصطلح «الطليعية» (Avant-garde)، الذي يُوصف به الفنّانون الذين يبتكرون أرضية جمالية جديدة. أصل المصطلح فرنسي يُطلق على الجنود الذين يتقدمون إلى مناطق جديدة. بالنسبة إلى غرينبيرغ، لم يكن هؤلاء الفنّانون يوسّعون حدود إمكانات الفن؛ بل كانوا يتقدمون نحو الهدف الحقيقي والمفرد لكل شكل فني. يُعدّ غرينبيرغ شخصية مهمة في تاريخ الفن التجريدي، وذلك لأمرين: بوصفه مناصرًا رائدًا في مسألة تفوق الفن التجريدي على غيره من أنواع الرسم، وتأكيده للقوة التي امتلكها هذا الفن. كان ناقدًا في اللجنة الأمريكية للحريّة الثقافية التي تمولها الدولة، وهي مجموعة تم إنشاؤها لتعزيز الفن الأمريكي على المستوى الدولي. أصبحت أفكار غرينبيرغ مؤثرة عندما كانت الولايات المتحدة جزءًا من الحرب على الفاشية والنازية، وخلال الحرب الباردة اللاحقة ضد الشيوعية السوفيتية. كانت معايير الفن الفاشي والسوفياتي واضحة، وهي ما تحددها السلطات الثقافية أنها كذلك، بيد أنّه ما لم يكن واضحًا هو معايير الفن «الجيد» وتحديدًا في الغرب الديمقراطي. كان الماركسيون هم من تعاطف مع غرينبيرغ في البداية، لكن ارتبط تفكيره بشكلٍ متزايد بالهيمنة الثقافية الأمريكية. بالنسبة إليه، كان التجريد في أعمال بولوك فنًا مثاليًا لمجتمع ديمقراطي. تتجلى الحداثة في الفن، وفقًا لغرينبيرغ، في إطار التنوير الأوروبي؛ أيّ في فترة ازدهار الأفكار الفلسفية والعلمية التي أعطت الأولوية للعقل. في مقالته المؤثرة « الرسم الحداثي» (1961)، وصفَ غرينبيرغ إيمانويل كانط – الفيلسوف الألماني في عصر التنوير – بأنّه «أول حداثي حقيقي». كان أسلوب كانط في «النقد» هو استخدام العقل لنقد العقل بغرض توضيحه، ومنحه استقلالية عن أنواع التفكير الأخرى. «أولمبيا» - إدوارد مانيه (1863). بالنسبة إلى كليمنت غرينبيرغ، كان مانيه أول رسام حداثي. لقد رسم مانيه لوحاته بأسلوبٍ مسطّح بشكلٍ متعمد.«أولمبيا» – إدوارد مانيه (1863). بالنسبة إلى كليمنت غرينبيرغ، كان مانيه أول رسام حداثي. لقد رسم مانيه لوحاته بأسلوبٍ مسطّح بشكلٍ متعمد. بالطريقة نفسها، كان الرسامون الحداثيون – من إدوارد مانيه في القرن التاسع عشر إلى موريس لويس، وهو رسام يعمل ينتمي إلى رسامي أسلوب مجال ألوان في الولايات المتحدة في الوقت الذي كتب فيه غرينبيرغ مقالته – يعملون على ترسيخ الفن التعبيري «بشكل صارم في مجال تخصصه». رأى غرينبيرغ أن وضوح الفن التجريدي -الذي كان صادقًا بالنسبة إلى الوسيط الذي يُعبّر من خلاله- معارضٌ لـ«الفن الشعبي المبتذل [الكيتش]» الذي ينُتج على نطاق واسع في الثقافة الشعبية. إن إزالة «الكيتش» كانت مسألة استجلاء وتوضيح تحتاجها جميع الفنون لكي تصبح تعبيرًا عن إمكاناتها الجمالية الكامنة. اللوحات مسطّحة، وإيهام العمق الذي نجده في معظم الفن الغربي كان انحرافًا عن جوهر فن الرسم ذاته. كانت استقلالية الشكل الفني في جميع خصائصه دون أن تتلوث بأشكال فنية أخرى. وفقًا لغرينبيرغ، يعدّ الشكل واللون من أهم خصائص الرسم، و أفضل تمثيل لها يكون بشكلٍ مسطّح. وهكذا دافع غرينبيرغ عن «التسطيح» الذي تجلّى في لوحات الفنانين الأمريكيين التجريدية مثل جاكسون بولوك باعتباره تحقيقًا لهذا الوضوح الحداثي. لقد ضم هؤلاء الفنانين معًا ضمن فريق واحد، وهم يمثّلون المرحلة التالية في الحداثة، وقد حلّت رؤيتهم الأمريكية المميزة محلّ الفن الأوروبي الطليعي. وفي الوقت الذي أصبح فيه الفن التجريدي الأمريكي مهيمنًا، تراجعت هيمنة غرينبيرغ النقدية، وظهرت أشكال جديدة من الفن الطليعي، مستوحاة مباشرة من الثقافة الجماهيرية، وحلّت محلّ التعبيرية التجريدية في المخيال العام. تبنى فنانوّ «البوب» مثل: آندي وارهول، وريتشارد هاميلتون هذا النوع من «الفن الشعبي المبتذل» الذي رآه غرينبيرغ تلويثًا للفن الحقيقي. استمرت الأعمال الفنية التجريدية، ولكن تخلّى الفنّانون التجريديون الأكثر جرأة عن الفكرة الصارمة «للنقد الحداثي»، وعن الوضوح المتعلق بخصوصية الوسيط الفني، وذلك لصالح أشكال أخرى من التعبير. نظر فنانوّ «ما بعد الحداثة» إلى السخرية وعملية الرسم نفسها، كطرق لتجاوز الطريق المسدود للحداثة. تبنى الألماني غيرهارد ريختر كلا النهجين؛ فبعض أعماله التجريدية في الستينيات كانت مصنوعة بممسحاتٍ بدلًا من الفرشاة، حتى يتمكن من لفت الانتباه إلى عملية صنع اللوحة نفسها. كانت «اللوحات التجريدية» البارزة الأخرى التي رسمها ريختر في الواقع صورًا واقعية مرسومة بعناية تعكس لوحاته التجريدية الأخرى. أصبحت طلائعية الرسم التجريدي مفهومية أكثر، ما جعل ضمنيًّا قضية الرسم تحظى باستقلالية أقل مما كان كان يعتقد النقاد الحداثيون. قلّد فنانوّ «نيو جيو»، مثل: الرسام بيتر هالي، والنحات أشلي بيكرتون اللغة البصرية للتجريد الهندسي، لكنهما دمجاها مع السلع الاستهلاكية بألوانٍ تجارية فاتحة وأحيانًا فلورية. منذ ذلك الجيل ما بعد الحداثي من الرسامين والنحاتين الممتد من الستينيات إلى التسعينيات، ازدهر التجريد متفرّعًا إلى عددٍ لا يُحصى من الأساليب والمقاربات بجوار الفن التشخيصي. هنا يمكن القول إنّ التجريد المتحرّر من عبء التوقعات الحداثية هو ببساطة نهج للتعبير مثل أيّ نهج آخر. وتجدر الإشارة إلى أنّ بعض الفنانين التجريديين استخدموا الحيل البصرية المستعملة في الفن التشخيصي – مثل المنظور والتظليل – في لوحاتهم. ولاستخدامهم هذا أهداف فريدة و غالبًا لا تهتم بالنظرية. قلّد فنانوّ «ما بعد الحداثة» مثل: بيتر هالي اللغة البصرية المستعملة في الفن التجريدي الحديث (في حالة بيتر، التجريد الهندسي)، للتعليق على طبيعة الفن والمعنى نفسه. تمثّل هذه الكتل الملونة «الخلايا» و«الأنابيب».قلّد فنانوّ «ما بعد الحداثة» مثل: بيتر هالي اللغة البصرية المستعملة في الفن التجريدي الحديث (في حالة بيتر، التجريد الهندسي)، للتعليق على طبيعة الفن والمعنى نفسه. تمثّل هذه الكتل الملونة «الخلايا» و«الأنابيب». هذا هو التحرّر نحو الأفضل بين الرسامين التجريديين الذين يمكنهم الالتزام برؤيةٍ فريدة بالرسم على القماش. لكن فكّ ارتباط الفن التجريدي عن إطاره الفلسفي الأوسع أدى أيضًا إلى انتشارٍ يثير التساؤل لأعمال تجريدية متنوعة قابلة للاستهلاك – بمعنى أنّها فقدت قيمتها، وباتت تُباع وتُشترى سريعًا بأسعارٍ مربحة – يشتريها المشترون المتضاربون. دفع هذا التحول الناقد جيري سالتز إلى كتابة: « الزومبي على الجدران: لماذا يبدو الكثير من التجريد الجديد متشابهًا؟». وقد شبه اللّوحات التجريدية بصورة «الزومبي»، تحقيرًا لأعمال عددٍ من الرسامين التجريديين البارزين، الذين استخدموا الفنّ وجماليته لتقديم أعمال مبتذلة. ومن المفارقات أن هؤلاء الفنانين نظروا إلى الشكلانية بوصفها فنًّا حداثيًّا متبنّين منظور غرينبيرغ، لكنهم بالطبع قدّموا أعمالًا في ظلّ فراغ تاريخي وبعد فترةٍ طويلة حين لم يُصبح التجريد مثيرًا للاهتمام أو راديكاليًا بأي وجه من الوجوه. في الواقع، لم يصل مشروع الحداثة  في الفن التجريدي إلى نهايته، بل النقد. إنّ النقد -أيّ الإطار الفلسفي الواسع الذي يصادق على الأعمال الفنية ويثمّنها لأهميتها الثقافية والتاريخية- هو ما فقد التوجه والسلطة. كان مسار الفن الغربي منذ عصر التنوير يتأرجح بين قطبي الدوغمائية النقدية والإبداع. تكمن المشكلة أنه في العقود الأخيرة، وفي ظلّ غياب أي مشروع نقدي متماسك، انجرف الفن نحو إرضاء اهتمامات دقيقة ومتنوعة تزداد باستمرار. في حين كانت هناك «حركات» و«مدارس» فنية -مصطلحان يشيران إلى الوجهة والانضباط- لم يعد لدينا الآن سوى «مشاهد». هذا ليس بالضرورة أمرًا سيئًا. ولكن في عالم حيث «كل شيء مقبول – anything goes»، لا يوجد مجال لهذا النوع من الابتكار والتجاوز الذي أدى إلى ظهور الفن التجريدي في الغرب، وهذا ما جعل الفن الحديث فنًّا مثيرًا للغاية. من الصعب في هذه اللحظة التاريخية أن ندرك ما الذي جعل لوحة بولوك «رقم 32» مثيرة للانقسام، ومخلخلةً جدًا للمعايير، وفي الوقت نفسه محتفظةً بقيمةٍ عالية جدًا لأولئك الذين يعتقدون أن للفنِّ مكانًا في المجتمع يتجاوز المتعة. [divider style=”solid” top=”20″ bottom=”20″] [1] واللقب كذلك يُلمح إلى القاتل المتسلسل في لندن آخر القرن التاسع عشر: جاك السفّاح Jack the ripper (مدير التحرير). ### خارج عقلك | توم تشاتفيلد – ت: محمد السعيد                  عندما يكون هاتفي النقال بين يديّ، هل أكون أنا الشخص نفسه لو كان الهاتف في غرفة أخرى؟ من ناحية،... ### الدراما في التعليم: مقاربات وتطبيقات | نعيم حيماد افتتاحيّة حظي استخدام الدراما في التعليمفي السنوات الأخيرة باهتمام كبير من قبل نخبة من المنظرين والممارسين للدراما في مجال التعليم.... ### الحقائق المخفية | دي بي سي بيير – ت: محمد السعيد       يحمل جبل كلسي خشن في غرب إيران عددًا من النقوش البارزة، من بينها لوحة طولها خمسة وعشرين مترًا منقوشة... ### التغلُّب على كاشف الكذب | كلاريسا سيباغ-مونتِنفيوري – ت: محمد السعيد          حين  اتُّهِمَتْ مربية الأطفال البريطانية لويز وودورد بهزِّ رضيع حتى الموت في مدينة نيوتن بولاية ماساتشوستس، لم تكتفِ بإعلان... ### عن منصة معنى «معنى»، مؤسسة ثقافية تقدّمية ودار نشر تهتم بالفلسفة والمعرفة والفنون، عبر مجموعة متنوعة من المواد المقروءة والمسموعة والمرئية. انطلقت في 20 مارس 2019، بهدف إثراء المحتوى العربي، ورفع ذائقة ووعي المتلقّي المحلي والدولي، عبر الإنتاج الأصيل للمنصة والترجمة ونقل المعارف. ### روابط سريعة ### التصنيفات ### مرحبا بك! قم بتسجيل الدخول إلى حسابك تذكرني ### قم بإنشاء حساب جديد! املأ النموذج أدناه للتسجيل ### طلب إعادة تعيين كلمة المرور يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان البريد الإلكتروني لإعادة تعيين كلمة المرور الخاصة بك. ### Add New Playlist - Select Visibility -PublicPrivate No Result عرض جميع النتائج - 00:00 00:00 - 00:00 00:00
article
Arabic
ar
الفنّ التجريدي: بين الماضي والحاضر - منصة معنى الثقافية
https://mana.net/abstract-art/
1,810
إحدى النظريات الأكثر وضوحًا هي أن ظهور التصوير الفوتوغرافي بوصفه شكلًا من أشكال الفن، إضافةً إلى تطور الفن الحديث، سببان رئيسان لإزاحة الرسم التشخيصي.
sentence
ظهرت العديد من التفسيرات لشرح ذلك. إحدى النظريات الأكثر وضوحًا هي أن ظهور التصوير الفوتوغرافي بوصفه شكلًا من أشكال الفن، إضافةً إلى تطور الفن الحديث، سببان رئيسان لإزاحة الرسم التشخيصي.
paragraph
Arabic
ar
الفنّ التجريدي: بين الماضي والحاضر - منصة معنى الثقافية
https://mana.net/abstract-art/
1,811
ثمّة إجابات أخرى غير ملموسة لاستكشاف الأسباب: ربما عندما أصبحت الأعمال الفنية قابلة للاستهالاك بشكل متزايد، مثل السلع، بات من السهولة فصل اللوحات والمنحوتات عن التجارب المحددة لمبدعيها. ربما أدت الحداثة في الغرب إلى إفراغ الفن من المحتوى التشخيصي؛ مما دفع الفنانين أيضًا إلى التخلي عن التمثيل التشخيصي.
paragraph
لا توجد منتجات في سلة المشتريات. No Result عرض جميع النتائج الثلاثاء, سبتمبر 10, 2024 No Result عرض جميع النتائج No Result عرض جميع النتائج # الفنّ التجريدي: بين الماضي والحاضر ## ترجمة: أنطونيوس نادر AA AA إعادة تعيين فنٌ مليء بالتحديات ثمّة خطٌ رفيع يفصل بين الفن التجريدي ومجرد الزخرفة، ولوحة «رقم 32» (نُشرت عام 1950)، لجاكسون بولوك تتأرجح بين هذا الخطّ. فهي لا تشير إلى معنىً واضح، ولكن لا يمكن القول إنّها بلا معنى على الإطلاق. كما أنّها ليست معبّرة بشكلٍ مباشر، ولا يعني هذا أنها لا تعبّر عن مدلولٍ ما. تحمل هذه اللوحة الكثير من المضامين عن الفن الغربي بالنسبة إلى شخصٍ خبيرٍ في تاريخ الفن؛ أما بالنسبة إلى شخصٍ عادي، فقد يراها عملًا مبتذلًا بالكاد يعبّر عن أمرٍ ما. اللوحة شبكة من الخطوط وبقعٍ من الألوان، رُسمت عن طريق صبّ طلاءٍ رخيص بعشوائيةٍ مباشرة على القماش. تتكون اللوحة من طلاءٍ أسود فقط وقماشٍ خام. واللوحة ضخمة؛ إذ يبلغ طولها تسعة أقدام وعرضها خمسة عشر قدمًا، وتغطي مجال رؤية المشاهد أثناء اقترابه منها. تقليديًّا، حتى اللوحات التجريدية تتكون من أجزاءٍ مترابطة مع بؤر تركيز (emphases) وعمقٍ يُنقل من خلال اللون والظلال، ولكن «رقم 32» ليس لها أجزاء؛ إنّها تتكون من تعالقات، والبؤرة فيها تكمن عبر امتداد سطح القماش المستطيل. يمنحها ما سبق عمقًا سطحيًا، وربما لا عمق فيها: مجرّد طلاء على قماش. إنّها عبث بالشكل واللون. حتى اسمها، ببساطة رقمٌ معيّن – رقم 32 – يجعلها تنأى بنفسها عن أي فكرة مفادها أنها تعكس مدلولًا محدّدًا. تشير عناوين أعمال بولوك الأخرى إلى نوعٍ من الاختبار الشخصي، وإلى الاستخدام السمفوني المتعدد الطبقات للون والملمس؛ خذ مثلًا لوحاته التي تحمل اسم: «إيقاع الخريف»، و«الضباب الأرجواني»، و«الأقطاب الزرقاء»، و«انعكاس الدنقلة الكبير». هذا لا ينطبق على لوحة «رقم 32»؛ شكلها الخام وبساطتها دليل على أنّ الفنان لم يخطط مسبقًا لرسمها؛ أيّ أنّه لم ينتق الألوان ولا الطبقات. يبدو بولوك هنا أكثر حضورًا، من خلال لمساته الحادة. بالنسبة إلى مؤيديّ عمل بولوك، تختصر هذه اللوحة خلاصة نظرة الفنان الجمالية. أما بالنسبة للبعض الآخر، فهي لوحة مبتذلة. وصف جوزيف بويس -النحات الألماني في فترة ما بعد الحرب- الفنَّ التجريدي الأمريكي بأنه مجرد «تغليف»، أيّ سطح بلا محتوى. في هذا الصدد، قد يتفق البعض أن لوحة «رقم 32» تجسد فراغ الفكر والشعور ذاك. فقد رأى الروائي والناقد الفني روبرت كوتس أن فن بولوك لم يكن سوى «انفجارات» غير منظمة من الطاقة العشوائية. غير أنّ طائفة كبيرة من متذوقي الفن التجريدي لا تروق إليهم أعمال بولوك ويرونها فنًّا محيرًا، حتى إنّ بعضهم يراها إهانةً للذوق أو الحسّ السليم. عُرف بولوك بلقب: «جاك فنان النقط» (Jack the Dripper) [1] في الأوساط الإعلامية المشككة بعمله حيث ادعى كثر أن أيّ شخص يمكنه أن يرسم كما يرسم بولوك إلّا أنّ أحدًا لم يتجرأ على فعل ذلك. «رقم 32» - جاكسون بولوك«رقم 32» – جاكسون بولوك بيد أنّ هذا هو مغزى الفن التجريدي في التقليد الغربي: إنّه تحدّ. وفي ظل الكثير هذه التحديات، تُعد لوحة « رقم 32» اللوحة الأكثر تمثيلًا لهذا الفن. قصة الفنّ التجريدي مسار قصة الفن التجريدي مضمّنة في الدراسات التاريخية الفنية، إلّا أنّ المحطات الرئيسة لهذا المسار كانت محط تغييرات مفاجئة كلما اكتشف مؤرخوّ الفن حقائق جديدة. انطلق مسار الفن التجريدي بدءًا من القرن التاسع عشر وما تلاه؛ حيث استفاد الفنانون من مادة الطلاء والجوانب الشكلية للرسم مثل اللون والدرجة والخطوط. يُعرف هذا الانشغال بالجوانب غير التمثيلية (non-representative) للفن باسم «الشكلانية»، لأنّه انشغال «بالشكل»، أيّ بتوسل شكل المحتوى بدلًا من المحتوى في ذاته. بالنسبة إلى الفنانين في القرن التاسع عشر، صُنّف الفن التجريدي على أنّه «فنٌّ من أجل الفنّ»، وكانت الفكرة الشائعة مفادها أنّ المتذوق للفن يمكنه الاستمتاع بالعمل دون اللجوء إلى معنى أو حتى أي شيء آخر يمثل أمرًا ما. تمثّل لوحة «الموسيقى الهادئة باللّونين الأسود والذهبي – الصاروخ الساقط» (1872)، للفنان جيمس مكنيل ويسلر هذا الاتجاه الذي تبلور لاحقًا في الفن التجريدي.  إنّ مشهد ويسلر الغامض من الناحية المكانيّة يقترب إلى التجريد، وذلك بمحاولته نقل الشعور أو الانطباع الخاص بالمشهد بدلًا من إعادة إنتاجه بحذافيره. «الموسيقى الهادئة باللونين الأسود والذهبي - الصاروخ الساقط» (1872-1877) - جيمس أبوت مكنيل ويسلير«الموسيقى الهادئة باللونين الأسود والذهبي – الصاروخ الساقط» (1872-1877) – جيمس أبوت مكنيل ويسلير في عام 1877، انتقد جون روسكين – أبرز نقّاد بريطانيا في ذلك الوقت – عمل ويسلير هذا نقدًا لاذعًا فشبهه «بمن قام برمي الطلاء في وجه الجمهور». تأثر ويسلر بهذا الكلام، فرفع دعوى قضائية ضد روسكين، بيد أنّه خسرها لأن المسؤولين عرضوا اللوحة -خطأً- مقلوبةً على المحكمة. أفلس ويسلير بسبب هذه القضية، لكن مسيرة تطور الفن التجريدي استمرت. من ناحيةٍ أخرى، تحديد أول فنان تجريدي في العالم موضوع نزاع. في نظر أبحاث تاريخ الفن التقليدية، كان فاسيلي كاندينسكي – فنان روسي الجنسية رسم لوحات تجريدية بالكامل في مطلع عام 1911- هو أول فنان تجريدي. لم ينل الفن التجريدي الرائد لهيلما أف كلينت تقديرًا إلا قبل سنوات قريبة. هذه صورة للمعرض الشهير في  متحف غاغينهايم، عام 2018 .لم ينل الفن التجريدي الرائد لهيلما أف كلينت تقديرًا إلا قبل سنوات قريبة. هذه صورة للمعرض الشهير في  متحف غاغينهايم، عام 2018 . ولكن في الآونة الأخيرة، وبفضل المعرض الرائد في متحف مقاطعة لوس أنجلوس للفنون في عام 1986 الذي حمل اسم «الروحانية في الفن: الرسم التجريدي 1890 – 1985»، وقع الاختيار على هيلما أف كلينت كأول رسامة تجريدية. بدأت كلينت في رسم لوحات تجريدية بدءًا من عام 1906، وحملت مجموعتها عنوان «الفوضى البدائية». كانت الفنانة متكتمة في ما يتعلق بأعمالها التجريدية، ولم تُعرض أيّ منها في معارض عامة، وبقيت غير معروفة حتى أزيح عنها الستار مؤخرًا. ولعل الجدال حول هوية أول من مارس الفن التجريدي سيستم، لكن الحقيقة الأكثر أهمية هي أن العديد من الفنانين الأوروبيين البارزين قد توصّلوا في أعمالهم إلى التجريد بحلول الحرب العالمية الأولى. لقد وجد كل منهم طريقته الخاصة في التخلي عن الفن التشخيصي (figurative painting). وجديرٌ بالذكر أنّه لم تكن هناك حركة «تجريدية» دولية ذات رؤية أو بيان مشترك. في ضوء ذلك، فإن السؤال الملحّ حقًا هو: لمَ لمْ يتبنى الفنانون الغربيون الفن التجريدي على امتداد قرون عديدة؟ لماذا كان التجريد غير ضروري أو لا معنى له أو غير مناسب أو حتى لا يمكن تقبّله لقرونٍ متوالية في الفن الغربي؟ ظهرت العديد من التفسيرات لشرح ذلك. إحدى النظريات الأكثر وضوحًا هي أن ظهور التصوير الفوتوغرافي بوصفه شكلًا من أشكال الفن، إضافةً إلى تطور الفن الحديث، سببان رئيسان لإزاحة الرسم التشخيصي. ثمّة إجابات أخرى غير ملموسة لاستكشاف الأسباب: ربما عندما أصبحت الأعمال الفنية قابلة للاستهالاك بشكل متزايد، مثل السلع، بات من السهولة فصل اللوحات والمنحوتات عن التجارب المحددة لمبدعيها. ربما أدت الحداثة في الغرب إلى إفراغ الفن من المحتوى التشخيصي؛ مما دفع الفنانين أيضًا إلى التخلي عن التمثيل التشخيصي. كل من هذه الإجابات معقدة وتتطلب الكثير من الشرح، ولا يمكن إلا أن تكون تخمينات. لا توجد إجابة واضحة لهذه المسألة. ربما يكون من الأفضل طرح السؤال حول سبب تقبّل الفن التجريدي فنًّا من الفنون الرسمية في تاريخ الفن الغربي في مرحلة معينة على علماء الأنثروبولوجيا بدلًا من طرحها على مؤرخي الفن. فما هو واضح أن الفن التجريدي كان موجودًا دائمًا في مناطق أخرى من العالم. ما جعل الفن التجريدي فنًّا حديثًا على وجه التحديد في العالم الغربي هو نظام المعارض، الذي أعطى القيمة الفنية للأعمال المعروضة. وكما هو واضح فقد ازدهر التجريد لآلاف السنين المناطق الشرقية والجنوبية من العالم، دون عناء التحقق من مكانة الأعمال المعروضة في الصالونات [والمعارض، كما هو في العالم الغربي]. الواقع الافتراضي و«الافتراضية» يتبنى بيبي كرمل وهو مؤرخ فني، في كتابه « الفن التجريدي: تاريخ عالمي»، فكرة أنّ الفن التجريدي كان دائمًا موجودًا بشكل طبيعي عندما ننظر إليه نظرة شاملة وعالمية، بيد أنّه يتحاشى طرح نظرية عن تطور الفن التجريدي. بالنسبة إلى كرمل، فإنّ هذا الفنّ متجذر في العالم الحقيقي، وهو ليس فنًّا «مجردًا» على الإطلاق، كما أنّه تقليد عالمي وليس محليًا. في دراسته حول الفن التجريدي يقسم العمل الفني إلى خمس فئات واسعة تنتمي إلى العالم الحقيقي: الأجسام، والمناظر الطبيعية، والكون، والبنى، والعلامات والأنماط. من خلال فحص الفن التجريدي بهذه الطريقة، يرى كرمل في اللوحات التجريدية موضوعات قابلة للتحليل، بعكس النقاد والمؤرخين الأرثوذكسيين الذين رأوا فيها مجرّد توليفات شكلية مكوّنة من لون وشكل. ربما يكون من الأفضل أن يطلق على الفن التجريدي: فن ما تم تجريده (abstracted art)؛ لأنّ الفنانين التجريديين عادةً ما يستخلصون ويجرّدون تعبيرات التجارب في شكل ولون،  أكثر من كونها توليفات مكونة من شكل ولون. ومرّد ذلك الطبيعة الجوهرية للرسم والنحت؛ فهما (الشكل اللّون) وسيطان للتعبير، مثل الشاشة أو المسرح لخيال الفنان. كما هو الحال في المسرح أو السينما، فإنّ جمهور اللوحة أو المنحوتة يعلّق معتقداته من أجل أن يتقبل المشهد. من المفيد التفكير في اللوحة التشخيصية التقليدية أو النحت على أنها حقيقة افتراضية. إذْ استخدم الفنانون لقرون عديدة الحيل البصرية -مثل المنظور الخطي، والتقصير المسبق، والتظليل- لمحاكاة الطريقة التي ندرك بها الأشياء في الفضاء الحقيقي. إنّ المشاهد تُنشأ في فضاء افتراضي – سواء كانت القاعدة التي تدعم التمثال أو القماش – ليراها المشاهدون بوصفها خدعة بصرية. «القديس بطرس شفاء أحد الأشخاص وبعث تابيثا من الموت» ماسولينو دي بانيكال. اعتمد الرسم الغربي قبل القرن العشرين على الحيل البصرية لخلق واقع افتراضي. إحدى هذه الحيل هي المنظور الخطي، وهذه اللوحة هي أول مثال لاستخدام نقطة تلاشٍ متسقة.«القديس بطرس شفاء أحد الأشخاص وبعث تابيثا من الموت» ماسولينو دي بانيكال. اعتمد الرسم الغربي قبل القرن العشرين على الحيل البصرية لخلق واقع افتراضي. إحدى هذه الحيل هي المنظور الخطي، وهذه اللوحة هي أول مثال لاستخدام نقطة تلاشٍ متسقة. يستمتع مشاهدوّ الأعمال الفنية العظيمة معنى ما يُرسم، ويقدرون الطريقة التي يتجلّى فيها الوهم عبر تمازج اللون والشكل. يبقى الفن التجريدي، إلى حدٍ ما، ضمن إطار التجربة الجمالية. فقد سعت حركات الفن الحديث التي أدت إلى التجريد -أيّ «مدارس الفن»، مثل الانطباعية والفاوفية والتكعيبية- إلى تمثيل العالم بشكل مختلف عن كل الفنون التي سبقتها. إذْ ادعوا الاقتراب من الحقيقة الذاتية عبر تهميش جميع الحيل الوهمية التقليدية التي حاولت إعادة إنتاج الواقع بحذافيره كحقيقة موضوعية. «الأحمر والأصفر والأزرق» (1925) واسيلي كاندينسكي.  كان كاندينسكي يعدّ لفترةٍ طويلة أب الرسم التجريدي الغربي.«الأحمر والأصفر والأزرق» (1925) واسيلي كاندينسكي.  كان كاندينسكي يعدّ لفترةٍ طويلة أب الرسم التجريدي الغربي. بالنسبة إلى هذه المدارس، أصبح الفن أقل من أن يوصف بأنّه واقع افتراضي، لكنه مع ذلك احتفظ بالافتراضية، وأصبح افتراضيًا. لقد أخذ الفن التجريدي مسار التطور هذا إلى أقصاه: من الواقع الافتراضي إلى الافتراضية. ماذا تعني «الافتراضية» هنا؟ إنّها الوجود كجوهر وتأثير، ولكن بدون اللجوء إلى الواقع. اللوحة التجريدية التي رسمها كاندينسكي، على سبيل المثال، ما زالت تُعدّ علاقة متبادلة بين الشكل واللون، و تعتمد على الرسم كمستوى تخطيطي: إنها نافذة تطلّ على «الواقع» الفردي الذي تصوّره كاندينسكي. وما تزال العناصر في لوحات كاندينسكي تحظى بعلاقة متبادلة، كما هو الحال في فضاء الواقع الافتراضي للوحة التشخيصية؛ فجوهر الرسم سليم إذ إنّ ذلك الفضاء الافتراضي ما زال موجودًا. عندما يكون الفن التجريدي بناءً خالصًا، ويتخلص من المساحة الافتراضية الملازمة للرسم والنحت، يصبح متميزًا عنهما. وصف دونالد جود الفنان التخفيفي (minimalist) مثل هذه الأعمال الفنية بأنها «أجسام محدّدة» (Specific Objects). إنّه مصطلح غير دقيق، ولكنه يصلح لإظهار أن مثل هذه الأعمال الفنية ليست رسمًا ولا نحتًا، ولكنها فئة أخرى تمامًا. رأى دونالد جود أن أعماله وأعمال العديد من معاصريه تشغل مساحة هجينة، لا هي لوحات ولا هي نحت. عمل دون عنوان لدونالد جود. استخدم جود هذا المصطلح لوصف أعماله الخاصة، ولكنه ينطبق على لوحات كازيمير ماليفيتش وفرانك ستيلا أحادية اللون، والتي تجعل اللوحة تندمج مع نفسها بالكامل، من أجل الوصول للتأثير الذي يأمل العمل في تحقيقه. في مثل هذه الأعمال، لم يعد قماش اللّوحة (أو القاعدة) سطحًا تتفاعل فيه الأشكال والألوان في الفضاء الافتراضي. بدلاً من ذلك، تتفاعل الأشكال والألوان في الفضاء الحقيقي، في فضائنا. تختلف معايير النجاح أو الفشل لهذه الأعمال عن الخصائص التقليدية للرسم والنحت. رأى جود أنّ خصائص الرسم والنحت تقف في طريق ما أراد تحقيقه من خلال اللون والشكل. في رأيه، كان لـ «أجسامه المحددة» تأثيرًا أحدّ من غيرها. الواقع والأشكال الجديدة للإدراك الحسّي الرسم نفسه له ثلاثة أنواع عامة من التجريد؛ أولًا، ثمّة أسلوب تعبيري تُرسم فيه الأشكال بحركاتٍ غير مقيدة؛ ثم هناك التجريد الهندسي حيث يتم هيكلة الأشكال؛ أما النوع الثالث، فهو تجريد مجال اللون حيث يتم عرض مساحات من الألوان بطريقةٍ لا شكل واضح لها. لم تكن هذه «الأنماط» (styles) أنماطًا عرضيةً أو تعتمد على ذوق أو ميل الرسام كوسيلة لتحقيق هدفٍ ما من البحث الفني. وخير مثال على ذلك هو الفنان الذي غالبًا ما ينظر إلى عمله على أنّه ذروة التجريد الهندسي: بيت موندريان. إنّ لوحات بيت موندريان المكونة من شبكات (grids) ذات الخطوط السوداء والأجزاء الملونة على خلفية بيضاء؛ تهدف إلى استحضار «حقيقة أعلى». بالنسبة إلى موندريان، كان الفن في جوهره معارضًا للواقع؛ «لأن الواقع يتعارض مع الروحي». بغض النظر عن هذه اللوحة الأشهر لموندريان، فإنّ جوانب الرسم التي تهم هذا الفنان حقًا لم تكن الجوانب المحددة للموضوع -أيّ ماذا أو ما يتم تصويره في اللوحة مثلًا- بل الجوانب القابلة للفهم عالميًا للشكل والخط واللون. إنّ لوحات موندريان، مثلها مثل لوحات الفنانين الآخرين، هي محاولة لاستخلاص الشكل واللون من أجل الاقتراب من ذلك الجوهر العالمي والروحي للفن. عبّر موندريان عن رغبته في الوصول إلى «أساس» الأشياء من خلال الحدس، كالعديد من الفنانين التجريديين الآخرين في النصف الأول من القرن العشرين الذين رغبوا في الوصول إلى قوى غير مرئية حولنا، ولكنها معروفة أو محدوسة. «التكوين الثاني باللون الأحمر والأزرق والأصفر» (1930) - بيت موندريان«التكوين الثاني باللون الأحمر والأزرق والأصفر» (1930) – بيت موندريان في أواخر القرن التاسع عشر، لاحظ العلماء بشكلٍ أفضل مما سبق القوى غير المرئية مع انتشار التقنيات الجديدة، وأصبح من الواضح أن العالم أرحب مما يبدو للعين. في الوقت نفسه، ظهرت حركات روحية بديلة جمعت بين الأفكار الأفلاطونية والتصوف. كان كلينت وموندريان من بين العديد من الفنانين الذين انغمسوا في أشكال الروحانية خارج العوالم التقليدية للدين. اعتقدت كلينت أن لوحاتها هي وحي عالم روحي، وأن مهمتها كانت العمل «على مستوى روحاني» لتمثيل روح الإنسان، بدلًا من صورته الفانية. بحلول عشرينيات القرن الماضي، كانت نظرية فرويد عن للعقل البشري قد تغلغلت أيضًا في عالم الفن.  كذلك السريالية، وهي حركة منظمة بإحكام بدأت مع بعض الفنانين الذين سعوا إلى التنقيب عن الإمكانات الإبداعية للعقل الباطن، وهي الحركة الثقافية التي كانت سائدة في أوروبا بين الحربين العالميتين. لم تكن السريالية دوغمائية في محاولتها لاستكشاف اللاوعي، ولذلك ظهر عدد من الأساليب والطرق لمحاولة إخراج اللاوعي إلى السطح. إحدى هذه الأساليب كان الرسم الآلي (Automatism)، وهي عملية يتخلى فيها الفنان عن السيطرة الواعية لليد التي ترسم  أو تصور. في هذا المجال، تبنى الفنانون مثل أندريه ماسون وخوان ميرو الفرصة لبناء صورهم باستخدام حركات حرّة، وحتى إلقاء الطلاء على القماش. طور أرشيل غوركي -هو مهاجر أرمني عاش في الولايات المتحدة- أسلوبًا في الرسم يدمج بين الرسم الآلي وتجريد مجال الألوان. لوحاته في الأربعينيات حجمُها ضخم – ومرد ذلك تأثره بأعماله السابقة كفنان جداري مُعيّن من الدولة خلال السنوات الأخيرة من الكساد الكبير – لكنها معبّرة وغنائية في الرسم بالفرشاة. ألهم إدماج غوركي للأنماط جيلًا واسعًا من الفنانين الأمريكيين في فترة ما بعد الحرب لاحتضان التجريد الواسع النطاق. ما نسميه الآن «التعبيرية التجريدية»، وكان ذاك الجيل في الواقع مجموعة فضفاضة من الفنانين الذين يستخدمون أنماطًا متعدّدة من أنماط التجريد. ربما كان القاسم المشترك بين هؤلاء الفنانين – على الأقل في السنوات الأولى – هو دعم جيل جديد من النقاد بقيادة كليمنت غرينبيرغ، الذي كان يعتقد أن التجريد هو التعبير الأسمى للفن الغربي. «الكبد هو مشط الديك» (1944) - أرشيل جوركي.«الكبد هو مشط الديك» (1944) – أرشيل جوركي. الحداثة ومصير الفنّ الغربي كان يُعتقد في بعض الأوساط الفكرية المؤثرة أنّ الفن يتقدم نحو هدف؛ وهذا المضمون يشتمل عليه مصطلح «الطليعية» (Avant-garde)، الذي يُوصف به الفنّانون الذين يبتكرون أرضية جمالية جديدة. أصل المصطلح فرنسي يُطلق على الجنود الذين يتقدمون إلى مناطق جديدة. بالنسبة إلى غرينبيرغ، لم يكن هؤلاء الفنّانون يوسّعون حدود إمكانات الفن؛ بل كانوا يتقدمون نحو الهدف الحقيقي والمفرد لكل شكل فني. يُعدّ غرينبيرغ شخصية مهمة في تاريخ الفن التجريدي، وذلك لأمرين: بوصفه مناصرًا رائدًا في مسألة تفوق الفن التجريدي على غيره من أنواع الرسم، وتأكيده للقوة التي امتلكها هذا الفن. كان ناقدًا في اللجنة الأمريكية للحريّة الثقافية التي تمولها الدولة، وهي مجموعة تم إنشاؤها لتعزيز الفن الأمريكي على المستوى الدولي. أصبحت أفكار غرينبيرغ مؤثرة عندما كانت الولايات المتحدة جزءًا من الحرب على الفاشية والنازية، وخلال الحرب الباردة اللاحقة ضد الشيوعية السوفيتية. كانت معايير الفن الفاشي والسوفياتي واضحة، وهي ما تحددها السلطات الثقافية أنها كذلك، بيد أنّه ما لم يكن واضحًا هو معايير الفن «الجيد» وتحديدًا في الغرب الديمقراطي. كان الماركسيون هم من تعاطف مع غرينبيرغ في البداية، لكن ارتبط تفكيره بشكلٍ متزايد بالهيمنة الثقافية الأمريكية. بالنسبة إليه، كان التجريد في أعمال بولوك فنًا مثاليًا لمجتمع ديمقراطي. تتجلى الحداثة في الفن، وفقًا لغرينبيرغ، في إطار التنوير الأوروبي؛ أيّ في فترة ازدهار الأفكار الفلسفية والعلمية التي أعطت الأولوية للعقل. في مقالته المؤثرة « الرسم الحداثي» (1961)، وصفَ غرينبيرغ إيمانويل كانط – الفيلسوف الألماني في عصر التنوير – بأنّه «أول حداثي حقيقي». كان أسلوب كانط في «النقد» هو استخدام العقل لنقد العقل بغرض توضيحه، ومنحه استقلالية عن أنواع التفكير الأخرى. «أولمبيا» - إدوارد مانيه (1863). بالنسبة إلى كليمنت غرينبيرغ، كان مانيه أول رسام حداثي. لقد رسم مانيه لوحاته بأسلوبٍ مسطّح بشكلٍ متعمد.«أولمبيا» – إدوارد مانيه (1863). بالنسبة إلى كليمنت غرينبيرغ، كان مانيه أول رسام حداثي. لقد رسم مانيه لوحاته بأسلوبٍ مسطّح بشكلٍ متعمد. بالطريقة نفسها، كان الرسامون الحداثيون – من إدوارد مانيه في القرن التاسع عشر إلى موريس لويس، وهو رسام يعمل ينتمي إلى رسامي أسلوب مجال ألوان في الولايات المتحدة في الوقت الذي كتب فيه غرينبيرغ مقالته – يعملون على ترسيخ الفن التعبيري «بشكل صارم في مجال تخصصه». رأى غرينبيرغ أن وضوح الفن التجريدي -الذي كان صادقًا بالنسبة إلى الوسيط الذي يُعبّر من خلاله- معارضٌ لـ«الفن الشعبي المبتذل [الكيتش]» الذي ينُتج على نطاق واسع في الثقافة الشعبية. إن إزالة «الكيتش» كانت مسألة استجلاء وتوضيح تحتاجها جميع الفنون لكي تصبح تعبيرًا عن إمكاناتها الجمالية الكامنة. اللوحات مسطّحة، وإيهام العمق الذي نجده في معظم الفن الغربي كان انحرافًا عن جوهر فن الرسم ذاته. كانت استقلالية الشكل الفني في جميع خصائصه دون أن تتلوث بأشكال فنية أخرى. وفقًا لغرينبيرغ، يعدّ الشكل واللون من أهم خصائص الرسم، و أفضل تمثيل لها يكون بشكلٍ مسطّح. وهكذا دافع غرينبيرغ عن «التسطيح» الذي تجلّى في لوحات الفنانين الأمريكيين التجريدية مثل جاكسون بولوك باعتباره تحقيقًا لهذا الوضوح الحداثي. لقد ضم هؤلاء الفنانين معًا ضمن فريق واحد، وهم يمثّلون المرحلة التالية في الحداثة، وقد حلّت رؤيتهم الأمريكية المميزة محلّ الفن الأوروبي الطليعي. وفي الوقت الذي أصبح فيه الفن التجريدي الأمريكي مهيمنًا، تراجعت هيمنة غرينبيرغ النقدية، وظهرت أشكال جديدة من الفن الطليعي، مستوحاة مباشرة من الثقافة الجماهيرية، وحلّت محلّ التعبيرية التجريدية في المخيال العام. تبنى فنانوّ «البوب» مثل: آندي وارهول، وريتشارد هاميلتون هذا النوع من «الفن الشعبي المبتذل» الذي رآه غرينبيرغ تلويثًا للفن الحقيقي. استمرت الأعمال الفنية التجريدية، ولكن تخلّى الفنّانون التجريديون الأكثر جرأة عن الفكرة الصارمة «للنقد الحداثي»، وعن الوضوح المتعلق بخصوصية الوسيط الفني، وذلك لصالح أشكال أخرى من التعبير. نظر فنانوّ «ما بعد الحداثة» إلى السخرية وعملية الرسم نفسها، كطرق لتجاوز الطريق المسدود للحداثة. تبنى الألماني غيرهارد ريختر كلا النهجين؛ فبعض أعماله التجريدية في الستينيات كانت مصنوعة بممسحاتٍ بدلًا من الفرشاة، حتى يتمكن من لفت الانتباه إلى عملية صنع اللوحة نفسها. كانت «اللوحات التجريدية» البارزة الأخرى التي رسمها ريختر في الواقع صورًا واقعية مرسومة بعناية تعكس لوحاته التجريدية الأخرى. أصبحت طلائعية الرسم التجريدي مفهومية أكثر، ما جعل ضمنيًّا قضية الرسم تحظى باستقلالية أقل مما كان كان يعتقد النقاد الحداثيون. قلّد فنانوّ «نيو جيو»، مثل: الرسام بيتر هالي، والنحات أشلي بيكرتون اللغة البصرية للتجريد الهندسي، لكنهما دمجاها مع السلع الاستهلاكية بألوانٍ تجارية فاتحة وأحيانًا فلورية. منذ ذلك الجيل ما بعد الحداثي من الرسامين والنحاتين الممتد من الستينيات إلى التسعينيات، ازدهر التجريد متفرّعًا إلى عددٍ لا يُحصى من الأساليب والمقاربات بجوار الفن التشخيصي. هنا يمكن القول إنّ التجريد المتحرّر من عبء التوقعات الحداثية هو ببساطة نهج للتعبير مثل أيّ نهج آخر. وتجدر الإشارة إلى أنّ بعض الفنانين التجريديين استخدموا الحيل البصرية المستعملة في الفن التشخيصي – مثل المنظور والتظليل – في لوحاتهم. ولاستخدامهم هذا أهداف فريدة و غالبًا لا تهتم بالنظرية. قلّد فنانوّ «ما بعد الحداثة» مثل: بيتر هالي اللغة البصرية المستعملة في الفن التجريدي الحديث (في حالة بيتر، التجريد الهندسي)، للتعليق على طبيعة الفن والمعنى نفسه. تمثّل هذه الكتل الملونة «الخلايا» و«الأنابيب».قلّد فنانوّ «ما بعد الحداثة» مثل: بيتر هالي اللغة البصرية المستعملة في الفن التجريدي الحديث (في حالة بيتر، التجريد الهندسي)، للتعليق على طبيعة الفن والمعنى نفسه. تمثّل هذه الكتل الملونة «الخلايا» و«الأنابيب». هذا هو التحرّر نحو الأفضل بين الرسامين التجريديين الذين يمكنهم الالتزام برؤيةٍ فريدة بالرسم على القماش. لكن فكّ ارتباط الفن التجريدي عن إطاره الفلسفي الأوسع أدى أيضًا إلى انتشارٍ يثير التساؤل لأعمال تجريدية متنوعة قابلة للاستهلاك – بمعنى أنّها فقدت قيمتها، وباتت تُباع وتُشترى سريعًا بأسعارٍ مربحة – يشتريها المشترون المتضاربون. دفع هذا التحول الناقد جيري سالتز إلى كتابة: « الزومبي على الجدران: لماذا يبدو الكثير من التجريد الجديد متشابهًا؟». وقد شبه اللّوحات التجريدية بصورة «الزومبي»، تحقيرًا لأعمال عددٍ من الرسامين التجريديين البارزين، الذين استخدموا الفنّ وجماليته لتقديم أعمال مبتذلة. ومن المفارقات أن هؤلاء الفنانين نظروا إلى الشكلانية بوصفها فنًّا حداثيًّا متبنّين منظور غرينبيرغ، لكنهم بالطبع قدّموا أعمالًا في ظلّ فراغ تاريخي وبعد فترةٍ طويلة حين لم يُصبح التجريد مثيرًا للاهتمام أو راديكاليًا بأي وجه من الوجوه. في الواقع، لم يصل مشروع الحداثة  في الفن التجريدي إلى نهايته، بل النقد. إنّ النقد -أيّ الإطار الفلسفي الواسع الذي يصادق على الأعمال الفنية ويثمّنها لأهميتها الثقافية والتاريخية- هو ما فقد التوجه والسلطة. كان مسار الفن الغربي منذ عصر التنوير يتأرجح بين قطبي الدوغمائية النقدية والإبداع. تكمن المشكلة أنه في العقود الأخيرة، وفي ظلّ غياب أي مشروع نقدي متماسك، انجرف الفن نحو إرضاء اهتمامات دقيقة ومتنوعة تزداد باستمرار. في حين كانت هناك «حركات» و«مدارس» فنية -مصطلحان يشيران إلى الوجهة والانضباط- لم يعد لدينا الآن سوى «مشاهد». هذا ليس بالضرورة أمرًا سيئًا. ولكن في عالم حيث «كل شيء مقبول – anything goes»، لا يوجد مجال لهذا النوع من الابتكار والتجاوز الذي أدى إلى ظهور الفن التجريدي في الغرب، وهذا ما جعل الفن الحديث فنًّا مثيرًا للغاية. من الصعب في هذه اللحظة التاريخية أن ندرك ما الذي جعل لوحة بولوك «رقم 32» مثيرة للانقسام، ومخلخلةً جدًا للمعايير، وفي الوقت نفسه محتفظةً بقيمةٍ عالية جدًا لأولئك الذين يعتقدون أن للفنِّ مكانًا في المجتمع يتجاوز المتعة. [divider style=”solid” top=”20″ bottom=”20″] [1] واللقب كذلك يُلمح إلى القاتل المتسلسل في لندن آخر القرن التاسع عشر: جاك السفّاح Jack the ripper (مدير التحرير). ### خارج عقلك | توم تشاتفيلد – ت: محمد السعيد                  عندما يكون هاتفي النقال بين يديّ، هل أكون أنا الشخص نفسه لو كان الهاتف في غرفة أخرى؟ من ناحية،... ### الدراما في التعليم: مقاربات وتطبيقات | نعيم حيماد افتتاحيّة حظي استخدام الدراما في التعليمفي السنوات الأخيرة باهتمام كبير من قبل نخبة من المنظرين والممارسين للدراما في مجال التعليم.... ### الحقائق المخفية | دي بي سي بيير – ت: محمد السعيد       يحمل جبل كلسي خشن في غرب إيران عددًا من النقوش البارزة، من بينها لوحة طولها خمسة وعشرين مترًا منقوشة... ### التغلُّب على كاشف الكذب | كلاريسا سيباغ-مونتِنفيوري – ت: محمد السعيد          حين  اتُّهِمَتْ مربية الأطفال البريطانية لويز وودورد بهزِّ رضيع حتى الموت في مدينة نيوتن بولاية ماساتشوستس، لم تكتفِ بإعلان... ### عن منصة معنى «معنى»، مؤسسة ثقافية تقدّمية ودار نشر تهتم بالفلسفة والمعرفة والفنون، عبر مجموعة متنوعة من المواد المقروءة والمسموعة والمرئية. انطلقت في 20 مارس 2019، بهدف إثراء المحتوى العربي، ورفع ذائقة ووعي المتلقّي المحلي والدولي، عبر الإنتاج الأصيل للمنصة والترجمة ونقل المعارف. ### روابط سريعة ### التصنيفات ### مرحبا بك! قم بتسجيل الدخول إلى حسابك تذكرني ### قم بإنشاء حساب جديد! املأ النموذج أدناه للتسجيل ### طلب إعادة تعيين كلمة المرور يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان البريد الإلكتروني لإعادة تعيين كلمة المرور الخاصة بك. ### Add New Playlist - Select Visibility -PublicPrivate No Result عرض جميع النتائج - 00:00 00:00 - 00:00 00:00
article
Arabic
ar
الفنّ التجريدي: بين الماضي والحاضر - منصة معنى الثقافية
https://mana.net/abstract-art/
1,812
ثمّة إجابات أخرى غير ملموسة لاستكشاف الأسباب: ربما عندما أصبحت الأعمال الفنية قابلة للاستهالاك بشكل متزايد، مثل السلع، بات من السهولة فصل اللوحات والمنحوتات عن التجارب المحددة لمبدعيها.
sentence
ثمّة إجابات أخرى غير ملموسة لاستكشاف الأسباب: ربما عندما أصبحت الأعمال الفنية قابلة للاستهالاك بشكل متزايد، مثل السلع، بات من السهولة فصل اللوحات والمنحوتات عن التجارب المحددة لمبدعيها. ربما أدت الحداثة في الغرب إلى إفراغ الفن من المحتوى التشخيصي؛ مما دفع الفنانين أيضًا إلى التخلي عن التمثيل التشخيصي.
paragraph
Arabic
ar
الفنّ التجريدي: بين الماضي والحاضر - منصة معنى الثقافية
https://mana.net/abstract-art/
1,813
ربما أدت الحداثة في الغرب إلى إفراغ الفن من المحتوى التشخيصي؛ مما دفع الفنانين أيضًا إلى التخلي عن التمثيل التشخيصي.
sentence
ثمّة إجابات أخرى غير ملموسة لاستكشاف الأسباب: ربما عندما أصبحت الأعمال الفنية قابلة للاستهالاك بشكل متزايد، مثل السلع، بات من السهولة فصل اللوحات والمنحوتات عن التجارب المحددة لمبدعيها. ربما أدت الحداثة في الغرب إلى إفراغ الفن من المحتوى التشخيصي؛ مما دفع الفنانين أيضًا إلى التخلي عن التمثيل التشخيصي.
paragraph
Arabic
ar
الفنّ التجريدي: بين الماضي والحاضر - منصة معنى الثقافية
https://mana.net/abstract-art/
1,814
كل من هذه الإجابات معقدة وتتطلب الكثير من الشرح، ولا يمكن إلا أن تكون تخمينات. لا توجد إجابة واضحة لهذه المسألة. ربما يكون من الأفضل طرح السؤال حول سبب تقبّل الفن التجريدي فنًّا من الفنون الرسمية في تاريخ الفن الغربي في مرحلة معينة على علماء الأنثروبولوجيا بدلًا من طرحها على مؤرخي الفن. فما هو واضح أن الفن التجريدي كان موجودًا دائمًا في مناطق أخرى من العالم.
paragraph
لا توجد منتجات في سلة المشتريات. No Result عرض جميع النتائج الثلاثاء, سبتمبر 10, 2024 No Result عرض جميع النتائج No Result عرض جميع النتائج # الفنّ التجريدي: بين الماضي والحاضر ## ترجمة: أنطونيوس نادر AA AA إعادة تعيين فنٌ مليء بالتحديات ثمّة خطٌ رفيع يفصل بين الفن التجريدي ومجرد الزخرفة، ولوحة «رقم 32» (نُشرت عام 1950)، لجاكسون بولوك تتأرجح بين هذا الخطّ. فهي لا تشير إلى معنىً واضح، ولكن لا يمكن القول إنّها بلا معنى على الإطلاق. كما أنّها ليست معبّرة بشكلٍ مباشر، ولا يعني هذا أنها لا تعبّر عن مدلولٍ ما. تحمل هذه اللوحة الكثير من المضامين عن الفن الغربي بالنسبة إلى شخصٍ خبيرٍ في تاريخ الفن؛ أما بالنسبة إلى شخصٍ عادي، فقد يراها عملًا مبتذلًا بالكاد يعبّر عن أمرٍ ما. اللوحة شبكة من الخطوط وبقعٍ من الألوان، رُسمت عن طريق صبّ طلاءٍ رخيص بعشوائيةٍ مباشرة على القماش. تتكون اللوحة من طلاءٍ أسود فقط وقماشٍ خام. واللوحة ضخمة؛ إذ يبلغ طولها تسعة أقدام وعرضها خمسة عشر قدمًا، وتغطي مجال رؤية المشاهد أثناء اقترابه منها. تقليديًّا، حتى اللوحات التجريدية تتكون من أجزاءٍ مترابطة مع بؤر تركيز (emphases) وعمقٍ يُنقل من خلال اللون والظلال، ولكن «رقم 32» ليس لها أجزاء؛ إنّها تتكون من تعالقات، والبؤرة فيها تكمن عبر امتداد سطح القماش المستطيل. يمنحها ما سبق عمقًا سطحيًا، وربما لا عمق فيها: مجرّد طلاء على قماش. إنّها عبث بالشكل واللون. حتى اسمها، ببساطة رقمٌ معيّن – رقم 32 – يجعلها تنأى بنفسها عن أي فكرة مفادها أنها تعكس مدلولًا محدّدًا. تشير عناوين أعمال بولوك الأخرى إلى نوعٍ من الاختبار الشخصي، وإلى الاستخدام السمفوني المتعدد الطبقات للون والملمس؛ خذ مثلًا لوحاته التي تحمل اسم: «إيقاع الخريف»، و«الضباب الأرجواني»، و«الأقطاب الزرقاء»، و«انعكاس الدنقلة الكبير». هذا لا ينطبق على لوحة «رقم 32»؛ شكلها الخام وبساطتها دليل على أنّ الفنان لم يخطط مسبقًا لرسمها؛ أيّ أنّه لم ينتق الألوان ولا الطبقات. يبدو بولوك هنا أكثر حضورًا، من خلال لمساته الحادة. بالنسبة إلى مؤيديّ عمل بولوك، تختصر هذه اللوحة خلاصة نظرة الفنان الجمالية. أما بالنسبة للبعض الآخر، فهي لوحة مبتذلة. وصف جوزيف بويس -النحات الألماني في فترة ما بعد الحرب- الفنَّ التجريدي الأمريكي بأنه مجرد «تغليف»، أيّ سطح بلا محتوى. في هذا الصدد، قد يتفق البعض أن لوحة «رقم 32» تجسد فراغ الفكر والشعور ذاك. فقد رأى الروائي والناقد الفني روبرت كوتس أن فن بولوك لم يكن سوى «انفجارات» غير منظمة من الطاقة العشوائية. غير أنّ طائفة كبيرة من متذوقي الفن التجريدي لا تروق إليهم أعمال بولوك ويرونها فنًّا محيرًا، حتى إنّ بعضهم يراها إهانةً للذوق أو الحسّ السليم. عُرف بولوك بلقب: «جاك فنان النقط» (Jack the Dripper) [1] في الأوساط الإعلامية المشككة بعمله حيث ادعى كثر أن أيّ شخص يمكنه أن يرسم كما يرسم بولوك إلّا أنّ أحدًا لم يتجرأ على فعل ذلك. «رقم 32» - جاكسون بولوك«رقم 32» – جاكسون بولوك بيد أنّ هذا هو مغزى الفن التجريدي في التقليد الغربي: إنّه تحدّ. وفي ظل الكثير هذه التحديات، تُعد لوحة « رقم 32» اللوحة الأكثر تمثيلًا لهذا الفن. قصة الفنّ التجريدي مسار قصة الفن التجريدي مضمّنة في الدراسات التاريخية الفنية، إلّا أنّ المحطات الرئيسة لهذا المسار كانت محط تغييرات مفاجئة كلما اكتشف مؤرخوّ الفن حقائق جديدة. انطلق مسار الفن التجريدي بدءًا من القرن التاسع عشر وما تلاه؛ حيث استفاد الفنانون من مادة الطلاء والجوانب الشكلية للرسم مثل اللون والدرجة والخطوط. يُعرف هذا الانشغال بالجوانب غير التمثيلية (non-representative) للفن باسم «الشكلانية»، لأنّه انشغال «بالشكل»، أيّ بتوسل شكل المحتوى بدلًا من المحتوى في ذاته. بالنسبة إلى الفنانين في القرن التاسع عشر، صُنّف الفن التجريدي على أنّه «فنٌّ من أجل الفنّ»، وكانت الفكرة الشائعة مفادها أنّ المتذوق للفن يمكنه الاستمتاع بالعمل دون اللجوء إلى معنى أو حتى أي شيء آخر يمثل أمرًا ما. تمثّل لوحة «الموسيقى الهادئة باللّونين الأسود والذهبي – الصاروخ الساقط» (1872)، للفنان جيمس مكنيل ويسلر هذا الاتجاه الذي تبلور لاحقًا في الفن التجريدي.  إنّ مشهد ويسلر الغامض من الناحية المكانيّة يقترب إلى التجريد، وذلك بمحاولته نقل الشعور أو الانطباع الخاص بالمشهد بدلًا من إعادة إنتاجه بحذافيره. «الموسيقى الهادئة باللونين الأسود والذهبي - الصاروخ الساقط» (1872-1877) - جيمس أبوت مكنيل ويسلير«الموسيقى الهادئة باللونين الأسود والذهبي – الصاروخ الساقط» (1872-1877) – جيمس أبوت مكنيل ويسلير في عام 1877، انتقد جون روسكين – أبرز نقّاد بريطانيا في ذلك الوقت – عمل ويسلير هذا نقدًا لاذعًا فشبهه «بمن قام برمي الطلاء في وجه الجمهور». تأثر ويسلر بهذا الكلام، فرفع دعوى قضائية ضد روسكين، بيد أنّه خسرها لأن المسؤولين عرضوا اللوحة -خطأً- مقلوبةً على المحكمة. أفلس ويسلير بسبب هذه القضية، لكن مسيرة تطور الفن التجريدي استمرت. من ناحيةٍ أخرى، تحديد أول فنان تجريدي في العالم موضوع نزاع. في نظر أبحاث تاريخ الفن التقليدية، كان فاسيلي كاندينسكي – فنان روسي الجنسية رسم لوحات تجريدية بالكامل في مطلع عام 1911- هو أول فنان تجريدي. لم ينل الفن التجريدي الرائد لهيلما أف كلينت تقديرًا إلا قبل سنوات قريبة. هذه صورة للمعرض الشهير في  متحف غاغينهايم، عام 2018 .لم ينل الفن التجريدي الرائد لهيلما أف كلينت تقديرًا إلا قبل سنوات قريبة. هذه صورة للمعرض الشهير في  متحف غاغينهايم، عام 2018 . ولكن في الآونة الأخيرة، وبفضل المعرض الرائد في متحف مقاطعة لوس أنجلوس للفنون في عام 1986 الذي حمل اسم «الروحانية في الفن: الرسم التجريدي 1890 – 1985»، وقع الاختيار على هيلما أف كلينت كأول رسامة تجريدية. بدأت كلينت في رسم لوحات تجريدية بدءًا من عام 1906، وحملت مجموعتها عنوان «الفوضى البدائية». كانت الفنانة متكتمة في ما يتعلق بأعمالها التجريدية، ولم تُعرض أيّ منها في معارض عامة، وبقيت غير معروفة حتى أزيح عنها الستار مؤخرًا. ولعل الجدال حول هوية أول من مارس الفن التجريدي سيستم، لكن الحقيقة الأكثر أهمية هي أن العديد من الفنانين الأوروبيين البارزين قد توصّلوا في أعمالهم إلى التجريد بحلول الحرب العالمية الأولى. لقد وجد كل منهم طريقته الخاصة في التخلي عن الفن التشخيصي (figurative painting). وجديرٌ بالذكر أنّه لم تكن هناك حركة «تجريدية» دولية ذات رؤية أو بيان مشترك. في ضوء ذلك، فإن السؤال الملحّ حقًا هو: لمَ لمْ يتبنى الفنانون الغربيون الفن التجريدي على امتداد قرون عديدة؟ لماذا كان التجريد غير ضروري أو لا معنى له أو غير مناسب أو حتى لا يمكن تقبّله لقرونٍ متوالية في الفن الغربي؟ ظهرت العديد من التفسيرات لشرح ذلك. إحدى النظريات الأكثر وضوحًا هي أن ظهور التصوير الفوتوغرافي بوصفه شكلًا من أشكال الفن، إضافةً إلى تطور الفن الحديث، سببان رئيسان لإزاحة الرسم التشخيصي. ثمّة إجابات أخرى غير ملموسة لاستكشاف الأسباب: ربما عندما أصبحت الأعمال الفنية قابلة للاستهالاك بشكل متزايد، مثل السلع، بات من السهولة فصل اللوحات والمنحوتات عن التجارب المحددة لمبدعيها. ربما أدت الحداثة في الغرب إلى إفراغ الفن من المحتوى التشخيصي؛ مما دفع الفنانين أيضًا إلى التخلي عن التمثيل التشخيصي. كل من هذه الإجابات معقدة وتتطلب الكثير من الشرح، ولا يمكن إلا أن تكون تخمينات. لا توجد إجابة واضحة لهذه المسألة. ربما يكون من الأفضل طرح السؤال حول سبب تقبّل الفن التجريدي فنًّا من الفنون الرسمية في تاريخ الفن الغربي في مرحلة معينة على علماء الأنثروبولوجيا بدلًا من طرحها على مؤرخي الفن. فما هو واضح أن الفن التجريدي كان موجودًا دائمًا في مناطق أخرى من العالم. ما جعل الفن التجريدي فنًّا حديثًا على وجه التحديد في العالم الغربي هو نظام المعارض، الذي أعطى القيمة الفنية للأعمال المعروضة. وكما هو واضح فقد ازدهر التجريد لآلاف السنين المناطق الشرقية والجنوبية من العالم، دون عناء التحقق من مكانة الأعمال المعروضة في الصالونات [والمعارض، كما هو في العالم الغربي]. الواقع الافتراضي و«الافتراضية» يتبنى بيبي كرمل وهو مؤرخ فني، في كتابه « الفن التجريدي: تاريخ عالمي»، فكرة أنّ الفن التجريدي كان دائمًا موجودًا بشكل طبيعي عندما ننظر إليه نظرة شاملة وعالمية، بيد أنّه يتحاشى طرح نظرية عن تطور الفن التجريدي. بالنسبة إلى كرمل، فإنّ هذا الفنّ متجذر في العالم الحقيقي، وهو ليس فنًّا «مجردًا» على الإطلاق، كما أنّه تقليد عالمي وليس محليًا. في دراسته حول الفن التجريدي يقسم العمل الفني إلى خمس فئات واسعة تنتمي إلى العالم الحقيقي: الأجسام، والمناظر الطبيعية، والكون، والبنى، والعلامات والأنماط. من خلال فحص الفن التجريدي بهذه الطريقة، يرى كرمل في اللوحات التجريدية موضوعات قابلة للتحليل، بعكس النقاد والمؤرخين الأرثوذكسيين الذين رأوا فيها مجرّد توليفات شكلية مكوّنة من لون وشكل. ربما يكون من الأفضل أن يطلق على الفن التجريدي: فن ما تم تجريده (abstracted art)؛ لأنّ الفنانين التجريديين عادةً ما يستخلصون ويجرّدون تعبيرات التجارب في شكل ولون،  أكثر من كونها توليفات مكونة من شكل ولون. ومرّد ذلك الطبيعة الجوهرية للرسم والنحت؛ فهما (الشكل اللّون) وسيطان للتعبير، مثل الشاشة أو المسرح لخيال الفنان. كما هو الحال في المسرح أو السينما، فإنّ جمهور اللوحة أو المنحوتة يعلّق معتقداته من أجل أن يتقبل المشهد. من المفيد التفكير في اللوحة التشخيصية التقليدية أو النحت على أنها حقيقة افتراضية. إذْ استخدم الفنانون لقرون عديدة الحيل البصرية -مثل المنظور الخطي، والتقصير المسبق، والتظليل- لمحاكاة الطريقة التي ندرك بها الأشياء في الفضاء الحقيقي. إنّ المشاهد تُنشأ في فضاء افتراضي – سواء كانت القاعدة التي تدعم التمثال أو القماش – ليراها المشاهدون بوصفها خدعة بصرية. «القديس بطرس شفاء أحد الأشخاص وبعث تابيثا من الموت» ماسولينو دي بانيكال. اعتمد الرسم الغربي قبل القرن العشرين على الحيل البصرية لخلق واقع افتراضي. إحدى هذه الحيل هي المنظور الخطي، وهذه اللوحة هي أول مثال لاستخدام نقطة تلاشٍ متسقة.«القديس بطرس شفاء أحد الأشخاص وبعث تابيثا من الموت» ماسولينو دي بانيكال. اعتمد الرسم الغربي قبل القرن العشرين على الحيل البصرية لخلق واقع افتراضي. إحدى هذه الحيل هي المنظور الخطي، وهذه اللوحة هي أول مثال لاستخدام نقطة تلاشٍ متسقة. يستمتع مشاهدوّ الأعمال الفنية العظيمة معنى ما يُرسم، ويقدرون الطريقة التي يتجلّى فيها الوهم عبر تمازج اللون والشكل. يبقى الفن التجريدي، إلى حدٍ ما، ضمن إطار التجربة الجمالية. فقد سعت حركات الفن الحديث التي أدت إلى التجريد -أيّ «مدارس الفن»، مثل الانطباعية والفاوفية والتكعيبية- إلى تمثيل العالم بشكل مختلف عن كل الفنون التي سبقتها. إذْ ادعوا الاقتراب من الحقيقة الذاتية عبر تهميش جميع الحيل الوهمية التقليدية التي حاولت إعادة إنتاج الواقع بحذافيره كحقيقة موضوعية. «الأحمر والأصفر والأزرق» (1925) واسيلي كاندينسكي.  كان كاندينسكي يعدّ لفترةٍ طويلة أب الرسم التجريدي الغربي.«الأحمر والأصفر والأزرق» (1925) واسيلي كاندينسكي.  كان كاندينسكي يعدّ لفترةٍ طويلة أب الرسم التجريدي الغربي. بالنسبة إلى هذه المدارس، أصبح الفن أقل من أن يوصف بأنّه واقع افتراضي، لكنه مع ذلك احتفظ بالافتراضية، وأصبح افتراضيًا. لقد أخذ الفن التجريدي مسار التطور هذا إلى أقصاه: من الواقع الافتراضي إلى الافتراضية. ماذا تعني «الافتراضية» هنا؟ إنّها الوجود كجوهر وتأثير، ولكن بدون اللجوء إلى الواقع. اللوحة التجريدية التي رسمها كاندينسكي، على سبيل المثال، ما زالت تُعدّ علاقة متبادلة بين الشكل واللون، و تعتمد على الرسم كمستوى تخطيطي: إنها نافذة تطلّ على «الواقع» الفردي الذي تصوّره كاندينسكي. وما تزال العناصر في لوحات كاندينسكي تحظى بعلاقة متبادلة، كما هو الحال في فضاء الواقع الافتراضي للوحة التشخيصية؛ فجوهر الرسم سليم إذ إنّ ذلك الفضاء الافتراضي ما زال موجودًا. عندما يكون الفن التجريدي بناءً خالصًا، ويتخلص من المساحة الافتراضية الملازمة للرسم والنحت، يصبح متميزًا عنهما. وصف دونالد جود الفنان التخفيفي (minimalist) مثل هذه الأعمال الفنية بأنها «أجسام محدّدة» (Specific Objects). إنّه مصطلح غير دقيق، ولكنه يصلح لإظهار أن مثل هذه الأعمال الفنية ليست رسمًا ولا نحتًا، ولكنها فئة أخرى تمامًا. رأى دونالد جود أن أعماله وأعمال العديد من معاصريه تشغل مساحة هجينة، لا هي لوحات ولا هي نحت. عمل دون عنوان لدونالد جود. استخدم جود هذا المصطلح لوصف أعماله الخاصة، ولكنه ينطبق على لوحات كازيمير ماليفيتش وفرانك ستيلا أحادية اللون، والتي تجعل اللوحة تندمج مع نفسها بالكامل، من أجل الوصول للتأثير الذي يأمل العمل في تحقيقه. في مثل هذه الأعمال، لم يعد قماش اللّوحة (أو القاعدة) سطحًا تتفاعل فيه الأشكال والألوان في الفضاء الافتراضي. بدلاً من ذلك، تتفاعل الأشكال والألوان في الفضاء الحقيقي، في فضائنا. تختلف معايير النجاح أو الفشل لهذه الأعمال عن الخصائص التقليدية للرسم والنحت. رأى جود أنّ خصائص الرسم والنحت تقف في طريق ما أراد تحقيقه من خلال اللون والشكل. في رأيه، كان لـ «أجسامه المحددة» تأثيرًا أحدّ من غيرها. الواقع والأشكال الجديدة للإدراك الحسّي الرسم نفسه له ثلاثة أنواع عامة من التجريد؛ أولًا، ثمّة أسلوب تعبيري تُرسم فيه الأشكال بحركاتٍ غير مقيدة؛ ثم هناك التجريد الهندسي حيث يتم هيكلة الأشكال؛ أما النوع الثالث، فهو تجريد مجال اللون حيث يتم عرض مساحات من الألوان بطريقةٍ لا شكل واضح لها. لم تكن هذه «الأنماط» (styles) أنماطًا عرضيةً أو تعتمد على ذوق أو ميل الرسام كوسيلة لتحقيق هدفٍ ما من البحث الفني. وخير مثال على ذلك هو الفنان الذي غالبًا ما ينظر إلى عمله على أنّه ذروة التجريد الهندسي: بيت موندريان. إنّ لوحات بيت موندريان المكونة من شبكات (grids) ذات الخطوط السوداء والأجزاء الملونة على خلفية بيضاء؛ تهدف إلى استحضار «حقيقة أعلى». بالنسبة إلى موندريان، كان الفن في جوهره معارضًا للواقع؛ «لأن الواقع يتعارض مع الروحي». بغض النظر عن هذه اللوحة الأشهر لموندريان، فإنّ جوانب الرسم التي تهم هذا الفنان حقًا لم تكن الجوانب المحددة للموضوع -أيّ ماذا أو ما يتم تصويره في اللوحة مثلًا- بل الجوانب القابلة للفهم عالميًا للشكل والخط واللون. إنّ لوحات موندريان، مثلها مثل لوحات الفنانين الآخرين، هي محاولة لاستخلاص الشكل واللون من أجل الاقتراب من ذلك الجوهر العالمي والروحي للفن. عبّر موندريان عن رغبته في الوصول إلى «أساس» الأشياء من خلال الحدس، كالعديد من الفنانين التجريديين الآخرين في النصف الأول من القرن العشرين الذين رغبوا في الوصول إلى قوى غير مرئية حولنا، ولكنها معروفة أو محدوسة. «التكوين الثاني باللون الأحمر والأزرق والأصفر» (1930) - بيت موندريان«التكوين الثاني باللون الأحمر والأزرق والأصفر» (1930) – بيت موندريان في أواخر القرن التاسع عشر، لاحظ العلماء بشكلٍ أفضل مما سبق القوى غير المرئية مع انتشار التقنيات الجديدة، وأصبح من الواضح أن العالم أرحب مما يبدو للعين. في الوقت نفسه، ظهرت حركات روحية بديلة جمعت بين الأفكار الأفلاطونية والتصوف. كان كلينت وموندريان من بين العديد من الفنانين الذين انغمسوا في أشكال الروحانية خارج العوالم التقليدية للدين. اعتقدت كلينت أن لوحاتها هي وحي عالم روحي، وأن مهمتها كانت العمل «على مستوى روحاني» لتمثيل روح الإنسان، بدلًا من صورته الفانية. بحلول عشرينيات القرن الماضي، كانت نظرية فرويد عن للعقل البشري قد تغلغلت أيضًا في عالم الفن.  كذلك السريالية، وهي حركة منظمة بإحكام بدأت مع بعض الفنانين الذين سعوا إلى التنقيب عن الإمكانات الإبداعية للعقل الباطن، وهي الحركة الثقافية التي كانت سائدة في أوروبا بين الحربين العالميتين. لم تكن السريالية دوغمائية في محاولتها لاستكشاف اللاوعي، ولذلك ظهر عدد من الأساليب والطرق لمحاولة إخراج اللاوعي إلى السطح. إحدى هذه الأساليب كان الرسم الآلي (Automatism)، وهي عملية يتخلى فيها الفنان عن السيطرة الواعية لليد التي ترسم  أو تصور. في هذا المجال، تبنى الفنانون مثل أندريه ماسون وخوان ميرو الفرصة لبناء صورهم باستخدام حركات حرّة، وحتى إلقاء الطلاء على القماش. طور أرشيل غوركي -هو مهاجر أرمني عاش في الولايات المتحدة- أسلوبًا في الرسم يدمج بين الرسم الآلي وتجريد مجال الألوان. لوحاته في الأربعينيات حجمُها ضخم – ومرد ذلك تأثره بأعماله السابقة كفنان جداري مُعيّن من الدولة خلال السنوات الأخيرة من الكساد الكبير – لكنها معبّرة وغنائية في الرسم بالفرشاة. ألهم إدماج غوركي للأنماط جيلًا واسعًا من الفنانين الأمريكيين في فترة ما بعد الحرب لاحتضان التجريد الواسع النطاق. ما نسميه الآن «التعبيرية التجريدية»، وكان ذاك الجيل في الواقع مجموعة فضفاضة من الفنانين الذين يستخدمون أنماطًا متعدّدة من أنماط التجريد. ربما كان القاسم المشترك بين هؤلاء الفنانين – على الأقل في السنوات الأولى – هو دعم جيل جديد من النقاد بقيادة كليمنت غرينبيرغ، الذي كان يعتقد أن التجريد هو التعبير الأسمى للفن الغربي. «الكبد هو مشط الديك» (1944) - أرشيل جوركي.«الكبد هو مشط الديك» (1944) – أرشيل جوركي. الحداثة ومصير الفنّ الغربي كان يُعتقد في بعض الأوساط الفكرية المؤثرة أنّ الفن يتقدم نحو هدف؛ وهذا المضمون يشتمل عليه مصطلح «الطليعية» (Avant-garde)، الذي يُوصف به الفنّانون الذين يبتكرون أرضية جمالية جديدة. أصل المصطلح فرنسي يُطلق على الجنود الذين يتقدمون إلى مناطق جديدة. بالنسبة إلى غرينبيرغ، لم يكن هؤلاء الفنّانون يوسّعون حدود إمكانات الفن؛ بل كانوا يتقدمون نحو الهدف الحقيقي والمفرد لكل شكل فني. يُعدّ غرينبيرغ شخصية مهمة في تاريخ الفن التجريدي، وذلك لأمرين: بوصفه مناصرًا رائدًا في مسألة تفوق الفن التجريدي على غيره من أنواع الرسم، وتأكيده للقوة التي امتلكها هذا الفن. كان ناقدًا في اللجنة الأمريكية للحريّة الثقافية التي تمولها الدولة، وهي مجموعة تم إنشاؤها لتعزيز الفن الأمريكي على المستوى الدولي. أصبحت أفكار غرينبيرغ مؤثرة عندما كانت الولايات المتحدة جزءًا من الحرب على الفاشية والنازية، وخلال الحرب الباردة اللاحقة ضد الشيوعية السوفيتية. كانت معايير الفن الفاشي والسوفياتي واضحة، وهي ما تحددها السلطات الثقافية أنها كذلك، بيد أنّه ما لم يكن واضحًا هو معايير الفن «الجيد» وتحديدًا في الغرب الديمقراطي. كان الماركسيون هم من تعاطف مع غرينبيرغ في البداية، لكن ارتبط تفكيره بشكلٍ متزايد بالهيمنة الثقافية الأمريكية. بالنسبة إليه، كان التجريد في أعمال بولوك فنًا مثاليًا لمجتمع ديمقراطي. تتجلى الحداثة في الفن، وفقًا لغرينبيرغ، في إطار التنوير الأوروبي؛ أيّ في فترة ازدهار الأفكار الفلسفية والعلمية التي أعطت الأولوية للعقل. في مقالته المؤثرة « الرسم الحداثي» (1961)، وصفَ غرينبيرغ إيمانويل كانط – الفيلسوف الألماني في عصر التنوير – بأنّه «أول حداثي حقيقي». كان أسلوب كانط في «النقد» هو استخدام العقل لنقد العقل بغرض توضيحه، ومنحه استقلالية عن أنواع التفكير الأخرى. «أولمبيا» - إدوارد مانيه (1863). بالنسبة إلى كليمنت غرينبيرغ، كان مانيه أول رسام حداثي. لقد رسم مانيه لوحاته بأسلوبٍ مسطّح بشكلٍ متعمد.«أولمبيا» – إدوارد مانيه (1863). بالنسبة إلى كليمنت غرينبيرغ، كان مانيه أول رسام حداثي. لقد رسم مانيه لوحاته بأسلوبٍ مسطّح بشكلٍ متعمد. بالطريقة نفسها، كان الرسامون الحداثيون – من إدوارد مانيه في القرن التاسع عشر إلى موريس لويس، وهو رسام يعمل ينتمي إلى رسامي أسلوب مجال ألوان في الولايات المتحدة في الوقت الذي كتب فيه غرينبيرغ مقالته – يعملون على ترسيخ الفن التعبيري «بشكل صارم في مجال تخصصه». رأى غرينبيرغ أن وضوح الفن التجريدي -الذي كان صادقًا بالنسبة إلى الوسيط الذي يُعبّر من خلاله- معارضٌ لـ«الفن الشعبي المبتذل [الكيتش]» الذي ينُتج على نطاق واسع في الثقافة الشعبية. إن إزالة «الكيتش» كانت مسألة استجلاء وتوضيح تحتاجها جميع الفنون لكي تصبح تعبيرًا عن إمكاناتها الجمالية الكامنة. اللوحات مسطّحة، وإيهام العمق الذي نجده في معظم الفن الغربي كان انحرافًا عن جوهر فن الرسم ذاته. كانت استقلالية الشكل الفني في جميع خصائصه دون أن تتلوث بأشكال فنية أخرى. وفقًا لغرينبيرغ، يعدّ الشكل واللون من أهم خصائص الرسم، و أفضل تمثيل لها يكون بشكلٍ مسطّح. وهكذا دافع غرينبيرغ عن «التسطيح» الذي تجلّى في لوحات الفنانين الأمريكيين التجريدية مثل جاكسون بولوك باعتباره تحقيقًا لهذا الوضوح الحداثي. لقد ضم هؤلاء الفنانين معًا ضمن فريق واحد، وهم يمثّلون المرحلة التالية في الحداثة، وقد حلّت رؤيتهم الأمريكية المميزة محلّ الفن الأوروبي الطليعي. وفي الوقت الذي أصبح فيه الفن التجريدي الأمريكي مهيمنًا، تراجعت هيمنة غرينبيرغ النقدية، وظهرت أشكال جديدة من الفن الطليعي، مستوحاة مباشرة من الثقافة الجماهيرية، وحلّت محلّ التعبيرية التجريدية في المخيال العام. تبنى فنانوّ «البوب» مثل: آندي وارهول، وريتشارد هاميلتون هذا النوع من «الفن الشعبي المبتذل» الذي رآه غرينبيرغ تلويثًا للفن الحقيقي. استمرت الأعمال الفنية التجريدية، ولكن تخلّى الفنّانون التجريديون الأكثر جرأة عن الفكرة الصارمة «للنقد الحداثي»، وعن الوضوح المتعلق بخصوصية الوسيط الفني، وذلك لصالح أشكال أخرى من التعبير. نظر فنانوّ «ما بعد الحداثة» إلى السخرية وعملية الرسم نفسها، كطرق لتجاوز الطريق المسدود للحداثة. تبنى الألماني غيرهارد ريختر كلا النهجين؛ فبعض أعماله التجريدية في الستينيات كانت مصنوعة بممسحاتٍ بدلًا من الفرشاة، حتى يتمكن من لفت الانتباه إلى عملية صنع اللوحة نفسها. كانت «اللوحات التجريدية» البارزة الأخرى التي رسمها ريختر في الواقع صورًا واقعية مرسومة بعناية تعكس لوحاته التجريدية الأخرى. أصبحت طلائعية الرسم التجريدي مفهومية أكثر، ما جعل ضمنيًّا قضية الرسم تحظى باستقلالية أقل مما كان كان يعتقد النقاد الحداثيون. قلّد فنانوّ «نيو جيو»، مثل: الرسام بيتر هالي، والنحات أشلي بيكرتون اللغة البصرية للتجريد الهندسي، لكنهما دمجاها مع السلع الاستهلاكية بألوانٍ تجارية فاتحة وأحيانًا فلورية. منذ ذلك الجيل ما بعد الحداثي من الرسامين والنحاتين الممتد من الستينيات إلى التسعينيات، ازدهر التجريد متفرّعًا إلى عددٍ لا يُحصى من الأساليب والمقاربات بجوار الفن التشخيصي. هنا يمكن القول إنّ التجريد المتحرّر من عبء التوقعات الحداثية هو ببساطة نهج للتعبير مثل أيّ نهج آخر. وتجدر الإشارة إلى أنّ بعض الفنانين التجريديين استخدموا الحيل البصرية المستعملة في الفن التشخيصي – مثل المنظور والتظليل – في لوحاتهم. ولاستخدامهم هذا أهداف فريدة و غالبًا لا تهتم بالنظرية. قلّد فنانوّ «ما بعد الحداثة» مثل: بيتر هالي اللغة البصرية المستعملة في الفن التجريدي الحديث (في حالة بيتر، التجريد الهندسي)، للتعليق على طبيعة الفن والمعنى نفسه. تمثّل هذه الكتل الملونة «الخلايا» و«الأنابيب».قلّد فنانوّ «ما بعد الحداثة» مثل: بيتر هالي اللغة البصرية المستعملة في الفن التجريدي الحديث (في حالة بيتر، التجريد الهندسي)، للتعليق على طبيعة الفن والمعنى نفسه. تمثّل هذه الكتل الملونة «الخلايا» و«الأنابيب». هذا هو التحرّر نحو الأفضل بين الرسامين التجريديين الذين يمكنهم الالتزام برؤيةٍ فريدة بالرسم على القماش. لكن فكّ ارتباط الفن التجريدي عن إطاره الفلسفي الأوسع أدى أيضًا إلى انتشارٍ يثير التساؤل لأعمال تجريدية متنوعة قابلة للاستهلاك – بمعنى أنّها فقدت قيمتها، وباتت تُباع وتُشترى سريعًا بأسعارٍ مربحة – يشتريها المشترون المتضاربون. دفع هذا التحول الناقد جيري سالتز إلى كتابة: « الزومبي على الجدران: لماذا يبدو الكثير من التجريد الجديد متشابهًا؟». وقد شبه اللّوحات التجريدية بصورة «الزومبي»، تحقيرًا لأعمال عددٍ من الرسامين التجريديين البارزين، الذين استخدموا الفنّ وجماليته لتقديم أعمال مبتذلة. ومن المفارقات أن هؤلاء الفنانين نظروا إلى الشكلانية بوصفها فنًّا حداثيًّا متبنّين منظور غرينبيرغ، لكنهم بالطبع قدّموا أعمالًا في ظلّ فراغ تاريخي وبعد فترةٍ طويلة حين لم يُصبح التجريد مثيرًا للاهتمام أو راديكاليًا بأي وجه من الوجوه. في الواقع، لم يصل مشروع الحداثة  في الفن التجريدي إلى نهايته، بل النقد. إنّ النقد -أيّ الإطار الفلسفي الواسع الذي يصادق على الأعمال الفنية ويثمّنها لأهميتها الثقافية والتاريخية- هو ما فقد التوجه والسلطة. كان مسار الفن الغربي منذ عصر التنوير يتأرجح بين قطبي الدوغمائية النقدية والإبداع. تكمن المشكلة أنه في العقود الأخيرة، وفي ظلّ غياب أي مشروع نقدي متماسك، انجرف الفن نحو إرضاء اهتمامات دقيقة ومتنوعة تزداد باستمرار. في حين كانت هناك «حركات» و«مدارس» فنية -مصطلحان يشيران إلى الوجهة والانضباط- لم يعد لدينا الآن سوى «مشاهد». هذا ليس بالضرورة أمرًا سيئًا. ولكن في عالم حيث «كل شيء مقبول – anything goes»، لا يوجد مجال لهذا النوع من الابتكار والتجاوز الذي أدى إلى ظهور الفن التجريدي في الغرب، وهذا ما جعل الفن الحديث فنًّا مثيرًا للغاية. من الصعب في هذه اللحظة التاريخية أن ندرك ما الذي جعل لوحة بولوك «رقم 32» مثيرة للانقسام، ومخلخلةً جدًا للمعايير، وفي الوقت نفسه محتفظةً بقيمةٍ عالية جدًا لأولئك الذين يعتقدون أن للفنِّ مكانًا في المجتمع يتجاوز المتعة. [divider style=”solid” top=”20″ bottom=”20″] [1] واللقب كذلك يُلمح إلى القاتل المتسلسل في لندن آخر القرن التاسع عشر: جاك السفّاح Jack the ripper (مدير التحرير). ### خارج عقلك | توم تشاتفيلد – ت: محمد السعيد                  عندما يكون هاتفي النقال بين يديّ، هل أكون أنا الشخص نفسه لو كان الهاتف في غرفة أخرى؟ من ناحية،... ### الدراما في التعليم: مقاربات وتطبيقات | نعيم حيماد افتتاحيّة حظي استخدام الدراما في التعليمفي السنوات الأخيرة باهتمام كبير من قبل نخبة من المنظرين والممارسين للدراما في مجال التعليم.... ### الحقائق المخفية | دي بي سي بيير – ت: محمد السعيد       يحمل جبل كلسي خشن في غرب إيران عددًا من النقوش البارزة، من بينها لوحة طولها خمسة وعشرين مترًا منقوشة... ### التغلُّب على كاشف الكذب | كلاريسا سيباغ-مونتِنفيوري – ت: محمد السعيد          حين  اتُّهِمَتْ مربية الأطفال البريطانية لويز وودورد بهزِّ رضيع حتى الموت في مدينة نيوتن بولاية ماساتشوستس، لم تكتفِ بإعلان... ### عن منصة معنى «معنى»، مؤسسة ثقافية تقدّمية ودار نشر تهتم بالفلسفة والمعرفة والفنون، عبر مجموعة متنوعة من المواد المقروءة والمسموعة والمرئية. انطلقت في 20 مارس 2019، بهدف إثراء المحتوى العربي، ورفع ذائقة ووعي المتلقّي المحلي والدولي، عبر الإنتاج الأصيل للمنصة والترجمة ونقل المعارف. ### روابط سريعة ### التصنيفات ### مرحبا بك! قم بتسجيل الدخول إلى حسابك تذكرني ### قم بإنشاء حساب جديد! املأ النموذج أدناه للتسجيل ### طلب إعادة تعيين كلمة المرور يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان البريد الإلكتروني لإعادة تعيين كلمة المرور الخاصة بك. ### Add New Playlist - Select Visibility -PublicPrivate No Result عرض جميع النتائج - 00:00 00:00 - 00:00 00:00
article
Arabic
ar
الفنّ التجريدي: بين الماضي والحاضر - منصة معنى الثقافية
https://mana.net/abstract-art/
1,815
كل من هذه الإجابات معقدة وتتطلب الكثير من الشرح، ولا يمكن إلا أن تكون تخمينات.
sentence
كل من هذه الإجابات معقدة وتتطلب الكثير من الشرح، ولا يمكن إلا أن تكون تخمينات. لا توجد إجابة واضحة لهذه المسألة. ربما يكون من الأفضل طرح السؤال حول سبب تقبّل الفن التجريدي فنًّا من الفنون الرسمية في تاريخ الفن الغربي في مرحلة معينة على علماء الأنثروبولوجيا بدلًا من طرحها على مؤرخي الفن. فما هو واضح أن الفن التجريدي كان موجودًا دائمًا في مناطق أخرى من العالم.
paragraph
Arabic
ar
الفنّ التجريدي: بين الماضي والحاضر - منصة معنى الثقافية
https://mana.net/abstract-art/
1,816
ربما يكون من الأفضل طرح السؤال حول سبب تقبّل الفن التجريدي فنًّا من الفنون الرسمية في تاريخ الفن الغربي في مرحلة معينة على علماء الأنثروبولوجيا بدلًا من طرحها على مؤرخي الفن.
sentence
كل من هذه الإجابات معقدة وتتطلب الكثير من الشرح، ولا يمكن إلا أن تكون تخمينات. لا توجد إجابة واضحة لهذه المسألة. ربما يكون من الأفضل طرح السؤال حول سبب تقبّل الفن التجريدي فنًّا من الفنون الرسمية في تاريخ الفن الغربي في مرحلة معينة على علماء الأنثروبولوجيا بدلًا من طرحها على مؤرخي الفن. فما هو واضح أن الفن التجريدي كان موجودًا دائمًا في مناطق أخرى من العالم.
paragraph
Arabic
ar
الفنّ التجريدي: بين الماضي والحاضر - منصة معنى الثقافية
https://mana.net/abstract-art/
1,817
فما هو واضح أن الفن التجريدي كان موجودًا دائمًا في مناطق أخرى من العالم.
sentence
كل من هذه الإجابات معقدة وتتطلب الكثير من الشرح، ولا يمكن إلا أن تكون تخمينات. لا توجد إجابة واضحة لهذه المسألة. ربما يكون من الأفضل طرح السؤال حول سبب تقبّل الفن التجريدي فنًّا من الفنون الرسمية في تاريخ الفن الغربي في مرحلة معينة على علماء الأنثروبولوجيا بدلًا من طرحها على مؤرخي الفن. فما هو واضح أن الفن التجريدي كان موجودًا دائمًا في مناطق أخرى من العالم.
paragraph
Arabic
ar
الفنّ التجريدي: بين الماضي والحاضر - منصة معنى الثقافية
https://mana.net/abstract-art/
1,818
ما جعل الفن التجريدي فنًّا حديثًا على وجه التحديد في العالم الغربي هو نظام المعارض، الذي أعطى القيمة الفنية للأعمال المعروضة. وكما هو واضح فقد ازدهر التجريد لآلاف السنين المناطق الشرقية والجنوبية من العالم، دون عناء التحقق من مكانة الأعمال المعروضة في الصالونات [والمعارض، كما هو في العالم الغربي].
paragraph
لا توجد منتجات في سلة المشتريات. No Result عرض جميع النتائج الثلاثاء, سبتمبر 10, 2024 No Result عرض جميع النتائج No Result عرض جميع النتائج # الفنّ التجريدي: بين الماضي والحاضر ## ترجمة: أنطونيوس نادر AA AA إعادة تعيين فنٌ مليء بالتحديات ثمّة خطٌ رفيع يفصل بين الفن التجريدي ومجرد الزخرفة، ولوحة «رقم 32» (نُشرت عام 1950)، لجاكسون بولوك تتأرجح بين هذا الخطّ. فهي لا تشير إلى معنىً واضح، ولكن لا يمكن القول إنّها بلا معنى على الإطلاق. كما أنّها ليست معبّرة بشكلٍ مباشر، ولا يعني هذا أنها لا تعبّر عن مدلولٍ ما. تحمل هذه اللوحة الكثير من المضامين عن الفن الغربي بالنسبة إلى شخصٍ خبيرٍ في تاريخ الفن؛ أما بالنسبة إلى شخصٍ عادي، فقد يراها عملًا مبتذلًا بالكاد يعبّر عن أمرٍ ما. اللوحة شبكة من الخطوط وبقعٍ من الألوان، رُسمت عن طريق صبّ طلاءٍ رخيص بعشوائيةٍ مباشرة على القماش. تتكون اللوحة من طلاءٍ أسود فقط وقماشٍ خام. واللوحة ضخمة؛ إذ يبلغ طولها تسعة أقدام وعرضها خمسة عشر قدمًا، وتغطي مجال رؤية المشاهد أثناء اقترابه منها. تقليديًّا، حتى اللوحات التجريدية تتكون من أجزاءٍ مترابطة مع بؤر تركيز (emphases) وعمقٍ يُنقل من خلال اللون والظلال، ولكن «رقم 32» ليس لها أجزاء؛ إنّها تتكون من تعالقات، والبؤرة فيها تكمن عبر امتداد سطح القماش المستطيل. يمنحها ما سبق عمقًا سطحيًا، وربما لا عمق فيها: مجرّد طلاء على قماش. إنّها عبث بالشكل واللون. حتى اسمها، ببساطة رقمٌ معيّن – رقم 32 – يجعلها تنأى بنفسها عن أي فكرة مفادها أنها تعكس مدلولًا محدّدًا. تشير عناوين أعمال بولوك الأخرى إلى نوعٍ من الاختبار الشخصي، وإلى الاستخدام السمفوني المتعدد الطبقات للون والملمس؛ خذ مثلًا لوحاته التي تحمل اسم: «إيقاع الخريف»، و«الضباب الأرجواني»، و«الأقطاب الزرقاء»، و«انعكاس الدنقلة الكبير». هذا لا ينطبق على لوحة «رقم 32»؛ شكلها الخام وبساطتها دليل على أنّ الفنان لم يخطط مسبقًا لرسمها؛ أيّ أنّه لم ينتق الألوان ولا الطبقات. يبدو بولوك هنا أكثر حضورًا، من خلال لمساته الحادة. بالنسبة إلى مؤيديّ عمل بولوك، تختصر هذه اللوحة خلاصة نظرة الفنان الجمالية. أما بالنسبة للبعض الآخر، فهي لوحة مبتذلة. وصف جوزيف بويس -النحات الألماني في فترة ما بعد الحرب- الفنَّ التجريدي الأمريكي بأنه مجرد «تغليف»، أيّ سطح بلا محتوى. في هذا الصدد، قد يتفق البعض أن لوحة «رقم 32» تجسد فراغ الفكر والشعور ذاك. فقد رأى الروائي والناقد الفني روبرت كوتس أن فن بولوك لم يكن سوى «انفجارات» غير منظمة من الطاقة العشوائية. غير أنّ طائفة كبيرة من متذوقي الفن التجريدي لا تروق إليهم أعمال بولوك ويرونها فنًّا محيرًا، حتى إنّ بعضهم يراها إهانةً للذوق أو الحسّ السليم. عُرف بولوك بلقب: «جاك فنان النقط» (Jack the Dripper) [1] في الأوساط الإعلامية المشككة بعمله حيث ادعى كثر أن أيّ شخص يمكنه أن يرسم كما يرسم بولوك إلّا أنّ أحدًا لم يتجرأ على فعل ذلك. «رقم 32» - جاكسون بولوك«رقم 32» – جاكسون بولوك بيد أنّ هذا هو مغزى الفن التجريدي في التقليد الغربي: إنّه تحدّ. وفي ظل الكثير هذه التحديات، تُعد لوحة « رقم 32» اللوحة الأكثر تمثيلًا لهذا الفن. قصة الفنّ التجريدي مسار قصة الفن التجريدي مضمّنة في الدراسات التاريخية الفنية، إلّا أنّ المحطات الرئيسة لهذا المسار كانت محط تغييرات مفاجئة كلما اكتشف مؤرخوّ الفن حقائق جديدة. انطلق مسار الفن التجريدي بدءًا من القرن التاسع عشر وما تلاه؛ حيث استفاد الفنانون من مادة الطلاء والجوانب الشكلية للرسم مثل اللون والدرجة والخطوط. يُعرف هذا الانشغال بالجوانب غير التمثيلية (non-representative) للفن باسم «الشكلانية»، لأنّه انشغال «بالشكل»، أيّ بتوسل شكل المحتوى بدلًا من المحتوى في ذاته. بالنسبة إلى الفنانين في القرن التاسع عشر، صُنّف الفن التجريدي على أنّه «فنٌّ من أجل الفنّ»، وكانت الفكرة الشائعة مفادها أنّ المتذوق للفن يمكنه الاستمتاع بالعمل دون اللجوء إلى معنى أو حتى أي شيء آخر يمثل أمرًا ما. تمثّل لوحة «الموسيقى الهادئة باللّونين الأسود والذهبي – الصاروخ الساقط» (1872)، للفنان جيمس مكنيل ويسلر هذا الاتجاه الذي تبلور لاحقًا في الفن التجريدي.  إنّ مشهد ويسلر الغامض من الناحية المكانيّة يقترب إلى التجريد، وذلك بمحاولته نقل الشعور أو الانطباع الخاص بالمشهد بدلًا من إعادة إنتاجه بحذافيره. «الموسيقى الهادئة باللونين الأسود والذهبي - الصاروخ الساقط» (1872-1877) - جيمس أبوت مكنيل ويسلير«الموسيقى الهادئة باللونين الأسود والذهبي – الصاروخ الساقط» (1872-1877) – جيمس أبوت مكنيل ويسلير في عام 1877، انتقد جون روسكين – أبرز نقّاد بريطانيا في ذلك الوقت – عمل ويسلير هذا نقدًا لاذعًا فشبهه «بمن قام برمي الطلاء في وجه الجمهور». تأثر ويسلر بهذا الكلام، فرفع دعوى قضائية ضد روسكين، بيد أنّه خسرها لأن المسؤولين عرضوا اللوحة -خطأً- مقلوبةً على المحكمة. أفلس ويسلير بسبب هذه القضية، لكن مسيرة تطور الفن التجريدي استمرت. من ناحيةٍ أخرى، تحديد أول فنان تجريدي في العالم موضوع نزاع. في نظر أبحاث تاريخ الفن التقليدية، كان فاسيلي كاندينسكي – فنان روسي الجنسية رسم لوحات تجريدية بالكامل في مطلع عام 1911- هو أول فنان تجريدي. لم ينل الفن التجريدي الرائد لهيلما أف كلينت تقديرًا إلا قبل سنوات قريبة. هذه صورة للمعرض الشهير في  متحف غاغينهايم، عام 2018 .لم ينل الفن التجريدي الرائد لهيلما أف كلينت تقديرًا إلا قبل سنوات قريبة. هذه صورة للمعرض الشهير في  متحف غاغينهايم، عام 2018 . ولكن في الآونة الأخيرة، وبفضل المعرض الرائد في متحف مقاطعة لوس أنجلوس للفنون في عام 1986 الذي حمل اسم «الروحانية في الفن: الرسم التجريدي 1890 – 1985»، وقع الاختيار على هيلما أف كلينت كأول رسامة تجريدية. بدأت كلينت في رسم لوحات تجريدية بدءًا من عام 1906، وحملت مجموعتها عنوان «الفوضى البدائية». كانت الفنانة متكتمة في ما يتعلق بأعمالها التجريدية، ولم تُعرض أيّ منها في معارض عامة، وبقيت غير معروفة حتى أزيح عنها الستار مؤخرًا. ولعل الجدال حول هوية أول من مارس الفن التجريدي سيستم، لكن الحقيقة الأكثر أهمية هي أن العديد من الفنانين الأوروبيين البارزين قد توصّلوا في أعمالهم إلى التجريد بحلول الحرب العالمية الأولى. لقد وجد كل منهم طريقته الخاصة في التخلي عن الفن التشخيصي (figurative painting). وجديرٌ بالذكر أنّه لم تكن هناك حركة «تجريدية» دولية ذات رؤية أو بيان مشترك. في ضوء ذلك، فإن السؤال الملحّ حقًا هو: لمَ لمْ يتبنى الفنانون الغربيون الفن التجريدي على امتداد قرون عديدة؟ لماذا كان التجريد غير ضروري أو لا معنى له أو غير مناسب أو حتى لا يمكن تقبّله لقرونٍ متوالية في الفن الغربي؟ ظهرت العديد من التفسيرات لشرح ذلك. إحدى النظريات الأكثر وضوحًا هي أن ظهور التصوير الفوتوغرافي بوصفه شكلًا من أشكال الفن، إضافةً إلى تطور الفن الحديث، سببان رئيسان لإزاحة الرسم التشخيصي. ثمّة إجابات أخرى غير ملموسة لاستكشاف الأسباب: ربما عندما أصبحت الأعمال الفنية قابلة للاستهالاك بشكل متزايد، مثل السلع، بات من السهولة فصل اللوحات والمنحوتات عن التجارب المحددة لمبدعيها. ربما أدت الحداثة في الغرب إلى إفراغ الفن من المحتوى التشخيصي؛ مما دفع الفنانين أيضًا إلى التخلي عن التمثيل التشخيصي. كل من هذه الإجابات معقدة وتتطلب الكثير من الشرح، ولا يمكن إلا أن تكون تخمينات. لا توجد إجابة واضحة لهذه المسألة. ربما يكون من الأفضل طرح السؤال حول سبب تقبّل الفن التجريدي فنًّا من الفنون الرسمية في تاريخ الفن الغربي في مرحلة معينة على علماء الأنثروبولوجيا بدلًا من طرحها على مؤرخي الفن. فما هو واضح أن الفن التجريدي كان موجودًا دائمًا في مناطق أخرى من العالم. ما جعل الفن التجريدي فنًّا حديثًا على وجه التحديد في العالم الغربي هو نظام المعارض، الذي أعطى القيمة الفنية للأعمال المعروضة. وكما هو واضح فقد ازدهر التجريد لآلاف السنين المناطق الشرقية والجنوبية من العالم، دون عناء التحقق من مكانة الأعمال المعروضة في الصالونات [والمعارض، كما هو في العالم الغربي]. الواقع الافتراضي و«الافتراضية» يتبنى بيبي كرمل وهو مؤرخ فني، في كتابه « الفن التجريدي: تاريخ عالمي»، فكرة أنّ الفن التجريدي كان دائمًا موجودًا بشكل طبيعي عندما ننظر إليه نظرة شاملة وعالمية، بيد أنّه يتحاشى طرح نظرية عن تطور الفن التجريدي. بالنسبة إلى كرمل، فإنّ هذا الفنّ متجذر في العالم الحقيقي، وهو ليس فنًّا «مجردًا» على الإطلاق، كما أنّه تقليد عالمي وليس محليًا. في دراسته حول الفن التجريدي يقسم العمل الفني إلى خمس فئات واسعة تنتمي إلى العالم الحقيقي: الأجسام، والمناظر الطبيعية، والكون، والبنى، والعلامات والأنماط. من خلال فحص الفن التجريدي بهذه الطريقة، يرى كرمل في اللوحات التجريدية موضوعات قابلة للتحليل، بعكس النقاد والمؤرخين الأرثوذكسيين الذين رأوا فيها مجرّد توليفات شكلية مكوّنة من لون وشكل. ربما يكون من الأفضل أن يطلق على الفن التجريدي: فن ما تم تجريده (abstracted art)؛ لأنّ الفنانين التجريديين عادةً ما يستخلصون ويجرّدون تعبيرات التجارب في شكل ولون،  أكثر من كونها توليفات مكونة من شكل ولون. ومرّد ذلك الطبيعة الجوهرية للرسم والنحت؛ فهما (الشكل اللّون) وسيطان للتعبير، مثل الشاشة أو المسرح لخيال الفنان. كما هو الحال في المسرح أو السينما، فإنّ جمهور اللوحة أو المنحوتة يعلّق معتقداته من أجل أن يتقبل المشهد. من المفيد التفكير في اللوحة التشخيصية التقليدية أو النحت على أنها حقيقة افتراضية. إذْ استخدم الفنانون لقرون عديدة الحيل البصرية -مثل المنظور الخطي، والتقصير المسبق، والتظليل- لمحاكاة الطريقة التي ندرك بها الأشياء في الفضاء الحقيقي. إنّ المشاهد تُنشأ في فضاء افتراضي – سواء كانت القاعدة التي تدعم التمثال أو القماش – ليراها المشاهدون بوصفها خدعة بصرية. «القديس بطرس شفاء أحد الأشخاص وبعث تابيثا من الموت» ماسولينو دي بانيكال. اعتمد الرسم الغربي قبل القرن العشرين على الحيل البصرية لخلق واقع افتراضي. إحدى هذه الحيل هي المنظور الخطي، وهذه اللوحة هي أول مثال لاستخدام نقطة تلاشٍ متسقة.«القديس بطرس شفاء أحد الأشخاص وبعث تابيثا من الموت» ماسولينو دي بانيكال. اعتمد الرسم الغربي قبل القرن العشرين على الحيل البصرية لخلق واقع افتراضي. إحدى هذه الحيل هي المنظور الخطي، وهذه اللوحة هي أول مثال لاستخدام نقطة تلاشٍ متسقة. يستمتع مشاهدوّ الأعمال الفنية العظيمة معنى ما يُرسم، ويقدرون الطريقة التي يتجلّى فيها الوهم عبر تمازج اللون والشكل. يبقى الفن التجريدي، إلى حدٍ ما، ضمن إطار التجربة الجمالية. فقد سعت حركات الفن الحديث التي أدت إلى التجريد -أيّ «مدارس الفن»، مثل الانطباعية والفاوفية والتكعيبية- إلى تمثيل العالم بشكل مختلف عن كل الفنون التي سبقتها. إذْ ادعوا الاقتراب من الحقيقة الذاتية عبر تهميش جميع الحيل الوهمية التقليدية التي حاولت إعادة إنتاج الواقع بحذافيره كحقيقة موضوعية. «الأحمر والأصفر والأزرق» (1925) واسيلي كاندينسكي.  كان كاندينسكي يعدّ لفترةٍ طويلة أب الرسم التجريدي الغربي.«الأحمر والأصفر والأزرق» (1925) واسيلي كاندينسكي.  كان كاندينسكي يعدّ لفترةٍ طويلة أب الرسم التجريدي الغربي. بالنسبة إلى هذه المدارس، أصبح الفن أقل من أن يوصف بأنّه واقع افتراضي، لكنه مع ذلك احتفظ بالافتراضية، وأصبح افتراضيًا. لقد أخذ الفن التجريدي مسار التطور هذا إلى أقصاه: من الواقع الافتراضي إلى الافتراضية. ماذا تعني «الافتراضية» هنا؟ إنّها الوجود كجوهر وتأثير، ولكن بدون اللجوء إلى الواقع. اللوحة التجريدية التي رسمها كاندينسكي، على سبيل المثال، ما زالت تُعدّ علاقة متبادلة بين الشكل واللون، و تعتمد على الرسم كمستوى تخطيطي: إنها نافذة تطلّ على «الواقع» الفردي الذي تصوّره كاندينسكي. وما تزال العناصر في لوحات كاندينسكي تحظى بعلاقة متبادلة، كما هو الحال في فضاء الواقع الافتراضي للوحة التشخيصية؛ فجوهر الرسم سليم إذ إنّ ذلك الفضاء الافتراضي ما زال موجودًا. عندما يكون الفن التجريدي بناءً خالصًا، ويتخلص من المساحة الافتراضية الملازمة للرسم والنحت، يصبح متميزًا عنهما. وصف دونالد جود الفنان التخفيفي (minimalist) مثل هذه الأعمال الفنية بأنها «أجسام محدّدة» (Specific Objects). إنّه مصطلح غير دقيق، ولكنه يصلح لإظهار أن مثل هذه الأعمال الفنية ليست رسمًا ولا نحتًا، ولكنها فئة أخرى تمامًا. رأى دونالد جود أن أعماله وأعمال العديد من معاصريه تشغل مساحة هجينة، لا هي لوحات ولا هي نحت. عمل دون عنوان لدونالد جود. استخدم جود هذا المصطلح لوصف أعماله الخاصة، ولكنه ينطبق على لوحات كازيمير ماليفيتش وفرانك ستيلا أحادية اللون، والتي تجعل اللوحة تندمج مع نفسها بالكامل، من أجل الوصول للتأثير الذي يأمل العمل في تحقيقه. في مثل هذه الأعمال، لم يعد قماش اللّوحة (أو القاعدة) سطحًا تتفاعل فيه الأشكال والألوان في الفضاء الافتراضي. بدلاً من ذلك، تتفاعل الأشكال والألوان في الفضاء الحقيقي، في فضائنا. تختلف معايير النجاح أو الفشل لهذه الأعمال عن الخصائص التقليدية للرسم والنحت. رأى جود أنّ خصائص الرسم والنحت تقف في طريق ما أراد تحقيقه من خلال اللون والشكل. في رأيه، كان لـ «أجسامه المحددة» تأثيرًا أحدّ من غيرها. الواقع والأشكال الجديدة للإدراك الحسّي الرسم نفسه له ثلاثة أنواع عامة من التجريد؛ أولًا، ثمّة أسلوب تعبيري تُرسم فيه الأشكال بحركاتٍ غير مقيدة؛ ثم هناك التجريد الهندسي حيث يتم هيكلة الأشكال؛ أما النوع الثالث، فهو تجريد مجال اللون حيث يتم عرض مساحات من الألوان بطريقةٍ لا شكل واضح لها. لم تكن هذه «الأنماط» (styles) أنماطًا عرضيةً أو تعتمد على ذوق أو ميل الرسام كوسيلة لتحقيق هدفٍ ما من البحث الفني. وخير مثال على ذلك هو الفنان الذي غالبًا ما ينظر إلى عمله على أنّه ذروة التجريد الهندسي: بيت موندريان. إنّ لوحات بيت موندريان المكونة من شبكات (grids) ذات الخطوط السوداء والأجزاء الملونة على خلفية بيضاء؛ تهدف إلى استحضار «حقيقة أعلى». بالنسبة إلى موندريان، كان الفن في جوهره معارضًا للواقع؛ «لأن الواقع يتعارض مع الروحي». بغض النظر عن هذه اللوحة الأشهر لموندريان، فإنّ جوانب الرسم التي تهم هذا الفنان حقًا لم تكن الجوانب المحددة للموضوع -أيّ ماذا أو ما يتم تصويره في اللوحة مثلًا- بل الجوانب القابلة للفهم عالميًا للشكل والخط واللون. إنّ لوحات موندريان، مثلها مثل لوحات الفنانين الآخرين، هي محاولة لاستخلاص الشكل واللون من أجل الاقتراب من ذلك الجوهر العالمي والروحي للفن. عبّر موندريان عن رغبته في الوصول إلى «أساس» الأشياء من خلال الحدس، كالعديد من الفنانين التجريديين الآخرين في النصف الأول من القرن العشرين الذين رغبوا في الوصول إلى قوى غير مرئية حولنا، ولكنها معروفة أو محدوسة. «التكوين الثاني باللون الأحمر والأزرق والأصفر» (1930) - بيت موندريان«التكوين الثاني باللون الأحمر والأزرق والأصفر» (1930) – بيت موندريان في أواخر القرن التاسع عشر، لاحظ العلماء بشكلٍ أفضل مما سبق القوى غير المرئية مع انتشار التقنيات الجديدة، وأصبح من الواضح أن العالم أرحب مما يبدو للعين. في الوقت نفسه، ظهرت حركات روحية بديلة جمعت بين الأفكار الأفلاطونية والتصوف. كان كلينت وموندريان من بين العديد من الفنانين الذين انغمسوا في أشكال الروحانية خارج العوالم التقليدية للدين. اعتقدت كلينت أن لوحاتها هي وحي عالم روحي، وأن مهمتها كانت العمل «على مستوى روحاني» لتمثيل روح الإنسان، بدلًا من صورته الفانية. بحلول عشرينيات القرن الماضي، كانت نظرية فرويد عن للعقل البشري قد تغلغلت أيضًا في عالم الفن.  كذلك السريالية، وهي حركة منظمة بإحكام بدأت مع بعض الفنانين الذين سعوا إلى التنقيب عن الإمكانات الإبداعية للعقل الباطن، وهي الحركة الثقافية التي كانت سائدة في أوروبا بين الحربين العالميتين. لم تكن السريالية دوغمائية في محاولتها لاستكشاف اللاوعي، ولذلك ظهر عدد من الأساليب والطرق لمحاولة إخراج اللاوعي إلى السطح. إحدى هذه الأساليب كان الرسم الآلي (Automatism)، وهي عملية يتخلى فيها الفنان عن السيطرة الواعية لليد التي ترسم  أو تصور. في هذا المجال، تبنى الفنانون مثل أندريه ماسون وخوان ميرو الفرصة لبناء صورهم باستخدام حركات حرّة، وحتى إلقاء الطلاء على القماش. طور أرشيل غوركي -هو مهاجر أرمني عاش في الولايات المتحدة- أسلوبًا في الرسم يدمج بين الرسم الآلي وتجريد مجال الألوان. لوحاته في الأربعينيات حجمُها ضخم – ومرد ذلك تأثره بأعماله السابقة كفنان جداري مُعيّن من الدولة خلال السنوات الأخيرة من الكساد الكبير – لكنها معبّرة وغنائية في الرسم بالفرشاة. ألهم إدماج غوركي للأنماط جيلًا واسعًا من الفنانين الأمريكيين في فترة ما بعد الحرب لاحتضان التجريد الواسع النطاق. ما نسميه الآن «التعبيرية التجريدية»، وكان ذاك الجيل في الواقع مجموعة فضفاضة من الفنانين الذين يستخدمون أنماطًا متعدّدة من أنماط التجريد. ربما كان القاسم المشترك بين هؤلاء الفنانين – على الأقل في السنوات الأولى – هو دعم جيل جديد من النقاد بقيادة كليمنت غرينبيرغ، الذي كان يعتقد أن التجريد هو التعبير الأسمى للفن الغربي. «الكبد هو مشط الديك» (1944) - أرشيل جوركي.«الكبد هو مشط الديك» (1944) – أرشيل جوركي. الحداثة ومصير الفنّ الغربي كان يُعتقد في بعض الأوساط الفكرية المؤثرة أنّ الفن يتقدم نحو هدف؛ وهذا المضمون يشتمل عليه مصطلح «الطليعية» (Avant-garde)، الذي يُوصف به الفنّانون الذين يبتكرون أرضية جمالية جديدة. أصل المصطلح فرنسي يُطلق على الجنود الذين يتقدمون إلى مناطق جديدة. بالنسبة إلى غرينبيرغ، لم يكن هؤلاء الفنّانون يوسّعون حدود إمكانات الفن؛ بل كانوا يتقدمون نحو الهدف الحقيقي والمفرد لكل شكل فني. يُعدّ غرينبيرغ شخصية مهمة في تاريخ الفن التجريدي، وذلك لأمرين: بوصفه مناصرًا رائدًا في مسألة تفوق الفن التجريدي على غيره من أنواع الرسم، وتأكيده للقوة التي امتلكها هذا الفن. كان ناقدًا في اللجنة الأمريكية للحريّة الثقافية التي تمولها الدولة، وهي مجموعة تم إنشاؤها لتعزيز الفن الأمريكي على المستوى الدولي. أصبحت أفكار غرينبيرغ مؤثرة عندما كانت الولايات المتحدة جزءًا من الحرب على الفاشية والنازية، وخلال الحرب الباردة اللاحقة ضد الشيوعية السوفيتية. كانت معايير الفن الفاشي والسوفياتي واضحة، وهي ما تحددها السلطات الثقافية أنها كذلك، بيد أنّه ما لم يكن واضحًا هو معايير الفن «الجيد» وتحديدًا في الغرب الديمقراطي. كان الماركسيون هم من تعاطف مع غرينبيرغ في البداية، لكن ارتبط تفكيره بشكلٍ متزايد بالهيمنة الثقافية الأمريكية. بالنسبة إليه، كان التجريد في أعمال بولوك فنًا مثاليًا لمجتمع ديمقراطي. تتجلى الحداثة في الفن، وفقًا لغرينبيرغ، في إطار التنوير الأوروبي؛ أيّ في فترة ازدهار الأفكار الفلسفية والعلمية التي أعطت الأولوية للعقل. في مقالته المؤثرة « الرسم الحداثي» (1961)، وصفَ غرينبيرغ إيمانويل كانط – الفيلسوف الألماني في عصر التنوير – بأنّه «أول حداثي حقيقي». كان أسلوب كانط في «النقد» هو استخدام العقل لنقد العقل بغرض توضيحه، ومنحه استقلالية عن أنواع التفكير الأخرى. «أولمبيا» - إدوارد مانيه (1863). بالنسبة إلى كليمنت غرينبيرغ، كان مانيه أول رسام حداثي. لقد رسم مانيه لوحاته بأسلوبٍ مسطّح بشكلٍ متعمد.«أولمبيا» – إدوارد مانيه (1863). بالنسبة إلى كليمنت غرينبيرغ، كان مانيه أول رسام حداثي. لقد رسم مانيه لوحاته بأسلوبٍ مسطّح بشكلٍ متعمد. بالطريقة نفسها، كان الرسامون الحداثيون – من إدوارد مانيه في القرن التاسع عشر إلى موريس لويس، وهو رسام يعمل ينتمي إلى رسامي أسلوب مجال ألوان في الولايات المتحدة في الوقت الذي كتب فيه غرينبيرغ مقالته – يعملون على ترسيخ الفن التعبيري «بشكل صارم في مجال تخصصه». رأى غرينبيرغ أن وضوح الفن التجريدي -الذي كان صادقًا بالنسبة إلى الوسيط الذي يُعبّر من خلاله- معارضٌ لـ«الفن الشعبي المبتذل [الكيتش]» الذي ينُتج على نطاق واسع في الثقافة الشعبية. إن إزالة «الكيتش» كانت مسألة استجلاء وتوضيح تحتاجها جميع الفنون لكي تصبح تعبيرًا عن إمكاناتها الجمالية الكامنة. اللوحات مسطّحة، وإيهام العمق الذي نجده في معظم الفن الغربي كان انحرافًا عن جوهر فن الرسم ذاته. كانت استقلالية الشكل الفني في جميع خصائصه دون أن تتلوث بأشكال فنية أخرى. وفقًا لغرينبيرغ، يعدّ الشكل واللون من أهم خصائص الرسم، و أفضل تمثيل لها يكون بشكلٍ مسطّح. وهكذا دافع غرينبيرغ عن «التسطيح» الذي تجلّى في لوحات الفنانين الأمريكيين التجريدية مثل جاكسون بولوك باعتباره تحقيقًا لهذا الوضوح الحداثي. لقد ضم هؤلاء الفنانين معًا ضمن فريق واحد، وهم يمثّلون المرحلة التالية في الحداثة، وقد حلّت رؤيتهم الأمريكية المميزة محلّ الفن الأوروبي الطليعي. وفي الوقت الذي أصبح فيه الفن التجريدي الأمريكي مهيمنًا، تراجعت هيمنة غرينبيرغ النقدية، وظهرت أشكال جديدة من الفن الطليعي، مستوحاة مباشرة من الثقافة الجماهيرية، وحلّت محلّ التعبيرية التجريدية في المخيال العام. تبنى فنانوّ «البوب» مثل: آندي وارهول، وريتشارد هاميلتون هذا النوع من «الفن الشعبي المبتذل» الذي رآه غرينبيرغ تلويثًا للفن الحقيقي. استمرت الأعمال الفنية التجريدية، ولكن تخلّى الفنّانون التجريديون الأكثر جرأة عن الفكرة الصارمة «للنقد الحداثي»، وعن الوضوح المتعلق بخصوصية الوسيط الفني، وذلك لصالح أشكال أخرى من التعبير. نظر فنانوّ «ما بعد الحداثة» إلى السخرية وعملية الرسم نفسها، كطرق لتجاوز الطريق المسدود للحداثة. تبنى الألماني غيرهارد ريختر كلا النهجين؛ فبعض أعماله التجريدية في الستينيات كانت مصنوعة بممسحاتٍ بدلًا من الفرشاة، حتى يتمكن من لفت الانتباه إلى عملية صنع اللوحة نفسها. كانت «اللوحات التجريدية» البارزة الأخرى التي رسمها ريختر في الواقع صورًا واقعية مرسومة بعناية تعكس لوحاته التجريدية الأخرى. أصبحت طلائعية الرسم التجريدي مفهومية أكثر، ما جعل ضمنيًّا قضية الرسم تحظى باستقلالية أقل مما كان كان يعتقد النقاد الحداثيون. قلّد فنانوّ «نيو جيو»، مثل: الرسام بيتر هالي، والنحات أشلي بيكرتون اللغة البصرية للتجريد الهندسي، لكنهما دمجاها مع السلع الاستهلاكية بألوانٍ تجارية فاتحة وأحيانًا فلورية. منذ ذلك الجيل ما بعد الحداثي من الرسامين والنحاتين الممتد من الستينيات إلى التسعينيات، ازدهر التجريد متفرّعًا إلى عددٍ لا يُحصى من الأساليب والمقاربات بجوار الفن التشخيصي. هنا يمكن القول إنّ التجريد المتحرّر من عبء التوقعات الحداثية هو ببساطة نهج للتعبير مثل أيّ نهج آخر. وتجدر الإشارة إلى أنّ بعض الفنانين التجريديين استخدموا الحيل البصرية المستعملة في الفن التشخيصي – مثل المنظور والتظليل – في لوحاتهم. ولاستخدامهم هذا أهداف فريدة و غالبًا لا تهتم بالنظرية. قلّد فنانوّ «ما بعد الحداثة» مثل: بيتر هالي اللغة البصرية المستعملة في الفن التجريدي الحديث (في حالة بيتر، التجريد الهندسي)، للتعليق على طبيعة الفن والمعنى نفسه. تمثّل هذه الكتل الملونة «الخلايا» و«الأنابيب».قلّد فنانوّ «ما بعد الحداثة» مثل: بيتر هالي اللغة البصرية المستعملة في الفن التجريدي الحديث (في حالة بيتر، التجريد الهندسي)، للتعليق على طبيعة الفن والمعنى نفسه. تمثّل هذه الكتل الملونة «الخلايا» و«الأنابيب». هذا هو التحرّر نحو الأفضل بين الرسامين التجريديين الذين يمكنهم الالتزام برؤيةٍ فريدة بالرسم على القماش. لكن فكّ ارتباط الفن التجريدي عن إطاره الفلسفي الأوسع أدى أيضًا إلى انتشارٍ يثير التساؤل لأعمال تجريدية متنوعة قابلة للاستهلاك – بمعنى أنّها فقدت قيمتها، وباتت تُباع وتُشترى سريعًا بأسعارٍ مربحة – يشتريها المشترون المتضاربون. دفع هذا التحول الناقد جيري سالتز إلى كتابة: « الزومبي على الجدران: لماذا يبدو الكثير من التجريد الجديد متشابهًا؟». وقد شبه اللّوحات التجريدية بصورة «الزومبي»، تحقيرًا لأعمال عددٍ من الرسامين التجريديين البارزين، الذين استخدموا الفنّ وجماليته لتقديم أعمال مبتذلة. ومن المفارقات أن هؤلاء الفنانين نظروا إلى الشكلانية بوصفها فنًّا حداثيًّا متبنّين منظور غرينبيرغ، لكنهم بالطبع قدّموا أعمالًا في ظلّ فراغ تاريخي وبعد فترةٍ طويلة حين لم يُصبح التجريد مثيرًا للاهتمام أو راديكاليًا بأي وجه من الوجوه. في الواقع، لم يصل مشروع الحداثة  في الفن التجريدي إلى نهايته، بل النقد. إنّ النقد -أيّ الإطار الفلسفي الواسع الذي يصادق على الأعمال الفنية ويثمّنها لأهميتها الثقافية والتاريخية- هو ما فقد التوجه والسلطة. كان مسار الفن الغربي منذ عصر التنوير يتأرجح بين قطبي الدوغمائية النقدية والإبداع. تكمن المشكلة أنه في العقود الأخيرة، وفي ظلّ غياب أي مشروع نقدي متماسك، انجرف الفن نحو إرضاء اهتمامات دقيقة ومتنوعة تزداد باستمرار. في حين كانت هناك «حركات» و«مدارس» فنية -مصطلحان يشيران إلى الوجهة والانضباط- لم يعد لدينا الآن سوى «مشاهد». هذا ليس بالضرورة أمرًا سيئًا. ولكن في عالم حيث «كل شيء مقبول – anything goes»، لا يوجد مجال لهذا النوع من الابتكار والتجاوز الذي أدى إلى ظهور الفن التجريدي في الغرب، وهذا ما جعل الفن الحديث فنًّا مثيرًا للغاية. من الصعب في هذه اللحظة التاريخية أن ندرك ما الذي جعل لوحة بولوك «رقم 32» مثيرة للانقسام، ومخلخلةً جدًا للمعايير، وفي الوقت نفسه محتفظةً بقيمةٍ عالية جدًا لأولئك الذين يعتقدون أن للفنِّ مكانًا في المجتمع يتجاوز المتعة. [divider style=”solid” top=”20″ bottom=”20″] [1] واللقب كذلك يُلمح إلى القاتل المتسلسل في لندن آخر القرن التاسع عشر: جاك السفّاح Jack the ripper (مدير التحرير). ### خارج عقلك | توم تشاتفيلد – ت: محمد السعيد                  عندما يكون هاتفي النقال بين يديّ، هل أكون أنا الشخص نفسه لو كان الهاتف في غرفة أخرى؟ من ناحية،... ### الدراما في التعليم: مقاربات وتطبيقات | نعيم حيماد افتتاحيّة حظي استخدام الدراما في التعليمفي السنوات الأخيرة باهتمام كبير من قبل نخبة من المنظرين والممارسين للدراما في مجال التعليم.... ### الحقائق المخفية | دي بي سي بيير – ت: محمد السعيد       يحمل جبل كلسي خشن في غرب إيران عددًا من النقوش البارزة، من بينها لوحة طولها خمسة وعشرين مترًا منقوشة... ### التغلُّب على كاشف الكذب | كلاريسا سيباغ-مونتِنفيوري – ت: محمد السعيد          حين  اتُّهِمَتْ مربية الأطفال البريطانية لويز وودورد بهزِّ رضيع حتى الموت في مدينة نيوتن بولاية ماساتشوستس، لم تكتفِ بإعلان... ### عن منصة معنى «معنى»، مؤسسة ثقافية تقدّمية ودار نشر تهتم بالفلسفة والمعرفة والفنون، عبر مجموعة متنوعة من المواد المقروءة والمسموعة والمرئية. انطلقت في 20 مارس 2019، بهدف إثراء المحتوى العربي، ورفع ذائقة ووعي المتلقّي المحلي والدولي، عبر الإنتاج الأصيل للمنصة والترجمة ونقل المعارف. ### روابط سريعة ### التصنيفات ### مرحبا بك! قم بتسجيل الدخول إلى حسابك تذكرني ### قم بإنشاء حساب جديد! املأ النموذج أدناه للتسجيل ### طلب إعادة تعيين كلمة المرور يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان البريد الإلكتروني لإعادة تعيين كلمة المرور الخاصة بك. ### Add New Playlist - Select Visibility -PublicPrivate No Result عرض جميع النتائج - 00:00 00:00 - 00:00 00:00
article
Arabic
ar
الفنّ التجريدي: بين الماضي والحاضر - منصة معنى الثقافية
https://mana.net/abstract-art/
1,819
ما جعل الفن التجريدي فنًّا حديثًا على وجه التحديد في العالم الغربي هو نظام المعارض، الذي أعطى القيمة الفنية للأعمال المعروضة.
sentence
ما جعل الفن التجريدي فنًّا حديثًا على وجه التحديد في العالم الغربي هو نظام المعارض، الذي أعطى القيمة الفنية للأعمال المعروضة. وكما هو واضح فقد ازدهر التجريد لآلاف السنين المناطق الشرقية والجنوبية من العالم، دون عناء التحقق من مكانة الأعمال المعروضة في الصالونات [والمعارض، كما هو في العالم الغربي].
paragraph
Arabic
ar
الفنّ التجريدي: بين الماضي والحاضر - منصة معنى الثقافية
https://mana.net/abstract-art/
1,820
وكما هو واضح فقد ازدهر التجريد لآلاف السنين المناطق الشرقية والجنوبية من العالم، دون عناء التحقق من مكانة الأعمال المعروضة في الصالونات [والمعارض، كما هو في العالم الغربي].
sentence
ما جعل الفن التجريدي فنًّا حديثًا على وجه التحديد في العالم الغربي هو نظام المعارض، الذي أعطى القيمة الفنية للأعمال المعروضة. وكما هو واضح فقد ازدهر التجريد لآلاف السنين المناطق الشرقية والجنوبية من العالم، دون عناء التحقق من مكانة الأعمال المعروضة في الصالونات [والمعارض، كما هو في العالم الغربي].
paragraph
Arabic
ar
الفنّ التجريدي: بين الماضي والحاضر - منصة معنى الثقافية
https://mana.net/abstract-art/
1,821
يتبنى بيبي كرمل وهو مؤرخ فني، في كتابه « الفن التجريدي: تاريخ عالمي»، فكرة أنّ الفن التجريدي كان دائمًا موجودًا بشكل طبيعي عندما ننظر إليه نظرة شاملة وعالمية، بيد أنّه يتحاشى طرح نظرية عن تطور الفن التجريدي. بالنسبة إلى كرمل، فإنّ هذا الفنّ متجذر في العالم الحقيقي، وهو ليس فنًّا «مجردًا» على الإطلاق، كما أنّه تقليد عالمي وليس محليًا.
paragraph
لا توجد منتجات في سلة المشتريات. No Result عرض جميع النتائج الثلاثاء, سبتمبر 10, 2024 No Result عرض جميع النتائج No Result عرض جميع النتائج # الفنّ التجريدي: بين الماضي والحاضر ## ترجمة: أنطونيوس نادر AA AA إعادة تعيين فنٌ مليء بالتحديات ثمّة خطٌ رفيع يفصل بين الفن التجريدي ومجرد الزخرفة، ولوحة «رقم 32» (نُشرت عام 1950)، لجاكسون بولوك تتأرجح بين هذا الخطّ. فهي لا تشير إلى معنىً واضح، ولكن لا يمكن القول إنّها بلا معنى على الإطلاق. كما أنّها ليست معبّرة بشكلٍ مباشر، ولا يعني هذا أنها لا تعبّر عن مدلولٍ ما. تحمل هذه اللوحة الكثير من المضامين عن الفن الغربي بالنسبة إلى شخصٍ خبيرٍ في تاريخ الفن؛ أما بالنسبة إلى شخصٍ عادي، فقد يراها عملًا مبتذلًا بالكاد يعبّر عن أمرٍ ما. اللوحة شبكة من الخطوط وبقعٍ من الألوان، رُسمت عن طريق صبّ طلاءٍ رخيص بعشوائيةٍ مباشرة على القماش. تتكون اللوحة من طلاءٍ أسود فقط وقماشٍ خام. واللوحة ضخمة؛ إذ يبلغ طولها تسعة أقدام وعرضها خمسة عشر قدمًا، وتغطي مجال رؤية المشاهد أثناء اقترابه منها. تقليديًّا، حتى اللوحات التجريدية تتكون من أجزاءٍ مترابطة مع بؤر تركيز (emphases) وعمقٍ يُنقل من خلال اللون والظلال، ولكن «رقم 32» ليس لها أجزاء؛ إنّها تتكون من تعالقات، والبؤرة فيها تكمن عبر امتداد سطح القماش المستطيل. يمنحها ما سبق عمقًا سطحيًا، وربما لا عمق فيها: مجرّد طلاء على قماش. إنّها عبث بالشكل واللون. حتى اسمها، ببساطة رقمٌ معيّن – رقم 32 – يجعلها تنأى بنفسها عن أي فكرة مفادها أنها تعكس مدلولًا محدّدًا. تشير عناوين أعمال بولوك الأخرى إلى نوعٍ من الاختبار الشخصي، وإلى الاستخدام السمفوني المتعدد الطبقات للون والملمس؛ خذ مثلًا لوحاته التي تحمل اسم: «إيقاع الخريف»، و«الضباب الأرجواني»، و«الأقطاب الزرقاء»، و«انعكاس الدنقلة الكبير». هذا لا ينطبق على لوحة «رقم 32»؛ شكلها الخام وبساطتها دليل على أنّ الفنان لم يخطط مسبقًا لرسمها؛ أيّ أنّه لم ينتق الألوان ولا الطبقات. يبدو بولوك هنا أكثر حضورًا، من خلال لمساته الحادة. بالنسبة إلى مؤيديّ عمل بولوك، تختصر هذه اللوحة خلاصة نظرة الفنان الجمالية. أما بالنسبة للبعض الآخر، فهي لوحة مبتذلة. وصف جوزيف بويس -النحات الألماني في فترة ما بعد الحرب- الفنَّ التجريدي الأمريكي بأنه مجرد «تغليف»، أيّ سطح بلا محتوى. في هذا الصدد، قد يتفق البعض أن لوحة «رقم 32» تجسد فراغ الفكر والشعور ذاك. فقد رأى الروائي والناقد الفني روبرت كوتس أن فن بولوك لم يكن سوى «انفجارات» غير منظمة من الطاقة العشوائية. غير أنّ طائفة كبيرة من متذوقي الفن التجريدي لا تروق إليهم أعمال بولوك ويرونها فنًّا محيرًا، حتى إنّ بعضهم يراها إهانةً للذوق أو الحسّ السليم. عُرف بولوك بلقب: «جاك فنان النقط» (Jack the Dripper) [1] في الأوساط الإعلامية المشككة بعمله حيث ادعى كثر أن أيّ شخص يمكنه أن يرسم كما يرسم بولوك إلّا أنّ أحدًا لم يتجرأ على فعل ذلك. «رقم 32» - جاكسون بولوك«رقم 32» – جاكسون بولوك بيد أنّ هذا هو مغزى الفن التجريدي في التقليد الغربي: إنّه تحدّ. وفي ظل الكثير هذه التحديات، تُعد لوحة « رقم 32» اللوحة الأكثر تمثيلًا لهذا الفن. قصة الفنّ التجريدي مسار قصة الفن التجريدي مضمّنة في الدراسات التاريخية الفنية، إلّا أنّ المحطات الرئيسة لهذا المسار كانت محط تغييرات مفاجئة كلما اكتشف مؤرخوّ الفن حقائق جديدة. انطلق مسار الفن التجريدي بدءًا من القرن التاسع عشر وما تلاه؛ حيث استفاد الفنانون من مادة الطلاء والجوانب الشكلية للرسم مثل اللون والدرجة والخطوط. يُعرف هذا الانشغال بالجوانب غير التمثيلية (non-representative) للفن باسم «الشكلانية»، لأنّه انشغال «بالشكل»، أيّ بتوسل شكل المحتوى بدلًا من المحتوى في ذاته. بالنسبة إلى الفنانين في القرن التاسع عشر، صُنّف الفن التجريدي على أنّه «فنٌّ من أجل الفنّ»، وكانت الفكرة الشائعة مفادها أنّ المتذوق للفن يمكنه الاستمتاع بالعمل دون اللجوء إلى معنى أو حتى أي شيء آخر يمثل أمرًا ما. تمثّل لوحة «الموسيقى الهادئة باللّونين الأسود والذهبي – الصاروخ الساقط» (1872)، للفنان جيمس مكنيل ويسلر هذا الاتجاه الذي تبلور لاحقًا في الفن التجريدي.  إنّ مشهد ويسلر الغامض من الناحية المكانيّة يقترب إلى التجريد، وذلك بمحاولته نقل الشعور أو الانطباع الخاص بالمشهد بدلًا من إعادة إنتاجه بحذافيره. «الموسيقى الهادئة باللونين الأسود والذهبي - الصاروخ الساقط» (1872-1877) - جيمس أبوت مكنيل ويسلير«الموسيقى الهادئة باللونين الأسود والذهبي – الصاروخ الساقط» (1872-1877) – جيمس أبوت مكنيل ويسلير في عام 1877، انتقد جون روسكين – أبرز نقّاد بريطانيا في ذلك الوقت – عمل ويسلير هذا نقدًا لاذعًا فشبهه «بمن قام برمي الطلاء في وجه الجمهور». تأثر ويسلر بهذا الكلام، فرفع دعوى قضائية ضد روسكين، بيد أنّه خسرها لأن المسؤولين عرضوا اللوحة -خطأً- مقلوبةً على المحكمة. أفلس ويسلير بسبب هذه القضية، لكن مسيرة تطور الفن التجريدي استمرت. من ناحيةٍ أخرى، تحديد أول فنان تجريدي في العالم موضوع نزاع. في نظر أبحاث تاريخ الفن التقليدية، كان فاسيلي كاندينسكي – فنان روسي الجنسية رسم لوحات تجريدية بالكامل في مطلع عام 1911- هو أول فنان تجريدي. لم ينل الفن التجريدي الرائد لهيلما أف كلينت تقديرًا إلا قبل سنوات قريبة. هذه صورة للمعرض الشهير في  متحف غاغينهايم، عام 2018 .لم ينل الفن التجريدي الرائد لهيلما أف كلينت تقديرًا إلا قبل سنوات قريبة. هذه صورة للمعرض الشهير في  متحف غاغينهايم، عام 2018 . ولكن في الآونة الأخيرة، وبفضل المعرض الرائد في متحف مقاطعة لوس أنجلوس للفنون في عام 1986 الذي حمل اسم «الروحانية في الفن: الرسم التجريدي 1890 – 1985»، وقع الاختيار على هيلما أف كلينت كأول رسامة تجريدية. بدأت كلينت في رسم لوحات تجريدية بدءًا من عام 1906، وحملت مجموعتها عنوان «الفوضى البدائية». كانت الفنانة متكتمة في ما يتعلق بأعمالها التجريدية، ولم تُعرض أيّ منها في معارض عامة، وبقيت غير معروفة حتى أزيح عنها الستار مؤخرًا. ولعل الجدال حول هوية أول من مارس الفن التجريدي سيستم، لكن الحقيقة الأكثر أهمية هي أن العديد من الفنانين الأوروبيين البارزين قد توصّلوا في أعمالهم إلى التجريد بحلول الحرب العالمية الأولى. لقد وجد كل منهم طريقته الخاصة في التخلي عن الفن التشخيصي (figurative painting). وجديرٌ بالذكر أنّه لم تكن هناك حركة «تجريدية» دولية ذات رؤية أو بيان مشترك. في ضوء ذلك، فإن السؤال الملحّ حقًا هو: لمَ لمْ يتبنى الفنانون الغربيون الفن التجريدي على امتداد قرون عديدة؟ لماذا كان التجريد غير ضروري أو لا معنى له أو غير مناسب أو حتى لا يمكن تقبّله لقرونٍ متوالية في الفن الغربي؟ ظهرت العديد من التفسيرات لشرح ذلك. إحدى النظريات الأكثر وضوحًا هي أن ظهور التصوير الفوتوغرافي بوصفه شكلًا من أشكال الفن، إضافةً إلى تطور الفن الحديث، سببان رئيسان لإزاحة الرسم التشخيصي. ثمّة إجابات أخرى غير ملموسة لاستكشاف الأسباب: ربما عندما أصبحت الأعمال الفنية قابلة للاستهالاك بشكل متزايد، مثل السلع، بات من السهولة فصل اللوحات والمنحوتات عن التجارب المحددة لمبدعيها. ربما أدت الحداثة في الغرب إلى إفراغ الفن من المحتوى التشخيصي؛ مما دفع الفنانين أيضًا إلى التخلي عن التمثيل التشخيصي. كل من هذه الإجابات معقدة وتتطلب الكثير من الشرح، ولا يمكن إلا أن تكون تخمينات. لا توجد إجابة واضحة لهذه المسألة. ربما يكون من الأفضل طرح السؤال حول سبب تقبّل الفن التجريدي فنًّا من الفنون الرسمية في تاريخ الفن الغربي في مرحلة معينة على علماء الأنثروبولوجيا بدلًا من طرحها على مؤرخي الفن. فما هو واضح أن الفن التجريدي كان موجودًا دائمًا في مناطق أخرى من العالم. ما جعل الفن التجريدي فنًّا حديثًا على وجه التحديد في العالم الغربي هو نظام المعارض، الذي أعطى القيمة الفنية للأعمال المعروضة. وكما هو واضح فقد ازدهر التجريد لآلاف السنين المناطق الشرقية والجنوبية من العالم، دون عناء التحقق من مكانة الأعمال المعروضة في الصالونات [والمعارض، كما هو في العالم الغربي]. الواقع الافتراضي و«الافتراضية» يتبنى بيبي كرمل وهو مؤرخ فني، في كتابه « الفن التجريدي: تاريخ عالمي»، فكرة أنّ الفن التجريدي كان دائمًا موجودًا بشكل طبيعي عندما ننظر إليه نظرة شاملة وعالمية، بيد أنّه يتحاشى طرح نظرية عن تطور الفن التجريدي. بالنسبة إلى كرمل، فإنّ هذا الفنّ متجذر في العالم الحقيقي، وهو ليس فنًّا «مجردًا» على الإطلاق، كما أنّه تقليد عالمي وليس محليًا. في دراسته حول الفن التجريدي يقسم العمل الفني إلى خمس فئات واسعة تنتمي إلى العالم الحقيقي: الأجسام، والمناظر الطبيعية، والكون، والبنى، والعلامات والأنماط. من خلال فحص الفن التجريدي بهذه الطريقة، يرى كرمل في اللوحات التجريدية موضوعات قابلة للتحليل، بعكس النقاد والمؤرخين الأرثوذكسيين الذين رأوا فيها مجرّد توليفات شكلية مكوّنة من لون وشكل. ربما يكون من الأفضل أن يطلق على الفن التجريدي: فن ما تم تجريده (abstracted art)؛ لأنّ الفنانين التجريديين عادةً ما يستخلصون ويجرّدون تعبيرات التجارب في شكل ولون،  أكثر من كونها توليفات مكونة من شكل ولون. ومرّد ذلك الطبيعة الجوهرية للرسم والنحت؛ فهما (الشكل اللّون) وسيطان للتعبير، مثل الشاشة أو المسرح لخيال الفنان. كما هو الحال في المسرح أو السينما، فإنّ جمهور اللوحة أو المنحوتة يعلّق معتقداته من أجل أن يتقبل المشهد. من المفيد التفكير في اللوحة التشخيصية التقليدية أو النحت على أنها حقيقة افتراضية. إذْ استخدم الفنانون لقرون عديدة الحيل البصرية -مثل المنظور الخطي، والتقصير المسبق، والتظليل- لمحاكاة الطريقة التي ندرك بها الأشياء في الفضاء الحقيقي. إنّ المشاهد تُنشأ في فضاء افتراضي – سواء كانت القاعدة التي تدعم التمثال أو القماش – ليراها المشاهدون بوصفها خدعة بصرية. «القديس بطرس شفاء أحد الأشخاص وبعث تابيثا من الموت» ماسولينو دي بانيكال. اعتمد الرسم الغربي قبل القرن العشرين على الحيل البصرية لخلق واقع افتراضي. إحدى هذه الحيل هي المنظور الخطي، وهذه اللوحة هي أول مثال لاستخدام نقطة تلاشٍ متسقة.«القديس بطرس شفاء أحد الأشخاص وبعث تابيثا من الموت» ماسولينو دي بانيكال. اعتمد الرسم الغربي قبل القرن العشرين على الحيل البصرية لخلق واقع افتراضي. إحدى هذه الحيل هي المنظور الخطي، وهذه اللوحة هي أول مثال لاستخدام نقطة تلاشٍ متسقة. يستمتع مشاهدوّ الأعمال الفنية العظيمة معنى ما يُرسم، ويقدرون الطريقة التي يتجلّى فيها الوهم عبر تمازج اللون والشكل. يبقى الفن التجريدي، إلى حدٍ ما، ضمن إطار التجربة الجمالية. فقد سعت حركات الفن الحديث التي أدت إلى التجريد -أيّ «مدارس الفن»، مثل الانطباعية والفاوفية والتكعيبية- إلى تمثيل العالم بشكل مختلف عن كل الفنون التي سبقتها. إذْ ادعوا الاقتراب من الحقيقة الذاتية عبر تهميش جميع الحيل الوهمية التقليدية التي حاولت إعادة إنتاج الواقع بحذافيره كحقيقة موضوعية. «الأحمر والأصفر والأزرق» (1925) واسيلي كاندينسكي.  كان كاندينسكي يعدّ لفترةٍ طويلة أب الرسم التجريدي الغربي.«الأحمر والأصفر والأزرق» (1925) واسيلي كاندينسكي.  كان كاندينسكي يعدّ لفترةٍ طويلة أب الرسم التجريدي الغربي. بالنسبة إلى هذه المدارس، أصبح الفن أقل من أن يوصف بأنّه واقع افتراضي، لكنه مع ذلك احتفظ بالافتراضية، وأصبح افتراضيًا. لقد أخذ الفن التجريدي مسار التطور هذا إلى أقصاه: من الواقع الافتراضي إلى الافتراضية. ماذا تعني «الافتراضية» هنا؟ إنّها الوجود كجوهر وتأثير، ولكن بدون اللجوء إلى الواقع. اللوحة التجريدية التي رسمها كاندينسكي، على سبيل المثال، ما زالت تُعدّ علاقة متبادلة بين الشكل واللون، و تعتمد على الرسم كمستوى تخطيطي: إنها نافذة تطلّ على «الواقع» الفردي الذي تصوّره كاندينسكي. وما تزال العناصر في لوحات كاندينسكي تحظى بعلاقة متبادلة، كما هو الحال في فضاء الواقع الافتراضي للوحة التشخيصية؛ فجوهر الرسم سليم إذ إنّ ذلك الفضاء الافتراضي ما زال موجودًا. عندما يكون الفن التجريدي بناءً خالصًا، ويتخلص من المساحة الافتراضية الملازمة للرسم والنحت، يصبح متميزًا عنهما. وصف دونالد جود الفنان التخفيفي (minimalist) مثل هذه الأعمال الفنية بأنها «أجسام محدّدة» (Specific Objects). إنّه مصطلح غير دقيق، ولكنه يصلح لإظهار أن مثل هذه الأعمال الفنية ليست رسمًا ولا نحتًا، ولكنها فئة أخرى تمامًا. رأى دونالد جود أن أعماله وأعمال العديد من معاصريه تشغل مساحة هجينة، لا هي لوحات ولا هي نحت. عمل دون عنوان لدونالد جود. استخدم جود هذا المصطلح لوصف أعماله الخاصة، ولكنه ينطبق على لوحات كازيمير ماليفيتش وفرانك ستيلا أحادية اللون، والتي تجعل اللوحة تندمج مع نفسها بالكامل، من أجل الوصول للتأثير الذي يأمل العمل في تحقيقه. في مثل هذه الأعمال، لم يعد قماش اللّوحة (أو القاعدة) سطحًا تتفاعل فيه الأشكال والألوان في الفضاء الافتراضي. بدلاً من ذلك، تتفاعل الأشكال والألوان في الفضاء الحقيقي، في فضائنا. تختلف معايير النجاح أو الفشل لهذه الأعمال عن الخصائص التقليدية للرسم والنحت. رأى جود أنّ خصائص الرسم والنحت تقف في طريق ما أراد تحقيقه من خلال اللون والشكل. في رأيه، كان لـ «أجسامه المحددة» تأثيرًا أحدّ من غيرها. الواقع والأشكال الجديدة للإدراك الحسّي الرسم نفسه له ثلاثة أنواع عامة من التجريد؛ أولًا، ثمّة أسلوب تعبيري تُرسم فيه الأشكال بحركاتٍ غير مقيدة؛ ثم هناك التجريد الهندسي حيث يتم هيكلة الأشكال؛ أما النوع الثالث، فهو تجريد مجال اللون حيث يتم عرض مساحات من الألوان بطريقةٍ لا شكل واضح لها. لم تكن هذه «الأنماط» (styles) أنماطًا عرضيةً أو تعتمد على ذوق أو ميل الرسام كوسيلة لتحقيق هدفٍ ما من البحث الفني. وخير مثال على ذلك هو الفنان الذي غالبًا ما ينظر إلى عمله على أنّه ذروة التجريد الهندسي: بيت موندريان. إنّ لوحات بيت موندريان المكونة من شبكات (grids) ذات الخطوط السوداء والأجزاء الملونة على خلفية بيضاء؛ تهدف إلى استحضار «حقيقة أعلى». بالنسبة إلى موندريان، كان الفن في جوهره معارضًا للواقع؛ «لأن الواقع يتعارض مع الروحي». بغض النظر عن هذه اللوحة الأشهر لموندريان، فإنّ جوانب الرسم التي تهم هذا الفنان حقًا لم تكن الجوانب المحددة للموضوع -أيّ ماذا أو ما يتم تصويره في اللوحة مثلًا- بل الجوانب القابلة للفهم عالميًا للشكل والخط واللون. إنّ لوحات موندريان، مثلها مثل لوحات الفنانين الآخرين، هي محاولة لاستخلاص الشكل واللون من أجل الاقتراب من ذلك الجوهر العالمي والروحي للفن. عبّر موندريان عن رغبته في الوصول إلى «أساس» الأشياء من خلال الحدس، كالعديد من الفنانين التجريديين الآخرين في النصف الأول من القرن العشرين الذين رغبوا في الوصول إلى قوى غير مرئية حولنا، ولكنها معروفة أو محدوسة. «التكوين الثاني باللون الأحمر والأزرق والأصفر» (1930) - بيت موندريان«التكوين الثاني باللون الأحمر والأزرق والأصفر» (1930) – بيت موندريان في أواخر القرن التاسع عشر، لاحظ العلماء بشكلٍ أفضل مما سبق القوى غير المرئية مع انتشار التقنيات الجديدة، وأصبح من الواضح أن العالم أرحب مما يبدو للعين. في الوقت نفسه، ظهرت حركات روحية بديلة جمعت بين الأفكار الأفلاطونية والتصوف. كان كلينت وموندريان من بين العديد من الفنانين الذين انغمسوا في أشكال الروحانية خارج العوالم التقليدية للدين. اعتقدت كلينت أن لوحاتها هي وحي عالم روحي، وأن مهمتها كانت العمل «على مستوى روحاني» لتمثيل روح الإنسان، بدلًا من صورته الفانية. بحلول عشرينيات القرن الماضي، كانت نظرية فرويد عن للعقل البشري قد تغلغلت أيضًا في عالم الفن.  كذلك السريالية، وهي حركة منظمة بإحكام بدأت مع بعض الفنانين الذين سعوا إلى التنقيب عن الإمكانات الإبداعية للعقل الباطن، وهي الحركة الثقافية التي كانت سائدة في أوروبا بين الحربين العالميتين. لم تكن السريالية دوغمائية في محاولتها لاستكشاف اللاوعي، ولذلك ظهر عدد من الأساليب والطرق لمحاولة إخراج اللاوعي إلى السطح. إحدى هذه الأساليب كان الرسم الآلي (Automatism)، وهي عملية يتخلى فيها الفنان عن السيطرة الواعية لليد التي ترسم  أو تصور. في هذا المجال، تبنى الفنانون مثل أندريه ماسون وخوان ميرو الفرصة لبناء صورهم باستخدام حركات حرّة، وحتى إلقاء الطلاء على القماش. طور أرشيل غوركي -هو مهاجر أرمني عاش في الولايات المتحدة- أسلوبًا في الرسم يدمج بين الرسم الآلي وتجريد مجال الألوان. لوحاته في الأربعينيات حجمُها ضخم – ومرد ذلك تأثره بأعماله السابقة كفنان جداري مُعيّن من الدولة خلال السنوات الأخيرة من الكساد الكبير – لكنها معبّرة وغنائية في الرسم بالفرشاة. ألهم إدماج غوركي للأنماط جيلًا واسعًا من الفنانين الأمريكيين في فترة ما بعد الحرب لاحتضان التجريد الواسع النطاق. ما نسميه الآن «التعبيرية التجريدية»، وكان ذاك الجيل في الواقع مجموعة فضفاضة من الفنانين الذين يستخدمون أنماطًا متعدّدة من أنماط التجريد. ربما كان القاسم المشترك بين هؤلاء الفنانين – على الأقل في السنوات الأولى – هو دعم جيل جديد من النقاد بقيادة كليمنت غرينبيرغ، الذي كان يعتقد أن التجريد هو التعبير الأسمى للفن الغربي. «الكبد هو مشط الديك» (1944) - أرشيل جوركي.«الكبد هو مشط الديك» (1944) – أرشيل جوركي. الحداثة ومصير الفنّ الغربي كان يُعتقد في بعض الأوساط الفكرية المؤثرة أنّ الفن يتقدم نحو هدف؛ وهذا المضمون يشتمل عليه مصطلح «الطليعية» (Avant-garde)، الذي يُوصف به الفنّانون الذين يبتكرون أرضية جمالية جديدة. أصل المصطلح فرنسي يُطلق على الجنود الذين يتقدمون إلى مناطق جديدة. بالنسبة إلى غرينبيرغ، لم يكن هؤلاء الفنّانون يوسّعون حدود إمكانات الفن؛ بل كانوا يتقدمون نحو الهدف الحقيقي والمفرد لكل شكل فني. يُعدّ غرينبيرغ شخصية مهمة في تاريخ الفن التجريدي، وذلك لأمرين: بوصفه مناصرًا رائدًا في مسألة تفوق الفن التجريدي على غيره من أنواع الرسم، وتأكيده للقوة التي امتلكها هذا الفن. كان ناقدًا في اللجنة الأمريكية للحريّة الثقافية التي تمولها الدولة، وهي مجموعة تم إنشاؤها لتعزيز الفن الأمريكي على المستوى الدولي. أصبحت أفكار غرينبيرغ مؤثرة عندما كانت الولايات المتحدة جزءًا من الحرب على الفاشية والنازية، وخلال الحرب الباردة اللاحقة ضد الشيوعية السوفيتية. كانت معايير الفن الفاشي والسوفياتي واضحة، وهي ما تحددها السلطات الثقافية أنها كذلك، بيد أنّه ما لم يكن واضحًا هو معايير الفن «الجيد» وتحديدًا في الغرب الديمقراطي. كان الماركسيون هم من تعاطف مع غرينبيرغ في البداية، لكن ارتبط تفكيره بشكلٍ متزايد بالهيمنة الثقافية الأمريكية. بالنسبة إليه، كان التجريد في أعمال بولوك فنًا مثاليًا لمجتمع ديمقراطي. تتجلى الحداثة في الفن، وفقًا لغرينبيرغ، في إطار التنوير الأوروبي؛ أيّ في فترة ازدهار الأفكار الفلسفية والعلمية التي أعطت الأولوية للعقل. في مقالته المؤثرة « الرسم الحداثي» (1961)، وصفَ غرينبيرغ إيمانويل كانط – الفيلسوف الألماني في عصر التنوير – بأنّه «أول حداثي حقيقي». كان أسلوب كانط في «النقد» هو استخدام العقل لنقد العقل بغرض توضيحه، ومنحه استقلالية عن أنواع التفكير الأخرى. «أولمبيا» - إدوارد مانيه (1863). بالنسبة إلى كليمنت غرينبيرغ، كان مانيه أول رسام حداثي. لقد رسم مانيه لوحاته بأسلوبٍ مسطّح بشكلٍ متعمد.«أولمبيا» – إدوارد مانيه (1863). بالنسبة إلى كليمنت غرينبيرغ، كان مانيه أول رسام حداثي. لقد رسم مانيه لوحاته بأسلوبٍ مسطّح بشكلٍ متعمد. بالطريقة نفسها، كان الرسامون الحداثيون – من إدوارد مانيه في القرن التاسع عشر إلى موريس لويس، وهو رسام يعمل ينتمي إلى رسامي أسلوب مجال ألوان في الولايات المتحدة في الوقت الذي كتب فيه غرينبيرغ مقالته – يعملون على ترسيخ الفن التعبيري «بشكل صارم في مجال تخصصه». رأى غرينبيرغ أن وضوح الفن التجريدي -الذي كان صادقًا بالنسبة إلى الوسيط الذي يُعبّر من خلاله- معارضٌ لـ«الفن الشعبي المبتذل [الكيتش]» الذي ينُتج على نطاق واسع في الثقافة الشعبية. إن إزالة «الكيتش» كانت مسألة استجلاء وتوضيح تحتاجها جميع الفنون لكي تصبح تعبيرًا عن إمكاناتها الجمالية الكامنة. اللوحات مسطّحة، وإيهام العمق الذي نجده في معظم الفن الغربي كان انحرافًا عن جوهر فن الرسم ذاته. كانت استقلالية الشكل الفني في جميع خصائصه دون أن تتلوث بأشكال فنية أخرى. وفقًا لغرينبيرغ، يعدّ الشكل واللون من أهم خصائص الرسم، و أفضل تمثيل لها يكون بشكلٍ مسطّح. وهكذا دافع غرينبيرغ عن «التسطيح» الذي تجلّى في لوحات الفنانين الأمريكيين التجريدية مثل جاكسون بولوك باعتباره تحقيقًا لهذا الوضوح الحداثي. لقد ضم هؤلاء الفنانين معًا ضمن فريق واحد، وهم يمثّلون المرحلة التالية في الحداثة، وقد حلّت رؤيتهم الأمريكية المميزة محلّ الفن الأوروبي الطليعي. وفي الوقت الذي أصبح فيه الفن التجريدي الأمريكي مهيمنًا، تراجعت هيمنة غرينبيرغ النقدية، وظهرت أشكال جديدة من الفن الطليعي، مستوحاة مباشرة من الثقافة الجماهيرية، وحلّت محلّ التعبيرية التجريدية في المخيال العام. تبنى فنانوّ «البوب» مثل: آندي وارهول، وريتشارد هاميلتون هذا النوع من «الفن الشعبي المبتذل» الذي رآه غرينبيرغ تلويثًا للفن الحقيقي. استمرت الأعمال الفنية التجريدية، ولكن تخلّى الفنّانون التجريديون الأكثر جرأة عن الفكرة الصارمة «للنقد الحداثي»، وعن الوضوح المتعلق بخصوصية الوسيط الفني، وذلك لصالح أشكال أخرى من التعبير. نظر فنانوّ «ما بعد الحداثة» إلى السخرية وعملية الرسم نفسها، كطرق لتجاوز الطريق المسدود للحداثة. تبنى الألماني غيرهارد ريختر كلا النهجين؛ فبعض أعماله التجريدية في الستينيات كانت مصنوعة بممسحاتٍ بدلًا من الفرشاة، حتى يتمكن من لفت الانتباه إلى عملية صنع اللوحة نفسها. كانت «اللوحات التجريدية» البارزة الأخرى التي رسمها ريختر في الواقع صورًا واقعية مرسومة بعناية تعكس لوحاته التجريدية الأخرى. أصبحت طلائعية الرسم التجريدي مفهومية أكثر، ما جعل ضمنيًّا قضية الرسم تحظى باستقلالية أقل مما كان كان يعتقد النقاد الحداثيون. قلّد فنانوّ «نيو جيو»، مثل: الرسام بيتر هالي، والنحات أشلي بيكرتون اللغة البصرية للتجريد الهندسي، لكنهما دمجاها مع السلع الاستهلاكية بألوانٍ تجارية فاتحة وأحيانًا فلورية. منذ ذلك الجيل ما بعد الحداثي من الرسامين والنحاتين الممتد من الستينيات إلى التسعينيات، ازدهر التجريد متفرّعًا إلى عددٍ لا يُحصى من الأساليب والمقاربات بجوار الفن التشخيصي. هنا يمكن القول إنّ التجريد المتحرّر من عبء التوقعات الحداثية هو ببساطة نهج للتعبير مثل أيّ نهج آخر. وتجدر الإشارة إلى أنّ بعض الفنانين التجريديين استخدموا الحيل البصرية المستعملة في الفن التشخيصي – مثل المنظور والتظليل – في لوحاتهم. ولاستخدامهم هذا أهداف فريدة و غالبًا لا تهتم بالنظرية. قلّد فنانوّ «ما بعد الحداثة» مثل: بيتر هالي اللغة البصرية المستعملة في الفن التجريدي الحديث (في حالة بيتر، التجريد الهندسي)، للتعليق على طبيعة الفن والمعنى نفسه. تمثّل هذه الكتل الملونة «الخلايا» و«الأنابيب».قلّد فنانوّ «ما بعد الحداثة» مثل: بيتر هالي اللغة البصرية المستعملة في الفن التجريدي الحديث (في حالة بيتر، التجريد الهندسي)، للتعليق على طبيعة الفن والمعنى نفسه. تمثّل هذه الكتل الملونة «الخلايا» و«الأنابيب». هذا هو التحرّر نحو الأفضل بين الرسامين التجريديين الذين يمكنهم الالتزام برؤيةٍ فريدة بالرسم على القماش. لكن فكّ ارتباط الفن التجريدي عن إطاره الفلسفي الأوسع أدى أيضًا إلى انتشارٍ يثير التساؤل لأعمال تجريدية متنوعة قابلة للاستهلاك – بمعنى أنّها فقدت قيمتها، وباتت تُباع وتُشترى سريعًا بأسعارٍ مربحة – يشتريها المشترون المتضاربون. دفع هذا التحول الناقد جيري سالتز إلى كتابة: « الزومبي على الجدران: لماذا يبدو الكثير من التجريد الجديد متشابهًا؟». وقد شبه اللّوحات التجريدية بصورة «الزومبي»، تحقيرًا لأعمال عددٍ من الرسامين التجريديين البارزين، الذين استخدموا الفنّ وجماليته لتقديم أعمال مبتذلة. ومن المفارقات أن هؤلاء الفنانين نظروا إلى الشكلانية بوصفها فنًّا حداثيًّا متبنّين منظور غرينبيرغ، لكنهم بالطبع قدّموا أعمالًا في ظلّ فراغ تاريخي وبعد فترةٍ طويلة حين لم يُصبح التجريد مثيرًا للاهتمام أو راديكاليًا بأي وجه من الوجوه. في الواقع، لم يصل مشروع الحداثة  في الفن التجريدي إلى نهايته، بل النقد. إنّ النقد -أيّ الإطار الفلسفي الواسع الذي يصادق على الأعمال الفنية ويثمّنها لأهميتها الثقافية والتاريخية- هو ما فقد التوجه والسلطة. كان مسار الفن الغربي منذ عصر التنوير يتأرجح بين قطبي الدوغمائية النقدية والإبداع. تكمن المشكلة أنه في العقود الأخيرة، وفي ظلّ غياب أي مشروع نقدي متماسك، انجرف الفن نحو إرضاء اهتمامات دقيقة ومتنوعة تزداد باستمرار. في حين كانت هناك «حركات» و«مدارس» فنية -مصطلحان يشيران إلى الوجهة والانضباط- لم يعد لدينا الآن سوى «مشاهد». هذا ليس بالضرورة أمرًا سيئًا. ولكن في عالم حيث «كل شيء مقبول – anything goes»، لا يوجد مجال لهذا النوع من الابتكار والتجاوز الذي أدى إلى ظهور الفن التجريدي في الغرب، وهذا ما جعل الفن الحديث فنًّا مثيرًا للغاية. من الصعب في هذه اللحظة التاريخية أن ندرك ما الذي جعل لوحة بولوك «رقم 32» مثيرة للانقسام، ومخلخلةً جدًا للمعايير، وفي الوقت نفسه محتفظةً بقيمةٍ عالية جدًا لأولئك الذين يعتقدون أن للفنِّ مكانًا في المجتمع يتجاوز المتعة. [divider style=”solid” top=”20″ bottom=”20″] [1] واللقب كذلك يُلمح إلى القاتل المتسلسل في لندن آخر القرن التاسع عشر: جاك السفّاح Jack the ripper (مدير التحرير). ### خارج عقلك | توم تشاتفيلد – ت: محمد السعيد                  عندما يكون هاتفي النقال بين يديّ، هل أكون أنا الشخص نفسه لو كان الهاتف في غرفة أخرى؟ من ناحية،... ### الدراما في التعليم: مقاربات وتطبيقات | نعيم حيماد افتتاحيّة حظي استخدام الدراما في التعليمفي السنوات الأخيرة باهتمام كبير من قبل نخبة من المنظرين والممارسين للدراما في مجال التعليم.... ### الحقائق المخفية | دي بي سي بيير – ت: محمد السعيد       يحمل جبل كلسي خشن في غرب إيران عددًا من النقوش البارزة، من بينها لوحة طولها خمسة وعشرين مترًا منقوشة... ### التغلُّب على كاشف الكذب | كلاريسا سيباغ-مونتِنفيوري – ت: محمد السعيد          حين  اتُّهِمَتْ مربية الأطفال البريطانية لويز وودورد بهزِّ رضيع حتى الموت في مدينة نيوتن بولاية ماساتشوستس، لم تكتفِ بإعلان... ### عن منصة معنى «معنى»، مؤسسة ثقافية تقدّمية ودار نشر تهتم بالفلسفة والمعرفة والفنون، عبر مجموعة متنوعة من المواد المقروءة والمسموعة والمرئية. انطلقت في 20 مارس 2019، بهدف إثراء المحتوى العربي، ورفع ذائقة ووعي المتلقّي المحلي والدولي، عبر الإنتاج الأصيل للمنصة والترجمة ونقل المعارف. ### روابط سريعة ### التصنيفات ### مرحبا بك! قم بتسجيل الدخول إلى حسابك تذكرني ### قم بإنشاء حساب جديد! املأ النموذج أدناه للتسجيل ### طلب إعادة تعيين كلمة المرور يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان البريد الإلكتروني لإعادة تعيين كلمة المرور الخاصة بك. ### Add New Playlist - Select Visibility -PublicPrivate No Result عرض جميع النتائج - 00:00 00:00 - 00:00 00:00
article
Arabic
ar
الفنّ التجريدي: بين الماضي والحاضر - منصة معنى الثقافية
https://mana.net/abstract-art/
1,822
يتبنى بيبي كرمل وهو مؤرخ فني، في كتابه « الفن التجريدي: تاريخ عالمي»، فكرة أنّ الفن التجريدي كان دائمًا موجودًا بشكل طبيعي عندما ننظر إليه نظرة شاملة وعالمية، بيد أنّه يتحاشى طرح نظرية عن تطور الفن التجريدي.
sentence
يتبنى بيبي كرمل وهو مؤرخ فني، في كتابه « الفن التجريدي: تاريخ عالمي»، فكرة أنّ الفن التجريدي كان دائمًا موجودًا بشكل طبيعي عندما ننظر إليه نظرة شاملة وعالمية، بيد أنّه يتحاشى طرح نظرية عن تطور الفن التجريدي. بالنسبة إلى كرمل، فإنّ هذا الفنّ متجذر في العالم الحقيقي، وهو ليس فنًّا «مجردًا» على الإطلاق، كما أنّه تقليد عالمي وليس محليًا.
paragraph
Arabic
ar
الفنّ التجريدي: بين الماضي والحاضر - منصة معنى الثقافية
https://mana.net/abstract-art/
1,823
بالنسبة إلى كرمل، فإنّ هذا الفنّ متجذر في العالم الحقيقي، وهو ليس فنًّا «مجردًا» على الإطلاق، كما أنّه تقليد عالمي وليس محليًا.
sentence
يتبنى بيبي كرمل وهو مؤرخ فني، في كتابه « الفن التجريدي: تاريخ عالمي»، فكرة أنّ الفن التجريدي كان دائمًا موجودًا بشكل طبيعي عندما ننظر إليه نظرة شاملة وعالمية، بيد أنّه يتحاشى طرح نظرية عن تطور الفن التجريدي. بالنسبة إلى كرمل، فإنّ هذا الفنّ متجذر في العالم الحقيقي، وهو ليس فنًّا «مجردًا» على الإطلاق، كما أنّه تقليد عالمي وليس محليًا.
paragraph
Arabic
ar
الفنّ التجريدي: بين الماضي والحاضر - منصة معنى الثقافية
https://mana.net/abstract-art/
1,824
في دراسته حول الفن التجريدي يقسم العمل الفني إلى خمس فئات واسعة تنتمي إلى العالم الحقيقي: الأجسام، والمناظر الطبيعية، والكون، والبنى، والعلامات والأنماط. من خلال فحص الفن التجريدي بهذه الطريقة، يرى كرمل في اللوحات التجريدية موضوعات قابلة للتحليل، بعكس النقاد والمؤرخين الأرثوذكسيين الذين رأوا فيها مجرّد توليفات شكلية مكوّنة من لون وشكل.
paragraph
لا توجد منتجات في سلة المشتريات. No Result عرض جميع النتائج الثلاثاء, سبتمبر 10, 2024 No Result عرض جميع النتائج No Result عرض جميع النتائج # الفنّ التجريدي: بين الماضي والحاضر ## ترجمة: أنطونيوس نادر AA AA إعادة تعيين فنٌ مليء بالتحديات ثمّة خطٌ رفيع يفصل بين الفن التجريدي ومجرد الزخرفة، ولوحة «رقم 32» (نُشرت عام 1950)، لجاكسون بولوك تتأرجح بين هذا الخطّ. فهي لا تشير إلى معنىً واضح، ولكن لا يمكن القول إنّها بلا معنى على الإطلاق. كما أنّها ليست معبّرة بشكلٍ مباشر، ولا يعني هذا أنها لا تعبّر عن مدلولٍ ما. تحمل هذه اللوحة الكثير من المضامين عن الفن الغربي بالنسبة إلى شخصٍ خبيرٍ في تاريخ الفن؛ أما بالنسبة إلى شخصٍ عادي، فقد يراها عملًا مبتذلًا بالكاد يعبّر عن أمرٍ ما. اللوحة شبكة من الخطوط وبقعٍ من الألوان، رُسمت عن طريق صبّ طلاءٍ رخيص بعشوائيةٍ مباشرة على القماش. تتكون اللوحة من طلاءٍ أسود فقط وقماشٍ خام. واللوحة ضخمة؛ إذ يبلغ طولها تسعة أقدام وعرضها خمسة عشر قدمًا، وتغطي مجال رؤية المشاهد أثناء اقترابه منها. تقليديًّا، حتى اللوحات التجريدية تتكون من أجزاءٍ مترابطة مع بؤر تركيز (emphases) وعمقٍ يُنقل من خلال اللون والظلال، ولكن «رقم 32» ليس لها أجزاء؛ إنّها تتكون من تعالقات، والبؤرة فيها تكمن عبر امتداد سطح القماش المستطيل. يمنحها ما سبق عمقًا سطحيًا، وربما لا عمق فيها: مجرّد طلاء على قماش. إنّها عبث بالشكل واللون. حتى اسمها، ببساطة رقمٌ معيّن – رقم 32 – يجعلها تنأى بنفسها عن أي فكرة مفادها أنها تعكس مدلولًا محدّدًا. تشير عناوين أعمال بولوك الأخرى إلى نوعٍ من الاختبار الشخصي، وإلى الاستخدام السمفوني المتعدد الطبقات للون والملمس؛ خذ مثلًا لوحاته التي تحمل اسم: «إيقاع الخريف»، و«الضباب الأرجواني»، و«الأقطاب الزرقاء»، و«انعكاس الدنقلة الكبير». هذا لا ينطبق على لوحة «رقم 32»؛ شكلها الخام وبساطتها دليل على أنّ الفنان لم يخطط مسبقًا لرسمها؛ أيّ أنّه لم ينتق الألوان ولا الطبقات. يبدو بولوك هنا أكثر حضورًا، من خلال لمساته الحادة. بالنسبة إلى مؤيديّ عمل بولوك، تختصر هذه اللوحة خلاصة نظرة الفنان الجمالية. أما بالنسبة للبعض الآخر، فهي لوحة مبتذلة. وصف جوزيف بويس -النحات الألماني في فترة ما بعد الحرب- الفنَّ التجريدي الأمريكي بأنه مجرد «تغليف»، أيّ سطح بلا محتوى. في هذا الصدد، قد يتفق البعض أن لوحة «رقم 32» تجسد فراغ الفكر والشعور ذاك. فقد رأى الروائي والناقد الفني روبرت كوتس أن فن بولوك لم يكن سوى «انفجارات» غير منظمة من الطاقة العشوائية. غير أنّ طائفة كبيرة من متذوقي الفن التجريدي لا تروق إليهم أعمال بولوك ويرونها فنًّا محيرًا، حتى إنّ بعضهم يراها إهانةً للذوق أو الحسّ السليم. عُرف بولوك بلقب: «جاك فنان النقط» (Jack the Dripper) [1] في الأوساط الإعلامية المشككة بعمله حيث ادعى كثر أن أيّ شخص يمكنه أن يرسم كما يرسم بولوك إلّا أنّ أحدًا لم يتجرأ على فعل ذلك. «رقم 32» - جاكسون بولوك«رقم 32» – جاكسون بولوك بيد أنّ هذا هو مغزى الفن التجريدي في التقليد الغربي: إنّه تحدّ. وفي ظل الكثير هذه التحديات، تُعد لوحة « رقم 32» اللوحة الأكثر تمثيلًا لهذا الفن. قصة الفنّ التجريدي مسار قصة الفن التجريدي مضمّنة في الدراسات التاريخية الفنية، إلّا أنّ المحطات الرئيسة لهذا المسار كانت محط تغييرات مفاجئة كلما اكتشف مؤرخوّ الفن حقائق جديدة. انطلق مسار الفن التجريدي بدءًا من القرن التاسع عشر وما تلاه؛ حيث استفاد الفنانون من مادة الطلاء والجوانب الشكلية للرسم مثل اللون والدرجة والخطوط. يُعرف هذا الانشغال بالجوانب غير التمثيلية (non-representative) للفن باسم «الشكلانية»، لأنّه انشغال «بالشكل»، أيّ بتوسل شكل المحتوى بدلًا من المحتوى في ذاته. بالنسبة إلى الفنانين في القرن التاسع عشر، صُنّف الفن التجريدي على أنّه «فنٌّ من أجل الفنّ»، وكانت الفكرة الشائعة مفادها أنّ المتذوق للفن يمكنه الاستمتاع بالعمل دون اللجوء إلى معنى أو حتى أي شيء آخر يمثل أمرًا ما. تمثّل لوحة «الموسيقى الهادئة باللّونين الأسود والذهبي – الصاروخ الساقط» (1872)، للفنان جيمس مكنيل ويسلر هذا الاتجاه الذي تبلور لاحقًا في الفن التجريدي.  إنّ مشهد ويسلر الغامض من الناحية المكانيّة يقترب إلى التجريد، وذلك بمحاولته نقل الشعور أو الانطباع الخاص بالمشهد بدلًا من إعادة إنتاجه بحذافيره. «الموسيقى الهادئة باللونين الأسود والذهبي - الصاروخ الساقط» (1872-1877) - جيمس أبوت مكنيل ويسلير«الموسيقى الهادئة باللونين الأسود والذهبي – الصاروخ الساقط» (1872-1877) – جيمس أبوت مكنيل ويسلير في عام 1877، انتقد جون روسكين – أبرز نقّاد بريطانيا في ذلك الوقت – عمل ويسلير هذا نقدًا لاذعًا فشبهه «بمن قام برمي الطلاء في وجه الجمهور». تأثر ويسلر بهذا الكلام، فرفع دعوى قضائية ضد روسكين، بيد أنّه خسرها لأن المسؤولين عرضوا اللوحة -خطأً- مقلوبةً على المحكمة. أفلس ويسلير بسبب هذه القضية، لكن مسيرة تطور الفن التجريدي استمرت. من ناحيةٍ أخرى، تحديد أول فنان تجريدي في العالم موضوع نزاع. في نظر أبحاث تاريخ الفن التقليدية، كان فاسيلي كاندينسكي – فنان روسي الجنسية رسم لوحات تجريدية بالكامل في مطلع عام 1911- هو أول فنان تجريدي. لم ينل الفن التجريدي الرائد لهيلما أف كلينت تقديرًا إلا قبل سنوات قريبة. هذه صورة للمعرض الشهير في  متحف غاغينهايم، عام 2018 .لم ينل الفن التجريدي الرائد لهيلما أف كلينت تقديرًا إلا قبل سنوات قريبة. هذه صورة للمعرض الشهير في  متحف غاغينهايم، عام 2018 . ولكن في الآونة الأخيرة، وبفضل المعرض الرائد في متحف مقاطعة لوس أنجلوس للفنون في عام 1986 الذي حمل اسم «الروحانية في الفن: الرسم التجريدي 1890 – 1985»، وقع الاختيار على هيلما أف كلينت كأول رسامة تجريدية. بدأت كلينت في رسم لوحات تجريدية بدءًا من عام 1906، وحملت مجموعتها عنوان «الفوضى البدائية». كانت الفنانة متكتمة في ما يتعلق بأعمالها التجريدية، ولم تُعرض أيّ منها في معارض عامة، وبقيت غير معروفة حتى أزيح عنها الستار مؤخرًا. ولعل الجدال حول هوية أول من مارس الفن التجريدي سيستم، لكن الحقيقة الأكثر أهمية هي أن العديد من الفنانين الأوروبيين البارزين قد توصّلوا في أعمالهم إلى التجريد بحلول الحرب العالمية الأولى. لقد وجد كل منهم طريقته الخاصة في التخلي عن الفن التشخيصي (figurative painting). وجديرٌ بالذكر أنّه لم تكن هناك حركة «تجريدية» دولية ذات رؤية أو بيان مشترك. في ضوء ذلك، فإن السؤال الملحّ حقًا هو: لمَ لمْ يتبنى الفنانون الغربيون الفن التجريدي على امتداد قرون عديدة؟ لماذا كان التجريد غير ضروري أو لا معنى له أو غير مناسب أو حتى لا يمكن تقبّله لقرونٍ متوالية في الفن الغربي؟ ظهرت العديد من التفسيرات لشرح ذلك. إحدى النظريات الأكثر وضوحًا هي أن ظهور التصوير الفوتوغرافي بوصفه شكلًا من أشكال الفن، إضافةً إلى تطور الفن الحديث، سببان رئيسان لإزاحة الرسم التشخيصي. ثمّة إجابات أخرى غير ملموسة لاستكشاف الأسباب: ربما عندما أصبحت الأعمال الفنية قابلة للاستهالاك بشكل متزايد، مثل السلع، بات من السهولة فصل اللوحات والمنحوتات عن التجارب المحددة لمبدعيها. ربما أدت الحداثة في الغرب إلى إفراغ الفن من المحتوى التشخيصي؛ مما دفع الفنانين أيضًا إلى التخلي عن التمثيل التشخيصي. كل من هذه الإجابات معقدة وتتطلب الكثير من الشرح، ولا يمكن إلا أن تكون تخمينات. لا توجد إجابة واضحة لهذه المسألة. ربما يكون من الأفضل طرح السؤال حول سبب تقبّل الفن التجريدي فنًّا من الفنون الرسمية في تاريخ الفن الغربي في مرحلة معينة على علماء الأنثروبولوجيا بدلًا من طرحها على مؤرخي الفن. فما هو واضح أن الفن التجريدي كان موجودًا دائمًا في مناطق أخرى من العالم. ما جعل الفن التجريدي فنًّا حديثًا على وجه التحديد في العالم الغربي هو نظام المعارض، الذي أعطى القيمة الفنية للأعمال المعروضة. وكما هو واضح فقد ازدهر التجريد لآلاف السنين المناطق الشرقية والجنوبية من العالم، دون عناء التحقق من مكانة الأعمال المعروضة في الصالونات [والمعارض، كما هو في العالم الغربي]. الواقع الافتراضي و«الافتراضية» يتبنى بيبي كرمل وهو مؤرخ فني، في كتابه « الفن التجريدي: تاريخ عالمي»، فكرة أنّ الفن التجريدي كان دائمًا موجودًا بشكل طبيعي عندما ننظر إليه نظرة شاملة وعالمية، بيد أنّه يتحاشى طرح نظرية عن تطور الفن التجريدي. بالنسبة إلى كرمل، فإنّ هذا الفنّ متجذر في العالم الحقيقي، وهو ليس فنًّا «مجردًا» على الإطلاق، كما أنّه تقليد عالمي وليس محليًا. في دراسته حول الفن التجريدي يقسم العمل الفني إلى خمس فئات واسعة تنتمي إلى العالم الحقيقي: الأجسام، والمناظر الطبيعية، والكون، والبنى، والعلامات والأنماط. من خلال فحص الفن التجريدي بهذه الطريقة، يرى كرمل في اللوحات التجريدية موضوعات قابلة للتحليل، بعكس النقاد والمؤرخين الأرثوذكسيين الذين رأوا فيها مجرّد توليفات شكلية مكوّنة من لون وشكل. ربما يكون من الأفضل أن يطلق على الفن التجريدي: فن ما تم تجريده (abstracted art)؛ لأنّ الفنانين التجريديين عادةً ما يستخلصون ويجرّدون تعبيرات التجارب في شكل ولون،  أكثر من كونها توليفات مكونة من شكل ولون. ومرّد ذلك الطبيعة الجوهرية للرسم والنحت؛ فهما (الشكل اللّون) وسيطان للتعبير، مثل الشاشة أو المسرح لخيال الفنان. كما هو الحال في المسرح أو السينما، فإنّ جمهور اللوحة أو المنحوتة يعلّق معتقداته من أجل أن يتقبل المشهد. من المفيد التفكير في اللوحة التشخيصية التقليدية أو النحت على أنها حقيقة افتراضية. إذْ استخدم الفنانون لقرون عديدة الحيل البصرية -مثل المنظور الخطي، والتقصير المسبق، والتظليل- لمحاكاة الطريقة التي ندرك بها الأشياء في الفضاء الحقيقي. إنّ المشاهد تُنشأ في فضاء افتراضي – سواء كانت القاعدة التي تدعم التمثال أو القماش – ليراها المشاهدون بوصفها خدعة بصرية. «القديس بطرس شفاء أحد الأشخاص وبعث تابيثا من الموت» ماسولينو دي بانيكال. اعتمد الرسم الغربي قبل القرن العشرين على الحيل البصرية لخلق واقع افتراضي. إحدى هذه الحيل هي المنظور الخطي، وهذه اللوحة هي أول مثال لاستخدام نقطة تلاشٍ متسقة.«القديس بطرس شفاء أحد الأشخاص وبعث تابيثا من الموت» ماسولينو دي بانيكال. اعتمد الرسم الغربي قبل القرن العشرين على الحيل البصرية لخلق واقع افتراضي. إحدى هذه الحيل هي المنظور الخطي، وهذه اللوحة هي أول مثال لاستخدام نقطة تلاشٍ متسقة. يستمتع مشاهدوّ الأعمال الفنية العظيمة معنى ما يُرسم، ويقدرون الطريقة التي يتجلّى فيها الوهم عبر تمازج اللون والشكل. يبقى الفن التجريدي، إلى حدٍ ما، ضمن إطار التجربة الجمالية. فقد سعت حركات الفن الحديث التي أدت إلى التجريد -أيّ «مدارس الفن»، مثل الانطباعية والفاوفية والتكعيبية- إلى تمثيل العالم بشكل مختلف عن كل الفنون التي سبقتها. إذْ ادعوا الاقتراب من الحقيقة الذاتية عبر تهميش جميع الحيل الوهمية التقليدية التي حاولت إعادة إنتاج الواقع بحذافيره كحقيقة موضوعية. «الأحمر والأصفر والأزرق» (1925) واسيلي كاندينسكي.  كان كاندينسكي يعدّ لفترةٍ طويلة أب الرسم التجريدي الغربي.«الأحمر والأصفر والأزرق» (1925) واسيلي كاندينسكي.  كان كاندينسكي يعدّ لفترةٍ طويلة أب الرسم التجريدي الغربي. بالنسبة إلى هذه المدارس، أصبح الفن أقل من أن يوصف بأنّه واقع افتراضي، لكنه مع ذلك احتفظ بالافتراضية، وأصبح افتراضيًا. لقد أخذ الفن التجريدي مسار التطور هذا إلى أقصاه: من الواقع الافتراضي إلى الافتراضية. ماذا تعني «الافتراضية» هنا؟ إنّها الوجود كجوهر وتأثير، ولكن بدون اللجوء إلى الواقع. اللوحة التجريدية التي رسمها كاندينسكي، على سبيل المثال، ما زالت تُعدّ علاقة متبادلة بين الشكل واللون، و تعتمد على الرسم كمستوى تخطيطي: إنها نافذة تطلّ على «الواقع» الفردي الذي تصوّره كاندينسكي. وما تزال العناصر في لوحات كاندينسكي تحظى بعلاقة متبادلة، كما هو الحال في فضاء الواقع الافتراضي للوحة التشخيصية؛ فجوهر الرسم سليم إذ إنّ ذلك الفضاء الافتراضي ما زال موجودًا. عندما يكون الفن التجريدي بناءً خالصًا، ويتخلص من المساحة الافتراضية الملازمة للرسم والنحت، يصبح متميزًا عنهما. وصف دونالد جود الفنان التخفيفي (minimalist) مثل هذه الأعمال الفنية بأنها «أجسام محدّدة» (Specific Objects). إنّه مصطلح غير دقيق، ولكنه يصلح لإظهار أن مثل هذه الأعمال الفنية ليست رسمًا ولا نحتًا، ولكنها فئة أخرى تمامًا. رأى دونالد جود أن أعماله وأعمال العديد من معاصريه تشغل مساحة هجينة، لا هي لوحات ولا هي نحت. عمل دون عنوان لدونالد جود. استخدم جود هذا المصطلح لوصف أعماله الخاصة، ولكنه ينطبق على لوحات كازيمير ماليفيتش وفرانك ستيلا أحادية اللون، والتي تجعل اللوحة تندمج مع نفسها بالكامل، من أجل الوصول للتأثير الذي يأمل العمل في تحقيقه. في مثل هذه الأعمال، لم يعد قماش اللّوحة (أو القاعدة) سطحًا تتفاعل فيه الأشكال والألوان في الفضاء الافتراضي. بدلاً من ذلك، تتفاعل الأشكال والألوان في الفضاء الحقيقي، في فضائنا. تختلف معايير النجاح أو الفشل لهذه الأعمال عن الخصائص التقليدية للرسم والنحت. رأى جود أنّ خصائص الرسم والنحت تقف في طريق ما أراد تحقيقه من خلال اللون والشكل. في رأيه، كان لـ «أجسامه المحددة» تأثيرًا أحدّ من غيرها. الواقع والأشكال الجديدة للإدراك الحسّي الرسم نفسه له ثلاثة أنواع عامة من التجريد؛ أولًا، ثمّة أسلوب تعبيري تُرسم فيه الأشكال بحركاتٍ غير مقيدة؛ ثم هناك التجريد الهندسي حيث يتم هيكلة الأشكال؛ أما النوع الثالث، فهو تجريد مجال اللون حيث يتم عرض مساحات من الألوان بطريقةٍ لا شكل واضح لها. لم تكن هذه «الأنماط» (styles) أنماطًا عرضيةً أو تعتمد على ذوق أو ميل الرسام كوسيلة لتحقيق هدفٍ ما من البحث الفني. وخير مثال على ذلك هو الفنان الذي غالبًا ما ينظر إلى عمله على أنّه ذروة التجريد الهندسي: بيت موندريان. إنّ لوحات بيت موندريان المكونة من شبكات (grids) ذات الخطوط السوداء والأجزاء الملونة على خلفية بيضاء؛ تهدف إلى استحضار «حقيقة أعلى». بالنسبة إلى موندريان، كان الفن في جوهره معارضًا للواقع؛ «لأن الواقع يتعارض مع الروحي». بغض النظر عن هذه اللوحة الأشهر لموندريان، فإنّ جوانب الرسم التي تهم هذا الفنان حقًا لم تكن الجوانب المحددة للموضوع -أيّ ماذا أو ما يتم تصويره في اللوحة مثلًا- بل الجوانب القابلة للفهم عالميًا للشكل والخط واللون. إنّ لوحات موندريان، مثلها مثل لوحات الفنانين الآخرين، هي محاولة لاستخلاص الشكل واللون من أجل الاقتراب من ذلك الجوهر العالمي والروحي للفن. عبّر موندريان عن رغبته في الوصول إلى «أساس» الأشياء من خلال الحدس، كالعديد من الفنانين التجريديين الآخرين في النصف الأول من القرن العشرين الذين رغبوا في الوصول إلى قوى غير مرئية حولنا، ولكنها معروفة أو محدوسة. «التكوين الثاني باللون الأحمر والأزرق والأصفر» (1930) - بيت موندريان«التكوين الثاني باللون الأحمر والأزرق والأصفر» (1930) – بيت موندريان في أواخر القرن التاسع عشر، لاحظ العلماء بشكلٍ أفضل مما سبق القوى غير المرئية مع انتشار التقنيات الجديدة، وأصبح من الواضح أن العالم أرحب مما يبدو للعين. في الوقت نفسه، ظهرت حركات روحية بديلة جمعت بين الأفكار الأفلاطونية والتصوف. كان كلينت وموندريان من بين العديد من الفنانين الذين انغمسوا في أشكال الروحانية خارج العوالم التقليدية للدين. اعتقدت كلينت أن لوحاتها هي وحي عالم روحي، وأن مهمتها كانت العمل «على مستوى روحاني» لتمثيل روح الإنسان، بدلًا من صورته الفانية. بحلول عشرينيات القرن الماضي، كانت نظرية فرويد عن للعقل البشري قد تغلغلت أيضًا في عالم الفن.  كذلك السريالية، وهي حركة منظمة بإحكام بدأت مع بعض الفنانين الذين سعوا إلى التنقيب عن الإمكانات الإبداعية للعقل الباطن، وهي الحركة الثقافية التي كانت سائدة في أوروبا بين الحربين العالميتين. لم تكن السريالية دوغمائية في محاولتها لاستكشاف اللاوعي، ولذلك ظهر عدد من الأساليب والطرق لمحاولة إخراج اللاوعي إلى السطح. إحدى هذه الأساليب كان الرسم الآلي (Automatism)، وهي عملية يتخلى فيها الفنان عن السيطرة الواعية لليد التي ترسم  أو تصور. في هذا المجال، تبنى الفنانون مثل أندريه ماسون وخوان ميرو الفرصة لبناء صورهم باستخدام حركات حرّة، وحتى إلقاء الطلاء على القماش. طور أرشيل غوركي -هو مهاجر أرمني عاش في الولايات المتحدة- أسلوبًا في الرسم يدمج بين الرسم الآلي وتجريد مجال الألوان. لوحاته في الأربعينيات حجمُها ضخم – ومرد ذلك تأثره بأعماله السابقة كفنان جداري مُعيّن من الدولة خلال السنوات الأخيرة من الكساد الكبير – لكنها معبّرة وغنائية في الرسم بالفرشاة. ألهم إدماج غوركي للأنماط جيلًا واسعًا من الفنانين الأمريكيين في فترة ما بعد الحرب لاحتضان التجريد الواسع النطاق. ما نسميه الآن «التعبيرية التجريدية»، وكان ذاك الجيل في الواقع مجموعة فضفاضة من الفنانين الذين يستخدمون أنماطًا متعدّدة من أنماط التجريد. ربما كان القاسم المشترك بين هؤلاء الفنانين – على الأقل في السنوات الأولى – هو دعم جيل جديد من النقاد بقيادة كليمنت غرينبيرغ، الذي كان يعتقد أن التجريد هو التعبير الأسمى للفن الغربي. «الكبد هو مشط الديك» (1944) - أرشيل جوركي.«الكبد هو مشط الديك» (1944) – أرشيل جوركي. الحداثة ومصير الفنّ الغربي كان يُعتقد في بعض الأوساط الفكرية المؤثرة أنّ الفن يتقدم نحو هدف؛ وهذا المضمون يشتمل عليه مصطلح «الطليعية» (Avant-garde)، الذي يُوصف به الفنّانون الذين يبتكرون أرضية جمالية جديدة. أصل المصطلح فرنسي يُطلق على الجنود الذين يتقدمون إلى مناطق جديدة. بالنسبة إلى غرينبيرغ، لم يكن هؤلاء الفنّانون يوسّعون حدود إمكانات الفن؛ بل كانوا يتقدمون نحو الهدف الحقيقي والمفرد لكل شكل فني. يُعدّ غرينبيرغ شخصية مهمة في تاريخ الفن التجريدي، وذلك لأمرين: بوصفه مناصرًا رائدًا في مسألة تفوق الفن التجريدي على غيره من أنواع الرسم، وتأكيده للقوة التي امتلكها هذا الفن. كان ناقدًا في اللجنة الأمريكية للحريّة الثقافية التي تمولها الدولة، وهي مجموعة تم إنشاؤها لتعزيز الفن الأمريكي على المستوى الدولي. أصبحت أفكار غرينبيرغ مؤثرة عندما كانت الولايات المتحدة جزءًا من الحرب على الفاشية والنازية، وخلال الحرب الباردة اللاحقة ضد الشيوعية السوفيتية. كانت معايير الفن الفاشي والسوفياتي واضحة، وهي ما تحددها السلطات الثقافية أنها كذلك، بيد أنّه ما لم يكن واضحًا هو معايير الفن «الجيد» وتحديدًا في الغرب الديمقراطي. كان الماركسيون هم من تعاطف مع غرينبيرغ في البداية، لكن ارتبط تفكيره بشكلٍ متزايد بالهيمنة الثقافية الأمريكية. بالنسبة إليه، كان التجريد في أعمال بولوك فنًا مثاليًا لمجتمع ديمقراطي. تتجلى الحداثة في الفن، وفقًا لغرينبيرغ، في إطار التنوير الأوروبي؛ أيّ في فترة ازدهار الأفكار الفلسفية والعلمية التي أعطت الأولوية للعقل. في مقالته المؤثرة « الرسم الحداثي» (1961)، وصفَ غرينبيرغ إيمانويل كانط – الفيلسوف الألماني في عصر التنوير – بأنّه «أول حداثي حقيقي». كان أسلوب كانط في «النقد» هو استخدام العقل لنقد العقل بغرض توضيحه، ومنحه استقلالية عن أنواع التفكير الأخرى. «أولمبيا» - إدوارد مانيه (1863). بالنسبة إلى كليمنت غرينبيرغ، كان مانيه أول رسام حداثي. لقد رسم مانيه لوحاته بأسلوبٍ مسطّح بشكلٍ متعمد.«أولمبيا» – إدوارد مانيه (1863). بالنسبة إلى كليمنت غرينبيرغ، كان مانيه أول رسام حداثي. لقد رسم مانيه لوحاته بأسلوبٍ مسطّح بشكلٍ متعمد. بالطريقة نفسها، كان الرسامون الحداثيون – من إدوارد مانيه في القرن التاسع عشر إلى موريس لويس، وهو رسام يعمل ينتمي إلى رسامي أسلوب مجال ألوان في الولايات المتحدة في الوقت الذي كتب فيه غرينبيرغ مقالته – يعملون على ترسيخ الفن التعبيري «بشكل صارم في مجال تخصصه». رأى غرينبيرغ أن وضوح الفن التجريدي -الذي كان صادقًا بالنسبة إلى الوسيط الذي يُعبّر من خلاله- معارضٌ لـ«الفن الشعبي المبتذل [الكيتش]» الذي ينُتج على نطاق واسع في الثقافة الشعبية. إن إزالة «الكيتش» كانت مسألة استجلاء وتوضيح تحتاجها جميع الفنون لكي تصبح تعبيرًا عن إمكاناتها الجمالية الكامنة. اللوحات مسطّحة، وإيهام العمق الذي نجده في معظم الفن الغربي كان انحرافًا عن جوهر فن الرسم ذاته. كانت استقلالية الشكل الفني في جميع خصائصه دون أن تتلوث بأشكال فنية أخرى. وفقًا لغرينبيرغ، يعدّ الشكل واللون من أهم خصائص الرسم، و أفضل تمثيل لها يكون بشكلٍ مسطّح. وهكذا دافع غرينبيرغ عن «التسطيح» الذي تجلّى في لوحات الفنانين الأمريكيين التجريدية مثل جاكسون بولوك باعتباره تحقيقًا لهذا الوضوح الحداثي. لقد ضم هؤلاء الفنانين معًا ضمن فريق واحد، وهم يمثّلون المرحلة التالية في الحداثة، وقد حلّت رؤيتهم الأمريكية المميزة محلّ الفن الأوروبي الطليعي. وفي الوقت الذي أصبح فيه الفن التجريدي الأمريكي مهيمنًا، تراجعت هيمنة غرينبيرغ النقدية، وظهرت أشكال جديدة من الفن الطليعي، مستوحاة مباشرة من الثقافة الجماهيرية، وحلّت محلّ التعبيرية التجريدية في المخيال العام. تبنى فنانوّ «البوب» مثل: آندي وارهول، وريتشارد هاميلتون هذا النوع من «الفن الشعبي المبتذل» الذي رآه غرينبيرغ تلويثًا للفن الحقيقي. استمرت الأعمال الفنية التجريدية، ولكن تخلّى الفنّانون التجريديون الأكثر جرأة عن الفكرة الصارمة «للنقد الحداثي»، وعن الوضوح المتعلق بخصوصية الوسيط الفني، وذلك لصالح أشكال أخرى من التعبير. نظر فنانوّ «ما بعد الحداثة» إلى السخرية وعملية الرسم نفسها، كطرق لتجاوز الطريق المسدود للحداثة. تبنى الألماني غيرهارد ريختر كلا النهجين؛ فبعض أعماله التجريدية في الستينيات كانت مصنوعة بممسحاتٍ بدلًا من الفرشاة، حتى يتمكن من لفت الانتباه إلى عملية صنع اللوحة نفسها. كانت «اللوحات التجريدية» البارزة الأخرى التي رسمها ريختر في الواقع صورًا واقعية مرسومة بعناية تعكس لوحاته التجريدية الأخرى. أصبحت طلائعية الرسم التجريدي مفهومية أكثر، ما جعل ضمنيًّا قضية الرسم تحظى باستقلالية أقل مما كان كان يعتقد النقاد الحداثيون. قلّد فنانوّ «نيو جيو»، مثل: الرسام بيتر هالي، والنحات أشلي بيكرتون اللغة البصرية للتجريد الهندسي، لكنهما دمجاها مع السلع الاستهلاكية بألوانٍ تجارية فاتحة وأحيانًا فلورية. منذ ذلك الجيل ما بعد الحداثي من الرسامين والنحاتين الممتد من الستينيات إلى التسعينيات، ازدهر التجريد متفرّعًا إلى عددٍ لا يُحصى من الأساليب والمقاربات بجوار الفن التشخيصي. هنا يمكن القول إنّ التجريد المتحرّر من عبء التوقعات الحداثية هو ببساطة نهج للتعبير مثل أيّ نهج آخر. وتجدر الإشارة إلى أنّ بعض الفنانين التجريديين استخدموا الحيل البصرية المستعملة في الفن التشخيصي – مثل المنظور والتظليل – في لوحاتهم. ولاستخدامهم هذا أهداف فريدة و غالبًا لا تهتم بالنظرية. قلّد فنانوّ «ما بعد الحداثة» مثل: بيتر هالي اللغة البصرية المستعملة في الفن التجريدي الحديث (في حالة بيتر، التجريد الهندسي)، للتعليق على طبيعة الفن والمعنى نفسه. تمثّل هذه الكتل الملونة «الخلايا» و«الأنابيب».قلّد فنانوّ «ما بعد الحداثة» مثل: بيتر هالي اللغة البصرية المستعملة في الفن التجريدي الحديث (في حالة بيتر، التجريد الهندسي)، للتعليق على طبيعة الفن والمعنى نفسه. تمثّل هذه الكتل الملونة «الخلايا» و«الأنابيب». هذا هو التحرّر نحو الأفضل بين الرسامين التجريديين الذين يمكنهم الالتزام برؤيةٍ فريدة بالرسم على القماش. لكن فكّ ارتباط الفن التجريدي عن إطاره الفلسفي الأوسع أدى أيضًا إلى انتشارٍ يثير التساؤل لأعمال تجريدية متنوعة قابلة للاستهلاك – بمعنى أنّها فقدت قيمتها، وباتت تُباع وتُشترى سريعًا بأسعارٍ مربحة – يشتريها المشترون المتضاربون. دفع هذا التحول الناقد جيري سالتز إلى كتابة: « الزومبي على الجدران: لماذا يبدو الكثير من التجريد الجديد متشابهًا؟». وقد شبه اللّوحات التجريدية بصورة «الزومبي»، تحقيرًا لأعمال عددٍ من الرسامين التجريديين البارزين، الذين استخدموا الفنّ وجماليته لتقديم أعمال مبتذلة. ومن المفارقات أن هؤلاء الفنانين نظروا إلى الشكلانية بوصفها فنًّا حداثيًّا متبنّين منظور غرينبيرغ، لكنهم بالطبع قدّموا أعمالًا في ظلّ فراغ تاريخي وبعد فترةٍ طويلة حين لم يُصبح التجريد مثيرًا للاهتمام أو راديكاليًا بأي وجه من الوجوه. في الواقع، لم يصل مشروع الحداثة  في الفن التجريدي إلى نهايته، بل النقد. إنّ النقد -أيّ الإطار الفلسفي الواسع الذي يصادق على الأعمال الفنية ويثمّنها لأهميتها الثقافية والتاريخية- هو ما فقد التوجه والسلطة. كان مسار الفن الغربي منذ عصر التنوير يتأرجح بين قطبي الدوغمائية النقدية والإبداع. تكمن المشكلة أنه في العقود الأخيرة، وفي ظلّ غياب أي مشروع نقدي متماسك، انجرف الفن نحو إرضاء اهتمامات دقيقة ومتنوعة تزداد باستمرار. في حين كانت هناك «حركات» و«مدارس» فنية -مصطلحان يشيران إلى الوجهة والانضباط- لم يعد لدينا الآن سوى «مشاهد». هذا ليس بالضرورة أمرًا سيئًا. ولكن في عالم حيث «كل شيء مقبول – anything goes»، لا يوجد مجال لهذا النوع من الابتكار والتجاوز الذي أدى إلى ظهور الفن التجريدي في الغرب، وهذا ما جعل الفن الحديث فنًّا مثيرًا للغاية. من الصعب في هذه اللحظة التاريخية أن ندرك ما الذي جعل لوحة بولوك «رقم 32» مثيرة للانقسام، ومخلخلةً جدًا للمعايير، وفي الوقت نفسه محتفظةً بقيمةٍ عالية جدًا لأولئك الذين يعتقدون أن للفنِّ مكانًا في المجتمع يتجاوز المتعة. [divider style=”solid” top=”20″ bottom=”20″] [1] واللقب كذلك يُلمح إلى القاتل المتسلسل في لندن آخر القرن التاسع عشر: جاك السفّاح Jack the ripper (مدير التحرير). ### خارج عقلك | توم تشاتفيلد – ت: محمد السعيد                  عندما يكون هاتفي النقال بين يديّ، هل أكون أنا الشخص نفسه لو كان الهاتف في غرفة أخرى؟ من ناحية،... ### الدراما في التعليم: مقاربات وتطبيقات | نعيم حيماد افتتاحيّة حظي استخدام الدراما في التعليمفي السنوات الأخيرة باهتمام كبير من قبل نخبة من المنظرين والممارسين للدراما في مجال التعليم.... ### الحقائق المخفية | دي بي سي بيير – ت: محمد السعيد       يحمل جبل كلسي خشن في غرب إيران عددًا من النقوش البارزة، من بينها لوحة طولها خمسة وعشرين مترًا منقوشة... ### التغلُّب على كاشف الكذب | كلاريسا سيباغ-مونتِنفيوري – ت: محمد السعيد          حين  اتُّهِمَتْ مربية الأطفال البريطانية لويز وودورد بهزِّ رضيع حتى الموت في مدينة نيوتن بولاية ماساتشوستس، لم تكتفِ بإعلان... ### عن منصة معنى «معنى»، مؤسسة ثقافية تقدّمية ودار نشر تهتم بالفلسفة والمعرفة والفنون، عبر مجموعة متنوعة من المواد المقروءة والمسموعة والمرئية. انطلقت في 20 مارس 2019، بهدف إثراء المحتوى العربي، ورفع ذائقة ووعي المتلقّي المحلي والدولي، عبر الإنتاج الأصيل للمنصة والترجمة ونقل المعارف. ### روابط سريعة ### التصنيفات ### مرحبا بك! قم بتسجيل الدخول إلى حسابك تذكرني ### قم بإنشاء حساب جديد! املأ النموذج أدناه للتسجيل ### طلب إعادة تعيين كلمة المرور يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان البريد الإلكتروني لإعادة تعيين كلمة المرور الخاصة بك. ### Add New Playlist - Select Visibility -PublicPrivate No Result عرض جميع النتائج - 00:00 00:00 - 00:00 00:00
article
Arabic
ar
الفنّ التجريدي: بين الماضي والحاضر - منصة معنى الثقافية
https://mana.net/abstract-art/
1,825
في دراسته حول الفن التجريدي يقسم العمل الفني إلى خمس فئات واسعة تنتمي إلى العالم الحقيقي: الأجسام، والمناظر الطبيعية، والكون، والبنى، والعلامات والأنماط.
sentence
في دراسته حول الفن التجريدي يقسم العمل الفني إلى خمس فئات واسعة تنتمي إلى العالم الحقيقي: الأجسام، والمناظر الطبيعية، والكون، والبنى، والعلامات والأنماط. من خلال فحص الفن التجريدي بهذه الطريقة، يرى كرمل في اللوحات التجريدية موضوعات قابلة للتحليل، بعكس النقاد والمؤرخين الأرثوذكسيين الذين رأوا فيها مجرّد توليفات شكلية مكوّنة من لون وشكل.
paragraph
Arabic
ar
الفنّ التجريدي: بين الماضي والحاضر - منصة معنى الثقافية
https://mana.net/abstract-art/
1,826
من خلال فحص الفن التجريدي بهذه الطريقة، يرى كرمل في اللوحات التجريدية موضوعات قابلة للتحليل، بعكس النقاد والمؤرخين الأرثوذكسيين الذين رأوا فيها مجرّد توليفات شكلية مكوّنة من لون وشكل.
sentence
في دراسته حول الفن التجريدي يقسم العمل الفني إلى خمس فئات واسعة تنتمي إلى العالم الحقيقي: الأجسام، والمناظر الطبيعية، والكون، والبنى، والعلامات والأنماط. من خلال فحص الفن التجريدي بهذه الطريقة، يرى كرمل في اللوحات التجريدية موضوعات قابلة للتحليل، بعكس النقاد والمؤرخين الأرثوذكسيين الذين رأوا فيها مجرّد توليفات شكلية مكوّنة من لون وشكل.
paragraph
Arabic
ar
الفنّ التجريدي: بين الماضي والحاضر - منصة معنى الثقافية
https://mana.net/abstract-art/
1,827
ربما يكون من الأفضل أن يطلق على الفن التجريدي: فن ما تم تجريده (abstracted art)؛ لأنّ الفنانين التجريديين عادةً ما يستخلصون ويجرّدون تعبيرات التجارب في شكل ولون،  أكثر من كونها توليفات مكونة من شكل ولون. ومرّد ذلك الطبيعة الجوهرية للرسم والنحت؛ فهما (الشكل اللّون) وسيطان للتعبير، مثل الشاشة أو المسرح لخيال الفنان. كما هو الحال في المسرح أو السينما، فإنّ جمهور اللوحة أو المنحوتة يعلّق معتقداته من أجل أن يتقبل المشهد.
paragraph
لا توجد منتجات في سلة المشتريات. No Result عرض جميع النتائج الثلاثاء, سبتمبر 10, 2024 No Result عرض جميع النتائج No Result عرض جميع النتائج # الفنّ التجريدي: بين الماضي والحاضر ## ترجمة: أنطونيوس نادر AA AA إعادة تعيين فنٌ مليء بالتحديات ثمّة خطٌ رفيع يفصل بين الفن التجريدي ومجرد الزخرفة، ولوحة «رقم 32» (نُشرت عام 1950)، لجاكسون بولوك تتأرجح بين هذا الخطّ. فهي لا تشير إلى معنىً واضح، ولكن لا يمكن القول إنّها بلا معنى على الإطلاق. كما أنّها ليست معبّرة بشكلٍ مباشر، ولا يعني هذا أنها لا تعبّر عن مدلولٍ ما. تحمل هذه اللوحة الكثير من المضامين عن الفن الغربي بالنسبة إلى شخصٍ خبيرٍ في تاريخ الفن؛ أما بالنسبة إلى شخصٍ عادي، فقد يراها عملًا مبتذلًا بالكاد يعبّر عن أمرٍ ما. اللوحة شبكة من الخطوط وبقعٍ من الألوان، رُسمت عن طريق صبّ طلاءٍ رخيص بعشوائيةٍ مباشرة على القماش. تتكون اللوحة من طلاءٍ أسود فقط وقماشٍ خام. واللوحة ضخمة؛ إذ يبلغ طولها تسعة أقدام وعرضها خمسة عشر قدمًا، وتغطي مجال رؤية المشاهد أثناء اقترابه منها. تقليديًّا، حتى اللوحات التجريدية تتكون من أجزاءٍ مترابطة مع بؤر تركيز (emphases) وعمقٍ يُنقل من خلال اللون والظلال، ولكن «رقم 32» ليس لها أجزاء؛ إنّها تتكون من تعالقات، والبؤرة فيها تكمن عبر امتداد سطح القماش المستطيل. يمنحها ما سبق عمقًا سطحيًا، وربما لا عمق فيها: مجرّد طلاء على قماش. إنّها عبث بالشكل واللون. حتى اسمها، ببساطة رقمٌ معيّن – رقم 32 – يجعلها تنأى بنفسها عن أي فكرة مفادها أنها تعكس مدلولًا محدّدًا. تشير عناوين أعمال بولوك الأخرى إلى نوعٍ من الاختبار الشخصي، وإلى الاستخدام السمفوني المتعدد الطبقات للون والملمس؛ خذ مثلًا لوحاته التي تحمل اسم: «إيقاع الخريف»، و«الضباب الأرجواني»، و«الأقطاب الزرقاء»، و«انعكاس الدنقلة الكبير». هذا لا ينطبق على لوحة «رقم 32»؛ شكلها الخام وبساطتها دليل على أنّ الفنان لم يخطط مسبقًا لرسمها؛ أيّ أنّه لم ينتق الألوان ولا الطبقات. يبدو بولوك هنا أكثر حضورًا، من خلال لمساته الحادة. بالنسبة إلى مؤيديّ عمل بولوك، تختصر هذه اللوحة خلاصة نظرة الفنان الجمالية. أما بالنسبة للبعض الآخر، فهي لوحة مبتذلة. وصف جوزيف بويس -النحات الألماني في فترة ما بعد الحرب- الفنَّ التجريدي الأمريكي بأنه مجرد «تغليف»، أيّ سطح بلا محتوى. في هذا الصدد، قد يتفق البعض أن لوحة «رقم 32» تجسد فراغ الفكر والشعور ذاك. فقد رأى الروائي والناقد الفني روبرت كوتس أن فن بولوك لم يكن سوى «انفجارات» غير منظمة من الطاقة العشوائية. غير أنّ طائفة كبيرة من متذوقي الفن التجريدي لا تروق إليهم أعمال بولوك ويرونها فنًّا محيرًا، حتى إنّ بعضهم يراها إهانةً للذوق أو الحسّ السليم. عُرف بولوك بلقب: «جاك فنان النقط» (Jack the Dripper) [1] في الأوساط الإعلامية المشككة بعمله حيث ادعى كثر أن أيّ شخص يمكنه أن يرسم كما يرسم بولوك إلّا أنّ أحدًا لم يتجرأ على فعل ذلك. «رقم 32» - جاكسون بولوك«رقم 32» – جاكسون بولوك بيد أنّ هذا هو مغزى الفن التجريدي في التقليد الغربي: إنّه تحدّ. وفي ظل الكثير هذه التحديات، تُعد لوحة « رقم 32» اللوحة الأكثر تمثيلًا لهذا الفن. قصة الفنّ التجريدي مسار قصة الفن التجريدي مضمّنة في الدراسات التاريخية الفنية، إلّا أنّ المحطات الرئيسة لهذا المسار كانت محط تغييرات مفاجئة كلما اكتشف مؤرخوّ الفن حقائق جديدة. انطلق مسار الفن التجريدي بدءًا من القرن التاسع عشر وما تلاه؛ حيث استفاد الفنانون من مادة الطلاء والجوانب الشكلية للرسم مثل اللون والدرجة والخطوط. يُعرف هذا الانشغال بالجوانب غير التمثيلية (non-representative) للفن باسم «الشكلانية»، لأنّه انشغال «بالشكل»، أيّ بتوسل شكل المحتوى بدلًا من المحتوى في ذاته. بالنسبة إلى الفنانين في القرن التاسع عشر، صُنّف الفن التجريدي على أنّه «فنٌّ من أجل الفنّ»، وكانت الفكرة الشائعة مفادها أنّ المتذوق للفن يمكنه الاستمتاع بالعمل دون اللجوء إلى معنى أو حتى أي شيء آخر يمثل أمرًا ما. تمثّل لوحة «الموسيقى الهادئة باللّونين الأسود والذهبي – الصاروخ الساقط» (1872)، للفنان جيمس مكنيل ويسلر هذا الاتجاه الذي تبلور لاحقًا في الفن التجريدي.  إنّ مشهد ويسلر الغامض من الناحية المكانيّة يقترب إلى التجريد، وذلك بمحاولته نقل الشعور أو الانطباع الخاص بالمشهد بدلًا من إعادة إنتاجه بحذافيره. «الموسيقى الهادئة باللونين الأسود والذهبي - الصاروخ الساقط» (1872-1877) - جيمس أبوت مكنيل ويسلير«الموسيقى الهادئة باللونين الأسود والذهبي – الصاروخ الساقط» (1872-1877) – جيمس أبوت مكنيل ويسلير في عام 1877، انتقد جون روسكين – أبرز نقّاد بريطانيا في ذلك الوقت – عمل ويسلير هذا نقدًا لاذعًا فشبهه «بمن قام برمي الطلاء في وجه الجمهور». تأثر ويسلر بهذا الكلام، فرفع دعوى قضائية ضد روسكين، بيد أنّه خسرها لأن المسؤولين عرضوا اللوحة -خطأً- مقلوبةً على المحكمة. أفلس ويسلير بسبب هذه القضية، لكن مسيرة تطور الفن التجريدي استمرت. من ناحيةٍ أخرى، تحديد أول فنان تجريدي في العالم موضوع نزاع. في نظر أبحاث تاريخ الفن التقليدية، كان فاسيلي كاندينسكي – فنان روسي الجنسية رسم لوحات تجريدية بالكامل في مطلع عام 1911- هو أول فنان تجريدي. لم ينل الفن التجريدي الرائد لهيلما أف كلينت تقديرًا إلا قبل سنوات قريبة. هذه صورة للمعرض الشهير في  متحف غاغينهايم، عام 2018 .لم ينل الفن التجريدي الرائد لهيلما أف كلينت تقديرًا إلا قبل سنوات قريبة. هذه صورة للمعرض الشهير في  متحف غاغينهايم، عام 2018 . ولكن في الآونة الأخيرة، وبفضل المعرض الرائد في متحف مقاطعة لوس أنجلوس للفنون في عام 1986 الذي حمل اسم «الروحانية في الفن: الرسم التجريدي 1890 – 1985»، وقع الاختيار على هيلما أف كلينت كأول رسامة تجريدية. بدأت كلينت في رسم لوحات تجريدية بدءًا من عام 1906، وحملت مجموعتها عنوان «الفوضى البدائية». كانت الفنانة متكتمة في ما يتعلق بأعمالها التجريدية، ولم تُعرض أيّ منها في معارض عامة، وبقيت غير معروفة حتى أزيح عنها الستار مؤخرًا. ولعل الجدال حول هوية أول من مارس الفن التجريدي سيستم، لكن الحقيقة الأكثر أهمية هي أن العديد من الفنانين الأوروبيين البارزين قد توصّلوا في أعمالهم إلى التجريد بحلول الحرب العالمية الأولى. لقد وجد كل منهم طريقته الخاصة في التخلي عن الفن التشخيصي (figurative painting). وجديرٌ بالذكر أنّه لم تكن هناك حركة «تجريدية» دولية ذات رؤية أو بيان مشترك. في ضوء ذلك، فإن السؤال الملحّ حقًا هو: لمَ لمْ يتبنى الفنانون الغربيون الفن التجريدي على امتداد قرون عديدة؟ لماذا كان التجريد غير ضروري أو لا معنى له أو غير مناسب أو حتى لا يمكن تقبّله لقرونٍ متوالية في الفن الغربي؟ ظهرت العديد من التفسيرات لشرح ذلك. إحدى النظريات الأكثر وضوحًا هي أن ظهور التصوير الفوتوغرافي بوصفه شكلًا من أشكال الفن، إضافةً إلى تطور الفن الحديث، سببان رئيسان لإزاحة الرسم التشخيصي. ثمّة إجابات أخرى غير ملموسة لاستكشاف الأسباب: ربما عندما أصبحت الأعمال الفنية قابلة للاستهالاك بشكل متزايد، مثل السلع، بات من السهولة فصل اللوحات والمنحوتات عن التجارب المحددة لمبدعيها. ربما أدت الحداثة في الغرب إلى إفراغ الفن من المحتوى التشخيصي؛ مما دفع الفنانين أيضًا إلى التخلي عن التمثيل التشخيصي. كل من هذه الإجابات معقدة وتتطلب الكثير من الشرح، ولا يمكن إلا أن تكون تخمينات. لا توجد إجابة واضحة لهذه المسألة. ربما يكون من الأفضل طرح السؤال حول سبب تقبّل الفن التجريدي فنًّا من الفنون الرسمية في تاريخ الفن الغربي في مرحلة معينة على علماء الأنثروبولوجيا بدلًا من طرحها على مؤرخي الفن. فما هو واضح أن الفن التجريدي كان موجودًا دائمًا في مناطق أخرى من العالم. ما جعل الفن التجريدي فنًّا حديثًا على وجه التحديد في العالم الغربي هو نظام المعارض، الذي أعطى القيمة الفنية للأعمال المعروضة. وكما هو واضح فقد ازدهر التجريد لآلاف السنين المناطق الشرقية والجنوبية من العالم، دون عناء التحقق من مكانة الأعمال المعروضة في الصالونات [والمعارض، كما هو في العالم الغربي]. الواقع الافتراضي و«الافتراضية» يتبنى بيبي كرمل وهو مؤرخ فني، في كتابه « الفن التجريدي: تاريخ عالمي»، فكرة أنّ الفن التجريدي كان دائمًا موجودًا بشكل طبيعي عندما ننظر إليه نظرة شاملة وعالمية، بيد أنّه يتحاشى طرح نظرية عن تطور الفن التجريدي. بالنسبة إلى كرمل، فإنّ هذا الفنّ متجذر في العالم الحقيقي، وهو ليس فنًّا «مجردًا» على الإطلاق، كما أنّه تقليد عالمي وليس محليًا. في دراسته حول الفن التجريدي يقسم العمل الفني إلى خمس فئات واسعة تنتمي إلى العالم الحقيقي: الأجسام، والمناظر الطبيعية، والكون، والبنى، والعلامات والأنماط. من خلال فحص الفن التجريدي بهذه الطريقة، يرى كرمل في اللوحات التجريدية موضوعات قابلة للتحليل، بعكس النقاد والمؤرخين الأرثوذكسيين الذين رأوا فيها مجرّد توليفات شكلية مكوّنة من لون وشكل. ربما يكون من الأفضل أن يطلق على الفن التجريدي: فن ما تم تجريده (abstracted art)؛ لأنّ الفنانين التجريديين عادةً ما يستخلصون ويجرّدون تعبيرات التجارب في شكل ولون،  أكثر من كونها توليفات مكونة من شكل ولون. ومرّد ذلك الطبيعة الجوهرية للرسم والنحت؛ فهما (الشكل اللّون) وسيطان للتعبير، مثل الشاشة أو المسرح لخيال الفنان. كما هو الحال في المسرح أو السينما، فإنّ جمهور اللوحة أو المنحوتة يعلّق معتقداته من أجل أن يتقبل المشهد. من المفيد التفكير في اللوحة التشخيصية التقليدية أو النحت على أنها حقيقة افتراضية. إذْ استخدم الفنانون لقرون عديدة الحيل البصرية -مثل المنظور الخطي، والتقصير المسبق، والتظليل- لمحاكاة الطريقة التي ندرك بها الأشياء في الفضاء الحقيقي. إنّ المشاهد تُنشأ في فضاء افتراضي – سواء كانت القاعدة التي تدعم التمثال أو القماش – ليراها المشاهدون بوصفها خدعة بصرية. «القديس بطرس شفاء أحد الأشخاص وبعث تابيثا من الموت» ماسولينو دي بانيكال. اعتمد الرسم الغربي قبل القرن العشرين على الحيل البصرية لخلق واقع افتراضي. إحدى هذه الحيل هي المنظور الخطي، وهذه اللوحة هي أول مثال لاستخدام نقطة تلاشٍ متسقة.«القديس بطرس شفاء أحد الأشخاص وبعث تابيثا من الموت» ماسولينو دي بانيكال. اعتمد الرسم الغربي قبل القرن العشرين على الحيل البصرية لخلق واقع افتراضي. إحدى هذه الحيل هي المنظور الخطي، وهذه اللوحة هي أول مثال لاستخدام نقطة تلاشٍ متسقة. يستمتع مشاهدوّ الأعمال الفنية العظيمة معنى ما يُرسم، ويقدرون الطريقة التي يتجلّى فيها الوهم عبر تمازج اللون والشكل. يبقى الفن التجريدي، إلى حدٍ ما، ضمن إطار التجربة الجمالية. فقد سعت حركات الفن الحديث التي أدت إلى التجريد -أيّ «مدارس الفن»، مثل الانطباعية والفاوفية والتكعيبية- إلى تمثيل العالم بشكل مختلف عن كل الفنون التي سبقتها. إذْ ادعوا الاقتراب من الحقيقة الذاتية عبر تهميش جميع الحيل الوهمية التقليدية التي حاولت إعادة إنتاج الواقع بحذافيره كحقيقة موضوعية. «الأحمر والأصفر والأزرق» (1925) واسيلي كاندينسكي.  كان كاندينسكي يعدّ لفترةٍ طويلة أب الرسم التجريدي الغربي.«الأحمر والأصفر والأزرق» (1925) واسيلي كاندينسكي.  كان كاندينسكي يعدّ لفترةٍ طويلة أب الرسم التجريدي الغربي. بالنسبة إلى هذه المدارس، أصبح الفن أقل من أن يوصف بأنّه واقع افتراضي، لكنه مع ذلك احتفظ بالافتراضية، وأصبح افتراضيًا. لقد أخذ الفن التجريدي مسار التطور هذا إلى أقصاه: من الواقع الافتراضي إلى الافتراضية. ماذا تعني «الافتراضية» هنا؟ إنّها الوجود كجوهر وتأثير، ولكن بدون اللجوء إلى الواقع. اللوحة التجريدية التي رسمها كاندينسكي، على سبيل المثال، ما زالت تُعدّ علاقة متبادلة بين الشكل واللون، و تعتمد على الرسم كمستوى تخطيطي: إنها نافذة تطلّ على «الواقع» الفردي الذي تصوّره كاندينسكي. وما تزال العناصر في لوحات كاندينسكي تحظى بعلاقة متبادلة، كما هو الحال في فضاء الواقع الافتراضي للوحة التشخيصية؛ فجوهر الرسم سليم إذ إنّ ذلك الفضاء الافتراضي ما زال موجودًا. عندما يكون الفن التجريدي بناءً خالصًا، ويتخلص من المساحة الافتراضية الملازمة للرسم والنحت، يصبح متميزًا عنهما. وصف دونالد جود الفنان التخفيفي (minimalist) مثل هذه الأعمال الفنية بأنها «أجسام محدّدة» (Specific Objects). إنّه مصطلح غير دقيق، ولكنه يصلح لإظهار أن مثل هذه الأعمال الفنية ليست رسمًا ولا نحتًا، ولكنها فئة أخرى تمامًا. رأى دونالد جود أن أعماله وأعمال العديد من معاصريه تشغل مساحة هجينة، لا هي لوحات ولا هي نحت. عمل دون عنوان لدونالد جود. استخدم جود هذا المصطلح لوصف أعماله الخاصة، ولكنه ينطبق على لوحات كازيمير ماليفيتش وفرانك ستيلا أحادية اللون، والتي تجعل اللوحة تندمج مع نفسها بالكامل، من أجل الوصول للتأثير الذي يأمل العمل في تحقيقه. في مثل هذه الأعمال، لم يعد قماش اللّوحة (أو القاعدة) سطحًا تتفاعل فيه الأشكال والألوان في الفضاء الافتراضي. بدلاً من ذلك، تتفاعل الأشكال والألوان في الفضاء الحقيقي، في فضائنا. تختلف معايير النجاح أو الفشل لهذه الأعمال عن الخصائص التقليدية للرسم والنحت. رأى جود أنّ خصائص الرسم والنحت تقف في طريق ما أراد تحقيقه من خلال اللون والشكل. في رأيه، كان لـ «أجسامه المحددة» تأثيرًا أحدّ من غيرها. الواقع والأشكال الجديدة للإدراك الحسّي الرسم نفسه له ثلاثة أنواع عامة من التجريد؛ أولًا، ثمّة أسلوب تعبيري تُرسم فيه الأشكال بحركاتٍ غير مقيدة؛ ثم هناك التجريد الهندسي حيث يتم هيكلة الأشكال؛ أما النوع الثالث، فهو تجريد مجال اللون حيث يتم عرض مساحات من الألوان بطريقةٍ لا شكل واضح لها. لم تكن هذه «الأنماط» (styles) أنماطًا عرضيةً أو تعتمد على ذوق أو ميل الرسام كوسيلة لتحقيق هدفٍ ما من البحث الفني. وخير مثال على ذلك هو الفنان الذي غالبًا ما ينظر إلى عمله على أنّه ذروة التجريد الهندسي: بيت موندريان. إنّ لوحات بيت موندريان المكونة من شبكات (grids) ذات الخطوط السوداء والأجزاء الملونة على خلفية بيضاء؛ تهدف إلى استحضار «حقيقة أعلى». بالنسبة إلى موندريان، كان الفن في جوهره معارضًا للواقع؛ «لأن الواقع يتعارض مع الروحي». بغض النظر عن هذه اللوحة الأشهر لموندريان، فإنّ جوانب الرسم التي تهم هذا الفنان حقًا لم تكن الجوانب المحددة للموضوع -أيّ ماذا أو ما يتم تصويره في اللوحة مثلًا- بل الجوانب القابلة للفهم عالميًا للشكل والخط واللون. إنّ لوحات موندريان، مثلها مثل لوحات الفنانين الآخرين، هي محاولة لاستخلاص الشكل واللون من أجل الاقتراب من ذلك الجوهر العالمي والروحي للفن. عبّر موندريان عن رغبته في الوصول إلى «أساس» الأشياء من خلال الحدس، كالعديد من الفنانين التجريديين الآخرين في النصف الأول من القرن العشرين الذين رغبوا في الوصول إلى قوى غير مرئية حولنا، ولكنها معروفة أو محدوسة. «التكوين الثاني باللون الأحمر والأزرق والأصفر» (1930) - بيت موندريان«التكوين الثاني باللون الأحمر والأزرق والأصفر» (1930) – بيت موندريان في أواخر القرن التاسع عشر، لاحظ العلماء بشكلٍ أفضل مما سبق القوى غير المرئية مع انتشار التقنيات الجديدة، وأصبح من الواضح أن العالم أرحب مما يبدو للعين. في الوقت نفسه، ظهرت حركات روحية بديلة جمعت بين الأفكار الأفلاطونية والتصوف. كان كلينت وموندريان من بين العديد من الفنانين الذين انغمسوا في أشكال الروحانية خارج العوالم التقليدية للدين. اعتقدت كلينت أن لوحاتها هي وحي عالم روحي، وأن مهمتها كانت العمل «على مستوى روحاني» لتمثيل روح الإنسان، بدلًا من صورته الفانية. بحلول عشرينيات القرن الماضي، كانت نظرية فرويد عن للعقل البشري قد تغلغلت أيضًا في عالم الفن.  كذلك السريالية، وهي حركة منظمة بإحكام بدأت مع بعض الفنانين الذين سعوا إلى التنقيب عن الإمكانات الإبداعية للعقل الباطن، وهي الحركة الثقافية التي كانت سائدة في أوروبا بين الحربين العالميتين. لم تكن السريالية دوغمائية في محاولتها لاستكشاف اللاوعي، ولذلك ظهر عدد من الأساليب والطرق لمحاولة إخراج اللاوعي إلى السطح. إحدى هذه الأساليب كان الرسم الآلي (Automatism)، وهي عملية يتخلى فيها الفنان عن السيطرة الواعية لليد التي ترسم  أو تصور. في هذا المجال، تبنى الفنانون مثل أندريه ماسون وخوان ميرو الفرصة لبناء صورهم باستخدام حركات حرّة، وحتى إلقاء الطلاء على القماش. طور أرشيل غوركي -هو مهاجر أرمني عاش في الولايات المتحدة- أسلوبًا في الرسم يدمج بين الرسم الآلي وتجريد مجال الألوان. لوحاته في الأربعينيات حجمُها ضخم – ومرد ذلك تأثره بأعماله السابقة كفنان جداري مُعيّن من الدولة خلال السنوات الأخيرة من الكساد الكبير – لكنها معبّرة وغنائية في الرسم بالفرشاة. ألهم إدماج غوركي للأنماط جيلًا واسعًا من الفنانين الأمريكيين في فترة ما بعد الحرب لاحتضان التجريد الواسع النطاق. ما نسميه الآن «التعبيرية التجريدية»، وكان ذاك الجيل في الواقع مجموعة فضفاضة من الفنانين الذين يستخدمون أنماطًا متعدّدة من أنماط التجريد. ربما كان القاسم المشترك بين هؤلاء الفنانين – على الأقل في السنوات الأولى – هو دعم جيل جديد من النقاد بقيادة كليمنت غرينبيرغ، الذي كان يعتقد أن التجريد هو التعبير الأسمى للفن الغربي. «الكبد هو مشط الديك» (1944) - أرشيل جوركي.«الكبد هو مشط الديك» (1944) – أرشيل جوركي. الحداثة ومصير الفنّ الغربي كان يُعتقد في بعض الأوساط الفكرية المؤثرة أنّ الفن يتقدم نحو هدف؛ وهذا المضمون يشتمل عليه مصطلح «الطليعية» (Avant-garde)، الذي يُوصف به الفنّانون الذين يبتكرون أرضية جمالية جديدة. أصل المصطلح فرنسي يُطلق على الجنود الذين يتقدمون إلى مناطق جديدة. بالنسبة إلى غرينبيرغ، لم يكن هؤلاء الفنّانون يوسّعون حدود إمكانات الفن؛ بل كانوا يتقدمون نحو الهدف الحقيقي والمفرد لكل شكل فني. يُعدّ غرينبيرغ شخصية مهمة في تاريخ الفن التجريدي، وذلك لأمرين: بوصفه مناصرًا رائدًا في مسألة تفوق الفن التجريدي على غيره من أنواع الرسم، وتأكيده للقوة التي امتلكها هذا الفن. كان ناقدًا في اللجنة الأمريكية للحريّة الثقافية التي تمولها الدولة، وهي مجموعة تم إنشاؤها لتعزيز الفن الأمريكي على المستوى الدولي. أصبحت أفكار غرينبيرغ مؤثرة عندما كانت الولايات المتحدة جزءًا من الحرب على الفاشية والنازية، وخلال الحرب الباردة اللاحقة ضد الشيوعية السوفيتية. كانت معايير الفن الفاشي والسوفياتي واضحة، وهي ما تحددها السلطات الثقافية أنها كذلك، بيد أنّه ما لم يكن واضحًا هو معايير الفن «الجيد» وتحديدًا في الغرب الديمقراطي. كان الماركسيون هم من تعاطف مع غرينبيرغ في البداية، لكن ارتبط تفكيره بشكلٍ متزايد بالهيمنة الثقافية الأمريكية. بالنسبة إليه، كان التجريد في أعمال بولوك فنًا مثاليًا لمجتمع ديمقراطي. تتجلى الحداثة في الفن، وفقًا لغرينبيرغ، في إطار التنوير الأوروبي؛ أيّ في فترة ازدهار الأفكار الفلسفية والعلمية التي أعطت الأولوية للعقل. في مقالته المؤثرة « الرسم الحداثي» (1961)، وصفَ غرينبيرغ إيمانويل كانط – الفيلسوف الألماني في عصر التنوير – بأنّه «أول حداثي حقيقي». كان أسلوب كانط في «النقد» هو استخدام العقل لنقد العقل بغرض توضيحه، ومنحه استقلالية عن أنواع التفكير الأخرى. «أولمبيا» - إدوارد مانيه (1863). بالنسبة إلى كليمنت غرينبيرغ، كان مانيه أول رسام حداثي. لقد رسم مانيه لوحاته بأسلوبٍ مسطّح بشكلٍ متعمد.«أولمبيا» – إدوارد مانيه (1863). بالنسبة إلى كليمنت غرينبيرغ، كان مانيه أول رسام حداثي. لقد رسم مانيه لوحاته بأسلوبٍ مسطّح بشكلٍ متعمد. بالطريقة نفسها، كان الرسامون الحداثيون – من إدوارد مانيه في القرن التاسع عشر إلى موريس لويس، وهو رسام يعمل ينتمي إلى رسامي أسلوب مجال ألوان في الولايات المتحدة في الوقت الذي كتب فيه غرينبيرغ مقالته – يعملون على ترسيخ الفن التعبيري «بشكل صارم في مجال تخصصه». رأى غرينبيرغ أن وضوح الفن التجريدي -الذي كان صادقًا بالنسبة إلى الوسيط الذي يُعبّر من خلاله- معارضٌ لـ«الفن الشعبي المبتذل [الكيتش]» الذي ينُتج على نطاق واسع في الثقافة الشعبية. إن إزالة «الكيتش» كانت مسألة استجلاء وتوضيح تحتاجها جميع الفنون لكي تصبح تعبيرًا عن إمكاناتها الجمالية الكامنة. اللوحات مسطّحة، وإيهام العمق الذي نجده في معظم الفن الغربي كان انحرافًا عن جوهر فن الرسم ذاته. كانت استقلالية الشكل الفني في جميع خصائصه دون أن تتلوث بأشكال فنية أخرى. وفقًا لغرينبيرغ، يعدّ الشكل واللون من أهم خصائص الرسم، و أفضل تمثيل لها يكون بشكلٍ مسطّح. وهكذا دافع غرينبيرغ عن «التسطيح» الذي تجلّى في لوحات الفنانين الأمريكيين التجريدية مثل جاكسون بولوك باعتباره تحقيقًا لهذا الوضوح الحداثي. لقد ضم هؤلاء الفنانين معًا ضمن فريق واحد، وهم يمثّلون المرحلة التالية في الحداثة، وقد حلّت رؤيتهم الأمريكية المميزة محلّ الفن الأوروبي الطليعي. وفي الوقت الذي أصبح فيه الفن التجريدي الأمريكي مهيمنًا، تراجعت هيمنة غرينبيرغ النقدية، وظهرت أشكال جديدة من الفن الطليعي، مستوحاة مباشرة من الثقافة الجماهيرية، وحلّت محلّ التعبيرية التجريدية في المخيال العام. تبنى فنانوّ «البوب» مثل: آندي وارهول، وريتشارد هاميلتون هذا النوع من «الفن الشعبي المبتذل» الذي رآه غرينبيرغ تلويثًا للفن الحقيقي. استمرت الأعمال الفنية التجريدية، ولكن تخلّى الفنّانون التجريديون الأكثر جرأة عن الفكرة الصارمة «للنقد الحداثي»، وعن الوضوح المتعلق بخصوصية الوسيط الفني، وذلك لصالح أشكال أخرى من التعبير. نظر فنانوّ «ما بعد الحداثة» إلى السخرية وعملية الرسم نفسها، كطرق لتجاوز الطريق المسدود للحداثة. تبنى الألماني غيرهارد ريختر كلا النهجين؛ فبعض أعماله التجريدية في الستينيات كانت مصنوعة بممسحاتٍ بدلًا من الفرشاة، حتى يتمكن من لفت الانتباه إلى عملية صنع اللوحة نفسها. كانت «اللوحات التجريدية» البارزة الأخرى التي رسمها ريختر في الواقع صورًا واقعية مرسومة بعناية تعكس لوحاته التجريدية الأخرى. أصبحت طلائعية الرسم التجريدي مفهومية أكثر، ما جعل ضمنيًّا قضية الرسم تحظى باستقلالية أقل مما كان كان يعتقد النقاد الحداثيون. قلّد فنانوّ «نيو جيو»، مثل: الرسام بيتر هالي، والنحات أشلي بيكرتون اللغة البصرية للتجريد الهندسي، لكنهما دمجاها مع السلع الاستهلاكية بألوانٍ تجارية فاتحة وأحيانًا فلورية. منذ ذلك الجيل ما بعد الحداثي من الرسامين والنحاتين الممتد من الستينيات إلى التسعينيات، ازدهر التجريد متفرّعًا إلى عددٍ لا يُحصى من الأساليب والمقاربات بجوار الفن التشخيصي. هنا يمكن القول إنّ التجريد المتحرّر من عبء التوقعات الحداثية هو ببساطة نهج للتعبير مثل أيّ نهج آخر. وتجدر الإشارة إلى أنّ بعض الفنانين التجريديين استخدموا الحيل البصرية المستعملة في الفن التشخيصي – مثل المنظور والتظليل – في لوحاتهم. ولاستخدامهم هذا أهداف فريدة و غالبًا لا تهتم بالنظرية. قلّد فنانوّ «ما بعد الحداثة» مثل: بيتر هالي اللغة البصرية المستعملة في الفن التجريدي الحديث (في حالة بيتر، التجريد الهندسي)، للتعليق على طبيعة الفن والمعنى نفسه. تمثّل هذه الكتل الملونة «الخلايا» و«الأنابيب».قلّد فنانوّ «ما بعد الحداثة» مثل: بيتر هالي اللغة البصرية المستعملة في الفن التجريدي الحديث (في حالة بيتر، التجريد الهندسي)، للتعليق على طبيعة الفن والمعنى نفسه. تمثّل هذه الكتل الملونة «الخلايا» و«الأنابيب». هذا هو التحرّر نحو الأفضل بين الرسامين التجريديين الذين يمكنهم الالتزام برؤيةٍ فريدة بالرسم على القماش. لكن فكّ ارتباط الفن التجريدي عن إطاره الفلسفي الأوسع أدى أيضًا إلى انتشارٍ يثير التساؤل لأعمال تجريدية متنوعة قابلة للاستهلاك – بمعنى أنّها فقدت قيمتها، وباتت تُباع وتُشترى سريعًا بأسعارٍ مربحة – يشتريها المشترون المتضاربون. دفع هذا التحول الناقد جيري سالتز إلى كتابة: « الزومبي على الجدران: لماذا يبدو الكثير من التجريد الجديد متشابهًا؟». وقد شبه اللّوحات التجريدية بصورة «الزومبي»، تحقيرًا لأعمال عددٍ من الرسامين التجريديين البارزين، الذين استخدموا الفنّ وجماليته لتقديم أعمال مبتذلة. ومن المفارقات أن هؤلاء الفنانين نظروا إلى الشكلانية بوصفها فنًّا حداثيًّا متبنّين منظور غرينبيرغ، لكنهم بالطبع قدّموا أعمالًا في ظلّ فراغ تاريخي وبعد فترةٍ طويلة حين لم يُصبح التجريد مثيرًا للاهتمام أو راديكاليًا بأي وجه من الوجوه. في الواقع، لم يصل مشروع الحداثة  في الفن التجريدي إلى نهايته، بل النقد. إنّ النقد -أيّ الإطار الفلسفي الواسع الذي يصادق على الأعمال الفنية ويثمّنها لأهميتها الثقافية والتاريخية- هو ما فقد التوجه والسلطة. كان مسار الفن الغربي منذ عصر التنوير يتأرجح بين قطبي الدوغمائية النقدية والإبداع. تكمن المشكلة أنه في العقود الأخيرة، وفي ظلّ غياب أي مشروع نقدي متماسك، انجرف الفن نحو إرضاء اهتمامات دقيقة ومتنوعة تزداد باستمرار. في حين كانت هناك «حركات» و«مدارس» فنية -مصطلحان يشيران إلى الوجهة والانضباط- لم يعد لدينا الآن سوى «مشاهد». هذا ليس بالضرورة أمرًا سيئًا. ولكن في عالم حيث «كل شيء مقبول – anything goes»، لا يوجد مجال لهذا النوع من الابتكار والتجاوز الذي أدى إلى ظهور الفن التجريدي في الغرب، وهذا ما جعل الفن الحديث فنًّا مثيرًا للغاية. من الصعب في هذه اللحظة التاريخية أن ندرك ما الذي جعل لوحة بولوك «رقم 32» مثيرة للانقسام، ومخلخلةً جدًا للمعايير، وفي الوقت نفسه محتفظةً بقيمةٍ عالية جدًا لأولئك الذين يعتقدون أن للفنِّ مكانًا في المجتمع يتجاوز المتعة. [divider style=”solid” top=”20″ bottom=”20″] [1] واللقب كذلك يُلمح إلى القاتل المتسلسل في لندن آخر القرن التاسع عشر: جاك السفّاح Jack the ripper (مدير التحرير). ### خارج عقلك | توم تشاتفيلد – ت: محمد السعيد                  عندما يكون هاتفي النقال بين يديّ، هل أكون أنا الشخص نفسه لو كان الهاتف في غرفة أخرى؟ من ناحية،... ### الدراما في التعليم: مقاربات وتطبيقات | نعيم حيماد افتتاحيّة حظي استخدام الدراما في التعليمفي السنوات الأخيرة باهتمام كبير من قبل نخبة من المنظرين والممارسين للدراما في مجال التعليم.... ### الحقائق المخفية | دي بي سي بيير – ت: محمد السعيد       يحمل جبل كلسي خشن في غرب إيران عددًا من النقوش البارزة، من بينها لوحة طولها خمسة وعشرين مترًا منقوشة... ### التغلُّب على كاشف الكذب | كلاريسا سيباغ-مونتِنفيوري – ت: محمد السعيد          حين  اتُّهِمَتْ مربية الأطفال البريطانية لويز وودورد بهزِّ رضيع حتى الموت في مدينة نيوتن بولاية ماساتشوستس، لم تكتفِ بإعلان... ### عن منصة معنى «معنى»، مؤسسة ثقافية تقدّمية ودار نشر تهتم بالفلسفة والمعرفة والفنون، عبر مجموعة متنوعة من المواد المقروءة والمسموعة والمرئية. انطلقت في 20 مارس 2019، بهدف إثراء المحتوى العربي، ورفع ذائقة ووعي المتلقّي المحلي والدولي، عبر الإنتاج الأصيل للمنصة والترجمة ونقل المعارف. ### روابط سريعة ### التصنيفات ### مرحبا بك! قم بتسجيل الدخول إلى حسابك تذكرني ### قم بإنشاء حساب جديد! املأ النموذج أدناه للتسجيل ### طلب إعادة تعيين كلمة المرور يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان البريد الإلكتروني لإعادة تعيين كلمة المرور الخاصة بك. ### Add New Playlist - Select Visibility -PublicPrivate No Result عرض جميع النتائج - 00:00 00:00 - 00:00 00:00
article
Arabic
ar
الفنّ التجريدي: بين الماضي والحاضر - منصة معنى الثقافية
https://mana.net/abstract-art/
1,828
ربما يكون من الأفضل أن يطلق على الفن التجريدي: فن ما تم تجريده (abstracted art)؛ لأنّ الفنانين التجريديين عادةً ما يستخلصون ويجرّدون تعبيرات التجارب في شكل ولون،  أكثر من كونها توليفات مكونة من شكل ولون.
sentence
ربما يكون من الأفضل أن يطلق على الفن التجريدي: فن ما تم تجريده (abstracted art)؛ لأنّ الفنانين التجريديين عادةً ما يستخلصون ويجرّدون تعبيرات التجارب في شكل ولون،  أكثر من كونها توليفات مكونة من شكل ولون. ومرّد ذلك الطبيعة الجوهرية للرسم والنحت؛ فهما (الشكل اللّون) وسيطان للتعبير، مثل الشاشة أو المسرح لخيال الفنان. كما هو الحال في المسرح أو السينما، فإنّ جمهور اللوحة أو المنحوتة يعلّق معتقداته من أجل أن يتقبل المشهد.
paragraph
Arabic
ar
الفنّ التجريدي: بين الماضي والحاضر - منصة معنى الثقافية
https://mana.net/abstract-art/
1,829
ومرّد ذلك الطبيعة الجوهرية للرسم والنحت؛ فهما (الشكل اللّون) وسيطان للتعبير، مثل الشاشة أو المسرح لخيال الفنان.
sentence
ربما يكون من الأفضل أن يطلق على الفن التجريدي: فن ما تم تجريده (abstracted art)؛ لأنّ الفنانين التجريديين عادةً ما يستخلصون ويجرّدون تعبيرات التجارب في شكل ولون،  أكثر من كونها توليفات مكونة من شكل ولون. ومرّد ذلك الطبيعة الجوهرية للرسم والنحت؛ فهما (الشكل اللّون) وسيطان للتعبير، مثل الشاشة أو المسرح لخيال الفنان. كما هو الحال في المسرح أو السينما، فإنّ جمهور اللوحة أو المنحوتة يعلّق معتقداته من أجل أن يتقبل المشهد.
paragraph
Arabic
ar
الفنّ التجريدي: بين الماضي والحاضر - منصة معنى الثقافية
https://mana.net/abstract-art/
1,830
كما هو الحال في المسرح أو السينما، فإنّ جمهور اللوحة أو المنحوتة يعلّق معتقداته من أجل أن يتقبل المشهد.
sentence
ربما يكون من الأفضل أن يطلق على الفن التجريدي: فن ما تم تجريده (abstracted art)؛ لأنّ الفنانين التجريديين عادةً ما يستخلصون ويجرّدون تعبيرات التجارب في شكل ولون،  أكثر من كونها توليفات مكونة من شكل ولون. ومرّد ذلك الطبيعة الجوهرية للرسم والنحت؛ فهما (الشكل اللّون) وسيطان للتعبير، مثل الشاشة أو المسرح لخيال الفنان. كما هو الحال في المسرح أو السينما، فإنّ جمهور اللوحة أو المنحوتة يعلّق معتقداته من أجل أن يتقبل المشهد.
paragraph
Arabic
ar
الفنّ التجريدي: بين الماضي والحاضر - منصة معنى الثقافية
https://mana.net/abstract-art/
1,831
من المفيد التفكير في اللوحة التشخيصية التقليدية أو النحت على أنها حقيقة افتراضية. إذْ استخدم الفنانون لقرون عديدة الحيل البصرية -مثل المنظور الخطي، والتقصير المسبق، والتظليل- لمحاكاة الطريقة التي ندرك بها الأشياء في الفضاء الحقيقي. إنّ المشاهد تُنشأ في فضاء افتراضي – سواء كانت القاعدة التي تدعم التمثال أو القماش – ليراها المشاهدون بوصفها خدعة بصرية.
paragraph
لا توجد منتجات في سلة المشتريات. No Result عرض جميع النتائج الثلاثاء, سبتمبر 10, 2024 No Result عرض جميع النتائج No Result عرض جميع النتائج # الفنّ التجريدي: بين الماضي والحاضر ## ترجمة: أنطونيوس نادر AA AA إعادة تعيين فنٌ مليء بالتحديات ثمّة خطٌ رفيع يفصل بين الفن التجريدي ومجرد الزخرفة، ولوحة «رقم 32» (نُشرت عام 1950)، لجاكسون بولوك تتأرجح بين هذا الخطّ. فهي لا تشير إلى معنىً واضح، ولكن لا يمكن القول إنّها بلا معنى على الإطلاق. كما أنّها ليست معبّرة بشكلٍ مباشر، ولا يعني هذا أنها لا تعبّر عن مدلولٍ ما. تحمل هذه اللوحة الكثير من المضامين عن الفن الغربي بالنسبة إلى شخصٍ خبيرٍ في تاريخ الفن؛ أما بالنسبة إلى شخصٍ عادي، فقد يراها عملًا مبتذلًا بالكاد يعبّر عن أمرٍ ما. اللوحة شبكة من الخطوط وبقعٍ من الألوان، رُسمت عن طريق صبّ طلاءٍ رخيص بعشوائيةٍ مباشرة على القماش. تتكون اللوحة من طلاءٍ أسود فقط وقماشٍ خام. واللوحة ضخمة؛ إذ يبلغ طولها تسعة أقدام وعرضها خمسة عشر قدمًا، وتغطي مجال رؤية المشاهد أثناء اقترابه منها. تقليديًّا، حتى اللوحات التجريدية تتكون من أجزاءٍ مترابطة مع بؤر تركيز (emphases) وعمقٍ يُنقل من خلال اللون والظلال، ولكن «رقم 32» ليس لها أجزاء؛ إنّها تتكون من تعالقات، والبؤرة فيها تكمن عبر امتداد سطح القماش المستطيل. يمنحها ما سبق عمقًا سطحيًا، وربما لا عمق فيها: مجرّد طلاء على قماش. إنّها عبث بالشكل واللون. حتى اسمها، ببساطة رقمٌ معيّن – رقم 32 – يجعلها تنأى بنفسها عن أي فكرة مفادها أنها تعكس مدلولًا محدّدًا. تشير عناوين أعمال بولوك الأخرى إلى نوعٍ من الاختبار الشخصي، وإلى الاستخدام السمفوني المتعدد الطبقات للون والملمس؛ خذ مثلًا لوحاته التي تحمل اسم: «إيقاع الخريف»، و«الضباب الأرجواني»، و«الأقطاب الزرقاء»، و«انعكاس الدنقلة الكبير». هذا لا ينطبق على لوحة «رقم 32»؛ شكلها الخام وبساطتها دليل على أنّ الفنان لم يخطط مسبقًا لرسمها؛ أيّ أنّه لم ينتق الألوان ولا الطبقات. يبدو بولوك هنا أكثر حضورًا، من خلال لمساته الحادة. بالنسبة إلى مؤيديّ عمل بولوك، تختصر هذه اللوحة خلاصة نظرة الفنان الجمالية. أما بالنسبة للبعض الآخر، فهي لوحة مبتذلة. وصف جوزيف بويس -النحات الألماني في فترة ما بعد الحرب- الفنَّ التجريدي الأمريكي بأنه مجرد «تغليف»، أيّ سطح بلا محتوى. في هذا الصدد، قد يتفق البعض أن لوحة «رقم 32» تجسد فراغ الفكر والشعور ذاك. فقد رأى الروائي والناقد الفني روبرت كوتس أن فن بولوك لم يكن سوى «انفجارات» غير منظمة من الطاقة العشوائية. غير أنّ طائفة كبيرة من متذوقي الفن التجريدي لا تروق إليهم أعمال بولوك ويرونها فنًّا محيرًا، حتى إنّ بعضهم يراها إهانةً للذوق أو الحسّ السليم. عُرف بولوك بلقب: «جاك فنان النقط» (Jack the Dripper) [1] في الأوساط الإعلامية المشككة بعمله حيث ادعى كثر أن أيّ شخص يمكنه أن يرسم كما يرسم بولوك إلّا أنّ أحدًا لم يتجرأ على فعل ذلك. «رقم 32» - جاكسون بولوك«رقم 32» – جاكسون بولوك بيد أنّ هذا هو مغزى الفن التجريدي في التقليد الغربي: إنّه تحدّ. وفي ظل الكثير هذه التحديات، تُعد لوحة « رقم 32» اللوحة الأكثر تمثيلًا لهذا الفن. قصة الفنّ التجريدي مسار قصة الفن التجريدي مضمّنة في الدراسات التاريخية الفنية، إلّا أنّ المحطات الرئيسة لهذا المسار كانت محط تغييرات مفاجئة كلما اكتشف مؤرخوّ الفن حقائق جديدة. انطلق مسار الفن التجريدي بدءًا من القرن التاسع عشر وما تلاه؛ حيث استفاد الفنانون من مادة الطلاء والجوانب الشكلية للرسم مثل اللون والدرجة والخطوط. يُعرف هذا الانشغال بالجوانب غير التمثيلية (non-representative) للفن باسم «الشكلانية»، لأنّه انشغال «بالشكل»، أيّ بتوسل شكل المحتوى بدلًا من المحتوى في ذاته. بالنسبة إلى الفنانين في القرن التاسع عشر، صُنّف الفن التجريدي على أنّه «فنٌّ من أجل الفنّ»، وكانت الفكرة الشائعة مفادها أنّ المتذوق للفن يمكنه الاستمتاع بالعمل دون اللجوء إلى معنى أو حتى أي شيء آخر يمثل أمرًا ما. تمثّل لوحة «الموسيقى الهادئة باللّونين الأسود والذهبي – الصاروخ الساقط» (1872)، للفنان جيمس مكنيل ويسلر هذا الاتجاه الذي تبلور لاحقًا في الفن التجريدي.  إنّ مشهد ويسلر الغامض من الناحية المكانيّة يقترب إلى التجريد، وذلك بمحاولته نقل الشعور أو الانطباع الخاص بالمشهد بدلًا من إعادة إنتاجه بحذافيره. «الموسيقى الهادئة باللونين الأسود والذهبي - الصاروخ الساقط» (1872-1877) - جيمس أبوت مكنيل ويسلير«الموسيقى الهادئة باللونين الأسود والذهبي – الصاروخ الساقط» (1872-1877) – جيمس أبوت مكنيل ويسلير في عام 1877، انتقد جون روسكين – أبرز نقّاد بريطانيا في ذلك الوقت – عمل ويسلير هذا نقدًا لاذعًا فشبهه «بمن قام برمي الطلاء في وجه الجمهور». تأثر ويسلر بهذا الكلام، فرفع دعوى قضائية ضد روسكين، بيد أنّه خسرها لأن المسؤولين عرضوا اللوحة -خطأً- مقلوبةً على المحكمة. أفلس ويسلير بسبب هذه القضية، لكن مسيرة تطور الفن التجريدي استمرت. من ناحيةٍ أخرى، تحديد أول فنان تجريدي في العالم موضوع نزاع. في نظر أبحاث تاريخ الفن التقليدية، كان فاسيلي كاندينسكي – فنان روسي الجنسية رسم لوحات تجريدية بالكامل في مطلع عام 1911- هو أول فنان تجريدي. لم ينل الفن التجريدي الرائد لهيلما أف كلينت تقديرًا إلا قبل سنوات قريبة. هذه صورة للمعرض الشهير في  متحف غاغينهايم، عام 2018 .لم ينل الفن التجريدي الرائد لهيلما أف كلينت تقديرًا إلا قبل سنوات قريبة. هذه صورة للمعرض الشهير في  متحف غاغينهايم، عام 2018 . ولكن في الآونة الأخيرة، وبفضل المعرض الرائد في متحف مقاطعة لوس أنجلوس للفنون في عام 1986 الذي حمل اسم «الروحانية في الفن: الرسم التجريدي 1890 – 1985»، وقع الاختيار على هيلما أف كلينت كأول رسامة تجريدية. بدأت كلينت في رسم لوحات تجريدية بدءًا من عام 1906، وحملت مجموعتها عنوان «الفوضى البدائية». كانت الفنانة متكتمة في ما يتعلق بأعمالها التجريدية، ولم تُعرض أيّ منها في معارض عامة، وبقيت غير معروفة حتى أزيح عنها الستار مؤخرًا. ولعل الجدال حول هوية أول من مارس الفن التجريدي سيستم، لكن الحقيقة الأكثر أهمية هي أن العديد من الفنانين الأوروبيين البارزين قد توصّلوا في أعمالهم إلى التجريد بحلول الحرب العالمية الأولى. لقد وجد كل منهم طريقته الخاصة في التخلي عن الفن التشخيصي (figurative painting). وجديرٌ بالذكر أنّه لم تكن هناك حركة «تجريدية» دولية ذات رؤية أو بيان مشترك. في ضوء ذلك، فإن السؤال الملحّ حقًا هو: لمَ لمْ يتبنى الفنانون الغربيون الفن التجريدي على امتداد قرون عديدة؟ لماذا كان التجريد غير ضروري أو لا معنى له أو غير مناسب أو حتى لا يمكن تقبّله لقرونٍ متوالية في الفن الغربي؟ ظهرت العديد من التفسيرات لشرح ذلك. إحدى النظريات الأكثر وضوحًا هي أن ظهور التصوير الفوتوغرافي بوصفه شكلًا من أشكال الفن، إضافةً إلى تطور الفن الحديث، سببان رئيسان لإزاحة الرسم التشخيصي. ثمّة إجابات أخرى غير ملموسة لاستكشاف الأسباب: ربما عندما أصبحت الأعمال الفنية قابلة للاستهالاك بشكل متزايد، مثل السلع، بات من السهولة فصل اللوحات والمنحوتات عن التجارب المحددة لمبدعيها. ربما أدت الحداثة في الغرب إلى إفراغ الفن من المحتوى التشخيصي؛ مما دفع الفنانين أيضًا إلى التخلي عن التمثيل التشخيصي. كل من هذه الإجابات معقدة وتتطلب الكثير من الشرح، ولا يمكن إلا أن تكون تخمينات. لا توجد إجابة واضحة لهذه المسألة. ربما يكون من الأفضل طرح السؤال حول سبب تقبّل الفن التجريدي فنًّا من الفنون الرسمية في تاريخ الفن الغربي في مرحلة معينة على علماء الأنثروبولوجيا بدلًا من طرحها على مؤرخي الفن. فما هو واضح أن الفن التجريدي كان موجودًا دائمًا في مناطق أخرى من العالم. ما جعل الفن التجريدي فنًّا حديثًا على وجه التحديد في العالم الغربي هو نظام المعارض، الذي أعطى القيمة الفنية للأعمال المعروضة. وكما هو واضح فقد ازدهر التجريد لآلاف السنين المناطق الشرقية والجنوبية من العالم، دون عناء التحقق من مكانة الأعمال المعروضة في الصالونات [والمعارض، كما هو في العالم الغربي]. الواقع الافتراضي و«الافتراضية» يتبنى بيبي كرمل وهو مؤرخ فني، في كتابه « الفن التجريدي: تاريخ عالمي»، فكرة أنّ الفن التجريدي كان دائمًا موجودًا بشكل طبيعي عندما ننظر إليه نظرة شاملة وعالمية، بيد أنّه يتحاشى طرح نظرية عن تطور الفن التجريدي. بالنسبة إلى كرمل، فإنّ هذا الفنّ متجذر في العالم الحقيقي، وهو ليس فنًّا «مجردًا» على الإطلاق، كما أنّه تقليد عالمي وليس محليًا. في دراسته حول الفن التجريدي يقسم العمل الفني إلى خمس فئات واسعة تنتمي إلى العالم الحقيقي: الأجسام، والمناظر الطبيعية، والكون، والبنى، والعلامات والأنماط. من خلال فحص الفن التجريدي بهذه الطريقة، يرى كرمل في اللوحات التجريدية موضوعات قابلة للتحليل، بعكس النقاد والمؤرخين الأرثوذكسيين الذين رأوا فيها مجرّد توليفات شكلية مكوّنة من لون وشكل. ربما يكون من الأفضل أن يطلق على الفن التجريدي: فن ما تم تجريده (abstracted art)؛ لأنّ الفنانين التجريديين عادةً ما يستخلصون ويجرّدون تعبيرات التجارب في شكل ولون،  أكثر من كونها توليفات مكونة من شكل ولون. ومرّد ذلك الطبيعة الجوهرية للرسم والنحت؛ فهما (الشكل اللّون) وسيطان للتعبير، مثل الشاشة أو المسرح لخيال الفنان. كما هو الحال في المسرح أو السينما، فإنّ جمهور اللوحة أو المنحوتة يعلّق معتقداته من أجل أن يتقبل المشهد. من المفيد التفكير في اللوحة التشخيصية التقليدية أو النحت على أنها حقيقة افتراضية. إذْ استخدم الفنانون لقرون عديدة الحيل البصرية -مثل المنظور الخطي، والتقصير المسبق، والتظليل- لمحاكاة الطريقة التي ندرك بها الأشياء في الفضاء الحقيقي. إنّ المشاهد تُنشأ في فضاء افتراضي – سواء كانت القاعدة التي تدعم التمثال أو القماش – ليراها المشاهدون بوصفها خدعة بصرية. «القديس بطرس شفاء أحد الأشخاص وبعث تابيثا من الموت» ماسولينو دي بانيكال. اعتمد الرسم الغربي قبل القرن العشرين على الحيل البصرية لخلق واقع افتراضي. إحدى هذه الحيل هي المنظور الخطي، وهذه اللوحة هي أول مثال لاستخدام نقطة تلاشٍ متسقة.«القديس بطرس شفاء أحد الأشخاص وبعث تابيثا من الموت» ماسولينو دي بانيكال. اعتمد الرسم الغربي قبل القرن العشرين على الحيل البصرية لخلق واقع افتراضي. إحدى هذه الحيل هي المنظور الخطي، وهذه اللوحة هي أول مثال لاستخدام نقطة تلاشٍ متسقة. يستمتع مشاهدوّ الأعمال الفنية العظيمة معنى ما يُرسم، ويقدرون الطريقة التي يتجلّى فيها الوهم عبر تمازج اللون والشكل. يبقى الفن التجريدي، إلى حدٍ ما، ضمن إطار التجربة الجمالية. فقد سعت حركات الفن الحديث التي أدت إلى التجريد -أيّ «مدارس الفن»، مثل الانطباعية والفاوفية والتكعيبية- إلى تمثيل العالم بشكل مختلف عن كل الفنون التي سبقتها. إذْ ادعوا الاقتراب من الحقيقة الذاتية عبر تهميش جميع الحيل الوهمية التقليدية التي حاولت إعادة إنتاج الواقع بحذافيره كحقيقة موضوعية. «الأحمر والأصفر والأزرق» (1925) واسيلي كاندينسكي.  كان كاندينسكي يعدّ لفترةٍ طويلة أب الرسم التجريدي الغربي.«الأحمر والأصفر والأزرق» (1925) واسيلي كاندينسكي.  كان كاندينسكي يعدّ لفترةٍ طويلة أب الرسم التجريدي الغربي. بالنسبة إلى هذه المدارس، أصبح الفن أقل من أن يوصف بأنّه واقع افتراضي، لكنه مع ذلك احتفظ بالافتراضية، وأصبح افتراضيًا. لقد أخذ الفن التجريدي مسار التطور هذا إلى أقصاه: من الواقع الافتراضي إلى الافتراضية. ماذا تعني «الافتراضية» هنا؟ إنّها الوجود كجوهر وتأثير، ولكن بدون اللجوء إلى الواقع. اللوحة التجريدية التي رسمها كاندينسكي، على سبيل المثال، ما زالت تُعدّ علاقة متبادلة بين الشكل واللون، و تعتمد على الرسم كمستوى تخطيطي: إنها نافذة تطلّ على «الواقع» الفردي الذي تصوّره كاندينسكي. وما تزال العناصر في لوحات كاندينسكي تحظى بعلاقة متبادلة، كما هو الحال في فضاء الواقع الافتراضي للوحة التشخيصية؛ فجوهر الرسم سليم إذ إنّ ذلك الفضاء الافتراضي ما زال موجودًا. عندما يكون الفن التجريدي بناءً خالصًا، ويتخلص من المساحة الافتراضية الملازمة للرسم والنحت، يصبح متميزًا عنهما. وصف دونالد جود الفنان التخفيفي (minimalist) مثل هذه الأعمال الفنية بأنها «أجسام محدّدة» (Specific Objects). إنّه مصطلح غير دقيق، ولكنه يصلح لإظهار أن مثل هذه الأعمال الفنية ليست رسمًا ولا نحتًا، ولكنها فئة أخرى تمامًا. رأى دونالد جود أن أعماله وأعمال العديد من معاصريه تشغل مساحة هجينة، لا هي لوحات ولا هي نحت. عمل دون عنوان لدونالد جود. استخدم جود هذا المصطلح لوصف أعماله الخاصة، ولكنه ينطبق على لوحات كازيمير ماليفيتش وفرانك ستيلا أحادية اللون، والتي تجعل اللوحة تندمج مع نفسها بالكامل، من أجل الوصول للتأثير الذي يأمل العمل في تحقيقه. في مثل هذه الأعمال، لم يعد قماش اللّوحة (أو القاعدة) سطحًا تتفاعل فيه الأشكال والألوان في الفضاء الافتراضي. بدلاً من ذلك، تتفاعل الأشكال والألوان في الفضاء الحقيقي، في فضائنا. تختلف معايير النجاح أو الفشل لهذه الأعمال عن الخصائص التقليدية للرسم والنحت. رأى جود أنّ خصائص الرسم والنحت تقف في طريق ما أراد تحقيقه من خلال اللون والشكل. في رأيه، كان لـ «أجسامه المحددة» تأثيرًا أحدّ من غيرها. الواقع والأشكال الجديدة للإدراك الحسّي الرسم نفسه له ثلاثة أنواع عامة من التجريد؛ أولًا، ثمّة أسلوب تعبيري تُرسم فيه الأشكال بحركاتٍ غير مقيدة؛ ثم هناك التجريد الهندسي حيث يتم هيكلة الأشكال؛ أما النوع الثالث، فهو تجريد مجال اللون حيث يتم عرض مساحات من الألوان بطريقةٍ لا شكل واضح لها. لم تكن هذه «الأنماط» (styles) أنماطًا عرضيةً أو تعتمد على ذوق أو ميل الرسام كوسيلة لتحقيق هدفٍ ما من البحث الفني. وخير مثال على ذلك هو الفنان الذي غالبًا ما ينظر إلى عمله على أنّه ذروة التجريد الهندسي: بيت موندريان. إنّ لوحات بيت موندريان المكونة من شبكات (grids) ذات الخطوط السوداء والأجزاء الملونة على خلفية بيضاء؛ تهدف إلى استحضار «حقيقة أعلى». بالنسبة إلى موندريان، كان الفن في جوهره معارضًا للواقع؛ «لأن الواقع يتعارض مع الروحي». بغض النظر عن هذه اللوحة الأشهر لموندريان، فإنّ جوانب الرسم التي تهم هذا الفنان حقًا لم تكن الجوانب المحددة للموضوع -أيّ ماذا أو ما يتم تصويره في اللوحة مثلًا- بل الجوانب القابلة للفهم عالميًا للشكل والخط واللون. إنّ لوحات موندريان، مثلها مثل لوحات الفنانين الآخرين، هي محاولة لاستخلاص الشكل واللون من أجل الاقتراب من ذلك الجوهر العالمي والروحي للفن. عبّر موندريان عن رغبته في الوصول إلى «أساس» الأشياء من خلال الحدس، كالعديد من الفنانين التجريديين الآخرين في النصف الأول من القرن العشرين الذين رغبوا في الوصول إلى قوى غير مرئية حولنا، ولكنها معروفة أو محدوسة. «التكوين الثاني باللون الأحمر والأزرق والأصفر» (1930) - بيت موندريان«التكوين الثاني باللون الأحمر والأزرق والأصفر» (1930) – بيت موندريان في أواخر القرن التاسع عشر، لاحظ العلماء بشكلٍ أفضل مما سبق القوى غير المرئية مع انتشار التقنيات الجديدة، وأصبح من الواضح أن العالم أرحب مما يبدو للعين. في الوقت نفسه، ظهرت حركات روحية بديلة جمعت بين الأفكار الأفلاطونية والتصوف. كان كلينت وموندريان من بين العديد من الفنانين الذين انغمسوا في أشكال الروحانية خارج العوالم التقليدية للدين. اعتقدت كلينت أن لوحاتها هي وحي عالم روحي، وأن مهمتها كانت العمل «على مستوى روحاني» لتمثيل روح الإنسان، بدلًا من صورته الفانية. بحلول عشرينيات القرن الماضي، كانت نظرية فرويد عن للعقل البشري قد تغلغلت أيضًا في عالم الفن.  كذلك السريالية، وهي حركة منظمة بإحكام بدأت مع بعض الفنانين الذين سعوا إلى التنقيب عن الإمكانات الإبداعية للعقل الباطن، وهي الحركة الثقافية التي كانت سائدة في أوروبا بين الحربين العالميتين. لم تكن السريالية دوغمائية في محاولتها لاستكشاف اللاوعي، ولذلك ظهر عدد من الأساليب والطرق لمحاولة إخراج اللاوعي إلى السطح. إحدى هذه الأساليب كان الرسم الآلي (Automatism)، وهي عملية يتخلى فيها الفنان عن السيطرة الواعية لليد التي ترسم  أو تصور. في هذا المجال، تبنى الفنانون مثل أندريه ماسون وخوان ميرو الفرصة لبناء صورهم باستخدام حركات حرّة، وحتى إلقاء الطلاء على القماش. طور أرشيل غوركي -هو مهاجر أرمني عاش في الولايات المتحدة- أسلوبًا في الرسم يدمج بين الرسم الآلي وتجريد مجال الألوان. لوحاته في الأربعينيات حجمُها ضخم – ومرد ذلك تأثره بأعماله السابقة كفنان جداري مُعيّن من الدولة خلال السنوات الأخيرة من الكساد الكبير – لكنها معبّرة وغنائية في الرسم بالفرشاة. ألهم إدماج غوركي للأنماط جيلًا واسعًا من الفنانين الأمريكيين في فترة ما بعد الحرب لاحتضان التجريد الواسع النطاق. ما نسميه الآن «التعبيرية التجريدية»، وكان ذاك الجيل في الواقع مجموعة فضفاضة من الفنانين الذين يستخدمون أنماطًا متعدّدة من أنماط التجريد. ربما كان القاسم المشترك بين هؤلاء الفنانين – على الأقل في السنوات الأولى – هو دعم جيل جديد من النقاد بقيادة كليمنت غرينبيرغ، الذي كان يعتقد أن التجريد هو التعبير الأسمى للفن الغربي. «الكبد هو مشط الديك» (1944) - أرشيل جوركي.«الكبد هو مشط الديك» (1944) – أرشيل جوركي. الحداثة ومصير الفنّ الغربي كان يُعتقد في بعض الأوساط الفكرية المؤثرة أنّ الفن يتقدم نحو هدف؛ وهذا المضمون يشتمل عليه مصطلح «الطليعية» (Avant-garde)، الذي يُوصف به الفنّانون الذين يبتكرون أرضية جمالية جديدة. أصل المصطلح فرنسي يُطلق على الجنود الذين يتقدمون إلى مناطق جديدة. بالنسبة إلى غرينبيرغ، لم يكن هؤلاء الفنّانون يوسّعون حدود إمكانات الفن؛ بل كانوا يتقدمون نحو الهدف الحقيقي والمفرد لكل شكل فني. يُعدّ غرينبيرغ شخصية مهمة في تاريخ الفن التجريدي، وذلك لأمرين: بوصفه مناصرًا رائدًا في مسألة تفوق الفن التجريدي على غيره من أنواع الرسم، وتأكيده للقوة التي امتلكها هذا الفن. كان ناقدًا في اللجنة الأمريكية للحريّة الثقافية التي تمولها الدولة، وهي مجموعة تم إنشاؤها لتعزيز الفن الأمريكي على المستوى الدولي. أصبحت أفكار غرينبيرغ مؤثرة عندما كانت الولايات المتحدة جزءًا من الحرب على الفاشية والنازية، وخلال الحرب الباردة اللاحقة ضد الشيوعية السوفيتية. كانت معايير الفن الفاشي والسوفياتي واضحة، وهي ما تحددها السلطات الثقافية أنها كذلك، بيد أنّه ما لم يكن واضحًا هو معايير الفن «الجيد» وتحديدًا في الغرب الديمقراطي. كان الماركسيون هم من تعاطف مع غرينبيرغ في البداية، لكن ارتبط تفكيره بشكلٍ متزايد بالهيمنة الثقافية الأمريكية. بالنسبة إليه، كان التجريد في أعمال بولوك فنًا مثاليًا لمجتمع ديمقراطي. تتجلى الحداثة في الفن، وفقًا لغرينبيرغ، في إطار التنوير الأوروبي؛ أيّ في فترة ازدهار الأفكار الفلسفية والعلمية التي أعطت الأولوية للعقل. في مقالته المؤثرة « الرسم الحداثي» (1961)، وصفَ غرينبيرغ إيمانويل كانط – الفيلسوف الألماني في عصر التنوير – بأنّه «أول حداثي حقيقي». كان أسلوب كانط في «النقد» هو استخدام العقل لنقد العقل بغرض توضيحه، ومنحه استقلالية عن أنواع التفكير الأخرى. «أولمبيا» - إدوارد مانيه (1863). بالنسبة إلى كليمنت غرينبيرغ، كان مانيه أول رسام حداثي. لقد رسم مانيه لوحاته بأسلوبٍ مسطّح بشكلٍ متعمد.«أولمبيا» – إدوارد مانيه (1863). بالنسبة إلى كليمنت غرينبيرغ، كان مانيه أول رسام حداثي. لقد رسم مانيه لوحاته بأسلوبٍ مسطّح بشكلٍ متعمد. بالطريقة نفسها، كان الرسامون الحداثيون – من إدوارد مانيه في القرن التاسع عشر إلى موريس لويس، وهو رسام يعمل ينتمي إلى رسامي أسلوب مجال ألوان في الولايات المتحدة في الوقت الذي كتب فيه غرينبيرغ مقالته – يعملون على ترسيخ الفن التعبيري «بشكل صارم في مجال تخصصه». رأى غرينبيرغ أن وضوح الفن التجريدي -الذي كان صادقًا بالنسبة إلى الوسيط الذي يُعبّر من خلاله- معارضٌ لـ«الفن الشعبي المبتذل [الكيتش]» الذي ينُتج على نطاق واسع في الثقافة الشعبية. إن إزالة «الكيتش» كانت مسألة استجلاء وتوضيح تحتاجها جميع الفنون لكي تصبح تعبيرًا عن إمكاناتها الجمالية الكامنة. اللوحات مسطّحة، وإيهام العمق الذي نجده في معظم الفن الغربي كان انحرافًا عن جوهر فن الرسم ذاته. كانت استقلالية الشكل الفني في جميع خصائصه دون أن تتلوث بأشكال فنية أخرى. وفقًا لغرينبيرغ، يعدّ الشكل واللون من أهم خصائص الرسم، و أفضل تمثيل لها يكون بشكلٍ مسطّح. وهكذا دافع غرينبيرغ عن «التسطيح» الذي تجلّى في لوحات الفنانين الأمريكيين التجريدية مثل جاكسون بولوك باعتباره تحقيقًا لهذا الوضوح الحداثي. لقد ضم هؤلاء الفنانين معًا ضمن فريق واحد، وهم يمثّلون المرحلة التالية في الحداثة، وقد حلّت رؤيتهم الأمريكية المميزة محلّ الفن الأوروبي الطليعي. وفي الوقت الذي أصبح فيه الفن التجريدي الأمريكي مهيمنًا، تراجعت هيمنة غرينبيرغ النقدية، وظهرت أشكال جديدة من الفن الطليعي، مستوحاة مباشرة من الثقافة الجماهيرية، وحلّت محلّ التعبيرية التجريدية في المخيال العام. تبنى فنانوّ «البوب» مثل: آندي وارهول، وريتشارد هاميلتون هذا النوع من «الفن الشعبي المبتذل» الذي رآه غرينبيرغ تلويثًا للفن الحقيقي. استمرت الأعمال الفنية التجريدية، ولكن تخلّى الفنّانون التجريديون الأكثر جرأة عن الفكرة الصارمة «للنقد الحداثي»، وعن الوضوح المتعلق بخصوصية الوسيط الفني، وذلك لصالح أشكال أخرى من التعبير. نظر فنانوّ «ما بعد الحداثة» إلى السخرية وعملية الرسم نفسها، كطرق لتجاوز الطريق المسدود للحداثة. تبنى الألماني غيرهارد ريختر كلا النهجين؛ فبعض أعماله التجريدية في الستينيات كانت مصنوعة بممسحاتٍ بدلًا من الفرشاة، حتى يتمكن من لفت الانتباه إلى عملية صنع اللوحة نفسها. كانت «اللوحات التجريدية» البارزة الأخرى التي رسمها ريختر في الواقع صورًا واقعية مرسومة بعناية تعكس لوحاته التجريدية الأخرى. أصبحت طلائعية الرسم التجريدي مفهومية أكثر، ما جعل ضمنيًّا قضية الرسم تحظى باستقلالية أقل مما كان كان يعتقد النقاد الحداثيون. قلّد فنانوّ «نيو جيو»، مثل: الرسام بيتر هالي، والنحات أشلي بيكرتون اللغة البصرية للتجريد الهندسي، لكنهما دمجاها مع السلع الاستهلاكية بألوانٍ تجارية فاتحة وأحيانًا فلورية. منذ ذلك الجيل ما بعد الحداثي من الرسامين والنحاتين الممتد من الستينيات إلى التسعينيات، ازدهر التجريد متفرّعًا إلى عددٍ لا يُحصى من الأساليب والمقاربات بجوار الفن التشخيصي. هنا يمكن القول إنّ التجريد المتحرّر من عبء التوقعات الحداثية هو ببساطة نهج للتعبير مثل أيّ نهج آخر. وتجدر الإشارة إلى أنّ بعض الفنانين التجريديين استخدموا الحيل البصرية المستعملة في الفن التشخيصي – مثل المنظور والتظليل – في لوحاتهم. ولاستخدامهم هذا أهداف فريدة و غالبًا لا تهتم بالنظرية. قلّد فنانوّ «ما بعد الحداثة» مثل: بيتر هالي اللغة البصرية المستعملة في الفن التجريدي الحديث (في حالة بيتر، التجريد الهندسي)، للتعليق على طبيعة الفن والمعنى نفسه. تمثّل هذه الكتل الملونة «الخلايا» و«الأنابيب».قلّد فنانوّ «ما بعد الحداثة» مثل: بيتر هالي اللغة البصرية المستعملة في الفن التجريدي الحديث (في حالة بيتر، التجريد الهندسي)، للتعليق على طبيعة الفن والمعنى نفسه. تمثّل هذه الكتل الملونة «الخلايا» و«الأنابيب». هذا هو التحرّر نحو الأفضل بين الرسامين التجريديين الذين يمكنهم الالتزام برؤيةٍ فريدة بالرسم على القماش. لكن فكّ ارتباط الفن التجريدي عن إطاره الفلسفي الأوسع أدى أيضًا إلى انتشارٍ يثير التساؤل لأعمال تجريدية متنوعة قابلة للاستهلاك – بمعنى أنّها فقدت قيمتها، وباتت تُباع وتُشترى سريعًا بأسعارٍ مربحة – يشتريها المشترون المتضاربون. دفع هذا التحول الناقد جيري سالتز إلى كتابة: « الزومبي على الجدران: لماذا يبدو الكثير من التجريد الجديد متشابهًا؟». وقد شبه اللّوحات التجريدية بصورة «الزومبي»، تحقيرًا لأعمال عددٍ من الرسامين التجريديين البارزين، الذين استخدموا الفنّ وجماليته لتقديم أعمال مبتذلة. ومن المفارقات أن هؤلاء الفنانين نظروا إلى الشكلانية بوصفها فنًّا حداثيًّا متبنّين منظور غرينبيرغ، لكنهم بالطبع قدّموا أعمالًا في ظلّ فراغ تاريخي وبعد فترةٍ طويلة حين لم يُصبح التجريد مثيرًا للاهتمام أو راديكاليًا بأي وجه من الوجوه. في الواقع، لم يصل مشروع الحداثة  في الفن التجريدي إلى نهايته، بل النقد. إنّ النقد -أيّ الإطار الفلسفي الواسع الذي يصادق على الأعمال الفنية ويثمّنها لأهميتها الثقافية والتاريخية- هو ما فقد التوجه والسلطة. كان مسار الفن الغربي منذ عصر التنوير يتأرجح بين قطبي الدوغمائية النقدية والإبداع. تكمن المشكلة أنه في العقود الأخيرة، وفي ظلّ غياب أي مشروع نقدي متماسك، انجرف الفن نحو إرضاء اهتمامات دقيقة ومتنوعة تزداد باستمرار. في حين كانت هناك «حركات» و«مدارس» فنية -مصطلحان يشيران إلى الوجهة والانضباط- لم يعد لدينا الآن سوى «مشاهد». هذا ليس بالضرورة أمرًا سيئًا. ولكن في عالم حيث «كل شيء مقبول – anything goes»، لا يوجد مجال لهذا النوع من الابتكار والتجاوز الذي أدى إلى ظهور الفن التجريدي في الغرب، وهذا ما جعل الفن الحديث فنًّا مثيرًا للغاية. من الصعب في هذه اللحظة التاريخية أن ندرك ما الذي جعل لوحة بولوك «رقم 32» مثيرة للانقسام، ومخلخلةً جدًا للمعايير، وفي الوقت نفسه محتفظةً بقيمةٍ عالية جدًا لأولئك الذين يعتقدون أن للفنِّ مكانًا في المجتمع يتجاوز المتعة. [divider style=”solid” top=”20″ bottom=”20″] [1] واللقب كذلك يُلمح إلى القاتل المتسلسل في لندن آخر القرن التاسع عشر: جاك السفّاح Jack the ripper (مدير التحرير). ### خارج عقلك | توم تشاتفيلد – ت: محمد السعيد                  عندما يكون هاتفي النقال بين يديّ، هل أكون أنا الشخص نفسه لو كان الهاتف في غرفة أخرى؟ من ناحية،... ### الدراما في التعليم: مقاربات وتطبيقات | نعيم حيماد افتتاحيّة حظي استخدام الدراما في التعليمفي السنوات الأخيرة باهتمام كبير من قبل نخبة من المنظرين والممارسين للدراما في مجال التعليم.... ### الحقائق المخفية | دي بي سي بيير – ت: محمد السعيد       يحمل جبل كلسي خشن في غرب إيران عددًا من النقوش البارزة، من بينها لوحة طولها خمسة وعشرين مترًا منقوشة... ### التغلُّب على كاشف الكذب | كلاريسا سيباغ-مونتِنفيوري – ت: محمد السعيد          حين  اتُّهِمَتْ مربية الأطفال البريطانية لويز وودورد بهزِّ رضيع حتى الموت في مدينة نيوتن بولاية ماساتشوستس، لم تكتفِ بإعلان... ### عن منصة معنى «معنى»، مؤسسة ثقافية تقدّمية ودار نشر تهتم بالفلسفة والمعرفة والفنون، عبر مجموعة متنوعة من المواد المقروءة والمسموعة والمرئية. انطلقت في 20 مارس 2019، بهدف إثراء المحتوى العربي، ورفع ذائقة ووعي المتلقّي المحلي والدولي، عبر الإنتاج الأصيل للمنصة والترجمة ونقل المعارف. ### روابط سريعة ### التصنيفات ### مرحبا بك! قم بتسجيل الدخول إلى حسابك تذكرني ### قم بإنشاء حساب جديد! املأ النموذج أدناه للتسجيل ### طلب إعادة تعيين كلمة المرور يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان البريد الإلكتروني لإعادة تعيين كلمة المرور الخاصة بك. ### Add New Playlist - Select Visibility -PublicPrivate No Result عرض جميع النتائج - 00:00 00:00 - 00:00 00:00
article
Arabic
ar
الفنّ التجريدي: بين الماضي والحاضر - منصة معنى الثقافية
https://mana.net/abstract-art/
1,832
من المفيد التفكير في اللوحة التشخيصية التقليدية أو النحت على أنها حقيقة افتراضية.
sentence
من المفيد التفكير في اللوحة التشخيصية التقليدية أو النحت على أنها حقيقة افتراضية. إذْ استخدم الفنانون لقرون عديدة الحيل البصرية -مثل المنظور الخطي، والتقصير المسبق، والتظليل- لمحاكاة الطريقة التي ندرك بها الأشياء في الفضاء الحقيقي. إنّ المشاهد تُنشأ في فضاء افتراضي – سواء كانت القاعدة التي تدعم التمثال أو القماش – ليراها المشاهدون بوصفها خدعة بصرية.
paragraph
Arabic
ar
الفنّ التجريدي: بين الماضي والحاضر - منصة معنى الثقافية
https://mana.net/abstract-art/
1,833
إذْ استخدم الفنانون لقرون عديدة الحيل البصرية -مثل المنظور الخطي، والتقصير المسبق، والتظليل- لمحاكاة الطريقة التي ندرك بها الأشياء في الفضاء الحقيقي.
sentence
من المفيد التفكير في اللوحة التشخيصية التقليدية أو النحت على أنها حقيقة افتراضية. إذْ استخدم الفنانون لقرون عديدة الحيل البصرية -مثل المنظور الخطي، والتقصير المسبق، والتظليل- لمحاكاة الطريقة التي ندرك بها الأشياء في الفضاء الحقيقي. إنّ المشاهد تُنشأ في فضاء افتراضي – سواء كانت القاعدة التي تدعم التمثال أو القماش – ليراها المشاهدون بوصفها خدعة بصرية.
paragraph
Arabic
ar
الفنّ التجريدي: بين الماضي والحاضر - منصة معنى الثقافية
https://mana.net/abstract-art/
1,834
إنّ المشاهد تُنشأ في فضاء افتراضي – سواء كانت القاعدة التي تدعم التمثال أو القماش – ليراها المشاهدون بوصفها خدعة بصرية.
sentence
من المفيد التفكير في اللوحة التشخيصية التقليدية أو النحت على أنها حقيقة افتراضية. إذْ استخدم الفنانون لقرون عديدة الحيل البصرية -مثل المنظور الخطي، والتقصير المسبق، والتظليل- لمحاكاة الطريقة التي ندرك بها الأشياء في الفضاء الحقيقي. إنّ المشاهد تُنشأ في فضاء افتراضي – سواء كانت القاعدة التي تدعم التمثال أو القماش – ليراها المشاهدون بوصفها خدعة بصرية.
paragraph
Arabic
ar
الفنّ التجريدي: بين الماضي والحاضر - منصة معنى الثقافية
https://mana.net/abstract-art/
1,835
«القديس بطرس شفاء أحد الأشخاص وبعث تابيثا من الموت» ماسولينو دي بانيكال. اعتمد الرسم الغربي قبل القرن العشرين على الحيل البصرية لخلق واقع افتراضي. إحدى هذه الحيل هي المنظور الخطي، وهذه اللوحة هي أول مثال لاستخدام نقطة تلاشٍ متسقة.«القديس بطرس شفاء أحد الأشخاص وبعث تابيثا من الموت» ماسولينو دي بانيكال. اعتمد الرسم الغربي قبل القرن العشرين على الحيل البصرية لخلق واقع افتراضي. إحدى هذه الحيل هي المنظور الخطي، وهذه اللوحة هي أول مثال لاستخدام نقطة تلاشٍ متسقة.
paragraph
لا توجد منتجات في سلة المشتريات. No Result عرض جميع النتائج الثلاثاء, سبتمبر 10, 2024 No Result عرض جميع النتائج No Result عرض جميع النتائج # الفنّ التجريدي: بين الماضي والحاضر ## ترجمة: أنطونيوس نادر AA AA إعادة تعيين فنٌ مليء بالتحديات ثمّة خطٌ رفيع يفصل بين الفن التجريدي ومجرد الزخرفة، ولوحة «رقم 32» (نُشرت عام 1950)، لجاكسون بولوك تتأرجح بين هذا الخطّ. فهي لا تشير إلى معنىً واضح، ولكن لا يمكن القول إنّها بلا معنى على الإطلاق. كما أنّها ليست معبّرة بشكلٍ مباشر، ولا يعني هذا أنها لا تعبّر عن مدلولٍ ما. تحمل هذه اللوحة الكثير من المضامين عن الفن الغربي بالنسبة إلى شخصٍ خبيرٍ في تاريخ الفن؛ أما بالنسبة إلى شخصٍ عادي، فقد يراها عملًا مبتذلًا بالكاد يعبّر عن أمرٍ ما. اللوحة شبكة من الخطوط وبقعٍ من الألوان، رُسمت عن طريق صبّ طلاءٍ رخيص بعشوائيةٍ مباشرة على القماش. تتكون اللوحة من طلاءٍ أسود فقط وقماشٍ خام. واللوحة ضخمة؛ إذ يبلغ طولها تسعة أقدام وعرضها خمسة عشر قدمًا، وتغطي مجال رؤية المشاهد أثناء اقترابه منها. تقليديًّا، حتى اللوحات التجريدية تتكون من أجزاءٍ مترابطة مع بؤر تركيز (emphases) وعمقٍ يُنقل من خلال اللون والظلال، ولكن «رقم 32» ليس لها أجزاء؛ إنّها تتكون من تعالقات، والبؤرة فيها تكمن عبر امتداد سطح القماش المستطيل. يمنحها ما سبق عمقًا سطحيًا، وربما لا عمق فيها: مجرّد طلاء على قماش. إنّها عبث بالشكل واللون. حتى اسمها، ببساطة رقمٌ معيّن – رقم 32 – يجعلها تنأى بنفسها عن أي فكرة مفادها أنها تعكس مدلولًا محدّدًا. تشير عناوين أعمال بولوك الأخرى إلى نوعٍ من الاختبار الشخصي، وإلى الاستخدام السمفوني المتعدد الطبقات للون والملمس؛ خذ مثلًا لوحاته التي تحمل اسم: «إيقاع الخريف»، و«الضباب الأرجواني»، و«الأقطاب الزرقاء»، و«انعكاس الدنقلة الكبير». هذا لا ينطبق على لوحة «رقم 32»؛ شكلها الخام وبساطتها دليل على أنّ الفنان لم يخطط مسبقًا لرسمها؛ أيّ أنّه لم ينتق الألوان ولا الطبقات. يبدو بولوك هنا أكثر حضورًا، من خلال لمساته الحادة. بالنسبة إلى مؤيديّ عمل بولوك، تختصر هذه اللوحة خلاصة نظرة الفنان الجمالية. أما بالنسبة للبعض الآخر، فهي لوحة مبتذلة. وصف جوزيف بويس -النحات الألماني في فترة ما بعد الحرب- الفنَّ التجريدي الأمريكي بأنه مجرد «تغليف»، أيّ سطح بلا محتوى. في هذا الصدد، قد يتفق البعض أن لوحة «رقم 32» تجسد فراغ الفكر والشعور ذاك. فقد رأى الروائي والناقد الفني روبرت كوتس أن فن بولوك لم يكن سوى «انفجارات» غير منظمة من الطاقة العشوائية. غير أنّ طائفة كبيرة من متذوقي الفن التجريدي لا تروق إليهم أعمال بولوك ويرونها فنًّا محيرًا، حتى إنّ بعضهم يراها إهانةً للذوق أو الحسّ السليم. عُرف بولوك بلقب: «جاك فنان النقط» (Jack the Dripper) [1] في الأوساط الإعلامية المشككة بعمله حيث ادعى كثر أن أيّ شخص يمكنه أن يرسم كما يرسم بولوك إلّا أنّ أحدًا لم يتجرأ على فعل ذلك. «رقم 32» - جاكسون بولوك«رقم 32» – جاكسون بولوك بيد أنّ هذا هو مغزى الفن التجريدي في التقليد الغربي: إنّه تحدّ. وفي ظل الكثير هذه التحديات، تُعد لوحة « رقم 32» اللوحة الأكثر تمثيلًا لهذا الفن. قصة الفنّ التجريدي مسار قصة الفن التجريدي مضمّنة في الدراسات التاريخية الفنية، إلّا أنّ المحطات الرئيسة لهذا المسار كانت محط تغييرات مفاجئة كلما اكتشف مؤرخوّ الفن حقائق جديدة. انطلق مسار الفن التجريدي بدءًا من القرن التاسع عشر وما تلاه؛ حيث استفاد الفنانون من مادة الطلاء والجوانب الشكلية للرسم مثل اللون والدرجة والخطوط. يُعرف هذا الانشغال بالجوانب غير التمثيلية (non-representative) للفن باسم «الشكلانية»، لأنّه انشغال «بالشكل»، أيّ بتوسل شكل المحتوى بدلًا من المحتوى في ذاته. بالنسبة إلى الفنانين في القرن التاسع عشر، صُنّف الفن التجريدي على أنّه «فنٌّ من أجل الفنّ»، وكانت الفكرة الشائعة مفادها أنّ المتذوق للفن يمكنه الاستمتاع بالعمل دون اللجوء إلى معنى أو حتى أي شيء آخر يمثل أمرًا ما. تمثّل لوحة «الموسيقى الهادئة باللّونين الأسود والذهبي – الصاروخ الساقط» (1872)، للفنان جيمس مكنيل ويسلر هذا الاتجاه الذي تبلور لاحقًا في الفن التجريدي.  إنّ مشهد ويسلر الغامض من الناحية المكانيّة يقترب إلى التجريد، وذلك بمحاولته نقل الشعور أو الانطباع الخاص بالمشهد بدلًا من إعادة إنتاجه بحذافيره. «الموسيقى الهادئة باللونين الأسود والذهبي - الصاروخ الساقط» (1872-1877) - جيمس أبوت مكنيل ويسلير«الموسيقى الهادئة باللونين الأسود والذهبي – الصاروخ الساقط» (1872-1877) – جيمس أبوت مكنيل ويسلير في عام 1877، انتقد جون روسكين – أبرز نقّاد بريطانيا في ذلك الوقت – عمل ويسلير هذا نقدًا لاذعًا فشبهه «بمن قام برمي الطلاء في وجه الجمهور». تأثر ويسلر بهذا الكلام، فرفع دعوى قضائية ضد روسكين، بيد أنّه خسرها لأن المسؤولين عرضوا اللوحة -خطأً- مقلوبةً على المحكمة. أفلس ويسلير بسبب هذه القضية، لكن مسيرة تطور الفن التجريدي استمرت. من ناحيةٍ أخرى، تحديد أول فنان تجريدي في العالم موضوع نزاع. في نظر أبحاث تاريخ الفن التقليدية، كان فاسيلي كاندينسكي – فنان روسي الجنسية رسم لوحات تجريدية بالكامل في مطلع عام 1911- هو أول فنان تجريدي. لم ينل الفن التجريدي الرائد لهيلما أف كلينت تقديرًا إلا قبل سنوات قريبة. هذه صورة للمعرض الشهير في  متحف غاغينهايم، عام 2018 .لم ينل الفن التجريدي الرائد لهيلما أف كلينت تقديرًا إلا قبل سنوات قريبة. هذه صورة للمعرض الشهير في  متحف غاغينهايم، عام 2018 . ولكن في الآونة الأخيرة، وبفضل المعرض الرائد في متحف مقاطعة لوس أنجلوس للفنون في عام 1986 الذي حمل اسم «الروحانية في الفن: الرسم التجريدي 1890 – 1985»، وقع الاختيار على هيلما أف كلينت كأول رسامة تجريدية. بدأت كلينت في رسم لوحات تجريدية بدءًا من عام 1906، وحملت مجموعتها عنوان «الفوضى البدائية». كانت الفنانة متكتمة في ما يتعلق بأعمالها التجريدية، ولم تُعرض أيّ منها في معارض عامة، وبقيت غير معروفة حتى أزيح عنها الستار مؤخرًا. ولعل الجدال حول هوية أول من مارس الفن التجريدي سيستم، لكن الحقيقة الأكثر أهمية هي أن العديد من الفنانين الأوروبيين البارزين قد توصّلوا في أعمالهم إلى التجريد بحلول الحرب العالمية الأولى. لقد وجد كل منهم طريقته الخاصة في التخلي عن الفن التشخيصي (figurative painting). وجديرٌ بالذكر أنّه لم تكن هناك حركة «تجريدية» دولية ذات رؤية أو بيان مشترك. في ضوء ذلك، فإن السؤال الملحّ حقًا هو: لمَ لمْ يتبنى الفنانون الغربيون الفن التجريدي على امتداد قرون عديدة؟ لماذا كان التجريد غير ضروري أو لا معنى له أو غير مناسب أو حتى لا يمكن تقبّله لقرونٍ متوالية في الفن الغربي؟ ظهرت العديد من التفسيرات لشرح ذلك. إحدى النظريات الأكثر وضوحًا هي أن ظهور التصوير الفوتوغرافي بوصفه شكلًا من أشكال الفن، إضافةً إلى تطور الفن الحديث، سببان رئيسان لإزاحة الرسم التشخيصي. ثمّة إجابات أخرى غير ملموسة لاستكشاف الأسباب: ربما عندما أصبحت الأعمال الفنية قابلة للاستهالاك بشكل متزايد، مثل السلع، بات من السهولة فصل اللوحات والمنحوتات عن التجارب المحددة لمبدعيها. ربما أدت الحداثة في الغرب إلى إفراغ الفن من المحتوى التشخيصي؛ مما دفع الفنانين أيضًا إلى التخلي عن التمثيل التشخيصي. كل من هذه الإجابات معقدة وتتطلب الكثير من الشرح، ولا يمكن إلا أن تكون تخمينات. لا توجد إجابة واضحة لهذه المسألة. ربما يكون من الأفضل طرح السؤال حول سبب تقبّل الفن التجريدي فنًّا من الفنون الرسمية في تاريخ الفن الغربي في مرحلة معينة على علماء الأنثروبولوجيا بدلًا من طرحها على مؤرخي الفن. فما هو واضح أن الفن التجريدي كان موجودًا دائمًا في مناطق أخرى من العالم. ما جعل الفن التجريدي فنًّا حديثًا على وجه التحديد في العالم الغربي هو نظام المعارض، الذي أعطى القيمة الفنية للأعمال المعروضة. وكما هو واضح فقد ازدهر التجريد لآلاف السنين المناطق الشرقية والجنوبية من العالم، دون عناء التحقق من مكانة الأعمال المعروضة في الصالونات [والمعارض، كما هو في العالم الغربي]. الواقع الافتراضي و«الافتراضية» يتبنى بيبي كرمل وهو مؤرخ فني، في كتابه « الفن التجريدي: تاريخ عالمي»، فكرة أنّ الفن التجريدي كان دائمًا موجودًا بشكل طبيعي عندما ننظر إليه نظرة شاملة وعالمية، بيد أنّه يتحاشى طرح نظرية عن تطور الفن التجريدي. بالنسبة إلى كرمل، فإنّ هذا الفنّ متجذر في العالم الحقيقي، وهو ليس فنًّا «مجردًا» على الإطلاق، كما أنّه تقليد عالمي وليس محليًا. في دراسته حول الفن التجريدي يقسم العمل الفني إلى خمس فئات واسعة تنتمي إلى العالم الحقيقي: الأجسام، والمناظر الطبيعية، والكون، والبنى، والعلامات والأنماط. من خلال فحص الفن التجريدي بهذه الطريقة، يرى كرمل في اللوحات التجريدية موضوعات قابلة للتحليل، بعكس النقاد والمؤرخين الأرثوذكسيين الذين رأوا فيها مجرّد توليفات شكلية مكوّنة من لون وشكل. ربما يكون من الأفضل أن يطلق على الفن التجريدي: فن ما تم تجريده (abstracted art)؛ لأنّ الفنانين التجريديين عادةً ما يستخلصون ويجرّدون تعبيرات التجارب في شكل ولون،  أكثر من كونها توليفات مكونة من شكل ولون. ومرّد ذلك الطبيعة الجوهرية للرسم والنحت؛ فهما (الشكل اللّون) وسيطان للتعبير، مثل الشاشة أو المسرح لخيال الفنان. كما هو الحال في المسرح أو السينما، فإنّ جمهور اللوحة أو المنحوتة يعلّق معتقداته من أجل أن يتقبل المشهد. من المفيد التفكير في اللوحة التشخيصية التقليدية أو النحت على أنها حقيقة افتراضية. إذْ استخدم الفنانون لقرون عديدة الحيل البصرية -مثل المنظور الخطي، والتقصير المسبق، والتظليل- لمحاكاة الطريقة التي ندرك بها الأشياء في الفضاء الحقيقي. إنّ المشاهد تُنشأ في فضاء افتراضي – سواء كانت القاعدة التي تدعم التمثال أو القماش – ليراها المشاهدون بوصفها خدعة بصرية. «القديس بطرس شفاء أحد الأشخاص وبعث تابيثا من الموت» ماسولينو دي بانيكال. اعتمد الرسم الغربي قبل القرن العشرين على الحيل البصرية لخلق واقع افتراضي. إحدى هذه الحيل هي المنظور الخطي، وهذه اللوحة هي أول مثال لاستخدام نقطة تلاشٍ متسقة.«القديس بطرس شفاء أحد الأشخاص وبعث تابيثا من الموت» ماسولينو دي بانيكال. اعتمد الرسم الغربي قبل القرن العشرين على الحيل البصرية لخلق واقع افتراضي. إحدى هذه الحيل هي المنظور الخطي، وهذه اللوحة هي أول مثال لاستخدام نقطة تلاشٍ متسقة. يستمتع مشاهدوّ الأعمال الفنية العظيمة معنى ما يُرسم، ويقدرون الطريقة التي يتجلّى فيها الوهم عبر تمازج اللون والشكل. يبقى الفن التجريدي، إلى حدٍ ما، ضمن إطار التجربة الجمالية. فقد سعت حركات الفن الحديث التي أدت إلى التجريد -أيّ «مدارس الفن»، مثل الانطباعية والفاوفية والتكعيبية- إلى تمثيل العالم بشكل مختلف عن كل الفنون التي سبقتها. إذْ ادعوا الاقتراب من الحقيقة الذاتية عبر تهميش جميع الحيل الوهمية التقليدية التي حاولت إعادة إنتاج الواقع بحذافيره كحقيقة موضوعية. «الأحمر والأصفر والأزرق» (1925) واسيلي كاندينسكي.  كان كاندينسكي يعدّ لفترةٍ طويلة أب الرسم التجريدي الغربي.«الأحمر والأصفر والأزرق» (1925) واسيلي كاندينسكي.  كان كاندينسكي يعدّ لفترةٍ طويلة أب الرسم التجريدي الغربي. بالنسبة إلى هذه المدارس، أصبح الفن أقل من أن يوصف بأنّه واقع افتراضي، لكنه مع ذلك احتفظ بالافتراضية، وأصبح افتراضيًا. لقد أخذ الفن التجريدي مسار التطور هذا إلى أقصاه: من الواقع الافتراضي إلى الافتراضية. ماذا تعني «الافتراضية» هنا؟ إنّها الوجود كجوهر وتأثير، ولكن بدون اللجوء إلى الواقع. اللوحة التجريدية التي رسمها كاندينسكي، على سبيل المثال، ما زالت تُعدّ علاقة متبادلة بين الشكل واللون، و تعتمد على الرسم كمستوى تخطيطي: إنها نافذة تطلّ على «الواقع» الفردي الذي تصوّره كاندينسكي. وما تزال العناصر في لوحات كاندينسكي تحظى بعلاقة متبادلة، كما هو الحال في فضاء الواقع الافتراضي للوحة التشخيصية؛ فجوهر الرسم سليم إذ إنّ ذلك الفضاء الافتراضي ما زال موجودًا. عندما يكون الفن التجريدي بناءً خالصًا، ويتخلص من المساحة الافتراضية الملازمة للرسم والنحت، يصبح متميزًا عنهما. وصف دونالد جود الفنان التخفيفي (minimalist) مثل هذه الأعمال الفنية بأنها «أجسام محدّدة» (Specific Objects). إنّه مصطلح غير دقيق، ولكنه يصلح لإظهار أن مثل هذه الأعمال الفنية ليست رسمًا ولا نحتًا، ولكنها فئة أخرى تمامًا. رأى دونالد جود أن أعماله وأعمال العديد من معاصريه تشغل مساحة هجينة، لا هي لوحات ولا هي نحت. عمل دون عنوان لدونالد جود. استخدم جود هذا المصطلح لوصف أعماله الخاصة، ولكنه ينطبق على لوحات كازيمير ماليفيتش وفرانك ستيلا أحادية اللون، والتي تجعل اللوحة تندمج مع نفسها بالكامل، من أجل الوصول للتأثير الذي يأمل العمل في تحقيقه. في مثل هذه الأعمال، لم يعد قماش اللّوحة (أو القاعدة) سطحًا تتفاعل فيه الأشكال والألوان في الفضاء الافتراضي. بدلاً من ذلك، تتفاعل الأشكال والألوان في الفضاء الحقيقي، في فضائنا. تختلف معايير النجاح أو الفشل لهذه الأعمال عن الخصائص التقليدية للرسم والنحت. رأى جود أنّ خصائص الرسم والنحت تقف في طريق ما أراد تحقيقه من خلال اللون والشكل. في رأيه، كان لـ «أجسامه المحددة» تأثيرًا أحدّ من غيرها. الواقع والأشكال الجديدة للإدراك الحسّي الرسم نفسه له ثلاثة أنواع عامة من التجريد؛ أولًا، ثمّة أسلوب تعبيري تُرسم فيه الأشكال بحركاتٍ غير مقيدة؛ ثم هناك التجريد الهندسي حيث يتم هيكلة الأشكال؛ أما النوع الثالث، فهو تجريد مجال اللون حيث يتم عرض مساحات من الألوان بطريقةٍ لا شكل واضح لها. لم تكن هذه «الأنماط» (styles) أنماطًا عرضيةً أو تعتمد على ذوق أو ميل الرسام كوسيلة لتحقيق هدفٍ ما من البحث الفني. وخير مثال على ذلك هو الفنان الذي غالبًا ما ينظر إلى عمله على أنّه ذروة التجريد الهندسي: بيت موندريان. إنّ لوحات بيت موندريان المكونة من شبكات (grids) ذات الخطوط السوداء والأجزاء الملونة على خلفية بيضاء؛ تهدف إلى استحضار «حقيقة أعلى». بالنسبة إلى موندريان، كان الفن في جوهره معارضًا للواقع؛ «لأن الواقع يتعارض مع الروحي». بغض النظر عن هذه اللوحة الأشهر لموندريان، فإنّ جوانب الرسم التي تهم هذا الفنان حقًا لم تكن الجوانب المحددة للموضوع -أيّ ماذا أو ما يتم تصويره في اللوحة مثلًا- بل الجوانب القابلة للفهم عالميًا للشكل والخط واللون. إنّ لوحات موندريان، مثلها مثل لوحات الفنانين الآخرين، هي محاولة لاستخلاص الشكل واللون من أجل الاقتراب من ذلك الجوهر العالمي والروحي للفن. عبّر موندريان عن رغبته في الوصول إلى «أساس» الأشياء من خلال الحدس، كالعديد من الفنانين التجريديين الآخرين في النصف الأول من القرن العشرين الذين رغبوا في الوصول إلى قوى غير مرئية حولنا، ولكنها معروفة أو محدوسة. «التكوين الثاني باللون الأحمر والأزرق والأصفر» (1930) - بيت موندريان«التكوين الثاني باللون الأحمر والأزرق والأصفر» (1930) – بيت موندريان في أواخر القرن التاسع عشر، لاحظ العلماء بشكلٍ أفضل مما سبق القوى غير المرئية مع انتشار التقنيات الجديدة، وأصبح من الواضح أن العالم أرحب مما يبدو للعين. في الوقت نفسه، ظهرت حركات روحية بديلة جمعت بين الأفكار الأفلاطونية والتصوف. كان كلينت وموندريان من بين العديد من الفنانين الذين انغمسوا في أشكال الروحانية خارج العوالم التقليدية للدين. اعتقدت كلينت أن لوحاتها هي وحي عالم روحي، وأن مهمتها كانت العمل «على مستوى روحاني» لتمثيل روح الإنسان، بدلًا من صورته الفانية. بحلول عشرينيات القرن الماضي، كانت نظرية فرويد عن للعقل البشري قد تغلغلت أيضًا في عالم الفن.  كذلك السريالية، وهي حركة منظمة بإحكام بدأت مع بعض الفنانين الذين سعوا إلى التنقيب عن الإمكانات الإبداعية للعقل الباطن، وهي الحركة الثقافية التي كانت سائدة في أوروبا بين الحربين العالميتين. لم تكن السريالية دوغمائية في محاولتها لاستكشاف اللاوعي، ولذلك ظهر عدد من الأساليب والطرق لمحاولة إخراج اللاوعي إلى السطح. إحدى هذه الأساليب كان الرسم الآلي (Automatism)، وهي عملية يتخلى فيها الفنان عن السيطرة الواعية لليد التي ترسم  أو تصور. في هذا المجال، تبنى الفنانون مثل أندريه ماسون وخوان ميرو الفرصة لبناء صورهم باستخدام حركات حرّة، وحتى إلقاء الطلاء على القماش. طور أرشيل غوركي -هو مهاجر أرمني عاش في الولايات المتحدة- أسلوبًا في الرسم يدمج بين الرسم الآلي وتجريد مجال الألوان. لوحاته في الأربعينيات حجمُها ضخم – ومرد ذلك تأثره بأعماله السابقة كفنان جداري مُعيّن من الدولة خلال السنوات الأخيرة من الكساد الكبير – لكنها معبّرة وغنائية في الرسم بالفرشاة. ألهم إدماج غوركي للأنماط جيلًا واسعًا من الفنانين الأمريكيين في فترة ما بعد الحرب لاحتضان التجريد الواسع النطاق. ما نسميه الآن «التعبيرية التجريدية»، وكان ذاك الجيل في الواقع مجموعة فضفاضة من الفنانين الذين يستخدمون أنماطًا متعدّدة من أنماط التجريد. ربما كان القاسم المشترك بين هؤلاء الفنانين – على الأقل في السنوات الأولى – هو دعم جيل جديد من النقاد بقيادة كليمنت غرينبيرغ، الذي كان يعتقد أن التجريد هو التعبير الأسمى للفن الغربي. «الكبد هو مشط الديك» (1944) - أرشيل جوركي.«الكبد هو مشط الديك» (1944) – أرشيل جوركي. الحداثة ومصير الفنّ الغربي كان يُعتقد في بعض الأوساط الفكرية المؤثرة أنّ الفن يتقدم نحو هدف؛ وهذا المضمون يشتمل عليه مصطلح «الطليعية» (Avant-garde)، الذي يُوصف به الفنّانون الذين يبتكرون أرضية جمالية جديدة. أصل المصطلح فرنسي يُطلق على الجنود الذين يتقدمون إلى مناطق جديدة. بالنسبة إلى غرينبيرغ، لم يكن هؤلاء الفنّانون يوسّعون حدود إمكانات الفن؛ بل كانوا يتقدمون نحو الهدف الحقيقي والمفرد لكل شكل فني. يُعدّ غرينبيرغ شخصية مهمة في تاريخ الفن التجريدي، وذلك لأمرين: بوصفه مناصرًا رائدًا في مسألة تفوق الفن التجريدي على غيره من أنواع الرسم، وتأكيده للقوة التي امتلكها هذا الفن. كان ناقدًا في اللجنة الأمريكية للحريّة الثقافية التي تمولها الدولة، وهي مجموعة تم إنشاؤها لتعزيز الفن الأمريكي على المستوى الدولي. أصبحت أفكار غرينبيرغ مؤثرة عندما كانت الولايات المتحدة جزءًا من الحرب على الفاشية والنازية، وخلال الحرب الباردة اللاحقة ضد الشيوعية السوفيتية. كانت معايير الفن الفاشي والسوفياتي واضحة، وهي ما تحددها السلطات الثقافية أنها كذلك، بيد أنّه ما لم يكن واضحًا هو معايير الفن «الجيد» وتحديدًا في الغرب الديمقراطي. كان الماركسيون هم من تعاطف مع غرينبيرغ في البداية، لكن ارتبط تفكيره بشكلٍ متزايد بالهيمنة الثقافية الأمريكية. بالنسبة إليه، كان التجريد في أعمال بولوك فنًا مثاليًا لمجتمع ديمقراطي. تتجلى الحداثة في الفن، وفقًا لغرينبيرغ، في إطار التنوير الأوروبي؛ أيّ في فترة ازدهار الأفكار الفلسفية والعلمية التي أعطت الأولوية للعقل. في مقالته المؤثرة « الرسم الحداثي» (1961)، وصفَ غرينبيرغ إيمانويل كانط – الفيلسوف الألماني في عصر التنوير – بأنّه «أول حداثي حقيقي». كان أسلوب كانط في «النقد» هو استخدام العقل لنقد العقل بغرض توضيحه، ومنحه استقلالية عن أنواع التفكير الأخرى. «أولمبيا» - إدوارد مانيه (1863). بالنسبة إلى كليمنت غرينبيرغ، كان مانيه أول رسام حداثي. لقد رسم مانيه لوحاته بأسلوبٍ مسطّح بشكلٍ متعمد.«أولمبيا» – إدوارد مانيه (1863). بالنسبة إلى كليمنت غرينبيرغ، كان مانيه أول رسام حداثي. لقد رسم مانيه لوحاته بأسلوبٍ مسطّح بشكلٍ متعمد. بالطريقة نفسها، كان الرسامون الحداثيون – من إدوارد مانيه في القرن التاسع عشر إلى موريس لويس، وهو رسام يعمل ينتمي إلى رسامي أسلوب مجال ألوان في الولايات المتحدة في الوقت الذي كتب فيه غرينبيرغ مقالته – يعملون على ترسيخ الفن التعبيري «بشكل صارم في مجال تخصصه». رأى غرينبيرغ أن وضوح الفن التجريدي -الذي كان صادقًا بالنسبة إلى الوسيط الذي يُعبّر من خلاله- معارضٌ لـ«الفن الشعبي المبتذل [الكيتش]» الذي ينُتج على نطاق واسع في الثقافة الشعبية. إن إزالة «الكيتش» كانت مسألة استجلاء وتوضيح تحتاجها جميع الفنون لكي تصبح تعبيرًا عن إمكاناتها الجمالية الكامنة. اللوحات مسطّحة، وإيهام العمق الذي نجده في معظم الفن الغربي كان انحرافًا عن جوهر فن الرسم ذاته. كانت استقلالية الشكل الفني في جميع خصائصه دون أن تتلوث بأشكال فنية أخرى. وفقًا لغرينبيرغ، يعدّ الشكل واللون من أهم خصائص الرسم، و أفضل تمثيل لها يكون بشكلٍ مسطّح. وهكذا دافع غرينبيرغ عن «التسطيح» الذي تجلّى في لوحات الفنانين الأمريكيين التجريدية مثل جاكسون بولوك باعتباره تحقيقًا لهذا الوضوح الحداثي. لقد ضم هؤلاء الفنانين معًا ضمن فريق واحد، وهم يمثّلون المرحلة التالية في الحداثة، وقد حلّت رؤيتهم الأمريكية المميزة محلّ الفن الأوروبي الطليعي. وفي الوقت الذي أصبح فيه الفن التجريدي الأمريكي مهيمنًا، تراجعت هيمنة غرينبيرغ النقدية، وظهرت أشكال جديدة من الفن الطليعي، مستوحاة مباشرة من الثقافة الجماهيرية، وحلّت محلّ التعبيرية التجريدية في المخيال العام. تبنى فنانوّ «البوب» مثل: آندي وارهول، وريتشارد هاميلتون هذا النوع من «الفن الشعبي المبتذل» الذي رآه غرينبيرغ تلويثًا للفن الحقيقي. استمرت الأعمال الفنية التجريدية، ولكن تخلّى الفنّانون التجريديون الأكثر جرأة عن الفكرة الصارمة «للنقد الحداثي»، وعن الوضوح المتعلق بخصوصية الوسيط الفني، وذلك لصالح أشكال أخرى من التعبير. نظر فنانوّ «ما بعد الحداثة» إلى السخرية وعملية الرسم نفسها، كطرق لتجاوز الطريق المسدود للحداثة. تبنى الألماني غيرهارد ريختر كلا النهجين؛ فبعض أعماله التجريدية في الستينيات كانت مصنوعة بممسحاتٍ بدلًا من الفرشاة، حتى يتمكن من لفت الانتباه إلى عملية صنع اللوحة نفسها. كانت «اللوحات التجريدية» البارزة الأخرى التي رسمها ريختر في الواقع صورًا واقعية مرسومة بعناية تعكس لوحاته التجريدية الأخرى. أصبحت طلائعية الرسم التجريدي مفهومية أكثر، ما جعل ضمنيًّا قضية الرسم تحظى باستقلالية أقل مما كان كان يعتقد النقاد الحداثيون. قلّد فنانوّ «نيو جيو»، مثل: الرسام بيتر هالي، والنحات أشلي بيكرتون اللغة البصرية للتجريد الهندسي، لكنهما دمجاها مع السلع الاستهلاكية بألوانٍ تجارية فاتحة وأحيانًا فلورية. منذ ذلك الجيل ما بعد الحداثي من الرسامين والنحاتين الممتد من الستينيات إلى التسعينيات، ازدهر التجريد متفرّعًا إلى عددٍ لا يُحصى من الأساليب والمقاربات بجوار الفن التشخيصي. هنا يمكن القول إنّ التجريد المتحرّر من عبء التوقعات الحداثية هو ببساطة نهج للتعبير مثل أيّ نهج آخر. وتجدر الإشارة إلى أنّ بعض الفنانين التجريديين استخدموا الحيل البصرية المستعملة في الفن التشخيصي – مثل المنظور والتظليل – في لوحاتهم. ولاستخدامهم هذا أهداف فريدة و غالبًا لا تهتم بالنظرية. قلّد فنانوّ «ما بعد الحداثة» مثل: بيتر هالي اللغة البصرية المستعملة في الفن التجريدي الحديث (في حالة بيتر، التجريد الهندسي)، للتعليق على طبيعة الفن والمعنى نفسه. تمثّل هذه الكتل الملونة «الخلايا» و«الأنابيب».قلّد فنانوّ «ما بعد الحداثة» مثل: بيتر هالي اللغة البصرية المستعملة في الفن التجريدي الحديث (في حالة بيتر، التجريد الهندسي)، للتعليق على طبيعة الفن والمعنى نفسه. تمثّل هذه الكتل الملونة «الخلايا» و«الأنابيب». هذا هو التحرّر نحو الأفضل بين الرسامين التجريديين الذين يمكنهم الالتزام برؤيةٍ فريدة بالرسم على القماش. لكن فكّ ارتباط الفن التجريدي عن إطاره الفلسفي الأوسع أدى أيضًا إلى انتشارٍ يثير التساؤل لأعمال تجريدية متنوعة قابلة للاستهلاك – بمعنى أنّها فقدت قيمتها، وباتت تُباع وتُشترى سريعًا بأسعارٍ مربحة – يشتريها المشترون المتضاربون. دفع هذا التحول الناقد جيري سالتز إلى كتابة: « الزومبي على الجدران: لماذا يبدو الكثير من التجريد الجديد متشابهًا؟». وقد شبه اللّوحات التجريدية بصورة «الزومبي»، تحقيرًا لأعمال عددٍ من الرسامين التجريديين البارزين، الذين استخدموا الفنّ وجماليته لتقديم أعمال مبتذلة. ومن المفارقات أن هؤلاء الفنانين نظروا إلى الشكلانية بوصفها فنًّا حداثيًّا متبنّين منظور غرينبيرغ، لكنهم بالطبع قدّموا أعمالًا في ظلّ فراغ تاريخي وبعد فترةٍ طويلة حين لم يُصبح التجريد مثيرًا للاهتمام أو راديكاليًا بأي وجه من الوجوه. في الواقع، لم يصل مشروع الحداثة  في الفن التجريدي إلى نهايته، بل النقد. إنّ النقد -أيّ الإطار الفلسفي الواسع الذي يصادق على الأعمال الفنية ويثمّنها لأهميتها الثقافية والتاريخية- هو ما فقد التوجه والسلطة. كان مسار الفن الغربي منذ عصر التنوير يتأرجح بين قطبي الدوغمائية النقدية والإبداع. تكمن المشكلة أنه في العقود الأخيرة، وفي ظلّ غياب أي مشروع نقدي متماسك، انجرف الفن نحو إرضاء اهتمامات دقيقة ومتنوعة تزداد باستمرار. في حين كانت هناك «حركات» و«مدارس» فنية -مصطلحان يشيران إلى الوجهة والانضباط- لم يعد لدينا الآن سوى «مشاهد». هذا ليس بالضرورة أمرًا سيئًا. ولكن في عالم حيث «كل شيء مقبول – anything goes»، لا يوجد مجال لهذا النوع من الابتكار والتجاوز الذي أدى إلى ظهور الفن التجريدي في الغرب، وهذا ما جعل الفن الحديث فنًّا مثيرًا للغاية. من الصعب في هذه اللحظة التاريخية أن ندرك ما الذي جعل لوحة بولوك «رقم 32» مثيرة للانقسام، ومخلخلةً جدًا للمعايير، وفي الوقت نفسه محتفظةً بقيمةٍ عالية جدًا لأولئك الذين يعتقدون أن للفنِّ مكانًا في المجتمع يتجاوز المتعة. [divider style=”solid” top=”20″ bottom=”20″] [1] واللقب كذلك يُلمح إلى القاتل المتسلسل في لندن آخر القرن التاسع عشر: جاك السفّاح Jack the ripper (مدير التحرير). ### خارج عقلك | توم تشاتفيلد – ت: محمد السعيد                  عندما يكون هاتفي النقال بين يديّ، هل أكون أنا الشخص نفسه لو كان الهاتف في غرفة أخرى؟ من ناحية،... ### الدراما في التعليم: مقاربات وتطبيقات | نعيم حيماد افتتاحيّة حظي استخدام الدراما في التعليمفي السنوات الأخيرة باهتمام كبير من قبل نخبة من المنظرين والممارسين للدراما في مجال التعليم.... ### الحقائق المخفية | دي بي سي بيير – ت: محمد السعيد       يحمل جبل كلسي خشن في غرب إيران عددًا من النقوش البارزة، من بينها لوحة طولها خمسة وعشرين مترًا منقوشة... ### التغلُّب على كاشف الكذب | كلاريسا سيباغ-مونتِنفيوري – ت: محمد السعيد          حين  اتُّهِمَتْ مربية الأطفال البريطانية لويز وودورد بهزِّ رضيع حتى الموت في مدينة نيوتن بولاية ماساتشوستس، لم تكتفِ بإعلان... ### عن منصة معنى «معنى»، مؤسسة ثقافية تقدّمية ودار نشر تهتم بالفلسفة والمعرفة والفنون، عبر مجموعة متنوعة من المواد المقروءة والمسموعة والمرئية. انطلقت في 20 مارس 2019، بهدف إثراء المحتوى العربي، ورفع ذائقة ووعي المتلقّي المحلي والدولي، عبر الإنتاج الأصيل للمنصة والترجمة ونقل المعارف. ### روابط سريعة ### التصنيفات ### مرحبا بك! قم بتسجيل الدخول إلى حسابك تذكرني ### قم بإنشاء حساب جديد! املأ النموذج أدناه للتسجيل ### طلب إعادة تعيين كلمة المرور يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان البريد الإلكتروني لإعادة تعيين كلمة المرور الخاصة بك. ### Add New Playlist - Select Visibility -PublicPrivate No Result عرض جميع النتائج - 00:00 00:00 - 00:00 00:00
article
Arabic
ar
الفنّ التجريدي: بين الماضي والحاضر - منصة معنى الثقافية
https://mana.net/abstract-art/
1,836
«القديس بطرس شفاء أحد الأشخاص وبعث تابيثا من الموت» ماسولينو دي بانيكال.
sentence
«القديس بطرس شفاء أحد الأشخاص وبعث تابيثا من الموت» ماسولينو دي بانيكال. اعتمد الرسم الغربي قبل القرن العشرين على الحيل البصرية لخلق واقع افتراضي. إحدى هذه الحيل هي المنظور الخطي، وهذه اللوحة هي أول مثال لاستخدام نقطة تلاشٍ متسقة.«القديس بطرس شفاء أحد الأشخاص وبعث تابيثا من الموت» ماسولينو دي بانيكال. اعتمد الرسم الغربي قبل القرن العشرين على الحيل البصرية لخلق واقع افتراضي. إحدى هذه الحيل هي المنظور الخطي، وهذه اللوحة هي أول مثال لاستخدام نقطة تلاشٍ متسقة.
paragraph
Arabic
ar
الفنّ التجريدي: بين الماضي والحاضر - منصة معنى الثقافية
https://mana.net/abstract-art/
1,837
اعتمد الرسم الغربي قبل القرن العشرين على الحيل البصرية لخلق واقع افتراضي.
sentence
«القديس بطرس شفاء أحد الأشخاص وبعث تابيثا من الموت» ماسولينو دي بانيكال. اعتمد الرسم الغربي قبل القرن العشرين على الحيل البصرية لخلق واقع افتراضي. إحدى هذه الحيل هي المنظور الخطي، وهذه اللوحة هي أول مثال لاستخدام نقطة تلاشٍ متسقة.«القديس بطرس شفاء أحد الأشخاص وبعث تابيثا من الموت» ماسولينو دي بانيكال. اعتمد الرسم الغربي قبل القرن العشرين على الحيل البصرية لخلق واقع افتراضي. إحدى هذه الحيل هي المنظور الخطي، وهذه اللوحة هي أول مثال لاستخدام نقطة تلاشٍ متسقة.
paragraph
Arabic
ar
الفنّ التجريدي: بين الماضي والحاضر - منصة معنى الثقافية
https://mana.net/abstract-art/
1,838
إحدى هذه الحيل هي المنظور الخطي، وهذه اللوحة هي أول مثال لاستخدام نقطة تلاشٍ متسقة.«
sentence
«القديس بطرس شفاء أحد الأشخاص وبعث تابيثا من الموت» ماسولينو دي بانيكال. اعتمد الرسم الغربي قبل القرن العشرين على الحيل البصرية لخلق واقع افتراضي. إحدى هذه الحيل هي المنظور الخطي، وهذه اللوحة هي أول مثال لاستخدام نقطة تلاشٍ متسقة.«القديس بطرس شفاء أحد الأشخاص وبعث تابيثا من الموت» ماسولينو دي بانيكال. اعتمد الرسم الغربي قبل القرن العشرين على الحيل البصرية لخلق واقع افتراضي. إحدى هذه الحيل هي المنظور الخطي، وهذه اللوحة هي أول مثال لاستخدام نقطة تلاشٍ متسقة.
paragraph
Arabic
ar
الفنّ التجريدي: بين الماضي والحاضر - منصة معنى الثقافية
https://mana.net/abstract-art/
1,839
القديس بطرس شفاء أحد الأشخاص وبعث تابيثا من الموت» ماسولينو دي بانيكال.
sentence
«القديس بطرس شفاء أحد الأشخاص وبعث تابيثا من الموت» ماسولينو دي بانيكال. اعتمد الرسم الغربي قبل القرن العشرين على الحيل البصرية لخلق واقع افتراضي. إحدى هذه الحيل هي المنظور الخطي، وهذه اللوحة هي أول مثال لاستخدام نقطة تلاشٍ متسقة.«القديس بطرس شفاء أحد الأشخاص وبعث تابيثا من الموت» ماسولينو دي بانيكال. اعتمد الرسم الغربي قبل القرن العشرين على الحيل البصرية لخلق واقع افتراضي. إحدى هذه الحيل هي المنظور الخطي، وهذه اللوحة هي أول مثال لاستخدام نقطة تلاشٍ متسقة.
paragraph
Arabic
ar
الفنّ التجريدي: بين الماضي والحاضر - منصة معنى الثقافية
https://mana.net/abstract-art/
1,840
إحدى هذه الحيل هي المنظور الخطي، وهذه اللوحة هي أول مثال لاستخدام نقطة تلاشٍ متسقة.
sentence
«القديس بطرس شفاء أحد الأشخاص وبعث تابيثا من الموت» ماسولينو دي بانيكال. اعتمد الرسم الغربي قبل القرن العشرين على الحيل البصرية لخلق واقع افتراضي. إحدى هذه الحيل هي المنظور الخطي، وهذه اللوحة هي أول مثال لاستخدام نقطة تلاشٍ متسقة.«القديس بطرس شفاء أحد الأشخاص وبعث تابيثا من الموت» ماسولينو دي بانيكال. اعتمد الرسم الغربي قبل القرن العشرين على الحيل البصرية لخلق واقع افتراضي. إحدى هذه الحيل هي المنظور الخطي، وهذه اللوحة هي أول مثال لاستخدام نقطة تلاشٍ متسقة.
paragraph
Arabic
ar
الفنّ التجريدي: بين الماضي والحاضر - منصة معنى الثقافية
https://mana.net/abstract-art/
1,841
يبقى الفن التجريدي، إلى حدٍ ما، ضمن إطار التجربة الجمالية. فقد سعت حركات الفن الحديث التي أدت إلى التجريد -أيّ «مدارس الفن»، مثل الانطباعية والفاوفية والتكعيبية- إلى تمثيل العالم بشكل مختلف عن كل الفنون التي سبقتها. إذْ ادعوا الاقتراب من الحقيقة الذاتية عبر تهميش جميع الحيل الوهمية التقليدية التي حاولت إعادة إنتاج الواقع بحذافيره كحقيقة موضوعية.
paragraph
لا توجد منتجات في سلة المشتريات. No Result عرض جميع النتائج الثلاثاء, سبتمبر 10, 2024 No Result عرض جميع النتائج No Result عرض جميع النتائج # الفنّ التجريدي: بين الماضي والحاضر ## ترجمة: أنطونيوس نادر AA AA إعادة تعيين فنٌ مليء بالتحديات ثمّة خطٌ رفيع يفصل بين الفن التجريدي ومجرد الزخرفة، ولوحة «رقم 32» (نُشرت عام 1950)، لجاكسون بولوك تتأرجح بين هذا الخطّ. فهي لا تشير إلى معنىً واضح، ولكن لا يمكن القول إنّها بلا معنى على الإطلاق. كما أنّها ليست معبّرة بشكلٍ مباشر، ولا يعني هذا أنها لا تعبّر عن مدلولٍ ما. تحمل هذه اللوحة الكثير من المضامين عن الفن الغربي بالنسبة إلى شخصٍ خبيرٍ في تاريخ الفن؛ أما بالنسبة إلى شخصٍ عادي، فقد يراها عملًا مبتذلًا بالكاد يعبّر عن أمرٍ ما. اللوحة شبكة من الخطوط وبقعٍ من الألوان، رُسمت عن طريق صبّ طلاءٍ رخيص بعشوائيةٍ مباشرة على القماش. تتكون اللوحة من طلاءٍ أسود فقط وقماشٍ خام. واللوحة ضخمة؛ إذ يبلغ طولها تسعة أقدام وعرضها خمسة عشر قدمًا، وتغطي مجال رؤية المشاهد أثناء اقترابه منها. تقليديًّا، حتى اللوحات التجريدية تتكون من أجزاءٍ مترابطة مع بؤر تركيز (emphases) وعمقٍ يُنقل من خلال اللون والظلال، ولكن «رقم 32» ليس لها أجزاء؛ إنّها تتكون من تعالقات، والبؤرة فيها تكمن عبر امتداد سطح القماش المستطيل. يمنحها ما سبق عمقًا سطحيًا، وربما لا عمق فيها: مجرّد طلاء على قماش. إنّها عبث بالشكل واللون. حتى اسمها، ببساطة رقمٌ معيّن – رقم 32 – يجعلها تنأى بنفسها عن أي فكرة مفادها أنها تعكس مدلولًا محدّدًا. تشير عناوين أعمال بولوك الأخرى إلى نوعٍ من الاختبار الشخصي، وإلى الاستخدام السمفوني المتعدد الطبقات للون والملمس؛ خذ مثلًا لوحاته التي تحمل اسم: «إيقاع الخريف»، و«الضباب الأرجواني»، و«الأقطاب الزرقاء»، و«انعكاس الدنقلة الكبير». هذا لا ينطبق على لوحة «رقم 32»؛ شكلها الخام وبساطتها دليل على أنّ الفنان لم يخطط مسبقًا لرسمها؛ أيّ أنّه لم ينتق الألوان ولا الطبقات. يبدو بولوك هنا أكثر حضورًا، من خلال لمساته الحادة. بالنسبة إلى مؤيديّ عمل بولوك، تختصر هذه اللوحة خلاصة نظرة الفنان الجمالية. أما بالنسبة للبعض الآخر، فهي لوحة مبتذلة. وصف جوزيف بويس -النحات الألماني في فترة ما بعد الحرب- الفنَّ التجريدي الأمريكي بأنه مجرد «تغليف»، أيّ سطح بلا محتوى. في هذا الصدد، قد يتفق البعض أن لوحة «رقم 32» تجسد فراغ الفكر والشعور ذاك. فقد رأى الروائي والناقد الفني روبرت كوتس أن فن بولوك لم يكن سوى «انفجارات» غير منظمة من الطاقة العشوائية. غير أنّ طائفة كبيرة من متذوقي الفن التجريدي لا تروق إليهم أعمال بولوك ويرونها فنًّا محيرًا، حتى إنّ بعضهم يراها إهانةً للذوق أو الحسّ السليم. عُرف بولوك بلقب: «جاك فنان النقط» (Jack the Dripper) [1] في الأوساط الإعلامية المشككة بعمله حيث ادعى كثر أن أيّ شخص يمكنه أن يرسم كما يرسم بولوك إلّا أنّ أحدًا لم يتجرأ على فعل ذلك. «رقم 32» - جاكسون بولوك«رقم 32» – جاكسون بولوك بيد أنّ هذا هو مغزى الفن التجريدي في التقليد الغربي: إنّه تحدّ. وفي ظل الكثير هذه التحديات، تُعد لوحة « رقم 32» اللوحة الأكثر تمثيلًا لهذا الفن. قصة الفنّ التجريدي مسار قصة الفن التجريدي مضمّنة في الدراسات التاريخية الفنية، إلّا أنّ المحطات الرئيسة لهذا المسار كانت محط تغييرات مفاجئة كلما اكتشف مؤرخوّ الفن حقائق جديدة. انطلق مسار الفن التجريدي بدءًا من القرن التاسع عشر وما تلاه؛ حيث استفاد الفنانون من مادة الطلاء والجوانب الشكلية للرسم مثل اللون والدرجة والخطوط. يُعرف هذا الانشغال بالجوانب غير التمثيلية (non-representative) للفن باسم «الشكلانية»، لأنّه انشغال «بالشكل»، أيّ بتوسل شكل المحتوى بدلًا من المحتوى في ذاته. بالنسبة إلى الفنانين في القرن التاسع عشر، صُنّف الفن التجريدي على أنّه «فنٌّ من أجل الفنّ»، وكانت الفكرة الشائعة مفادها أنّ المتذوق للفن يمكنه الاستمتاع بالعمل دون اللجوء إلى معنى أو حتى أي شيء آخر يمثل أمرًا ما. تمثّل لوحة «الموسيقى الهادئة باللّونين الأسود والذهبي – الصاروخ الساقط» (1872)، للفنان جيمس مكنيل ويسلر هذا الاتجاه الذي تبلور لاحقًا في الفن التجريدي.  إنّ مشهد ويسلر الغامض من الناحية المكانيّة يقترب إلى التجريد، وذلك بمحاولته نقل الشعور أو الانطباع الخاص بالمشهد بدلًا من إعادة إنتاجه بحذافيره. «الموسيقى الهادئة باللونين الأسود والذهبي - الصاروخ الساقط» (1872-1877) - جيمس أبوت مكنيل ويسلير«الموسيقى الهادئة باللونين الأسود والذهبي – الصاروخ الساقط» (1872-1877) – جيمس أبوت مكنيل ويسلير في عام 1877، انتقد جون روسكين – أبرز نقّاد بريطانيا في ذلك الوقت – عمل ويسلير هذا نقدًا لاذعًا فشبهه «بمن قام برمي الطلاء في وجه الجمهور». تأثر ويسلر بهذا الكلام، فرفع دعوى قضائية ضد روسكين، بيد أنّه خسرها لأن المسؤولين عرضوا اللوحة -خطأً- مقلوبةً على المحكمة. أفلس ويسلير بسبب هذه القضية، لكن مسيرة تطور الفن التجريدي استمرت. من ناحيةٍ أخرى، تحديد أول فنان تجريدي في العالم موضوع نزاع. في نظر أبحاث تاريخ الفن التقليدية، كان فاسيلي كاندينسكي – فنان روسي الجنسية رسم لوحات تجريدية بالكامل في مطلع عام 1911- هو أول فنان تجريدي. لم ينل الفن التجريدي الرائد لهيلما أف كلينت تقديرًا إلا قبل سنوات قريبة. هذه صورة للمعرض الشهير في  متحف غاغينهايم، عام 2018 .لم ينل الفن التجريدي الرائد لهيلما أف كلينت تقديرًا إلا قبل سنوات قريبة. هذه صورة للمعرض الشهير في  متحف غاغينهايم، عام 2018 . ولكن في الآونة الأخيرة، وبفضل المعرض الرائد في متحف مقاطعة لوس أنجلوس للفنون في عام 1986 الذي حمل اسم «الروحانية في الفن: الرسم التجريدي 1890 – 1985»، وقع الاختيار على هيلما أف كلينت كأول رسامة تجريدية. بدأت كلينت في رسم لوحات تجريدية بدءًا من عام 1906، وحملت مجموعتها عنوان «الفوضى البدائية». كانت الفنانة متكتمة في ما يتعلق بأعمالها التجريدية، ولم تُعرض أيّ منها في معارض عامة، وبقيت غير معروفة حتى أزيح عنها الستار مؤخرًا. ولعل الجدال حول هوية أول من مارس الفن التجريدي سيستم، لكن الحقيقة الأكثر أهمية هي أن العديد من الفنانين الأوروبيين البارزين قد توصّلوا في أعمالهم إلى التجريد بحلول الحرب العالمية الأولى. لقد وجد كل منهم طريقته الخاصة في التخلي عن الفن التشخيصي (figurative painting). وجديرٌ بالذكر أنّه لم تكن هناك حركة «تجريدية» دولية ذات رؤية أو بيان مشترك. في ضوء ذلك، فإن السؤال الملحّ حقًا هو: لمَ لمْ يتبنى الفنانون الغربيون الفن التجريدي على امتداد قرون عديدة؟ لماذا كان التجريد غير ضروري أو لا معنى له أو غير مناسب أو حتى لا يمكن تقبّله لقرونٍ متوالية في الفن الغربي؟ ظهرت العديد من التفسيرات لشرح ذلك. إحدى النظريات الأكثر وضوحًا هي أن ظهور التصوير الفوتوغرافي بوصفه شكلًا من أشكال الفن، إضافةً إلى تطور الفن الحديث، سببان رئيسان لإزاحة الرسم التشخيصي. ثمّة إجابات أخرى غير ملموسة لاستكشاف الأسباب: ربما عندما أصبحت الأعمال الفنية قابلة للاستهالاك بشكل متزايد، مثل السلع، بات من السهولة فصل اللوحات والمنحوتات عن التجارب المحددة لمبدعيها. ربما أدت الحداثة في الغرب إلى إفراغ الفن من المحتوى التشخيصي؛ مما دفع الفنانين أيضًا إلى التخلي عن التمثيل التشخيصي. كل من هذه الإجابات معقدة وتتطلب الكثير من الشرح، ولا يمكن إلا أن تكون تخمينات. لا توجد إجابة واضحة لهذه المسألة. ربما يكون من الأفضل طرح السؤال حول سبب تقبّل الفن التجريدي فنًّا من الفنون الرسمية في تاريخ الفن الغربي في مرحلة معينة على علماء الأنثروبولوجيا بدلًا من طرحها على مؤرخي الفن. فما هو واضح أن الفن التجريدي كان موجودًا دائمًا في مناطق أخرى من العالم. ما جعل الفن التجريدي فنًّا حديثًا على وجه التحديد في العالم الغربي هو نظام المعارض، الذي أعطى القيمة الفنية للأعمال المعروضة. وكما هو واضح فقد ازدهر التجريد لآلاف السنين المناطق الشرقية والجنوبية من العالم، دون عناء التحقق من مكانة الأعمال المعروضة في الصالونات [والمعارض، كما هو في العالم الغربي]. الواقع الافتراضي و«الافتراضية» يتبنى بيبي كرمل وهو مؤرخ فني، في كتابه « الفن التجريدي: تاريخ عالمي»، فكرة أنّ الفن التجريدي كان دائمًا موجودًا بشكل طبيعي عندما ننظر إليه نظرة شاملة وعالمية، بيد أنّه يتحاشى طرح نظرية عن تطور الفن التجريدي. بالنسبة إلى كرمل، فإنّ هذا الفنّ متجذر في العالم الحقيقي، وهو ليس فنًّا «مجردًا» على الإطلاق، كما أنّه تقليد عالمي وليس محليًا. في دراسته حول الفن التجريدي يقسم العمل الفني إلى خمس فئات واسعة تنتمي إلى العالم الحقيقي: الأجسام، والمناظر الطبيعية، والكون، والبنى، والعلامات والأنماط. من خلال فحص الفن التجريدي بهذه الطريقة، يرى كرمل في اللوحات التجريدية موضوعات قابلة للتحليل، بعكس النقاد والمؤرخين الأرثوذكسيين الذين رأوا فيها مجرّد توليفات شكلية مكوّنة من لون وشكل. ربما يكون من الأفضل أن يطلق على الفن التجريدي: فن ما تم تجريده (abstracted art)؛ لأنّ الفنانين التجريديين عادةً ما يستخلصون ويجرّدون تعبيرات التجارب في شكل ولون،  أكثر من كونها توليفات مكونة من شكل ولون. ومرّد ذلك الطبيعة الجوهرية للرسم والنحت؛ فهما (الشكل اللّون) وسيطان للتعبير، مثل الشاشة أو المسرح لخيال الفنان. كما هو الحال في المسرح أو السينما، فإنّ جمهور اللوحة أو المنحوتة يعلّق معتقداته من أجل أن يتقبل المشهد. من المفيد التفكير في اللوحة التشخيصية التقليدية أو النحت على أنها حقيقة افتراضية. إذْ استخدم الفنانون لقرون عديدة الحيل البصرية -مثل المنظور الخطي، والتقصير المسبق، والتظليل- لمحاكاة الطريقة التي ندرك بها الأشياء في الفضاء الحقيقي. إنّ المشاهد تُنشأ في فضاء افتراضي – سواء كانت القاعدة التي تدعم التمثال أو القماش – ليراها المشاهدون بوصفها خدعة بصرية. «القديس بطرس شفاء أحد الأشخاص وبعث تابيثا من الموت» ماسولينو دي بانيكال. اعتمد الرسم الغربي قبل القرن العشرين على الحيل البصرية لخلق واقع افتراضي. إحدى هذه الحيل هي المنظور الخطي، وهذه اللوحة هي أول مثال لاستخدام نقطة تلاشٍ متسقة.«القديس بطرس شفاء أحد الأشخاص وبعث تابيثا من الموت» ماسولينو دي بانيكال. اعتمد الرسم الغربي قبل القرن العشرين على الحيل البصرية لخلق واقع افتراضي. إحدى هذه الحيل هي المنظور الخطي، وهذه اللوحة هي أول مثال لاستخدام نقطة تلاشٍ متسقة. يستمتع مشاهدوّ الأعمال الفنية العظيمة معنى ما يُرسم، ويقدرون الطريقة التي يتجلّى فيها الوهم عبر تمازج اللون والشكل. يبقى الفن التجريدي، إلى حدٍ ما، ضمن إطار التجربة الجمالية. فقد سعت حركات الفن الحديث التي أدت إلى التجريد -أيّ «مدارس الفن»، مثل الانطباعية والفاوفية والتكعيبية- إلى تمثيل العالم بشكل مختلف عن كل الفنون التي سبقتها. إذْ ادعوا الاقتراب من الحقيقة الذاتية عبر تهميش جميع الحيل الوهمية التقليدية التي حاولت إعادة إنتاج الواقع بحذافيره كحقيقة موضوعية. «الأحمر والأصفر والأزرق» (1925) واسيلي كاندينسكي.  كان كاندينسكي يعدّ لفترةٍ طويلة أب الرسم التجريدي الغربي.«الأحمر والأصفر والأزرق» (1925) واسيلي كاندينسكي.  كان كاندينسكي يعدّ لفترةٍ طويلة أب الرسم التجريدي الغربي. بالنسبة إلى هذه المدارس، أصبح الفن أقل من أن يوصف بأنّه واقع افتراضي، لكنه مع ذلك احتفظ بالافتراضية، وأصبح افتراضيًا. لقد أخذ الفن التجريدي مسار التطور هذا إلى أقصاه: من الواقع الافتراضي إلى الافتراضية. ماذا تعني «الافتراضية» هنا؟ إنّها الوجود كجوهر وتأثير، ولكن بدون اللجوء إلى الواقع. اللوحة التجريدية التي رسمها كاندينسكي، على سبيل المثال، ما زالت تُعدّ علاقة متبادلة بين الشكل واللون، و تعتمد على الرسم كمستوى تخطيطي: إنها نافذة تطلّ على «الواقع» الفردي الذي تصوّره كاندينسكي. وما تزال العناصر في لوحات كاندينسكي تحظى بعلاقة متبادلة، كما هو الحال في فضاء الواقع الافتراضي للوحة التشخيصية؛ فجوهر الرسم سليم إذ إنّ ذلك الفضاء الافتراضي ما زال موجودًا. عندما يكون الفن التجريدي بناءً خالصًا، ويتخلص من المساحة الافتراضية الملازمة للرسم والنحت، يصبح متميزًا عنهما. وصف دونالد جود الفنان التخفيفي (minimalist) مثل هذه الأعمال الفنية بأنها «أجسام محدّدة» (Specific Objects). إنّه مصطلح غير دقيق، ولكنه يصلح لإظهار أن مثل هذه الأعمال الفنية ليست رسمًا ولا نحتًا، ولكنها فئة أخرى تمامًا. رأى دونالد جود أن أعماله وأعمال العديد من معاصريه تشغل مساحة هجينة، لا هي لوحات ولا هي نحت. عمل دون عنوان لدونالد جود. استخدم جود هذا المصطلح لوصف أعماله الخاصة، ولكنه ينطبق على لوحات كازيمير ماليفيتش وفرانك ستيلا أحادية اللون، والتي تجعل اللوحة تندمج مع نفسها بالكامل، من أجل الوصول للتأثير الذي يأمل العمل في تحقيقه. في مثل هذه الأعمال، لم يعد قماش اللّوحة (أو القاعدة) سطحًا تتفاعل فيه الأشكال والألوان في الفضاء الافتراضي. بدلاً من ذلك، تتفاعل الأشكال والألوان في الفضاء الحقيقي، في فضائنا. تختلف معايير النجاح أو الفشل لهذه الأعمال عن الخصائص التقليدية للرسم والنحت. رأى جود أنّ خصائص الرسم والنحت تقف في طريق ما أراد تحقيقه من خلال اللون والشكل. في رأيه، كان لـ «أجسامه المحددة» تأثيرًا أحدّ من غيرها. الواقع والأشكال الجديدة للإدراك الحسّي الرسم نفسه له ثلاثة أنواع عامة من التجريد؛ أولًا، ثمّة أسلوب تعبيري تُرسم فيه الأشكال بحركاتٍ غير مقيدة؛ ثم هناك التجريد الهندسي حيث يتم هيكلة الأشكال؛ أما النوع الثالث، فهو تجريد مجال اللون حيث يتم عرض مساحات من الألوان بطريقةٍ لا شكل واضح لها. لم تكن هذه «الأنماط» (styles) أنماطًا عرضيةً أو تعتمد على ذوق أو ميل الرسام كوسيلة لتحقيق هدفٍ ما من البحث الفني. وخير مثال على ذلك هو الفنان الذي غالبًا ما ينظر إلى عمله على أنّه ذروة التجريد الهندسي: بيت موندريان. إنّ لوحات بيت موندريان المكونة من شبكات (grids) ذات الخطوط السوداء والأجزاء الملونة على خلفية بيضاء؛ تهدف إلى استحضار «حقيقة أعلى». بالنسبة إلى موندريان، كان الفن في جوهره معارضًا للواقع؛ «لأن الواقع يتعارض مع الروحي». بغض النظر عن هذه اللوحة الأشهر لموندريان، فإنّ جوانب الرسم التي تهم هذا الفنان حقًا لم تكن الجوانب المحددة للموضوع -أيّ ماذا أو ما يتم تصويره في اللوحة مثلًا- بل الجوانب القابلة للفهم عالميًا للشكل والخط واللون. إنّ لوحات موندريان، مثلها مثل لوحات الفنانين الآخرين، هي محاولة لاستخلاص الشكل واللون من أجل الاقتراب من ذلك الجوهر العالمي والروحي للفن. عبّر موندريان عن رغبته في الوصول إلى «أساس» الأشياء من خلال الحدس، كالعديد من الفنانين التجريديين الآخرين في النصف الأول من القرن العشرين الذين رغبوا في الوصول إلى قوى غير مرئية حولنا، ولكنها معروفة أو محدوسة. «التكوين الثاني باللون الأحمر والأزرق والأصفر» (1930) - بيت موندريان«التكوين الثاني باللون الأحمر والأزرق والأصفر» (1930) – بيت موندريان في أواخر القرن التاسع عشر، لاحظ العلماء بشكلٍ أفضل مما سبق القوى غير المرئية مع انتشار التقنيات الجديدة، وأصبح من الواضح أن العالم أرحب مما يبدو للعين. في الوقت نفسه، ظهرت حركات روحية بديلة جمعت بين الأفكار الأفلاطونية والتصوف. كان كلينت وموندريان من بين العديد من الفنانين الذين انغمسوا في أشكال الروحانية خارج العوالم التقليدية للدين. اعتقدت كلينت أن لوحاتها هي وحي عالم روحي، وأن مهمتها كانت العمل «على مستوى روحاني» لتمثيل روح الإنسان، بدلًا من صورته الفانية. بحلول عشرينيات القرن الماضي، كانت نظرية فرويد عن للعقل البشري قد تغلغلت أيضًا في عالم الفن.  كذلك السريالية، وهي حركة منظمة بإحكام بدأت مع بعض الفنانين الذين سعوا إلى التنقيب عن الإمكانات الإبداعية للعقل الباطن، وهي الحركة الثقافية التي كانت سائدة في أوروبا بين الحربين العالميتين. لم تكن السريالية دوغمائية في محاولتها لاستكشاف اللاوعي، ولذلك ظهر عدد من الأساليب والطرق لمحاولة إخراج اللاوعي إلى السطح. إحدى هذه الأساليب كان الرسم الآلي (Automatism)، وهي عملية يتخلى فيها الفنان عن السيطرة الواعية لليد التي ترسم  أو تصور. في هذا المجال، تبنى الفنانون مثل أندريه ماسون وخوان ميرو الفرصة لبناء صورهم باستخدام حركات حرّة، وحتى إلقاء الطلاء على القماش. طور أرشيل غوركي -هو مهاجر أرمني عاش في الولايات المتحدة- أسلوبًا في الرسم يدمج بين الرسم الآلي وتجريد مجال الألوان. لوحاته في الأربعينيات حجمُها ضخم – ومرد ذلك تأثره بأعماله السابقة كفنان جداري مُعيّن من الدولة خلال السنوات الأخيرة من الكساد الكبير – لكنها معبّرة وغنائية في الرسم بالفرشاة. ألهم إدماج غوركي للأنماط جيلًا واسعًا من الفنانين الأمريكيين في فترة ما بعد الحرب لاحتضان التجريد الواسع النطاق. ما نسميه الآن «التعبيرية التجريدية»، وكان ذاك الجيل في الواقع مجموعة فضفاضة من الفنانين الذين يستخدمون أنماطًا متعدّدة من أنماط التجريد. ربما كان القاسم المشترك بين هؤلاء الفنانين – على الأقل في السنوات الأولى – هو دعم جيل جديد من النقاد بقيادة كليمنت غرينبيرغ، الذي كان يعتقد أن التجريد هو التعبير الأسمى للفن الغربي. «الكبد هو مشط الديك» (1944) - أرشيل جوركي.«الكبد هو مشط الديك» (1944) – أرشيل جوركي. الحداثة ومصير الفنّ الغربي كان يُعتقد في بعض الأوساط الفكرية المؤثرة أنّ الفن يتقدم نحو هدف؛ وهذا المضمون يشتمل عليه مصطلح «الطليعية» (Avant-garde)، الذي يُوصف به الفنّانون الذين يبتكرون أرضية جمالية جديدة. أصل المصطلح فرنسي يُطلق على الجنود الذين يتقدمون إلى مناطق جديدة. بالنسبة إلى غرينبيرغ، لم يكن هؤلاء الفنّانون يوسّعون حدود إمكانات الفن؛ بل كانوا يتقدمون نحو الهدف الحقيقي والمفرد لكل شكل فني. يُعدّ غرينبيرغ شخصية مهمة في تاريخ الفن التجريدي، وذلك لأمرين: بوصفه مناصرًا رائدًا في مسألة تفوق الفن التجريدي على غيره من أنواع الرسم، وتأكيده للقوة التي امتلكها هذا الفن. كان ناقدًا في اللجنة الأمريكية للحريّة الثقافية التي تمولها الدولة، وهي مجموعة تم إنشاؤها لتعزيز الفن الأمريكي على المستوى الدولي. أصبحت أفكار غرينبيرغ مؤثرة عندما كانت الولايات المتحدة جزءًا من الحرب على الفاشية والنازية، وخلال الحرب الباردة اللاحقة ضد الشيوعية السوفيتية. كانت معايير الفن الفاشي والسوفياتي واضحة، وهي ما تحددها السلطات الثقافية أنها كذلك، بيد أنّه ما لم يكن واضحًا هو معايير الفن «الجيد» وتحديدًا في الغرب الديمقراطي. كان الماركسيون هم من تعاطف مع غرينبيرغ في البداية، لكن ارتبط تفكيره بشكلٍ متزايد بالهيمنة الثقافية الأمريكية. بالنسبة إليه، كان التجريد في أعمال بولوك فنًا مثاليًا لمجتمع ديمقراطي. تتجلى الحداثة في الفن، وفقًا لغرينبيرغ، في إطار التنوير الأوروبي؛ أيّ في فترة ازدهار الأفكار الفلسفية والعلمية التي أعطت الأولوية للعقل. في مقالته المؤثرة « الرسم الحداثي» (1961)، وصفَ غرينبيرغ إيمانويل كانط – الفيلسوف الألماني في عصر التنوير – بأنّه «أول حداثي حقيقي». كان أسلوب كانط في «النقد» هو استخدام العقل لنقد العقل بغرض توضيحه، ومنحه استقلالية عن أنواع التفكير الأخرى. «أولمبيا» - إدوارد مانيه (1863). بالنسبة إلى كليمنت غرينبيرغ، كان مانيه أول رسام حداثي. لقد رسم مانيه لوحاته بأسلوبٍ مسطّح بشكلٍ متعمد.«أولمبيا» – إدوارد مانيه (1863). بالنسبة إلى كليمنت غرينبيرغ، كان مانيه أول رسام حداثي. لقد رسم مانيه لوحاته بأسلوبٍ مسطّح بشكلٍ متعمد. بالطريقة نفسها، كان الرسامون الحداثيون – من إدوارد مانيه في القرن التاسع عشر إلى موريس لويس، وهو رسام يعمل ينتمي إلى رسامي أسلوب مجال ألوان في الولايات المتحدة في الوقت الذي كتب فيه غرينبيرغ مقالته – يعملون على ترسيخ الفن التعبيري «بشكل صارم في مجال تخصصه». رأى غرينبيرغ أن وضوح الفن التجريدي -الذي كان صادقًا بالنسبة إلى الوسيط الذي يُعبّر من خلاله- معارضٌ لـ«الفن الشعبي المبتذل [الكيتش]» الذي ينُتج على نطاق واسع في الثقافة الشعبية. إن إزالة «الكيتش» كانت مسألة استجلاء وتوضيح تحتاجها جميع الفنون لكي تصبح تعبيرًا عن إمكاناتها الجمالية الكامنة. اللوحات مسطّحة، وإيهام العمق الذي نجده في معظم الفن الغربي كان انحرافًا عن جوهر فن الرسم ذاته. كانت استقلالية الشكل الفني في جميع خصائصه دون أن تتلوث بأشكال فنية أخرى. وفقًا لغرينبيرغ، يعدّ الشكل واللون من أهم خصائص الرسم، و أفضل تمثيل لها يكون بشكلٍ مسطّح. وهكذا دافع غرينبيرغ عن «التسطيح» الذي تجلّى في لوحات الفنانين الأمريكيين التجريدية مثل جاكسون بولوك باعتباره تحقيقًا لهذا الوضوح الحداثي. لقد ضم هؤلاء الفنانين معًا ضمن فريق واحد، وهم يمثّلون المرحلة التالية في الحداثة، وقد حلّت رؤيتهم الأمريكية المميزة محلّ الفن الأوروبي الطليعي. وفي الوقت الذي أصبح فيه الفن التجريدي الأمريكي مهيمنًا، تراجعت هيمنة غرينبيرغ النقدية، وظهرت أشكال جديدة من الفن الطليعي، مستوحاة مباشرة من الثقافة الجماهيرية، وحلّت محلّ التعبيرية التجريدية في المخيال العام. تبنى فنانوّ «البوب» مثل: آندي وارهول، وريتشارد هاميلتون هذا النوع من «الفن الشعبي المبتذل» الذي رآه غرينبيرغ تلويثًا للفن الحقيقي. استمرت الأعمال الفنية التجريدية، ولكن تخلّى الفنّانون التجريديون الأكثر جرأة عن الفكرة الصارمة «للنقد الحداثي»، وعن الوضوح المتعلق بخصوصية الوسيط الفني، وذلك لصالح أشكال أخرى من التعبير. نظر فنانوّ «ما بعد الحداثة» إلى السخرية وعملية الرسم نفسها، كطرق لتجاوز الطريق المسدود للحداثة. تبنى الألماني غيرهارد ريختر كلا النهجين؛ فبعض أعماله التجريدية في الستينيات كانت مصنوعة بممسحاتٍ بدلًا من الفرشاة، حتى يتمكن من لفت الانتباه إلى عملية صنع اللوحة نفسها. كانت «اللوحات التجريدية» البارزة الأخرى التي رسمها ريختر في الواقع صورًا واقعية مرسومة بعناية تعكس لوحاته التجريدية الأخرى. أصبحت طلائعية الرسم التجريدي مفهومية أكثر، ما جعل ضمنيًّا قضية الرسم تحظى باستقلالية أقل مما كان كان يعتقد النقاد الحداثيون. قلّد فنانوّ «نيو جيو»، مثل: الرسام بيتر هالي، والنحات أشلي بيكرتون اللغة البصرية للتجريد الهندسي، لكنهما دمجاها مع السلع الاستهلاكية بألوانٍ تجارية فاتحة وأحيانًا فلورية. منذ ذلك الجيل ما بعد الحداثي من الرسامين والنحاتين الممتد من الستينيات إلى التسعينيات، ازدهر التجريد متفرّعًا إلى عددٍ لا يُحصى من الأساليب والمقاربات بجوار الفن التشخيصي. هنا يمكن القول إنّ التجريد المتحرّر من عبء التوقعات الحداثية هو ببساطة نهج للتعبير مثل أيّ نهج آخر. وتجدر الإشارة إلى أنّ بعض الفنانين التجريديين استخدموا الحيل البصرية المستعملة في الفن التشخيصي – مثل المنظور والتظليل – في لوحاتهم. ولاستخدامهم هذا أهداف فريدة و غالبًا لا تهتم بالنظرية. قلّد فنانوّ «ما بعد الحداثة» مثل: بيتر هالي اللغة البصرية المستعملة في الفن التجريدي الحديث (في حالة بيتر، التجريد الهندسي)، للتعليق على طبيعة الفن والمعنى نفسه. تمثّل هذه الكتل الملونة «الخلايا» و«الأنابيب».قلّد فنانوّ «ما بعد الحداثة» مثل: بيتر هالي اللغة البصرية المستعملة في الفن التجريدي الحديث (في حالة بيتر، التجريد الهندسي)، للتعليق على طبيعة الفن والمعنى نفسه. تمثّل هذه الكتل الملونة «الخلايا» و«الأنابيب». هذا هو التحرّر نحو الأفضل بين الرسامين التجريديين الذين يمكنهم الالتزام برؤيةٍ فريدة بالرسم على القماش. لكن فكّ ارتباط الفن التجريدي عن إطاره الفلسفي الأوسع أدى أيضًا إلى انتشارٍ يثير التساؤل لأعمال تجريدية متنوعة قابلة للاستهلاك – بمعنى أنّها فقدت قيمتها، وباتت تُباع وتُشترى سريعًا بأسعارٍ مربحة – يشتريها المشترون المتضاربون. دفع هذا التحول الناقد جيري سالتز إلى كتابة: « الزومبي على الجدران: لماذا يبدو الكثير من التجريد الجديد متشابهًا؟». وقد شبه اللّوحات التجريدية بصورة «الزومبي»، تحقيرًا لأعمال عددٍ من الرسامين التجريديين البارزين، الذين استخدموا الفنّ وجماليته لتقديم أعمال مبتذلة. ومن المفارقات أن هؤلاء الفنانين نظروا إلى الشكلانية بوصفها فنًّا حداثيًّا متبنّين منظور غرينبيرغ، لكنهم بالطبع قدّموا أعمالًا في ظلّ فراغ تاريخي وبعد فترةٍ طويلة حين لم يُصبح التجريد مثيرًا للاهتمام أو راديكاليًا بأي وجه من الوجوه. في الواقع، لم يصل مشروع الحداثة  في الفن التجريدي إلى نهايته، بل النقد. إنّ النقد -أيّ الإطار الفلسفي الواسع الذي يصادق على الأعمال الفنية ويثمّنها لأهميتها الثقافية والتاريخية- هو ما فقد التوجه والسلطة. كان مسار الفن الغربي منذ عصر التنوير يتأرجح بين قطبي الدوغمائية النقدية والإبداع. تكمن المشكلة أنه في العقود الأخيرة، وفي ظلّ غياب أي مشروع نقدي متماسك، انجرف الفن نحو إرضاء اهتمامات دقيقة ومتنوعة تزداد باستمرار. في حين كانت هناك «حركات» و«مدارس» فنية -مصطلحان يشيران إلى الوجهة والانضباط- لم يعد لدينا الآن سوى «مشاهد». هذا ليس بالضرورة أمرًا سيئًا. ولكن في عالم حيث «كل شيء مقبول – anything goes»، لا يوجد مجال لهذا النوع من الابتكار والتجاوز الذي أدى إلى ظهور الفن التجريدي في الغرب، وهذا ما جعل الفن الحديث فنًّا مثيرًا للغاية. من الصعب في هذه اللحظة التاريخية أن ندرك ما الذي جعل لوحة بولوك «رقم 32» مثيرة للانقسام، ومخلخلةً جدًا للمعايير، وفي الوقت نفسه محتفظةً بقيمةٍ عالية جدًا لأولئك الذين يعتقدون أن للفنِّ مكانًا في المجتمع يتجاوز المتعة. [divider style=”solid” top=”20″ bottom=”20″] [1] واللقب كذلك يُلمح إلى القاتل المتسلسل في لندن آخر القرن التاسع عشر: جاك السفّاح Jack the ripper (مدير التحرير). ### خارج عقلك | توم تشاتفيلد – ت: محمد السعيد                  عندما يكون هاتفي النقال بين يديّ، هل أكون أنا الشخص نفسه لو كان الهاتف في غرفة أخرى؟ من ناحية،... ### الدراما في التعليم: مقاربات وتطبيقات | نعيم حيماد افتتاحيّة حظي استخدام الدراما في التعليمفي السنوات الأخيرة باهتمام كبير من قبل نخبة من المنظرين والممارسين للدراما في مجال التعليم.... ### الحقائق المخفية | دي بي سي بيير – ت: محمد السعيد       يحمل جبل كلسي خشن في غرب إيران عددًا من النقوش البارزة، من بينها لوحة طولها خمسة وعشرين مترًا منقوشة... ### التغلُّب على كاشف الكذب | كلاريسا سيباغ-مونتِنفيوري – ت: محمد السعيد          حين  اتُّهِمَتْ مربية الأطفال البريطانية لويز وودورد بهزِّ رضيع حتى الموت في مدينة نيوتن بولاية ماساتشوستس، لم تكتفِ بإعلان... ### عن منصة معنى «معنى»، مؤسسة ثقافية تقدّمية ودار نشر تهتم بالفلسفة والمعرفة والفنون، عبر مجموعة متنوعة من المواد المقروءة والمسموعة والمرئية. انطلقت في 20 مارس 2019، بهدف إثراء المحتوى العربي، ورفع ذائقة ووعي المتلقّي المحلي والدولي، عبر الإنتاج الأصيل للمنصة والترجمة ونقل المعارف. ### روابط سريعة ### التصنيفات ### مرحبا بك! قم بتسجيل الدخول إلى حسابك تذكرني ### قم بإنشاء حساب جديد! املأ النموذج أدناه للتسجيل ### طلب إعادة تعيين كلمة المرور يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان البريد الإلكتروني لإعادة تعيين كلمة المرور الخاصة بك. ### Add New Playlist - Select Visibility -PublicPrivate No Result عرض جميع النتائج - 00:00 00:00 - 00:00 00:00
article
Arabic
ar
الفنّ التجريدي: بين الماضي والحاضر - منصة معنى الثقافية
https://mana.net/abstract-art/
1,842
يبقى الفن التجريدي، إلى حدٍ ما، ضمن إطار التجربة الجمالية.
sentence
يبقى الفن التجريدي، إلى حدٍ ما، ضمن إطار التجربة الجمالية. فقد سعت حركات الفن الحديث التي أدت إلى التجريد -أيّ «مدارس الفن»، مثل الانطباعية والفاوفية والتكعيبية- إلى تمثيل العالم بشكل مختلف عن كل الفنون التي سبقتها. إذْ ادعوا الاقتراب من الحقيقة الذاتية عبر تهميش جميع الحيل الوهمية التقليدية التي حاولت إعادة إنتاج الواقع بحذافيره كحقيقة موضوعية.
paragraph
Arabic
ar
الفنّ التجريدي: بين الماضي والحاضر - منصة معنى الثقافية
https://mana.net/abstract-art/
1,843
فقد سعت حركات الفن الحديث التي أدت إلى التجريد -أيّ «مدارس الفن»، مثل الانطباعية والفاوفية والتكعيبية- إلى تمثيل العالم بشكل مختلف عن كل الفنون التي سبقتها.
sentence
يبقى الفن التجريدي، إلى حدٍ ما، ضمن إطار التجربة الجمالية. فقد سعت حركات الفن الحديث التي أدت إلى التجريد -أيّ «مدارس الفن»، مثل الانطباعية والفاوفية والتكعيبية- إلى تمثيل العالم بشكل مختلف عن كل الفنون التي سبقتها. إذْ ادعوا الاقتراب من الحقيقة الذاتية عبر تهميش جميع الحيل الوهمية التقليدية التي حاولت إعادة إنتاج الواقع بحذافيره كحقيقة موضوعية.
paragraph
Arabic
ar
الفنّ التجريدي: بين الماضي والحاضر - منصة معنى الثقافية
https://mana.net/abstract-art/
1,844
إذْ ادعوا الاقتراب من الحقيقة الذاتية عبر تهميش جميع الحيل الوهمية التقليدية التي حاولت إعادة إنتاج الواقع بحذافيره كحقيقة موضوعية.
sentence
يبقى الفن التجريدي، إلى حدٍ ما، ضمن إطار التجربة الجمالية. فقد سعت حركات الفن الحديث التي أدت إلى التجريد -أيّ «مدارس الفن»، مثل الانطباعية والفاوفية والتكعيبية- إلى تمثيل العالم بشكل مختلف عن كل الفنون التي سبقتها. إذْ ادعوا الاقتراب من الحقيقة الذاتية عبر تهميش جميع الحيل الوهمية التقليدية التي حاولت إعادة إنتاج الواقع بحذافيره كحقيقة موضوعية.
paragraph
Arabic
ar
الفنّ التجريدي: بين الماضي والحاضر - منصة معنى الثقافية
https://mana.net/abstract-art/
1,845
«الأحمر والأصفر والأزرق» (1925) واسيلي كاندينسكي.  كان كاندينسكي يعدّ لفترةٍ طويلة أب الرسم التجريدي الغربي.«الأحمر والأصفر والأزرق» (1925) واسيلي كاندينسكي.  كان كاندينسكي يعدّ لفترةٍ طويلة أب الرسم التجريدي الغربي.
paragraph
لا توجد منتجات في سلة المشتريات. No Result عرض جميع النتائج الثلاثاء, سبتمبر 10, 2024 No Result عرض جميع النتائج No Result عرض جميع النتائج # الفنّ التجريدي: بين الماضي والحاضر ## ترجمة: أنطونيوس نادر AA AA إعادة تعيين فنٌ مليء بالتحديات ثمّة خطٌ رفيع يفصل بين الفن التجريدي ومجرد الزخرفة، ولوحة «رقم 32» (نُشرت عام 1950)، لجاكسون بولوك تتأرجح بين هذا الخطّ. فهي لا تشير إلى معنىً واضح، ولكن لا يمكن القول إنّها بلا معنى على الإطلاق. كما أنّها ليست معبّرة بشكلٍ مباشر، ولا يعني هذا أنها لا تعبّر عن مدلولٍ ما. تحمل هذه اللوحة الكثير من المضامين عن الفن الغربي بالنسبة إلى شخصٍ خبيرٍ في تاريخ الفن؛ أما بالنسبة إلى شخصٍ عادي، فقد يراها عملًا مبتذلًا بالكاد يعبّر عن أمرٍ ما. اللوحة شبكة من الخطوط وبقعٍ من الألوان، رُسمت عن طريق صبّ طلاءٍ رخيص بعشوائيةٍ مباشرة على القماش. تتكون اللوحة من طلاءٍ أسود فقط وقماشٍ خام. واللوحة ضخمة؛ إذ يبلغ طولها تسعة أقدام وعرضها خمسة عشر قدمًا، وتغطي مجال رؤية المشاهد أثناء اقترابه منها. تقليديًّا، حتى اللوحات التجريدية تتكون من أجزاءٍ مترابطة مع بؤر تركيز (emphases) وعمقٍ يُنقل من خلال اللون والظلال، ولكن «رقم 32» ليس لها أجزاء؛ إنّها تتكون من تعالقات، والبؤرة فيها تكمن عبر امتداد سطح القماش المستطيل. يمنحها ما سبق عمقًا سطحيًا، وربما لا عمق فيها: مجرّد طلاء على قماش. إنّها عبث بالشكل واللون. حتى اسمها، ببساطة رقمٌ معيّن – رقم 32 – يجعلها تنأى بنفسها عن أي فكرة مفادها أنها تعكس مدلولًا محدّدًا. تشير عناوين أعمال بولوك الأخرى إلى نوعٍ من الاختبار الشخصي، وإلى الاستخدام السمفوني المتعدد الطبقات للون والملمس؛ خذ مثلًا لوحاته التي تحمل اسم: «إيقاع الخريف»، و«الضباب الأرجواني»، و«الأقطاب الزرقاء»، و«انعكاس الدنقلة الكبير». هذا لا ينطبق على لوحة «رقم 32»؛ شكلها الخام وبساطتها دليل على أنّ الفنان لم يخطط مسبقًا لرسمها؛ أيّ أنّه لم ينتق الألوان ولا الطبقات. يبدو بولوك هنا أكثر حضورًا، من خلال لمساته الحادة. بالنسبة إلى مؤيديّ عمل بولوك، تختصر هذه اللوحة خلاصة نظرة الفنان الجمالية. أما بالنسبة للبعض الآخر، فهي لوحة مبتذلة. وصف جوزيف بويس -النحات الألماني في فترة ما بعد الحرب- الفنَّ التجريدي الأمريكي بأنه مجرد «تغليف»، أيّ سطح بلا محتوى. في هذا الصدد، قد يتفق البعض أن لوحة «رقم 32» تجسد فراغ الفكر والشعور ذاك. فقد رأى الروائي والناقد الفني روبرت كوتس أن فن بولوك لم يكن سوى «انفجارات» غير منظمة من الطاقة العشوائية. غير أنّ طائفة كبيرة من متذوقي الفن التجريدي لا تروق إليهم أعمال بولوك ويرونها فنًّا محيرًا، حتى إنّ بعضهم يراها إهانةً للذوق أو الحسّ السليم. عُرف بولوك بلقب: «جاك فنان النقط» (Jack the Dripper) [1] في الأوساط الإعلامية المشككة بعمله حيث ادعى كثر أن أيّ شخص يمكنه أن يرسم كما يرسم بولوك إلّا أنّ أحدًا لم يتجرأ على فعل ذلك. «رقم 32» - جاكسون بولوك«رقم 32» – جاكسون بولوك بيد أنّ هذا هو مغزى الفن التجريدي في التقليد الغربي: إنّه تحدّ. وفي ظل الكثير هذه التحديات، تُعد لوحة « رقم 32» اللوحة الأكثر تمثيلًا لهذا الفن. قصة الفنّ التجريدي مسار قصة الفن التجريدي مضمّنة في الدراسات التاريخية الفنية، إلّا أنّ المحطات الرئيسة لهذا المسار كانت محط تغييرات مفاجئة كلما اكتشف مؤرخوّ الفن حقائق جديدة. انطلق مسار الفن التجريدي بدءًا من القرن التاسع عشر وما تلاه؛ حيث استفاد الفنانون من مادة الطلاء والجوانب الشكلية للرسم مثل اللون والدرجة والخطوط. يُعرف هذا الانشغال بالجوانب غير التمثيلية (non-representative) للفن باسم «الشكلانية»، لأنّه انشغال «بالشكل»، أيّ بتوسل شكل المحتوى بدلًا من المحتوى في ذاته. بالنسبة إلى الفنانين في القرن التاسع عشر، صُنّف الفن التجريدي على أنّه «فنٌّ من أجل الفنّ»، وكانت الفكرة الشائعة مفادها أنّ المتذوق للفن يمكنه الاستمتاع بالعمل دون اللجوء إلى معنى أو حتى أي شيء آخر يمثل أمرًا ما. تمثّل لوحة «الموسيقى الهادئة باللّونين الأسود والذهبي – الصاروخ الساقط» (1872)، للفنان جيمس مكنيل ويسلر هذا الاتجاه الذي تبلور لاحقًا في الفن التجريدي.  إنّ مشهد ويسلر الغامض من الناحية المكانيّة يقترب إلى التجريد، وذلك بمحاولته نقل الشعور أو الانطباع الخاص بالمشهد بدلًا من إعادة إنتاجه بحذافيره. «الموسيقى الهادئة باللونين الأسود والذهبي - الصاروخ الساقط» (1872-1877) - جيمس أبوت مكنيل ويسلير«الموسيقى الهادئة باللونين الأسود والذهبي – الصاروخ الساقط» (1872-1877) – جيمس أبوت مكنيل ويسلير في عام 1877، انتقد جون روسكين – أبرز نقّاد بريطانيا في ذلك الوقت – عمل ويسلير هذا نقدًا لاذعًا فشبهه «بمن قام برمي الطلاء في وجه الجمهور». تأثر ويسلر بهذا الكلام، فرفع دعوى قضائية ضد روسكين، بيد أنّه خسرها لأن المسؤولين عرضوا اللوحة -خطأً- مقلوبةً على المحكمة. أفلس ويسلير بسبب هذه القضية، لكن مسيرة تطور الفن التجريدي استمرت. من ناحيةٍ أخرى، تحديد أول فنان تجريدي في العالم موضوع نزاع. في نظر أبحاث تاريخ الفن التقليدية، كان فاسيلي كاندينسكي – فنان روسي الجنسية رسم لوحات تجريدية بالكامل في مطلع عام 1911- هو أول فنان تجريدي. لم ينل الفن التجريدي الرائد لهيلما أف كلينت تقديرًا إلا قبل سنوات قريبة. هذه صورة للمعرض الشهير في  متحف غاغينهايم، عام 2018 .لم ينل الفن التجريدي الرائد لهيلما أف كلينت تقديرًا إلا قبل سنوات قريبة. هذه صورة للمعرض الشهير في  متحف غاغينهايم، عام 2018 . ولكن في الآونة الأخيرة، وبفضل المعرض الرائد في متحف مقاطعة لوس أنجلوس للفنون في عام 1986 الذي حمل اسم «الروحانية في الفن: الرسم التجريدي 1890 – 1985»، وقع الاختيار على هيلما أف كلينت كأول رسامة تجريدية. بدأت كلينت في رسم لوحات تجريدية بدءًا من عام 1906، وحملت مجموعتها عنوان «الفوضى البدائية». كانت الفنانة متكتمة في ما يتعلق بأعمالها التجريدية، ولم تُعرض أيّ منها في معارض عامة، وبقيت غير معروفة حتى أزيح عنها الستار مؤخرًا. ولعل الجدال حول هوية أول من مارس الفن التجريدي سيستم، لكن الحقيقة الأكثر أهمية هي أن العديد من الفنانين الأوروبيين البارزين قد توصّلوا في أعمالهم إلى التجريد بحلول الحرب العالمية الأولى. لقد وجد كل منهم طريقته الخاصة في التخلي عن الفن التشخيصي (figurative painting). وجديرٌ بالذكر أنّه لم تكن هناك حركة «تجريدية» دولية ذات رؤية أو بيان مشترك. في ضوء ذلك، فإن السؤال الملحّ حقًا هو: لمَ لمْ يتبنى الفنانون الغربيون الفن التجريدي على امتداد قرون عديدة؟ لماذا كان التجريد غير ضروري أو لا معنى له أو غير مناسب أو حتى لا يمكن تقبّله لقرونٍ متوالية في الفن الغربي؟ ظهرت العديد من التفسيرات لشرح ذلك. إحدى النظريات الأكثر وضوحًا هي أن ظهور التصوير الفوتوغرافي بوصفه شكلًا من أشكال الفن، إضافةً إلى تطور الفن الحديث، سببان رئيسان لإزاحة الرسم التشخيصي. ثمّة إجابات أخرى غير ملموسة لاستكشاف الأسباب: ربما عندما أصبحت الأعمال الفنية قابلة للاستهالاك بشكل متزايد، مثل السلع، بات من السهولة فصل اللوحات والمنحوتات عن التجارب المحددة لمبدعيها. ربما أدت الحداثة في الغرب إلى إفراغ الفن من المحتوى التشخيصي؛ مما دفع الفنانين أيضًا إلى التخلي عن التمثيل التشخيصي. كل من هذه الإجابات معقدة وتتطلب الكثير من الشرح، ولا يمكن إلا أن تكون تخمينات. لا توجد إجابة واضحة لهذه المسألة. ربما يكون من الأفضل طرح السؤال حول سبب تقبّل الفن التجريدي فنًّا من الفنون الرسمية في تاريخ الفن الغربي في مرحلة معينة على علماء الأنثروبولوجيا بدلًا من طرحها على مؤرخي الفن. فما هو واضح أن الفن التجريدي كان موجودًا دائمًا في مناطق أخرى من العالم. ما جعل الفن التجريدي فنًّا حديثًا على وجه التحديد في العالم الغربي هو نظام المعارض، الذي أعطى القيمة الفنية للأعمال المعروضة. وكما هو واضح فقد ازدهر التجريد لآلاف السنين المناطق الشرقية والجنوبية من العالم، دون عناء التحقق من مكانة الأعمال المعروضة في الصالونات [والمعارض، كما هو في العالم الغربي]. الواقع الافتراضي و«الافتراضية» يتبنى بيبي كرمل وهو مؤرخ فني، في كتابه « الفن التجريدي: تاريخ عالمي»، فكرة أنّ الفن التجريدي كان دائمًا موجودًا بشكل طبيعي عندما ننظر إليه نظرة شاملة وعالمية، بيد أنّه يتحاشى طرح نظرية عن تطور الفن التجريدي. بالنسبة إلى كرمل، فإنّ هذا الفنّ متجذر في العالم الحقيقي، وهو ليس فنًّا «مجردًا» على الإطلاق، كما أنّه تقليد عالمي وليس محليًا. في دراسته حول الفن التجريدي يقسم العمل الفني إلى خمس فئات واسعة تنتمي إلى العالم الحقيقي: الأجسام، والمناظر الطبيعية، والكون، والبنى، والعلامات والأنماط. من خلال فحص الفن التجريدي بهذه الطريقة، يرى كرمل في اللوحات التجريدية موضوعات قابلة للتحليل، بعكس النقاد والمؤرخين الأرثوذكسيين الذين رأوا فيها مجرّد توليفات شكلية مكوّنة من لون وشكل. ربما يكون من الأفضل أن يطلق على الفن التجريدي: فن ما تم تجريده (abstracted art)؛ لأنّ الفنانين التجريديين عادةً ما يستخلصون ويجرّدون تعبيرات التجارب في شكل ولون،  أكثر من كونها توليفات مكونة من شكل ولون. ومرّد ذلك الطبيعة الجوهرية للرسم والنحت؛ فهما (الشكل اللّون) وسيطان للتعبير، مثل الشاشة أو المسرح لخيال الفنان. كما هو الحال في المسرح أو السينما، فإنّ جمهور اللوحة أو المنحوتة يعلّق معتقداته من أجل أن يتقبل المشهد. من المفيد التفكير في اللوحة التشخيصية التقليدية أو النحت على أنها حقيقة افتراضية. إذْ استخدم الفنانون لقرون عديدة الحيل البصرية -مثل المنظور الخطي، والتقصير المسبق، والتظليل- لمحاكاة الطريقة التي ندرك بها الأشياء في الفضاء الحقيقي. إنّ المشاهد تُنشأ في فضاء افتراضي – سواء كانت القاعدة التي تدعم التمثال أو القماش – ليراها المشاهدون بوصفها خدعة بصرية. «القديس بطرس شفاء أحد الأشخاص وبعث تابيثا من الموت» ماسولينو دي بانيكال. اعتمد الرسم الغربي قبل القرن العشرين على الحيل البصرية لخلق واقع افتراضي. إحدى هذه الحيل هي المنظور الخطي، وهذه اللوحة هي أول مثال لاستخدام نقطة تلاشٍ متسقة.«القديس بطرس شفاء أحد الأشخاص وبعث تابيثا من الموت» ماسولينو دي بانيكال. اعتمد الرسم الغربي قبل القرن العشرين على الحيل البصرية لخلق واقع افتراضي. إحدى هذه الحيل هي المنظور الخطي، وهذه اللوحة هي أول مثال لاستخدام نقطة تلاشٍ متسقة. يستمتع مشاهدوّ الأعمال الفنية العظيمة معنى ما يُرسم، ويقدرون الطريقة التي يتجلّى فيها الوهم عبر تمازج اللون والشكل. يبقى الفن التجريدي، إلى حدٍ ما، ضمن إطار التجربة الجمالية. فقد سعت حركات الفن الحديث التي أدت إلى التجريد -أيّ «مدارس الفن»، مثل الانطباعية والفاوفية والتكعيبية- إلى تمثيل العالم بشكل مختلف عن كل الفنون التي سبقتها. إذْ ادعوا الاقتراب من الحقيقة الذاتية عبر تهميش جميع الحيل الوهمية التقليدية التي حاولت إعادة إنتاج الواقع بحذافيره كحقيقة موضوعية. «الأحمر والأصفر والأزرق» (1925) واسيلي كاندينسكي.  كان كاندينسكي يعدّ لفترةٍ طويلة أب الرسم التجريدي الغربي.«الأحمر والأصفر والأزرق» (1925) واسيلي كاندينسكي.  كان كاندينسكي يعدّ لفترةٍ طويلة أب الرسم التجريدي الغربي. بالنسبة إلى هذه المدارس، أصبح الفن أقل من أن يوصف بأنّه واقع افتراضي، لكنه مع ذلك احتفظ بالافتراضية، وأصبح افتراضيًا. لقد أخذ الفن التجريدي مسار التطور هذا إلى أقصاه: من الواقع الافتراضي إلى الافتراضية. ماذا تعني «الافتراضية» هنا؟ إنّها الوجود كجوهر وتأثير، ولكن بدون اللجوء إلى الواقع. اللوحة التجريدية التي رسمها كاندينسكي، على سبيل المثال، ما زالت تُعدّ علاقة متبادلة بين الشكل واللون، و تعتمد على الرسم كمستوى تخطيطي: إنها نافذة تطلّ على «الواقع» الفردي الذي تصوّره كاندينسكي. وما تزال العناصر في لوحات كاندينسكي تحظى بعلاقة متبادلة، كما هو الحال في فضاء الواقع الافتراضي للوحة التشخيصية؛ فجوهر الرسم سليم إذ إنّ ذلك الفضاء الافتراضي ما زال موجودًا. عندما يكون الفن التجريدي بناءً خالصًا، ويتخلص من المساحة الافتراضية الملازمة للرسم والنحت، يصبح متميزًا عنهما. وصف دونالد جود الفنان التخفيفي (minimalist) مثل هذه الأعمال الفنية بأنها «أجسام محدّدة» (Specific Objects). إنّه مصطلح غير دقيق، ولكنه يصلح لإظهار أن مثل هذه الأعمال الفنية ليست رسمًا ولا نحتًا، ولكنها فئة أخرى تمامًا. رأى دونالد جود أن أعماله وأعمال العديد من معاصريه تشغل مساحة هجينة، لا هي لوحات ولا هي نحت. عمل دون عنوان لدونالد جود. استخدم جود هذا المصطلح لوصف أعماله الخاصة، ولكنه ينطبق على لوحات كازيمير ماليفيتش وفرانك ستيلا أحادية اللون، والتي تجعل اللوحة تندمج مع نفسها بالكامل، من أجل الوصول للتأثير الذي يأمل العمل في تحقيقه. في مثل هذه الأعمال، لم يعد قماش اللّوحة (أو القاعدة) سطحًا تتفاعل فيه الأشكال والألوان في الفضاء الافتراضي. بدلاً من ذلك، تتفاعل الأشكال والألوان في الفضاء الحقيقي، في فضائنا. تختلف معايير النجاح أو الفشل لهذه الأعمال عن الخصائص التقليدية للرسم والنحت. رأى جود أنّ خصائص الرسم والنحت تقف في طريق ما أراد تحقيقه من خلال اللون والشكل. في رأيه، كان لـ «أجسامه المحددة» تأثيرًا أحدّ من غيرها. الواقع والأشكال الجديدة للإدراك الحسّي الرسم نفسه له ثلاثة أنواع عامة من التجريد؛ أولًا، ثمّة أسلوب تعبيري تُرسم فيه الأشكال بحركاتٍ غير مقيدة؛ ثم هناك التجريد الهندسي حيث يتم هيكلة الأشكال؛ أما النوع الثالث، فهو تجريد مجال اللون حيث يتم عرض مساحات من الألوان بطريقةٍ لا شكل واضح لها. لم تكن هذه «الأنماط» (styles) أنماطًا عرضيةً أو تعتمد على ذوق أو ميل الرسام كوسيلة لتحقيق هدفٍ ما من البحث الفني. وخير مثال على ذلك هو الفنان الذي غالبًا ما ينظر إلى عمله على أنّه ذروة التجريد الهندسي: بيت موندريان. إنّ لوحات بيت موندريان المكونة من شبكات (grids) ذات الخطوط السوداء والأجزاء الملونة على خلفية بيضاء؛ تهدف إلى استحضار «حقيقة أعلى». بالنسبة إلى موندريان، كان الفن في جوهره معارضًا للواقع؛ «لأن الواقع يتعارض مع الروحي». بغض النظر عن هذه اللوحة الأشهر لموندريان، فإنّ جوانب الرسم التي تهم هذا الفنان حقًا لم تكن الجوانب المحددة للموضوع -أيّ ماذا أو ما يتم تصويره في اللوحة مثلًا- بل الجوانب القابلة للفهم عالميًا للشكل والخط واللون. إنّ لوحات موندريان، مثلها مثل لوحات الفنانين الآخرين، هي محاولة لاستخلاص الشكل واللون من أجل الاقتراب من ذلك الجوهر العالمي والروحي للفن. عبّر موندريان عن رغبته في الوصول إلى «أساس» الأشياء من خلال الحدس، كالعديد من الفنانين التجريديين الآخرين في النصف الأول من القرن العشرين الذين رغبوا في الوصول إلى قوى غير مرئية حولنا، ولكنها معروفة أو محدوسة. «التكوين الثاني باللون الأحمر والأزرق والأصفر» (1930) - بيت موندريان«التكوين الثاني باللون الأحمر والأزرق والأصفر» (1930) – بيت موندريان في أواخر القرن التاسع عشر، لاحظ العلماء بشكلٍ أفضل مما سبق القوى غير المرئية مع انتشار التقنيات الجديدة، وأصبح من الواضح أن العالم أرحب مما يبدو للعين. في الوقت نفسه، ظهرت حركات روحية بديلة جمعت بين الأفكار الأفلاطونية والتصوف. كان كلينت وموندريان من بين العديد من الفنانين الذين انغمسوا في أشكال الروحانية خارج العوالم التقليدية للدين. اعتقدت كلينت أن لوحاتها هي وحي عالم روحي، وأن مهمتها كانت العمل «على مستوى روحاني» لتمثيل روح الإنسان، بدلًا من صورته الفانية. بحلول عشرينيات القرن الماضي، كانت نظرية فرويد عن للعقل البشري قد تغلغلت أيضًا في عالم الفن.  كذلك السريالية، وهي حركة منظمة بإحكام بدأت مع بعض الفنانين الذين سعوا إلى التنقيب عن الإمكانات الإبداعية للعقل الباطن، وهي الحركة الثقافية التي كانت سائدة في أوروبا بين الحربين العالميتين. لم تكن السريالية دوغمائية في محاولتها لاستكشاف اللاوعي، ولذلك ظهر عدد من الأساليب والطرق لمحاولة إخراج اللاوعي إلى السطح. إحدى هذه الأساليب كان الرسم الآلي (Automatism)، وهي عملية يتخلى فيها الفنان عن السيطرة الواعية لليد التي ترسم  أو تصور. في هذا المجال، تبنى الفنانون مثل أندريه ماسون وخوان ميرو الفرصة لبناء صورهم باستخدام حركات حرّة، وحتى إلقاء الطلاء على القماش. طور أرشيل غوركي -هو مهاجر أرمني عاش في الولايات المتحدة- أسلوبًا في الرسم يدمج بين الرسم الآلي وتجريد مجال الألوان. لوحاته في الأربعينيات حجمُها ضخم – ومرد ذلك تأثره بأعماله السابقة كفنان جداري مُعيّن من الدولة خلال السنوات الأخيرة من الكساد الكبير – لكنها معبّرة وغنائية في الرسم بالفرشاة. ألهم إدماج غوركي للأنماط جيلًا واسعًا من الفنانين الأمريكيين في فترة ما بعد الحرب لاحتضان التجريد الواسع النطاق. ما نسميه الآن «التعبيرية التجريدية»، وكان ذاك الجيل في الواقع مجموعة فضفاضة من الفنانين الذين يستخدمون أنماطًا متعدّدة من أنماط التجريد. ربما كان القاسم المشترك بين هؤلاء الفنانين – على الأقل في السنوات الأولى – هو دعم جيل جديد من النقاد بقيادة كليمنت غرينبيرغ، الذي كان يعتقد أن التجريد هو التعبير الأسمى للفن الغربي. «الكبد هو مشط الديك» (1944) - أرشيل جوركي.«الكبد هو مشط الديك» (1944) – أرشيل جوركي. الحداثة ومصير الفنّ الغربي كان يُعتقد في بعض الأوساط الفكرية المؤثرة أنّ الفن يتقدم نحو هدف؛ وهذا المضمون يشتمل عليه مصطلح «الطليعية» (Avant-garde)، الذي يُوصف به الفنّانون الذين يبتكرون أرضية جمالية جديدة. أصل المصطلح فرنسي يُطلق على الجنود الذين يتقدمون إلى مناطق جديدة. بالنسبة إلى غرينبيرغ، لم يكن هؤلاء الفنّانون يوسّعون حدود إمكانات الفن؛ بل كانوا يتقدمون نحو الهدف الحقيقي والمفرد لكل شكل فني. يُعدّ غرينبيرغ شخصية مهمة في تاريخ الفن التجريدي، وذلك لأمرين: بوصفه مناصرًا رائدًا في مسألة تفوق الفن التجريدي على غيره من أنواع الرسم، وتأكيده للقوة التي امتلكها هذا الفن. كان ناقدًا في اللجنة الأمريكية للحريّة الثقافية التي تمولها الدولة، وهي مجموعة تم إنشاؤها لتعزيز الفن الأمريكي على المستوى الدولي. أصبحت أفكار غرينبيرغ مؤثرة عندما كانت الولايات المتحدة جزءًا من الحرب على الفاشية والنازية، وخلال الحرب الباردة اللاحقة ضد الشيوعية السوفيتية. كانت معايير الفن الفاشي والسوفياتي واضحة، وهي ما تحددها السلطات الثقافية أنها كذلك، بيد أنّه ما لم يكن واضحًا هو معايير الفن «الجيد» وتحديدًا في الغرب الديمقراطي. كان الماركسيون هم من تعاطف مع غرينبيرغ في البداية، لكن ارتبط تفكيره بشكلٍ متزايد بالهيمنة الثقافية الأمريكية. بالنسبة إليه، كان التجريد في أعمال بولوك فنًا مثاليًا لمجتمع ديمقراطي. تتجلى الحداثة في الفن، وفقًا لغرينبيرغ، في إطار التنوير الأوروبي؛ أيّ في فترة ازدهار الأفكار الفلسفية والعلمية التي أعطت الأولوية للعقل. في مقالته المؤثرة « الرسم الحداثي» (1961)، وصفَ غرينبيرغ إيمانويل كانط – الفيلسوف الألماني في عصر التنوير – بأنّه «أول حداثي حقيقي». كان أسلوب كانط في «النقد» هو استخدام العقل لنقد العقل بغرض توضيحه، ومنحه استقلالية عن أنواع التفكير الأخرى. «أولمبيا» - إدوارد مانيه (1863). بالنسبة إلى كليمنت غرينبيرغ، كان مانيه أول رسام حداثي. لقد رسم مانيه لوحاته بأسلوبٍ مسطّح بشكلٍ متعمد.«أولمبيا» – إدوارد مانيه (1863). بالنسبة إلى كليمنت غرينبيرغ، كان مانيه أول رسام حداثي. لقد رسم مانيه لوحاته بأسلوبٍ مسطّح بشكلٍ متعمد. بالطريقة نفسها، كان الرسامون الحداثيون – من إدوارد مانيه في القرن التاسع عشر إلى موريس لويس، وهو رسام يعمل ينتمي إلى رسامي أسلوب مجال ألوان في الولايات المتحدة في الوقت الذي كتب فيه غرينبيرغ مقالته – يعملون على ترسيخ الفن التعبيري «بشكل صارم في مجال تخصصه». رأى غرينبيرغ أن وضوح الفن التجريدي -الذي كان صادقًا بالنسبة إلى الوسيط الذي يُعبّر من خلاله- معارضٌ لـ«الفن الشعبي المبتذل [الكيتش]» الذي ينُتج على نطاق واسع في الثقافة الشعبية. إن إزالة «الكيتش» كانت مسألة استجلاء وتوضيح تحتاجها جميع الفنون لكي تصبح تعبيرًا عن إمكاناتها الجمالية الكامنة. اللوحات مسطّحة، وإيهام العمق الذي نجده في معظم الفن الغربي كان انحرافًا عن جوهر فن الرسم ذاته. كانت استقلالية الشكل الفني في جميع خصائصه دون أن تتلوث بأشكال فنية أخرى. وفقًا لغرينبيرغ، يعدّ الشكل واللون من أهم خصائص الرسم، و أفضل تمثيل لها يكون بشكلٍ مسطّح. وهكذا دافع غرينبيرغ عن «التسطيح» الذي تجلّى في لوحات الفنانين الأمريكيين التجريدية مثل جاكسون بولوك باعتباره تحقيقًا لهذا الوضوح الحداثي. لقد ضم هؤلاء الفنانين معًا ضمن فريق واحد، وهم يمثّلون المرحلة التالية في الحداثة، وقد حلّت رؤيتهم الأمريكية المميزة محلّ الفن الأوروبي الطليعي. وفي الوقت الذي أصبح فيه الفن التجريدي الأمريكي مهيمنًا، تراجعت هيمنة غرينبيرغ النقدية، وظهرت أشكال جديدة من الفن الطليعي، مستوحاة مباشرة من الثقافة الجماهيرية، وحلّت محلّ التعبيرية التجريدية في المخيال العام. تبنى فنانوّ «البوب» مثل: آندي وارهول، وريتشارد هاميلتون هذا النوع من «الفن الشعبي المبتذل» الذي رآه غرينبيرغ تلويثًا للفن الحقيقي. استمرت الأعمال الفنية التجريدية، ولكن تخلّى الفنّانون التجريديون الأكثر جرأة عن الفكرة الصارمة «للنقد الحداثي»، وعن الوضوح المتعلق بخصوصية الوسيط الفني، وذلك لصالح أشكال أخرى من التعبير. نظر فنانوّ «ما بعد الحداثة» إلى السخرية وعملية الرسم نفسها، كطرق لتجاوز الطريق المسدود للحداثة. تبنى الألماني غيرهارد ريختر كلا النهجين؛ فبعض أعماله التجريدية في الستينيات كانت مصنوعة بممسحاتٍ بدلًا من الفرشاة، حتى يتمكن من لفت الانتباه إلى عملية صنع اللوحة نفسها. كانت «اللوحات التجريدية» البارزة الأخرى التي رسمها ريختر في الواقع صورًا واقعية مرسومة بعناية تعكس لوحاته التجريدية الأخرى. أصبحت طلائعية الرسم التجريدي مفهومية أكثر، ما جعل ضمنيًّا قضية الرسم تحظى باستقلالية أقل مما كان كان يعتقد النقاد الحداثيون. قلّد فنانوّ «نيو جيو»، مثل: الرسام بيتر هالي، والنحات أشلي بيكرتون اللغة البصرية للتجريد الهندسي، لكنهما دمجاها مع السلع الاستهلاكية بألوانٍ تجارية فاتحة وأحيانًا فلورية. منذ ذلك الجيل ما بعد الحداثي من الرسامين والنحاتين الممتد من الستينيات إلى التسعينيات، ازدهر التجريد متفرّعًا إلى عددٍ لا يُحصى من الأساليب والمقاربات بجوار الفن التشخيصي. هنا يمكن القول إنّ التجريد المتحرّر من عبء التوقعات الحداثية هو ببساطة نهج للتعبير مثل أيّ نهج آخر. وتجدر الإشارة إلى أنّ بعض الفنانين التجريديين استخدموا الحيل البصرية المستعملة في الفن التشخيصي – مثل المنظور والتظليل – في لوحاتهم. ولاستخدامهم هذا أهداف فريدة و غالبًا لا تهتم بالنظرية. قلّد فنانوّ «ما بعد الحداثة» مثل: بيتر هالي اللغة البصرية المستعملة في الفن التجريدي الحديث (في حالة بيتر، التجريد الهندسي)، للتعليق على طبيعة الفن والمعنى نفسه. تمثّل هذه الكتل الملونة «الخلايا» و«الأنابيب».قلّد فنانوّ «ما بعد الحداثة» مثل: بيتر هالي اللغة البصرية المستعملة في الفن التجريدي الحديث (في حالة بيتر، التجريد الهندسي)، للتعليق على طبيعة الفن والمعنى نفسه. تمثّل هذه الكتل الملونة «الخلايا» و«الأنابيب». هذا هو التحرّر نحو الأفضل بين الرسامين التجريديين الذين يمكنهم الالتزام برؤيةٍ فريدة بالرسم على القماش. لكن فكّ ارتباط الفن التجريدي عن إطاره الفلسفي الأوسع أدى أيضًا إلى انتشارٍ يثير التساؤل لأعمال تجريدية متنوعة قابلة للاستهلاك – بمعنى أنّها فقدت قيمتها، وباتت تُباع وتُشترى سريعًا بأسعارٍ مربحة – يشتريها المشترون المتضاربون. دفع هذا التحول الناقد جيري سالتز إلى كتابة: « الزومبي على الجدران: لماذا يبدو الكثير من التجريد الجديد متشابهًا؟». وقد شبه اللّوحات التجريدية بصورة «الزومبي»، تحقيرًا لأعمال عددٍ من الرسامين التجريديين البارزين، الذين استخدموا الفنّ وجماليته لتقديم أعمال مبتذلة. ومن المفارقات أن هؤلاء الفنانين نظروا إلى الشكلانية بوصفها فنًّا حداثيًّا متبنّين منظور غرينبيرغ، لكنهم بالطبع قدّموا أعمالًا في ظلّ فراغ تاريخي وبعد فترةٍ طويلة حين لم يُصبح التجريد مثيرًا للاهتمام أو راديكاليًا بأي وجه من الوجوه. في الواقع، لم يصل مشروع الحداثة  في الفن التجريدي إلى نهايته، بل النقد. إنّ النقد -أيّ الإطار الفلسفي الواسع الذي يصادق على الأعمال الفنية ويثمّنها لأهميتها الثقافية والتاريخية- هو ما فقد التوجه والسلطة. كان مسار الفن الغربي منذ عصر التنوير يتأرجح بين قطبي الدوغمائية النقدية والإبداع. تكمن المشكلة أنه في العقود الأخيرة، وفي ظلّ غياب أي مشروع نقدي متماسك، انجرف الفن نحو إرضاء اهتمامات دقيقة ومتنوعة تزداد باستمرار. في حين كانت هناك «حركات» و«مدارس» فنية -مصطلحان يشيران إلى الوجهة والانضباط- لم يعد لدينا الآن سوى «مشاهد». هذا ليس بالضرورة أمرًا سيئًا. ولكن في عالم حيث «كل شيء مقبول – anything goes»، لا يوجد مجال لهذا النوع من الابتكار والتجاوز الذي أدى إلى ظهور الفن التجريدي في الغرب، وهذا ما جعل الفن الحديث فنًّا مثيرًا للغاية. من الصعب في هذه اللحظة التاريخية أن ندرك ما الذي جعل لوحة بولوك «رقم 32» مثيرة للانقسام، ومخلخلةً جدًا للمعايير، وفي الوقت نفسه محتفظةً بقيمةٍ عالية جدًا لأولئك الذين يعتقدون أن للفنِّ مكانًا في المجتمع يتجاوز المتعة. [divider style=”solid” top=”20″ bottom=”20″] [1] واللقب كذلك يُلمح إلى القاتل المتسلسل في لندن آخر القرن التاسع عشر: جاك السفّاح Jack the ripper (مدير التحرير). ### خارج عقلك | توم تشاتفيلد – ت: محمد السعيد                  عندما يكون هاتفي النقال بين يديّ، هل أكون أنا الشخص نفسه لو كان الهاتف في غرفة أخرى؟ من ناحية،... ### الدراما في التعليم: مقاربات وتطبيقات | نعيم حيماد افتتاحيّة حظي استخدام الدراما في التعليمفي السنوات الأخيرة باهتمام كبير من قبل نخبة من المنظرين والممارسين للدراما في مجال التعليم.... ### الحقائق المخفية | دي بي سي بيير – ت: محمد السعيد       يحمل جبل كلسي خشن في غرب إيران عددًا من النقوش البارزة، من بينها لوحة طولها خمسة وعشرين مترًا منقوشة... ### التغلُّب على كاشف الكذب | كلاريسا سيباغ-مونتِنفيوري – ت: محمد السعيد          حين  اتُّهِمَتْ مربية الأطفال البريطانية لويز وودورد بهزِّ رضيع حتى الموت في مدينة نيوتن بولاية ماساتشوستس، لم تكتفِ بإعلان... ### عن منصة معنى «معنى»، مؤسسة ثقافية تقدّمية ودار نشر تهتم بالفلسفة والمعرفة والفنون، عبر مجموعة متنوعة من المواد المقروءة والمسموعة والمرئية. انطلقت في 20 مارس 2019، بهدف إثراء المحتوى العربي، ورفع ذائقة ووعي المتلقّي المحلي والدولي، عبر الإنتاج الأصيل للمنصة والترجمة ونقل المعارف. ### روابط سريعة ### التصنيفات ### مرحبا بك! قم بتسجيل الدخول إلى حسابك تذكرني ### قم بإنشاء حساب جديد! املأ النموذج أدناه للتسجيل ### طلب إعادة تعيين كلمة المرور يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان البريد الإلكتروني لإعادة تعيين كلمة المرور الخاصة بك. ### Add New Playlist - Select Visibility -PublicPrivate No Result عرض جميع النتائج - 00:00 00:00 - 00:00 00:00
article
Arabic
ar
الفنّ التجريدي: بين الماضي والحاضر - منصة معنى الثقافية
https://mana.net/abstract-art/
1,846
كان كاندينسكي يعدّ لفترةٍ طويلة أب الرسم التجريدي الغربي.«
sentence
«الأحمر والأصفر والأزرق» (1925) واسيلي كاندينسكي.  كان كاندينسكي يعدّ لفترةٍ طويلة أب الرسم التجريدي الغربي.«الأحمر والأصفر والأزرق» (1925) واسيلي كاندينسكي.  كان كاندينسكي يعدّ لفترةٍ طويلة أب الرسم التجريدي الغربي.
paragraph
Arabic
ar
الفنّ التجريدي: بين الماضي والحاضر - منصة معنى الثقافية
https://mana.net/abstract-art/
1,847
كان كاندينسكي يعدّ لفترةٍ طويلة أب الرسم التجريدي الغربي.
sentence
«الأحمر والأصفر والأزرق» (1925) واسيلي كاندينسكي.  كان كاندينسكي يعدّ لفترةٍ طويلة أب الرسم التجريدي الغربي.«الأحمر والأصفر والأزرق» (1925) واسيلي كاندينسكي.  كان كاندينسكي يعدّ لفترةٍ طويلة أب الرسم التجريدي الغربي.
paragraph
Arabic
ar
الفنّ التجريدي: بين الماضي والحاضر - منصة معنى الثقافية
https://mana.net/abstract-art/
1,848
بالنسبة إلى هذه المدارس، أصبح الفن أقل من أن يوصف بأنّه واقع افتراضي، لكنه مع ذلك احتفظ بالافتراضية، وأصبح افتراضيًا. لقد أخذ الفن التجريدي مسار التطور هذا إلى أقصاه: من الواقع الافتراضي إلى الافتراضية.
paragraph
لا توجد منتجات في سلة المشتريات. No Result عرض جميع النتائج الثلاثاء, سبتمبر 10, 2024 No Result عرض جميع النتائج No Result عرض جميع النتائج # الفنّ التجريدي: بين الماضي والحاضر ## ترجمة: أنطونيوس نادر AA AA إعادة تعيين فنٌ مليء بالتحديات ثمّة خطٌ رفيع يفصل بين الفن التجريدي ومجرد الزخرفة، ولوحة «رقم 32» (نُشرت عام 1950)، لجاكسون بولوك تتأرجح بين هذا الخطّ. فهي لا تشير إلى معنىً واضح، ولكن لا يمكن القول إنّها بلا معنى على الإطلاق. كما أنّها ليست معبّرة بشكلٍ مباشر، ولا يعني هذا أنها لا تعبّر عن مدلولٍ ما. تحمل هذه اللوحة الكثير من المضامين عن الفن الغربي بالنسبة إلى شخصٍ خبيرٍ في تاريخ الفن؛ أما بالنسبة إلى شخصٍ عادي، فقد يراها عملًا مبتذلًا بالكاد يعبّر عن أمرٍ ما. اللوحة شبكة من الخطوط وبقعٍ من الألوان، رُسمت عن طريق صبّ طلاءٍ رخيص بعشوائيةٍ مباشرة على القماش. تتكون اللوحة من طلاءٍ أسود فقط وقماشٍ خام. واللوحة ضخمة؛ إذ يبلغ طولها تسعة أقدام وعرضها خمسة عشر قدمًا، وتغطي مجال رؤية المشاهد أثناء اقترابه منها. تقليديًّا، حتى اللوحات التجريدية تتكون من أجزاءٍ مترابطة مع بؤر تركيز (emphases) وعمقٍ يُنقل من خلال اللون والظلال، ولكن «رقم 32» ليس لها أجزاء؛ إنّها تتكون من تعالقات، والبؤرة فيها تكمن عبر امتداد سطح القماش المستطيل. يمنحها ما سبق عمقًا سطحيًا، وربما لا عمق فيها: مجرّد طلاء على قماش. إنّها عبث بالشكل واللون. حتى اسمها، ببساطة رقمٌ معيّن – رقم 32 – يجعلها تنأى بنفسها عن أي فكرة مفادها أنها تعكس مدلولًا محدّدًا. تشير عناوين أعمال بولوك الأخرى إلى نوعٍ من الاختبار الشخصي، وإلى الاستخدام السمفوني المتعدد الطبقات للون والملمس؛ خذ مثلًا لوحاته التي تحمل اسم: «إيقاع الخريف»، و«الضباب الأرجواني»، و«الأقطاب الزرقاء»، و«انعكاس الدنقلة الكبير». هذا لا ينطبق على لوحة «رقم 32»؛ شكلها الخام وبساطتها دليل على أنّ الفنان لم يخطط مسبقًا لرسمها؛ أيّ أنّه لم ينتق الألوان ولا الطبقات. يبدو بولوك هنا أكثر حضورًا، من خلال لمساته الحادة. بالنسبة إلى مؤيديّ عمل بولوك، تختصر هذه اللوحة خلاصة نظرة الفنان الجمالية. أما بالنسبة للبعض الآخر، فهي لوحة مبتذلة. وصف جوزيف بويس -النحات الألماني في فترة ما بعد الحرب- الفنَّ التجريدي الأمريكي بأنه مجرد «تغليف»، أيّ سطح بلا محتوى. في هذا الصدد، قد يتفق البعض أن لوحة «رقم 32» تجسد فراغ الفكر والشعور ذاك. فقد رأى الروائي والناقد الفني روبرت كوتس أن فن بولوك لم يكن سوى «انفجارات» غير منظمة من الطاقة العشوائية. غير أنّ طائفة كبيرة من متذوقي الفن التجريدي لا تروق إليهم أعمال بولوك ويرونها فنًّا محيرًا، حتى إنّ بعضهم يراها إهانةً للذوق أو الحسّ السليم. عُرف بولوك بلقب: «جاك فنان النقط» (Jack the Dripper) [1] في الأوساط الإعلامية المشككة بعمله حيث ادعى كثر أن أيّ شخص يمكنه أن يرسم كما يرسم بولوك إلّا أنّ أحدًا لم يتجرأ على فعل ذلك. «رقم 32» - جاكسون بولوك«رقم 32» – جاكسون بولوك بيد أنّ هذا هو مغزى الفن التجريدي في التقليد الغربي: إنّه تحدّ. وفي ظل الكثير هذه التحديات، تُعد لوحة « رقم 32» اللوحة الأكثر تمثيلًا لهذا الفن. قصة الفنّ التجريدي مسار قصة الفن التجريدي مضمّنة في الدراسات التاريخية الفنية، إلّا أنّ المحطات الرئيسة لهذا المسار كانت محط تغييرات مفاجئة كلما اكتشف مؤرخوّ الفن حقائق جديدة. انطلق مسار الفن التجريدي بدءًا من القرن التاسع عشر وما تلاه؛ حيث استفاد الفنانون من مادة الطلاء والجوانب الشكلية للرسم مثل اللون والدرجة والخطوط. يُعرف هذا الانشغال بالجوانب غير التمثيلية (non-representative) للفن باسم «الشكلانية»، لأنّه انشغال «بالشكل»، أيّ بتوسل شكل المحتوى بدلًا من المحتوى في ذاته. بالنسبة إلى الفنانين في القرن التاسع عشر، صُنّف الفن التجريدي على أنّه «فنٌّ من أجل الفنّ»، وكانت الفكرة الشائعة مفادها أنّ المتذوق للفن يمكنه الاستمتاع بالعمل دون اللجوء إلى معنى أو حتى أي شيء آخر يمثل أمرًا ما. تمثّل لوحة «الموسيقى الهادئة باللّونين الأسود والذهبي – الصاروخ الساقط» (1872)، للفنان جيمس مكنيل ويسلر هذا الاتجاه الذي تبلور لاحقًا في الفن التجريدي.  إنّ مشهد ويسلر الغامض من الناحية المكانيّة يقترب إلى التجريد، وذلك بمحاولته نقل الشعور أو الانطباع الخاص بالمشهد بدلًا من إعادة إنتاجه بحذافيره. «الموسيقى الهادئة باللونين الأسود والذهبي - الصاروخ الساقط» (1872-1877) - جيمس أبوت مكنيل ويسلير«الموسيقى الهادئة باللونين الأسود والذهبي – الصاروخ الساقط» (1872-1877) – جيمس أبوت مكنيل ويسلير في عام 1877، انتقد جون روسكين – أبرز نقّاد بريطانيا في ذلك الوقت – عمل ويسلير هذا نقدًا لاذعًا فشبهه «بمن قام برمي الطلاء في وجه الجمهور». تأثر ويسلر بهذا الكلام، فرفع دعوى قضائية ضد روسكين، بيد أنّه خسرها لأن المسؤولين عرضوا اللوحة -خطأً- مقلوبةً على المحكمة. أفلس ويسلير بسبب هذه القضية، لكن مسيرة تطور الفن التجريدي استمرت. من ناحيةٍ أخرى، تحديد أول فنان تجريدي في العالم موضوع نزاع. في نظر أبحاث تاريخ الفن التقليدية، كان فاسيلي كاندينسكي – فنان روسي الجنسية رسم لوحات تجريدية بالكامل في مطلع عام 1911- هو أول فنان تجريدي. لم ينل الفن التجريدي الرائد لهيلما أف كلينت تقديرًا إلا قبل سنوات قريبة. هذه صورة للمعرض الشهير في  متحف غاغينهايم، عام 2018 .لم ينل الفن التجريدي الرائد لهيلما أف كلينت تقديرًا إلا قبل سنوات قريبة. هذه صورة للمعرض الشهير في  متحف غاغينهايم، عام 2018 . ولكن في الآونة الأخيرة، وبفضل المعرض الرائد في متحف مقاطعة لوس أنجلوس للفنون في عام 1986 الذي حمل اسم «الروحانية في الفن: الرسم التجريدي 1890 – 1985»، وقع الاختيار على هيلما أف كلينت كأول رسامة تجريدية. بدأت كلينت في رسم لوحات تجريدية بدءًا من عام 1906، وحملت مجموعتها عنوان «الفوضى البدائية». كانت الفنانة متكتمة في ما يتعلق بأعمالها التجريدية، ولم تُعرض أيّ منها في معارض عامة، وبقيت غير معروفة حتى أزيح عنها الستار مؤخرًا. ولعل الجدال حول هوية أول من مارس الفن التجريدي سيستم، لكن الحقيقة الأكثر أهمية هي أن العديد من الفنانين الأوروبيين البارزين قد توصّلوا في أعمالهم إلى التجريد بحلول الحرب العالمية الأولى. لقد وجد كل منهم طريقته الخاصة في التخلي عن الفن التشخيصي (figurative painting). وجديرٌ بالذكر أنّه لم تكن هناك حركة «تجريدية» دولية ذات رؤية أو بيان مشترك. في ضوء ذلك، فإن السؤال الملحّ حقًا هو: لمَ لمْ يتبنى الفنانون الغربيون الفن التجريدي على امتداد قرون عديدة؟ لماذا كان التجريد غير ضروري أو لا معنى له أو غير مناسب أو حتى لا يمكن تقبّله لقرونٍ متوالية في الفن الغربي؟ ظهرت العديد من التفسيرات لشرح ذلك. إحدى النظريات الأكثر وضوحًا هي أن ظهور التصوير الفوتوغرافي بوصفه شكلًا من أشكال الفن، إضافةً إلى تطور الفن الحديث، سببان رئيسان لإزاحة الرسم التشخيصي. ثمّة إجابات أخرى غير ملموسة لاستكشاف الأسباب: ربما عندما أصبحت الأعمال الفنية قابلة للاستهالاك بشكل متزايد، مثل السلع، بات من السهولة فصل اللوحات والمنحوتات عن التجارب المحددة لمبدعيها. ربما أدت الحداثة في الغرب إلى إفراغ الفن من المحتوى التشخيصي؛ مما دفع الفنانين أيضًا إلى التخلي عن التمثيل التشخيصي. كل من هذه الإجابات معقدة وتتطلب الكثير من الشرح، ولا يمكن إلا أن تكون تخمينات. لا توجد إجابة واضحة لهذه المسألة. ربما يكون من الأفضل طرح السؤال حول سبب تقبّل الفن التجريدي فنًّا من الفنون الرسمية في تاريخ الفن الغربي في مرحلة معينة على علماء الأنثروبولوجيا بدلًا من طرحها على مؤرخي الفن. فما هو واضح أن الفن التجريدي كان موجودًا دائمًا في مناطق أخرى من العالم. ما جعل الفن التجريدي فنًّا حديثًا على وجه التحديد في العالم الغربي هو نظام المعارض، الذي أعطى القيمة الفنية للأعمال المعروضة. وكما هو واضح فقد ازدهر التجريد لآلاف السنين المناطق الشرقية والجنوبية من العالم، دون عناء التحقق من مكانة الأعمال المعروضة في الصالونات [والمعارض، كما هو في العالم الغربي]. الواقع الافتراضي و«الافتراضية» يتبنى بيبي كرمل وهو مؤرخ فني، في كتابه « الفن التجريدي: تاريخ عالمي»، فكرة أنّ الفن التجريدي كان دائمًا موجودًا بشكل طبيعي عندما ننظر إليه نظرة شاملة وعالمية، بيد أنّه يتحاشى طرح نظرية عن تطور الفن التجريدي. بالنسبة إلى كرمل، فإنّ هذا الفنّ متجذر في العالم الحقيقي، وهو ليس فنًّا «مجردًا» على الإطلاق، كما أنّه تقليد عالمي وليس محليًا. في دراسته حول الفن التجريدي يقسم العمل الفني إلى خمس فئات واسعة تنتمي إلى العالم الحقيقي: الأجسام، والمناظر الطبيعية، والكون، والبنى، والعلامات والأنماط. من خلال فحص الفن التجريدي بهذه الطريقة، يرى كرمل في اللوحات التجريدية موضوعات قابلة للتحليل، بعكس النقاد والمؤرخين الأرثوذكسيين الذين رأوا فيها مجرّد توليفات شكلية مكوّنة من لون وشكل. ربما يكون من الأفضل أن يطلق على الفن التجريدي: فن ما تم تجريده (abstracted art)؛ لأنّ الفنانين التجريديين عادةً ما يستخلصون ويجرّدون تعبيرات التجارب في شكل ولون،  أكثر من كونها توليفات مكونة من شكل ولون. ومرّد ذلك الطبيعة الجوهرية للرسم والنحت؛ فهما (الشكل اللّون) وسيطان للتعبير، مثل الشاشة أو المسرح لخيال الفنان. كما هو الحال في المسرح أو السينما، فإنّ جمهور اللوحة أو المنحوتة يعلّق معتقداته من أجل أن يتقبل المشهد. من المفيد التفكير في اللوحة التشخيصية التقليدية أو النحت على أنها حقيقة افتراضية. إذْ استخدم الفنانون لقرون عديدة الحيل البصرية -مثل المنظور الخطي، والتقصير المسبق، والتظليل- لمحاكاة الطريقة التي ندرك بها الأشياء في الفضاء الحقيقي. إنّ المشاهد تُنشأ في فضاء افتراضي – سواء كانت القاعدة التي تدعم التمثال أو القماش – ليراها المشاهدون بوصفها خدعة بصرية. «القديس بطرس شفاء أحد الأشخاص وبعث تابيثا من الموت» ماسولينو دي بانيكال. اعتمد الرسم الغربي قبل القرن العشرين على الحيل البصرية لخلق واقع افتراضي. إحدى هذه الحيل هي المنظور الخطي، وهذه اللوحة هي أول مثال لاستخدام نقطة تلاشٍ متسقة.«القديس بطرس شفاء أحد الأشخاص وبعث تابيثا من الموت» ماسولينو دي بانيكال. اعتمد الرسم الغربي قبل القرن العشرين على الحيل البصرية لخلق واقع افتراضي. إحدى هذه الحيل هي المنظور الخطي، وهذه اللوحة هي أول مثال لاستخدام نقطة تلاشٍ متسقة. يستمتع مشاهدوّ الأعمال الفنية العظيمة معنى ما يُرسم، ويقدرون الطريقة التي يتجلّى فيها الوهم عبر تمازج اللون والشكل. يبقى الفن التجريدي، إلى حدٍ ما، ضمن إطار التجربة الجمالية. فقد سعت حركات الفن الحديث التي أدت إلى التجريد -أيّ «مدارس الفن»، مثل الانطباعية والفاوفية والتكعيبية- إلى تمثيل العالم بشكل مختلف عن كل الفنون التي سبقتها. إذْ ادعوا الاقتراب من الحقيقة الذاتية عبر تهميش جميع الحيل الوهمية التقليدية التي حاولت إعادة إنتاج الواقع بحذافيره كحقيقة موضوعية. «الأحمر والأصفر والأزرق» (1925) واسيلي كاندينسكي.  كان كاندينسكي يعدّ لفترةٍ طويلة أب الرسم التجريدي الغربي.«الأحمر والأصفر والأزرق» (1925) واسيلي كاندينسكي.  كان كاندينسكي يعدّ لفترةٍ طويلة أب الرسم التجريدي الغربي. بالنسبة إلى هذه المدارس، أصبح الفن أقل من أن يوصف بأنّه واقع افتراضي، لكنه مع ذلك احتفظ بالافتراضية، وأصبح افتراضيًا. لقد أخذ الفن التجريدي مسار التطور هذا إلى أقصاه: من الواقع الافتراضي إلى الافتراضية. ماذا تعني «الافتراضية» هنا؟ إنّها الوجود كجوهر وتأثير، ولكن بدون اللجوء إلى الواقع. اللوحة التجريدية التي رسمها كاندينسكي، على سبيل المثال، ما زالت تُعدّ علاقة متبادلة بين الشكل واللون، و تعتمد على الرسم كمستوى تخطيطي: إنها نافذة تطلّ على «الواقع» الفردي الذي تصوّره كاندينسكي. وما تزال العناصر في لوحات كاندينسكي تحظى بعلاقة متبادلة، كما هو الحال في فضاء الواقع الافتراضي للوحة التشخيصية؛ فجوهر الرسم سليم إذ إنّ ذلك الفضاء الافتراضي ما زال موجودًا. عندما يكون الفن التجريدي بناءً خالصًا، ويتخلص من المساحة الافتراضية الملازمة للرسم والنحت، يصبح متميزًا عنهما. وصف دونالد جود الفنان التخفيفي (minimalist) مثل هذه الأعمال الفنية بأنها «أجسام محدّدة» (Specific Objects). إنّه مصطلح غير دقيق، ولكنه يصلح لإظهار أن مثل هذه الأعمال الفنية ليست رسمًا ولا نحتًا، ولكنها فئة أخرى تمامًا. رأى دونالد جود أن أعماله وأعمال العديد من معاصريه تشغل مساحة هجينة، لا هي لوحات ولا هي نحت. عمل دون عنوان لدونالد جود. استخدم جود هذا المصطلح لوصف أعماله الخاصة، ولكنه ينطبق على لوحات كازيمير ماليفيتش وفرانك ستيلا أحادية اللون، والتي تجعل اللوحة تندمج مع نفسها بالكامل، من أجل الوصول للتأثير الذي يأمل العمل في تحقيقه. في مثل هذه الأعمال، لم يعد قماش اللّوحة (أو القاعدة) سطحًا تتفاعل فيه الأشكال والألوان في الفضاء الافتراضي. بدلاً من ذلك، تتفاعل الأشكال والألوان في الفضاء الحقيقي، في فضائنا. تختلف معايير النجاح أو الفشل لهذه الأعمال عن الخصائص التقليدية للرسم والنحت. رأى جود أنّ خصائص الرسم والنحت تقف في طريق ما أراد تحقيقه من خلال اللون والشكل. في رأيه، كان لـ «أجسامه المحددة» تأثيرًا أحدّ من غيرها. الواقع والأشكال الجديدة للإدراك الحسّي الرسم نفسه له ثلاثة أنواع عامة من التجريد؛ أولًا، ثمّة أسلوب تعبيري تُرسم فيه الأشكال بحركاتٍ غير مقيدة؛ ثم هناك التجريد الهندسي حيث يتم هيكلة الأشكال؛ أما النوع الثالث، فهو تجريد مجال اللون حيث يتم عرض مساحات من الألوان بطريقةٍ لا شكل واضح لها. لم تكن هذه «الأنماط» (styles) أنماطًا عرضيةً أو تعتمد على ذوق أو ميل الرسام كوسيلة لتحقيق هدفٍ ما من البحث الفني. وخير مثال على ذلك هو الفنان الذي غالبًا ما ينظر إلى عمله على أنّه ذروة التجريد الهندسي: بيت موندريان. إنّ لوحات بيت موندريان المكونة من شبكات (grids) ذات الخطوط السوداء والأجزاء الملونة على خلفية بيضاء؛ تهدف إلى استحضار «حقيقة أعلى». بالنسبة إلى موندريان، كان الفن في جوهره معارضًا للواقع؛ «لأن الواقع يتعارض مع الروحي». بغض النظر عن هذه اللوحة الأشهر لموندريان، فإنّ جوانب الرسم التي تهم هذا الفنان حقًا لم تكن الجوانب المحددة للموضوع -أيّ ماذا أو ما يتم تصويره في اللوحة مثلًا- بل الجوانب القابلة للفهم عالميًا للشكل والخط واللون. إنّ لوحات موندريان، مثلها مثل لوحات الفنانين الآخرين، هي محاولة لاستخلاص الشكل واللون من أجل الاقتراب من ذلك الجوهر العالمي والروحي للفن. عبّر موندريان عن رغبته في الوصول إلى «أساس» الأشياء من خلال الحدس، كالعديد من الفنانين التجريديين الآخرين في النصف الأول من القرن العشرين الذين رغبوا في الوصول إلى قوى غير مرئية حولنا، ولكنها معروفة أو محدوسة. «التكوين الثاني باللون الأحمر والأزرق والأصفر» (1930) - بيت موندريان«التكوين الثاني باللون الأحمر والأزرق والأصفر» (1930) – بيت موندريان في أواخر القرن التاسع عشر، لاحظ العلماء بشكلٍ أفضل مما سبق القوى غير المرئية مع انتشار التقنيات الجديدة، وأصبح من الواضح أن العالم أرحب مما يبدو للعين. في الوقت نفسه، ظهرت حركات روحية بديلة جمعت بين الأفكار الأفلاطونية والتصوف. كان كلينت وموندريان من بين العديد من الفنانين الذين انغمسوا في أشكال الروحانية خارج العوالم التقليدية للدين. اعتقدت كلينت أن لوحاتها هي وحي عالم روحي، وأن مهمتها كانت العمل «على مستوى روحاني» لتمثيل روح الإنسان، بدلًا من صورته الفانية. بحلول عشرينيات القرن الماضي، كانت نظرية فرويد عن للعقل البشري قد تغلغلت أيضًا في عالم الفن.  كذلك السريالية، وهي حركة منظمة بإحكام بدأت مع بعض الفنانين الذين سعوا إلى التنقيب عن الإمكانات الإبداعية للعقل الباطن، وهي الحركة الثقافية التي كانت سائدة في أوروبا بين الحربين العالميتين. لم تكن السريالية دوغمائية في محاولتها لاستكشاف اللاوعي، ولذلك ظهر عدد من الأساليب والطرق لمحاولة إخراج اللاوعي إلى السطح. إحدى هذه الأساليب كان الرسم الآلي (Automatism)، وهي عملية يتخلى فيها الفنان عن السيطرة الواعية لليد التي ترسم  أو تصور. في هذا المجال، تبنى الفنانون مثل أندريه ماسون وخوان ميرو الفرصة لبناء صورهم باستخدام حركات حرّة، وحتى إلقاء الطلاء على القماش. طور أرشيل غوركي -هو مهاجر أرمني عاش في الولايات المتحدة- أسلوبًا في الرسم يدمج بين الرسم الآلي وتجريد مجال الألوان. لوحاته في الأربعينيات حجمُها ضخم – ومرد ذلك تأثره بأعماله السابقة كفنان جداري مُعيّن من الدولة خلال السنوات الأخيرة من الكساد الكبير – لكنها معبّرة وغنائية في الرسم بالفرشاة. ألهم إدماج غوركي للأنماط جيلًا واسعًا من الفنانين الأمريكيين في فترة ما بعد الحرب لاحتضان التجريد الواسع النطاق. ما نسميه الآن «التعبيرية التجريدية»، وكان ذاك الجيل في الواقع مجموعة فضفاضة من الفنانين الذين يستخدمون أنماطًا متعدّدة من أنماط التجريد. ربما كان القاسم المشترك بين هؤلاء الفنانين – على الأقل في السنوات الأولى – هو دعم جيل جديد من النقاد بقيادة كليمنت غرينبيرغ، الذي كان يعتقد أن التجريد هو التعبير الأسمى للفن الغربي. «الكبد هو مشط الديك» (1944) - أرشيل جوركي.«الكبد هو مشط الديك» (1944) – أرشيل جوركي. الحداثة ومصير الفنّ الغربي كان يُعتقد في بعض الأوساط الفكرية المؤثرة أنّ الفن يتقدم نحو هدف؛ وهذا المضمون يشتمل عليه مصطلح «الطليعية» (Avant-garde)، الذي يُوصف به الفنّانون الذين يبتكرون أرضية جمالية جديدة. أصل المصطلح فرنسي يُطلق على الجنود الذين يتقدمون إلى مناطق جديدة. بالنسبة إلى غرينبيرغ، لم يكن هؤلاء الفنّانون يوسّعون حدود إمكانات الفن؛ بل كانوا يتقدمون نحو الهدف الحقيقي والمفرد لكل شكل فني. يُعدّ غرينبيرغ شخصية مهمة في تاريخ الفن التجريدي، وذلك لأمرين: بوصفه مناصرًا رائدًا في مسألة تفوق الفن التجريدي على غيره من أنواع الرسم، وتأكيده للقوة التي امتلكها هذا الفن. كان ناقدًا في اللجنة الأمريكية للحريّة الثقافية التي تمولها الدولة، وهي مجموعة تم إنشاؤها لتعزيز الفن الأمريكي على المستوى الدولي. أصبحت أفكار غرينبيرغ مؤثرة عندما كانت الولايات المتحدة جزءًا من الحرب على الفاشية والنازية، وخلال الحرب الباردة اللاحقة ضد الشيوعية السوفيتية. كانت معايير الفن الفاشي والسوفياتي واضحة، وهي ما تحددها السلطات الثقافية أنها كذلك، بيد أنّه ما لم يكن واضحًا هو معايير الفن «الجيد» وتحديدًا في الغرب الديمقراطي. كان الماركسيون هم من تعاطف مع غرينبيرغ في البداية، لكن ارتبط تفكيره بشكلٍ متزايد بالهيمنة الثقافية الأمريكية. بالنسبة إليه، كان التجريد في أعمال بولوك فنًا مثاليًا لمجتمع ديمقراطي. تتجلى الحداثة في الفن، وفقًا لغرينبيرغ، في إطار التنوير الأوروبي؛ أيّ في فترة ازدهار الأفكار الفلسفية والعلمية التي أعطت الأولوية للعقل. في مقالته المؤثرة « الرسم الحداثي» (1961)، وصفَ غرينبيرغ إيمانويل كانط – الفيلسوف الألماني في عصر التنوير – بأنّه «أول حداثي حقيقي». كان أسلوب كانط في «النقد» هو استخدام العقل لنقد العقل بغرض توضيحه، ومنحه استقلالية عن أنواع التفكير الأخرى. «أولمبيا» - إدوارد مانيه (1863). بالنسبة إلى كليمنت غرينبيرغ، كان مانيه أول رسام حداثي. لقد رسم مانيه لوحاته بأسلوبٍ مسطّح بشكلٍ متعمد.«أولمبيا» – إدوارد مانيه (1863). بالنسبة إلى كليمنت غرينبيرغ، كان مانيه أول رسام حداثي. لقد رسم مانيه لوحاته بأسلوبٍ مسطّح بشكلٍ متعمد. بالطريقة نفسها، كان الرسامون الحداثيون – من إدوارد مانيه في القرن التاسع عشر إلى موريس لويس، وهو رسام يعمل ينتمي إلى رسامي أسلوب مجال ألوان في الولايات المتحدة في الوقت الذي كتب فيه غرينبيرغ مقالته – يعملون على ترسيخ الفن التعبيري «بشكل صارم في مجال تخصصه». رأى غرينبيرغ أن وضوح الفن التجريدي -الذي كان صادقًا بالنسبة إلى الوسيط الذي يُعبّر من خلاله- معارضٌ لـ«الفن الشعبي المبتذل [الكيتش]» الذي ينُتج على نطاق واسع في الثقافة الشعبية. إن إزالة «الكيتش» كانت مسألة استجلاء وتوضيح تحتاجها جميع الفنون لكي تصبح تعبيرًا عن إمكاناتها الجمالية الكامنة. اللوحات مسطّحة، وإيهام العمق الذي نجده في معظم الفن الغربي كان انحرافًا عن جوهر فن الرسم ذاته. كانت استقلالية الشكل الفني في جميع خصائصه دون أن تتلوث بأشكال فنية أخرى. وفقًا لغرينبيرغ، يعدّ الشكل واللون من أهم خصائص الرسم، و أفضل تمثيل لها يكون بشكلٍ مسطّح. وهكذا دافع غرينبيرغ عن «التسطيح» الذي تجلّى في لوحات الفنانين الأمريكيين التجريدية مثل جاكسون بولوك باعتباره تحقيقًا لهذا الوضوح الحداثي. لقد ضم هؤلاء الفنانين معًا ضمن فريق واحد، وهم يمثّلون المرحلة التالية في الحداثة، وقد حلّت رؤيتهم الأمريكية المميزة محلّ الفن الأوروبي الطليعي. وفي الوقت الذي أصبح فيه الفن التجريدي الأمريكي مهيمنًا، تراجعت هيمنة غرينبيرغ النقدية، وظهرت أشكال جديدة من الفن الطليعي، مستوحاة مباشرة من الثقافة الجماهيرية، وحلّت محلّ التعبيرية التجريدية في المخيال العام. تبنى فنانوّ «البوب» مثل: آندي وارهول، وريتشارد هاميلتون هذا النوع من «الفن الشعبي المبتذل» الذي رآه غرينبيرغ تلويثًا للفن الحقيقي. استمرت الأعمال الفنية التجريدية، ولكن تخلّى الفنّانون التجريديون الأكثر جرأة عن الفكرة الصارمة «للنقد الحداثي»، وعن الوضوح المتعلق بخصوصية الوسيط الفني، وذلك لصالح أشكال أخرى من التعبير. نظر فنانوّ «ما بعد الحداثة» إلى السخرية وعملية الرسم نفسها، كطرق لتجاوز الطريق المسدود للحداثة. تبنى الألماني غيرهارد ريختر كلا النهجين؛ فبعض أعماله التجريدية في الستينيات كانت مصنوعة بممسحاتٍ بدلًا من الفرشاة، حتى يتمكن من لفت الانتباه إلى عملية صنع اللوحة نفسها. كانت «اللوحات التجريدية» البارزة الأخرى التي رسمها ريختر في الواقع صورًا واقعية مرسومة بعناية تعكس لوحاته التجريدية الأخرى. أصبحت طلائعية الرسم التجريدي مفهومية أكثر، ما جعل ضمنيًّا قضية الرسم تحظى باستقلالية أقل مما كان كان يعتقد النقاد الحداثيون. قلّد فنانوّ «نيو جيو»، مثل: الرسام بيتر هالي، والنحات أشلي بيكرتون اللغة البصرية للتجريد الهندسي، لكنهما دمجاها مع السلع الاستهلاكية بألوانٍ تجارية فاتحة وأحيانًا فلورية. منذ ذلك الجيل ما بعد الحداثي من الرسامين والنحاتين الممتد من الستينيات إلى التسعينيات، ازدهر التجريد متفرّعًا إلى عددٍ لا يُحصى من الأساليب والمقاربات بجوار الفن التشخيصي. هنا يمكن القول إنّ التجريد المتحرّر من عبء التوقعات الحداثية هو ببساطة نهج للتعبير مثل أيّ نهج آخر. وتجدر الإشارة إلى أنّ بعض الفنانين التجريديين استخدموا الحيل البصرية المستعملة في الفن التشخيصي – مثل المنظور والتظليل – في لوحاتهم. ولاستخدامهم هذا أهداف فريدة و غالبًا لا تهتم بالنظرية. قلّد فنانوّ «ما بعد الحداثة» مثل: بيتر هالي اللغة البصرية المستعملة في الفن التجريدي الحديث (في حالة بيتر، التجريد الهندسي)، للتعليق على طبيعة الفن والمعنى نفسه. تمثّل هذه الكتل الملونة «الخلايا» و«الأنابيب».قلّد فنانوّ «ما بعد الحداثة» مثل: بيتر هالي اللغة البصرية المستعملة في الفن التجريدي الحديث (في حالة بيتر، التجريد الهندسي)، للتعليق على طبيعة الفن والمعنى نفسه. تمثّل هذه الكتل الملونة «الخلايا» و«الأنابيب». هذا هو التحرّر نحو الأفضل بين الرسامين التجريديين الذين يمكنهم الالتزام برؤيةٍ فريدة بالرسم على القماش. لكن فكّ ارتباط الفن التجريدي عن إطاره الفلسفي الأوسع أدى أيضًا إلى انتشارٍ يثير التساؤل لأعمال تجريدية متنوعة قابلة للاستهلاك – بمعنى أنّها فقدت قيمتها، وباتت تُباع وتُشترى سريعًا بأسعارٍ مربحة – يشتريها المشترون المتضاربون. دفع هذا التحول الناقد جيري سالتز إلى كتابة: « الزومبي على الجدران: لماذا يبدو الكثير من التجريد الجديد متشابهًا؟». وقد شبه اللّوحات التجريدية بصورة «الزومبي»، تحقيرًا لأعمال عددٍ من الرسامين التجريديين البارزين، الذين استخدموا الفنّ وجماليته لتقديم أعمال مبتذلة. ومن المفارقات أن هؤلاء الفنانين نظروا إلى الشكلانية بوصفها فنًّا حداثيًّا متبنّين منظور غرينبيرغ، لكنهم بالطبع قدّموا أعمالًا في ظلّ فراغ تاريخي وبعد فترةٍ طويلة حين لم يُصبح التجريد مثيرًا للاهتمام أو راديكاليًا بأي وجه من الوجوه. في الواقع، لم يصل مشروع الحداثة  في الفن التجريدي إلى نهايته، بل النقد. إنّ النقد -أيّ الإطار الفلسفي الواسع الذي يصادق على الأعمال الفنية ويثمّنها لأهميتها الثقافية والتاريخية- هو ما فقد التوجه والسلطة. كان مسار الفن الغربي منذ عصر التنوير يتأرجح بين قطبي الدوغمائية النقدية والإبداع. تكمن المشكلة أنه في العقود الأخيرة، وفي ظلّ غياب أي مشروع نقدي متماسك، انجرف الفن نحو إرضاء اهتمامات دقيقة ومتنوعة تزداد باستمرار. في حين كانت هناك «حركات» و«مدارس» فنية -مصطلحان يشيران إلى الوجهة والانضباط- لم يعد لدينا الآن سوى «مشاهد». هذا ليس بالضرورة أمرًا سيئًا. ولكن في عالم حيث «كل شيء مقبول – anything goes»، لا يوجد مجال لهذا النوع من الابتكار والتجاوز الذي أدى إلى ظهور الفن التجريدي في الغرب، وهذا ما جعل الفن الحديث فنًّا مثيرًا للغاية. من الصعب في هذه اللحظة التاريخية أن ندرك ما الذي جعل لوحة بولوك «رقم 32» مثيرة للانقسام، ومخلخلةً جدًا للمعايير، وفي الوقت نفسه محتفظةً بقيمةٍ عالية جدًا لأولئك الذين يعتقدون أن للفنِّ مكانًا في المجتمع يتجاوز المتعة. [divider style=”solid” top=”20″ bottom=”20″] [1] واللقب كذلك يُلمح إلى القاتل المتسلسل في لندن آخر القرن التاسع عشر: جاك السفّاح Jack the ripper (مدير التحرير). ### خارج عقلك | توم تشاتفيلد – ت: محمد السعيد                  عندما يكون هاتفي النقال بين يديّ، هل أكون أنا الشخص نفسه لو كان الهاتف في غرفة أخرى؟ من ناحية،... ### الدراما في التعليم: مقاربات وتطبيقات | نعيم حيماد افتتاحيّة حظي استخدام الدراما في التعليمفي السنوات الأخيرة باهتمام كبير من قبل نخبة من المنظرين والممارسين للدراما في مجال التعليم.... ### الحقائق المخفية | دي بي سي بيير – ت: محمد السعيد       يحمل جبل كلسي خشن في غرب إيران عددًا من النقوش البارزة، من بينها لوحة طولها خمسة وعشرين مترًا منقوشة... ### التغلُّب على كاشف الكذب | كلاريسا سيباغ-مونتِنفيوري – ت: محمد السعيد          حين  اتُّهِمَتْ مربية الأطفال البريطانية لويز وودورد بهزِّ رضيع حتى الموت في مدينة نيوتن بولاية ماساتشوستس، لم تكتفِ بإعلان... ### عن منصة معنى «معنى»، مؤسسة ثقافية تقدّمية ودار نشر تهتم بالفلسفة والمعرفة والفنون، عبر مجموعة متنوعة من المواد المقروءة والمسموعة والمرئية. انطلقت في 20 مارس 2019، بهدف إثراء المحتوى العربي، ورفع ذائقة ووعي المتلقّي المحلي والدولي، عبر الإنتاج الأصيل للمنصة والترجمة ونقل المعارف. ### روابط سريعة ### التصنيفات ### مرحبا بك! قم بتسجيل الدخول إلى حسابك تذكرني ### قم بإنشاء حساب جديد! املأ النموذج أدناه للتسجيل ### طلب إعادة تعيين كلمة المرور يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان البريد الإلكتروني لإعادة تعيين كلمة المرور الخاصة بك. ### Add New Playlist - Select Visibility -PublicPrivate No Result عرض جميع النتائج - 00:00 00:00 - 00:00 00:00
article
Arabic
ar
الفنّ التجريدي: بين الماضي والحاضر - منصة معنى الثقافية
https://mana.net/abstract-art/
1,849
بالنسبة إلى هذه المدارس، أصبح الفن أقل من أن يوصف بأنّه واقع افتراضي، لكنه مع ذلك احتفظ بالافتراضية، وأصبح افتراضيًا.
sentence
بالنسبة إلى هذه المدارس، أصبح الفن أقل من أن يوصف بأنّه واقع افتراضي، لكنه مع ذلك احتفظ بالافتراضية، وأصبح افتراضيًا. لقد أخذ الفن التجريدي مسار التطور هذا إلى أقصاه: من الواقع الافتراضي إلى الافتراضية.
paragraph
Arabic
ar
الفنّ التجريدي: بين الماضي والحاضر - منصة معنى الثقافية
https://mana.net/abstract-art/
1,850
لقد أخذ الفن التجريدي مسار التطور هذا إلى أقصاه: من الواقع الافتراضي إلى الافتراضية.
sentence
بالنسبة إلى هذه المدارس، أصبح الفن أقل من أن يوصف بأنّه واقع افتراضي، لكنه مع ذلك احتفظ بالافتراضية، وأصبح افتراضيًا. لقد أخذ الفن التجريدي مسار التطور هذا إلى أقصاه: من الواقع الافتراضي إلى الافتراضية.
paragraph
Arabic
ar
الفنّ التجريدي: بين الماضي والحاضر - منصة معنى الثقافية
https://mana.net/abstract-art/
1,851
ماذا تعني «الافتراضية» هنا؟ إنّها الوجود كجوهر وتأثير، ولكن بدون اللجوء إلى الواقع. اللوحة التجريدية التي رسمها كاندينسكي، على سبيل المثال، ما زالت تُعدّ علاقة متبادلة بين الشكل واللون، و تعتمد على الرسم كمستوى تخطيطي: إنها نافذة تطلّ على «الواقع» الفردي الذي تصوّره كاندينسكي.
paragraph
لا توجد منتجات في سلة المشتريات. No Result عرض جميع النتائج الثلاثاء, سبتمبر 10, 2024 No Result عرض جميع النتائج No Result عرض جميع النتائج # الفنّ التجريدي: بين الماضي والحاضر ## ترجمة: أنطونيوس نادر AA AA إعادة تعيين فنٌ مليء بالتحديات ثمّة خطٌ رفيع يفصل بين الفن التجريدي ومجرد الزخرفة، ولوحة «رقم 32» (نُشرت عام 1950)، لجاكسون بولوك تتأرجح بين هذا الخطّ. فهي لا تشير إلى معنىً واضح، ولكن لا يمكن القول إنّها بلا معنى على الإطلاق. كما أنّها ليست معبّرة بشكلٍ مباشر، ولا يعني هذا أنها لا تعبّر عن مدلولٍ ما. تحمل هذه اللوحة الكثير من المضامين عن الفن الغربي بالنسبة إلى شخصٍ خبيرٍ في تاريخ الفن؛ أما بالنسبة إلى شخصٍ عادي، فقد يراها عملًا مبتذلًا بالكاد يعبّر عن أمرٍ ما. اللوحة شبكة من الخطوط وبقعٍ من الألوان، رُسمت عن طريق صبّ طلاءٍ رخيص بعشوائيةٍ مباشرة على القماش. تتكون اللوحة من طلاءٍ أسود فقط وقماشٍ خام. واللوحة ضخمة؛ إذ يبلغ طولها تسعة أقدام وعرضها خمسة عشر قدمًا، وتغطي مجال رؤية المشاهد أثناء اقترابه منها. تقليديًّا، حتى اللوحات التجريدية تتكون من أجزاءٍ مترابطة مع بؤر تركيز (emphases) وعمقٍ يُنقل من خلال اللون والظلال، ولكن «رقم 32» ليس لها أجزاء؛ إنّها تتكون من تعالقات، والبؤرة فيها تكمن عبر امتداد سطح القماش المستطيل. يمنحها ما سبق عمقًا سطحيًا، وربما لا عمق فيها: مجرّد طلاء على قماش. إنّها عبث بالشكل واللون. حتى اسمها، ببساطة رقمٌ معيّن – رقم 32 – يجعلها تنأى بنفسها عن أي فكرة مفادها أنها تعكس مدلولًا محدّدًا. تشير عناوين أعمال بولوك الأخرى إلى نوعٍ من الاختبار الشخصي، وإلى الاستخدام السمفوني المتعدد الطبقات للون والملمس؛ خذ مثلًا لوحاته التي تحمل اسم: «إيقاع الخريف»، و«الضباب الأرجواني»، و«الأقطاب الزرقاء»، و«انعكاس الدنقلة الكبير». هذا لا ينطبق على لوحة «رقم 32»؛ شكلها الخام وبساطتها دليل على أنّ الفنان لم يخطط مسبقًا لرسمها؛ أيّ أنّه لم ينتق الألوان ولا الطبقات. يبدو بولوك هنا أكثر حضورًا، من خلال لمساته الحادة. بالنسبة إلى مؤيديّ عمل بولوك، تختصر هذه اللوحة خلاصة نظرة الفنان الجمالية. أما بالنسبة للبعض الآخر، فهي لوحة مبتذلة. وصف جوزيف بويس -النحات الألماني في فترة ما بعد الحرب- الفنَّ التجريدي الأمريكي بأنه مجرد «تغليف»، أيّ سطح بلا محتوى. في هذا الصدد، قد يتفق البعض أن لوحة «رقم 32» تجسد فراغ الفكر والشعور ذاك. فقد رأى الروائي والناقد الفني روبرت كوتس أن فن بولوك لم يكن سوى «انفجارات» غير منظمة من الطاقة العشوائية. غير أنّ طائفة كبيرة من متذوقي الفن التجريدي لا تروق إليهم أعمال بولوك ويرونها فنًّا محيرًا، حتى إنّ بعضهم يراها إهانةً للذوق أو الحسّ السليم. عُرف بولوك بلقب: «جاك فنان النقط» (Jack the Dripper) [1] في الأوساط الإعلامية المشككة بعمله حيث ادعى كثر أن أيّ شخص يمكنه أن يرسم كما يرسم بولوك إلّا أنّ أحدًا لم يتجرأ على فعل ذلك. «رقم 32» - جاكسون بولوك«رقم 32» – جاكسون بولوك بيد أنّ هذا هو مغزى الفن التجريدي في التقليد الغربي: إنّه تحدّ. وفي ظل الكثير هذه التحديات، تُعد لوحة « رقم 32» اللوحة الأكثر تمثيلًا لهذا الفن. قصة الفنّ التجريدي مسار قصة الفن التجريدي مضمّنة في الدراسات التاريخية الفنية، إلّا أنّ المحطات الرئيسة لهذا المسار كانت محط تغييرات مفاجئة كلما اكتشف مؤرخوّ الفن حقائق جديدة. انطلق مسار الفن التجريدي بدءًا من القرن التاسع عشر وما تلاه؛ حيث استفاد الفنانون من مادة الطلاء والجوانب الشكلية للرسم مثل اللون والدرجة والخطوط. يُعرف هذا الانشغال بالجوانب غير التمثيلية (non-representative) للفن باسم «الشكلانية»، لأنّه انشغال «بالشكل»، أيّ بتوسل شكل المحتوى بدلًا من المحتوى في ذاته. بالنسبة إلى الفنانين في القرن التاسع عشر، صُنّف الفن التجريدي على أنّه «فنٌّ من أجل الفنّ»، وكانت الفكرة الشائعة مفادها أنّ المتذوق للفن يمكنه الاستمتاع بالعمل دون اللجوء إلى معنى أو حتى أي شيء آخر يمثل أمرًا ما. تمثّل لوحة «الموسيقى الهادئة باللّونين الأسود والذهبي – الصاروخ الساقط» (1872)، للفنان جيمس مكنيل ويسلر هذا الاتجاه الذي تبلور لاحقًا في الفن التجريدي.  إنّ مشهد ويسلر الغامض من الناحية المكانيّة يقترب إلى التجريد، وذلك بمحاولته نقل الشعور أو الانطباع الخاص بالمشهد بدلًا من إعادة إنتاجه بحذافيره. «الموسيقى الهادئة باللونين الأسود والذهبي - الصاروخ الساقط» (1872-1877) - جيمس أبوت مكنيل ويسلير«الموسيقى الهادئة باللونين الأسود والذهبي – الصاروخ الساقط» (1872-1877) – جيمس أبوت مكنيل ويسلير في عام 1877، انتقد جون روسكين – أبرز نقّاد بريطانيا في ذلك الوقت – عمل ويسلير هذا نقدًا لاذعًا فشبهه «بمن قام برمي الطلاء في وجه الجمهور». تأثر ويسلر بهذا الكلام، فرفع دعوى قضائية ضد روسكين، بيد أنّه خسرها لأن المسؤولين عرضوا اللوحة -خطأً- مقلوبةً على المحكمة. أفلس ويسلير بسبب هذه القضية، لكن مسيرة تطور الفن التجريدي استمرت. من ناحيةٍ أخرى، تحديد أول فنان تجريدي في العالم موضوع نزاع. في نظر أبحاث تاريخ الفن التقليدية، كان فاسيلي كاندينسكي – فنان روسي الجنسية رسم لوحات تجريدية بالكامل في مطلع عام 1911- هو أول فنان تجريدي. لم ينل الفن التجريدي الرائد لهيلما أف كلينت تقديرًا إلا قبل سنوات قريبة. هذه صورة للمعرض الشهير في  متحف غاغينهايم، عام 2018 .لم ينل الفن التجريدي الرائد لهيلما أف كلينت تقديرًا إلا قبل سنوات قريبة. هذه صورة للمعرض الشهير في  متحف غاغينهايم، عام 2018 . ولكن في الآونة الأخيرة، وبفضل المعرض الرائد في متحف مقاطعة لوس أنجلوس للفنون في عام 1986 الذي حمل اسم «الروحانية في الفن: الرسم التجريدي 1890 – 1985»، وقع الاختيار على هيلما أف كلينت كأول رسامة تجريدية. بدأت كلينت في رسم لوحات تجريدية بدءًا من عام 1906، وحملت مجموعتها عنوان «الفوضى البدائية». كانت الفنانة متكتمة في ما يتعلق بأعمالها التجريدية، ولم تُعرض أيّ منها في معارض عامة، وبقيت غير معروفة حتى أزيح عنها الستار مؤخرًا. ولعل الجدال حول هوية أول من مارس الفن التجريدي سيستم، لكن الحقيقة الأكثر أهمية هي أن العديد من الفنانين الأوروبيين البارزين قد توصّلوا في أعمالهم إلى التجريد بحلول الحرب العالمية الأولى. لقد وجد كل منهم طريقته الخاصة في التخلي عن الفن التشخيصي (figurative painting). وجديرٌ بالذكر أنّه لم تكن هناك حركة «تجريدية» دولية ذات رؤية أو بيان مشترك. في ضوء ذلك، فإن السؤال الملحّ حقًا هو: لمَ لمْ يتبنى الفنانون الغربيون الفن التجريدي على امتداد قرون عديدة؟ لماذا كان التجريد غير ضروري أو لا معنى له أو غير مناسب أو حتى لا يمكن تقبّله لقرونٍ متوالية في الفن الغربي؟ ظهرت العديد من التفسيرات لشرح ذلك. إحدى النظريات الأكثر وضوحًا هي أن ظهور التصوير الفوتوغرافي بوصفه شكلًا من أشكال الفن، إضافةً إلى تطور الفن الحديث، سببان رئيسان لإزاحة الرسم التشخيصي. ثمّة إجابات أخرى غير ملموسة لاستكشاف الأسباب: ربما عندما أصبحت الأعمال الفنية قابلة للاستهالاك بشكل متزايد، مثل السلع، بات من السهولة فصل اللوحات والمنحوتات عن التجارب المحددة لمبدعيها. ربما أدت الحداثة في الغرب إلى إفراغ الفن من المحتوى التشخيصي؛ مما دفع الفنانين أيضًا إلى التخلي عن التمثيل التشخيصي. كل من هذه الإجابات معقدة وتتطلب الكثير من الشرح، ولا يمكن إلا أن تكون تخمينات. لا توجد إجابة واضحة لهذه المسألة. ربما يكون من الأفضل طرح السؤال حول سبب تقبّل الفن التجريدي فنًّا من الفنون الرسمية في تاريخ الفن الغربي في مرحلة معينة على علماء الأنثروبولوجيا بدلًا من طرحها على مؤرخي الفن. فما هو واضح أن الفن التجريدي كان موجودًا دائمًا في مناطق أخرى من العالم. ما جعل الفن التجريدي فنًّا حديثًا على وجه التحديد في العالم الغربي هو نظام المعارض، الذي أعطى القيمة الفنية للأعمال المعروضة. وكما هو واضح فقد ازدهر التجريد لآلاف السنين المناطق الشرقية والجنوبية من العالم، دون عناء التحقق من مكانة الأعمال المعروضة في الصالونات [والمعارض، كما هو في العالم الغربي]. الواقع الافتراضي و«الافتراضية» يتبنى بيبي كرمل وهو مؤرخ فني، في كتابه « الفن التجريدي: تاريخ عالمي»، فكرة أنّ الفن التجريدي كان دائمًا موجودًا بشكل طبيعي عندما ننظر إليه نظرة شاملة وعالمية، بيد أنّه يتحاشى طرح نظرية عن تطور الفن التجريدي. بالنسبة إلى كرمل، فإنّ هذا الفنّ متجذر في العالم الحقيقي، وهو ليس فنًّا «مجردًا» على الإطلاق، كما أنّه تقليد عالمي وليس محليًا. في دراسته حول الفن التجريدي يقسم العمل الفني إلى خمس فئات واسعة تنتمي إلى العالم الحقيقي: الأجسام، والمناظر الطبيعية، والكون، والبنى، والعلامات والأنماط. من خلال فحص الفن التجريدي بهذه الطريقة، يرى كرمل في اللوحات التجريدية موضوعات قابلة للتحليل، بعكس النقاد والمؤرخين الأرثوذكسيين الذين رأوا فيها مجرّد توليفات شكلية مكوّنة من لون وشكل. ربما يكون من الأفضل أن يطلق على الفن التجريدي: فن ما تم تجريده (abstracted art)؛ لأنّ الفنانين التجريديين عادةً ما يستخلصون ويجرّدون تعبيرات التجارب في شكل ولون،  أكثر من كونها توليفات مكونة من شكل ولون. ومرّد ذلك الطبيعة الجوهرية للرسم والنحت؛ فهما (الشكل اللّون) وسيطان للتعبير، مثل الشاشة أو المسرح لخيال الفنان. كما هو الحال في المسرح أو السينما، فإنّ جمهور اللوحة أو المنحوتة يعلّق معتقداته من أجل أن يتقبل المشهد. من المفيد التفكير في اللوحة التشخيصية التقليدية أو النحت على أنها حقيقة افتراضية. إذْ استخدم الفنانون لقرون عديدة الحيل البصرية -مثل المنظور الخطي، والتقصير المسبق، والتظليل- لمحاكاة الطريقة التي ندرك بها الأشياء في الفضاء الحقيقي. إنّ المشاهد تُنشأ في فضاء افتراضي – سواء كانت القاعدة التي تدعم التمثال أو القماش – ليراها المشاهدون بوصفها خدعة بصرية. «القديس بطرس شفاء أحد الأشخاص وبعث تابيثا من الموت» ماسولينو دي بانيكال. اعتمد الرسم الغربي قبل القرن العشرين على الحيل البصرية لخلق واقع افتراضي. إحدى هذه الحيل هي المنظور الخطي، وهذه اللوحة هي أول مثال لاستخدام نقطة تلاشٍ متسقة.«القديس بطرس شفاء أحد الأشخاص وبعث تابيثا من الموت» ماسولينو دي بانيكال. اعتمد الرسم الغربي قبل القرن العشرين على الحيل البصرية لخلق واقع افتراضي. إحدى هذه الحيل هي المنظور الخطي، وهذه اللوحة هي أول مثال لاستخدام نقطة تلاشٍ متسقة. يستمتع مشاهدوّ الأعمال الفنية العظيمة معنى ما يُرسم، ويقدرون الطريقة التي يتجلّى فيها الوهم عبر تمازج اللون والشكل. يبقى الفن التجريدي، إلى حدٍ ما، ضمن إطار التجربة الجمالية. فقد سعت حركات الفن الحديث التي أدت إلى التجريد -أيّ «مدارس الفن»، مثل الانطباعية والفاوفية والتكعيبية- إلى تمثيل العالم بشكل مختلف عن كل الفنون التي سبقتها. إذْ ادعوا الاقتراب من الحقيقة الذاتية عبر تهميش جميع الحيل الوهمية التقليدية التي حاولت إعادة إنتاج الواقع بحذافيره كحقيقة موضوعية. «الأحمر والأصفر والأزرق» (1925) واسيلي كاندينسكي.  كان كاندينسكي يعدّ لفترةٍ طويلة أب الرسم التجريدي الغربي.«الأحمر والأصفر والأزرق» (1925) واسيلي كاندينسكي.  كان كاندينسكي يعدّ لفترةٍ طويلة أب الرسم التجريدي الغربي. بالنسبة إلى هذه المدارس، أصبح الفن أقل من أن يوصف بأنّه واقع افتراضي، لكنه مع ذلك احتفظ بالافتراضية، وأصبح افتراضيًا. لقد أخذ الفن التجريدي مسار التطور هذا إلى أقصاه: من الواقع الافتراضي إلى الافتراضية. ماذا تعني «الافتراضية» هنا؟ إنّها الوجود كجوهر وتأثير، ولكن بدون اللجوء إلى الواقع. اللوحة التجريدية التي رسمها كاندينسكي، على سبيل المثال، ما زالت تُعدّ علاقة متبادلة بين الشكل واللون، و تعتمد على الرسم كمستوى تخطيطي: إنها نافذة تطلّ على «الواقع» الفردي الذي تصوّره كاندينسكي. وما تزال العناصر في لوحات كاندينسكي تحظى بعلاقة متبادلة، كما هو الحال في فضاء الواقع الافتراضي للوحة التشخيصية؛ فجوهر الرسم سليم إذ إنّ ذلك الفضاء الافتراضي ما زال موجودًا. عندما يكون الفن التجريدي بناءً خالصًا، ويتخلص من المساحة الافتراضية الملازمة للرسم والنحت، يصبح متميزًا عنهما. وصف دونالد جود الفنان التخفيفي (minimalist) مثل هذه الأعمال الفنية بأنها «أجسام محدّدة» (Specific Objects). إنّه مصطلح غير دقيق، ولكنه يصلح لإظهار أن مثل هذه الأعمال الفنية ليست رسمًا ولا نحتًا، ولكنها فئة أخرى تمامًا. رأى دونالد جود أن أعماله وأعمال العديد من معاصريه تشغل مساحة هجينة، لا هي لوحات ولا هي نحت. عمل دون عنوان لدونالد جود. استخدم جود هذا المصطلح لوصف أعماله الخاصة، ولكنه ينطبق على لوحات كازيمير ماليفيتش وفرانك ستيلا أحادية اللون، والتي تجعل اللوحة تندمج مع نفسها بالكامل، من أجل الوصول للتأثير الذي يأمل العمل في تحقيقه. في مثل هذه الأعمال، لم يعد قماش اللّوحة (أو القاعدة) سطحًا تتفاعل فيه الأشكال والألوان في الفضاء الافتراضي. بدلاً من ذلك، تتفاعل الأشكال والألوان في الفضاء الحقيقي، في فضائنا. تختلف معايير النجاح أو الفشل لهذه الأعمال عن الخصائص التقليدية للرسم والنحت. رأى جود أنّ خصائص الرسم والنحت تقف في طريق ما أراد تحقيقه من خلال اللون والشكل. في رأيه، كان لـ «أجسامه المحددة» تأثيرًا أحدّ من غيرها. الواقع والأشكال الجديدة للإدراك الحسّي الرسم نفسه له ثلاثة أنواع عامة من التجريد؛ أولًا، ثمّة أسلوب تعبيري تُرسم فيه الأشكال بحركاتٍ غير مقيدة؛ ثم هناك التجريد الهندسي حيث يتم هيكلة الأشكال؛ أما النوع الثالث، فهو تجريد مجال اللون حيث يتم عرض مساحات من الألوان بطريقةٍ لا شكل واضح لها. لم تكن هذه «الأنماط» (styles) أنماطًا عرضيةً أو تعتمد على ذوق أو ميل الرسام كوسيلة لتحقيق هدفٍ ما من البحث الفني. وخير مثال على ذلك هو الفنان الذي غالبًا ما ينظر إلى عمله على أنّه ذروة التجريد الهندسي: بيت موندريان. إنّ لوحات بيت موندريان المكونة من شبكات (grids) ذات الخطوط السوداء والأجزاء الملونة على خلفية بيضاء؛ تهدف إلى استحضار «حقيقة أعلى». بالنسبة إلى موندريان، كان الفن في جوهره معارضًا للواقع؛ «لأن الواقع يتعارض مع الروحي». بغض النظر عن هذه اللوحة الأشهر لموندريان، فإنّ جوانب الرسم التي تهم هذا الفنان حقًا لم تكن الجوانب المحددة للموضوع -أيّ ماذا أو ما يتم تصويره في اللوحة مثلًا- بل الجوانب القابلة للفهم عالميًا للشكل والخط واللون. إنّ لوحات موندريان، مثلها مثل لوحات الفنانين الآخرين، هي محاولة لاستخلاص الشكل واللون من أجل الاقتراب من ذلك الجوهر العالمي والروحي للفن. عبّر موندريان عن رغبته في الوصول إلى «أساس» الأشياء من خلال الحدس، كالعديد من الفنانين التجريديين الآخرين في النصف الأول من القرن العشرين الذين رغبوا في الوصول إلى قوى غير مرئية حولنا، ولكنها معروفة أو محدوسة. «التكوين الثاني باللون الأحمر والأزرق والأصفر» (1930) - بيت موندريان«التكوين الثاني باللون الأحمر والأزرق والأصفر» (1930) – بيت موندريان في أواخر القرن التاسع عشر، لاحظ العلماء بشكلٍ أفضل مما سبق القوى غير المرئية مع انتشار التقنيات الجديدة، وأصبح من الواضح أن العالم أرحب مما يبدو للعين. في الوقت نفسه، ظهرت حركات روحية بديلة جمعت بين الأفكار الأفلاطونية والتصوف. كان كلينت وموندريان من بين العديد من الفنانين الذين انغمسوا في أشكال الروحانية خارج العوالم التقليدية للدين. اعتقدت كلينت أن لوحاتها هي وحي عالم روحي، وأن مهمتها كانت العمل «على مستوى روحاني» لتمثيل روح الإنسان، بدلًا من صورته الفانية. بحلول عشرينيات القرن الماضي، كانت نظرية فرويد عن للعقل البشري قد تغلغلت أيضًا في عالم الفن.  كذلك السريالية، وهي حركة منظمة بإحكام بدأت مع بعض الفنانين الذين سعوا إلى التنقيب عن الإمكانات الإبداعية للعقل الباطن، وهي الحركة الثقافية التي كانت سائدة في أوروبا بين الحربين العالميتين. لم تكن السريالية دوغمائية في محاولتها لاستكشاف اللاوعي، ولذلك ظهر عدد من الأساليب والطرق لمحاولة إخراج اللاوعي إلى السطح. إحدى هذه الأساليب كان الرسم الآلي (Automatism)، وهي عملية يتخلى فيها الفنان عن السيطرة الواعية لليد التي ترسم  أو تصور. في هذا المجال، تبنى الفنانون مثل أندريه ماسون وخوان ميرو الفرصة لبناء صورهم باستخدام حركات حرّة، وحتى إلقاء الطلاء على القماش. طور أرشيل غوركي -هو مهاجر أرمني عاش في الولايات المتحدة- أسلوبًا في الرسم يدمج بين الرسم الآلي وتجريد مجال الألوان. لوحاته في الأربعينيات حجمُها ضخم – ومرد ذلك تأثره بأعماله السابقة كفنان جداري مُعيّن من الدولة خلال السنوات الأخيرة من الكساد الكبير – لكنها معبّرة وغنائية في الرسم بالفرشاة. ألهم إدماج غوركي للأنماط جيلًا واسعًا من الفنانين الأمريكيين في فترة ما بعد الحرب لاحتضان التجريد الواسع النطاق. ما نسميه الآن «التعبيرية التجريدية»، وكان ذاك الجيل في الواقع مجموعة فضفاضة من الفنانين الذين يستخدمون أنماطًا متعدّدة من أنماط التجريد. ربما كان القاسم المشترك بين هؤلاء الفنانين – على الأقل في السنوات الأولى – هو دعم جيل جديد من النقاد بقيادة كليمنت غرينبيرغ، الذي كان يعتقد أن التجريد هو التعبير الأسمى للفن الغربي. «الكبد هو مشط الديك» (1944) - أرشيل جوركي.«الكبد هو مشط الديك» (1944) – أرشيل جوركي. الحداثة ومصير الفنّ الغربي كان يُعتقد في بعض الأوساط الفكرية المؤثرة أنّ الفن يتقدم نحو هدف؛ وهذا المضمون يشتمل عليه مصطلح «الطليعية» (Avant-garde)، الذي يُوصف به الفنّانون الذين يبتكرون أرضية جمالية جديدة. أصل المصطلح فرنسي يُطلق على الجنود الذين يتقدمون إلى مناطق جديدة. بالنسبة إلى غرينبيرغ، لم يكن هؤلاء الفنّانون يوسّعون حدود إمكانات الفن؛ بل كانوا يتقدمون نحو الهدف الحقيقي والمفرد لكل شكل فني. يُعدّ غرينبيرغ شخصية مهمة في تاريخ الفن التجريدي، وذلك لأمرين: بوصفه مناصرًا رائدًا في مسألة تفوق الفن التجريدي على غيره من أنواع الرسم، وتأكيده للقوة التي امتلكها هذا الفن. كان ناقدًا في اللجنة الأمريكية للحريّة الثقافية التي تمولها الدولة، وهي مجموعة تم إنشاؤها لتعزيز الفن الأمريكي على المستوى الدولي. أصبحت أفكار غرينبيرغ مؤثرة عندما كانت الولايات المتحدة جزءًا من الحرب على الفاشية والنازية، وخلال الحرب الباردة اللاحقة ضد الشيوعية السوفيتية. كانت معايير الفن الفاشي والسوفياتي واضحة، وهي ما تحددها السلطات الثقافية أنها كذلك، بيد أنّه ما لم يكن واضحًا هو معايير الفن «الجيد» وتحديدًا في الغرب الديمقراطي. كان الماركسيون هم من تعاطف مع غرينبيرغ في البداية، لكن ارتبط تفكيره بشكلٍ متزايد بالهيمنة الثقافية الأمريكية. بالنسبة إليه، كان التجريد في أعمال بولوك فنًا مثاليًا لمجتمع ديمقراطي. تتجلى الحداثة في الفن، وفقًا لغرينبيرغ، في إطار التنوير الأوروبي؛ أيّ في فترة ازدهار الأفكار الفلسفية والعلمية التي أعطت الأولوية للعقل. في مقالته المؤثرة « الرسم الحداثي» (1961)، وصفَ غرينبيرغ إيمانويل كانط – الفيلسوف الألماني في عصر التنوير – بأنّه «أول حداثي حقيقي». كان أسلوب كانط في «النقد» هو استخدام العقل لنقد العقل بغرض توضيحه، ومنحه استقلالية عن أنواع التفكير الأخرى. «أولمبيا» - إدوارد مانيه (1863). بالنسبة إلى كليمنت غرينبيرغ، كان مانيه أول رسام حداثي. لقد رسم مانيه لوحاته بأسلوبٍ مسطّح بشكلٍ متعمد.«أولمبيا» – إدوارد مانيه (1863). بالنسبة إلى كليمنت غرينبيرغ، كان مانيه أول رسام حداثي. لقد رسم مانيه لوحاته بأسلوبٍ مسطّح بشكلٍ متعمد. بالطريقة نفسها، كان الرسامون الحداثيون – من إدوارد مانيه في القرن التاسع عشر إلى موريس لويس، وهو رسام يعمل ينتمي إلى رسامي أسلوب مجال ألوان في الولايات المتحدة في الوقت الذي كتب فيه غرينبيرغ مقالته – يعملون على ترسيخ الفن التعبيري «بشكل صارم في مجال تخصصه». رأى غرينبيرغ أن وضوح الفن التجريدي -الذي كان صادقًا بالنسبة إلى الوسيط الذي يُعبّر من خلاله- معارضٌ لـ«الفن الشعبي المبتذل [الكيتش]» الذي ينُتج على نطاق واسع في الثقافة الشعبية. إن إزالة «الكيتش» كانت مسألة استجلاء وتوضيح تحتاجها جميع الفنون لكي تصبح تعبيرًا عن إمكاناتها الجمالية الكامنة. اللوحات مسطّحة، وإيهام العمق الذي نجده في معظم الفن الغربي كان انحرافًا عن جوهر فن الرسم ذاته. كانت استقلالية الشكل الفني في جميع خصائصه دون أن تتلوث بأشكال فنية أخرى. وفقًا لغرينبيرغ، يعدّ الشكل واللون من أهم خصائص الرسم، و أفضل تمثيل لها يكون بشكلٍ مسطّح. وهكذا دافع غرينبيرغ عن «التسطيح» الذي تجلّى في لوحات الفنانين الأمريكيين التجريدية مثل جاكسون بولوك باعتباره تحقيقًا لهذا الوضوح الحداثي. لقد ضم هؤلاء الفنانين معًا ضمن فريق واحد، وهم يمثّلون المرحلة التالية في الحداثة، وقد حلّت رؤيتهم الأمريكية المميزة محلّ الفن الأوروبي الطليعي. وفي الوقت الذي أصبح فيه الفن التجريدي الأمريكي مهيمنًا، تراجعت هيمنة غرينبيرغ النقدية، وظهرت أشكال جديدة من الفن الطليعي، مستوحاة مباشرة من الثقافة الجماهيرية، وحلّت محلّ التعبيرية التجريدية في المخيال العام. تبنى فنانوّ «البوب» مثل: آندي وارهول، وريتشارد هاميلتون هذا النوع من «الفن الشعبي المبتذل» الذي رآه غرينبيرغ تلويثًا للفن الحقيقي. استمرت الأعمال الفنية التجريدية، ولكن تخلّى الفنّانون التجريديون الأكثر جرأة عن الفكرة الصارمة «للنقد الحداثي»، وعن الوضوح المتعلق بخصوصية الوسيط الفني، وذلك لصالح أشكال أخرى من التعبير. نظر فنانوّ «ما بعد الحداثة» إلى السخرية وعملية الرسم نفسها، كطرق لتجاوز الطريق المسدود للحداثة. تبنى الألماني غيرهارد ريختر كلا النهجين؛ فبعض أعماله التجريدية في الستينيات كانت مصنوعة بممسحاتٍ بدلًا من الفرشاة، حتى يتمكن من لفت الانتباه إلى عملية صنع اللوحة نفسها. كانت «اللوحات التجريدية» البارزة الأخرى التي رسمها ريختر في الواقع صورًا واقعية مرسومة بعناية تعكس لوحاته التجريدية الأخرى. أصبحت طلائعية الرسم التجريدي مفهومية أكثر، ما جعل ضمنيًّا قضية الرسم تحظى باستقلالية أقل مما كان كان يعتقد النقاد الحداثيون. قلّد فنانوّ «نيو جيو»، مثل: الرسام بيتر هالي، والنحات أشلي بيكرتون اللغة البصرية للتجريد الهندسي، لكنهما دمجاها مع السلع الاستهلاكية بألوانٍ تجارية فاتحة وأحيانًا فلورية. منذ ذلك الجيل ما بعد الحداثي من الرسامين والنحاتين الممتد من الستينيات إلى التسعينيات، ازدهر التجريد متفرّعًا إلى عددٍ لا يُحصى من الأساليب والمقاربات بجوار الفن التشخيصي. هنا يمكن القول إنّ التجريد المتحرّر من عبء التوقعات الحداثية هو ببساطة نهج للتعبير مثل أيّ نهج آخر. وتجدر الإشارة إلى أنّ بعض الفنانين التجريديين استخدموا الحيل البصرية المستعملة في الفن التشخيصي – مثل المنظور والتظليل – في لوحاتهم. ولاستخدامهم هذا أهداف فريدة و غالبًا لا تهتم بالنظرية. قلّد فنانوّ «ما بعد الحداثة» مثل: بيتر هالي اللغة البصرية المستعملة في الفن التجريدي الحديث (في حالة بيتر، التجريد الهندسي)، للتعليق على طبيعة الفن والمعنى نفسه. تمثّل هذه الكتل الملونة «الخلايا» و«الأنابيب».قلّد فنانوّ «ما بعد الحداثة» مثل: بيتر هالي اللغة البصرية المستعملة في الفن التجريدي الحديث (في حالة بيتر، التجريد الهندسي)، للتعليق على طبيعة الفن والمعنى نفسه. تمثّل هذه الكتل الملونة «الخلايا» و«الأنابيب». هذا هو التحرّر نحو الأفضل بين الرسامين التجريديين الذين يمكنهم الالتزام برؤيةٍ فريدة بالرسم على القماش. لكن فكّ ارتباط الفن التجريدي عن إطاره الفلسفي الأوسع أدى أيضًا إلى انتشارٍ يثير التساؤل لأعمال تجريدية متنوعة قابلة للاستهلاك – بمعنى أنّها فقدت قيمتها، وباتت تُباع وتُشترى سريعًا بأسعارٍ مربحة – يشتريها المشترون المتضاربون. دفع هذا التحول الناقد جيري سالتز إلى كتابة: « الزومبي على الجدران: لماذا يبدو الكثير من التجريد الجديد متشابهًا؟». وقد شبه اللّوحات التجريدية بصورة «الزومبي»، تحقيرًا لأعمال عددٍ من الرسامين التجريديين البارزين، الذين استخدموا الفنّ وجماليته لتقديم أعمال مبتذلة. ومن المفارقات أن هؤلاء الفنانين نظروا إلى الشكلانية بوصفها فنًّا حداثيًّا متبنّين منظور غرينبيرغ، لكنهم بالطبع قدّموا أعمالًا في ظلّ فراغ تاريخي وبعد فترةٍ طويلة حين لم يُصبح التجريد مثيرًا للاهتمام أو راديكاليًا بأي وجه من الوجوه. في الواقع، لم يصل مشروع الحداثة  في الفن التجريدي إلى نهايته، بل النقد. إنّ النقد -أيّ الإطار الفلسفي الواسع الذي يصادق على الأعمال الفنية ويثمّنها لأهميتها الثقافية والتاريخية- هو ما فقد التوجه والسلطة. كان مسار الفن الغربي منذ عصر التنوير يتأرجح بين قطبي الدوغمائية النقدية والإبداع. تكمن المشكلة أنه في العقود الأخيرة، وفي ظلّ غياب أي مشروع نقدي متماسك، انجرف الفن نحو إرضاء اهتمامات دقيقة ومتنوعة تزداد باستمرار. في حين كانت هناك «حركات» و«مدارس» فنية -مصطلحان يشيران إلى الوجهة والانضباط- لم يعد لدينا الآن سوى «مشاهد». هذا ليس بالضرورة أمرًا سيئًا. ولكن في عالم حيث «كل شيء مقبول – anything goes»، لا يوجد مجال لهذا النوع من الابتكار والتجاوز الذي أدى إلى ظهور الفن التجريدي في الغرب، وهذا ما جعل الفن الحديث فنًّا مثيرًا للغاية. من الصعب في هذه اللحظة التاريخية أن ندرك ما الذي جعل لوحة بولوك «رقم 32» مثيرة للانقسام، ومخلخلةً جدًا للمعايير، وفي الوقت نفسه محتفظةً بقيمةٍ عالية جدًا لأولئك الذين يعتقدون أن للفنِّ مكانًا في المجتمع يتجاوز المتعة. [divider style=”solid” top=”20″ bottom=”20″] [1] واللقب كذلك يُلمح إلى القاتل المتسلسل في لندن آخر القرن التاسع عشر: جاك السفّاح Jack the ripper (مدير التحرير). ### خارج عقلك | توم تشاتفيلد – ت: محمد السعيد                  عندما يكون هاتفي النقال بين يديّ، هل أكون أنا الشخص نفسه لو كان الهاتف في غرفة أخرى؟ من ناحية،... ### الدراما في التعليم: مقاربات وتطبيقات | نعيم حيماد افتتاحيّة حظي استخدام الدراما في التعليمفي السنوات الأخيرة باهتمام كبير من قبل نخبة من المنظرين والممارسين للدراما في مجال التعليم.... ### الحقائق المخفية | دي بي سي بيير – ت: محمد السعيد       يحمل جبل كلسي خشن في غرب إيران عددًا من النقوش البارزة، من بينها لوحة طولها خمسة وعشرين مترًا منقوشة... ### التغلُّب على كاشف الكذب | كلاريسا سيباغ-مونتِنفيوري – ت: محمد السعيد          حين  اتُّهِمَتْ مربية الأطفال البريطانية لويز وودورد بهزِّ رضيع حتى الموت في مدينة نيوتن بولاية ماساتشوستس، لم تكتفِ بإعلان... ### عن منصة معنى «معنى»، مؤسسة ثقافية تقدّمية ودار نشر تهتم بالفلسفة والمعرفة والفنون، عبر مجموعة متنوعة من المواد المقروءة والمسموعة والمرئية. انطلقت في 20 مارس 2019، بهدف إثراء المحتوى العربي، ورفع ذائقة ووعي المتلقّي المحلي والدولي، عبر الإنتاج الأصيل للمنصة والترجمة ونقل المعارف. ### روابط سريعة ### التصنيفات ### مرحبا بك! قم بتسجيل الدخول إلى حسابك تذكرني ### قم بإنشاء حساب جديد! املأ النموذج أدناه للتسجيل ### طلب إعادة تعيين كلمة المرور يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان البريد الإلكتروني لإعادة تعيين كلمة المرور الخاصة بك. ### Add New Playlist - Select Visibility -PublicPrivate No Result عرض جميع النتائج - 00:00 00:00 - 00:00 00:00
article
Arabic
ar
الفنّ التجريدي: بين الماضي والحاضر - منصة معنى الثقافية
https://mana.net/abstract-art/
1,852
إنّها الوجود كجوهر وتأثير، ولكن بدون اللجوء إلى الواقع.
sentence
ماذا تعني «الافتراضية» هنا؟ إنّها الوجود كجوهر وتأثير، ولكن بدون اللجوء إلى الواقع. اللوحة التجريدية التي رسمها كاندينسكي، على سبيل المثال، ما زالت تُعدّ علاقة متبادلة بين الشكل واللون، و تعتمد على الرسم كمستوى تخطيطي: إنها نافذة تطلّ على «الواقع» الفردي الذي تصوّره كاندينسكي.
paragraph
Arabic
ar
الفنّ التجريدي: بين الماضي والحاضر - منصة معنى الثقافية
https://mana.net/abstract-art/
1,853
اللوحة التجريدية التي رسمها كاندينسكي، على سبيل المثال، ما زالت تُعدّ علاقة متبادلة بين الشكل واللون، و تعتمد على الرسم كمستوى تخطيطي: إنها نافذة تطلّ على «الواقع» الفردي الذي تصوّره كاندينسكي.
sentence
ماذا تعني «الافتراضية» هنا؟ إنّها الوجود كجوهر وتأثير، ولكن بدون اللجوء إلى الواقع. اللوحة التجريدية التي رسمها كاندينسكي، على سبيل المثال، ما زالت تُعدّ علاقة متبادلة بين الشكل واللون، و تعتمد على الرسم كمستوى تخطيطي: إنها نافذة تطلّ على «الواقع» الفردي الذي تصوّره كاندينسكي.
paragraph
Arabic
ar
الفنّ التجريدي: بين الماضي والحاضر - منصة معنى الثقافية
https://mana.net/abstract-art/
1,854
وما تزال العناصر في لوحات كاندينسكي تحظى بعلاقة متبادلة، كما هو الحال في فضاء الواقع الافتراضي للوحة التشخيصية؛ فجوهر الرسم سليم إذ إنّ ذلك الفضاء الافتراضي ما زال موجودًا. عندما يكون الفن التجريدي بناءً خالصًا، ويتخلص من المساحة الافتراضية الملازمة للرسم والنحت، يصبح متميزًا عنهما.
paragraph
لا توجد منتجات في سلة المشتريات. No Result عرض جميع النتائج الثلاثاء, سبتمبر 10, 2024 No Result عرض جميع النتائج No Result عرض جميع النتائج # الفنّ التجريدي: بين الماضي والحاضر ## ترجمة: أنطونيوس نادر AA AA إعادة تعيين فنٌ مليء بالتحديات ثمّة خطٌ رفيع يفصل بين الفن التجريدي ومجرد الزخرفة، ولوحة «رقم 32» (نُشرت عام 1950)، لجاكسون بولوك تتأرجح بين هذا الخطّ. فهي لا تشير إلى معنىً واضح، ولكن لا يمكن القول إنّها بلا معنى على الإطلاق. كما أنّها ليست معبّرة بشكلٍ مباشر، ولا يعني هذا أنها لا تعبّر عن مدلولٍ ما. تحمل هذه اللوحة الكثير من المضامين عن الفن الغربي بالنسبة إلى شخصٍ خبيرٍ في تاريخ الفن؛ أما بالنسبة إلى شخصٍ عادي، فقد يراها عملًا مبتذلًا بالكاد يعبّر عن أمرٍ ما. اللوحة شبكة من الخطوط وبقعٍ من الألوان، رُسمت عن طريق صبّ طلاءٍ رخيص بعشوائيةٍ مباشرة على القماش. تتكون اللوحة من طلاءٍ أسود فقط وقماشٍ خام. واللوحة ضخمة؛ إذ يبلغ طولها تسعة أقدام وعرضها خمسة عشر قدمًا، وتغطي مجال رؤية المشاهد أثناء اقترابه منها. تقليديًّا، حتى اللوحات التجريدية تتكون من أجزاءٍ مترابطة مع بؤر تركيز (emphases) وعمقٍ يُنقل من خلال اللون والظلال، ولكن «رقم 32» ليس لها أجزاء؛ إنّها تتكون من تعالقات، والبؤرة فيها تكمن عبر امتداد سطح القماش المستطيل. يمنحها ما سبق عمقًا سطحيًا، وربما لا عمق فيها: مجرّد طلاء على قماش. إنّها عبث بالشكل واللون. حتى اسمها، ببساطة رقمٌ معيّن – رقم 32 – يجعلها تنأى بنفسها عن أي فكرة مفادها أنها تعكس مدلولًا محدّدًا. تشير عناوين أعمال بولوك الأخرى إلى نوعٍ من الاختبار الشخصي، وإلى الاستخدام السمفوني المتعدد الطبقات للون والملمس؛ خذ مثلًا لوحاته التي تحمل اسم: «إيقاع الخريف»، و«الضباب الأرجواني»، و«الأقطاب الزرقاء»، و«انعكاس الدنقلة الكبير». هذا لا ينطبق على لوحة «رقم 32»؛ شكلها الخام وبساطتها دليل على أنّ الفنان لم يخطط مسبقًا لرسمها؛ أيّ أنّه لم ينتق الألوان ولا الطبقات. يبدو بولوك هنا أكثر حضورًا، من خلال لمساته الحادة. بالنسبة إلى مؤيديّ عمل بولوك، تختصر هذه اللوحة خلاصة نظرة الفنان الجمالية. أما بالنسبة للبعض الآخر، فهي لوحة مبتذلة. وصف جوزيف بويس -النحات الألماني في فترة ما بعد الحرب- الفنَّ التجريدي الأمريكي بأنه مجرد «تغليف»، أيّ سطح بلا محتوى. في هذا الصدد، قد يتفق البعض أن لوحة «رقم 32» تجسد فراغ الفكر والشعور ذاك. فقد رأى الروائي والناقد الفني روبرت كوتس أن فن بولوك لم يكن سوى «انفجارات» غير منظمة من الطاقة العشوائية. غير أنّ طائفة كبيرة من متذوقي الفن التجريدي لا تروق إليهم أعمال بولوك ويرونها فنًّا محيرًا، حتى إنّ بعضهم يراها إهانةً للذوق أو الحسّ السليم. عُرف بولوك بلقب: «جاك فنان النقط» (Jack the Dripper) [1] في الأوساط الإعلامية المشككة بعمله حيث ادعى كثر أن أيّ شخص يمكنه أن يرسم كما يرسم بولوك إلّا أنّ أحدًا لم يتجرأ على فعل ذلك. «رقم 32» - جاكسون بولوك«رقم 32» – جاكسون بولوك بيد أنّ هذا هو مغزى الفن التجريدي في التقليد الغربي: إنّه تحدّ. وفي ظل الكثير هذه التحديات، تُعد لوحة « رقم 32» اللوحة الأكثر تمثيلًا لهذا الفن. قصة الفنّ التجريدي مسار قصة الفن التجريدي مضمّنة في الدراسات التاريخية الفنية، إلّا أنّ المحطات الرئيسة لهذا المسار كانت محط تغييرات مفاجئة كلما اكتشف مؤرخوّ الفن حقائق جديدة. انطلق مسار الفن التجريدي بدءًا من القرن التاسع عشر وما تلاه؛ حيث استفاد الفنانون من مادة الطلاء والجوانب الشكلية للرسم مثل اللون والدرجة والخطوط. يُعرف هذا الانشغال بالجوانب غير التمثيلية (non-representative) للفن باسم «الشكلانية»، لأنّه انشغال «بالشكل»، أيّ بتوسل شكل المحتوى بدلًا من المحتوى في ذاته. بالنسبة إلى الفنانين في القرن التاسع عشر، صُنّف الفن التجريدي على أنّه «فنٌّ من أجل الفنّ»، وكانت الفكرة الشائعة مفادها أنّ المتذوق للفن يمكنه الاستمتاع بالعمل دون اللجوء إلى معنى أو حتى أي شيء آخر يمثل أمرًا ما. تمثّل لوحة «الموسيقى الهادئة باللّونين الأسود والذهبي – الصاروخ الساقط» (1872)، للفنان جيمس مكنيل ويسلر هذا الاتجاه الذي تبلور لاحقًا في الفن التجريدي.  إنّ مشهد ويسلر الغامض من الناحية المكانيّة يقترب إلى التجريد، وذلك بمحاولته نقل الشعور أو الانطباع الخاص بالمشهد بدلًا من إعادة إنتاجه بحذافيره. «الموسيقى الهادئة باللونين الأسود والذهبي - الصاروخ الساقط» (1872-1877) - جيمس أبوت مكنيل ويسلير«الموسيقى الهادئة باللونين الأسود والذهبي – الصاروخ الساقط» (1872-1877) – جيمس أبوت مكنيل ويسلير في عام 1877، انتقد جون روسكين – أبرز نقّاد بريطانيا في ذلك الوقت – عمل ويسلير هذا نقدًا لاذعًا فشبهه «بمن قام برمي الطلاء في وجه الجمهور». تأثر ويسلر بهذا الكلام، فرفع دعوى قضائية ضد روسكين، بيد أنّه خسرها لأن المسؤولين عرضوا اللوحة -خطأً- مقلوبةً على المحكمة. أفلس ويسلير بسبب هذه القضية، لكن مسيرة تطور الفن التجريدي استمرت. من ناحيةٍ أخرى، تحديد أول فنان تجريدي في العالم موضوع نزاع. في نظر أبحاث تاريخ الفن التقليدية، كان فاسيلي كاندينسكي – فنان روسي الجنسية رسم لوحات تجريدية بالكامل في مطلع عام 1911- هو أول فنان تجريدي. لم ينل الفن التجريدي الرائد لهيلما أف كلينت تقديرًا إلا قبل سنوات قريبة. هذه صورة للمعرض الشهير في  متحف غاغينهايم، عام 2018 .لم ينل الفن التجريدي الرائد لهيلما أف كلينت تقديرًا إلا قبل سنوات قريبة. هذه صورة للمعرض الشهير في  متحف غاغينهايم، عام 2018 . ولكن في الآونة الأخيرة، وبفضل المعرض الرائد في متحف مقاطعة لوس أنجلوس للفنون في عام 1986 الذي حمل اسم «الروحانية في الفن: الرسم التجريدي 1890 – 1985»، وقع الاختيار على هيلما أف كلينت كأول رسامة تجريدية. بدأت كلينت في رسم لوحات تجريدية بدءًا من عام 1906، وحملت مجموعتها عنوان «الفوضى البدائية». كانت الفنانة متكتمة في ما يتعلق بأعمالها التجريدية، ولم تُعرض أيّ منها في معارض عامة، وبقيت غير معروفة حتى أزيح عنها الستار مؤخرًا. ولعل الجدال حول هوية أول من مارس الفن التجريدي سيستم، لكن الحقيقة الأكثر أهمية هي أن العديد من الفنانين الأوروبيين البارزين قد توصّلوا في أعمالهم إلى التجريد بحلول الحرب العالمية الأولى. لقد وجد كل منهم طريقته الخاصة في التخلي عن الفن التشخيصي (figurative painting). وجديرٌ بالذكر أنّه لم تكن هناك حركة «تجريدية» دولية ذات رؤية أو بيان مشترك. في ضوء ذلك، فإن السؤال الملحّ حقًا هو: لمَ لمْ يتبنى الفنانون الغربيون الفن التجريدي على امتداد قرون عديدة؟ لماذا كان التجريد غير ضروري أو لا معنى له أو غير مناسب أو حتى لا يمكن تقبّله لقرونٍ متوالية في الفن الغربي؟ ظهرت العديد من التفسيرات لشرح ذلك. إحدى النظريات الأكثر وضوحًا هي أن ظهور التصوير الفوتوغرافي بوصفه شكلًا من أشكال الفن، إضافةً إلى تطور الفن الحديث، سببان رئيسان لإزاحة الرسم التشخيصي. ثمّة إجابات أخرى غير ملموسة لاستكشاف الأسباب: ربما عندما أصبحت الأعمال الفنية قابلة للاستهالاك بشكل متزايد، مثل السلع، بات من السهولة فصل اللوحات والمنحوتات عن التجارب المحددة لمبدعيها. ربما أدت الحداثة في الغرب إلى إفراغ الفن من المحتوى التشخيصي؛ مما دفع الفنانين أيضًا إلى التخلي عن التمثيل التشخيصي. كل من هذه الإجابات معقدة وتتطلب الكثير من الشرح، ولا يمكن إلا أن تكون تخمينات. لا توجد إجابة واضحة لهذه المسألة. ربما يكون من الأفضل طرح السؤال حول سبب تقبّل الفن التجريدي فنًّا من الفنون الرسمية في تاريخ الفن الغربي في مرحلة معينة على علماء الأنثروبولوجيا بدلًا من طرحها على مؤرخي الفن. فما هو واضح أن الفن التجريدي كان موجودًا دائمًا في مناطق أخرى من العالم. ما جعل الفن التجريدي فنًّا حديثًا على وجه التحديد في العالم الغربي هو نظام المعارض، الذي أعطى القيمة الفنية للأعمال المعروضة. وكما هو واضح فقد ازدهر التجريد لآلاف السنين المناطق الشرقية والجنوبية من العالم، دون عناء التحقق من مكانة الأعمال المعروضة في الصالونات [والمعارض، كما هو في العالم الغربي]. الواقع الافتراضي و«الافتراضية» يتبنى بيبي كرمل وهو مؤرخ فني، في كتابه « الفن التجريدي: تاريخ عالمي»، فكرة أنّ الفن التجريدي كان دائمًا موجودًا بشكل طبيعي عندما ننظر إليه نظرة شاملة وعالمية، بيد أنّه يتحاشى طرح نظرية عن تطور الفن التجريدي. بالنسبة إلى كرمل، فإنّ هذا الفنّ متجذر في العالم الحقيقي، وهو ليس فنًّا «مجردًا» على الإطلاق، كما أنّه تقليد عالمي وليس محليًا. في دراسته حول الفن التجريدي يقسم العمل الفني إلى خمس فئات واسعة تنتمي إلى العالم الحقيقي: الأجسام، والمناظر الطبيعية، والكون، والبنى، والعلامات والأنماط. من خلال فحص الفن التجريدي بهذه الطريقة، يرى كرمل في اللوحات التجريدية موضوعات قابلة للتحليل، بعكس النقاد والمؤرخين الأرثوذكسيين الذين رأوا فيها مجرّد توليفات شكلية مكوّنة من لون وشكل. ربما يكون من الأفضل أن يطلق على الفن التجريدي: فن ما تم تجريده (abstracted art)؛ لأنّ الفنانين التجريديين عادةً ما يستخلصون ويجرّدون تعبيرات التجارب في شكل ولون،  أكثر من كونها توليفات مكونة من شكل ولون. ومرّد ذلك الطبيعة الجوهرية للرسم والنحت؛ فهما (الشكل اللّون) وسيطان للتعبير، مثل الشاشة أو المسرح لخيال الفنان. كما هو الحال في المسرح أو السينما، فإنّ جمهور اللوحة أو المنحوتة يعلّق معتقداته من أجل أن يتقبل المشهد. من المفيد التفكير في اللوحة التشخيصية التقليدية أو النحت على أنها حقيقة افتراضية. إذْ استخدم الفنانون لقرون عديدة الحيل البصرية -مثل المنظور الخطي، والتقصير المسبق، والتظليل- لمحاكاة الطريقة التي ندرك بها الأشياء في الفضاء الحقيقي. إنّ المشاهد تُنشأ في فضاء افتراضي – سواء كانت القاعدة التي تدعم التمثال أو القماش – ليراها المشاهدون بوصفها خدعة بصرية. «القديس بطرس شفاء أحد الأشخاص وبعث تابيثا من الموت» ماسولينو دي بانيكال. اعتمد الرسم الغربي قبل القرن العشرين على الحيل البصرية لخلق واقع افتراضي. إحدى هذه الحيل هي المنظور الخطي، وهذه اللوحة هي أول مثال لاستخدام نقطة تلاشٍ متسقة.«القديس بطرس شفاء أحد الأشخاص وبعث تابيثا من الموت» ماسولينو دي بانيكال. اعتمد الرسم الغربي قبل القرن العشرين على الحيل البصرية لخلق واقع افتراضي. إحدى هذه الحيل هي المنظور الخطي، وهذه اللوحة هي أول مثال لاستخدام نقطة تلاشٍ متسقة. يستمتع مشاهدوّ الأعمال الفنية العظيمة معنى ما يُرسم، ويقدرون الطريقة التي يتجلّى فيها الوهم عبر تمازج اللون والشكل. يبقى الفن التجريدي، إلى حدٍ ما، ضمن إطار التجربة الجمالية. فقد سعت حركات الفن الحديث التي أدت إلى التجريد -أيّ «مدارس الفن»، مثل الانطباعية والفاوفية والتكعيبية- إلى تمثيل العالم بشكل مختلف عن كل الفنون التي سبقتها. إذْ ادعوا الاقتراب من الحقيقة الذاتية عبر تهميش جميع الحيل الوهمية التقليدية التي حاولت إعادة إنتاج الواقع بحذافيره كحقيقة موضوعية. «الأحمر والأصفر والأزرق» (1925) واسيلي كاندينسكي.  كان كاندينسكي يعدّ لفترةٍ طويلة أب الرسم التجريدي الغربي.«الأحمر والأصفر والأزرق» (1925) واسيلي كاندينسكي.  كان كاندينسكي يعدّ لفترةٍ طويلة أب الرسم التجريدي الغربي. بالنسبة إلى هذه المدارس، أصبح الفن أقل من أن يوصف بأنّه واقع افتراضي، لكنه مع ذلك احتفظ بالافتراضية، وأصبح افتراضيًا. لقد أخذ الفن التجريدي مسار التطور هذا إلى أقصاه: من الواقع الافتراضي إلى الافتراضية. ماذا تعني «الافتراضية» هنا؟ إنّها الوجود كجوهر وتأثير، ولكن بدون اللجوء إلى الواقع. اللوحة التجريدية التي رسمها كاندينسكي، على سبيل المثال، ما زالت تُعدّ علاقة متبادلة بين الشكل واللون، و تعتمد على الرسم كمستوى تخطيطي: إنها نافذة تطلّ على «الواقع» الفردي الذي تصوّره كاندينسكي. وما تزال العناصر في لوحات كاندينسكي تحظى بعلاقة متبادلة، كما هو الحال في فضاء الواقع الافتراضي للوحة التشخيصية؛ فجوهر الرسم سليم إذ إنّ ذلك الفضاء الافتراضي ما زال موجودًا. عندما يكون الفن التجريدي بناءً خالصًا، ويتخلص من المساحة الافتراضية الملازمة للرسم والنحت، يصبح متميزًا عنهما. وصف دونالد جود الفنان التخفيفي (minimalist) مثل هذه الأعمال الفنية بأنها «أجسام محدّدة» (Specific Objects). إنّه مصطلح غير دقيق، ولكنه يصلح لإظهار أن مثل هذه الأعمال الفنية ليست رسمًا ولا نحتًا، ولكنها فئة أخرى تمامًا. رأى دونالد جود أن أعماله وأعمال العديد من معاصريه تشغل مساحة هجينة، لا هي لوحات ولا هي نحت. عمل دون عنوان لدونالد جود. استخدم جود هذا المصطلح لوصف أعماله الخاصة، ولكنه ينطبق على لوحات كازيمير ماليفيتش وفرانك ستيلا أحادية اللون، والتي تجعل اللوحة تندمج مع نفسها بالكامل، من أجل الوصول للتأثير الذي يأمل العمل في تحقيقه. في مثل هذه الأعمال، لم يعد قماش اللّوحة (أو القاعدة) سطحًا تتفاعل فيه الأشكال والألوان في الفضاء الافتراضي. بدلاً من ذلك، تتفاعل الأشكال والألوان في الفضاء الحقيقي، في فضائنا. تختلف معايير النجاح أو الفشل لهذه الأعمال عن الخصائص التقليدية للرسم والنحت. رأى جود أنّ خصائص الرسم والنحت تقف في طريق ما أراد تحقيقه من خلال اللون والشكل. في رأيه، كان لـ «أجسامه المحددة» تأثيرًا أحدّ من غيرها. الواقع والأشكال الجديدة للإدراك الحسّي الرسم نفسه له ثلاثة أنواع عامة من التجريد؛ أولًا، ثمّة أسلوب تعبيري تُرسم فيه الأشكال بحركاتٍ غير مقيدة؛ ثم هناك التجريد الهندسي حيث يتم هيكلة الأشكال؛ أما النوع الثالث، فهو تجريد مجال اللون حيث يتم عرض مساحات من الألوان بطريقةٍ لا شكل واضح لها. لم تكن هذه «الأنماط» (styles) أنماطًا عرضيةً أو تعتمد على ذوق أو ميل الرسام كوسيلة لتحقيق هدفٍ ما من البحث الفني. وخير مثال على ذلك هو الفنان الذي غالبًا ما ينظر إلى عمله على أنّه ذروة التجريد الهندسي: بيت موندريان. إنّ لوحات بيت موندريان المكونة من شبكات (grids) ذات الخطوط السوداء والأجزاء الملونة على خلفية بيضاء؛ تهدف إلى استحضار «حقيقة أعلى». بالنسبة إلى موندريان، كان الفن في جوهره معارضًا للواقع؛ «لأن الواقع يتعارض مع الروحي». بغض النظر عن هذه اللوحة الأشهر لموندريان، فإنّ جوانب الرسم التي تهم هذا الفنان حقًا لم تكن الجوانب المحددة للموضوع -أيّ ماذا أو ما يتم تصويره في اللوحة مثلًا- بل الجوانب القابلة للفهم عالميًا للشكل والخط واللون. إنّ لوحات موندريان، مثلها مثل لوحات الفنانين الآخرين، هي محاولة لاستخلاص الشكل واللون من أجل الاقتراب من ذلك الجوهر العالمي والروحي للفن. عبّر موندريان عن رغبته في الوصول إلى «أساس» الأشياء من خلال الحدس، كالعديد من الفنانين التجريديين الآخرين في النصف الأول من القرن العشرين الذين رغبوا في الوصول إلى قوى غير مرئية حولنا، ولكنها معروفة أو محدوسة. «التكوين الثاني باللون الأحمر والأزرق والأصفر» (1930) - بيت موندريان«التكوين الثاني باللون الأحمر والأزرق والأصفر» (1930) – بيت موندريان في أواخر القرن التاسع عشر، لاحظ العلماء بشكلٍ أفضل مما سبق القوى غير المرئية مع انتشار التقنيات الجديدة، وأصبح من الواضح أن العالم أرحب مما يبدو للعين. في الوقت نفسه، ظهرت حركات روحية بديلة جمعت بين الأفكار الأفلاطونية والتصوف. كان كلينت وموندريان من بين العديد من الفنانين الذين انغمسوا في أشكال الروحانية خارج العوالم التقليدية للدين. اعتقدت كلينت أن لوحاتها هي وحي عالم روحي، وأن مهمتها كانت العمل «على مستوى روحاني» لتمثيل روح الإنسان، بدلًا من صورته الفانية. بحلول عشرينيات القرن الماضي، كانت نظرية فرويد عن للعقل البشري قد تغلغلت أيضًا في عالم الفن.  كذلك السريالية، وهي حركة منظمة بإحكام بدأت مع بعض الفنانين الذين سعوا إلى التنقيب عن الإمكانات الإبداعية للعقل الباطن، وهي الحركة الثقافية التي كانت سائدة في أوروبا بين الحربين العالميتين. لم تكن السريالية دوغمائية في محاولتها لاستكشاف اللاوعي، ولذلك ظهر عدد من الأساليب والطرق لمحاولة إخراج اللاوعي إلى السطح. إحدى هذه الأساليب كان الرسم الآلي (Automatism)، وهي عملية يتخلى فيها الفنان عن السيطرة الواعية لليد التي ترسم  أو تصور. في هذا المجال، تبنى الفنانون مثل أندريه ماسون وخوان ميرو الفرصة لبناء صورهم باستخدام حركات حرّة، وحتى إلقاء الطلاء على القماش. طور أرشيل غوركي -هو مهاجر أرمني عاش في الولايات المتحدة- أسلوبًا في الرسم يدمج بين الرسم الآلي وتجريد مجال الألوان. لوحاته في الأربعينيات حجمُها ضخم – ومرد ذلك تأثره بأعماله السابقة كفنان جداري مُعيّن من الدولة خلال السنوات الأخيرة من الكساد الكبير – لكنها معبّرة وغنائية في الرسم بالفرشاة. ألهم إدماج غوركي للأنماط جيلًا واسعًا من الفنانين الأمريكيين في فترة ما بعد الحرب لاحتضان التجريد الواسع النطاق. ما نسميه الآن «التعبيرية التجريدية»، وكان ذاك الجيل في الواقع مجموعة فضفاضة من الفنانين الذين يستخدمون أنماطًا متعدّدة من أنماط التجريد. ربما كان القاسم المشترك بين هؤلاء الفنانين – على الأقل في السنوات الأولى – هو دعم جيل جديد من النقاد بقيادة كليمنت غرينبيرغ، الذي كان يعتقد أن التجريد هو التعبير الأسمى للفن الغربي. «الكبد هو مشط الديك» (1944) - أرشيل جوركي.«الكبد هو مشط الديك» (1944) – أرشيل جوركي. الحداثة ومصير الفنّ الغربي كان يُعتقد في بعض الأوساط الفكرية المؤثرة أنّ الفن يتقدم نحو هدف؛ وهذا المضمون يشتمل عليه مصطلح «الطليعية» (Avant-garde)، الذي يُوصف به الفنّانون الذين يبتكرون أرضية جمالية جديدة. أصل المصطلح فرنسي يُطلق على الجنود الذين يتقدمون إلى مناطق جديدة. بالنسبة إلى غرينبيرغ، لم يكن هؤلاء الفنّانون يوسّعون حدود إمكانات الفن؛ بل كانوا يتقدمون نحو الهدف الحقيقي والمفرد لكل شكل فني. يُعدّ غرينبيرغ شخصية مهمة في تاريخ الفن التجريدي، وذلك لأمرين: بوصفه مناصرًا رائدًا في مسألة تفوق الفن التجريدي على غيره من أنواع الرسم، وتأكيده للقوة التي امتلكها هذا الفن. كان ناقدًا في اللجنة الأمريكية للحريّة الثقافية التي تمولها الدولة، وهي مجموعة تم إنشاؤها لتعزيز الفن الأمريكي على المستوى الدولي. أصبحت أفكار غرينبيرغ مؤثرة عندما كانت الولايات المتحدة جزءًا من الحرب على الفاشية والنازية، وخلال الحرب الباردة اللاحقة ضد الشيوعية السوفيتية. كانت معايير الفن الفاشي والسوفياتي واضحة، وهي ما تحددها السلطات الثقافية أنها كذلك، بيد أنّه ما لم يكن واضحًا هو معايير الفن «الجيد» وتحديدًا في الغرب الديمقراطي. كان الماركسيون هم من تعاطف مع غرينبيرغ في البداية، لكن ارتبط تفكيره بشكلٍ متزايد بالهيمنة الثقافية الأمريكية. بالنسبة إليه، كان التجريد في أعمال بولوك فنًا مثاليًا لمجتمع ديمقراطي. تتجلى الحداثة في الفن، وفقًا لغرينبيرغ، في إطار التنوير الأوروبي؛ أيّ في فترة ازدهار الأفكار الفلسفية والعلمية التي أعطت الأولوية للعقل. في مقالته المؤثرة « الرسم الحداثي» (1961)، وصفَ غرينبيرغ إيمانويل كانط – الفيلسوف الألماني في عصر التنوير – بأنّه «أول حداثي حقيقي». كان أسلوب كانط في «النقد» هو استخدام العقل لنقد العقل بغرض توضيحه، ومنحه استقلالية عن أنواع التفكير الأخرى. «أولمبيا» - إدوارد مانيه (1863). بالنسبة إلى كليمنت غرينبيرغ، كان مانيه أول رسام حداثي. لقد رسم مانيه لوحاته بأسلوبٍ مسطّح بشكلٍ متعمد.«أولمبيا» – إدوارد مانيه (1863). بالنسبة إلى كليمنت غرينبيرغ، كان مانيه أول رسام حداثي. لقد رسم مانيه لوحاته بأسلوبٍ مسطّح بشكلٍ متعمد. بالطريقة نفسها، كان الرسامون الحداثيون – من إدوارد مانيه في القرن التاسع عشر إلى موريس لويس، وهو رسام يعمل ينتمي إلى رسامي أسلوب مجال ألوان في الولايات المتحدة في الوقت الذي كتب فيه غرينبيرغ مقالته – يعملون على ترسيخ الفن التعبيري «بشكل صارم في مجال تخصصه». رأى غرينبيرغ أن وضوح الفن التجريدي -الذي كان صادقًا بالنسبة إلى الوسيط الذي يُعبّر من خلاله- معارضٌ لـ«الفن الشعبي المبتذل [الكيتش]» الذي ينُتج على نطاق واسع في الثقافة الشعبية. إن إزالة «الكيتش» كانت مسألة استجلاء وتوضيح تحتاجها جميع الفنون لكي تصبح تعبيرًا عن إمكاناتها الجمالية الكامنة. اللوحات مسطّحة، وإيهام العمق الذي نجده في معظم الفن الغربي كان انحرافًا عن جوهر فن الرسم ذاته. كانت استقلالية الشكل الفني في جميع خصائصه دون أن تتلوث بأشكال فنية أخرى. وفقًا لغرينبيرغ، يعدّ الشكل واللون من أهم خصائص الرسم، و أفضل تمثيل لها يكون بشكلٍ مسطّح. وهكذا دافع غرينبيرغ عن «التسطيح» الذي تجلّى في لوحات الفنانين الأمريكيين التجريدية مثل جاكسون بولوك باعتباره تحقيقًا لهذا الوضوح الحداثي. لقد ضم هؤلاء الفنانين معًا ضمن فريق واحد، وهم يمثّلون المرحلة التالية في الحداثة، وقد حلّت رؤيتهم الأمريكية المميزة محلّ الفن الأوروبي الطليعي. وفي الوقت الذي أصبح فيه الفن التجريدي الأمريكي مهيمنًا، تراجعت هيمنة غرينبيرغ النقدية، وظهرت أشكال جديدة من الفن الطليعي، مستوحاة مباشرة من الثقافة الجماهيرية، وحلّت محلّ التعبيرية التجريدية في المخيال العام. تبنى فنانوّ «البوب» مثل: آندي وارهول، وريتشارد هاميلتون هذا النوع من «الفن الشعبي المبتذل» الذي رآه غرينبيرغ تلويثًا للفن الحقيقي. استمرت الأعمال الفنية التجريدية، ولكن تخلّى الفنّانون التجريديون الأكثر جرأة عن الفكرة الصارمة «للنقد الحداثي»، وعن الوضوح المتعلق بخصوصية الوسيط الفني، وذلك لصالح أشكال أخرى من التعبير. نظر فنانوّ «ما بعد الحداثة» إلى السخرية وعملية الرسم نفسها، كطرق لتجاوز الطريق المسدود للحداثة. تبنى الألماني غيرهارد ريختر كلا النهجين؛ فبعض أعماله التجريدية في الستينيات كانت مصنوعة بممسحاتٍ بدلًا من الفرشاة، حتى يتمكن من لفت الانتباه إلى عملية صنع اللوحة نفسها. كانت «اللوحات التجريدية» البارزة الأخرى التي رسمها ريختر في الواقع صورًا واقعية مرسومة بعناية تعكس لوحاته التجريدية الأخرى. أصبحت طلائعية الرسم التجريدي مفهومية أكثر، ما جعل ضمنيًّا قضية الرسم تحظى باستقلالية أقل مما كان كان يعتقد النقاد الحداثيون. قلّد فنانوّ «نيو جيو»، مثل: الرسام بيتر هالي، والنحات أشلي بيكرتون اللغة البصرية للتجريد الهندسي، لكنهما دمجاها مع السلع الاستهلاكية بألوانٍ تجارية فاتحة وأحيانًا فلورية. منذ ذلك الجيل ما بعد الحداثي من الرسامين والنحاتين الممتد من الستينيات إلى التسعينيات، ازدهر التجريد متفرّعًا إلى عددٍ لا يُحصى من الأساليب والمقاربات بجوار الفن التشخيصي. هنا يمكن القول إنّ التجريد المتحرّر من عبء التوقعات الحداثية هو ببساطة نهج للتعبير مثل أيّ نهج آخر. وتجدر الإشارة إلى أنّ بعض الفنانين التجريديين استخدموا الحيل البصرية المستعملة في الفن التشخيصي – مثل المنظور والتظليل – في لوحاتهم. ولاستخدامهم هذا أهداف فريدة و غالبًا لا تهتم بالنظرية. قلّد فنانوّ «ما بعد الحداثة» مثل: بيتر هالي اللغة البصرية المستعملة في الفن التجريدي الحديث (في حالة بيتر، التجريد الهندسي)، للتعليق على طبيعة الفن والمعنى نفسه. تمثّل هذه الكتل الملونة «الخلايا» و«الأنابيب».قلّد فنانوّ «ما بعد الحداثة» مثل: بيتر هالي اللغة البصرية المستعملة في الفن التجريدي الحديث (في حالة بيتر، التجريد الهندسي)، للتعليق على طبيعة الفن والمعنى نفسه. تمثّل هذه الكتل الملونة «الخلايا» و«الأنابيب». هذا هو التحرّر نحو الأفضل بين الرسامين التجريديين الذين يمكنهم الالتزام برؤيةٍ فريدة بالرسم على القماش. لكن فكّ ارتباط الفن التجريدي عن إطاره الفلسفي الأوسع أدى أيضًا إلى انتشارٍ يثير التساؤل لأعمال تجريدية متنوعة قابلة للاستهلاك – بمعنى أنّها فقدت قيمتها، وباتت تُباع وتُشترى سريعًا بأسعارٍ مربحة – يشتريها المشترون المتضاربون. دفع هذا التحول الناقد جيري سالتز إلى كتابة: « الزومبي على الجدران: لماذا يبدو الكثير من التجريد الجديد متشابهًا؟». وقد شبه اللّوحات التجريدية بصورة «الزومبي»، تحقيرًا لأعمال عددٍ من الرسامين التجريديين البارزين، الذين استخدموا الفنّ وجماليته لتقديم أعمال مبتذلة. ومن المفارقات أن هؤلاء الفنانين نظروا إلى الشكلانية بوصفها فنًّا حداثيًّا متبنّين منظور غرينبيرغ، لكنهم بالطبع قدّموا أعمالًا في ظلّ فراغ تاريخي وبعد فترةٍ طويلة حين لم يُصبح التجريد مثيرًا للاهتمام أو راديكاليًا بأي وجه من الوجوه. في الواقع، لم يصل مشروع الحداثة  في الفن التجريدي إلى نهايته، بل النقد. إنّ النقد -أيّ الإطار الفلسفي الواسع الذي يصادق على الأعمال الفنية ويثمّنها لأهميتها الثقافية والتاريخية- هو ما فقد التوجه والسلطة. كان مسار الفن الغربي منذ عصر التنوير يتأرجح بين قطبي الدوغمائية النقدية والإبداع. تكمن المشكلة أنه في العقود الأخيرة، وفي ظلّ غياب أي مشروع نقدي متماسك، انجرف الفن نحو إرضاء اهتمامات دقيقة ومتنوعة تزداد باستمرار. في حين كانت هناك «حركات» و«مدارس» فنية -مصطلحان يشيران إلى الوجهة والانضباط- لم يعد لدينا الآن سوى «مشاهد». هذا ليس بالضرورة أمرًا سيئًا. ولكن في عالم حيث «كل شيء مقبول – anything goes»، لا يوجد مجال لهذا النوع من الابتكار والتجاوز الذي أدى إلى ظهور الفن التجريدي في الغرب، وهذا ما جعل الفن الحديث فنًّا مثيرًا للغاية. من الصعب في هذه اللحظة التاريخية أن ندرك ما الذي جعل لوحة بولوك «رقم 32» مثيرة للانقسام، ومخلخلةً جدًا للمعايير، وفي الوقت نفسه محتفظةً بقيمةٍ عالية جدًا لأولئك الذين يعتقدون أن للفنِّ مكانًا في المجتمع يتجاوز المتعة. [divider style=”solid” top=”20″ bottom=”20″] [1] واللقب كذلك يُلمح إلى القاتل المتسلسل في لندن آخر القرن التاسع عشر: جاك السفّاح Jack the ripper (مدير التحرير). ### خارج عقلك | توم تشاتفيلد – ت: محمد السعيد                  عندما يكون هاتفي النقال بين يديّ، هل أكون أنا الشخص نفسه لو كان الهاتف في غرفة أخرى؟ من ناحية،... ### الدراما في التعليم: مقاربات وتطبيقات | نعيم حيماد افتتاحيّة حظي استخدام الدراما في التعليمفي السنوات الأخيرة باهتمام كبير من قبل نخبة من المنظرين والممارسين للدراما في مجال التعليم.... ### الحقائق المخفية | دي بي سي بيير – ت: محمد السعيد       يحمل جبل كلسي خشن في غرب إيران عددًا من النقوش البارزة، من بينها لوحة طولها خمسة وعشرين مترًا منقوشة... ### التغلُّب على كاشف الكذب | كلاريسا سيباغ-مونتِنفيوري – ت: محمد السعيد          حين  اتُّهِمَتْ مربية الأطفال البريطانية لويز وودورد بهزِّ رضيع حتى الموت في مدينة نيوتن بولاية ماساتشوستس، لم تكتفِ بإعلان... ### عن منصة معنى «معنى»، مؤسسة ثقافية تقدّمية ودار نشر تهتم بالفلسفة والمعرفة والفنون، عبر مجموعة متنوعة من المواد المقروءة والمسموعة والمرئية. انطلقت في 20 مارس 2019، بهدف إثراء المحتوى العربي، ورفع ذائقة ووعي المتلقّي المحلي والدولي، عبر الإنتاج الأصيل للمنصة والترجمة ونقل المعارف. ### روابط سريعة ### التصنيفات ### مرحبا بك! قم بتسجيل الدخول إلى حسابك تذكرني ### قم بإنشاء حساب جديد! املأ النموذج أدناه للتسجيل ### طلب إعادة تعيين كلمة المرور يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان البريد الإلكتروني لإعادة تعيين كلمة المرور الخاصة بك. ### Add New Playlist - Select Visibility -PublicPrivate No Result عرض جميع النتائج - 00:00 00:00 - 00:00 00:00
article
Arabic
ar
الفنّ التجريدي: بين الماضي والحاضر - منصة معنى الثقافية
https://mana.net/abstract-art/
1,855
وما تزال العناصر في لوحات كاندينسكي تحظى بعلاقة متبادلة، كما هو الحال في فضاء الواقع الافتراضي للوحة التشخيصية؛ فجوهر الرسم سليم إذ إنّ ذلك الفضاء الافتراضي ما زال موجودًا.
sentence
وما تزال العناصر في لوحات كاندينسكي تحظى بعلاقة متبادلة، كما هو الحال في فضاء الواقع الافتراضي للوحة التشخيصية؛ فجوهر الرسم سليم إذ إنّ ذلك الفضاء الافتراضي ما زال موجودًا. عندما يكون الفن التجريدي بناءً خالصًا، ويتخلص من المساحة الافتراضية الملازمة للرسم والنحت، يصبح متميزًا عنهما.
paragraph
Arabic
ar
الفنّ التجريدي: بين الماضي والحاضر - منصة معنى الثقافية
https://mana.net/abstract-art/
1,856
عندما يكون الفن التجريدي بناءً خالصًا، ويتخلص من المساحة الافتراضية الملازمة للرسم والنحت، يصبح متميزًا عنهما.
sentence
وما تزال العناصر في لوحات كاندينسكي تحظى بعلاقة متبادلة، كما هو الحال في فضاء الواقع الافتراضي للوحة التشخيصية؛ فجوهر الرسم سليم إذ إنّ ذلك الفضاء الافتراضي ما زال موجودًا. عندما يكون الفن التجريدي بناءً خالصًا، ويتخلص من المساحة الافتراضية الملازمة للرسم والنحت، يصبح متميزًا عنهما.
paragraph
Arabic
ar
الفنّ التجريدي: بين الماضي والحاضر - منصة معنى الثقافية
https://mana.net/abstract-art/
1,857
وصف دونالد جود الفنان التخفيفي (minimalist) مثل هذه الأعمال الفنية بأنها «أجسام محدّدة» (Specific Objects). إنّه مصطلح غير دقيق، ولكنه يصلح لإظهار أن مثل هذه الأعمال الفنية ليست رسمًا ولا نحتًا، ولكنها فئة أخرى تمامًا.
paragraph
لا توجد منتجات في سلة المشتريات. No Result عرض جميع النتائج الثلاثاء, سبتمبر 10, 2024 No Result عرض جميع النتائج No Result عرض جميع النتائج # الفنّ التجريدي: بين الماضي والحاضر ## ترجمة: أنطونيوس نادر AA AA إعادة تعيين فنٌ مليء بالتحديات ثمّة خطٌ رفيع يفصل بين الفن التجريدي ومجرد الزخرفة، ولوحة «رقم 32» (نُشرت عام 1950)، لجاكسون بولوك تتأرجح بين هذا الخطّ. فهي لا تشير إلى معنىً واضح، ولكن لا يمكن القول إنّها بلا معنى على الإطلاق. كما أنّها ليست معبّرة بشكلٍ مباشر، ولا يعني هذا أنها لا تعبّر عن مدلولٍ ما. تحمل هذه اللوحة الكثير من المضامين عن الفن الغربي بالنسبة إلى شخصٍ خبيرٍ في تاريخ الفن؛ أما بالنسبة إلى شخصٍ عادي، فقد يراها عملًا مبتذلًا بالكاد يعبّر عن أمرٍ ما. اللوحة شبكة من الخطوط وبقعٍ من الألوان، رُسمت عن طريق صبّ طلاءٍ رخيص بعشوائيةٍ مباشرة على القماش. تتكون اللوحة من طلاءٍ أسود فقط وقماشٍ خام. واللوحة ضخمة؛ إذ يبلغ طولها تسعة أقدام وعرضها خمسة عشر قدمًا، وتغطي مجال رؤية المشاهد أثناء اقترابه منها. تقليديًّا، حتى اللوحات التجريدية تتكون من أجزاءٍ مترابطة مع بؤر تركيز (emphases) وعمقٍ يُنقل من خلال اللون والظلال، ولكن «رقم 32» ليس لها أجزاء؛ إنّها تتكون من تعالقات، والبؤرة فيها تكمن عبر امتداد سطح القماش المستطيل. يمنحها ما سبق عمقًا سطحيًا، وربما لا عمق فيها: مجرّد طلاء على قماش. إنّها عبث بالشكل واللون. حتى اسمها، ببساطة رقمٌ معيّن – رقم 32 – يجعلها تنأى بنفسها عن أي فكرة مفادها أنها تعكس مدلولًا محدّدًا. تشير عناوين أعمال بولوك الأخرى إلى نوعٍ من الاختبار الشخصي، وإلى الاستخدام السمفوني المتعدد الطبقات للون والملمس؛ خذ مثلًا لوحاته التي تحمل اسم: «إيقاع الخريف»، و«الضباب الأرجواني»، و«الأقطاب الزرقاء»، و«انعكاس الدنقلة الكبير». هذا لا ينطبق على لوحة «رقم 32»؛ شكلها الخام وبساطتها دليل على أنّ الفنان لم يخطط مسبقًا لرسمها؛ أيّ أنّه لم ينتق الألوان ولا الطبقات. يبدو بولوك هنا أكثر حضورًا، من خلال لمساته الحادة. بالنسبة إلى مؤيديّ عمل بولوك، تختصر هذه اللوحة خلاصة نظرة الفنان الجمالية. أما بالنسبة للبعض الآخر، فهي لوحة مبتذلة. وصف جوزيف بويس -النحات الألماني في فترة ما بعد الحرب- الفنَّ التجريدي الأمريكي بأنه مجرد «تغليف»، أيّ سطح بلا محتوى. في هذا الصدد، قد يتفق البعض أن لوحة «رقم 32» تجسد فراغ الفكر والشعور ذاك. فقد رأى الروائي والناقد الفني روبرت كوتس أن فن بولوك لم يكن سوى «انفجارات» غير منظمة من الطاقة العشوائية. غير أنّ طائفة كبيرة من متذوقي الفن التجريدي لا تروق إليهم أعمال بولوك ويرونها فنًّا محيرًا، حتى إنّ بعضهم يراها إهانةً للذوق أو الحسّ السليم. عُرف بولوك بلقب: «جاك فنان النقط» (Jack the Dripper) [1] في الأوساط الإعلامية المشككة بعمله حيث ادعى كثر أن أيّ شخص يمكنه أن يرسم كما يرسم بولوك إلّا أنّ أحدًا لم يتجرأ على فعل ذلك. «رقم 32» - جاكسون بولوك«رقم 32» – جاكسون بولوك بيد أنّ هذا هو مغزى الفن التجريدي في التقليد الغربي: إنّه تحدّ. وفي ظل الكثير هذه التحديات، تُعد لوحة « رقم 32» اللوحة الأكثر تمثيلًا لهذا الفن. قصة الفنّ التجريدي مسار قصة الفن التجريدي مضمّنة في الدراسات التاريخية الفنية، إلّا أنّ المحطات الرئيسة لهذا المسار كانت محط تغييرات مفاجئة كلما اكتشف مؤرخوّ الفن حقائق جديدة. انطلق مسار الفن التجريدي بدءًا من القرن التاسع عشر وما تلاه؛ حيث استفاد الفنانون من مادة الطلاء والجوانب الشكلية للرسم مثل اللون والدرجة والخطوط. يُعرف هذا الانشغال بالجوانب غير التمثيلية (non-representative) للفن باسم «الشكلانية»، لأنّه انشغال «بالشكل»، أيّ بتوسل شكل المحتوى بدلًا من المحتوى في ذاته. بالنسبة إلى الفنانين في القرن التاسع عشر، صُنّف الفن التجريدي على أنّه «فنٌّ من أجل الفنّ»، وكانت الفكرة الشائعة مفادها أنّ المتذوق للفن يمكنه الاستمتاع بالعمل دون اللجوء إلى معنى أو حتى أي شيء آخر يمثل أمرًا ما. تمثّل لوحة «الموسيقى الهادئة باللّونين الأسود والذهبي – الصاروخ الساقط» (1872)، للفنان جيمس مكنيل ويسلر هذا الاتجاه الذي تبلور لاحقًا في الفن التجريدي.  إنّ مشهد ويسلر الغامض من الناحية المكانيّة يقترب إلى التجريد، وذلك بمحاولته نقل الشعور أو الانطباع الخاص بالمشهد بدلًا من إعادة إنتاجه بحذافيره. «الموسيقى الهادئة باللونين الأسود والذهبي - الصاروخ الساقط» (1872-1877) - جيمس أبوت مكنيل ويسلير«الموسيقى الهادئة باللونين الأسود والذهبي – الصاروخ الساقط» (1872-1877) – جيمس أبوت مكنيل ويسلير في عام 1877، انتقد جون روسكين – أبرز نقّاد بريطانيا في ذلك الوقت – عمل ويسلير هذا نقدًا لاذعًا فشبهه «بمن قام برمي الطلاء في وجه الجمهور». تأثر ويسلر بهذا الكلام، فرفع دعوى قضائية ضد روسكين، بيد أنّه خسرها لأن المسؤولين عرضوا اللوحة -خطأً- مقلوبةً على المحكمة. أفلس ويسلير بسبب هذه القضية، لكن مسيرة تطور الفن التجريدي استمرت. من ناحيةٍ أخرى، تحديد أول فنان تجريدي في العالم موضوع نزاع. في نظر أبحاث تاريخ الفن التقليدية، كان فاسيلي كاندينسكي – فنان روسي الجنسية رسم لوحات تجريدية بالكامل في مطلع عام 1911- هو أول فنان تجريدي. لم ينل الفن التجريدي الرائد لهيلما أف كلينت تقديرًا إلا قبل سنوات قريبة. هذه صورة للمعرض الشهير في  متحف غاغينهايم، عام 2018 .لم ينل الفن التجريدي الرائد لهيلما أف كلينت تقديرًا إلا قبل سنوات قريبة. هذه صورة للمعرض الشهير في  متحف غاغينهايم، عام 2018 . ولكن في الآونة الأخيرة، وبفضل المعرض الرائد في متحف مقاطعة لوس أنجلوس للفنون في عام 1986 الذي حمل اسم «الروحانية في الفن: الرسم التجريدي 1890 – 1985»، وقع الاختيار على هيلما أف كلينت كأول رسامة تجريدية. بدأت كلينت في رسم لوحات تجريدية بدءًا من عام 1906، وحملت مجموعتها عنوان «الفوضى البدائية». كانت الفنانة متكتمة في ما يتعلق بأعمالها التجريدية، ولم تُعرض أيّ منها في معارض عامة، وبقيت غير معروفة حتى أزيح عنها الستار مؤخرًا. ولعل الجدال حول هوية أول من مارس الفن التجريدي سيستم، لكن الحقيقة الأكثر أهمية هي أن العديد من الفنانين الأوروبيين البارزين قد توصّلوا في أعمالهم إلى التجريد بحلول الحرب العالمية الأولى. لقد وجد كل منهم طريقته الخاصة في التخلي عن الفن التشخيصي (figurative painting). وجديرٌ بالذكر أنّه لم تكن هناك حركة «تجريدية» دولية ذات رؤية أو بيان مشترك. في ضوء ذلك، فإن السؤال الملحّ حقًا هو: لمَ لمْ يتبنى الفنانون الغربيون الفن التجريدي على امتداد قرون عديدة؟ لماذا كان التجريد غير ضروري أو لا معنى له أو غير مناسب أو حتى لا يمكن تقبّله لقرونٍ متوالية في الفن الغربي؟ ظهرت العديد من التفسيرات لشرح ذلك. إحدى النظريات الأكثر وضوحًا هي أن ظهور التصوير الفوتوغرافي بوصفه شكلًا من أشكال الفن، إضافةً إلى تطور الفن الحديث، سببان رئيسان لإزاحة الرسم التشخيصي. ثمّة إجابات أخرى غير ملموسة لاستكشاف الأسباب: ربما عندما أصبحت الأعمال الفنية قابلة للاستهالاك بشكل متزايد، مثل السلع، بات من السهولة فصل اللوحات والمنحوتات عن التجارب المحددة لمبدعيها. ربما أدت الحداثة في الغرب إلى إفراغ الفن من المحتوى التشخيصي؛ مما دفع الفنانين أيضًا إلى التخلي عن التمثيل التشخيصي. كل من هذه الإجابات معقدة وتتطلب الكثير من الشرح، ولا يمكن إلا أن تكون تخمينات. لا توجد إجابة واضحة لهذه المسألة. ربما يكون من الأفضل طرح السؤال حول سبب تقبّل الفن التجريدي فنًّا من الفنون الرسمية في تاريخ الفن الغربي في مرحلة معينة على علماء الأنثروبولوجيا بدلًا من طرحها على مؤرخي الفن. فما هو واضح أن الفن التجريدي كان موجودًا دائمًا في مناطق أخرى من العالم. ما جعل الفن التجريدي فنًّا حديثًا على وجه التحديد في العالم الغربي هو نظام المعارض، الذي أعطى القيمة الفنية للأعمال المعروضة. وكما هو واضح فقد ازدهر التجريد لآلاف السنين المناطق الشرقية والجنوبية من العالم، دون عناء التحقق من مكانة الأعمال المعروضة في الصالونات [والمعارض، كما هو في العالم الغربي]. الواقع الافتراضي و«الافتراضية» يتبنى بيبي كرمل وهو مؤرخ فني، في كتابه « الفن التجريدي: تاريخ عالمي»، فكرة أنّ الفن التجريدي كان دائمًا موجودًا بشكل طبيعي عندما ننظر إليه نظرة شاملة وعالمية، بيد أنّه يتحاشى طرح نظرية عن تطور الفن التجريدي. بالنسبة إلى كرمل، فإنّ هذا الفنّ متجذر في العالم الحقيقي، وهو ليس فنًّا «مجردًا» على الإطلاق، كما أنّه تقليد عالمي وليس محليًا. في دراسته حول الفن التجريدي يقسم العمل الفني إلى خمس فئات واسعة تنتمي إلى العالم الحقيقي: الأجسام، والمناظر الطبيعية، والكون، والبنى، والعلامات والأنماط. من خلال فحص الفن التجريدي بهذه الطريقة، يرى كرمل في اللوحات التجريدية موضوعات قابلة للتحليل، بعكس النقاد والمؤرخين الأرثوذكسيين الذين رأوا فيها مجرّد توليفات شكلية مكوّنة من لون وشكل. ربما يكون من الأفضل أن يطلق على الفن التجريدي: فن ما تم تجريده (abstracted art)؛ لأنّ الفنانين التجريديين عادةً ما يستخلصون ويجرّدون تعبيرات التجارب في شكل ولون،  أكثر من كونها توليفات مكونة من شكل ولون. ومرّد ذلك الطبيعة الجوهرية للرسم والنحت؛ فهما (الشكل اللّون) وسيطان للتعبير، مثل الشاشة أو المسرح لخيال الفنان. كما هو الحال في المسرح أو السينما، فإنّ جمهور اللوحة أو المنحوتة يعلّق معتقداته من أجل أن يتقبل المشهد. من المفيد التفكير في اللوحة التشخيصية التقليدية أو النحت على أنها حقيقة افتراضية. إذْ استخدم الفنانون لقرون عديدة الحيل البصرية -مثل المنظور الخطي، والتقصير المسبق، والتظليل- لمحاكاة الطريقة التي ندرك بها الأشياء في الفضاء الحقيقي. إنّ المشاهد تُنشأ في فضاء افتراضي – سواء كانت القاعدة التي تدعم التمثال أو القماش – ليراها المشاهدون بوصفها خدعة بصرية. «القديس بطرس شفاء أحد الأشخاص وبعث تابيثا من الموت» ماسولينو دي بانيكال. اعتمد الرسم الغربي قبل القرن العشرين على الحيل البصرية لخلق واقع افتراضي. إحدى هذه الحيل هي المنظور الخطي، وهذه اللوحة هي أول مثال لاستخدام نقطة تلاشٍ متسقة.«القديس بطرس شفاء أحد الأشخاص وبعث تابيثا من الموت» ماسولينو دي بانيكال. اعتمد الرسم الغربي قبل القرن العشرين على الحيل البصرية لخلق واقع افتراضي. إحدى هذه الحيل هي المنظور الخطي، وهذه اللوحة هي أول مثال لاستخدام نقطة تلاشٍ متسقة. يستمتع مشاهدوّ الأعمال الفنية العظيمة معنى ما يُرسم، ويقدرون الطريقة التي يتجلّى فيها الوهم عبر تمازج اللون والشكل. يبقى الفن التجريدي، إلى حدٍ ما، ضمن إطار التجربة الجمالية. فقد سعت حركات الفن الحديث التي أدت إلى التجريد -أيّ «مدارس الفن»، مثل الانطباعية والفاوفية والتكعيبية- إلى تمثيل العالم بشكل مختلف عن كل الفنون التي سبقتها. إذْ ادعوا الاقتراب من الحقيقة الذاتية عبر تهميش جميع الحيل الوهمية التقليدية التي حاولت إعادة إنتاج الواقع بحذافيره كحقيقة موضوعية. «الأحمر والأصفر والأزرق» (1925) واسيلي كاندينسكي.  كان كاندينسكي يعدّ لفترةٍ طويلة أب الرسم التجريدي الغربي.«الأحمر والأصفر والأزرق» (1925) واسيلي كاندينسكي.  كان كاندينسكي يعدّ لفترةٍ طويلة أب الرسم التجريدي الغربي. بالنسبة إلى هذه المدارس، أصبح الفن أقل من أن يوصف بأنّه واقع افتراضي، لكنه مع ذلك احتفظ بالافتراضية، وأصبح افتراضيًا. لقد أخذ الفن التجريدي مسار التطور هذا إلى أقصاه: من الواقع الافتراضي إلى الافتراضية. ماذا تعني «الافتراضية» هنا؟ إنّها الوجود كجوهر وتأثير، ولكن بدون اللجوء إلى الواقع. اللوحة التجريدية التي رسمها كاندينسكي، على سبيل المثال، ما زالت تُعدّ علاقة متبادلة بين الشكل واللون، و تعتمد على الرسم كمستوى تخطيطي: إنها نافذة تطلّ على «الواقع» الفردي الذي تصوّره كاندينسكي. وما تزال العناصر في لوحات كاندينسكي تحظى بعلاقة متبادلة، كما هو الحال في فضاء الواقع الافتراضي للوحة التشخيصية؛ فجوهر الرسم سليم إذ إنّ ذلك الفضاء الافتراضي ما زال موجودًا. عندما يكون الفن التجريدي بناءً خالصًا، ويتخلص من المساحة الافتراضية الملازمة للرسم والنحت، يصبح متميزًا عنهما. وصف دونالد جود الفنان التخفيفي (minimalist) مثل هذه الأعمال الفنية بأنها «أجسام محدّدة» (Specific Objects). إنّه مصطلح غير دقيق، ولكنه يصلح لإظهار أن مثل هذه الأعمال الفنية ليست رسمًا ولا نحتًا، ولكنها فئة أخرى تمامًا. رأى دونالد جود أن أعماله وأعمال العديد من معاصريه تشغل مساحة هجينة، لا هي لوحات ولا هي نحت. عمل دون عنوان لدونالد جود. استخدم جود هذا المصطلح لوصف أعماله الخاصة، ولكنه ينطبق على لوحات كازيمير ماليفيتش وفرانك ستيلا أحادية اللون، والتي تجعل اللوحة تندمج مع نفسها بالكامل، من أجل الوصول للتأثير الذي يأمل العمل في تحقيقه. في مثل هذه الأعمال، لم يعد قماش اللّوحة (أو القاعدة) سطحًا تتفاعل فيه الأشكال والألوان في الفضاء الافتراضي. بدلاً من ذلك، تتفاعل الأشكال والألوان في الفضاء الحقيقي، في فضائنا. تختلف معايير النجاح أو الفشل لهذه الأعمال عن الخصائص التقليدية للرسم والنحت. رأى جود أنّ خصائص الرسم والنحت تقف في طريق ما أراد تحقيقه من خلال اللون والشكل. في رأيه، كان لـ «أجسامه المحددة» تأثيرًا أحدّ من غيرها. الواقع والأشكال الجديدة للإدراك الحسّي الرسم نفسه له ثلاثة أنواع عامة من التجريد؛ أولًا، ثمّة أسلوب تعبيري تُرسم فيه الأشكال بحركاتٍ غير مقيدة؛ ثم هناك التجريد الهندسي حيث يتم هيكلة الأشكال؛ أما النوع الثالث، فهو تجريد مجال اللون حيث يتم عرض مساحات من الألوان بطريقةٍ لا شكل واضح لها. لم تكن هذه «الأنماط» (styles) أنماطًا عرضيةً أو تعتمد على ذوق أو ميل الرسام كوسيلة لتحقيق هدفٍ ما من البحث الفني. وخير مثال على ذلك هو الفنان الذي غالبًا ما ينظر إلى عمله على أنّه ذروة التجريد الهندسي: بيت موندريان. إنّ لوحات بيت موندريان المكونة من شبكات (grids) ذات الخطوط السوداء والأجزاء الملونة على خلفية بيضاء؛ تهدف إلى استحضار «حقيقة أعلى». بالنسبة إلى موندريان، كان الفن في جوهره معارضًا للواقع؛ «لأن الواقع يتعارض مع الروحي». بغض النظر عن هذه اللوحة الأشهر لموندريان، فإنّ جوانب الرسم التي تهم هذا الفنان حقًا لم تكن الجوانب المحددة للموضوع -أيّ ماذا أو ما يتم تصويره في اللوحة مثلًا- بل الجوانب القابلة للفهم عالميًا للشكل والخط واللون. إنّ لوحات موندريان، مثلها مثل لوحات الفنانين الآخرين، هي محاولة لاستخلاص الشكل واللون من أجل الاقتراب من ذلك الجوهر العالمي والروحي للفن. عبّر موندريان عن رغبته في الوصول إلى «أساس» الأشياء من خلال الحدس، كالعديد من الفنانين التجريديين الآخرين في النصف الأول من القرن العشرين الذين رغبوا في الوصول إلى قوى غير مرئية حولنا، ولكنها معروفة أو محدوسة. «التكوين الثاني باللون الأحمر والأزرق والأصفر» (1930) - بيت موندريان«التكوين الثاني باللون الأحمر والأزرق والأصفر» (1930) – بيت موندريان في أواخر القرن التاسع عشر، لاحظ العلماء بشكلٍ أفضل مما سبق القوى غير المرئية مع انتشار التقنيات الجديدة، وأصبح من الواضح أن العالم أرحب مما يبدو للعين. في الوقت نفسه، ظهرت حركات روحية بديلة جمعت بين الأفكار الأفلاطونية والتصوف. كان كلينت وموندريان من بين العديد من الفنانين الذين انغمسوا في أشكال الروحانية خارج العوالم التقليدية للدين. اعتقدت كلينت أن لوحاتها هي وحي عالم روحي، وأن مهمتها كانت العمل «على مستوى روحاني» لتمثيل روح الإنسان، بدلًا من صورته الفانية. بحلول عشرينيات القرن الماضي، كانت نظرية فرويد عن للعقل البشري قد تغلغلت أيضًا في عالم الفن.  كذلك السريالية، وهي حركة منظمة بإحكام بدأت مع بعض الفنانين الذين سعوا إلى التنقيب عن الإمكانات الإبداعية للعقل الباطن، وهي الحركة الثقافية التي كانت سائدة في أوروبا بين الحربين العالميتين. لم تكن السريالية دوغمائية في محاولتها لاستكشاف اللاوعي، ولذلك ظهر عدد من الأساليب والطرق لمحاولة إخراج اللاوعي إلى السطح. إحدى هذه الأساليب كان الرسم الآلي (Automatism)، وهي عملية يتخلى فيها الفنان عن السيطرة الواعية لليد التي ترسم  أو تصور. في هذا المجال، تبنى الفنانون مثل أندريه ماسون وخوان ميرو الفرصة لبناء صورهم باستخدام حركات حرّة، وحتى إلقاء الطلاء على القماش. طور أرشيل غوركي -هو مهاجر أرمني عاش في الولايات المتحدة- أسلوبًا في الرسم يدمج بين الرسم الآلي وتجريد مجال الألوان. لوحاته في الأربعينيات حجمُها ضخم – ومرد ذلك تأثره بأعماله السابقة كفنان جداري مُعيّن من الدولة خلال السنوات الأخيرة من الكساد الكبير – لكنها معبّرة وغنائية في الرسم بالفرشاة. ألهم إدماج غوركي للأنماط جيلًا واسعًا من الفنانين الأمريكيين في فترة ما بعد الحرب لاحتضان التجريد الواسع النطاق. ما نسميه الآن «التعبيرية التجريدية»، وكان ذاك الجيل في الواقع مجموعة فضفاضة من الفنانين الذين يستخدمون أنماطًا متعدّدة من أنماط التجريد. ربما كان القاسم المشترك بين هؤلاء الفنانين – على الأقل في السنوات الأولى – هو دعم جيل جديد من النقاد بقيادة كليمنت غرينبيرغ، الذي كان يعتقد أن التجريد هو التعبير الأسمى للفن الغربي. «الكبد هو مشط الديك» (1944) - أرشيل جوركي.«الكبد هو مشط الديك» (1944) – أرشيل جوركي. الحداثة ومصير الفنّ الغربي كان يُعتقد في بعض الأوساط الفكرية المؤثرة أنّ الفن يتقدم نحو هدف؛ وهذا المضمون يشتمل عليه مصطلح «الطليعية» (Avant-garde)، الذي يُوصف به الفنّانون الذين يبتكرون أرضية جمالية جديدة. أصل المصطلح فرنسي يُطلق على الجنود الذين يتقدمون إلى مناطق جديدة. بالنسبة إلى غرينبيرغ، لم يكن هؤلاء الفنّانون يوسّعون حدود إمكانات الفن؛ بل كانوا يتقدمون نحو الهدف الحقيقي والمفرد لكل شكل فني. يُعدّ غرينبيرغ شخصية مهمة في تاريخ الفن التجريدي، وذلك لأمرين: بوصفه مناصرًا رائدًا في مسألة تفوق الفن التجريدي على غيره من أنواع الرسم، وتأكيده للقوة التي امتلكها هذا الفن. كان ناقدًا في اللجنة الأمريكية للحريّة الثقافية التي تمولها الدولة، وهي مجموعة تم إنشاؤها لتعزيز الفن الأمريكي على المستوى الدولي. أصبحت أفكار غرينبيرغ مؤثرة عندما كانت الولايات المتحدة جزءًا من الحرب على الفاشية والنازية، وخلال الحرب الباردة اللاحقة ضد الشيوعية السوفيتية. كانت معايير الفن الفاشي والسوفياتي واضحة، وهي ما تحددها السلطات الثقافية أنها كذلك، بيد أنّه ما لم يكن واضحًا هو معايير الفن «الجيد» وتحديدًا في الغرب الديمقراطي. كان الماركسيون هم من تعاطف مع غرينبيرغ في البداية، لكن ارتبط تفكيره بشكلٍ متزايد بالهيمنة الثقافية الأمريكية. بالنسبة إليه، كان التجريد في أعمال بولوك فنًا مثاليًا لمجتمع ديمقراطي. تتجلى الحداثة في الفن، وفقًا لغرينبيرغ، في إطار التنوير الأوروبي؛ أيّ في فترة ازدهار الأفكار الفلسفية والعلمية التي أعطت الأولوية للعقل. في مقالته المؤثرة « الرسم الحداثي» (1961)، وصفَ غرينبيرغ إيمانويل كانط – الفيلسوف الألماني في عصر التنوير – بأنّه «أول حداثي حقيقي». كان أسلوب كانط في «النقد» هو استخدام العقل لنقد العقل بغرض توضيحه، ومنحه استقلالية عن أنواع التفكير الأخرى. «أولمبيا» - إدوارد مانيه (1863). بالنسبة إلى كليمنت غرينبيرغ، كان مانيه أول رسام حداثي. لقد رسم مانيه لوحاته بأسلوبٍ مسطّح بشكلٍ متعمد.«أولمبيا» – إدوارد مانيه (1863). بالنسبة إلى كليمنت غرينبيرغ، كان مانيه أول رسام حداثي. لقد رسم مانيه لوحاته بأسلوبٍ مسطّح بشكلٍ متعمد. بالطريقة نفسها، كان الرسامون الحداثيون – من إدوارد مانيه في القرن التاسع عشر إلى موريس لويس، وهو رسام يعمل ينتمي إلى رسامي أسلوب مجال ألوان في الولايات المتحدة في الوقت الذي كتب فيه غرينبيرغ مقالته – يعملون على ترسيخ الفن التعبيري «بشكل صارم في مجال تخصصه». رأى غرينبيرغ أن وضوح الفن التجريدي -الذي كان صادقًا بالنسبة إلى الوسيط الذي يُعبّر من خلاله- معارضٌ لـ«الفن الشعبي المبتذل [الكيتش]» الذي ينُتج على نطاق واسع في الثقافة الشعبية. إن إزالة «الكيتش» كانت مسألة استجلاء وتوضيح تحتاجها جميع الفنون لكي تصبح تعبيرًا عن إمكاناتها الجمالية الكامنة. اللوحات مسطّحة، وإيهام العمق الذي نجده في معظم الفن الغربي كان انحرافًا عن جوهر فن الرسم ذاته. كانت استقلالية الشكل الفني في جميع خصائصه دون أن تتلوث بأشكال فنية أخرى. وفقًا لغرينبيرغ، يعدّ الشكل واللون من أهم خصائص الرسم، و أفضل تمثيل لها يكون بشكلٍ مسطّح. وهكذا دافع غرينبيرغ عن «التسطيح» الذي تجلّى في لوحات الفنانين الأمريكيين التجريدية مثل جاكسون بولوك باعتباره تحقيقًا لهذا الوضوح الحداثي. لقد ضم هؤلاء الفنانين معًا ضمن فريق واحد، وهم يمثّلون المرحلة التالية في الحداثة، وقد حلّت رؤيتهم الأمريكية المميزة محلّ الفن الأوروبي الطليعي. وفي الوقت الذي أصبح فيه الفن التجريدي الأمريكي مهيمنًا، تراجعت هيمنة غرينبيرغ النقدية، وظهرت أشكال جديدة من الفن الطليعي، مستوحاة مباشرة من الثقافة الجماهيرية، وحلّت محلّ التعبيرية التجريدية في المخيال العام. تبنى فنانوّ «البوب» مثل: آندي وارهول، وريتشارد هاميلتون هذا النوع من «الفن الشعبي المبتذل» الذي رآه غرينبيرغ تلويثًا للفن الحقيقي. استمرت الأعمال الفنية التجريدية، ولكن تخلّى الفنّانون التجريديون الأكثر جرأة عن الفكرة الصارمة «للنقد الحداثي»، وعن الوضوح المتعلق بخصوصية الوسيط الفني، وذلك لصالح أشكال أخرى من التعبير. نظر فنانوّ «ما بعد الحداثة» إلى السخرية وعملية الرسم نفسها، كطرق لتجاوز الطريق المسدود للحداثة. تبنى الألماني غيرهارد ريختر كلا النهجين؛ فبعض أعماله التجريدية في الستينيات كانت مصنوعة بممسحاتٍ بدلًا من الفرشاة، حتى يتمكن من لفت الانتباه إلى عملية صنع اللوحة نفسها. كانت «اللوحات التجريدية» البارزة الأخرى التي رسمها ريختر في الواقع صورًا واقعية مرسومة بعناية تعكس لوحاته التجريدية الأخرى. أصبحت طلائعية الرسم التجريدي مفهومية أكثر، ما جعل ضمنيًّا قضية الرسم تحظى باستقلالية أقل مما كان كان يعتقد النقاد الحداثيون. قلّد فنانوّ «نيو جيو»، مثل: الرسام بيتر هالي، والنحات أشلي بيكرتون اللغة البصرية للتجريد الهندسي، لكنهما دمجاها مع السلع الاستهلاكية بألوانٍ تجارية فاتحة وأحيانًا فلورية. منذ ذلك الجيل ما بعد الحداثي من الرسامين والنحاتين الممتد من الستينيات إلى التسعينيات، ازدهر التجريد متفرّعًا إلى عددٍ لا يُحصى من الأساليب والمقاربات بجوار الفن التشخيصي. هنا يمكن القول إنّ التجريد المتحرّر من عبء التوقعات الحداثية هو ببساطة نهج للتعبير مثل أيّ نهج آخر. وتجدر الإشارة إلى أنّ بعض الفنانين التجريديين استخدموا الحيل البصرية المستعملة في الفن التشخيصي – مثل المنظور والتظليل – في لوحاتهم. ولاستخدامهم هذا أهداف فريدة و غالبًا لا تهتم بالنظرية. قلّد فنانوّ «ما بعد الحداثة» مثل: بيتر هالي اللغة البصرية المستعملة في الفن التجريدي الحديث (في حالة بيتر، التجريد الهندسي)، للتعليق على طبيعة الفن والمعنى نفسه. تمثّل هذه الكتل الملونة «الخلايا» و«الأنابيب».قلّد فنانوّ «ما بعد الحداثة» مثل: بيتر هالي اللغة البصرية المستعملة في الفن التجريدي الحديث (في حالة بيتر، التجريد الهندسي)، للتعليق على طبيعة الفن والمعنى نفسه. تمثّل هذه الكتل الملونة «الخلايا» و«الأنابيب». هذا هو التحرّر نحو الأفضل بين الرسامين التجريديين الذين يمكنهم الالتزام برؤيةٍ فريدة بالرسم على القماش. لكن فكّ ارتباط الفن التجريدي عن إطاره الفلسفي الأوسع أدى أيضًا إلى انتشارٍ يثير التساؤل لأعمال تجريدية متنوعة قابلة للاستهلاك – بمعنى أنّها فقدت قيمتها، وباتت تُباع وتُشترى سريعًا بأسعارٍ مربحة – يشتريها المشترون المتضاربون. دفع هذا التحول الناقد جيري سالتز إلى كتابة: « الزومبي على الجدران: لماذا يبدو الكثير من التجريد الجديد متشابهًا؟». وقد شبه اللّوحات التجريدية بصورة «الزومبي»، تحقيرًا لأعمال عددٍ من الرسامين التجريديين البارزين، الذين استخدموا الفنّ وجماليته لتقديم أعمال مبتذلة. ومن المفارقات أن هؤلاء الفنانين نظروا إلى الشكلانية بوصفها فنًّا حداثيًّا متبنّين منظور غرينبيرغ، لكنهم بالطبع قدّموا أعمالًا في ظلّ فراغ تاريخي وبعد فترةٍ طويلة حين لم يُصبح التجريد مثيرًا للاهتمام أو راديكاليًا بأي وجه من الوجوه. في الواقع، لم يصل مشروع الحداثة  في الفن التجريدي إلى نهايته، بل النقد. إنّ النقد -أيّ الإطار الفلسفي الواسع الذي يصادق على الأعمال الفنية ويثمّنها لأهميتها الثقافية والتاريخية- هو ما فقد التوجه والسلطة. كان مسار الفن الغربي منذ عصر التنوير يتأرجح بين قطبي الدوغمائية النقدية والإبداع. تكمن المشكلة أنه في العقود الأخيرة، وفي ظلّ غياب أي مشروع نقدي متماسك، انجرف الفن نحو إرضاء اهتمامات دقيقة ومتنوعة تزداد باستمرار. في حين كانت هناك «حركات» و«مدارس» فنية -مصطلحان يشيران إلى الوجهة والانضباط- لم يعد لدينا الآن سوى «مشاهد». هذا ليس بالضرورة أمرًا سيئًا. ولكن في عالم حيث «كل شيء مقبول – anything goes»، لا يوجد مجال لهذا النوع من الابتكار والتجاوز الذي أدى إلى ظهور الفن التجريدي في الغرب، وهذا ما جعل الفن الحديث فنًّا مثيرًا للغاية. من الصعب في هذه اللحظة التاريخية أن ندرك ما الذي جعل لوحة بولوك «رقم 32» مثيرة للانقسام، ومخلخلةً جدًا للمعايير، وفي الوقت نفسه محتفظةً بقيمةٍ عالية جدًا لأولئك الذين يعتقدون أن للفنِّ مكانًا في المجتمع يتجاوز المتعة. [divider style=”solid” top=”20″ bottom=”20″] [1] واللقب كذلك يُلمح إلى القاتل المتسلسل في لندن آخر القرن التاسع عشر: جاك السفّاح Jack the ripper (مدير التحرير). ### خارج عقلك | توم تشاتفيلد – ت: محمد السعيد                  عندما يكون هاتفي النقال بين يديّ، هل أكون أنا الشخص نفسه لو كان الهاتف في غرفة أخرى؟ من ناحية،... ### الدراما في التعليم: مقاربات وتطبيقات | نعيم حيماد افتتاحيّة حظي استخدام الدراما في التعليمفي السنوات الأخيرة باهتمام كبير من قبل نخبة من المنظرين والممارسين للدراما في مجال التعليم.... ### الحقائق المخفية | دي بي سي بيير – ت: محمد السعيد       يحمل جبل كلسي خشن في غرب إيران عددًا من النقوش البارزة، من بينها لوحة طولها خمسة وعشرين مترًا منقوشة... ### التغلُّب على كاشف الكذب | كلاريسا سيباغ-مونتِنفيوري – ت: محمد السعيد          حين  اتُّهِمَتْ مربية الأطفال البريطانية لويز وودورد بهزِّ رضيع حتى الموت في مدينة نيوتن بولاية ماساتشوستس، لم تكتفِ بإعلان... ### عن منصة معنى «معنى»، مؤسسة ثقافية تقدّمية ودار نشر تهتم بالفلسفة والمعرفة والفنون، عبر مجموعة متنوعة من المواد المقروءة والمسموعة والمرئية. انطلقت في 20 مارس 2019، بهدف إثراء المحتوى العربي، ورفع ذائقة ووعي المتلقّي المحلي والدولي، عبر الإنتاج الأصيل للمنصة والترجمة ونقل المعارف. ### روابط سريعة ### التصنيفات ### مرحبا بك! قم بتسجيل الدخول إلى حسابك تذكرني ### قم بإنشاء حساب جديد! املأ النموذج أدناه للتسجيل ### طلب إعادة تعيين كلمة المرور يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان البريد الإلكتروني لإعادة تعيين كلمة المرور الخاصة بك. ### Add New Playlist - Select Visibility -PublicPrivate No Result عرض جميع النتائج - 00:00 00:00 - 00:00 00:00
article
Arabic
ar
الفنّ التجريدي: بين الماضي والحاضر - منصة معنى الثقافية
https://mana.net/abstract-art/
1,858
وصف دونالد جود الفنان التخفيفي (minimalist) مثل هذه الأعمال الفنية بأنها «أجسام محدّدة» (Specific Objects).
sentence
وصف دونالد جود الفنان التخفيفي (minimalist) مثل هذه الأعمال الفنية بأنها «أجسام محدّدة» (Specific Objects). إنّه مصطلح غير دقيق، ولكنه يصلح لإظهار أن مثل هذه الأعمال الفنية ليست رسمًا ولا نحتًا، ولكنها فئة أخرى تمامًا.
paragraph
Arabic
ar
الفنّ التجريدي: بين الماضي والحاضر - منصة معنى الثقافية
https://mana.net/abstract-art/
1,859
إنّه مصطلح غير دقيق، ولكنه يصلح لإظهار أن مثل هذه الأعمال الفنية ليست رسمًا ولا نحتًا، ولكنها فئة أخرى تمامًا.
sentence
وصف دونالد جود الفنان التخفيفي (minimalist) مثل هذه الأعمال الفنية بأنها «أجسام محدّدة» (Specific Objects). إنّه مصطلح غير دقيق، ولكنه يصلح لإظهار أن مثل هذه الأعمال الفنية ليست رسمًا ولا نحتًا، ولكنها فئة أخرى تمامًا.
paragraph
Arabic
ar
الفنّ التجريدي: بين الماضي والحاضر - منصة معنى الثقافية
https://mana.net/abstract-art/
1,860
استخدم جود هذا المصطلح لوصف أعماله الخاصة، ولكنه ينطبق على لوحات كازيمير ماليفيتش وفرانك ستيلا أحادية اللون، والتي تجعل اللوحة تندمج مع نفسها بالكامل، من أجل الوصول للتأثير الذي يأمل العمل في تحقيقه.
paragraph
لا توجد منتجات في سلة المشتريات. No Result عرض جميع النتائج الثلاثاء, سبتمبر 10, 2024 No Result عرض جميع النتائج No Result عرض جميع النتائج # الفنّ التجريدي: بين الماضي والحاضر ## ترجمة: أنطونيوس نادر AA AA إعادة تعيين فنٌ مليء بالتحديات ثمّة خطٌ رفيع يفصل بين الفن التجريدي ومجرد الزخرفة، ولوحة «رقم 32» (نُشرت عام 1950)، لجاكسون بولوك تتأرجح بين هذا الخطّ. فهي لا تشير إلى معنىً واضح، ولكن لا يمكن القول إنّها بلا معنى على الإطلاق. كما أنّها ليست معبّرة بشكلٍ مباشر، ولا يعني هذا أنها لا تعبّر عن مدلولٍ ما. تحمل هذه اللوحة الكثير من المضامين عن الفن الغربي بالنسبة إلى شخصٍ خبيرٍ في تاريخ الفن؛ أما بالنسبة إلى شخصٍ عادي، فقد يراها عملًا مبتذلًا بالكاد يعبّر عن أمرٍ ما. اللوحة شبكة من الخطوط وبقعٍ من الألوان، رُسمت عن طريق صبّ طلاءٍ رخيص بعشوائيةٍ مباشرة على القماش. تتكون اللوحة من طلاءٍ أسود فقط وقماشٍ خام. واللوحة ضخمة؛ إذ يبلغ طولها تسعة أقدام وعرضها خمسة عشر قدمًا، وتغطي مجال رؤية المشاهد أثناء اقترابه منها. تقليديًّا، حتى اللوحات التجريدية تتكون من أجزاءٍ مترابطة مع بؤر تركيز (emphases) وعمقٍ يُنقل من خلال اللون والظلال، ولكن «رقم 32» ليس لها أجزاء؛ إنّها تتكون من تعالقات، والبؤرة فيها تكمن عبر امتداد سطح القماش المستطيل. يمنحها ما سبق عمقًا سطحيًا، وربما لا عمق فيها: مجرّد طلاء على قماش. إنّها عبث بالشكل واللون. حتى اسمها، ببساطة رقمٌ معيّن – رقم 32 – يجعلها تنأى بنفسها عن أي فكرة مفادها أنها تعكس مدلولًا محدّدًا. تشير عناوين أعمال بولوك الأخرى إلى نوعٍ من الاختبار الشخصي، وإلى الاستخدام السمفوني المتعدد الطبقات للون والملمس؛ خذ مثلًا لوحاته التي تحمل اسم: «إيقاع الخريف»، و«الضباب الأرجواني»، و«الأقطاب الزرقاء»، و«انعكاس الدنقلة الكبير». هذا لا ينطبق على لوحة «رقم 32»؛ شكلها الخام وبساطتها دليل على أنّ الفنان لم يخطط مسبقًا لرسمها؛ أيّ أنّه لم ينتق الألوان ولا الطبقات. يبدو بولوك هنا أكثر حضورًا، من خلال لمساته الحادة. بالنسبة إلى مؤيديّ عمل بولوك، تختصر هذه اللوحة خلاصة نظرة الفنان الجمالية. أما بالنسبة للبعض الآخر، فهي لوحة مبتذلة. وصف جوزيف بويس -النحات الألماني في فترة ما بعد الحرب- الفنَّ التجريدي الأمريكي بأنه مجرد «تغليف»، أيّ سطح بلا محتوى. في هذا الصدد، قد يتفق البعض أن لوحة «رقم 32» تجسد فراغ الفكر والشعور ذاك. فقد رأى الروائي والناقد الفني روبرت كوتس أن فن بولوك لم يكن سوى «انفجارات» غير منظمة من الطاقة العشوائية. غير أنّ طائفة كبيرة من متذوقي الفن التجريدي لا تروق إليهم أعمال بولوك ويرونها فنًّا محيرًا، حتى إنّ بعضهم يراها إهانةً للذوق أو الحسّ السليم. عُرف بولوك بلقب: «جاك فنان النقط» (Jack the Dripper) [1] في الأوساط الإعلامية المشككة بعمله حيث ادعى كثر أن أيّ شخص يمكنه أن يرسم كما يرسم بولوك إلّا أنّ أحدًا لم يتجرأ على فعل ذلك. «رقم 32» - جاكسون بولوك«رقم 32» – جاكسون بولوك بيد أنّ هذا هو مغزى الفن التجريدي في التقليد الغربي: إنّه تحدّ. وفي ظل الكثير هذه التحديات، تُعد لوحة « رقم 32» اللوحة الأكثر تمثيلًا لهذا الفن. قصة الفنّ التجريدي مسار قصة الفن التجريدي مضمّنة في الدراسات التاريخية الفنية، إلّا أنّ المحطات الرئيسة لهذا المسار كانت محط تغييرات مفاجئة كلما اكتشف مؤرخوّ الفن حقائق جديدة. انطلق مسار الفن التجريدي بدءًا من القرن التاسع عشر وما تلاه؛ حيث استفاد الفنانون من مادة الطلاء والجوانب الشكلية للرسم مثل اللون والدرجة والخطوط. يُعرف هذا الانشغال بالجوانب غير التمثيلية (non-representative) للفن باسم «الشكلانية»، لأنّه انشغال «بالشكل»، أيّ بتوسل شكل المحتوى بدلًا من المحتوى في ذاته. بالنسبة إلى الفنانين في القرن التاسع عشر، صُنّف الفن التجريدي على أنّه «فنٌّ من أجل الفنّ»، وكانت الفكرة الشائعة مفادها أنّ المتذوق للفن يمكنه الاستمتاع بالعمل دون اللجوء إلى معنى أو حتى أي شيء آخر يمثل أمرًا ما. تمثّل لوحة «الموسيقى الهادئة باللّونين الأسود والذهبي – الصاروخ الساقط» (1872)، للفنان جيمس مكنيل ويسلر هذا الاتجاه الذي تبلور لاحقًا في الفن التجريدي.  إنّ مشهد ويسلر الغامض من الناحية المكانيّة يقترب إلى التجريد، وذلك بمحاولته نقل الشعور أو الانطباع الخاص بالمشهد بدلًا من إعادة إنتاجه بحذافيره. «الموسيقى الهادئة باللونين الأسود والذهبي - الصاروخ الساقط» (1872-1877) - جيمس أبوت مكنيل ويسلير«الموسيقى الهادئة باللونين الأسود والذهبي – الصاروخ الساقط» (1872-1877) – جيمس أبوت مكنيل ويسلير في عام 1877، انتقد جون روسكين – أبرز نقّاد بريطانيا في ذلك الوقت – عمل ويسلير هذا نقدًا لاذعًا فشبهه «بمن قام برمي الطلاء في وجه الجمهور». تأثر ويسلر بهذا الكلام، فرفع دعوى قضائية ضد روسكين، بيد أنّه خسرها لأن المسؤولين عرضوا اللوحة -خطأً- مقلوبةً على المحكمة. أفلس ويسلير بسبب هذه القضية، لكن مسيرة تطور الفن التجريدي استمرت. من ناحيةٍ أخرى، تحديد أول فنان تجريدي في العالم موضوع نزاع. في نظر أبحاث تاريخ الفن التقليدية، كان فاسيلي كاندينسكي – فنان روسي الجنسية رسم لوحات تجريدية بالكامل في مطلع عام 1911- هو أول فنان تجريدي. لم ينل الفن التجريدي الرائد لهيلما أف كلينت تقديرًا إلا قبل سنوات قريبة. هذه صورة للمعرض الشهير في  متحف غاغينهايم، عام 2018 .لم ينل الفن التجريدي الرائد لهيلما أف كلينت تقديرًا إلا قبل سنوات قريبة. هذه صورة للمعرض الشهير في  متحف غاغينهايم، عام 2018 . ولكن في الآونة الأخيرة، وبفضل المعرض الرائد في متحف مقاطعة لوس أنجلوس للفنون في عام 1986 الذي حمل اسم «الروحانية في الفن: الرسم التجريدي 1890 – 1985»، وقع الاختيار على هيلما أف كلينت كأول رسامة تجريدية. بدأت كلينت في رسم لوحات تجريدية بدءًا من عام 1906، وحملت مجموعتها عنوان «الفوضى البدائية». كانت الفنانة متكتمة في ما يتعلق بأعمالها التجريدية، ولم تُعرض أيّ منها في معارض عامة، وبقيت غير معروفة حتى أزيح عنها الستار مؤخرًا. ولعل الجدال حول هوية أول من مارس الفن التجريدي سيستم، لكن الحقيقة الأكثر أهمية هي أن العديد من الفنانين الأوروبيين البارزين قد توصّلوا في أعمالهم إلى التجريد بحلول الحرب العالمية الأولى. لقد وجد كل منهم طريقته الخاصة في التخلي عن الفن التشخيصي (figurative painting). وجديرٌ بالذكر أنّه لم تكن هناك حركة «تجريدية» دولية ذات رؤية أو بيان مشترك. في ضوء ذلك، فإن السؤال الملحّ حقًا هو: لمَ لمْ يتبنى الفنانون الغربيون الفن التجريدي على امتداد قرون عديدة؟ لماذا كان التجريد غير ضروري أو لا معنى له أو غير مناسب أو حتى لا يمكن تقبّله لقرونٍ متوالية في الفن الغربي؟ ظهرت العديد من التفسيرات لشرح ذلك. إحدى النظريات الأكثر وضوحًا هي أن ظهور التصوير الفوتوغرافي بوصفه شكلًا من أشكال الفن، إضافةً إلى تطور الفن الحديث، سببان رئيسان لإزاحة الرسم التشخيصي. ثمّة إجابات أخرى غير ملموسة لاستكشاف الأسباب: ربما عندما أصبحت الأعمال الفنية قابلة للاستهالاك بشكل متزايد، مثل السلع، بات من السهولة فصل اللوحات والمنحوتات عن التجارب المحددة لمبدعيها. ربما أدت الحداثة في الغرب إلى إفراغ الفن من المحتوى التشخيصي؛ مما دفع الفنانين أيضًا إلى التخلي عن التمثيل التشخيصي. كل من هذه الإجابات معقدة وتتطلب الكثير من الشرح، ولا يمكن إلا أن تكون تخمينات. لا توجد إجابة واضحة لهذه المسألة. ربما يكون من الأفضل طرح السؤال حول سبب تقبّل الفن التجريدي فنًّا من الفنون الرسمية في تاريخ الفن الغربي في مرحلة معينة على علماء الأنثروبولوجيا بدلًا من طرحها على مؤرخي الفن. فما هو واضح أن الفن التجريدي كان موجودًا دائمًا في مناطق أخرى من العالم. ما جعل الفن التجريدي فنًّا حديثًا على وجه التحديد في العالم الغربي هو نظام المعارض، الذي أعطى القيمة الفنية للأعمال المعروضة. وكما هو واضح فقد ازدهر التجريد لآلاف السنين المناطق الشرقية والجنوبية من العالم، دون عناء التحقق من مكانة الأعمال المعروضة في الصالونات [والمعارض، كما هو في العالم الغربي]. الواقع الافتراضي و«الافتراضية» يتبنى بيبي كرمل وهو مؤرخ فني، في كتابه « الفن التجريدي: تاريخ عالمي»، فكرة أنّ الفن التجريدي كان دائمًا موجودًا بشكل طبيعي عندما ننظر إليه نظرة شاملة وعالمية، بيد أنّه يتحاشى طرح نظرية عن تطور الفن التجريدي. بالنسبة إلى كرمل، فإنّ هذا الفنّ متجذر في العالم الحقيقي، وهو ليس فنًّا «مجردًا» على الإطلاق، كما أنّه تقليد عالمي وليس محليًا. في دراسته حول الفن التجريدي يقسم العمل الفني إلى خمس فئات واسعة تنتمي إلى العالم الحقيقي: الأجسام، والمناظر الطبيعية، والكون، والبنى، والعلامات والأنماط. من خلال فحص الفن التجريدي بهذه الطريقة، يرى كرمل في اللوحات التجريدية موضوعات قابلة للتحليل، بعكس النقاد والمؤرخين الأرثوذكسيين الذين رأوا فيها مجرّد توليفات شكلية مكوّنة من لون وشكل. ربما يكون من الأفضل أن يطلق على الفن التجريدي: فن ما تم تجريده (abstracted art)؛ لأنّ الفنانين التجريديين عادةً ما يستخلصون ويجرّدون تعبيرات التجارب في شكل ولون،  أكثر من كونها توليفات مكونة من شكل ولون. ومرّد ذلك الطبيعة الجوهرية للرسم والنحت؛ فهما (الشكل اللّون) وسيطان للتعبير، مثل الشاشة أو المسرح لخيال الفنان. كما هو الحال في المسرح أو السينما، فإنّ جمهور اللوحة أو المنحوتة يعلّق معتقداته من أجل أن يتقبل المشهد. من المفيد التفكير في اللوحة التشخيصية التقليدية أو النحت على أنها حقيقة افتراضية. إذْ استخدم الفنانون لقرون عديدة الحيل البصرية -مثل المنظور الخطي، والتقصير المسبق، والتظليل- لمحاكاة الطريقة التي ندرك بها الأشياء في الفضاء الحقيقي. إنّ المشاهد تُنشأ في فضاء افتراضي – سواء كانت القاعدة التي تدعم التمثال أو القماش – ليراها المشاهدون بوصفها خدعة بصرية. «القديس بطرس شفاء أحد الأشخاص وبعث تابيثا من الموت» ماسولينو دي بانيكال. اعتمد الرسم الغربي قبل القرن العشرين على الحيل البصرية لخلق واقع افتراضي. إحدى هذه الحيل هي المنظور الخطي، وهذه اللوحة هي أول مثال لاستخدام نقطة تلاشٍ متسقة.«القديس بطرس شفاء أحد الأشخاص وبعث تابيثا من الموت» ماسولينو دي بانيكال. اعتمد الرسم الغربي قبل القرن العشرين على الحيل البصرية لخلق واقع افتراضي. إحدى هذه الحيل هي المنظور الخطي، وهذه اللوحة هي أول مثال لاستخدام نقطة تلاشٍ متسقة. يستمتع مشاهدوّ الأعمال الفنية العظيمة معنى ما يُرسم، ويقدرون الطريقة التي يتجلّى فيها الوهم عبر تمازج اللون والشكل. يبقى الفن التجريدي، إلى حدٍ ما، ضمن إطار التجربة الجمالية. فقد سعت حركات الفن الحديث التي أدت إلى التجريد -أيّ «مدارس الفن»، مثل الانطباعية والفاوفية والتكعيبية- إلى تمثيل العالم بشكل مختلف عن كل الفنون التي سبقتها. إذْ ادعوا الاقتراب من الحقيقة الذاتية عبر تهميش جميع الحيل الوهمية التقليدية التي حاولت إعادة إنتاج الواقع بحذافيره كحقيقة موضوعية. «الأحمر والأصفر والأزرق» (1925) واسيلي كاندينسكي.  كان كاندينسكي يعدّ لفترةٍ طويلة أب الرسم التجريدي الغربي.«الأحمر والأصفر والأزرق» (1925) واسيلي كاندينسكي.  كان كاندينسكي يعدّ لفترةٍ طويلة أب الرسم التجريدي الغربي. بالنسبة إلى هذه المدارس، أصبح الفن أقل من أن يوصف بأنّه واقع افتراضي، لكنه مع ذلك احتفظ بالافتراضية، وأصبح افتراضيًا. لقد أخذ الفن التجريدي مسار التطور هذا إلى أقصاه: من الواقع الافتراضي إلى الافتراضية. ماذا تعني «الافتراضية» هنا؟ إنّها الوجود كجوهر وتأثير، ولكن بدون اللجوء إلى الواقع. اللوحة التجريدية التي رسمها كاندينسكي، على سبيل المثال، ما زالت تُعدّ علاقة متبادلة بين الشكل واللون، و تعتمد على الرسم كمستوى تخطيطي: إنها نافذة تطلّ على «الواقع» الفردي الذي تصوّره كاندينسكي. وما تزال العناصر في لوحات كاندينسكي تحظى بعلاقة متبادلة، كما هو الحال في فضاء الواقع الافتراضي للوحة التشخيصية؛ فجوهر الرسم سليم إذ إنّ ذلك الفضاء الافتراضي ما زال موجودًا. عندما يكون الفن التجريدي بناءً خالصًا، ويتخلص من المساحة الافتراضية الملازمة للرسم والنحت، يصبح متميزًا عنهما. وصف دونالد جود الفنان التخفيفي (minimalist) مثل هذه الأعمال الفنية بأنها «أجسام محدّدة» (Specific Objects). إنّه مصطلح غير دقيق، ولكنه يصلح لإظهار أن مثل هذه الأعمال الفنية ليست رسمًا ولا نحتًا، ولكنها فئة أخرى تمامًا. رأى دونالد جود أن أعماله وأعمال العديد من معاصريه تشغل مساحة هجينة، لا هي لوحات ولا هي نحت. عمل دون عنوان لدونالد جود. استخدم جود هذا المصطلح لوصف أعماله الخاصة، ولكنه ينطبق على لوحات كازيمير ماليفيتش وفرانك ستيلا أحادية اللون، والتي تجعل اللوحة تندمج مع نفسها بالكامل، من أجل الوصول للتأثير الذي يأمل العمل في تحقيقه. في مثل هذه الأعمال، لم يعد قماش اللّوحة (أو القاعدة) سطحًا تتفاعل فيه الأشكال والألوان في الفضاء الافتراضي. بدلاً من ذلك، تتفاعل الأشكال والألوان في الفضاء الحقيقي، في فضائنا. تختلف معايير النجاح أو الفشل لهذه الأعمال عن الخصائص التقليدية للرسم والنحت. رأى جود أنّ خصائص الرسم والنحت تقف في طريق ما أراد تحقيقه من خلال اللون والشكل. في رأيه، كان لـ «أجسامه المحددة» تأثيرًا أحدّ من غيرها. الواقع والأشكال الجديدة للإدراك الحسّي الرسم نفسه له ثلاثة أنواع عامة من التجريد؛ أولًا، ثمّة أسلوب تعبيري تُرسم فيه الأشكال بحركاتٍ غير مقيدة؛ ثم هناك التجريد الهندسي حيث يتم هيكلة الأشكال؛ أما النوع الثالث، فهو تجريد مجال اللون حيث يتم عرض مساحات من الألوان بطريقةٍ لا شكل واضح لها. لم تكن هذه «الأنماط» (styles) أنماطًا عرضيةً أو تعتمد على ذوق أو ميل الرسام كوسيلة لتحقيق هدفٍ ما من البحث الفني. وخير مثال على ذلك هو الفنان الذي غالبًا ما ينظر إلى عمله على أنّه ذروة التجريد الهندسي: بيت موندريان. إنّ لوحات بيت موندريان المكونة من شبكات (grids) ذات الخطوط السوداء والأجزاء الملونة على خلفية بيضاء؛ تهدف إلى استحضار «حقيقة أعلى». بالنسبة إلى موندريان، كان الفن في جوهره معارضًا للواقع؛ «لأن الواقع يتعارض مع الروحي». بغض النظر عن هذه اللوحة الأشهر لموندريان، فإنّ جوانب الرسم التي تهم هذا الفنان حقًا لم تكن الجوانب المحددة للموضوع -أيّ ماذا أو ما يتم تصويره في اللوحة مثلًا- بل الجوانب القابلة للفهم عالميًا للشكل والخط واللون. إنّ لوحات موندريان، مثلها مثل لوحات الفنانين الآخرين، هي محاولة لاستخلاص الشكل واللون من أجل الاقتراب من ذلك الجوهر العالمي والروحي للفن. عبّر موندريان عن رغبته في الوصول إلى «أساس» الأشياء من خلال الحدس، كالعديد من الفنانين التجريديين الآخرين في النصف الأول من القرن العشرين الذين رغبوا في الوصول إلى قوى غير مرئية حولنا، ولكنها معروفة أو محدوسة. «التكوين الثاني باللون الأحمر والأزرق والأصفر» (1930) - بيت موندريان«التكوين الثاني باللون الأحمر والأزرق والأصفر» (1930) – بيت موندريان في أواخر القرن التاسع عشر، لاحظ العلماء بشكلٍ أفضل مما سبق القوى غير المرئية مع انتشار التقنيات الجديدة، وأصبح من الواضح أن العالم أرحب مما يبدو للعين. في الوقت نفسه، ظهرت حركات روحية بديلة جمعت بين الأفكار الأفلاطونية والتصوف. كان كلينت وموندريان من بين العديد من الفنانين الذين انغمسوا في أشكال الروحانية خارج العوالم التقليدية للدين. اعتقدت كلينت أن لوحاتها هي وحي عالم روحي، وأن مهمتها كانت العمل «على مستوى روحاني» لتمثيل روح الإنسان، بدلًا من صورته الفانية. بحلول عشرينيات القرن الماضي، كانت نظرية فرويد عن للعقل البشري قد تغلغلت أيضًا في عالم الفن.  كذلك السريالية، وهي حركة منظمة بإحكام بدأت مع بعض الفنانين الذين سعوا إلى التنقيب عن الإمكانات الإبداعية للعقل الباطن، وهي الحركة الثقافية التي كانت سائدة في أوروبا بين الحربين العالميتين. لم تكن السريالية دوغمائية في محاولتها لاستكشاف اللاوعي، ولذلك ظهر عدد من الأساليب والطرق لمحاولة إخراج اللاوعي إلى السطح. إحدى هذه الأساليب كان الرسم الآلي (Automatism)، وهي عملية يتخلى فيها الفنان عن السيطرة الواعية لليد التي ترسم  أو تصور. في هذا المجال، تبنى الفنانون مثل أندريه ماسون وخوان ميرو الفرصة لبناء صورهم باستخدام حركات حرّة، وحتى إلقاء الطلاء على القماش. طور أرشيل غوركي -هو مهاجر أرمني عاش في الولايات المتحدة- أسلوبًا في الرسم يدمج بين الرسم الآلي وتجريد مجال الألوان. لوحاته في الأربعينيات حجمُها ضخم – ومرد ذلك تأثره بأعماله السابقة كفنان جداري مُعيّن من الدولة خلال السنوات الأخيرة من الكساد الكبير – لكنها معبّرة وغنائية في الرسم بالفرشاة. ألهم إدماج غوركي للأنماط جيلًا واسعًا من الفنانين الأمريكيين في فترة ما بعد الحرب لاحتضان التجريد الواسع النطاق. ما نسميه الآن «التعبيرية التجريدية»، وكان ذاك الجيل في الواقع مجموعة فضفاضة من الفنانين الذين يستخدمون أنماطًا متعدّدة من أنماط التجريد. ربما كان القاسم المشترك بين هؤلاء الفنانين – على الأقل في السنوات الأولى – هو دعم جيل جديد من النقاد بقيادة كليمنت غرينبيرغ، الذي كان يعتقد أن التجريد هو التعبير الأسمى للفن الغربي. «الكبد هو مشط الديك» (1944) - أرشيل جوركي.«الكبد هو مشط الديك» (1944) – أرشيل جوركي. الحداثة ومصير الفنّ الغربي كان يُعتقد في بعض الأوساط الفكرية المؤثرة أنّ الفن يتقدم نحو هدف؛ وهذا المضمون يشتمل عليه مصطلح «الطليعية» (Avant-garde)، الذي يُوصف به الفنّانون الذين يبتكرون أرضية جمالية جديدة. أصل المصطلح فرنسي يُطلق على الجنود الذين يتقدمون إلى مناطق جديدة. بالنسبة إلى غرينبيرغ، لم يكن هؤلاء الفنّانون يوسّعون حدود إمكانات الفن؛ بل كانوا يتقدمون نحو الهدف الحقيقي والمفرد لكل شكل فني. يُعدّ غرينبيرغ شخصية مهمة في تاريخ الفن التجريدي، وذلك لأمرين: بوصفه مناصرًا رائدًا في مسألة تفوق الفن التجريدي على غيره من أنواع الرسم، وتأكيده للقوة التي امتلكها هذا الفن. كان ناقدًا في اللجنة الأمريكية للحريّة الثقافية التي تمولها الدولة، وهي مجموعة تم إنشاؤها لتعزيز الفن الأمريكي على المستوى الدولي. أصبحت أفكار غرينبيرغ مؤثرة عندما كانت الولايات المتحدة جزءًا من الحرب على الفاشية والنازية، وخلال الحرب الباردة اللاحقة ضد الشيوعية السوفيتية. كانت معايير الفن الفاشي والسوفياتي واضحة، وهي ما تحددها السلطات الثقافية أنها كذلك، بيد أنّه ما لم يكن واضحًا هو معايير الفن «الجيد» وتحديدًا في الغرب الديمقراطي. كان الماركسيون هم من تعاطف مع غرينبيرغ في البداية، لكن ارتبط تفكيره بشكلٍ متزايد بالهيمنة الثقافية الأمريكية. بالنسبة إليه، كان التجريد في أعمال بولوك فنًا مثاليًا لمجتمع ديمقراطي. تتجلى الحداثة في الفن، وفقًا لغرينبيرغ، في إطار التنوير الأوروبي؛ أيّ في فترة ازدهار الأفكار الفلسفية والعلمية التي أعطت الأولوية للعقل. في مقالته المؤثرة « الرسم الحداثي» (1961)، وصفَ غرينبيرغ إيمانويل كانط – الفيلسوف الألماني في عصر التنوير – بأنّه «أول حداثي حقيقي». كان أسلوب كانط في «النقد» هو استخدام العقل لنقد العقل بغرض توضيحه، ومنحه استقلالية عن أنواع التفكير الأخرى. «أولمبيا» - إدوارد مانيه (1863). بالنسبة إلى كليمنت غرينبيرغ، كان مانيه أول رسام حداثي. لقد رسم مانيه لوحاته بأسلوبٍ مسطّح بشكلٍ متعمد.«أولمبيا» – إدوارد مانيه (1863). بالنسبة إلى كليمنت غرينبيرغ، كان مانيه أول رسام حداثي. لقد رسم مانيه لوحاته بأسلوبٍ مسطّح بشكلٍ متعمد. بالطريقة نفسها، كان الرسامون الحداثيون – من إدوارد مانيه في القرن التاسع عشر إلى موريس لويس، وهو رسام يعمل ينتمي إلى رسامي أسلوب مجال ألوان في الولايات المتحدة في الوقت الذي كتب فيه غرينبيرغ مقالته – يعملون على ترسيخ الفن التعبيري «بشكل صارم في مجال تخصصه». رأى غرينبيرغ أن وضوح الفن التجريدي -الذي كان صادقًا بالنسبة إلى الوسيط الذي يُعبّر من خلاله- معارضٌ لـ«الفن الشعبي المبتذل [الكيتش]» الذي ينُتج على نطاق واسع في الثقافة الشعبية. إن إزالة «الكيتش» كانت مسألة استجلاء وتوضيح تحتاجها جميع الفنون لكي تصبح تعبيرًا عن إمكاناتها الجمالية الكامنة. اللوحات مسطّحة، وإيهام العمق الذي نجده في معظم الفن الغربي كان انحرافًا عن جوهر فن الرسم ذاته. كانت استقلالية الشكل الفني في جميع خصائصه دون أن تتلوث بأشكال فنية أخرى. وفقًا لغرينبيرغ، يعدّ الشكل واللون من أهم خصائص الرسم، و أفضل تمثيل لها يكون بشكلٍ مسطّح. وهكذا دافع غرينبيرغ عن «التسطيح» الذي تجلّى في لوحات الفنانين الأمريكيين التجريدية مثل جاكسون بولوك باعتباره تحقيقًا لهذا الوضوح الحداثي. لقد ضم هؤلاء الفنانين معًا ضمن فريق واحد، وهم يمثّلون المرحلة التالية في الحداثة، وقد حلّت رؤيتهم الأمريكية المميزة محلّ الفن الأوروبي الطليعي. وفي الوقت الذي أصبح فيه الفن التجريدي الأمريكي مهيمنًا، تراجعت هيمنة غرينبيرغ النقدية، وظهرت أشكال جديدة من الفن الطليعي، مستوحاة مباشرة من الثقافة الجماهيرية، وحلّت محلّ التعبيرية التجريدية في المخيال العام. تبنى فنانوّ «البوب» مثل: آندي وارهول، وريتشارد هاميلتون هذا النوع من «الفن الشعبي المبتذل» الذي رآه غرينبيرغ تلويثًا للفن الحقيقي. استمرت الأعمال الفنية التجريدية، ولكن تخلّى الفنّانون التجريديون الأكثر جرأة عن الفكرة الصارمة «للنقد الحداثي»، وعن الوضوح المتعلق بخصوصية الوسيط الفني، وذلك لصالح أشكال أخرى من التعبير. نظر فنانوّ «ما بعد الحداثة» إلى السخرية وعملية الرسم نفسها، كطرق لتجاوز الطريق المسدود للحداثة. تبنى الألماني غيرهارد ريختر كلا النهجين؛ فبعض أعماله التجريدية في الستينيات كانت مصنوعة بممسحاتٍ بدلًا من الفرشاة، حتى يتمكن من لفت الانتباه إلى عملية صنع اللوحة نفسها. كانت «اللوحات التجريدية» البارزة الأخرى التي رسمها ريختر في الواقع صورًا واقعية مرسومة بعناية تعكس لوحاته التجريدية الأخرى. أصبحت طلائعية الرسم التجريدي مفهومية أكثر، ما جعل ضمنيًّا قضية الرسم تحظى باستقلالية أقل مما كان كان يعتقد النقاد الحداثيون. قلّد فنانوّ «نيو جيو»، مثل: الرسام بيتر هالي، والنحات أشلي بيكرتون اللغة البصرية للتجريد الهندسي، لكنهما دمجاها مع السلع الاستهلاكية بألوانٍ تجارية فاتحة وأحيانًا فلورية. منذ ذلك الجيل ما بعد الحداثي من الرسامين والنحاتين الممتد من الستينيات إلى التسعينيات، ازدهر التجريد متفرّعًا إلى عددٍ لا يُحصى من الأساليب والمقاربات بجوار الفن التشخيصي. هنا يمكن القول إنّ التجريد المتحرّر من عبء التوقعات الحداثية هو ببساطة نهج للتعبير مثل أيّ نهج آخر. وتجدر الإشارة إلى أنّ بعض الفنانين التجريديين استخدموا الحيل البصرية المستعملة في الفن التشخيصي – مثل المنظور والتظليل – في لوحاتهم. ولاستخدامهم هذا أهداف فريدة و غالبًا لا تهتم بالنظرية. قلّد فنانوّ «ما بعد الحداثة» مثل: بيتر هالي اللغة البصرية المستعملة في الفن التجريدي الحديث (في حالة بيتر، التجريد الهندسي)، للتعليق على طبيعة الفن والمعنى نفسه. تمثّل هذه الكتل الملونة «الخلايا» و«الأنابيب».قلّد فنانوّ «ما بعد الحداثة» مثل: بيتر هالي اللغة البصرية المستعملة في الفن التجريدي الحديث (في حالة بيتر، التجريد الهندسي)، للتعليق على طبيعة الفن والمعنى نفسه. تمثّل هذه الكتل الملونة «الخلايا» و«الأنابيب». هذا هو التحرّر نحو الأفضل بين الرسامين التجريديين الذين يمكنهم الالتزام برؤيةٍ فريدة بالرسم على القماش. لكن فكّ ارتباط الفن التجريدي عن إطاره الفلسفي الأوسع أدى أيضًا إلى انتشارٍ يثير التساؤل لأعمال تجريدية متنوعة قابلة للاستهلاك – بمعنى أنّها فقدت قيمتها، وباتت تُباع وتُشترى سريعًا بأسعارٍ مربحة – يشتريها المشترون المتضاربون. دفع هذا التحول الناقد جيري سالتز إلى كتابة: « الزومبي على الجدران: لماذا يبدو الكثير من التجريد الجديد متشابهًا؟». وقد شبه اللّوحات التجريدية بصورة «الزومبي»، تحقيرًا لأعمال عددٍ من الرسامين التجريديين البارزين، الذين استخدموا الفنّ وجماليته لتقديم أعمال مبتذلة. ومن المفارقات أن هؤلاء الفنانين نظروا إلى الشكلانية بوصفها فنًّا حداثيًّا متبنّين منظور غرينبيرغ، لكنهم بالطبع قدّموا أعمالًا في ظلّ فراغ تاريخي وبعد فترةٍ طويلة حين لم يُصبح التجريد مثيرًا للاهتمام أو راديكاليًا بأي وجه من الوجوه. في الواقع، لم يصل مشروع الحداثة  في الفن التجريدي إلى نهايته، بل النقد. إنّ النقد -أيّ الإطار الفلسفي الواسع الذي يصادق على الأعمال الفنية ويثمّنها لأهميتها الثقافية والتاريخية- هو ما فقد التوجه والسلطة. كان مسار الفن الغربي منذ عصر التنوير يتأرجح بين قطبي الدوغمائية النقدية والإبداع. تكمن المشكلة أنه في العقود الأخيرة، وفي ظلّ غياب أي مشروع نقدي متماسك، انجرف الفن نحو إرضاء اهتمامات دقيقة ومتنوعة تزداد باستمرار. في حين كانت هناك «حركات» و«مدارس» فنية -مصطلحان يشيران إلى الوجهة والانضباط- لم يعد لدينا الآن سوى «مشاهد». هذا ليس بالضرورة أمرًا سيئًا. ولكن في عالم حيث «كل شيء مقبول – anything goes»، لا يوجد مجال لهذا النوع من الابتكار والتجاوز الذي أدى إلى ظهور الفن التجريدي في الغرب، وهذا ما جعل الفن الحديث فنًّا مثيرًا للغاية. من الصعب في هذه اللحظة التاريخية أن ندرك ما الذي جعل لوحة بولوك «رقم 32» مثيرة للانقسام، ومخلخلةً جدًا للمعايير، وفي الوقت نفسه محتفظةً بقيمةٍ عالية جدًا لأولئك الذين يعتقدون أن للفنِّ مكانًا في المجتمع يتجاوز المتعة. [divider style=”solid” top=”20″ bottom=”20″] [1] واللقب كذلك يُلمح إلى القاتل المتسلسل في لندن آخر القرن التاسع عشر: جاك السفّاح Jack the ripper (مدير التحرير). ### خارج عقلك | توم تشاتفيلد – ت: محمد السعيد                  عندما يكون هاتفي النقال بين يديّ، هل أكون أنا الشخص نفسه لو كان الهاتف في غرفة أخرى؟ من ناحية،... ### الدراما في التعليم: مقاربات وتطبيقات | نعيم حيماد افتتاحيّة حظي استخدام الدراما في التعليمفي السنوات الأخيرة باهتمام كبير من قبل نخبة من المنظرين والممارسين للدراما في مجال التعليم.... ### الحقائق المخفية | دي بي سي بيير – ت: محمد السعيد       يحمل جبل كلسي خشن في غرب إيران عددًا من النقوش البارزة، من بينها لوحة طولها خمسة وعشرين مترًا منقوشة... ### التغلُّب على كاشف الكذب | كلاريسا سيباغ-مونتِنفيوري – ت: محمد السعيد          حين  اتُّهِمَتْ مربية الأطفال البريطانية لويز وودورد بهزِّ رضيع حتى الموت في مدينة نيوتن بولاية ماساتشوستس، لم تكتفِ بإعلان... ### عن منصة معنى «معنى»، مؤسسة ثقافية تقدّمية ودار نشر تهتم بالفلسفة والمعرفة والفنون، عبر مجموعة متنوعة من المواد المقروءة والمسموعة والمرئية. انطلقت في 20 مارس 2019، بهدف إثراء المحتوى العربي، ورفع ذائقة ووعي المتلقّي المحلي والدولي، عبر الإنتاج الأصيل للمنصة والترجمة ونقل المعارف. ### روابط سريعة ### التصنيفات ### مرحبا بك! قم بتسجيل الدخول إلى حسابك تذكرني ### قم بإنشاء حساب جديد! املأ النموذج أدناه للتسجيل ### طلب إعادة تعيين كلمة المرور يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان البريد الإلكتروني لإعادة تعيين كلمة المرور الخاصة بك. ### Add New Playlist - Select Visibility -PublicPrivate No Result عرض جميع النتائج - 00:00 00:00 - 00:00 00:00
article
Arabic
ar
الفنّ التجريدي: بين الماضي والحاضر - منصة معنى الثقافية
https://mana.net/abstract-art/
1,861
في مثل هذه الأعمال، لم يعد قماش اللّوحة (أو القاعدة) سطحًا تتفاعل فيه الأشكال والألوان في الفضاء الافتراضي. بدلاً من ذلك، تتفاعل الأشكال والألوان في الفضاء الحقيقي، في فضائنا.
paragraph
لا توجد منتجات في سلة المشتريات. No Result عرض جميع النتائج الثلاثاء, سبتمبر 10, 2024 No Result عرض جميع النتائج No Result عرض جميع النتائج # الفنّ التجريدي: بين الماضي والحاضر ## ترجمة: أنطونيوس نادر AA AA إعادة تعيين فنٌ مليء بالتحديات ثمّة خطٌ رفيع يفصل بين الفن التجريدي ومجرد الزخرفة، ولوحة «رقم 32» (نُشرت عام 1950)، لجاكسون بولوك تتأرجح بين هذا الخطّ. فهي لا تشير إلى معنىً واضح، ولكن لا يمكن القول إنّها بلا معنى على الإطلاق. كما أنّها ليست معبّرة بشكلٍ مباشر، ولا يعني هذا أنها لا تعبّر عن مدلولٍ ما. تحمل هذه اللوحة الكثير من المضامين عن الفن الغربي بالنسبة إلى شخصٍ خبيرٍ في تاريخ الفن؛ أما بالنسبة إلى شخصٍ عادي، فقد يراها عملًا مبتذلًا بالكاد يعبّر عن أمرٍ ما. اللوحة شبكة من الخطوط وبقعٍ من الألوان، رُسمت عن طريق صبّ طلاءٍ رخيص بعشوائيةٍ مباشرة على القماش. تتكون اللوحة من طلاءٍ أسود فقط وقماشٍ خام. واللوحة ضخمة؛ إذ يبلغ طولها تسعة أقدام وعرضها خمسة عشر قدمًا، وتغطي مجال رؤية المشاهد أثناء اقترابه منها. تقليديًّا، حتى اللوحات التجريدية تتكون من أجزاءٍ مترابطة مع بؤر تركيز (emphases) وعمقٍ يُنقل من خلال اللون والظلال، ولكن «رقم 32» ليس لها أجزاء؛ إنّها تتكون من تعالقات، والبؤرة فيها تكمن عبر امتداد سطح القماش المستطيل. يمنحها ما سبق عمقًا سطحيًا، وربما لا عمق فيها: مجرّد طلاء على قماش. إنّها عبث بالشكل واللون. حتى اسمها، ببساطة رقمٌ معيّن – رقم 32 – يجعلها تنأى بنفسها عن أي فكرة مفادها أنها تعكس مدلولًا محدّدًا. تشير عناوين أعمال بولوك الأخرى إلى نوعٍ من الاختبار الشخصي، وإلى الاستخدام السمفوني المتعدد الطبقات للون والملمس؛ خذ مثلًا لوحاته التي تحمل اسم: «إيقاع الخريف»، و«الضباب الأرجواني»، و«الأقطاب الزرقاء»، و«انعكاس الدنقلة الكبير». هذا لا ينطبق على لوحة «رقم 32»؛ شكلها الخام وبساطتها دليل على أنّ الفنان لم يخطط مسبقًا لرسمها؛ أيّ أنّه لم ينتق الألوان ولا الطبقات. يبدو بولوك هنا أكثر حضورًا، من خلال لمساته الحادة. بالنسبة إلى مؤيديّ عمل بولوك، تختصر هذه اللوحة خلاصة نظرة الفنان الجمالية. أما بالنسبة للبعض الآخر، فهي لوحة مبتذلة. وصف جوزيف بويس -النحات الألماني في فترة ما بعد الحرب- الفنَّ التجريدي الأمريكي بأنه مجرد «تغليف»، أيّ سطح بلا محتوى. في هذا الصدد، قد يتفق البعض أن لوحة «رقم 32» تجسد فراغ الفكر والشعور ذاك. فقد رأى الروائي والناقد الفني روبرت كوتس أن فن بولوك لم يكن سوى «انفجارات» غير منظمة من الطاقة العشوائية. غير أنّ طائفة كبيرة من متذوقي الفن التجريدي لا تروق إليهم أعمال بولوك ويرونها فنًّا محيرًا، حتى إنّ بعضهم يراها إهانةً للذوق أو الحسّ السليم. عُرف بولوك بلقب: «جاك فنان النقط» (Jack the Dripper) [1] في الأوساط الإعلامية المشككة بعمله حيث ادعى كثر أن أيّ شخص يمكنه أن يرسم كما يرسم بولوك إلّا أنّ أحدًا لم يتجرأ على فعل ذلك. «رقم 32» - جاكسون بولوك«رقم 32» – جاكسون بولوك بيد أنّ هذا هو مغزى الفن التجريدي في التقليد الغربي: إنّه تحدّ. وفي ظل الكثير هذه التحديات، تُعد لوحة « رقم 32» اللوحة الأكثر تمثيلًا لهذا الفن. قصة الفنّ التجريدي مسار قصة الفن التجريدي مضمّنة في الدراسات التاريخية الفنية، إلّا أنّ المحطات الرئيسة لهذا المسار كانت محط تغييرات مفاجئة كلما اكتشف مؤرخوّ الفن حقائق جديدة. انطلق مسار الفن التجريدي بدءًا من القرن التاسع عشر وما تلاه؛ حيث استفاد الفنانون من مادة الطلاء والجوانب الشكلية للرسم مثل اللون والدرجة والخطوط. يُعرف هذا الانشغال بالجوانب غير التمثيلية (non-representative) للفن باسم «الشكلانية»، لأنّه انشغال «بالشكل»، أيّ بتوسل شكل المحتوى بدلًا من المحتوى في ذاته. بالنسبة إلى الفنانين في القرن التاسع عشر، صُنّف الفن التجريدي على أنّه «فنٌّ من أجل الفنّ»، وكانت الفكرة الشائعة مفادها أنّ المتذوق للفن يمكنه الاستمتاع بالعمل دون اللجوء إلى معنى أو حتى أي شيء آخر يمثل أمرًا ما. تمثّل لوحة «الموسيقى الهادئة باللّونين الأسود والذهبي – الصاروخ الساقط» (1872)، للفنان جيمس مكنيل ويسلر هذا الاتجاه الذي تبلور لاحقًا في الفن التجريدي.  إنّ مشهد ويسلر الغامض من الناحية المكانيّة يقترب إلى التجريد، وذلك بمحاولته نقل الشعور أو الانطباع الخاص بالمشهد بدلًا من إعادة إنتاجه بحذافيره. «الموسيقى الهادئة باللونين الأسود والذهبي - الصاروخ الساقط» (1872-1877) - جيمس أبوت مكنيل ويسلير«الموسيقى الهادئة باللونين الأسود والذهبي – الصاروخ الساقط» (1872-1877) – جيمس أبوت مكنيل ويسلير في عام 1877، انتقد جون روسكين – أبرز نقّاد بريطانيا في ذلك الوقت – عمل ويسلير هذا نقدًا لاذعًا فشبهه «بمن قام برمي الطلاء في وجه الجمهور». تأثر ويسلر بهذا الكلام، فرفع دعوى قضائية ضد روسكين، بيد أنّه خسرها لأن المسؤولين عرضوا اللوحة -خطأً- مقلوبةً على المحكمة. أفلس ويسلير بسبب هذه القضية، لكن مسيرة تطور الفن التجريدي استمرت. من ناحيةٍ أخرى، تحديد أول فنان تجريدي في العالم موضوع نزاع. في نظر أبحاث تاريخ الفن التقليدية، كان فاسيلي كاندينسكي – فنان روسي الجنسية رسم لوحات تجريدية بالكامل في مطلع عام 1911- هو أول فنان تجريدي. لم ينل الفن التجريدي الرائد لهيلما أف كلينت تقديرًا إلا قبل سنوات قريبة. هذه صورة للمعرض الشهير في  متحف غاغينهايم، عام 2018 .لم ينل الفن التجريدي الرائد لهيلما أف كلينت تقديرًا إلا قبل سنوات قريبة. هذه صورة للمعرض الشهير في  متحف غاغينهايم، عام 2018 . ولكن في الآونة الأخيرة، وبفضل المعرض الرائد في متحف مقاطعة لوس أنجلوس للفنون في عام 1986 الذي حمل اسم «الروحانية في الفن: الرسم التجريدي 1890 – 1985»، وقع الاختيار على هيلما أف كلينت كأول رسامة تجريدية. بدأت كلينت في رسم لوحات تجريدية بدءًا من عام 1906، وحملت مجموعتها عنوان «الفوضى البدائية». كانت الفنانة متكتمة في ما يتعلق بأعمالها التجريدية، ولم تُعرض أيّ منها في معارض عامة، وبقيت غير معروفة حتى أزيح عنها الستار مؤخرًا. ولعل الجدال حول هوية أول من مارس الفن التجريدي سيستم، لكن الحقيقة الأكثر أهمية هي أن العديد من الفنانين الأوروبيين البارزين قد توصّلوا في أعمالهم إلى التجريد بحلول الحرب العالمية الأولى. لقد وجد كل منهم طريقته الخاصة في التخلي عن الفن التشخيصي (figurative painting). وجديرٌ بالذكر أنّه لم تكن هناك حركة «تجريدية» دولية ذات رؤية أو بيان مشترك. في ضوء ذلك، فإن السؤال الملحّ حقًا هو: لمَ لمْ يتبنى الفنانون الغربيون الفن التجريدي على امتداد قرون عديدة؟ لماذا كان التجريد غير ضروري أو لا معنى له أو غير مناسب أو حتى لا يمكن تقبّله لقرونٍ متوالية في الفن الغربي؟ ظهرت العديد من التفسيرات لشرح ذلك. إحدى النظريات الأكثر وضوحًا هي أن ظهور التصوير الفوتوغرافي بوصفه شكلًا من أشكال الفن، إضافةً إلى تطور الفن الحديث، سببان رئيسان لإزاحة الرسم التشخيصي. ثمّة إجابات أخرى غير ملموسة لاستكشاف الأسباب: ربما عندما أصبحت الأعمال الفنية قابلة للاستهالاك بشكل متزايد، مثل السلع، بات من السهولة فصل اللوحات والمنحوتات عن التجارب المحددة لمبدعيها. ربما أدت الحداثة في الغرب إلى إفراغ الفن من المحتوى التشخيصي؛ مما دفع الفنانين أيضًا إلى التخلي عن التمثيل التشخيصي. كل من هذه الإجابات معقدة وتتطلب الكثير من الشرح، ولا يمكن إلا أن تكون تخمينات. لا توجد إجابة واضحة لهذه المسألة. ربما يكون من الأفضل طرح السؤال حول سبب تقبّل الفن التجريدي فنًّا من الفنون الرسمية في تاريخ الفن الغربي في مرحلة معينة على علماء الأنثروبولوجيا بدلًا من طرحها على مؤرخي الفن. فما هو واضح أن الفن التجريدي كان موجودًا دائمًا في مناطق أخرى من العالم. ما جعل الفن التجريدي فنًّا حديثًا على وجه التحديد في العالم الغربي هو نظام المعارض، الذي أعطى القيمة الفنية للأعمال المعروضة. وكما هو واضح فقد ازدهر التجريد لآلاف السنين المناطق الشرقية والجنوبية من العالم، دون عناء التحقق من مكانة الأعمال المعروضة في الصالونات [والمعارض، كما هو في العالم الغربي]. الواقع الافتراضي و«الافتراضية» يتبنى بيبي كرمل وهو مؤرخ فني، في كتابه « الفن التجريدي: تاريخ عالمي»، فكرة أنّ الفن التجريدي كان دائمًا موجودًا بشكل طبيعي عندما ننظر إليه نظرة شاملة وعالمية، بيد أنّه يتحاشى طرح نظرية عن تطور الفن التجريدي. بالنسبة إلى كرمل، فإنّ هذا الفنّ متجذر في العالم الحقيقي، وهو ليس فنًّا «مجردًا» على الإطلاق، كما أنّه تقليد عالمي وليس محليًا. في دراسته حول الفن التجريدي يقسم العمل الفني إلى خمس فئات واسعة تنتمي إلى العالم الحقيقي: الأجسام، والمناظر الطبيعية، والكون، والبنى، والعلامات والأنماط. من خلال فحص الفن التجريدي بهذه الطريقة، يرى كرمل في اللوحات التجريدية موضوعات قابلة للتحليل، بعكس النقاد والمؤرخين الأرثوذكسيين الذين رأوا فيها مجرّد توليفات شكلية مكوّنة من لون وشكل. ربما يكون من الأفضل أن يطلق على الفن التجريدي: فن ما تم تجريده (abstracted art)؛ لأنّ الفنانين التجريديين عادةً ما يستخلصون ويجرّدون تعبيرات التجارب في شكل ولون،  أكثر من كونها توليفات مكونة من شكل ولون. ومرّد ذلك الطبيعة الجوهرية للرسم والنحت؛ فهما (الشكل اللّون) وسيطان للتعبير، مثل الشاشة أو المسرح لخيال الفنان. كما هو الحال في المسرح أو السينما، فإنّ جمهور اللوحة أو المنحوتة يعلّق معتقداته من أجل أن يتقبل المشهد. من المفيد التفكير في اللوحة التشخيصية التقليدية أو النحت على أنها حقيقة افتراضية. إذْ استخدم الفنانون لقرون عديدة الحيل البصرية -مثل المنظور الخطي، والتقصير المسبق، والتظليل- لمحاكاة الطريقة التي ندرك بها الأشياء في الفضاء الحقيقي. إنّ المشاهد تُنشأ في فضاء افتراضي – سواء كانت القاعدة التي تدعم التمثال أو القماش – ليراها المشاهدون بوصفها خدعة بصرية. «القديس بطرس شفاء أحد الأشخاص وبعث تابيثا من الموت» ماسولينو دي بانيكال. اعتمد الرسم الغربي قبل القرن العشرين على الحيل البصرية لخلق واقع افتراضي. إحدى هذه الحيل هي المنظور الخطي، وهذه اللوحة هي أول مثال لاستخدام نقطة تلاشٍ متسقة.«القديس بطرس شفاء أحد الأشخاص وبعث تابيثا من الموت» ماسولينو دي بانيكال. اعتمد الرسم الغربي قبل القرن العشرين على الحيل البصرية لخلق واقع افتراضي. إحدى هذه الحيل هي المنظور الخطي، وهذه اللوحة هي أول مثال لاستخدام نقطة تلاشٍ متسقة. يستمتع مشاهدوّ الأعمال الفنية العظيمة معنى ما يُرسم، ويقدرون الطريقة التي يتجلّى فيها الوهم عبر تمازج اللون والشكل. يبقى الفن التجريدي، إلى حدٍ ما، ضمن إطار التجربة الجمالية. فقد سعت حركات الفن الحديث التي أدت إلى التجريد -أيّ «مدارس الفن»، مثل الانطباعية والفاوفية والتكعيبية- إلى تمثيل العالم بشكل مختلف عن كل الفنون التي سبقتها. إذْ ادعوا الاقتراب من الحقيقة الذاتية عبر تهميش جميع الحيل الوهمية التقليدية التي حاولت إعادة إنتاج الواقع بحذافيره كحقيقة موضوعية. «الأحمر والأصفر والأزرق» (1925) واسيلي كاندينسكي.  كان كاندينسكي يعدّ لفترةٍ طويلة أب الرسم التجريدي الغربي.«الأحمر والأصفر والأزرق» (1925) واسيلي كاندينسكي.  كان كاندينسكي يعدّ لفترةٍ طويلة أب الرسم التجريدي الغربي. بالنسبة إلى هذه المدارس، أصبح الفن أقل من أن يوصف بأنّه واقع افتراضي، لكنه مع ذلك احتفظ بالافتراضية، وأصبح افتراضيًا. لقد أخذ الفن التجريدي مسار التطور هذا إلى أقصاه: من الواقع الافتراضي إلى الافتراضية. ماذا تعني «الافتراضية» هنا؟ إنّها الوجود كجوهر وتأثير، ولكن بدون اللجوء إلى الواقع. اللوحة التجريدية التي رسمها كاندينسكي، على سبيل المثال، ما زالت تُعدّ علاقة متبادلة بين الشكل واللون، و تعتمد على الرسم كمستوى تخطيطي: إنها نافذة تطلّ على «الواقع» الفردي الذي تصوّره كاندينسكي. وما تزال العناصر في لوحات كاندينسكي تحظى بعلاقة متبادلة، كما هو الحال في فضاء الواقع الافتراضي للوحة التشخيصية؛ فجوهر الرسم سليم إذ إنّ ذلك الفضاء الافتراضي ما زال موجودًا. عندما يكون الفن التجريدي بناءً خالصًا، ويتخلص من المساحة الافتراضية الملازمة للرسم والنحت، يصبح متميزًا عنهما. وصف دونالد جود الفنان التخفيفي (minimalist) مثل هذه الأعمال الفنية بأنها «أجسام محدّدة» (Specific Objects). إنّه مصطلح غير دقيق، ولكنه يصلح لإظهار أن مثل هذه الأعمال الفنية ليست رسمًا ولا نحتًا، ولكنها فئة أخرى تمامًا. رأى دونالد جود أن أعماله وأعمال العديد من معاصريه تشغل مساحة هجينة، لا هي لوحات ولا هي نحت. عمل دون عنوان لدونالد جود. استخدم جود هذا المصطلح لوصف أعماله الخاصة، ولكنه ينطبق على لوحات كازيمير ماليفيتش وفرانك ستيلا أحادية اللون، والتي تجعل اللوحة تندمج مع نفسها بالكامل، من أجل الوصول للتأثير الذي يأمل العمل في تحقيقه. في مثل هذه الأعمال، لم يعد قماش اللّوحة (أو القاعدة) سطحًا تتفاعل فيه الأشكال والألوان في الفضاء الافتراضي. بدلاً من ذلك، تتفاعل الأشكال والألوان في الفضاء الحقيقي، في فضائنا. تختلف معايير النجاح أو الفشل لهذه الأعمال عن الخصائص التقليدية للرسم والنحت. رأى جود أنّ خصائص الرسم والنحت تقف في طريق ما أراد تحقيقه من خلال اللون والشكل. في رأيه، كان لـ «أجسامه المحددة» تأثيرًا أحدّ من غيرها. الواقع والأشكال الجديدة للإدراك الحسّي الرسم نفسه له ثلاثة أنواع عامة من التجريد؛ أولًا، ثمّة أسلوب تعبيري تُرسم فيه الأشكال بحركاتٍ غير مقيدة؛ ثم هناك التجريد الهندسي حيث يتم هيكلة الأشكال؛ أما النوع الثالث، فهو تجريد مجال اللون حيث يتم عرض مساحات من الألوان بطريقةٍ لا شكل واضح لها. لم تكن هذه «الأنماط» (styles) أنماطًا عرضيةً أو تعتمد على ذوق أو ميل الرسام كوسيلة لتحقيق هدفٍ ما من البحث الفني. وخير مثال على ذلك هو الفنان الذي غالبًا ما ينظر إلى عمله على أنّه ذروة التجريد الهندسي: بيت موندريان. إنّ لوحات بيت موندريان المكونة من شبكات (grids) ذات الخطوط السوداء والأجزاء الملونة على خلفية بيضاء؛ تهدف إلى استحضار «حقيقة أعلى». بالنسبة إلى موندريان، كان الفن في جوهره معارضًا للواقع؛ «لأن الواقع يتعارض مع الروحي». بغض النظر عن هذه اللوحة الأشهر لموندريان، فإنّ جوانب الرسم التي تهم هذا الفنان حقًا لم تكن الجوانب المحددة للموضوع -أيّ ماذا أو ما يتم تصويره في اللوحة مثلًا- بل الجوانب القابلة للفهم عالميًا للشكل والخط واللون. إنّ لوحات موندريان، مثلها مثل لوحات الفنانين الآخرين، هي محاولة لاستخلاص الشكل واللون من أجل الاقتراب من ذلك الجوهر العالمي والروحي للفن. عبّر موندريان عن رغبته في الوصول إلى «أساس» الأشياء من خلال الحدس، كالعديد من الفنانين التجريديين الآخرين في النصف الأول من القرن العشرين الذين رغبوا في الوصول إلى قوى غير مرئية حولنا، ولكنها معروفة أو محدوسة. «التكوين الثاني باللون الأحمر والأزرق والأصفر» (1930) - بيت موندريان«التكوين الثاني باللون الأحمر والأزرق والأصفر» (1930) – بيت موندريان في أواخر القرن التاسع عشر، لاحظ العلماء بشكلٍ أفضل مما سبق القوى غير المرئية مع انتشار التقنيات الجديدة، وأصبح من الواضح أن العالم أرحب مما يبدو للعين. في الوقت نفسه، ظهرت حركات روحية بديلة جمعت بين الأفكار الأفلاطونية والتصوف. كان كلينت وموندريان من بين العديد من الفنانين الذين انغمسوا في أشكال الروحانية خارج العوالم التقليدية للدين. اعتقدت كلينت أن لوحاتها هي وحي عالم روحي، وأن مهمتها كانت العمل «على مستوى روحاني» لتمثيل روح الإنسان، بدلًا من صورته الفانية. بحلول عشرينيات القرن الماضي، كانت نظرية فرويد عن للعقل البشري قد تغلغلت أيضًا في عالم الفن.  كذلك السريالية، وهي حركة منظمة بإحكام بدأت مع بعض الفنانين الذين سعوا إلى التنقيب عن الإمكانات الإبداعية للعقل الباطن، وهي الحركة الثقافية التي كانت سائدة في أوروبا بين الحربين العالميتين. لم تكن السريالية دوغمائية في محاولتها لاستكشاف اللاوعي، ولذلك ظهر عدد من الأساليب والطرق لمحاولة إخراج اللاوعي إلى السطح. إحدى هذه الأساليب كان الرسم الآلي (Automatism)، وهي عملية يتخلى فيها الفنان عن السيطرة الواعية لليد التي ترسم  أو تصور. في هذا المجال، تبنى الفنانون مثل أندريه ماسون وخوان ميرو الفرصة لبناء صورهم باستخدام حركات حرّة، وحتى إلقاء الطلاء على القماش. طور أرشيل غوركي -هو مهاجر أرمني عاش في الولايات المتحدة- أسلوبًا في الرسم يدمج بين الرسم الآلي وتجريد مجال الألوان. لوحاته في الأربعينيات حجمُها ضخم – ومرد ذلك تأثره بأعماله السابقة كفنان جداري مُعيّن من الدولة خلال السنوات الأخيرة من الكساد الكبير – لكنها معبّرة وغنائية في الرسم بالفرشاة. ألهم إدماج غوركي للأنماط جيلًا واسعًا من الفنانين الأمريكيين في فترة ما بعد الحرب لاحتضان التجريد الواسع النطاق. ما نسميه الآن «التعبيرية التجريدية»، وكان ذاك الجيل في الواقع مجموعة فضفاضة من الفنانين الذين يستخدمون أنماطًا متعدّدة من أنماط التجريد. ربما كان القاسم المشترك بين هؤلاء الفنانين – على الأقل في السنوات الأولى – هو دعم جيل جديد من النقاد بقيادة كليمنت غرينبيرغ، الذي كان يعتقد أن التجريد هو التعبير الأسمى للفن الغربي. «الكبد هو مشط الديك» (1944) - أرشيل جوركي.«الكبد هو مشط الديك» (1944) – أرشيل جوركي. الحداثة ومصير الفنّ الغربي كان يُعتقد في بعض الأوساط الفكرية المؤثرة أنّ الفن يتقدم نحو هدف؛ وهذا المضمون يشتمل عليه مصطلح «الطليعية» (Avant-garde)، الذي يُوصف به الفنّانون الذين يبتكرون أرضية جمالية جديدة. أصل المصطلح فرنسي يُطلق على الجنود الذين يتقدمون إلى مناطق جديدة. بالنسبة إلى غرينبيرغ، لم يكن هؤلاء الفنّانون يوسّعون حدود إمكانات الفن؛ بل كانوا يتقدمون نحو الهدف الحقيقي والمفرد لكل شكل فني. يُعدّ غرينبيرغ شخصية مهمة في تاريخ الفن التجريدي، وذلك لأمرين: بوصفه مناصرًا رائدًا في مسألة تفوق الفن التجريدي على غيره من أنواع الرسم، وتأكيده للقوة التي امتلكها هذا الفن. كان ناقدًا في اللجنة الأمريكية للحريّة الثقافية التي تمولها الدولة، وهي مجموعة تم إنشاؤها لتعزيز الفن الأمريكي على المستوى الدولي. أصبحت أفكار غرينبيرغ مؤثرة عندما كانت الولايات المتحدة جزءًا من الحرب على الفاشية والنازية، وخلال الحرب الباردة اللاحقة ضد الشيوعية السوفيتية. كانت معايير الفن الفاشي والسوفياتي واضحة، وهي ما تحددها السلطات الثقافية أنها كذلك، بيد أنّه ما لم يكن واضحًا هو معايير الفن «الجيد» وتحديدًا في الغرب الديمقراطي. كان الماركسيون هم من تعاطف مع غرينبيرغ في البداية، لكن ارتبط تفكيره بشكلٍ متزايد بالهيمنة الثقافية الأمريكية. بالنسبة إليه، كان التجريد في أعمال بولوك فنًا مثاليًا لمجتمع ديمقراطي. تتجلى الحداثة في الفن، وفقًا لغرينبيرغ، في إطار التنوير الأوروبي؛ أيّ في فترة ازدهار الأفكار الفلسفية والعلمية التي أعطت الأولوية للعقل. في مقالته المؤثرة « الرسم الحداثي» (1961)، وصفَ غرينبيرغ إيمانويل كانط – الفيلسوف الألماني في عصر التنوير – بأنّه «أول حداثي حقيقي». كان أسلوب كانط في «النقد» هو استخدام العقل لنقد العقل بغرض توضيحه، ومنحه استقلالية عن أنواع التفكير الأخرى. «أولمبيا» - إدوارد مانيه (1863). بالنسبة إلى كليمنت غرينبيرغ، كان مانيه أول رسام حداثي. لقد رسم مانيه لوحاته بأسلوبٍ مسطّح بشكلٍ متعمد.«أولمبيا» – إدوارد مانيه (1863). بالنسبة إلى كليمنت غرينبيرغ، كان مانيه أول رسام حداثي. لقد رسم مانيه لوحاته بأسلوبٍ مسطّح بشكلٍ متعمد. بالطريقة نفسها، كان الرسامون الحداثيون – من إدوارد مانيه في القرن التاسع عشر إلى موريس لويس، وهو رسام يعمل ينتمي إلى رسامي أسلوب مجال ألوان في الولايات المتحدة في الوقت الذي كتب فيه غرينبيرغ مقالته – يعملون على ترسيخ الفن التعبيري «بشكل صارم في مجال تخصصه». رأى غرينبيرغ أن وضوح الفن التجريدي -الذي كان صادقًا بالنسبة إلى الوسيط الذي يُعبّر من خلاله- معارضٌ لـ«الفن الشعبي المبتذل [الكيتش]» الذي ينُتج على نطاق واسع في الثقافة الشعبية. إن إزالة «الكيتش» كانت مسألة استجلاء وتوضيح تحتاجها جميع الفنون لكي تصبح تعبيرًا عن إمكاناتها الجمالية الكامنة. اللوحات مسطّحة، وإيهام العمق الذي نجده في معظم الفن الغربي كان انحرافًا عن جوهر فن الرسم ذاته. كانت استقلالية الشكل الفني في جميع خصائصه دون أن تتلوث بأشكال فنية أخرى. وفقًا لغرينبيرغ، يعدّ الشكل واللون من أهم خصائص الرسم، و أفضل تمثيل لها يكون بشكلٍ مسطّح. وهكذا دافع غرينبيرغ عن «التسطيح» الذي تجلّى في لوحات الفنانين الأمريكيين التجريدية مثل جاكسون بولوك باعتباره تحقيقًا لهذا الوضوح الحداثي. لقد ضم هؤلاء الفنانين معًا ضمن فريق واحد، وهم يمثّلون المرحلة التالية في الحداثة، وقد حلّت رؤيتهم الأمريكية المميزة محلّ الفن الأوروبي الطليعي. وفي الوقت الذي أصبح فيه الفن التجريدي الأمريكي مهيمنًا، تراجعت هيمنة غرينبيرغ النقدية، وظهرت أشكال جديدة من الفن الطليعي، مستوحاة مباشرة من الثقافة الجماهيرية، وحلّت محلّ التعبيرية التجريدية في المخيال العام. تبنى فنانوّ «البوب» مثل: آندي وارهول، وريتشارد هاميلتون هذا النوع من «الفن الشعبي المبتذل» الذي رآه غرينبيرغ تلويثًا للفن الحقيقي. استمرت الأعمال الفنية التجريدية، ولكن تخلّى الفنّانون التجريديون الأكثر جرأة عن الفكرة الصارمة «للنقد الحداثي»، وعن الوضوح المتعلق بخصوصية الوسيط الفني، وذلك لصالح أشكال أخرى من التعبير. نظر فنانوّ «ما بعد الحداثة» إلى السخرية وعملية الرسم نفسها، كطرق لتجاوز الطريق المسدود للحداثة. تبنى الألماني غيرهارد ريختر كلا النهجين؛ فبعض أعماله التجريدية في الستينيات كانت مصنوعة بممسحاتٍ بدلًا من الفرشاة، حتى يتمكن من لفت الانتباه إلى عملية صنع اللوحة نفسها. كانت «اللوحات التجريدية» البارزة الأخرى التي رسمها ريختر في الواقع صورًا واقعية مرسومة بعناية تعكس لوحاته التجريدية الأخرى. أصبحت طلائعية الرسم التجريدي مفهومية أكثر، ما جعل ضمنيًّا قضية الرسم تحظى باستقلالية أقل مما كان كان يعتقد النقاد الحداثيون. قلّد فنانوّ «نيو جيو»، مثل: الرسام بيتر هالي، والنحات أشلي بيكرتون اللغة البصرية للتجريد الهندسي، لكنهما دمجاها مع السلع الاستهلاكية بألوانٍ تجارية فاتحة وأحيانًا فلورية. منذ ذلك الجيل ما بعد الحداثي من الرسامين والنحاتين الممتد من الستينيات إلى التسعينيات، ازدهر التجريد متفرّعًا إلى عددٍ لا يُحصى من الأساليب والمقاربات بجوار الفن التشخيصي. هنا يمكن القول إنّ التجريد المتحرّر من عبء التوقعات الحداثية هو ببساطة نهج للتعبير مثل أيّ نهج آخر. وتجدر الإشارة إلى أنّ بعض الفنانين التجريديين استخدموا الحيل البصرية المستعملة في الفن التشخيصي – مثل المنظور والتظليل – في لوحاتهم. ولاستخدامهم هذا أهداف فريدة و غالبًا لا تهتم بالنظرية. قلّد فنانوّ «ما بعد الحداثة» مثل: بيتر هالي اللغة البصرية المستعملة في الفن التجريدي الحديث (في حالة بيتر، التجريد الهندسي)، للتعليق على طبيعة الفن والمعنى نفسه. تمثّل هذه الكتل الملونة «الخلايا» و«الأنابيب».قلّد فنانوّ «ما بعد الحداثة» مثل: بيتر هالي اللغة البصرية المستعملة في الفن التجريدي الحديث (في حالة بيتر، التجريد الهندسي)، للتعليق على طبيعة الفن والمعنى نفسه. تمثّل هذه الكتل الملونة «الخلايا» و«الأنابيب». هذا هو التحرّر نحو الأفضل بين الرسامين التجريديين الذين يمكنهم الالتزام برؤيةٍ فريدة بالرسم على القماش. لكن فكّ ارتباط الفن التجريدي عن إطاره الفلسفي الأوسع أدى أيضًا إلى انتشارٍ يثير التساؤل لأعمال تجريدية متنوعة قابلة للاستهلاك – بمعنى أنّها فقدت قيمتها، وباتت تُباع وتُشترى سريعًا بأسعارٍ مربحة – يشتريها المشترون المتضاربون. دفع هذا التحول الناقد جيري سالتز إلى كتابة: « الزومبي على الجدران: لماذا يبدو الكثير من التجريد الجديد متشابهًا؟». وقد شبه اللّوحات التجريدية بصورة «الزومبي»، تحقيرًا لأعمال عددٍ من الرسامين التجريديين البارزين، الذين استخدموا الفنّ وجماليته لتقديم أعمال مبتذلة. ومن المفارقات أن هؤلاء الفنانين نظروا إلى الشكلانية بوصفها فنًّا حداثيًّا متبنّين منظور غرينبيرغ، لكنهم بالطبع قدّموا أعمالًا في ظلّ فراغ تاريخي وبعد فترةٍ طويلة حين لم يُصبح التجريد مثيرًا للاهتمام أو راديكاليًا بأي وجه من الوجوه. في الواقع، لم يصل مشروع الحداثة  في الفن التجريدي إلى نهايته، بل النقد. إنّ النقد -أيّ الإطار الفلسفي الواسع الذي يصادق على الأعمال الفنية ويثمّنها لأهميتها الثقافية والتاريخية- هو ما فقد التوجه والسلطة. كان مسار الفن الغربي منذ عصر التنوير يتأرجح بين قطبي الدوغمائية النقدية والإبداع. تكمن المشكلة أنه في العقود الأخيرة، وفي ظلّ غياب أي مشروع نقدي متماسك، انجرف الفن نحو إرضاء اهتمامات دقيقة ومتنوعة تزداد باستمرار. في حين كانت هناك «حركات» و«مدارس» فنية -مصطلحان يشيران إلى الوجهة والانضباط- لم يعد لدينا الآن سوى «مشاهد». هذا ليس بالضرورة أمرًا سيئًا. ولكن في عالم حيث «كل شيء مقبول – anything goes»، لا يوجد مجال لهذا النوع من الابتكار والتجاوز الذي أدى إلى ظهور الفن التجريدي في الغرب، وهذا ما جعل الفن الحديث فنًّا مثيرًا للغاية. من الصعب في هذه اللحظة التاريخية أن ندرك ما الذي جعل لوحة بولوك «رقم 32» مثيرة للانقسام، ومخلخلةً جدًا للمعايير، وفي الوقت نفسه محتفظةً بقيمةٍ عالية جدًا لأولئك الذين يعتقدون أن للفنِّ مكانًا في المجتمع يتجاوز المتعة. [divider style=”solid” top=”20″ bottom=”20″] [1] واللقب كذلك يُلمح إلى القاتل المتسلسل في لندن آخر القرن التاسع عشر: جاك السفّاح Jack the ripper (مدير التحرير). ### خارج عقلك | توم تشاتفيلد – ت: محمد السعيد                  عندما يكون هاتفي النقال بين يديّ، هل أكون أنا الشخص نفسه لو كان الهاتف في غرفة أخرى؟ من ناحية،... ### الدراما في التعليم: مقاربات وتطبيقات | نعيم حيماد افتتاحيّة حظي استخدام الدراما في التعليمفي السنوات الأخيرة باهتمام كبير من قبل نخبة من المنظرين والممارسين للدراما في مجال التعليم.... ### الحقائق المخفية | دي بي سي بيير – ت: محمد السعيد       يحمل جبل كلسي خشن في غرب إيران عددًا من النقوش البارزة، من بينها لوحة طولها خمسة وعشرين مترًا منقوشة... ### التغلُّب على كاشف الكذب | كلاريسا سيباغ-مونتِنفيوري – ت: محمد السعيد          حين  اتُّهِمَتْ مربية الأطفال البريطانية لويز وودورد بهزِّ رضيع حتى الموت في مدينة نيوتن بولاية ماساتشوستس، لم تكتفِ بإعلان... ### عن منصة معنى «معنى»، مؤسسة ثقافية تقدّمية ودار نشر تهتم بالفلسفة والمعرفة والفنون، عبر مجموعة متنوعة من المواد المقروءة والمسموعة والمرئية. انطلقت في 20 مارس 2019، بهدف إثراء المحتوى العربي، ورفع ذائقة ووعي المتلقّي المحلي والدولي، عبر الإنتاج الأصيل للمنصة والترجمة ونقل المعارف. ### روابط سريعة ### التصنيفات ### مرحبا بك! قم بتسجيل الدخول إلى حسابك تذكرني ### قم بإنشاء حساب جديد! املأ النموذج أدناه للتسجيل ### طلب إعادة تعيين كلمة المرور يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان البريد الإلكتروني لإعادة تعيين كلمة المرور الخاصة بك. ### Add New Playlist - Select Visibility -PublicPrivate No Result عرض جميع النتائج - 00:00 00:00 - 00:00 00:00
article
Arabic
ar
الفنّ التجريدي: بين الماضي والحاضر - منصة معنى الثقافية
https://mana.net/abstract-art/
1,862
في مثل هذه الأعمال، لم يعد قماش اللّوحة (أو القاعدة) سطحًا تتفاعل فيه الأشكال والألوان في الفضاء الافتراضي.
sentence
في مثل هذه الأعمال، لم يعد قماش اللّوحة (أو القاعدة) سطحًا تتفاعل فيه الأشكال والألوان في الفضاء الافتراضي. بدلاً من ذلك، تتفاعل الأشكال والألوان في الفضاء الحقيقي، في فضائنا.
paragraph
Arabic
ar
الفنّ التجريدي: بين الماضي والحاضر - منصة معنى الثقافية
https://mana.net/abstract-art/
1,863
بدلاً من ذلك، تتفاعل الأشكال والألوان في الفضاء الحقيقي، في فضائنا.
sentence
في مثل هذه الأعمال، لم يعد قماش اللّوحة (أو القاعدة) سطحًا تتفاعل فيه الأشكال والألوان في الفضاء الافتراضي. بدلاً من ذلك، تتفاعل الأشكال والألوان في الفضاء الحقيقي، في فضائنا.
paragraph
Arabic
ar
الفنّ التجريدي: بين الماضي والحاضر - منصة معنى الثقافية
https://mana.net/abstract-art/
1,864
تختلف معايير النجاح أو الفشل لهذه الأعمال عن الخصائص التقليدية للرسم والنحت. رأى جود أنّ خصائص الرسم والنحت تقف في طريق ما أراد تحقيقه من خلال اللون والشكل. في رأيه، كان لـ «أجسامه المحددة» تأثيرًا أحدّ من غيرها.
paragraph
لا توجد منتجات في سلة المشتريات. No Result عرض جميع النتائج الثلاثاء, سبتمبر 10, 2024 No Result عرض جميع النتائج No Result عرض جميع النتائج # الفنّ التجريدي: بين الماضي والحاضر ## ترجمة: أنطونيوس نادر AA AA إعادة تعيين فنٌ مليء بالتحديات ثمّة خطٌ رفيع يفصل بين الفن التجريدي ومجرد الزخرفة، ولوحة «رقم 32» (نُشرت عام 1950)، لجاكسون بولوك تتأرجح بين هذا الخطّ. فهي لا تشير إلى معنىً واضح، ولكن لا يمكن القول إنّها بلا معنى على الإطلاق. كما أنّها ليست معبّرة بشكلٍ مباشر، ولا يعني هذا أنها لا تعبّر عن مدلولٍ ما. تحمل هذه اللوحة الكثير من المضامين عن الفن الغربي بالنسبة إلى شخصٍ خبيرٍ في تاريخ الفن؛ أما بالنسبة إلى شخصٍ عادي، فقد يراها عملًا مبتذلًا بالكاد يعبّر عن أمرٍ ما. اللوحة شبكة من الخطوط وبقعٍ من الألوان، رُسمت عن طريق صبّ طلاءٍ رخيص بعشوائيةٍ مباشرة على القماش. تتكون اللوحة من طلاءٍ أسود فقط وقماشٍ خام. واللوحة ضخمة؛ إذ يبلغ طولها تسعة أقدام وعرضها خمسة عشر قدمًا، وتغطي مجال رؤية المشاهد أثناء اقترابه منها. تقليديًّا، حتى اللوحات التجريدية تتكون من أجزاءٍ مترابطة مع بؤر تركيز (emphases) وعمقٍ يُنقل من خلال اللون والظلال، ولكن «رقم 32» ليس لها أجزاء؛ إنّها تتكون من تعالقات، والبؤرة فيها تكمن عبر امتداد سطح القماش المستطيل. يمنحها ما سبق عمقًا سطحيًا، وربما لا عمق فيها: مجرّد طلاء على قماش. إنّها عبث بالشكل واللون. حتى اسمها، ببساطة رقمٌ معيّن – رقم 32 – يجعلها تنأى بنفسها عن أي فكرة مفادها أنها تعكس مدلولًا محدّدًا. تشير عناوين أعمال بولوك الأخرى إلى نوعٍ من الاختبار الشخصي، وإلى الاستخدام السمفوني المتعدد الطبقات للون والملمس؛ خذ مثلًا لوحاته التي تحمل اسم: «إيقاع الخريف»، و«الضباب الأرجواني»، و«الأقطاب الزرقاء»، و«انعكاس الدنقلة الكبير». هذا لا ينطبق على لوحة «رقم 32»؛ شكلها الخام وبساطتها دليل على أنّ الفنان لم يخطط مسبقًا لرسمها؛ أيّ أنّه لم ينتق الألوان ولا الطبقات. يبدو بولوك هنا أكثر حضورًا، من خلال لمساته الحادة. بالنسبة إلى مؤيديّ عمل بولوك، تختصر هذه اللوحة خلاصة نظرة الفنان الجمالية. أما بالنسبة للبعض الآخر، فهي لوحة مبتذلة. وصف جوزيف بويس -النحات الألماني في فترة ما بعد الحرب- الفنَّ التجريدي الأمريكي بأنه مجرد «تغليف»، أيّ سطح بلا محتوى. في هذا الصدد، قد يتفق البعض أن لوحة «رقم 32» تجسد فراغ الفكر والشعور ذاك. فقد رأى الروائي والناقد الفني روبرت كوتس أن فن بولوك لم يكن سوى «انفجارات» غير منظمة من الطاقة العشوائية. غير أنّ طائفة كبيرة من متذوقي الفن التجريدي لا تروق إليهم أعمال بولوك ويرونها فنًّا محيرًا، حتى إنّ بعضهم يراها إهانةً للذوق أو الحسّ السليم. عُرف بولوك بلقب: «جاك فنان النقط» (Jack the Dripper) [1] في الأوساط الإعلامية المشككة بعمله حيث ادعى كثر أن أيّ شخص يمكنه أن يرسم كما يرسم بولوك إلّا أنّ أحدًا لم يتجرأ على فعل ذلك. «رقم 32» - جاكسون بولوك«رقم 32» – جاكسون بولوك بيد أنّ هذا هو مغزى الفن التجريدي في التقليد الغربي: إنّه تحدّ. وفي ظل الكثير هذه التحديات، تُعد لوحة « رقم 32» اللوحة الأكثر تمثيلًا لهذا الفن. قصة الفنّ التجريدي مسار قصة الفن التجريدي مضمّنة في الدراسات التاريخية الفنية، إلّا أنّ المحطات الرئيسة لهذا المسار كانت محط تغييرات مفاجئة كلما اكتشف مؤرخوّ الفن حقائق جديدة. انطلق مسار الفن التجريدي بدءًا من القرن التاسع عشر وما تلاه؛ حيث استفاد الفنانون من مادة الطلاء والجوانب الشكلية للرسم مثل اللون والدرجة والخطوط. يُعرف هذا الانشغال بالجوانب غير التمثيلية (non-representative) للفن باسم «الشكلانية»، لأنّه انشغال «بالشكل»، أيّ بتوسل شكل المحتوى بدلًا من المحتوى في ذاته. بالنسبة إلى الفنانين في القرن التاسع عشر، صُنّف الفن التجريدي على أنّه «فنٌّ من أجل الفنّ»، وكانت الفكرة الشائعة مفادها أنّ المتذوق للفن يمكنه الاستمتاع بالعمل دون اللجوء إلى معنى أو حتى أي شيء آخر يمثل أمرًا ما. تمثّل لوحة «الموسيقى الهادئة باللّونين الأسود والذهبي – الصاروخ الساقط» (1872)، للفنان جيمس مكنيل ويسلر هذا الاتجاه الذي تبلور لاحقًا في الفن التجريدي.  إنّ مشهد ويسلر الغامض من الناحية المكانيّة يقترب إلى التجريد، وذلك بمحاولته نقل الشعور أو الانطباع الخاص بالمشهد بدلًا من إعادة إنتاجه بحذافيره. «الموسيقى الهادئة باللونين الأسود والذهبي - الصاروخ الساقط» (1872-1877) - جيمس أبوت مكنيل ويسلير«الموسيقى الهادئة باللونين الأسود والذهبي – الصاروخ الساقط» (1872-1877) – جيمس أبوت مكنيل ويسلير في عام 1877، انتقد جون روسكين – أبرز نقّاد بريطانيا في ذلك الوقت – عمل ويسلير هذا نقدًا لاذعًا فشبهه «بمن قام برمي الطلاء في وجه الجمهور». تأثر ويسلر بهذا الكلام، فرفع دعوى قضائية ضد روسكين، بيد أنّه خسرها لأن المسؤولين عرضوا اللوحة -خطأً- مقلوبةً على المحكمة. أفلس ويسلير بسبب هذه القضية، لكن مسيرة تطور الفن التجريدي استمرت. من ناحيةٍ أخرى، تحديد أول فنان تجريدي في العالم موضوع نزاع. في نظر أبحاث تاريخ الفن التقليدية، كان فاسيلي كاندينسكي – فنان روسي الجنسية رسم لوحات تجريدية بالكامل في مطلع عام 1911- هو أول فنان تجريدي. لم ينل الفن التجريدي الرائد لهيلما أف كلينت تقديرًا إلا قبل سنوات قريبة. هذه صورة للمعرض الشهير في  متحف غاغينهايم، عام 2018 .لم ينل الفن التجريدي الرائد لهيلما أف كلينت تقديرًا إلا قبل سنوات قريبة. هذه صورة للمعرض الشهير في  متحف غاغينهايم، عام 2018 . ولكن في الآونة الأخيرة، وبفضل المعرض الرائد في متحف مقاطعة لوس أنجلوس للفنون في عام 1986 الذي حمل اسم «الروحانية في الفن: الرسم التجريدي 1890 – 1985»، وقع الاختيار على هيلما أف كلينت كأول رسامة تجريدية. بدأت كلينت في رسم لوحات تجريدية بدءًا من عام 1906، وحملت مجموعتها عنوان «الفوضى البدائية». كانت الفنانة متكتمة في ما يتعلق بأعمالها التجريدية، ولم تُعرض أيّ منها في معارض عامة، وبقيت غير معروفة حتى أزيح عنها الستار مؤخرًا. ولعل الجدال حول هوية أول من مارس الفن التجريدي سيستم، لكن الحقيقة الأكثر أهمية هي أن العديد من الفنانين الأوروبيين البارزين قد توصّلوا في أعمالهم إلى التجريد بحلول الحرب العالمية الأولى. لقد وجد كل منهم طريقته الخاصة في التخلي عن الفن التشخيصي (figurative painting). وجديرٌ بالذكر أنّه لم تكن هناك حركة «تجريدية» دولية ذات رؤية أو بيان مشترك. في ضوء ذلك، فإن السؤال الملحّ حقًا هو: لمَ لمْ يتبنى الفنانون الغربيون الفن التجريدي على امتداد قرون عديدة؟ لماذا كان التجريد غير ضروري أو لا معنى له أو غير مناسب أو حتى لا يمكن تقبّله لقرونٍ متوالية في الفن الغربي؟ ظهرت العديد من التفسيرات لشرح ذلك. إحدى النظريات الأكثر وضوحًا هي أن ظهور التصوير الفوتوغرافي بوصفه شكلًا من أشكال الفن، إضافةً إلى تطور الفن الحديث، سببان رئيسان لإزاحة الرسم التشخيصي. ثمّة إجابات أخرى غير ملموسة لاستكشاف الأسباب: ربما عندما أصبحت الأعمال الفنية قابلة للاستهالاك بشكل متزايد، مثل السلع، بات من السهولة فصل اللوحات والمنحوتات عن التجارب المحددة لمبدعيها. ربما أدت الحداثة في الغرب إلى إفراغ الفن من المحتوى التشخيصي؛ مما دفع الفنانين أيضًا إلى التخلي عن التمثيل التشخيصي. كل من هذه الإجابات معقدة وتتطلب الكثير من الشرح، ولا يمكن إلا أن تكون تخمينات. لا توجد إجابة واضحة لهذه المسألة. ربما يكون من الأفضل طرح السؤال حول سبب تقبّل الفن التجريدي فنًّا من الفنون الرسمية في تاريخ الفن الغربي في مرحلة معينة على علماء الأنثروبولوجيا بدلًا من طرحها على مؤرخي الفن. فما هو واضح أن الفن التجريدي كان موجودًا دائمًا في مناطق أخرى من العالم. ما جعل الفن التجريدي فنًّا حديثًا على وجه التحديد في العالم الغربي هو نظام المعارض، الذي أعطى القيمة الفنية للأعمال المعروضة. وكما هو واضح فقد ازدهر التجريد لآلاف السنين المناطق الشرقية والجنوبية من العالم، دون عناء التحقق من مكانة الأعمال المعروضة في الصالونات [والمعارض، كما هو في العالم الغربي]. الواقع الافتراضي و«الافتراضية» يتبنى بيبي كرمل وهو مؤرخ فني، في كتابه « الفن التجريدي: تاريخ عالمي»، فكرة أنّ الفن التجريدي كان دائمًا موجودًا بشكل طبيعي عندما ننظر إليه نظرة شاملة وعالمية، بيد أنّه يتحاشى طرح نظرية عن تطور الفن التجريدي. بالنسبة إلى كرمل، فإنّ هذا الفنّ متجذر في العالم الحقيقي، وهو ليس فنًّا «مجردًا» على الإطلاق، كما أنّه تقليد عالمي وليس محليًا. في دراسته حول الفن التجريدي يقسم العمل الفني إلى خمس فئات واسعة تنتمي إلى العالم الحقيقي: الأجسام، والمناظر الطبيعية، والكون، والبنى، والعلامات والأنماط. من خلال فحص الفن التجريدي بهذه الطريقة، يرى كرمل في اللوحات التجريدية موضوعات قابلة للتحليل، بعكس النقاد والمؤرخين الأرثوذكسيين الذين رأوا فيها مجرّد توليفات شكلية مكوّنة من لون وشكل. ربما يكون من الأفضل أن يطلق على الفن التجريدي: فن ما تم تجريده (abstracted art)؛ لأنّ الفنانين التجريديين عادةً ما يستخلصون ويجرّدون تعبيرات التجارب في شكل ولون،  أكثر من كونها توليفات مكونة من شكل ولون. ومرّد ذلك الطبيعة الجوهرية للرسم والنحت؛ فهما (الشكل اللّون) وسيطان للتعبير، مثل الشاشة أو المسرح لخيال الفنان. كما هو الحال في المسرح أو السينما، فإنّ جمهور اللوحة أو المنحوتة يعلّق معتقداته من أجل أن يتقبل المشهد. من المفيد التفكير في اللوحة التشخيصية التقليدية أو النحت على أنها حقيقة افتراضية. إذْ استخدم الفنانون لقرون عديدة الحيل البصرية -مثل المنظور الخطي، والتقصير المسبق، والتظليل- لمحاكاة الطريقة التي ندرك بها الأشياء في الفضاء الحقيقي. إنّ المشاهد تُنشأ في فضاء افتراضي – سواء كانت القاعدة التي تدعم التمثال أو القماش – ليراها المشاهدون بوصفها خدعة بصرية. «القديس بطرس شفاء أحد الأشخاص وبعث تابيثا من الموت» ماسولينو دي بانيكال. اعتمد الرسم الغربي قبل القرن العشرين على الحيل البصرية لخلق واقع افتراضي. إحدى هذه الحيل هي المنظور الخطي، وهذه اللوحة هي أول مثال لاستخدام نقطة تلاشٍ متسقة.«القديس بطرس شفاء أحد الأشخاص وبعث تابيثا من الموت» ماسولينو دي بانيكال. اعتمد الرسم الغربي قبل القرن العشرين على الحيل البصرية لخلق واقع افتراضي. إحدى هذه الحيل هي المنظور الخطي، وهذه اللوحة هي أول مثال لاستخدام نقطة تلاشٍ متسقة. يستمتع مشاهدوّ الأعمال الفنية العظيمة معنى ما يُرسم، ويقدرون الطريقة التي يتجلّى فيها الوهم عبر تمازج اللون والشكل. يبقى الفن التجريدي، إلى حدٍ ما، ضمن إطار التجربة الجمالية. فقد سعت حركات الفن الحديث التي أدت إلى التجريد -أيّ «مدارس الفن»، مثل الانطباعية والفاوفية والتكعيبية- إلى تمثيل العالم بشكل مختلف عن كل الفنون التي سبقتها. إذْ ادعوا الاقتراب من الحقيقة الذاتية عبر تهميش جميع الحيل الوهمية التقليدية التي حاولت إعادة إنتاج الواقع بحذافيره كحقيقة موضوعية. «الأحمر والأصفر والأزرق» (1925) واسيلي كاندينسكي.  كان كاندينسكي يعدّ لفترةٍ طويلة أب الرسم التجريدي الغربي.«الأحمر والأصفر والأزرق» (1925) واسيلي كاندينسكي.  كان كاندينسكي يعدّ لفترةٍ طويلة أب الرسم التجريدي الغربي. بالنسبة إلى هذه المدارس، أصبح الفن أقل من أن يوصف بأنّه واقع افتراضي، لكنه مع ذلك احتفظ بالافتراضية، وأصبح افتراضيًا. لقد أخذ الفن التجريدي مسار التطور هذا إلى أقصاه: من الواقع الافتراضي إلى الافتراضية. ماذا تعني «الافتراضية» هنا؟ إنّها الوجود كجوهر وتأثير، ولكن بدون اللجوء إلى الواقع. اللوحة التجريدية التي رسمها كاندينسكي، على سبيل المثال، ما زالت تُعدّ علاقة متبادلة بين الشكل واللون، و تعتمد على الرسم كمستوى تخطيطي: إنها نافذة تطلّ على «الواقع» الفردي الذي تصوّره كاندينسكي. وما تزال العناصر في لوحات كاندينسكي تحظى بعلاقة متبادلة، كما هو الحال في فضاء الواقع الافتراضي للوحة التشخيصية؛ فجوهر الرسم سليم إذ إنّ ذلك الفضاء الافتراضي ما زال موجودًا. عندما يكون الفن التجريدي بناءً خالصًا، ويتخلص من المساحة الافتراضية الملازمة للرسم والنحت، يصبح متميزًا عنهما. وصف دونالد جود الفنان التخفيفي (minimalist) مثل هذه الأعمال الفنية بأنها «أجسام محدّدة» (Specific Objects). إنّه مصطلح غير دقيق، ولكنه يصلح لإظهار أن مثل هذه الأعمال الفنية ليست رسمًا ولا نحتًا، ولكنها فئة أخرى تمامًا. رأى دونالد جود أن أعماله وأعمال العديد من معاصريه تشغل مساحة هجينة، لا هي لوحات ولا هي نحت. عمل دون عنوان لدونالد جود. استخدم جود هذا المصطلح لوصف أعماله الخاصة، ولكنه ينطبق على لوحات كازيمير ماليفيتش وفرانك ستيلا أحادية اللون، والتي تجعل اللوحة تندمج مع نفسها بالكامل، من أجل الوصول للتأثير الذي يأمل العمل في تحقيقه. في مثل هذه الأعمال، لم يعد قماش اللّوحة (أو القاعدة) سطحًا تتفاعل فيه الأشكال والألوان في الفضاء الافتراضي. بدلاً من ذلك، تتفاعل الأشكال والألوان في الفضاء الحقيقي، في فضائنا. تختلف معايير النجاح أو الفشل لهذه الأعمال عن الخصائص التقليدية للرسم والنحت. رأى جود أنّ خصائص الرسم والنحت تقف في طريق ما أراد تحقيقه من خلال اللون والشكل. في رأيه، كان لـ «أجسامه المحددة» تأثيرًا أحدّ من غيرها. الواقع والأشكال الجديدة للإدراك الحسّي الرسم نفسه له ثلاثة أنواع عامة من التجريد؛ أولًا، ثمّة أسلوب تعبيري تُرسم فيه الأشكال بحركاتٍ غير مقيدة؛ ثم هناك التجريد الهندسي حيث يتم هيكلة الأشكال؛ أما النوع الثالث، فهو تجريد مجال اللون حيث يتم عرض مساحات من الألوان بطريقةٍ لا شكل واضح لها. لم تكن هذه «الأنماط» (styles) أنماطًا عرضيةً أو تعتمد على ذوق أو ميل الرسام كوسيلة لتحقيق هدفٍ ما من البحث الفني. وخير مثال على ذلك هو الفنان الذي غالبًا ما ينظر إلى عمله على أنّه ذروة التجريد الهندسي: بيت موندريان. إنّ لوحات بيت موندريان المكونة من شبكات (grids) ذات الخطوط السوداء والأجزاء الملونة على خلفية بيضاء؛ تهدف إلى استحضار «حقيقة أعلى». بالنسبة إلى موندريان، كان الفن في جوهره معارضًا للواقع؛ «لأن الواقع يتعارض مع الروحي». بغض النظر عن هذه اللوحة الأشهر لموندريان، فإنّ جوانب الرسم التي تهم هذا الفنان حقًا لم تكن الجوانب المحددة للموضوع -أيّ ماذا أو ما يتم تصويره في اللوحة مثلًا- بل الجوانب القابلة للفهم عالميًا للشكل والخط واللون. إنّ لوحات موندريان، مثلها مثل لوحات الفنانين الآخرين، هي محاولة لاستخلاص الشكل واللون من أجل الاقتراب من ذلك الجوهر العالمي والروحي للفن. عبّر موندريان عن رغبته في الوصول إلى «أساس» الأشياء من خلال الحدس، كالعديد من الفنانين التجريديين الآخرين في النصف الأول من القرن العشرين الذين رغبوا في الوصول إلى قوى غير مرئية حولنا، ولكنها معروفة أو محدوسة. «التكوين الثاني باللون الأحمر والأزرق والأصفر» (1930) - بيت موندريان«التكوين الثاني باللون الأحمر والأزرق والأصفر» (1930) – بيت موندريان في أواخر القرن التاسع عشر، لاحظ العلماء بشكلٍ أفضل مما سبق القوى غير المرئية مع انتشار التقنيات الجديدة، وأصبح من الواضح أن العالم أرحب مما يبدو للعين. في الوقت نفسه، ظهرت حركات روحية بديلة جمعت بين الأفكار الأفلاطونية والتصوف. كان كلينت وموندريان من بين العديد من الفنانين الذين انغمسوا في أشكال الروحانية خارج العوالم التقليدية للدين. اعتقدت كلينت أن لوحاتها هي وحي عالم روحي، وأن مهمتها كانت العمل «على مستوى روحاني» لتمثيل روح الإنسان، بدلًا من صورته الفانية. بحلول عشرينيات القرن الماضي، كانت نظرية فرويد عن للعقل البشري قد تغلغلت أيضًا في عالم الفن.  كذلك السريالية، وهي حركة منظمة بإحكام بدأت مع بعض الفنانين الذين سعوا إلى التنقيب عن الإمكانات الإبداعية للعقل الباطن، وهي الحركة الثقافية التي كانت سائدة في أوروبا بين الحربين العالميتين. لم تكن السريالية دوغمائية في محاولتها لاستكشاف اللاوعي، ولذلك ظهر عدد من الأساليب والطرق لمحاولة إخراج اللاوعي إلى السطح. إحدى هذه الأساليب كان الرسم الآلي (Automatism)، وهي عملية يتخلى فيها الفنان عن السيطرة الواعية لليد التي ترسم  أو تصور. في هذا المجال، تبنى الفنانون مثل أندريه ماسون وخوان ميرو الفرصة لبناء صورهم باستخدام حركات حرّة، وحتى إلقاء الطلاء على القماش. طور أرشيل غوركي -هو مهاجر أرمني عاش في الولايات المتحدة- أسلوبًا في الرسم يدمج بين الرسم الآلي وتجريد مجال الألوان. لوحاته في الأربعينيات حجمُها ضخم – ومرد ذلك تأثره بأعماله السابقة كفنان جداري مُعيّن من الدولة خلال السنوات الأخيرة من الكساد الكبير – لكنها معبّرة وغنائية في الرسم بالفرشاة. ألهم إدماج غوركي للأنماط جيلًا واسعًا من الفنانين الأمريكيين في فترة ما بعد الحرب لاحتضان التجريد الواسع النطاق. ما نسميه الآن «التعبيرية التجريدية»، وكان ذاك الجيل في الواقع مجموعة فضفاضة من الفنانين الذين يستخدمون أنماطًا متعدّدة من أنماط التجريد. ربما كان القاسم المشترك بين هؤلاء الفنانين – على الأقل في السنوات الأولى – هو دعم جيل جديد من النقاد بقيادة كليمنت غرينبيرغ، الذي كان يعتقد أن التجريد هو التعبير الأسمى للفن الغربي. «الكبد هو مشط الديك» (1944) - أرشيل جوركي.«الكبد هو مشط الديك» (1944) – أرشيل جوركي. الحداثة ومصير الفنّ الغربي كان يُعتقد في بعض الأوساط الفكرية المؤثرة أنّ الفن يتقدم نحو هدف؛ وهذا المضمون يشتمل عليه مصطلح «الطليعية» (Avant-garde)، الذي يُوصف به الفنّانون الذين يبتكرون أرضية جمالية جديدة. أصل المصطلح فرنسي يُطلق على الجنود الذين يتقدمون إلى مناطق جديدة. بالنسبة إلى غرينبيرغ، لم يكن هؤلاء الفنّانون يوسّعون حدود إمكانات الفن؛ بل كانوا يتقدمون نحو الهدف الحقيقي والمفرد لكل شكل فني. يُعدّ غرينبيرغ شخصية مهمة في تاريخ الفن التجريدي، وذلك لأمرين: بوصفه مناصرًا رائدًا في مسألة تفوق الفن التجريدي على غيره من أنواع الرسم، وتأكيده للقوة التي امتلكها هذا الفن. كان ناقدًا في اللجنة الأمريكية للحريّة الثقافية التي تمولها الدولة، وهي مجموعة تم إنشاؤها لتعزيز الفن الأمريكي على المستوى الدولي. أصبحت أفكار غرينبيرغ مؤثرة عندما كانت الولايات المتحدة جزءًا من الحرب على الفاشية والنازية، وخلال الحرب الباردة اللاحقة ضد الشيوعية السوفيتية. كانت معايير الفن الفاشي والسوفياتي واضحة، وهي ما تحددها السلطات الثقافية أنها كذلك، بيد أنّه ما لم يكن واضحًا هو معايير الفن «الجيد» وتحديدًا في الغرب الديمقراطي. كان الماركسيون هم من تعاطف مع غرينبيرغ في البداية، لكن ارتبط تفكيره بشكلٍ متزايد بالهيمنة الثقافية الأمريكية. بالنسبة إليه، كان التجريد في أعمال بولوك فنًا مثاليًا لمجتمع ديمقراطي. تتجلى الحداثة في الفن، وفقًا لغرينبيرغ، في إطار التنوير الأوروبي؛ أيّ في فترة ازدهار الأفكار الفلسفية والعلمية التي أعطت الأولوية للعقل. في مقالته المؤثرة « الرسم الحداثي» (1961)، وصفَ غرينبيرغ إيمانويل كانط – الفيلسوف الألماني في عصر التنوير – بأنّه «أول حداثي حقيقي». كان أسلوب كانط في «النقد» هو استخدام العقل لنقد العقل بغرض توضيحه، ومنحه استقلالية عن أنواع التفكير الأخرى. «أولمبيا» - إدوارد مانيه (1863). بالنسبة إلى كليمنت غرينبيرغ، كان مانيه أول رسام حداثي. لقد رسم مانيه لوحاته بأسلوبٍ مسطّح بشكلٍ متعمد.«أولمبيا» – إدوارد مانيه (1863). بالنسبة إلى كليمنت غرينبيرغ، كان مانيه أول رسام حداثي. لقد رسم مانيه لوحاته بأسلوبٍ مسطّح بشكلٍ متعمد. بالطريقة نفسها، كان الرسامون الحداثيون – من إدوارد مانيه في القرن التاسع عشر إلى موريس لويس، وهو رسام يعمل ينتمي إلى رسامي أسلوب مجال ألوان في الولايات المتحدة في الوقت الذي كتب فيه غرينبيرغ مقالته – يعملون على ترسيخ الفن التعبيري «بشكل صارم في مجال تخصصه». رأى غرينبيرغ أن وضوح الفن التجريدي -الذي كان صادقًا بالنسبة إلى الوسيط الذي يُعبّر من خلاله- معارضٌ لـ«الفن الشعبي المبتذل [الكيتش]» الذي ينُتج على نطاق واسع في الثقافة الشعبية. إن إزالة «الكيتش» كانت مسألة استجلاء وتوضيح تحتاجها جميع الفنون لكي تصبح تعبيرًا عن إمكاناتها الجمالية الكامنة. اللوحات مسطّحة، وإيهام العمق الذي نجده في معظم الفن الغربي كان انحرافًا عن جوهر فن الرسم ذاته. كانت استقلالية الشكل الفني في جميع خصائصه دون أن تتلوث بأشكال فنية أخرى. وفقًا لغرينبيرغ، يعدّ الشكل واللون من أهم خصائص الرسم، و أفضل تمثيل لها يكون بشكلٍ مسطّح. وهكذا دافع غرينبيرغ عن «التسطيح» الذي تجلّى في لوحات الفنانين الأمريكيين التجريدية مثل جاكسون بولوك باعتباره تحقيقًا لهذا الوضوح الحداثي. لقد ضم هؤلاء الفنانين معًا ضمن فريق واحد، وهم يمثّلون المرحلة التالية في الحداثة، وقد حلّت رؤيتهم الأمريكية المميزة محلّ الفن الأوروبي الطليعي. وفي الوقت الذي أصبح فيه الفن التجريدي الأمريكي مهيمنًا، تراجعت هيمنة غرينبيرغ النقدية، وظهرت أشكال جديدة من الفن الطليعي، مستوحاة مباشرة من الثقافة الجماهيرية، وحلّت محلّ التعبيرية التجريدية في المخيال العام. تبنى فنانوّ «البوب» مثل: آندي وارهول، وريتشارد هاميلتون هذا النوع من «الفن الشعبي المبتذل» الذي رآه غرينبيرغ تلويثًا للفن الحقيقي. استمرت الأعمال الفنية التجريدية، ولكن تخلّى الفنّانون التجريديون الأكثر جرأة عن الفكرة الصارمة «للنقد الحداثي»، وعن الوضوح المتعلق بخصوصية الوسيط الفني، وذلك لصالح أشكال أخرى من التعبير. نظر فنانوّ «ما بعد الحداثة» إلى السخرية وعملية الرسم نفسها، كطرق لتجاوز الطريق المسدود للحداثة. تبنى الألماني غيرهارد ريختر كلا النهجين؛ فبعض أعماله التجريدية في الستينيات كانت مصنوعة بممسحاتٍ بدلًا من الفرشاة، حتى يتمكن من لفت الانتباه إلى عملية صنع اللوحة نفسها. كانت «اللوحات التجريدية» البارزة الأخرى التي رسمها ريختر في الواقع صورًا واقعية مرسومة بعناية تعكس لوحاته التجريدية الأخرى. أصبحت طلائعية الرسم التجريدي مفهومية أكثر، ما جعل ضمنيًّا قضية الرسم تحظى باستقلالية أقل مما كان كان يعتقد النقاد الحداثيون. قلّد فنانوّ «نيو جيو»، مثل: الرسام بيتر هالي، والنحات أشلي بيكرتون اللغة البصرية للتجريد الهندسي، لكنهما دمجاها مع السلع الاستهلاكية بألوانٍ تجارية فاتحة وأحيانًا فلورية. منذ ذلك الجيل ما بعد الحداثي من الرسامين والنحاتين الممتد من الستينيات إلى التسعينيات، ازدهر التجريد متفرّعًا إلى عددٍ لا يُحصى من الأساليب والمقاربات بجوار الفن التشخيصي. هنا يمكن القول إنّ التجريد المتحرّر من عبء التوقعات الحداثية هو ببساطة نهج للتعبير مثل أيّ نهج آخر. وتجدر الإشارة إلى أنّ بعض الفنانين التجريديين استخدموا الحيل البصرية المستعملة في الفن التشخيصي – مثل المنظور والتظليل – في لوحاتهم. ولاستخدامهم هذا أهداف فريدة و غالبًا لا تهتم بالنظرية. قلّد فنانوّ «ما بعد الحداثة» مثل: بيتر هالي اللغة البصرية المستعملة في الفن التجريدي الحديث (في حالة بيتر، التجريد الهندسي)، للتعليق على طبيعة الفن والمعنى نفسه. تمثّل هذه الكتل الملونة «الخلايا» و«الأنابيب».قلّد فنانوّ «ما بعد الحداثة» مثل: بيتر هالي اللغة البصرية المستعملة في الفن التجريدي الحديث (في حالة بيتر، التجريد الهندسي)، للتعليق على طبيعة الفن والمعنى نفسه. تمثّل هذه الكتل الملونة «الخلايا» و«الأنابيب». هذا هو التحرّر نحو الأفضل بين الرسامين التجريديين الذين يمكنهم الالتزام برؤيةٍ فريدة بالرسم على القماش. لكن فكّ ارتباط الفن التجريدي عن إطاره الفلسفي الأوسع أدى أيضًا إلى انتشارٍ يثير التساؤل لأعمال تجريدية متنوعة قابلة للاستهلاك – بمعنى أنّها فقدت قيمتها، وباتت تُباع وتُشترى سريعًا بأسعارٍ مربحة – يشتريها المشترون المتضاربون. دفع هذا التحول الناقد جيري سالتز إلى كتابة: « الزومبي على الجدران: لماذا يبدو الكثير من التجريد الجديد متشابهًا؟». وقد شبه اللّوحات التجريدية بصورة «الزومبي»، تحقيرًا لأعمال عددٍ من الرسامين التجريديين البارزين، الذين استخدموا الفنّ وجماليته لتقديم أعمال مبتذلة. ومن المفارقات أن هؤلاء الفنانين نظروا إلى الشكلانية بوصفها فنًّا حداثيًّا متبنّين منظور غرينبيرغ، لكنهم بالطبع قدّموا أعمالًا في ظلّ فراغ تاريخي وبعد فترةٍ طويلة حين لم يُصبح التجريد مثيرًا للاهتمام أو راديكاليًا بأي وجه من الوجوه. في الواقع، لم يصل مشروع الحداثة  في الفن التجريدي إلى نهايته، بل النقد. إنّ النقد -أيّ الإطار الفلسفي الواسع الذي يصادق على الأعمال الفنية ويثمّنها لأهميتها الثقافية والتاريخية- هو ما فقد التوجه والسلطة. كان مسار الفن الغربي منذ عصر التنوير يتأرجح بين قطبي الدوغمائية النقدية والإبداع. تكمن المشكلة أنه في العقود الأخيرة، وفي ظلّ غياب أي مشروع نقدي متماسك، انجرف الفن نحو إرضاء اهتمامات دقيقة ومتنوعة تزداد باستمرار. في حين كانت هناك «حركات» و«مدارس» فنية -مصطلحان يشيران إلى الوجهة والانضباط- لم يعد لدينا الآن سوى «مشاهد». هذا ليس بالضرورة أمرًا سيئًا. ولكن في عالم حيث «كل شيء مقبول – anything goes»، لا يوجد مجال لهذا النوع من الابتكار والتجاوز الذي أدى إلى ظهور الفن التجريدي في الغرب، وهذا ما جعل الفن الحديث فنًّا مثيرًا للغاية. من الصعب في هذه اللحظة التاريخية أن ندرك ما الذي جعل لوحة بولوك «رقم 32» مثيرة للانقسام، ومخلخلةً جدًا للمعايير، وفي الوقت نفسه محتفظةً بقيمةٍ عالية جدًا لأولئك الذين يعتقدون أن للفنِّ مكانًا في المجتمع يتجاوز المتعة. [divider style=”solid” top=”20″ bottom=”20″] [1] واللقب كذلك يُلمح إلى القاتل المتسلسل في لندن آخر القرن التاسع عشر: جاك السفّاح Jack the ripper (مدير التحرير). ### خارج عقلك | توم تشاتفيلد – ت: محمد السعيد                  عندما يكون هاتفي النقال بين يديّ، هل أكون أنا الشخص نفسه لو كان الهاتف في غرفة أخرى؟ من ناحية،... ### الدراما في التعليم: مقاربات وتطبيقات | نعيم حيماد افتتاحيّة حظي استخدام الدراما في التعليمفي السنوات الأخيرة باهتمام كبير من قبل نخبة من المنظرين والممارسين للدراما في مجال التعليم.... ### الحقائق المخفية | دي بي سي بيير – ت: محمد السعيد       يحمل جبل كلسي خشن في غرب إيران عددًا من النقوش البارزة، من بينها لوحة طولها خمسة وعشرين مترًا منقوشة... ### التغلُّب على كاشف الكذب | كلاريسا سيباغ-مونتِنفيوري – ت: محمد السعيد          حين  اتُّهِمَتْ مربية الأطفال البريطانية لويز وودورد بهزِّ رضيع حتى الموت في مدينة نيوتن بولاية ماساتشوستس، لم تكتفِ بإعلان... ### عن منصة معنى «معنى»، مؤسسة ثقافية تقدّمية ودار نشر تهتم بالفلسفة والمعرفة والفنون، عبر مجموعة متنوعة من المواد المقروءة والمسموعة والمرئية. انطلقت في 20 مارس 2019، بهدف إثراء المحتوى العربي، ورفع ذائقة ووعي المتلقّي المحلي والدولي، عبر الإنتاج الأصيل للمنصة والترجمة ونقل المعارف. ### روابط سريعة ### التصنيفات ### مرحبا بك! قم بتسجيل الدخول إلى حسابك تذكرني ### قم بإنشاء حساب جديد! املأ النموذج أدناه للتسجيل ### طلب إعادة تعيين كلمة المرور يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان البريد الإلكتروني لإعادة تعيين كلمة المرور الخاصة بك. ### Add New Playlist - Select Visibility -PublicPrivate No Result عرض جميع النتائج - 00:00 00:00 - 00:00 00:00
article
Arabic
ar
الفنّ التجريدي: بين الماضي والحاضر - منصة معنى الثقافية
https://mana.net/abstract-art/
1,865
تختلف معايير النجاح أو الفشل لهذه الأعمال عن الخصائص التقليدية للرسم والنحت.
sentence
تختلف معايير النجاح أو الفشل لهذه الأعمال عن الخصائص التقليدية للرسم والنحت. رأى جود أنّ خصائص الرسم والنحت تقف في طريق ما أراد تحقيقه من خلال اللون والشكل. في رأيه، كان لـ «أجسامه المحددة» تأثيرًا أحدّ من غيرها.
paragraph
Arabic
ar
الفنّ التجريدي: بين الماضي والحاضر - منصة معنى الثقافية
https://mana.net/abstract-art/
1,866
رأى جود أنّ خصائص الرسم والنحت تقف في طريق ما أراد تحقيقه من خلال اللون والشكل.
sentence
تختلف معايير النجاح أو الفشل لهذه الأعمال عن الخصائص التقليدية للرسم والنحت. رأى جود أنّ خصائص الرسم والنحت تقف في طريق ما أراد تحقيقه من خلال اللون والشكل. في رأيه، كان لـ «أجسامه المحددة» تأثيرًا أحدّ من غيرها.
paragraph
Arabic
ar
الفنّ التجريدي: بين الماضي والحاضر - منصة معنى الثقافية
https://mana.net/abstract-art/
1,867
في رأيه، كان لـ «أجسامه المحددة» تأثيرًا أحدّ من غيرها.
sentence
تختلف معايير النجاح أو الفشل لهذه الأعمال عن الخصائص التقليدية للرسم والنحت. رأى جود أنّ خصائص الرسم والنحت تقف في طريق ما أراد تحقيقه من خلال اللون والشكل. في رأيه، كان لـ «أجسامه المحددة» تأثيرًا أحدّ من غيرها.
paragraph
Arabic
ar
الفنّ التجريدي: بين الماضي والحاضر - منصة معنى الثقافية
https://mana.net/abstract-art/
1,868
الرسم نفسه له ثلاثة أنواع عامة من التجريد؛ أولًا، ثمّة أسلوب تعبيري تُرسم فيه الأشكال بحركاتٍ غير مقيدة؛ ثم هناك التجريد الهندسي حيث يتم هيكلة الأشكال؛ أما النوع الثالث، فهو تجريد مجال اللون حيث يتم عرض مساحات من الألوان بطريقةٍ لا شكل واضح لها.
paragraph
لا توجد منتجات في سلة المشتريات. No Result عرض جميع النتائج الثلاثاء, سبتمبر 10, 2024 No Result عرض جميع النتائج No Result عرض جميع النتائج # الفنّ التجريدي: بين الماضي والحاضر ## ترجمة: أنطونيوس نادر AA AA إعادة تعيين فنٌ مليء بالتحديات ثمّة خطٌ رفيع يفصل بين الفن التجريدي ومجرد الزخرفة، ولوحة «رقم 32» (نُشرت عام 1950)، لجاكسون بولوك تتأرجح بين هذا الخطّ. فهي لا تشير إلى معنىً واضح، ولكن لا يمكن القول إنّها بلا معنى على الإطلاق. كما أنّها ليست معبّرة بشكلٍ مباشر، ولا يعني هذا أنها لا تعبّر عن مدلولٍ ما. تحمل هذه اللوحة الكثير من المضامين عن الفن الغربي بالنسبة إلى شخصٍ خبيرٍ في تاريخ الفن؛ أما بالنسبة إلى شخصٍ عادي، فقد يراها عملًا مبتذلًا بالكاد يعبّر عن أمرٍ ما. اللوحة شبكة من الخطوط وبقعٍ من الألوان، رُسمت عن طريق صبّ طلاءٍ رخيص بعشوائيةٍ مباشرة على القماش. تتكون اللوحة من طلاءٍ أسود فقط وقماشٍ خام. واللوحة ضخمة؛ إذ يبلغ طولها تسعة أقدام وعرضها خمسة عشر قدمًا، وتغطي مجال رؤية المشاهد أثناء اقترابه منها. تقليديًّا، حتى اللوحات التجريدية تتكون من أجزاءٍ مترابطة مع بؤر تركيز (emphases) وعمقٍ يُنقل من خلال اللون والظلال، ولكن «رقم 32» ليس لها أجزاء؛ إنّها تتكون من تعالقات، والبؤرة فيها تكمن عبر امتداد سطح القماش المستطيل. يمنحها ما سبق عمقًا سطحيًا، وربما لا عمق فيها: مجرّد طلاء على قماش. إنّها عبث بالشكل واللون. حتى اسمها، ببساطة رقمٌ معيّن – رقم 32 – يجعلها تنأى بنفسها عن أي فكرة مفادها أنها تعكس مدلولًا محدّدًا. تشير عناوين أعمال بولوك الأخرى إلى نوعٍ من الاختبار الشخصي، وإلى الاستخدام السمفوني المتعدد الطبقات للون والملمس؛ خذ مثلًا لوحاته التي تحمل اسم: «إيقاع الخريف»، و«الضباب الأرجواني»، و«الأقطاب الزرقاء»، و«انعكاس الدنقلة الكبير». هذا لا ينطبق على لوحة «رقم 32»؛ شكلها الخام وبساطتها دليل على أنّ الفنان لم يخطط مسبقًا لرسمها؛ أيّ أنّه لم ينتق الألوان ولا الطبقات. يبدو بولوك هنا أكثر حضورًا، من خلال لمساته الحادة. بالنسبة إلى مؤيديّ عمل بولوك، تختصر هذه اللوحة خلاصة نظرة الفنان الجمالية. أما بالنسبة للبعض الآخر، فهي لوحة مبتذلة. وصف جوزيف بويس -النحات الألماني في فترة ما بعد الحرب- الفنَّ التجريدي الأمريكي بأنه مجرد «تغليف»، أيّ سطح بلا محتوى. في هذا الصدد، قد يتفق البعض أن لوحة «رقم 32» تجسد فراغ الفكر والشعور ذاك. فقد رأى الروائي والناقد الفني روبرت كوتس أن فن بولوك لم يكن سوى «انفجارات» غير منظمة من الطاقة العشوائية. غير أنّ طائفة كبيرة من متذوقي الفن التجريدي لا تروق إليهم أعمال بولوك ويرونها فنًّا محيرًا، حتى إنّ بعضهم يراها إهانةً للذوق أو الحسّ السليم. عُرف بولوك بلقب: «جاك فنان النقط» (Jack the Dripper) [1] في الأوساط الإعلامية المشككة بعمله حيث ادعى كثر أن أيّ شخص يمكنه أن يرسم كما يرسم بولوك إلّا أنّ أحدًا لم يتجرأ على فعل ذلك. «رقم 32» - جاكسون بولوك«رقم 32» – جاكسون بولوك بيد أنّ هذا هو مغزى الفن التجريدي في التقليد الغربي: إنّه تحدّ. وفي ظل الكثير هذه التحديات، تُعد لوحة « رقم 32» اللوحة الأكثر تمثيلًا لهذا الفن. قصة الفنّ التجريدي مسار قصة الفن التجريدي مضمّنة في الدراسات التاريخية الفنية، إلّا أنّ المحطات الرئيسة لهذا المسار كانت محط تغييرات مفاجئة كلما اكتشف مؤرخوّ الفن حقائق جديدة. انطلق مسار الفن التجريدي بدءًا من القرن التاسع عشر وما تلاه؛ حيث استفاد الفنانون من مادة الطلاء والجوانب الشكلية للرسم مثل اللون والدرجة والخطوط. يُعرف هذا الانشغال بالجوانب غير التمثيلية (non-representative) للفن باسم «الشكلانية»، لأنّه انشغال «بالشكل»، أيّ بتوسل شكل المحتوى بدلًا من المحتوى في ذاته. بالنسبة إلى الفنانين في القرن التاسع عشر، صُنّف الفن التجريدي على أنّه «فنٌّ من أجل الفنّ»، وكانت الفكرة الشائعة مفادها أنّ المتذوق للفن يمكنه الاستمتاع بالعمل دون اللجوء إلى معنى أو حتى أي شيء آخر يمثل أمرًا ما. تمثّل لوحة «الموسيقى الهادئة باللّونين الأسود والذهبي – الصاروخ الساقط» (1872)، للفنان جيمس مكنيل ويسلر هذا الاتجاه الذي تبلور لاحقًا في الفن التجريدي.  إنّ مشهد ويسلر الغامض من الناحية المكانيّة يقترب إلى التجريد، وذلك بمحاولته نقل الشعور أو الانطباع الخاص بالمشهد بدلًا من إعادة إنتاجه بحذافيره. «الموسيقى الهادئة باللونين الأسود والذهبي - الصاروخ الساقط» (1872-1877) - جيمس أبوت مكنيل ويسلير«الموسيقى الهادئة باللونين الأسود والذهبي – الصاروخ الساقط» (1872-1877) – جيمس أبوت مكنيل ويسلير في عام 1877، انتقد جون روسكين – أبرز نقّاد بريطانيا في ذلك الوقت – عمل ويسلير هذا نقدًا لاذعًا فشبهه «بمن قام برمي الطلاء في وجه الجمهور». تأثر ويسلر بهذا الكلام، فرفع دعوى قضائية ضد روسكين، بيد أنّه خسرها لأن المسؤولين عرضوا اللوحة -خطأً- مقلوبةً على المحكمة. أفلس ويسلير بسبب هذه القضية، لكن مسيرة تطور الفن التجريدي استمرت. من ناحيةٍ أخرى، تحديد أول فنان تجريدي في العالم موضوع نزاع. في نظر أبحاث تاريخ الفن التقليدية، كان فاسيلي كاندينسكي – فنان روسي الجنسية رسم لوحات تجريدية بالكامل في مطلع عام 1911- هو أول فنان تجريدي. لم ينل الفن التجريدي الرائد لهيلما أف كلينت تقديرًا إلا قبل سنوات قريبة. هذه صورة للمعرض الشهير في  متحف غاغينهايم، عام 2018 .لم ينل الفن التجريدي الرائد لهيلما أف كلينت تقديرًا إلا قبل سنوات قريبة. هذه صورة للمعرض الشهير في  متحف غاغينهايم، عام 2018 . ولكن في الآونة الأخيرة، وبفضل المعرض الرائد في متحف مقاطعة لوس أنجلوس للفنون في عام 1986 الذي حمل اسم «الروحانية في الفن: الرسم التجريدي 1890 – 1985»، وقع الاختيار على هيلما أف كلينت كأول رسامة تجريدية. بدأت كلينت في رسم لوحات تجريدية بدءًا من عام 1906، وحملت مجموعتها عنوان «الفوضى البدائية». كانت الفنانة متكتمة في ما يتعلق بأعمالها التجريدية، ولم تُعرض أيّ منها في معارض عامة، وبقيت غير معروفة حتى أزيح عنها الستار مؤخرًا. ولعل الجدال حول هوية أول من مارس الفن التجريدي سيستم، لكن الحقيقة الأكثر أهمية هي أن العديد من الفنانين الأوروبيين البارزين قد توصّلوا في أعمالهم إلى التجريد بحلول الحرب العالمية الأولى. لقد وجد كل منهم طريقته الخاصة في التخلي عن الفن التشخيصي (figurative painting). وجديرٌ بالذكر أنّه لم تكن هناك حركة «تجريدية» دولية ذات رؤية أو بيان مشترك. في ضوء ذلك، فإن السؤال الملحّ حقًا هو: لمَ لمْ يتبنى الفنانون الغربيون الفن التجريدي على امتداد قرون عديدة؟ لماذا كان التجريد غير ضروري أو لا معنى له أو غير مناسب أو حتى لا يمكن تقبّله لقرونٍ متوالية في الفن الغربي؟ ظهرت العديد من التفسيرات لشرح ذلك. إحدى النظريات الأكثر وضوحًا هي أن ظهور التصوير الفوتوغرافي بوصفه شكلًا من أشكال الفن، إضافةً إلى تطور الفن الحديث، سببان رئيسان لإزاحة الرسم التشخيصي. ثمّة إجابات أخرى غير ملموسة لاستكشاف الأسباب: ربما عندما أصبحت الأعمال الفنية قابلة للاستهالاك بشكل متزايد، مثل السلع، بات من السهولة فصل اللوحات والمنحوتات عن التجارب المحددة لمبدعيها. ربما أدت الحداثة في الغرب إلى إفراغ الفن من المحتوى التشخيصي؛ مما دفع الفنانين أيضًا إلى التخلي عن التمثيل التشخيصي. كل من هذه الإجابات معقدة وتتطلب الكثير من الشرح، ولا يمكن إلا أن تكون تخمينات. لا توجد إجابة واضحة لهذه المسألة. ربما يكون من الأفضل طرح السؤال حول سبب تقبّل الفن التجريدي فنًّا من الفنون الرسمية في تاريخ الفن الغربي في مرحلة معينة على علماء الأنثروبولوجيا بدلًا من طرحها على مؤرخي الفن. فما هو واضح أن الفن التجريدي كان موجودًا دائمًا في مناطق أخرى من العالم. ما جعل الفن التجريدي فنًّا حديثًا على وجه التحديد في العالم الغربي هو نظام المعارض، الذي أعطى القيمة الفنية للأعمال المعروضة. وكما هو واضح فقد ازدهر التجريد لآلاف السنين المناطق الشرقية والجنوبية من العالم، دون عناء التحقق من مكانة الأعمال المعروضة في الصالونات [والمعارض، كما هو في العالم الغربي]. الواقع الافتراضي و«الافتراضية» يتبنى بيبي كرمل وهو مؤرخ فني، في كتابه « الفن التجريدي: تاريخ عالمي»، فكرة أنّ الفن التجريدي كان دائمًا موجودًا بشكل طبيعي عندما ننظر إليه نظرة شاملة وعالمية، بيد أنّه يتحاشى طرح نظرية عن تطور الفن التجريدي. بالنسبة إلى كرمل، فإنّ هذا الفنّ متجذر في العالم الحقيقي، وهو ليس فنًّا «مجردًا» على الإطلاق، كما أنّه تقليد عالمي وليس محليًا. في دراسته حول الفن التجريدي يقسم العمل الفني إلى خمس فئات واسعة تنتمي إلى العالم الحقيقي: الأجسام، والمناظر الطبيعية، والكون، والبنى، والعلامات والأنماط. من خلال فحص الفن التجريدي بهذه الطريقة، يرى كرمل في اللوحات التجريدية موضوعات قابلة للتحليل، بعكس النقاد والمؤرخين الأرثوذكسيين الذين رأوا فيها مجرّد توليفات شكلية مكوّنة من لون وشكل. ربما يكون من الأفضل أن يطلق على الفن التجريدي: فن ما تم تجريده (abstracted art)؛ لأنّ الفنانين التجريديين عادةً ما يستخلصون ويجرّدون تعبيرات التجارب في شكل ولون،  أكثر من كونها توليفات مكونة من شكل ولون. ومرّد ذلك الطبيعة الجوهرية للرسم والنحت؛ فهما (الشكل اللّون) وسيطان للتعبير، مثل الشاشة أو المسرح لخيال الفنان. كما هو الحال في المسرح أو السينما، فإنّ جمهور اللوحة أو المنحوتة يعلّق معتقداته من أجل أن يتقبل المشهد. من المفيد التفكير في اللوحة التشخيصية التقليدية أو النحت على أنها حقيقة افتراضية. إذْ استخدم الفنانون لقرون عديدة الحيل البصرية -مثل المنظور الخطي، والتقصير المسبق، والتظليل- لمحاكاة الطريقة التي ندرك بها الأشياء في الفضاء الحقيقي. إنّ المشاهد تُنشأ في فضاء افتراضي – سواء كانت القاعدة التي تدعم التمثال أو القماش – ليراها المشاهدون بوصفها خدعة بصرية. «القديس بطرس شفاء أحد الأشخاص وبعث تابيثا من الموت» ماسولينو دي بانيكال. اعتمد الرسم الغربي قبل القرن العشرين على الحيل البصرية لخلق واقع افتراضي. إحدى هذه الحيل هي المنظور الخطي، وهذه اللوحة هي أول مثال لاستخدام نقطة تلاشٍ متسقة.«القديس بطرس شفاء أحد الأشخاص وبعث تابيثا من الموت» ماسولينو دي بانيكال. اعتمد الرسم الغربي قبل القرن العشرين على الحيل البصرية لخلق واقع افتراضي. إحدى هذه الحيل هي المنظور الخطي، وهذه اللوحة هي أول مثال لاستخدام نقطة تلاشٍ متسقة. يستمتع مشاهدوّ الأعمال الفنية العظيمة معنى ما يُرسم، ويقدرون الطريقة التي يتجلّى فيها الوهم عبر تمازج اللون والشكل. يبقى الفن التجريدي، إلى حدٍ ما، ضمن إطار التجربة الجمالية. فقد سعت حركات الفن الحديث التي أدت إلى التجريد -أيّ «مدارس الفن»، مثل الانطباعية والفاوفية والتكعيبية- إلى تمثيل العالم بشكل مختلف عن كل الفنون التي سبقتها. إذْ ادعوا الاقتراب من الحقيقة الذاتية عبر تهميش جميع الحيل الوهمية التقليدية التي حاولت إعادة إنتاج الواقع بحذافيره كحقيقة موضوعية. «الأحمر والأصفر والأزرق» (1925) واسيلي كاندينسكي.  كان كاندينسكي يعدّ لفترةٍ طويلة أب الرسم التجريدي الغربي.«الأحمر والأصفر والأزرق» (1925) واسيلي كاندينسكي.  كان كاندينسكي يعدّ لفترةٍ طويلة أب الرسم التجريدي الغربي. بالنسبة إلى هذه المدارس، أصبح الفن أقل من أن يوصف بأنّه واقع افتراضي، لكنه مع ذلك احتفظ بالافتراضية، وأصبح افتراضيًا. لقد أخذ الفن التجريدي مسار التطور هذا إلى أقصاه: من الواقع الافتراضي إلى الافتراضية. ماذا تعني «الافتراضية» هنا؟ إنّها الوجود كجوهر وتأثير، ولكن بدون اللجوء إلى الواقع. اللوحة التجريدية التي رسمها كاندينسكي، على سبيل المثال، ما زالت تُعدّ علاقة متبادلة بين الشكل واللون، و تعتمد على الرسم كمستوى تخطيطي: إنها نافذة تطلّ على «الواقع» الفردي الذي تصوّره كاندينسكي. وما تزال العناصر في لوحات كاندينسكي تحظى بعلاقة متبادلة، كما هو الحال في فضاء الواقع الافتراضي للوحة التشخيصية؛ فجوهر الرسم سليم إذ إنّ ذلك الفضاء الافتراضي ما زال موجودًا. عندما يكون الفن التجريدي بناءً خالصًا، ويتخلص من المساحة الافتراضية الملازمة للرسم والنحت، يصبح متميزًا عنهما. وصف دونالد جود الفنان التخفيفي (minimalist) مثل هذه الأعمال الفنية بأنها «أجسام محدّدة» (Specific Objects). إنّه مصطلح غير دقيق، ولكنه يصلح لإظهار أن مثل هذه الأعمال الفنية ليست رسمًا ولا نحتًا، ولكنها فئة أخرى تمامًا. رأى دونالد جود أن أعماله وأعمال العديد من معاصريه تشغل مساحة هجينة، لا هي لوحات ولا هي نحت. عمل دون عنوان لدونالد جود. استخدم جود هذا المصطلح لوصف أعماله الخاصة، ولكنه ينطبق على لوحات كازيمير ماليفيتش وفرانك ستيلا أحادية اللون، والتي تجعل اللوحة تندمج مع نفسها بالكامل، من أجل الوصول للتأثير الذي يأمل العمل في تحقيقه. في مثل هذه الأعمال، لم يعد قماش اللّوحة (أو القاعدة) سطحًا تتفاعل فيه الأشكال والألوان في الفضاء الافتراضي. بدلاً من ذلك، تتفاعل الأشكال والألوان في الفضاء الحقيقي، في فضائنا. تختلف معايير النجاح أو الفشل لهذه الأعمال عن الخصائص التقليدية للرسم والنحت. رأى جود أنّ خصائص الرسم والنحت تقف في طريق ما أراد تحقيقه من خلال اللون والشكل. في رأيه، كان لـ «أجسامه المحددة» تأثيرًا أحدّ من غيرها. الواقع والأشكال الجديدة للإدراك الحسّي الرسم نفسه له ثلاثة أنواع عامة من التجريد؛ أولًا، ثمّة أسلوب تعبيري تُرسم فيه الأشكال بحركاتٍ غير مقيدة؛ ثم هناك التجريد الهندسي حيث يتم هيكلة الأشكال؛ أما النوع الثالث، فهو تجريد مجال اللون حيث يتم عرض مساحات من الألوان بطريقةٍ لا شكل واضح لها. لم تكن هذه «الأنماط» (styles) أنماطًا عرضيةً أو تعتمد على ذوق أو ميل الرسام كوسيلة لتحقيق هدفٍ ما من البحث الفني. وخير مثال على ذلك هو الفنان الذي غالبًا ما ينظر إلى عمله على أنّه ذروة التجريد الهندسي: بيت موندريان. إنّ لوحات بيت موندريان المكونة من شبكات (grids) ذات الخطوط السوداء والأجزاء الملونة على خلفية بيضاء؛ تهدف إلى استحضار «حقيقة أعلى». بالنسبة إلى موندريان، كان الفن في جوهره معارضًا للواقع؛ «لأن الواقع يتعارض مع الروحي». بغض النظر عن هذه اللوحة الأشهر لموندريان، فإنّ جوانب الرسم التي تهم هذا الفنان حقًا لم تكن الجوانب المحددة للموضوع -أيّ ماذا أو ما يتم تصويره في اللوحة مثلًا- بل الجوانب القابلة للفهم عالميًا للشكل والخط واللون. إنّ لوحات موندريان، مثلها مثل لوحات الفنانين الآخرين، هي محاولة لاستخلاص الشكل واللون من أجل الاقتراب من ذلك الجوهر العالمي والروحي للفن. عبّر موندريان عن رغبته في الوصول إلى «أساس» الأشياء من خلال الحدس، كالعديد من الفنانين التجريديين الآخرين في النصف الأول من القرن العشرين الذين رغبوا في الوصول إلى قوى غير مرئية حولنا، ولكنها معروفة أو محدوسة. «التكوين الثاني باللون الأحمر والأزرق والأصفر» (1930) - بيت موندريان«التكوين الثاني باللون الأحمر والأزرق والأصفر» (1930) – بيت موندريان في أواخر القرن التاسع عشر، لاحظ العلماء بشكلٍ أفضل مما سبق القوى غير المرئية مع انتشار التقنيات الجديدة، وأصبح من الواضح أن العالم أرحب مما يبدو للعين. في الوقت نفسه، ظهرت حركات روحية بديلة جمعت بين الأفكار الأفلاطونية والتصوف. كان كلينت وموندريان من بين العديد من الفنانين الذين انغمسوا في أشكال الروحانية خارج العوالم التقليدية للدين. اعتقدت كلينت أن لوحاتها هي وحي عالم روحي، وأن مهمتها كانت العمل «على مستوى روحاني» لتمثيل روح الإنسان، بدلًا من صورته الفانية. بحلول عشرينيات القرن الماضي، كانت نظرية فرويد عن للعقل البشري قد تغلغلت أيضًا في عالم الفن.  كذلك السريالية، وهي حركة منظمة بإحكام بدأت مع بعض الفنانين الذين سعوا إلى التنقيب عن الإمكانات الإبداعية للعقل الباطن، وهي الحركة الثقافية التي كانت سائدة في أوروبا بين الحربين العالميتين. لم تكن السريالية دوغمائية في محاولتها لاستكشاف اللاوعي، ولذلك ظهر عدد من الأساليب والطرق لمحاولة إخراج اللاوعي إلى السطح. إحدى هذه الأساليب كان الرسم الآلي (Automatism)، وهي عملية يتخلى فيها الفنان عن السيطرة الواعية لليد التي ترسم  أو تصور. في هذا المجال، تبنى الفنانون مثل أندريه ماسون وخوان ميرو الفرصة لبناء صورهم باستخدام حركات حرّة، وحتى إلقاء الطلاء على القماش. طور أرشيل غوركي -هو مهاجر أرمني عاش في الولايات المتحدة- أسلوبًا في الرسم يدمج بين الرسم الآلي وتجريد مجال الألوان. لوحاته في الأربعينيات حجمُها ضخم – ومرد ذلك تأثره بأعماله السابقة كفنان جداري مُعيّن من الدولة خلال السنوات الأخيرة من الكساد الكبير – لكنها معبّرة وغنائية في الرسم بالفرشاة. ألهم إدماج غوركي للأنماط جيلًا واسعًا من الفنانين الأمريكيين في فترة ما بعد الحرب لاحتضان التجريد الواسع النطاق. ما نسميه الآن «التعبيرية التجريدية»، وكان ذاك الجيل في الواقع مجموعة فضفاضة من الفنانين الذين يستخدمون أنماطًا متعدّدة من أنماط التجريد. ربما كان القاسم المشترك بين هؤلاء الفنانين – على الأقل في السنوات الأولى – هو دعم جيل جديد من النقاد بقيادة كليمنت غرينبيرغ، الذي كان يعتقد أن التجريد هو التعبير الأسمى للفن الغربي. «الكبد هو مشط الديك» (1944) - أرشيل جوركي.«الكبد هو مشط الديك» (1944) – أرشيل جوركي. الحداثة ومصير الفنّ الغربي كان يُعتقد في بعض الأوساط الفكرية المؤثرة أنّ الفن يتقدم نحو هدف؛ وهذا المضمون يشتمل عليه مصطلح «الطليعية» (Avant-garde)، الذي يُوصف به الفنّانون الذين يبتكرون أرضية جمالية جديدة. أصل المصطلح فرنسي يُطلق على الجنود الذين يتقدمون إلى مناطق جديدة. بالنسبة إلى غرينبيرغ، لم يكن هؤلاء الفنّانون يوسّعون حدود إمكانات الفن؛ بل كانوا يتقدمون نحو الهدف الحقيقي والمفرد لكل شكل فني. يُعدّ غرينبيرغ شخصية مهمة في تاريخ الفن التجريدي، وذلك لأمرين: بوصفه مناصرًا رائدًا في مسألة تفوق الفن التجريدي على غيره من أنواع الرسم، وتأكيده للقوة التي امتلكها هذا الفن. كان ناقدًا في اللجنة الأمريكية للحريّة الثقافية التي تمولها الدولة، وهي مجموعة تم إنشاؤها لتعزيز الفن الأمريكي على المستوى الدولي. أصبحت أفكار غرينبيرغ مؤثرة عندما كانت الولايات المتحدة جزءًا من الحرب على الفاشية والنازية، وخلال الحرب الباردة اللاحقة ضد الشيوعية السوفيتية. كانت معايير الفن الفاشي والسوفياتي واضحة، وهي ما تحددها السلطات الثقافية أنها كذلك، بيد أنّه ما لم يكن واضحًا هو معايير الفن «الجيد» وتحديدًا في الغرب الديمقراطي. كان الماركسيون هم من تعاطف مع غرينبيرغ في البداية، لكن ارتبط تفكيره بشكلٍ متزايد بالهيمنة الثقافية الأمريكية. بالنسبة إليه، كان التجريد في أعمال بولوك فنًا مثاليًا لمجتمع ديمقراطي. تتجلى الحداثة في الفن، وفقًا لغرينبيرغ، في إطار التنوير الأوروبي؛ أيّ في فترة ازدهار الأفكار الفلسفية والعلمية التي أعطت الأولوية للعقل. في مقالته المؤثرة « الرسم الحداثي» (1961)، وصفَ غرينبيرغ إيمانويل كانط – الفيلسوف الألماني في عصر التنوير – بأنّه «أول حداثي حقيقي». كان أسلوب كانط في «النقد» هو استخدام العقل لنقد العقل بغرض توضيحه، ومنحه استقلالية عن أنواع التفكير الأخرى. «أولمبيا» - إدوارد مانيه (1863). بالنسبة إلى كليمنت غرينبيرغ، كان مانيه أول رسام حداثي. لقد رسم مانيه لوحاته بأسلوبٍ مسطّح بشكلٍ متعمد.«أولمبيا» – إدوارد مانيه (1863). بالنسبة إلى كليمنت غرينبيرغ، كان مانيه أول رسام حداثي. لقد رسم مانيه لوحاته بأسلوبٍ مسطّح بشكلٍ متعمد. بالطريقة نفسها، كان الرسامون الحداثيون – من إدوارد مانيه في القرن التاسع عشر إلى موريس لويس، وهو رسام يعمل ينتمي إلى رسامي أسلوب مجال ألوان في الولايات المتحدة في الوقت الذي كتب فيه غرينبيرغ مقالته – يعملون على ترسيخ الفن التعبيري «بشكل صارم في مجال تخصصه». رأى غرينبيرغ أن وضوح الفن التجريدي -الذي كان صادقًا بالنسبة إلى الوسيط الذي يُعبّر من خلاله- معارضٌ لـ«الفن الشعبي المبتذل [الكيتش]» الذي ينُتج على نطاق واسع في الثقافة الشعبية. إن إزالة «الكيتش» كانت مسألة استجلاء وتوضيح تحتاجها جميع الفنون لكي تصبح تعبيرًا عن إمكاناتها الجمالية الكامنة. اللوحات مسطّحة، وإيهام العمق الذي نجده في معظم الفن الغربي كان انحرافًا عن جوهر فن الرسم ذاته. كانت استقلالية الشكل الفني في جميع خصائصه دون أن تتلوث بأشكال فنية أخرى. وفقًا لغرينبيرغ، يعدّ الشكل واللون من أهم خصائص الرسم، و أفضل تمثيل لها يكون بشكلٍ مسطّح. وهكذا دافع غرينبيرغ عن «التسطيح» الذي تجلّى في لوحات الفنانين الأمريكيين التجريدية مثل جاكسون بولوك باعتباره تحقيقًا لهذا الوضوح الحداثي. لقد ضم هؤلاء الفنانين معًا ضمن فريق واحد، وهم يمثّلون المرحلة التالية في الحداثة، وقد حلّت رؤيتهم الأمريكية المميزة محلّ الفن الأوروبي الطليعي. وفي الوقت الذي أصبح فيه الفن التجريدي الأمريكي مهيمنًا، تراجعت هيمنة غرينبيرغ النقدية، وظهرت أشكال جديدة من الفن الطليعي، مستوحاة مباشرة من الثقافة الجماهيرية، وحلّت محلّ التعبيرية التجريدية في المخيال العام. تبنى فنانوّ «البوب» مثل: آندي وارهول، وريتشارد هاميلتون هذا النوع من «الفن الشعبي المبتذل» الذي رآه غرينبيرغ تلويثًا للفن الحقيقي. استمرت الأعمال الفنية التجريدية، ولكن تخلّى الفنّانون التجريديون الأكثر جرأة عن الفكرة الصارمة «للنقد الحداثي»، وعن الوضوح المتعلق بخصوصية الوسيط الفني، وذلك لصالح أشكال أخرى من التعبير. نظر فنانوّ «ما بعد الحداثة» إلى السخرية وعملية الرسم نفسها، كطرق لتجاوز الطريق المسدود للحداثة. تبنى الألماني غيرهارد ريختر كلا النهجين؛ فبعض أعماله التجريدية في الستينيات كانت مصنوعة بممسحاتٍ بدلًا من الفرشاة، حتى يتمكن من لفت الانتباه إلى عملية صنع اللوحة نفسها. كانت «اللوحات التجريدية» البارزة الأخرى التي رسمها ريختر في الواقع صورًا واقعية مرسومة بعناية تعكس لوحاته التجريدية الأخرى. أصبحت طلائعية الرسم التجريدي مفهومية أكثر، ما جعل ضمنيًّا قضية الرسم تحظى باستقلالية أقل مما كان كان يعتقد النقاد الحداثيون. قلّد فنانوّ «نيو جيو»، مثل: الرسام بيتر هالي، والنحات أشلي بيكرتون اللغة البصرية للتجريد الهندسي، لكنهما دمجاها مع السلع الاستهلاكية بألوانٍ تجارية فاتحة وأحيانًا فلورية. منذ ذلك الجيل ما بعد الحداثي من الرسامين والنحاتين الممتد من الستينيات إلى التسعينيات، ازدهر التجريد متفرّعًا إلى عددٍ لا يُحصى من الأساليب والمقاربات بجوار الفن التشخيصي. هنا يمكن القول إنّ التجريد المتحرّر من عبء التوقعات الحداثية هو ببساطة نهج للتعبير مثل أيّ نهج آخر. وتجدر الإشارة إلى أنّ بعض الفنانين التجريديين استخدموا الحيل البصرية المستعملة في الفن التشخيصي – مثل المنظور والتظليل – في لوحاتهم. ولاستخدامهم هذا أهداف فريدة و غالبًا لا تهتم بالنظرية. قلّد فنانوّ «ما بعد الحداثة» مثل: بيتر هالي اللغة البصرية المستعملة في الفن التجريدي الحديث (في حالة بيتر، التجريد الهندسي)، للتعليق على طبيعة الفن والمعنى نفسه. تمثّل هذه الكتل الملونة «الخلايا» و«الأنابيب».قلّد فنانوّ «ما بعد الحداثة» مثل: بيتر هالي اللغة البصرية المستعملة في الفن التجريدي الحديث (في حالة بيتر، التجريد الهندسي)، للتعليق على طبيعة الفن والمعنى نفسه. تمثّل هذه الكتل الملونة «الخلايا» و«الأنابيب». هذا هو التحرّر نحو الأفضل بين الرسامين التجريديين الذين يمكنهم الالتزام برؤيةٍ فريدة بالرسم على القماش. لكن فكّ ارتباط الفن التجريدي عن إطاره الفلسفي الأوسع أدى أيضًا إلى انتشارٍ يثير التساؤل لأعمال تجريدية متنوعة قابلة للاستهلاك – بمعنى أنّها فقدت قيمتها، وباتت تُباع وتُشترى سريعًا بأسعارٍ مربحة – يشتريها المشترون المتضاربون. دفع هذا التحول الناقد جيري سالتز إلى كتابة: « الزومبي على الجدران: لماذا يبدو الكثير من التجريد الجديد متشابهًا؟». وقد شبه اللّوحات التجريدية بصورة «الزومبي»، تحقيرًا لأعمال عددٍ من الرسامين التجريديين البارزين، الذين استخدموا الفنّ وجماليته لتقديم أعمال مبتذلة. ومن المفارقات أن هؤلاء الفنانين نظروا إلى الشكلانية بوصفها فنًّا حداثيًّا متبنّين منظور غرينبيرغ، لكنهم بالطبع قدّموا أعمالًا في ظلّ فراغ تاريخي وبعد فترةٍ طويلة حين لم يُصبح التجريد مثيرًا للاهتمام أو راديكاليًا بأي وجه من الوجوه. في الواقع، لم يصل مشروع الحداثة  في الفن التجريدي إلى نهايته، بل النقد. إنّ النقد -أيّ الإطار الفلسفي الواسع الذي يصادق على الأعمال الفنية ويثمّنها لأهميتها الثقافية والتاريخية- هو ما فقد التوجه والسلطة. كان مسار الفن الغربي منذ عصر التنوير يتأرجح بين قطبي الدوغمائية النقدية والإبداع. تكمن المشكلة أنه في العقود الأخيرة، وفي ظلّ غياب أي مشروع نقدي متماسك، انجرف الفن نحو إرضاء اهتمامات دقيقة ومتنوعة تزداد باستمرار. في حين كانت هناك «حركات» و«مدارس» فنية -مصطلحان يشيران إلى الوجهة والانضباط- لم يعد لدينا الآن سوى «مشاهد». هذا ليس بالضرورة أمرًا سيئًا. ولكن في عالم حيث «كل شيء مقبول – anything goes»، لا يوجد مجال لهذا النوع من الابتكار والتجاوز الذي أدى إلى ظهور الفن التجريدي في الغرب، وهذا ما جعل الفن الحديث فنًّا مثيرًا للغاية. من الصعب في هذه اللحظة التاريخية أن ندرك ما الذي جعل لوحة بولوك «رقم 32» مثيرة للانقسام، ومخلخلةً جدًا للمعايير، وفي الوقت نفسه محتفظةً بقيمةٍ عالية جدًا لأولئك الذين يعتقدون أن للفنِّ مكانًا في المجتمع يتجاوز المتعة. [divider style=”solid” top=”20″ bottom=”20″] [1] واللقب كذلك يُلمح إلى القاتل المتسلسل في لندن آخر القرن التاسع عشر: جاك السفّاح Jack the ripper (مدير التحرير). ### خارج عقلك | توم تشاتفيلد – ت: محمد السعيد                  عندما يكون هاتفي النقال بين يديّ، هل أكون أنا الشخص نفسه لو كان الهاتف في غرفة أخرى؟ من ناحية،... ### الدراما في التعليم: مقاربات وتطبيقات | نعيم حيماد افتتاحيّة حظي استخدام الدراما في التعليمفي السنوات الأخيرة باهتمام كبير من قبل نخبة من المنظرين والممارسين للدراما في مجال التعليم.... ### الحقائق المخفية | دي بي سي بيير – ت: محمد السعيد       يحمل جبل كلسي خشن في غرب إيران عددًا من النقوش البارزة، من بينها لوحة طولها خمسة وعشرين مترًا منقوشة... ### التغلُّب على كاشف الكذب | كلاريسا سيباغ-مونتِنفيوري – ت: محمد السعيد          حين  اتُّهِمَتْ مربية الأطفال البريطانية لويز وودورد بهزِّ رضيع حتى الموت في مدينة نيوتن بولاية ماساتشوستس، لم تكتفِ بإعلان... ### عن منصة معنى «معنى»، مؤسسة ثقافية تقدّمية ودار نشر تهتم بالفلسفة والمعرفة والفنون، عبر مجموعة متنوعة من المواد المقروءة والمسموعة والمرئية. انطلقت في 20 مارس 2019، بهدف إثراء المحتوى العربي، ورفع ذائقة ووعي المتلقّي المحلي والدولي، عبر الإنتاج الأصيل للمنصة والترجمة ونقل المعارف. ### روابط سريعة ### التصنيفات ### مرحبا بك! قم بتسجيل الدخول إلى حسابك تذكرني ### قم بإنشاء حساب جديد! املأ النموذج أدناه للتسجيل ### طلب إعادة تعيين كلمة المرور يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان البريد الإلكتروني لإعادة تعيين كلمة المرور الخاصة بك. ### Add New Playlist - Select Visibility -PublicPrivate No Result عرض جميع النتائج - 00:00 00:00 - 00:00 00:00
article
Arabic
ar
الفنّ التجريدي: بين الماضي والحاضر - منصة معنى الثقافية
https://mana.net/abstract-art/
1,869
لم تكن هذه «الأنماط» (styles) أنماطًا عرضيةً أو تعتمد على ذوق أو ميل الرسام كوسيلة لتحقيق هدفٍ ما من البحث الفني. وخير مثال على ذلك هو الفنان الذي غالبًا ما ينظر إلى عمله على أنّه ذروة التجريد الهندسي: بيت موندريان. إنّ لوحات بيت موندريان المكونة من شبكات (grids) ذات الخطوط السوداء والأجزاء الملونة على خلفية بيضاء؛ تهدف إلى استحضار «حقيقة أعلى».
paragraph
لا توجد منتجات في سلة المشتريات. No Result عرض جميع النتائج الثلاثاء, سبتمبر 10, 2024 No Result عرض جميع النتائج No Result عرض جميع النتائج # الفنّ التجريدي: بين الماضي والحاضر ## ترجمة: أنطونيوس نادر AA AA إعادة تعيين فنٌ مليء بالتحديات ثمّة خطٌ رفيع يفصل بين الفن التجريدي ومجرد الزخرفة، ولوحة «رقم 32» (نُشرت عام 1950)، لجاكسون بولوك تتأرجح بين هذا الخطّ. فهي لا تشير إلى معنىً واضح، ولكن لا يمكن القول إنّها بلا معنى على الإطلاق. كما أنّها ليست معبّرة بشكلٍ مباشر، ولا يعني هذا أنها لا تعبّر عن مدلولٍ ما. تحمل هذه اللوحة الكثير من المضامين عن الفن الغربي بالنسبة إلى شخصٍ خبيرٍ في تاريخ الفن؛ أما بالنسبة إلى شخصٍ عادي، فقد يراها عملًا مبتذلًا بالكاد يعبّر عن أمرٍ ما. اللوحة شبكة من الخطوط وبقعٍ من الألوان، رُسمت عن طريق صبّ طلاءٍ رخيص بعشوائيةٍ مباشرة على القماش. تتكون اللوحة من طلاءٍ أسود فقط وقماشٍ خام. واللوحة ضخمة؛ إذ يبلغ طولها تسعة أقدام وعرضها خمسة عشر قدمًا، وتغطي مجال رؤية المشاهد أثناء اقترابه منها. تقليديًّا، حتى اللوحات التجريدية تتكون من أجزاءٍ مترابطة مع بؤر تركيز (emphases) وعمقٍ يُنقل من خلال اللون والظلال، ولكن «رقم 32» ليس لها أجزاء؛ إنّها تتكون من تعالقات، والبؤرة فيها تكمن عبر امتداد سطح القماش المستطيل. يمنحها ما سبق عمقًا سطحيًا، وربما لا عمق فيها: مجرّد طلاء على قماش. إنّها عبث بالشكل واللون. حتى اسمها، ببساطة رقمٌ معيّن – رقم 32 – يجعلها تنأى بنفسها عن أي فكرة مفادها أنها تعكس مدلولًا محدّدًا. تشير عناوين أعمال بولوك الأخرى إلى نوعٍ من الاختبار الشخصي، وإلى الاستخدام السمفوني المتعدد الطبقات للون والملمس؛ خذ مثلًا لوحاته التي تحمل اسم: «إيقاع الخريف»، و«الضباب الأرجواني»، و«الأقطاب الزرقاء»، و«انعكاس الدنقلة الكبير». هذا لا ينطبق على لوحة «رقم 32»؛ شكلها الخام وبساطتها دليل على أنّ الفنان لم يخطط مسبقًا لرسمها؛ أيّ أنّه لم ينتق الألوان ولا الطبقات. يبدو بولوك هنا أكثر حضورًا، من خلال لمساته الحادة. بالنسبة إلى مؤيديّ عمل بولوك، تختصر هذه اللوحة خلاصة نظرة الفنان الجمالية. أما بالنسبة للبعض الآخر، فهي لوحة مبتذلة. وصف جوزيف بويس -النحات الألماني في فترة ما بعد الحرب- الفنَّ التجريدي الأمريكي بأنه مجرد «تغليف»، أيّ سطح بلا محتوى. في هذا الصدد، قد يتفق البعض أن لوحة «رقم 32» تجسد فراغ الفكر والشعور ذاك. فقد رأى الروائي والناقد الفني روبرت كوتس أن فن بولوك لم يكن سوى «انفجارات» غير منظمة من الطاقة العشوائية. غير أنّ طائفة كبيرة من متذوقي الفن التجريدي لا تروق إليهم أعمال بولوك ويرونها فنًّا محيرًا، حتى إنّ بعضهم يراها إهانةً للذوق أو الحسّ السليم. عُرف بولوك بلقب: «جاك فنان النقط» (Jack the Dripper) [1] في الأوساط الإعلامية المشككة بعمله حيث ادعى كثر أن أيّ شخص يمكنه أن يرسم كما يرسم بولوك إلّا أنّ أحدًا لم يتجرأ على فعل ذلك. «رقم 32» - جاكسون بولوك«رقم 32» – جاكسون بولوك بيد أنّ هذا هو مغزى الفن التجريدي في التقليد الغربي: إنّه تحدّ. وفي ظل الكثير هذه التحديات، تُعد لوحة « رقم 32» اللوحة الأكثر تمثيلًا لهذا الفن. قصة الفنّ التجريدي مسار قصة الفن التجريدي مضمّنة في الدراسات التاريخية الفنية، إلّا أنّ المحطات الرئيسة لهذا المسار كانت محط تغييرات مفاجئة كلما اكتشف مؤرخوّ الفن حقائق جديدة. انطلق مسار الفن التجريدي بدءًا من القرن التاسع عشر وما تلاه؛ حيث استفاد الفنانون من مادة الطلاء والجوانب الشكلية للرسم مثل اللون والدرجة والخطوط. يُعرف هذا الانشغال بالجوانب غير التمثيلية (non-representative) للفن باسم «الشكلانية»، لأنّه انشغال «بالشكل»، أيّ بتوسل شكل المحتوى بدلًا من المحتوى في ذاته. بالنسبة إلى الفنانين في القرن التاسع عشر، صُنّف الفن التجريدي على أنّه «فنٌّ من أجل الفنّ»، وكانت الفكرة الشائعة مفادها أنّ المتذوق للفن يمكنه الاستمتاع بالعمل دون اللجوء إلى معنى أو حتى أي شيء آخر يمثل أمرًا ما. تمثّل لوحة «الموسيقى الهادئة باللّونين الأسود والذهبي – الصاروخ الساقط» (1872)، للفنان جيمس مكنيل ويسلر هذا الاتجاه الذي تبلور لاحقًا في الفن التجريدي.  إنّ مشهد ويسلر الغامض من الناحية المكانيّة يقترب إلى التجريد، وذلك بمحاولته نقل الشعور أو الانطباع الخاص بالمشهد بدلًا من إعادة إنتاجه بحذافيره. «الموسيقى الهادئة باللونين الأسود والذهبي - الصاروخ الساقط» (1872-1877) - جيمس أبوت مكنيل ويسلير«الموسيقى الهادئة باللونين الأسود والذهبي – الصاروخ الساقط» (1872-1877) – جيمس أبوت مكنيل ويسلير في عام 1877، انتقد جون روسكين – أبرز نقّاد بريطانيا في ذلك الوقت – عمل ويسلير هذا نقدًا لاذعًا فشبهه «بمن قام برمي الطلاء في وجه الجمهور». تأثر ويسلر بهذا الكلام، فرفع دعوى قضائية ضد روسكين، بيد أنّه خسرها لأن المسؤولين عرضوا اللوحة -خطأً- مقلوبةً على المحكمة. أفلس ويسلير بسبب هذه القضية، لكن مسيرة تطور الفن التجريدي استمرت. من ناحيةٍ أخرى، تحديد أول فنان تجريدي في العالم موضوع نزاع. في نظر أبحاث تاريخ الفن التقليدية، كان فاسيلي كاندينسكي – فنان روسي الجنسية رسم لوحات تجريدية بالكامل في مطلع عام 1911- هو أول فنان تجريدي. لم ينل الفن التجريدي الرائد لهيلما أف كلينت تقديرًا إلا قبل سنوات قريبة. هذه صورة للمعرض الشهير في  متحف غاغينهايم، عام 2018 .لم ينل الفن التجريدي الرائد لهيلما أف كلينت تقديرًا إلا قبل سنوات قريبة. هذه صورة للمعرض الشهير في  متحف غاغينهايم، عام 2018 . ولكن في الآونة الأخيرة، وبفضل المعرض الرائد في متحف مقاطعة لوس أنجلوس للفنون في عام 1986 الذي حمل اسم «الروحانية في الفن: الرسم التجريدي 1890 – 1985»، وقع الاختيار على هيلما أف كلينت كأول رسامة تجريدية. بدأت كلينت في رسم لوحات تجريدية بدءًا من عام 1906، وحملت مجموعتها عنوان «الفوضى البدائية». كانت الفنانة متكتمة في ما يتعلق بأعمالها التجريدية، ولم تُعرض أيّ منها في معارض عامة، وبقيت غير معروفة حتى أزيح عنها الستار مؤخرًا. ولعل الجدال حول هوية أول من مارس الفن التجريدي سيستم، لكن الحقيقة الأكثر أهمية هي أن العديد من الفنانين الأوروبيين البارزين قد توصّلوا في أعمالهم إلى التجريد بحلول الحرب العالمية الأولى. لقد وجد كل منهم طريقته الخاصة في التخلي عن الفن التشخيصي (figurative painting). وجديرٌ بالذكر أنّه لم تكن هناك حركة «تجريدية» دولية ذات رؤية أو بيان مشترك. في ضوء ذلك، فإن السؤال الملحّ حقًا هو: لمَ لمْ يتبنى الفنانون الغربيون الفن التجريدي على امتداد قرون عديدة؟ لماذا كان التجريد غير ضروري أو لا معنى له أو غير مناسب أو حتى لا يمكن تقبّله لقرونٍ متوالية في الفن الغربي؟ ظهرت العديد من التفسيرات لشرح ذلك. إحدى النظريات الأكثر وضوحًا هي أن ظهور التصوير الفوتوغرافي بوصفه شكلًا من أشكال الفن، إضافةً إلى تطور الفن الحديث، سببان رئيسان لإزاحة الرسم التشخيصي. ثمّة إجابات أخرى غير ملموسة لاستكشاف الأسباب: ربما عندما أصبحت الأعمال الفنية قابلة للاستهالاك بشكل متزايد، مثل السلع، بات من السهولة فصل اللوحات والمنحوتات عن التجارب المحددة لمبدعيها. ربما أدت الحداثة في الغرب إلى إفراغ الفن من المحتوى التشخيصي؛ مما دفع الفنانين أيضًا إلى التخلي عن التمثيل التشخيصي. كل من هذه الإجابات معقدة وتتطلب الكثير من الشرح، ولا يمكن إلا أن تكون تخمينات. لا توجد إجابة واضحة لهذه المسألة. ربما يكون من الأفضل طرح السؤال حول سبب تقبّل الفن التجريدي فنًّا من الفنون الرسمية في تاريخ الفن الغربي في مرحلة معينة على علماء الأنثروبولوجيا بدلًا من طرحها على مؤرخي الفن. فما هو واضح أن الفن التجريدي كان موجودًا دائمًا في مناطق أخرى من العالم. ما جعل الفن التجريدي فنًّا حديثًا على وجه التحديد في العالم الغربي هو نظام المعارض، الذي أعطى القيمة الفنية للأعمال المعروضة. وكما هو واضح فقد ازدهر التجريد لآلاف السنين المناطق الشرقية والجنوبية من العالم، دون عناء التحقق من مكانة الأعمال المعروضة في الصالونات [والمعارض، كما هو في العالم الغربي]. الواقع الافتراضي و«الافتراضية» يتبنى بيبي كرمل وهو مؤرخ فني، في كتابه « الفن التجريدي: تاريخ عالمي»، فكرة أنّ الفن التجريدي كان دائمًا موجودًا بشكل طبيعي عندما ننظر إليه نظرة شاملة وعالمية، بيد أنّه يتحاشى طرح نظرية عن تطور الفن التجريدي. بالنسبة إلى كرمل، فإنّ هذا الفنّ متجذر في العالم الحقيقي، وهو ليس فنًّا «مجردًا» على الإطلاق، كما أنّه تقليد عالمي وليس محليًا. في دراسته حول الفن التجريدي يقسم العمل الفني إلى خمس فئات واسعة تنتمي إلى العالم الحقيقي: الأجسام، والمناظر الطبيعية، والكون، والبنى، والعلامات والأنماط. من خلال فحص الفن التجريدي بهذه الطريقة، يرى كرمل في اللوحات التجريدية موضوعات قابلة للتحليل، بعكس النقاد والمؤرخين الأرثوذكسيين الذين رأوا فيها مجرّد توليفات شكلية مكوّنة من لون وشكل. ربما يكون من الأفضل أن يطلق على الفن التجريدي: فن ما تم تجريده (abstracted art)؛ لأنّ الفنانين التجريديين عادةً ما يستخلصون ويجرّدون تعبيرات التجارب في شكل ولون،  أكثر من كونها توليفات مكونة من شكل ولون. ومرّد ذلك الطبيعة الجوهرية للرسم والنحت؛ فهما (الشكل اللّون) وسيطان للتعبير، مثل الشاشة أو المسرح لخيال الفنان. كما هو الحال في المسرح أو السينما، فإنّ جمهور اللوحة أو المنحوتة يعلّق معتقداته من أجل أن يتقبل المشهد. من المفيد التفكير في اللوحة التشخيصية التقليدية أو النحت على أنها حقيقة افتراضية. إذْ استخدم الفنانون لقرون عديدة الحيل البصرية -مثل المنظور الخطي، والتقصير المسبق، والتظليل- لمحاكاة الطريقة التي ندرك بها الأشياء في الفضاء الحقيقي. إنّ المشاهد تُنشأ في فضاء افتراضي – سواء كانت القاعدة التي تدعم التمثال أو القماش – ليراها المشاهدون بوصفها خدعة بصرية. «القديس بطرس شفاء أحد الأشخاص وبعث تابيثا من الموت» ماسولينو دي بانيكال. اعتمد الرسم الغربي قبل القرن العشرين على الحيل البصرية لخلق واقع افتراضي. إحدى هذه الحيل هي المنظور الخطي، وهذه اللوحة هي أول مثال لاستخدام نقطة تلاشٍ متسقة.«القديس بطرس شفاء أحد الأشخاص وبعث تابيثا من الموت» ماسولينو دي بانيكال. اعتمد الرسم الغربي قبل القرن العشرين على الحيل البصرية لخلق واقع افتراضي. إحدى هذه الحيل هي المنظور الخطي، وهذه اللوحة هي أول مثال لاستخدام نقطة تلاشٍ متسقة. يستمتع مشاهدوّ الأعمال الفنية العظيمة معنى ما يُرسم، ويقدرون الطريقة التي يتجلّى فيها الوهم عبر تمازج اللون والشكل. يبقى الفن التجريدي، إلى حدٍ ما، ضمن إطار التجربة الجمالية. فقد سعت حركات الفن الحديث التي أدت إلى التجريد -أيّ «مدارس الفن»، مثل الانطباعية والفاوفية والتكعيبية- إلى تمثيل العالم بشكل مختلف عن كل الفنون التي سبقتها. إذْ ادعوا الاقتراب من الحقيقة الذاتية عبر تهميش جميع الحيل الوهمية التقليدية التي حاولت إعادة إنتاج الواقع بحذافيره كحقيقة موضوعية. «الأحمر والأصفر والأزرق» (1925) واسيلي كاندينسكي.  كان كاندينسكي يعدّ لفترةٍ طويلة أب الرسم التجريدي الغربي.«الأحمر والأصفر والأزرق» (1925) واسيلي كاندينسكي.  كان كاندينسكي يعدّ لفترةٍ طويلة أب الرسم التجريدي الغربي. بالنسبة إلى هذه المدارس، أصبح الفن أقل من أن يوصف بأنّه واقع افتراضي، لكنه مع ذلك احتفظ بالافتراضية، وأصبح افتراضيًا. لقد أخذ الفن التجريدي مسار التطور هذا إلى أقصاه: من الواقع الافتراضي إلى الافتراضية. ماذا تعني «الافتراضية» هنا؟ إنّها الوجود كجوهر وتأثير، ولكن بدون اللجوء إلى الواقع. اللوحة التجريدية التي رسمها كاندينسكي، على سبيل المثال، ما زالت تُعدّ علاقة متبادلة بين الشكل واللون، و تعتمد على الرسم كمستوى تخطيطي: إنها نافذة تطلّ على «الواقع» الفردي الذي تصوّره كاندينسكي. وما تزال العناصر في لوحات كاندينسكي تحظى بعلاقة متبادلة، كما هو الحال في فضاء الواقع الافتراضي للوحة التشخيصية؛ فجوهر الرسم سليم إذ إنّ ذلك الفضاء الافتراضي ما زال موجودًا. عندما يكون الفن التجريدي بناءً خالصًا، ويتخلص من المساحة الافتراضية الملازمة للرسم والنحت، يصبح متميزًا عنهما. وصف دونالد جود الفنان التخفيفي (minimalist) مثل هذه الأعمال الفنية بأنها «أجسام محدّدة» (Specific Objects). إنّه مصطلح غير دقيق، ولكنه يصلح لإظهار أن مثل هذه الأعمال الفنية ليست رسمًا ولا نحتًا، ولكنها فئة أخرى تمامًا. رأى دونالد جود أن أعماله وأعمال العديد من معاصريه تشغل مساحة هجينة، لا هي لوحات ولا هي نحت. عمل دون عنوان لدونالد جود. استخدم جود هذا المصطلح لوصف أعماله الخاصة، ولكنه ينطبق على لوحات كازيمير ماليفيتش وفرانك ستيلا أحادية اللون، والتي تجعل اللوحة تندمج مع نفسها بالكامل، من أجل الوصول للتأثير الذي يأمل العمل في تحقيقه. في مثل هذه الأعمال، لم يعد قماش اللّوحة (أو القاعدة) سطحًا تتفاعل فيه الأشكال والألوان في الفضاء الافتراضي. بدلاً من ذلك، تتفاعل الأشكال والألوان في الفضاء الحقيقي، في فضائنا. تختلف معايير النجاح أو الفشل لهذه الأعمال عن الخصائص التقليدية للرسم والنحت. رأى جود أنّ خصائص الرسم والنحت تقف في طريق ما أراد تحقيقه من خلال اللون والشكل. في رأيه، كان لـ «أجسامه المحددة» تأثيرًا أحدّ من غيرها. الواقع والأشكال الجديدة للإدراك الحسّي الرسم نفسه له ثلاثة أنواع عامة من التجريد؛ أولًا، ثمّة أسلوب تعبيري تُرسم فيه الأشكال بحركاتٍ غير مقيدة؛ ثم هناك التجريد الهندسي حيث يتم هيكلة الأشكال؛ أما النوع الثالث، فهو تجريد مجال اللون حيث يتم عرض مساحات من الألوان بطريقةٍ لا شكل واضح لها. لم تكن هذه «الأنماط» (styles) أنماطًا عرضيةً أو تعتمد على ذوق أو ميل الرسام كوسيلة لتحقيق هدفٍ ما من البحث الفني. وخير مثال على ذلك هو الفنان الذي غالبًا ما ينظر إلى عمله على أنّه ذروة التجريد الهندسي: بيت موندريان. إنّ لوحات بيت موندريان المكونة من شبكات (grids) ذات الخطوط السوداء والأجزاء الملونة على خلفية بيضاء؛ تهدف إلى استحضار «حقيقة أعلى». بالنسبة إلى موندريان، كان الفن في جوهره معارضًا للواقع؛ «لأن الواقع يتعارض مع الروحي». بغض النظر عن هذه اللوحة الأشهر لموندريان، فإنّ جوانب الرسم التي تهم هذا الفنان حقًا لم تكن الجوانب المحددة للموضوع -أيّ ماذا أو ما يتم تصويره في اللوحة مثلًا- بل الجوانب القابلة للفهم عالميًا للشكل والخط واللون. إنّ لوحات موندريان، مثلها مثل لوحات الفنانين الآخرين، هي محاولة لاستخلاص الشكل واللون من أجل الاقتراب من ذلك الجوهر العالمي والروحي للفن. عبّر موندريان عن رغبته في الوصول إلى «أساس» الأشياء من خلال الحدس، كالعديد من الفنانين التجريديين الآخرين في النصف الأول من القرن العشرين الذين رغبوا في الوصول إلى قوى غير مرئية حولنا، ولكنها معروفة أو محدوسة. «التكوين الثاني باللون الأحمر والأزرق والأصفر» (1930) - بيت موندريان«التكوين الثاني باللون الأحمر والأزرق والأصفر» (1930) – بيت موندريان في أواخر القرن التاسع عشر، لاحظ العلماء بشكلٍ أفضل مما سبق القوى غير المرئية مع انتشار التقنيات الجديدة، وأصبح من الواضح أن العالم أرحب مما يبدو للعين. في الوقت نفسه، ظهرت حركات روحية بديلة جمعت بين الأفكار الأفلاطونية والتصوف. كان كلينت وموندريان من بين العديد من الفنانين الذين انغمسوا في أشكال الروحانية خارج العوالم التقليدية للدين. اعتقدت كلينت أن لوحاتها هي وحي عالم روحي، وأن مهمتها كانت العمل «على مستوى روحاني» لتمثيل روح الإنسان، بدلًا من صورته الفانية. بحلول عشرينيات القرن الماضي، كانت نظرية فرويد عن للعقل البشري قد تغلغلت أيضًا في عالم الفن.  كذلك السريالية، وهي حركة منظمة بإحكام بدأت مع بعض الفنانين الذين سعوا إلى التنقيب عن الإمكانات الإبداعية للعقل الباطن، وهي الحركة الثقافية التي كانت سائدة في أوروبا بين الحربين العالميتين. لم تكن السريالية دوغمائية في محاولتها لاستكشاف اللاوعي، ولذلك ظهر عدد من الأساليب والطرق لمحاولة إخراج اللاوعي إلى السطح. إحدى هذه الأساليب كان الرسم الآلي (Automatism)، وهي عملية يتخلى فيها الفنان عن السيطرة الواعية لليد التي ترسم  أو تصور. في هذا المجال، تبنى الفنانون مثل أندريه ماسون وخوان ميرو الفرصة لبناء صورهم باستخدام حركات حرّة، وحتى إلقاء الطلاء على القماش. طور أرشيل غوركي -هو مهاجر أرمني عاش في الولايات المتحدة- أسلوبًا في الرسم يدمج بين الرسم الآلي وتجريد مجال الألوان. لوحاته في الأربعينيات حجمُها ضخم – ومرد ذلك تأثره بأعماله السابقة كفنان جداري مُعيّن من الدولة خلال السنوات الأخيرة من الكساد الكبير – لكنها معبّرة وغنائية في الرسم بالفرشاة. ألهم إدماج غوركي للأنماط جيلًا واسعًا من الفنانين الأمريكيين في فترة ما بعد الحرب لاحتضان التجريد الواسع النطاق. ما نسميه الآن «التعبيرية التجريدية»، وكان ذاك الجيل في الواقع مجموعة فضفاضة من الفنانين الذين يستخدمون أنماطًا متعدّدة من أنماط التجريد. ربما كان القاسم المشترك بين هؤلاء الفنانين – على الأقل في السنوات الأولى – هو دعم جيل جديد من النقاد بقيادة كليمنت غرينبيرغ، الذي كان يعتقد أن التجريد هو التعبير الأسمى للفن الغربي. «الكبد هو مشط الديك» (1944) - أرشيل جوركي.«الكبد هو مشط الديك» (1944) – أرشيل جوركي. الحداثة ومصير الفنّ الغربي كان يُعتقد في بعض الأوساط الفكرية المؤثرة أنّ الفن يتقدم نحو هدف؛ وهذا المضمون يشتمل عليه مصطلح «الطليعية» (Avant-garde)، الذي يُوصف به الفنّانون الذين يبتكرون أرضية جمالية جديدة. أصل المصطلح فرنسي يُطلق على الجنود الذين يتقدمون إلى مناطق جديدة. بالنسبة إلى غرينبيرغ، لم يكن هؤلاء الفنّانون يوسّعون حدود إمكانات الفن؛ بل كانوا يتقدمون نحو الهدف الحقيقي والمفرد لكل شكل فني. يُعدّ غرينبيرغ شخصية مهمة في تاريخ الفن التجريدي، وذلك لأمرين: بوصفه مناصرًا رائدًا في مسألة تفوق الفن التجريدي على غيره من أنواع الرسم، وتأكيده للقوة التي امتلكها هذا الفن. كان ناقدًا في اللجنة الأمريكية للحريّة الثقافية التي تمولها الدولة، وهي مجموعة تم إنشاؤها لتعزيز الفن الأمريكي على المستوى الدولي. أصبحت أفكار غرينبيرغ مؤثرة عندما كانت الولايات المتحدة جزءًا من الحرب على الفاشية والنازية، وخلال الحرب الباردة اللاحقة ضد الشيوعية السوفيتية. كانت معايير الفن الفاشي والسوفياتي واضحة، وهي ما تحددها السلطات الثقافية أنها كذلك، بيد أنّه ما لم يكن واضحًا هو معايير الفن «الجيد» وتحديدًا في الغرب الديمقراطي. كان الماركسيون هم من تعاطف مع غرينبيرغ في البداية، لكن ارتبط تفكيره بشكلٍ متزايد بالهيمنة الثقافية الأمريكية. بالنسبة إليه، كان التجريد في أعمال بولوك فنًا مثاليًا لمجتمع ديمقراطي. تتجلى الحداثة في الفن، وفقًا لغرينبيرغ، في إطار التنوير الأوروبي؛ أيّ في فترة ازدهار الأفكار الفلسفية والعلمية التي أعطت الأولوية للعقل. في مقالته المؤثرة « الرسم الحداثي» (1961)، وصفَ غرينبيرغ إيمانويل كانط – الفيلسوف الألماني في عصر التنوير – بأنّه «أول حداثي حقيقي». كان أسلوب كانط في «النقد» هو استخدام العقل لنقد العقل بغرض توضيحه، ومنحه استقلالية عن أنواع التفكير الأخرى. «أولمبيا» - إدوارد مانيه (1863). بالنسبة إلى كليمنت غرينبيرغ، كان مانيه أول رسام حداثي. لقد رسم مانيه لوحاته بأسلوبٍ مسطّح بشكلٍ متعمد.«أولمبيا» – إدوارد مانيه (1863). بالنسبة إلى كليمنت غرينبيرغ، كان مانيه أول رسام حداثي. لقد رسم مانيه لوحاته بأسلوبٍ مسطّح بشكلٍ متعمد. بالطريقة نفسها، كان الرسامون الحداثيون – من إدوارد مانيه في القرن التاسع عشر إلى موريس لويس، وهو رسام يعمل ينتمي إلى رسامي أسلوب مجال ألوان في الولايات المتحدة في الوقت الذي كتب فيه غرينبيرغ مقالته – يعملون على ترسيخ الفن التعبيري «بشكل صارم في مجال تخصصه». رأى غرينبيرغ أن وضوح الفن التجريدي -الذي كان صادقًا بالنسبة إلى الوسيط الذي يُعبّر من خلاله- معارضٌ لـ«الفن الشعبي المبتذل [الكيتش]» الذي ينُتج على نطاق واسع في الثقافة الشعبية. إن إزالة «الكيتش» كانت مسألة استجلاء وتوضيح تحتاجها جميع الفنون لكي تصبح تعبيرًا عن إمكاناتها الجمالية الكامنة. اللوحات مسطّحة، وإيهام العمق الذي نجده في معظم الفن الغربي كان انحرافًا عن جوهر فن الرسم ذاته. كانت استقلالية الشكل الفني في جميع خصائصه دون أن تتلوث بأشكال فنية أخرى. وفقًا لغرينبيرغ، يعدّ الشكل واللون من أهم خصائص الرسم، و أفضل تمثيل لها يكون بشكلٍ مسطّح. وهكذا دافع غرينبيرغ عن «التسطيح» الذي تجلّى في لوحات الفنانين الأمريكيين التجريدية مثل جاكسون بولوك باعتباره تحقيقًا لهذا الوضوح الحداثي. لقد ضم هؤلاء الفنانين معًا ضمن فريق واحد، وهم يمثّلون المرحلة التالية في الحداثة، وقد حلّت رؤيتهم الأمريكية المميزة محلّ الفن الأوروبي الطليعي. وفي الوقت الذي أصبح فيه الفن التجريدي الأمريكي مهيمنًا، تراجعت هيمنة غرينبيرغ النقدية، وظهرت أشكال جديدة من الفن الطليعي، مستوحاة مباشرة من الثقافة الجماهيرية، وحلّت محلّ التعبيرية التجريدية في المخيال العام. تبنى فنانوّ «البوب» مثل: آندي وارهول، وريتشارد هاميلتون هذا النوع من «الفن الشعبي المبتذل» الذي رآه غرينبيرغ تلويثًا للفن الحقيقي. استمرت الأعمال الفنية التجريدية، ولكن تخلّى الفنّانون التجريديون الأكثر جرأة عن الفكرة الصارمة «للنقد الحداثي»، وعن الوضوح المتعلق بخصوصية الوسيط الفني، وذلك لصالح أشكال أخرى من التعبير. نظر فنانوّ «ما بعد الحداثة» إلى السخرية وعملية الرسم نفسها، كطرق لتجاوز الطريق المسدود للحداثة. تبنى الألماني غيرهارد ريختر كلا النهجين؛ فبعض أعماله التجريدية في الستينيات كانت مصنوعة بممسحاتٍ بدلًا من الفرشاة، حتى يتمكن من لفت الانتباه إلى عملية صنع اللوحة نفسها. كانت «اللوحات التجريدية» البارزة الأخرى التي رسمها ريختر في الواقع صورًا واقعية مرسومة بعناية تعكس لوحاته التجريدية الأخرى. أصبحت طلائعية الرسم التجريدي مفهومية أكثر، ما جعل ضمنيًّا قضية الرسم تحظى باستقلالية أقل مما كان كان يعتقد النقاد الحداثيون. قلّد فنانوّ «نيو جيو»، مثل: الرسام بيتر هالي، والنحات أشلي بيكرتون اللغة البصرية للتجريد الهندسي، لكنهما دمجاها مع السلع الاستهلاكية بألوانٍ تجارية فاتحة وأحيانًا فلورية. منذ ذلك الجيل ما بعد الحداثي من الرسامين والنحاتين الممتد من الستينيات إلى التسعينيات، ازدهر التجريد متفرّعًا إلى عددٍ لا يُحصى من الأساليب والمقاربات بجوار الفن التشخيصي. هنا يمكن القول إنّ التجريد المتحرّر من عبء التوقعات الحداثية هو ببساطة نهج للتعبير مثل أيّ نهج آخر. وتجدر الإشارة إلى أنّ بعض الفنانين التجريديين استخدموا الحيل البصرية المستعملة في الفن التشخيصي – مثل المنظور والتظليل – في لوحاتهم. ولاستخدامهم هذا أهداف فريدة و غالبًا لا تهتم بالنظرية. قلّد فنانوّ «ما بعد الحداثة» مثل: بيتر هالي اللغة البصرية المستعملة في الفن التجريدي الحديث (في حالة بيتر، التجريد الهندسي)، للتعليق على طبيعة الفن والمعنى نفسه. تمثّل هذه الكتل الملونة «الخلايا» و«الأنابيب».قلّد فنانوّ «ما بعد الحداثة» مثل: بيتر هالي اللغة البصرية المستعملة في الفن التجريدي الحديث (في حالة بيتر، التجريد الهندسي)، للتعليق على طبيعة الفن والمعنى نفسه. تمثّل هذه الكتل الملونة «الخلايا» و«الأنابيب». هذا هو التحرّر نحو الأفضل بين الرسامين التجريديين الذين يمكنهم الالتزام برؤيةٍ فريدة بالرسم على القماش. لكن فكّ ارتباط الفن التجريدي عن إطاره الفلسفي الأوسع أدى أيضًا إلى انتشارٍ يثير التساؤل لأعمال تجريدية متنوعة قابلة للاستهلاك – بمعنى أنّها فقدت قيمتها، وباتت تُباع وتُشترى سريعًا بأسعارٍ مربحة – يشتريها المشترون المتضاربون. دفع هذا التحول الناقد جيري سالتز إلى كتابة: « الزومبي على الجدران: لماذا يبدو الكثير من التجريد الجديد متشابهًا؟». وقد شبه اللّوحات التجريدية بصورة «الزومبي»، تحقيرًا لأعمال عددٍ من الرسامين التجريديين البارزين، الذين استخدموا الفنّ وجماليته لتقديم أعمال مبتذلة. ومن المفارقات أن هؤلاء الفنانين نظروا إلى الشكلانية بوصفها فنًّا حداثيًّا متبنّين منظور غرينبيرغ، لكنهم بالطبع قدّموا أعمالًا في ظلّ فراغ تاريخي وبعد فترةٍ طويلة حين لم يُصبح التجريد مثيرًا للاهتمام أو راديكاليًا بأي وجه من الوجوه. في الواقع، لم يصل مشروع الحداثة  في الفن التجريدي إلى نهايته، بل النقد. إنّ النقد -أيّ الإطار الفلسفي الواسع الذي يصادق على الأعمال الفنية ويثمّنها لأهميتها الثقافية والتاريخية- هو ما فقد التوجه والسلطة. كان مسار الفن الغربي منذ عصر التنوير يتأرجح بين قطبي الدوغمائية النقدية والإبداع. تكمن المشكلة أنه في العقود الأخيرة، وفي ظلّ غياب أي مشروع نقدي متماسك، انجرف الفن نحو إرضاء اهتمامات دقيقة ومتنوعة تزداد باستمرار. في حين كانت هناك «حركات» و«مدارس» فنية -مصطلحان يشيران إلى الوجهة والانضباط- لم يعد لدينا الآن سوى «مشاهد». هذا ليس بالضرورة أمرًا سيئًا. ولكن في عالم حيث «كل شيء مقبول – anything goes»، لا يوجد مجال لهذا النوع من الابتكار والتجاوز الذي أدى إلى ظهور الفن التجريدي في الغرب، وهذا ما جعل الفن الحديث فنًّا مثيرًا للغاية. من الصعب في هذه اللحظة التاريخية أن ندرك ما الذي جعل لوحة بولوك «رقم 32» مثيرة للانقسام، ومخلخلةً جدًا للمعايير، وفي الوقت نفسه محتفظةً بقيمةٍ عالية جدًا لأولئك الذين يعتقدون أن للفنِّ مكانًا في المجتمع يتجاوز المتعة. [divider style=”solid” top=”20″ bottom=”20″] [1] واللقب كذلك يُلمح إلى القاتل المتسلسل في لندن آخر القرن التاسع عشر: جاك السفّاح Jack the ripper (مدير التحرير). ### خارج عقلك | توم تشاتفيلد – ت: محمد السعيد                  عندما يكون هاتفي النقال بين يديّ، هل أكون أنا الشخص نفسه لو كان الهاتف في غرفة أخرى؟ من ناحية،... ### الدراما في التعليم: مقاربات وتطبيقات | نعيم حيماد افتتاحيّة حظي استخدام الدراما في التعليمفي السنوات الأخيرة باهتمام كبير من قبل نخبة من المنظرين والممارسين للدراما في مجال التعليم.... ### الحقائق المخفية | دي بي سي بيير – ت: محمد السعيد       يحمل جبل كلسي خشن في غرب إيران عددًا من النقوش البارزة، من بينها لوحة طولها خمسة وعشرين مترًا منقوشة... ### التغلُّب على كاشف الكذب | كلاريسا سيباغ-مونتِنفيوري – ت: محمد السعيد          حين  اتُّهِمَتْ مربية الأطفال البريطانية لويز وودورد بهزِّ رضيع حتى الموت في مدينة نيوتن بولاية ماساتشوستس، لم تكتفِ بإعلان... ### عن منصة معنى «معنى»، مؤسسة ثقافية تقدّمية ودار نشر تهتم بالفلسفة والمعرفة والفنون، عبر مجموعة متنوعة من المواد المقروءة والمسموعة والمرئية. انطلقت في 20 مارس 2019، بهدف إثراء المحتوى العربي، ورفع ذائقة ووعي المتلقّي المحلي والدولي، عبر الإنتاج الأصيل للمنصة والترجمة ونقل المعارف. ### روابط سريعة ### التصنيفات ### مرحبا بك! قم بتسجيل الدخول إلى حسابك تذكرني ### قم بإنشاء حساب جديد! املأ النموذج أدناه للتسجيل ### طلب إعادة تعيين كلمة المرور يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان البريد الإلكتروني لإعادة تعيين كلمة المرور الخاصة بك. ### Add New Playlist - Select Visibility -PublicPrivate No Result عرض جميع النتائج - 00:00 00:00 - 00:00 00:00
article
Arabic
ar
الفنّ التجريدي: بين الماضي والحاضر - منصة معنى الثقافية
https://mana.net/abstract-art/
1,870
لم تكن هذه «الأنماط» (styles) أنماطًا عرضيةً أو تعتمد على ذوق أو ميل الرسام كوسيلة لتحقيق هدفٍ ما من البحث الفني.
sentence
لم تكن هذه «الأنماط» (styles) أنماطًا عرضيةً أو تعتمد على ذوق أو ميل الرسام كوسيلة لتحقيق هدفٍ ما من البحث الفني. وخير مثال على ذلك هو الفنان الذي غالبًا ما ينظر إلى عمله على أنّه ذروة التجريد الهندسي: بيت موندريان. إنّ لوحات بيت موندريان المكونة من شبكات (grids) ذات الخطوط السوداء والأجزاء الملونة على خلفية بيضاء؛ تهدف إلى استحضار «حقيقة أعلى».
paragraph
Arabic
ar
الفنّ التجريدي: بين الماضي والحاضر - منصة معنى الثقافية
https://mana.net/abstract-art/
1,871
وخير مثال على ذلك هو الفنان الذي غالبًا ما ينظر إلى عمله على أنّه ذروة التجريد الهندسي: بيت موندريان.
sentence
لم تكن هذه «الأنماط» (styles) أنماطًا عرضيةً أو تعتمد على ذوق أو ميل الرسام كوسيلة لتحقيق هدفٍ ما من البحث الفني. وخير مثال على ذلك هو الفنان الذي غالبًا ما ينظر إلى عمله على أنّه ذروة التجريد الهندسي: بيت موندريان. إنّ لوحات بيت موندريان المكونة من شبكات (grids) ذات الخطوط السوداء والأجزاء الملونة على خلفية بيضاء؛ تهدف إلى استحضار «حقيقة أعلى».
paragraph
Arabic
ar
الفنّ التجريدي: بين الماضي والحاضر - منصة معنى الثقافية
https://mana.net/abstract-art/
1,872
إنّ لوحات بيت موندريان المكونة من شبكات (grids) ذات الخطوط السوداء والأجزاء الملونة على خلفية بيضاء؛ تهدف إلى استحضار «حقيقة أعلى».
sentence
لم تكن هذه «الأنماط» (styles) أنماطًا عرضيةً أو تعتمد على ذوق أو ميل الرسام كوسيلة لتحقيق هدفٍ ما من البحث الفني. وخير مثال على ذلك هو الفنان الذي غالبًا ما ينظر إلى عمله على أنّه ذروة التجريد الهندسي: بيت موندريان. إنّ لوحات بيت موندريان المكونة من شبكات (grids) ذات الخطوط السوداء والأجزاء الملونة على خلفية بيضاء؛ تهدف إلى استحضار «حقيقة أعلى».
paragraph
Arabic
ar
الفنّ التجريدي: بين الماضي والحاضر - منصة معنى الثقافية
https://mana.net/abstract-art/
1,873
بالنسبة إلى موندريان، كان الفن في جوهره معارضًا للواقع؛ «لأن الواقع يتعارض مع الروحي». بغض النظر عن هذه اللوحة الأشهر لموندريان، فإنّ جوانب الرسم التي تهم هذا الفنان حقًا لم تكن الجوانب المحددة للموضوع -أيّ ماذا أو ما يتم تصويره في اللوحة مثلًا- بل الجوانب القابلة للفهم عالميًا للشكل والخط واللون. إنّ لوحات موندريان، مثلها مثل لوحات الفنانين الآخرين، هي محاولة لاستخلاص الشكل واللون من أجل الاقتراب من ذلك الجوهر العالمي والروحي للفن.
paragraph
لا توجد منتجات في سلة المشتريات. No Result عرض جميع النتائج الثلاثاء, سبتمبر 10, 2024 No Result عرض جميع النتائج No Result عرض جميع النتائج # الفنّ التجريدي: بين الماضي والحاضر ## ترجمة: أنطونيوس نادر AA AA إعادة تعيين فنٌ مليء بالتحديات ثمّة خطٌ رفيع يفصل بين الفن التجريدي ومجرد الزخرفة، ولوحة «رقم 32» (نُشرت عام 1950)، لجاكسون بولوك تتأرجح بين هذا الخطّ. فهي لا تشير إلى معنىً واضح، ولكن لا يمكن القول إنّها بلا معنى على الإطلاق. كما أنّها ليست معبّرة بشكلٍ مباشر، ولا يعني هذا أنها لا تعبّر عن مدلولٍ ما. تحمل هذه اللوحة الكثير من المضامين عن الفن الغربي بالنسبة إلى شخصٍ خبيرٍ في تاريخ الفن؛ أما بالنسبة إلى شخصٍ عادي، فقد يراها عملًا مبتذلًا بالكاد يعبّر عن أمرٍ ما. اللوحة شبكة من الخطوط وبقعٍ من الألوان، رُسمت عن طريق صبّ طلاءٍ رخيص بعشوائيةٍ مباشرة على القماش. تتكون اللوحة من طلاءٍ أسود فقط وقماشٍ خام. واللوحة ضخمة؛ إذ يبلغ طولها تسعة أقدام وعرضها خمسة عشر قدمًا، وتغطي مجال رؤية المشاهد أثناء اقترابه منها. تقليديًّا، حتى اللوحات التجريدية تتكون من أجزاءٍ مترابطة مع بؤر تركيز (emphases) وعمقٍ يُنقل من خلال اللون والظلال، ولكن «رقم 32» ليس لها أجزاء؛ إنّها تتكون من تعالقات، والبؤرة فيها تكمن عبر امتداد سطح القماش المستطيل. يمنحها ما سبق عمقًا سطحيًا، وربما لا عمق فيها: مجرّد طلاء على قماش. إنّها عبث بالشكل واللون. حتى اسمها، ببساطة رقمٌ معيّن – رقم 32 – يجعلها تنأى بنفسها عن أي فكرة مفادها أنها تعكس مدلولًا محدّدًا. تشير عناوين أعمال بولوك الأخرى إلى نوعٍ من الاختبار الشخصي، وإلى الاستخدام السمفوني المتعدد الطبقات للون والملمس؛ خذ مثلًا لوحاته التي تحمل اسم: «إيقاع الخريف»، و«الضباب الأرجواني»، و«الأقطاب الزرقاء»، و«انعكاس الدنقلة الكبير». هذا لا ينطبق على لوحة «رقم 32»؛ شكلها الخام وبساطتها دليل على أنّ الفنان لم يخطط مسبقًا لرسمها؛ أيّ أنّه لم ينتق الألوان ولا الطبقات. يبدو بولوك هنا أكثر حضورًا، من خلال لمساته الحادة. بالنسبة إلى مؤيديّ عمل بولوك، تختصر هذه اللوحة خلاصة نظرة الفنان الجمالية. أما بالنسبة للبعض الآخر، فهي لوحة مبتذلة. وصف جوزيف بويس -النحات الألماني في فترة ما بعد الحرب- الفنَّ التجريدي الأمريكي بأنه مجرد «تغليف»، أيّ سطح بلا محتوى. في هذا الصدد، قد يتفق البعض أن لوحة «رقم 32» تجسد فراغ الفكر والشعور ذاك. فقد رأى الروائي والناقد الفني روبرت كوتس أن فن بولوك لم يكن سوى «انفجارات» غير منظمة من الطاقة العشوائية. غير أنّ طائفة كبيرة من متذوقي الفن التجريدي لا تروق إليهم أعمال بولوك ويرونها فنًّا محيرًا، حتى إنّ بعضهم يراها إهانةً للذوق أو الحسّ السليم. عُرف بولوك بلقب: «جاك فنان النقط» (Jack the Dripper) [1] في الأوساط الإعلامية المشككة بعمله حيث ادعى كثر أن أيّ شخص يمكنه أن يرسم كما يرسم بولوك إلّا أنّ أحدًا لم يتجرأ على فعل ذلك. «رقم 32» - جاكسون بولوك«رقم 32» – جاكسون بولوك بيد أنّ هذا هو مغزى الفن التجريدي في التقليد الغربي: إنّه تحدّ. وفي ظل الكثير هذه التحديات، تُعد لوحة « رقم 32» اللوحة الأكثر تمثيلًا لهذا الفن. قصة الفنّ التجريدي مسار قصة الفن التجريدي مضمّنة في الدراسات التاريخية الفنية، إلّا أنّ المحطات الرئيسة لهذا المسار كانت محط تغييرات مفاجئة كلما اكتشف مؤرخوّ الفن حقائق جديدة. انطلق مسار الفن التجريدي بدءًا من القرن التاسع عشر وما تلاه؛ حيث استفاد الفنانون من مادة الطلاء والجوانب الشكلية للرسم مثل اللون والدرجة والخطوط. يُعرف هذا الانشغال بالجوانب غير التمثيلية (non-representative) للفن باسم «الشكلانية»، لأنّه انشغال «بالشكل»، أيّ بتوسل شكل المحتوى بدلًا من المحتوى في ذاته. بالنسبة إلى الفنانين في القرن التاسع عشر، صُنّف الفن التجريدي على أنّه «فنٌّ من أجل الفنّ»، وكانت الفكرة الشائعة مفادها أنّ المتذوق للفن يمكنه الاستمتاع بالعمل دون اللجوء إلى معنى أو حتى أي شيء آخر يمثل أمرًا ما. تمثّل لوحة «الموسيقى الهادئة باللّونين الأسود والذهبي – الصاروخ الساقط» (1872)، للفنان جيمس مكنيل ويسلر هذا الاتجاه الذي تبلور لاحقًا في الفن التجريدي.  إنّ مشهد ويسلر الغامض من الناحية المكانيّة يقترب إلى التجريد، وذلك بمحاولته نقل الشعور أو الانطباع الخاص بالمشهد بدلًا من إعادة إنتاجه بحذافيره. «الموسيقى الهادئة باللونين الأسود والذهبي - الصاروخ الساقط» (1872-1877) - جيمس أبوت مكنيل ويسلير«الموسيقى الهادئة باللونين الأسود والذهبي – الصاروخ الساقط» (1872-1877) – جيمس أبوت مكنيل ويسلير في عام 1877، انتقد جون روسكين – أبرز نقّاد بريطانيا في ذلك الوقت – عمل ويسلير هذا نقدًا لاذعًا فشبهه «بمن قام برمي الطلاء في وجه الجمهور». تأثر ويسلر بهذا الكلام، فرفع دعوى قضائية ضد روسكين، بيد أنّه خسرها لأن المسؤولين عرضوا اللوحة -خطأً- مقلوبةً على المحكمة. أفلس ويسلير بسبب هذه القضية، لكن مسيرة تطور الفن التجريدي استمرت. من ناحيةٍ أخرى، تحديد أول فنان تجريدي في العالم موضوع نزاع. في نظر أبحاث تاريخ الفن التقليدية، كان فاسيلي كاندينسكي – فنان روسي الجنسية رسم لوحات تجريدية بالكامل في مطلع عام 1911- هو أول فنان تجريدي. لم ينل الفن التجريدي الرائد لهيلما أف كلينت تقديرًا إلا قبل سنوات قريبة. هذه صورة للمعرض الشهير في  متحف غاغينهايم، عام 2018 .لم ينل الفن التجريدي الرائد لهيلما أف كلينت تقديرًا إلا قبل سنوات قريبة. هذه صورة للمعرض الشهير في  متحف غاغينهايم، عام 2018 . ولكن في الآونة الأخيرة، وبفضل المعرض الرائد في متحف مقاطعة لوس أنجلوس للفنون في عام 1986 الذي حمل اسم «الروحانية في الفن: الرسم التجريدي 1890 – 1985»، وقع الاختيار على هيلما أف كلينت كأول رسامة تجريدية. بدأت كلينت في رسم لوحات تجريدية بدءًا من عام 1906، وحملت مجموعتها عنوان «الفوضى البدائية». كانت الفنانة متكتمة في ما يتعلق بأعمالها التجريدية، ولم تُعرض أيّ منها في معارض عامة، وبقيت غير معروفة حتى أزيح عنها الستار مؤخرًا. ولعل الجدال حول هوية أول من مارس الفن التجريدي سيستم، لكن الحقيقة الأكثر أهمية هي أن العديد من الفنانين الأوروبيين البارزين قد توصّلوا في أعمالهم إلى التجريد بحلول الحرب العالمية الأولى. لقد وجد كل منهم طريقته الخاصة في التخلي عن الفن التشخيصي (figurative painting). وجديرٌ بالذكر أنّه لم تكن هناك حركة «تجريدية» دولية ذات رؤية أو بيان مشترك. في ضوء ذلك، فإن السؤال الملحّ حقًا هو: لمَ لمْ يتبنى الفنانون الغربيون الفن التجريدي على امتداد قرون عديدة؟ لماذا كان التجريد غير ضروري أو لا معنى له أو غير مناسب أو حتى لا يمكن تقبّله لقرونٍ متوالية في الفن الغربي؟ ظهرت العديد من التفسيرات لشرح ذلك. إحدى النظريات الأكثر وضوحًا هي أن ظهور التصوير الفوتوغرافي بوصفه شكلًا من أشكال الفن، إضافةً إلى تطور الفن الحديث، سببان رئيسان لإزاحة الرسم التشخيصي. ثمّة إجابات أخرى غير ملموسة لاستكشاف الأسباب: ربما عندما أصبحت الأعمال الفنية قابلة للاستهالاك بشكل متزايد، مثل السلع، بات من السهولة فصل اللوحات والمنحوتات عن التجارب المحددة لمبدعيها. ربما أدت الحداثة في الغرب إلى إفراغ الفن من المحتوى التشخيصي؛ مما دفع الفنانين أيضًا إلى التخلي عن التمثيل التشخيصي. كل من هذه الإجابات معقدة وتتطلب الكثير من الشرح، ولا يمكن إلا أن تكون تخمينات. لا توجد إجابة واضحة لهذه المسألة. ربما يكون من الأفضل طرح السؤال حول سبب تقبّل الفن التجريدي فنًّا من الفنون الرسمية في تاريخ الفن الغربي في مرحلة معينة على علماء الأنثروبولوجيا بدلًا من طرحها على مؤرخي الفن. فما هو واضح أن الفن التجريدي كان موجودًا دائمًا في مناطق أخرى من العالم. ما جعل الفن التجريدي فنًّا حديثًا على وجه التحديد في العالم الغربي هو نظام المعارض، الذي أعطى القيمة الفنية للأعمال المعروضة. وكما هو واضح فقد ازدهر التجريد لآلاف السنين المناطق الشرقية والجنوبية من العالم، دون عناء التحقق من مكانة الأعمال المعروضة في الصالونات [والمعارض، كما هو في العالم الغربي]. الواقع الافتراضي و«الافتراضية» يتبنى بيبي كرمل وهو مؤرخ فني، في كتابه « الفن التجريدي: تاريخ عالمي»، فكرة أنّ الفن التجريدي كان دائمًا موجودًا بشكل طبيعي عندما ننظر إليه نظرة شاملة وعالمية، بيد أنّه يتحاشى طرح نظرية عن تطور الفن التجريدي. بالنسبة إلى كرمل، فإنّ هذا الفنّ متجذر في العالم الحقيقي، وهو ليس فنًّا «مجردًا» على الإطلاق، كما أنّه تقليد عالمي وليس محليًا. في دراسته حول الفن التجريدي يقسم العمل الفني إلى خمس فئات واسعة تنتمي إلى العالم الحقيقي: الأجسام، والمناظر الطبيعية، والكون، والبنى، والعلامات والأنماط. من خلال فحص الفن التجريدي بهذه الطريقة، يرى كرمل في اللوحات التجريدية موضوعات قابلة للتحليل، بعكس النقاد والمؤرخين الأرثوذكسيين الذين رأوا فيها مجرّد توليفات شكلية مكوّنة من لون وشكل. ربما يكون من الأفضل أن يطلق على الفن التجريدي: فن ما تم تجريده (abstracted art)؛ لأنّ الفنانين التجريديين عادةً ما يستخلصون ويجرّدون تعبيرات التجارب في شكل ولون،  أكثر من كونها توليفات مكونة من شكل ولون. ومرّد ذلك الطبيعة الجوهرية للرسم والنحت؛ فهما (الشكل اللّون) وسيطان للتعبير، مثل الشاشة أو المسرح لخيال الفنان. كما هو الحال في المسرح أو السينما، فإنّ جمهور اللوحة أو المنحوتة يعلّق معتقداته من أجل أن يتقبل المشهد. من المفيد التفكير في اللوحة التشخيصية التقليدية أو النحت على أنها حقيقة افتراضية. إذْ استخدم الفنانون لقرون عديدة الحيل البصرية -مثل المنظور الخطي، والتقصير المسبق، والتظليل- لمحاكاة الطريقة التي ندرك بها الأشياء في الفضاء الحقيقي. إنّ المشاهد تُنشأ في فضاء افتراضي – سواء كانت القاعدة التي تدعم التمثال أو القماش – ليراها المشاهدون بوصفها خدعة بصرية. «القديس بطرس شفاء أحد الأشخاص وبعث تابيثا من الموت» ماسولينو دي بانيكال. اعتمد الرسم الغربي قبل القرن العشرين على الحيل البصرية لخلق واقع افتراضي. إحدى هذه الحيل هي المنظور الخطي، وهذه اللوحة هي أول مثال لاستخدام نقطة تلاشٍ متسقة.«القديس بطرس شفاء أحد الأشخاص وبعث تابيثا من الموت» ماسولينو دي بانيكال. اعتمد الرسم الغربي قبل القرن العشرين على الحيل البصرية لخلق واقع افتراضي. إحدى هذه الحيل هي المنظور الخطي، وهذه اللوحة هي أول مثال لاستخدام نقطة تلاشٍ متسقة. يستمتع مشاهدوّ الأعمال الفنية العظيمة معنى ما يُرسم، ويقدرون الطريقة التي يتجلّى فيها الوهم عبر تمازج اللون والشكل. يبقى الفن التجريدي، إلى حدٍ ما، ضمن إطار التجربة الجمالية. فقد سعت حركات الفن الحديث التي أدت إلى التجريد -أيّ «مدارس الفن»، مثل الانطباعية والفاوفية والتكعيبية- إلى تمثيل العالم بشكل مختلف عن كل الفنون التي سبقتها. إذْ ادعوا الاقتراب من الحقيقة الذاتية عبر تهميش جميع الحيل الوهمية التقليدية التي حاولت إعادة إنتاج الواقع بحذافيره كحقيقة موضوعية. «الأحمر والأصفر والأزرق» (1925) واسيلي كاندينسكي.  كان كاندينسكي يعدّ لفترةٍ طويلة أب الرسم التجريدي الغربي.«الأحمر والأصفر والأزرق» (1925) واسيلي كاندينسكي.  كان كاندينسكي يعدّ لفترةٍ طويلة أب الرسم التجريدي الغربي. بالنسبة إلى هذه المدارس، أصبح الفن أقل من أن يوصف بأنّه واقع افتراضي، لكنه مع ذلك احتفظ بالافتراضية، وأصبح افتراضيًا. لقد أخذ الفن التجريدي مسار التطور هذا إلى أقصاه: من الواقع الافتراضي إلى الافتراضية. ماذا تعني «الافتراضية» هنا؟ إنّها الوجود كجوهر وتأثير، ولكن بدون اللجوء إلى الواقع. اللوحة التجريدية التي رسمها كاندينسكي، على سبيل المثال، ما زالت تُعدّ علاقة متبادلة بين الشكل واللون، و تعتمد على الرسم كمستوى تخطيطي: إنها نافذة تطلّ على «الواقع» الفردي الذي تصوّره كاندينسكي. وما تزال العناصر في لوحات كاندينسكي تحظى بعلاقة متبادلة، كما هو الحال في فضاء الواقع الافتراضي للوحة التشخيصية؛ فجوهر الرسم سليم إذ إنّ ذلك الفضاء الافتراضي ما زال موجودًا. عندما يكون الفن التجريدي بناءً خالصًا، ويتخلص من المساحة الافتراضية الملازمة للرسم والنحت، يصبح متميزًا عنهما. وصف دونالد جود الفنان التخفيفي (minimalist) مثل هذه الأعمال الفنية بأنها «أجسام محدّدة» (Specific Objects). إنّه مصطلح غير دقيق، ولكنه يصلح لإظهار أن مثل هذه الأعمال الفنية ليست رسمًا ولا نحتًا، ولكنها فئة أخرى تمامًا. رأى دونالد جود أن أعماله وأعمال العديد من معاصريه تشغل مساحة هجينة، لا هي لوحات ولا هي نحت. عمل دون عنوان لدونالد جود. استخدم جود هذا المصطلح لوصف أعماله الخاصة، ولكنه ينطبق على لوحات كازيمير ماليفيتش وفرانك ستيلا أحادية اللون، والتي تجعل اللوحة تندمج مع نفسها بالكامل، من أجل الوصول للتأثير الذي يأمل العمل في تحقيقه. في مثل هذه الأعمال، لم يعد قماش اللّوحة (أو القاعدة) سطحًا تتفاعل فيه الأشكال والألوان في الفضاء الافتراضي. بدلاً من ذلك، تتفاعل الأشكال والألوان في الفضاء الحقيقي، في فضائنا. تختلف معايير النجاح أو الفشل لهذه الأعمال عن الخصائص التقليدية للرسم والنحت. رأى جود أنّ خصائص الرسم والنحت تقف في طريق ما أراد تحقيقه من خلال اللون والشكل. في رأيه، كان لـ «أجسامه المحددة» تأثيرًا أحدّ من غيرها. الواقع والأشكال الجديدة للإدراك الحسّي الرسم نفسه له ثلاثة أنواع عامة من التجريد؛ أولًا، ثمّة أسلوب تعبيري تُرسم فيه الأشكال بحركاتٍ غير مقيدة؛ ثم هناك التجريد الهندسي حيث يتم هيكلة الأشكال؛ أما النوع الثالث، فهو تجريد مجال اللون حيث يتم عرض مساحات من الألوان بطريقةٍ لا شكل واضح لها. لم تكن هذه «الأنماط» (styles) أنماطًا عرضيةً أو تعتمد على ذوق أو ميل الرسام كوسيلة لتحقيق هدفٍ ما من البحث الفني. وخير مثال على ذلك هو الفنان الذي غالبًا ما ينظر إلى عمله على أنّه ذروة التجريد الهندسي: بيت موندريان. إنّ لوحات بيت موندريان المكونة من شبكات (grids) ذات الخطوط السوداء والأجزاء الملونة على خلفية بيضاء؛ تهدف إلى استحضار «حقيقة أعلى». بالنسبة إلى موندريان، كان الفن في جوهره معارضًا للواقع؛ «لأن الواقع يتعارض مع الروحي». بغض النظر عن هذه اللوحة الأشهر لموندريان، فإنّ جوانب الرسم التي تهم هذا الفنان حقًا لم تكن الجوانب المحددة للموضوع -أيّ ماذا أو ما يتم تصويره في اللوحة مثلًا- بل الجوانب القابلة للفهم عالميًا للشكل والخط واللون. إنّ لوحات موندريان، مثلها مثل لوحات الفنانين الآخرين، هي محاولة لاستخلاص الشكل واللون من أجل الاقتراب من ذلك الجوهر العالمي والروحي للفن. عبّر موندريان عن رغبته في الوصول إلى «أساس» الأشياء من خلال الحدس، كالعديد من الفنانين التجريديين الآخرين في النصف الأول من القرن العشرين الذين رغبوا في الوصول إلى قوى غير مرئية حولنا، ولكنها معروفة أو محدوسة. «التكوين الثاني باللون الأحمر والأزرق والأصفر» (1930) - بيت موندريان«التكوين الثاني باللون الأحمر والأزرق والأصفر» (1930) – بيت موندريان في أواخر القرن التاسع عشر، لاحظ العلماء بشكلٍ أفضل مما سبق القوى غير المرئية مع انتشار التقنيات الجديدة، وأصبح من الواضح أن العالم أرحب مما يبدو للعين. في الوقت نفسه، ظهرت حركات روحية بديلة جمعت بين الأفكار الأفلاطونية والتصوف. كان كلينت وموندريان من بين العديد من الفنانين الذين انغمسوا في أشكال الروحانية خارج العوالم التقليدية للدين. اعتقدت كلينت أن لوحاتها هي وحي عالم روحي، وأن مهمتها كانت العمل «على مستوى روحاني» لتمثيل روح الإنسان، بدلًا من صورته الفانية. بحلول عشرينيات القرن الماضي، كانت نظرية فرويد عن للعقل البشري قد تغلغلت أيضًا في عالم الفن.  كذلك السريالية، وهي حركة منظمة بإحكام بدأت مع بعض الفنانين الذين سعوا إلى التنقيب عن الإمكانات الإبداعية للعقل الباطن، وهي الحركة الثقافية التي كانت سائدة في أوروبا بين الحربين العالميتين. لم تكن السريالية دوغمائية في محاولتها لاستكشاف اللاوعي، ولذلك ظهر عدد من الأساليب والطرق لمحاولة إخراج اللاوعي إلى السطح. إحدى هذه الأساليب كان الرسم الآلي (Automatism)، وهي عملية يتخلى فيها الفنان عن السيطرة الواعية لليد التي ترسم  أو تصور. في هذا المجال، تبنى الفنانون مثل أندريه ماسون وخوان ميرو الفرصة لبناء صورهم باستخدام حركات حرّة، وحتى إلقاء الطلاء على القماش. طور أرشيل غوركي -هو مهاجر أرمني عاش في الولايات المتحدة- أسلوبًا في الرسم يدمج بين الرسم الآلي وتجريد مجال الألوان. لوحاته في الأربعينيات حجمُها ضخم – ومرد ذلك تأثره بأعماله السابقة كفنان جداري مُعيّن من الدولة خلال السنوات الأخيرة من الكساد الكبير – لكنها معبّرة وغنائية في الرسم بالفرشاة. ألهم إدماج غوركي للأنماط جيلًا واسعًا من الفنانين الأمريكيين في فترة ما بعد الحرب لاحتضان التجريد الواسع النطاق. ما نسميه الآن «التعبيرية التجريدية»، وكان ذاك الجيل في الواقع مجموعة فضفاضة من الفنانين الذين يستخدمون أنماطًا متعدّدة من أنماط التجريد. ربما كان القاسم المشترك بين هؤلاء الفنانين – على الأقل في السنوات الأولى – هو دعم جيل جديد من النقاد بقيادة كليمنت غرينبيرغ، الذي كان يعتقد أن التجريد هو التعبير الأسمى للفن الغربي. «الكبد هو مشط الديك» (1944) - أرشيل جوركي.«الكبد هو مشط الديك» (1944) – أرشيل جوركي. الحداثة ومصير الفنّ الغربي كان يُعتقد في بعض الأوساط الفكرية المؤثرة أنّ الفن يتقدم نحو هدف؛ وهذا المضمون يشتمل عليه مصطلح «الطليعية» (Avant-garde)، الذي يُوصف به الفنّانون الذين يبتكرون أرضية جمالية جديدة. أصل المصطلح فرنسي يُطلق على الجنود الذين يتقدمون إلى مناطق جديدة. بالنسبة إلى غرينبيرغ، لم يكن هؤلاء الفنّانون يوسّعون حدود إمكانات الفن؛ بل كانوا يتقدمون نحو الهدف الحقيقي والمفرد لكل شكل فني. يُعدّ غرينبيرغ شخصية مهمة في تاريخ الفن التجريدي، وذلك لأمرين: بوصفه مناصرًا رائدًا في مسألة تفوق الفن التجريدي على غيره من أنواع الرسم، وتأكيده للقوة التي امتلكها هذا الفن. كان ناقدًا في اللجنة الأمريكية للحريّة الثقافية التي تمولها الدولة، وهي مجموعة تم إنشاؤها لتعزيز الفن الأمريكي على المستوى الدولي. أصبحت أفكار غرينبيرغ مؤثرة عندما كانت الولايات المتحدة جزءًا من الحرب على الفاشية والنازية، وخلال الحرب الباردة اللاحقة ضد الشيوعية السوفيتية. كانت معايير الفن الفاشي والسوفياتي واضحة، وهي ما تحددها السلطات الثقافية أنها كذلك، بيد أنّه ما لم يكن واضحًا هو معايير الفن «الجيد» وتحديدًا في الغرب الديمقراطي. كان الماركسيون هم من تعاطف مع غرينبيرغ في البداية، لكن ارتبط تفكيره بشكلٍ متزايد بالهيمنة الثقافية الأمريكية. بالنسبة إليه، كان التجريد في أعمال بولوك فنًا مثاليًا لمجتمع ديمقراطي. تتجلى الحداثة في الفن، وفقًا لغرينبيرغ، في إطار التنوير الأوروبي؛ أيّ في فترة ازدهار الأفكار الفلسفية والعلمية التي أعطت الأولوية للعقل. في مقالته المؤثرة « الرسم الحداثي» (1961)، وصفَ غرينبيرغ إيمانويل كانط – الفيلسوف الألماني في عصر التنوير – بأنّه «أول حداثي حقيقي». كان أسلوب كانط في «النقد» هو استخدام العقل لنقد العقل بغرض توضيحه، ومنحه استقلالية عن أنواع التفكير الأخرى. «أولمبيا» - إدوارد مانيه (1863). بالنسبة إلى كليمنت غرينبيرغ، كان مانيه أول رسام حداثي. لقد رسم مانيه لوحاته بأسلوبٍ مسطّح بشكلٍ متعمد.«أولمبيا» – إدوارد مانيه (1863). بالنسبة إلى كليمنت غرينبيرغ، كان مانيه أول رسام حداثي. لقد رسم مانيه لوحاته بأسلوبٍ مسطّح بشكلٍ متعمد. بالطريقة نفسها، كان الرسامون الحداثيون – من إدوارد مانيه في القرن التاسع عشر إلى موريس لويس، وهو رسام يعمل ينتمي إلى رسامي أسلوب مجال ألوان في الولايات المتحدة في الوقت الذي كتب فيه غرينبيرغ مقالته – يعملون على ترسيخ الفن التعبيري «بشكل صارم في مجال تخصصه». رأى غرينبيرغ أن وضوح الفن التجريدي -الذي كان صادقًا بالنسبة إلى الوسيط الذي يُعبّر من خلاله- معارضٌ لـ«الفن الشعبي المبتذل [الكيتش]» الذي ينُتج على نطاق واسع في الثقافة الشعبية. إن إزالة «الكيتش» كانت مسألة استجلاء وتوضيح تحتاجها جميع الفنون لكي تصبح تعبيرًا عن إمكاناتها الجمالية الكامنة. اللوحات مسطّحة، وإيهام العمق الذي نجده في معظم الفن الغربي كان انحرافًا عن جوهر فن الرسم ذاته. كانت استقلالية الشكل الفني في جميع خصائصه دون أن تتلوث بأشكال فنية أخرى. وفقًا لغرينبيرغ، يعدّ الشكل واللون من أهم خصائص الرسم، و أفضل تمثيل لها يكون بشكلٍ مسطّح. وهكذا دافع غرينبيرغ عن «التسطيح» الذي تجلّى في لوحات الفنانين الأمريكيين التجريدية مثل جاكسون بولوك باعتباره تحقيقًا لهذا الوضوح الحداثي. لقد ضم هؤلاء الفنانين معًا ضمن فريق واحد، وهم يمثّلون المرحلة التالية في الحداثة، وقد حلّت رؤيتهم الأمريكية المميزة محلّ الفن الأوروبي الطليعي. وفي الوقت الذي أصبح فيه الفن التجريدي الأمريكي مهيمنًا، تراجعت هيمنة غرينبيرغ النقدية، وظهرت أشكال جديدة من الفن الطليعي، مستوحاة مباشرة من الثقافة الجماهيرية، وحلّت محلّ التعبيرية التجريدية في المخيال العام. تبنى فنانوّ «البوب» مثل: آندي وارهول، وريتشارد هاميلتون هذا النوع من «الفن الشعبي المبتذل» الذي رآه غرينبيرغ تلويثًا للفن الحقيقي. استمرت الأعمال الفنية التجريدية، ولكن تخلّى الفنّانون التجريديون الأكثر جرأة عن الفكرة الصارمة «للنقد الحداثي»، وعن الوضوح المتعلق بخصوصية الوسيط الفني، وذلك لصالح أشكال أخرى من التعبير. نظر فنانوّ «ما بعد الحداثة» إلى السخرية وعملية الرسم نفسها، كطرق لتجاوز الطريق المسدود للحداثة. تبنى الألماني غيرهارد ريختر كلا النهجين؛ فبعض أعماله التجريدية في الستينيات كانت مصنوعة بممسحاتٍ بدلًا من الفرشاة، حتى يتمكن من لفت الانتباه إلى عملية صنع اللوحة نفسها. كانت «اللوحات التجريدية» البارزة الأخرى التي رسمها ريختر في الواقع صورًا واقعية مرسومة بعناية تعكس لوحاته التجريدية الأخرى. أصبحت طلائعية الرسم التجريدي مفهومية أكثر، ما جعل ضمنيًّا قضية الرسم تحظى باستقلالية أقل مما كان كان يعتقد النقاد الحداثيون. قلّد فنانوّ «نيو جيو»، مثل: الرسام بيتر هالي، والنحات أشلي بيكرتون اللغة البصرية للتجريد الهندسي، لكنهما دمجاها مع السلع الاستهلاكية بألوانٍ تجارية فاتحة وأحيانًا فلورية. منذ ذلك الجيل ما بعد الحداثي من الرسامين والنحاتين الممتد من الستينيات إلى التسعينيات، ازدهر التجريد متفرّعًا إلى عددٍ لا يُحصى من الأساليب والمقاربات بجوار الفن التشخيصي. هنا يمكن القول إنّ التجريد المتحرّر من عبء التوقعات الحداثية هو ببساطة نهج للتعبير مثل أيّ نهج آخر. وتجدر الإشارة إلى أنّ بعض الفنانين التجريديين استخدموا الحيل البصرية المستعملة في الفن التشخيصي – مثل المنظور والتظليل – في لوحاتهم. ولاستخدامهم هذا أهداف فريدة و غالبًا لا تهتم بالنظرية. قلّد فنانوّ «ما بعد الحداثة» مثل: بيتر هالي اللغة البصرية المستعملة في الفن التجريدي الحديث (في حالة بيتر، التجريد الهندسي)، للتعليق على طبيعة الفن والمعنى نفسه. تمثّل هذه الكتل الملونة «الخلايا» و«الأنابيب».قلّد فنانوّ «ما بعد الحداثة» مثل: بيتر هالي اللغة البصرية المستعملة في الفن التجريدي الحديث (في حالة بيتر، التجريد الهندسي)، للتعليق على طبيعة الفن والمعنى نفسه. تمثّل هذه الكتل الملونة «الخلايا» و«الأنابيب». هذا هو التحرّر نحو الأفضل بين الرسامين التجريديين الذين يمكنهم الالتزام برؤيةٍ فريدة بالرسم على القماش. لكن فكّ ارتباط الفن التجريدي عن إطاره الفلسفي الأوسع أدى أيضًا إلى انتشارٍ يثير التساؤل لأعمال تجريدية متنوعة قابلة للاستهلاك – بمعنى أنّها فقدت قيمتها، وباتت تُباع وتُشترى سريعًا بأسعارٍ مربحة – يشتريها المشترون المتضاربون. دفع هذا التحول الناقد جيري سالتز إلى كتابة: « الزومبي على الجدران: لماذا يبدو الكثير من التجريد الجديد متشابهًا؟». وقد شبه اللّوحات التجريدية بصورة «الزومبي»، تحقيرًا لأعمال عددٍ من الرسامين التجريديين البارزين، الذين استخدموا الفنّ وجماليته لتقديم أعمال مبتذلة. ومن المفارقات أن هؤلاء الفنانين نظروا إلى الشكلانية بوصفها فنًّا حداثيًّا متبنّين منظور غرينبيرغ، لكنهم بالطبع قدّموا أعمالًا في ظلّ فراغ تاريخي وبعد فترةٍ طويلة حين لم يُصبح التجريد مثيرًا للاهتمام أو راديكاليًا بأي وجه من الوجوه. في الواقع، لم يصل مشروع الحداثة  في الفن التجريدي إلى نهايته، بل النقد. إنّ النقد -أيّ الإطار الفلسفي الواسع الذي يصادق على الأعمال الفنية ويثمّنها لأهميتها الثقافية والتاريخية- هو ما فقد التوجه والسلطة. كان مسار الفن الغربي منذ عصر التنوير يتأرجح بين قطبي الدوغمائية النقدية والإبداع. تكمن المشكلة أنه في العقود الأخيرة، وفي ظلّ غياب أي مشروع نقدي متماسك، انجرف الفن نحو إرضاء اهتمامات دقيقة ومتنوعة تزداد باستمرار. في حين كانت هناك «حركات» و«مدارس» فنية -مصطلحان يشيران إلى الوجهة والانضباط- لم يعد لدينا الآن سوى «مشاهد». هذا ليس بالضرورة أمرًا سيئًا. ولكن في عالم حيث «كل شيء مقبول – anything goes»، لا يوجد مجال لهذا النوع من الابتكار والتجاوز الذي أدى إلى ظهور الفن التجريدي في الغرب، وهذا ما جعل الفن الحديث فنًّا مثيرًا للغاية. من الصعب في هذه اللحظة التاريخية أن ندرك ما الذي جعل لوحة بولوك «رقم 32» مثيرة للانقسام، ومخلخلةً جدًا للمعايير، وفي الوقت نفسه محتفظةً بقيمةٍ عالية جدًا لأولئك الذين يعتقدون أن للفنِّ مكانًا في المجتمع يتجاوز المتعة. [divider style=”solid” top=”20″ bottom=”20″] [1] واللقب كذلك يُلمح إلى القاتل المتسلسل في لندن آخر القرن التاسع عشر: جاك السفّاح Jack the ripper (مدير التحرير). ### خارج عقلك | توم تشاتفيلد – ت: محمد السعيد                  عندما يكون هاتفي النقال بين يديّ، هل أكون أنا الشخص نفسه لو كان الهاتف في غرفة أخرى؟ من ناحية،... ### الدراما في التعليم: مقاربات وتطبيقات | نعيم حيماد افتتاحيّة حظي استخدام الدراما في التعليمفي السنوات الأخيرة باهتمام كبير من قبل نخبة من المنظرين والممارسين للدراما في مجال التعليم.... ### الحقائق المخفية | دي بي سي بيير – ت: محمد السعيد       يحمل جبل كلسي خشن في غرب إيران عددًا من النقوش البارزة، من بينها لوحة طولها خمسة وعشرين مترًا منقوشة... ### التغلُّب على كاشف الكذب | كلاريسا سيباغ-مونتِنفيوري – ت: محمد السعيد          حين  اتُّهِمَتْ مربية الأطفال البريطانية لويز وودورد بهزِّ رضيع حتى الموت في مدينة نيوتن بولاية ماساتشوستس، لم تكتفِ بإعلان... ### عن منصة معنى «معنى»، مؤسسة ثقافية تقدّمية ودار نشر تهتم بالفلسفة والمعرفة والفنون، عبر مجموعة متنوعة من المواد المقروءة والمسموعة والمرئية. انطلقت في 20 مارس 2019، بهدف إثراء المحتوى العربي، ورفع ذائقة ووعي المتلقّي المحلي والدولي، عبر الإنتاج الأصيل للمنصة والترجمة ونقل المعارف. ### روابط سريعة ### التصنيفات ### مرحبا بك! قم بتسجيل الدخول إلى حسابك تذكرني ### قم بإنشاء حساب جديد! املأ النموذج أدناه للتسجيل ### طلب إعادة تعيين كلمة المرور يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان البريد الإلكتروني لإعادة تعيين كلمة المرور الخاصة بك. ### Add New Playlist - Select Visibility -PublicPrivate No Result عرض جميع النتائج - 00:00 00:00 - 00:00 00:00
article
Arabic
ar
الفنّ التجريدي: بين الماضي والحاضر - منصة معنى الثقافية
https://mana.net/abstract-art/
1,874
بالنسبة إلى موندريان، كان الفن في جوهره معارضًا للواقع؛ «لأن الواقع يتعارض مع الروحي».
sentence
بالنسبة إلى موندريان، كان الفن في جوهره معارضًا للواقع؛ «لأن الواقع يتعارض مع الروحي». بغض النظر عن هذه اللوحة الأشهر لموندريان، فإنّ جوانب الرسم التي تهم هذا الفنان حقًا لم تكن الجوانب المحددة للموضوع -أيّ ماذا أو ما يتم تصويره في اللوحة مثلًا- بل الجوانب القابلة للفهم عالميًا للشكل والخط واللون. إنّ لوحات موندريان، مثلها مثل لوحات الفنانين الآخرين، هي محاولة لاستخلاص الشكل واللون من أجل الاقتراب من ذلك الجوهر العالمي والروحي للفن.
paragraph
Arabic
ar
الفنّ التجريدي: بين الماضي والحاضر - منصة معنى الثقافية
https://mana.net/abstract-art/
1,875
بغض النظر عن هذه اللوحة الأشهر لموندريان، فإنّ جوانب الرسم التي تهم هذا الفنان حقًا لم تكن الجوانب المحددة للموضوع -أيّ ماذا أو ما يتم تصويره في اللوحة مثلًا- بل الجوانب القابلة للفهم عالميًا للشكل والخط واللون.
sentence
بالنسبة إلى موندريان، كان الفن في جوهره معارضًا للواقع؛ «لأن الواقع يتعارض مع الروحي». بغض النظر عن هذه اللوحة الأشهر لموندريان، فإنّ جوانب الرسم التي تهم هذا الفنان حقًا لم تكن الجوانب المحددة للموضوع -أيّ ماذا أو ما يتم تصويره في اللوحة مثلًا- بل الجوانب القابلة للفهم عالميًا للشكل والخط واللون. إنّ لوحات موندريان، مثلها مثل لوحات الفنانين الآخرين، هي محاولة لاستخلاص الشكل واللون من أجل الاقتراب من ذلك الجوهر العالمي والروحي للفن.
paragraph
Arabic
ar
الفنّ التجريدي: بين الماضي والحاضر - منصة معنى الثقافية
https://mana.net/abstract-art/
1,876
إنّ لوحات موندريان، مثلها مثل لوحات الفنانين الآخرين، هي محاولة لاستخلاص الشكل واللون من أجل الاقتراب من ذلك الجوهر العالمي والروحي للفن.
sentence
بالنسبة إلى موندريان، كان الفن في جوهره معارضًا للواقع؛ «لأن الواقع يتعارض مع الروحي». بغض النظر عن هذه اللوحة الأشهر لموندريان، فإنّ جوانب الرسم التي تهم هذا الفنان حقًا لم تكن الجوانب المحددة للموضوع -أيّ ماذا أو ما يتم تصويره في اللوحة مثلًا- بل الجوانب القابلة للفهم عالميًا للشكل والخط واللون. إنّ لوحات موندريان، مثلها مثل لوحات الفنانين الآخرين، هي محاولة لاستخلاص الشكل واللون من أجل الاقتراب من ذلك الجوهر العالمي والروحي للفن.
paragraph
Arabic
ar
الفنّ التجريدي: بين الماضي والحاضر - منصة معنى الثقافية
https://mana.net/abstract-art/
1,877
عبّر موندريان عن رغبته في الوصول إلى «أساس» الأشياء من خلال الحدس، كالعديد من الفنانين التجريديين الآخرين في النصف الأول من القرن العشرين الذين رغبوا في الوصول إلى قوى غير مرئية حولنا، ولكنها معروفة أو محدوسة.
paragraph
لا توجد منتجات في سلة المشتريات. No Result عرض جميع النتائج الثلاثاء, سبتمبر 10, 2024 No Result عرض جميع النتائج No Result عرض جميع النتائج # الفنّ التجريدي: بين الماضي والحاضر ## ترجمة: أنطونيوس نادر AA AA إعادة تعيين فنٌ مليء بالتحديات ثمّة خطٌ رفيع يفصل بين الفن التجريدي ومجرد الزخرفة، ولوحة «رقم 32» (نُشرت عام 1950)، لجاكسون بولوك تتأرجح بين هذا الخطّ. فهي لا تشير إلى معنىً واضح، ولكن لا يمكن القول إنّها بلا معنى على الإطلاق. كما أنّها ليست معبّرة بشكلٍ مباشر، ولا يعني هذا أنها لا تعبّر عن مدلولٍ ما. تحمل هذه اللوحة الكثير من المضامين عن الفن الغربي بالنسبة إلى شخصٍ خبيرٍ في تاريخ الفن؛ أما بالنسبة إلى شخصٍ عادي، فقد يراها عملًا مبتذلًا بالكاد يعبّر عن أمرٍ ما. اللوحة شبكة من الخطوط وبقعٍ من الألوان، رُسمت عن طريق صبّ طلاءٍ رخيص بعشوائيةٍ مباشرة على القماش. تتكون اللوحة من طلاءٍ أسود فقط وقماشٍ خام. واللوحة ضخمة؛ إذ يبلغ طولها تسعة أقدام وعرضها خمسة عشر قدمًا، وتغطي مجال رؤية المشاهد أثناء اقترابه منها. تقليديًّا، حتى اللوحات التجريدية تتكون من أجزاءٍ مترابطة مع بؤر تركيز (emphases) وعمقٍ يُنقل من خلال اللون والظلال، ولكن «رقم 32» ليس لها أجزاء؛ إنّها تتكون من تعالقات، والبؤرة فيها تكمن عبر امتداد سطح القماش المستطيل. يمنحها ما سبق عمقًا سطحيًا، وربما لا عمق فيها: مجرّد طلاء على قماش. إنّها عبث بالشكل واللون. حتى اسمها، ببساطة رقمٌ معيّن – رقم 32 – يجعلها تنأى بنفسها عن أي فكرة مفادها أنها تعكس مدلولًا محدّدًا. تشير عناوين أعمال بولوك الأخرى إلى نوعٍ من الاختبار الشخصي، وإلى الاستخدام السمفوني المتعدد الطبقات للون والملمس؛ خذ مثلًا لوحاته التي تحمل اسم: «إيقاع الخريف»، و«الضباب الأرجواني»، و«الأقطاب الزرقاء»، و«انعكاس الدنقلة الكبير». هذا لا ينطبق على لوحة «رقم 32»؛ شكلها الخام وبساطتها دليل على أنّ الفنان لم يخطط مسبقًا لرسمها؛ أيّ أنّه لم ينتق الألوان ولا الطبقات. يبدو بولوك هنا أكثر حضورًا، من خلال لمساته الحادة. بالنسبة إلى مؤيديّ عمل بولوك، تختصر هذه اللوحة خلاصة نظرة الفنان الجمالية. أما بالنسبة للبعض الآخر، فهي لوحة مبتذلة. وصف جوزيف بويس -النحات الألماني في فترة ما بعد الحرب- الفنَّ التجريدي الأمريكي بأنه مجرد «تغليف»، أيّ سطح بلا محتوى. في هذا الصدد، قد يتفق البعض أن لوحة «رقم 32» تجسد فراغ الفكر والشعور ذاك. فقد رأى الروائي والناقد الفني روبرت كوتس أن فن بولوك لم يكن سوى «انفجارات» غير منظمة من الطاقة العشوائية. غير أنّ طائفة كبيرة من متذوقي الفن التجريدي لا تروق إليهم أعمال بولوك ويرونها فنًّا محيرًا، حتى إنّ بعضهم يراها إهانةً للذوق أو الحسّ السليم. عُرف بولوك بلقب: «جاك فنان النقط» (Jack the Dripper) [1] في الأوساط الإعلامية المشككة بعمله حيث ادعى كثر أن أيّ شخص يمكنه أن يرسم كما يرسم بولوك إلّا أنّ أحدًا لم يتجرأ على فعل ذلك. «رقم 32» - جاكسون بولوك«رقم 32» – جاكسون بولوك بيد أنّ هذا هو مغزى الفن التجريدي في التقليد الغربي: إنّه تحدّ. وفي ظل الكثير هذه التحديات، تُعد لوحة « رقم 32» اللوحة الأكثر تمثيلًا لهذا الفن. قصة الفنّ التجريدي مسار قصة الفن التجريدي مضمّنة في الدراسات التاريخية الفنية، إلّا أنّ المحطات الرئيسة لهذا المسار كانت محط تغييرات مفاجئة كلما اكتشف مؤرخوّ الفن حقائق جديدة. انطلق مسار الفن التجريدي بدءًا من القرن التاسع عشر وما تلاه؛ حيث استفاد الفنانون من مادة الطلاء والجوانب الشكلية للرسم مثل اللون والدرجة والخطوط. يُعرف هذا الانشغال بالجوانب غير التمثيلية (non-representative) للفن باسم «الشكلانية»، لأنّه انشغال «بالشكل»، أيّ بتوسل شكل المحتوى بدلًا من المحتوى في ذاته. بالنسبة إلى الفنانين في القرن التاسع عشر، صُنّف الفن التجريدي على أنّه «فنٌّ من أجل الفنّ»، وكانت الفكرة الشائعة مفادها أنّ المتذوق للفن يمكنه الاستمتاع بالعمل دون اللجوء إلى معنى أو حتى أي شيء آخر يمثل أمرًا ما. تمثّل لوحة «الموسيقى الهادئة باللّونين الأسود والذهبي – الصاروخ الساقط» (1872)، للفنان جيمس مكنيل ويسلر هذا الاتجاه الذي تبلور لاحقًا في الفن التجريدي.  إنّ مشهد ويسلر الغامض من الناحية المكانيّة يقترب إلى التجريد، وذلك بمحاولته نقل الشعور أو الانطباع الخاص بالمشهد بدلًا من إعادة إنتاجه بحذافيره. «الموسيقى الهادئة باللونين الأسود والذهبي - الصاروخ الساقط» (1872-1877) - جيمس أبوت مكنيل ويسلير«الموسيقى الهادئة باللونين الأسود والذهبي – الصاروخ الساقط» (1872-1877) – جيمس أبوت مكنيل ويسلير في عام 1877، انتقد جون روسكين – أبرز نقّاد بريطانيا في ذلك الوقت – عمل ويسلير هذا نقدًا لاذعًا فشبهه «بمن قام برمي الطلاء في وجه الجمهور». تأثر ويسلر بهذا الكلام، فرفع دعوى قضائية ضد روسكين، بيد أنّه خسرها لأن المسؤولين عرضوا اللوحة -خطأً- مقلوبةً على المحكمة. أفلس ويسلير بسبب هذه القضية، لكن مسيرة تطور الفن التجريدي استمرت. من ناحيةٍ أخرى، تحديد أول فنان تجريدي في العالم موضوع نزاع. في نظر أبحاث تاريخ الفن التقليدية، كان فاسيلي كاندينسكي – فنان روسي الجنسية رسم لوحات تجريدية بالكامل في مطلع عام 1911- هو أول فنان تجريدي. لم ينل الفن التجريدي الرائد لهيلما أف كلينت تقديرًا إلا قبل سنوات قريبة. هذه صورة للمعرض الشهير في  متحف غاغينهايم، عام 2018 .لم ينل الفن التجريدي الرائد لهيلما أف كلينت تقديرًا إلا قبل سنوات قريبة. هذه صورة للمعرض الشهير في  متحف غاغينهايم، عام 2018 . ولكن في الآونة الأخيرة، وبفضل المعرض الرائد في متحف مقاطعة لوس أنجلوس للفنون في عام 1986 الذي حمل اسم «الروحانية في الفن: الرسم التجريدي 1890 – 1985»، وقع الاختيار على هيلما أف كلينت كأول رسامة تجريدية. بدأت كلينت في رسم لوحات تجريدية بدءًا من عام 1906، وحملت مجموعتها عنوان «الفوضى البدائية». كانت الفنانة متكتمة في ما يتعلق بأعمالها التجريدية، ولم تُعرض أيّ منها في معارض عامة، وبقيت غير معروفة حتى أزيح عنها الستار مؤخرًا. ولعل الجدال حول هوية أول من مارس الفن التجريدي سيستم، لكن الحقيقة الأكثر أهمية هي أن العديد من الفنانين الأوروبيين البارزين قد توصّلوا في أعمالهم إلى التجريد بحلول الحرب العالمية الأولى. لقد وجد كل منهم طريقته الخاصة في التخلي عن الفن التشخيصي (figurative painting). وجديرٌ بالذكر أنّه لم تكن هناك حركة «تجريدية» دولية ذات رؤية أو بيان مشترك. في ضوء ذلك، فإن السؤال الملحّ حقًا هو: لمَ لمْ يتبنى الفنانون الغربيون الفن التجريدي على امتداد قرون عديدة؟ لماذا كان التجريد غير ضروري أو لا معنى له أو غير مناسب أو حتى لا يمكن تقبّله لقرونٍ متوالية في الفن الغربي؟ ظهرت العديد من التفسيرات لشرح ذلك. إحدى النظريات الأكثر وضوحًا هي أن ظهور التصوير الفوتوغرافي بوصفه شكلًا من أشكال الفن، إضافةً إلى تطور الفن الحديث، سببان رئيسان لإزاحة الرسم التشخيصي. ثمّة إجابات أخرى غير ملموسة لاستكشاف الأسباب: ربما عندما أصبحت الأعمال الفنية قابلة للاستهالاك بشكل متزايد، مثل السلع، بات من السهولة فصل اللوحات والمنحوتات عن التجارب المحددة لمبدعيها. ربما أدت الحداثة في الغرب إلى إفراغ الفن من المحتوى التشخيصي؛ مما دفع الفنانين أيضًا إلى التخلي عن التمثيل التشخيصي. كل من هذه الإجابات معقدة وتتطلب الكثير من الشرح، ولا يمكن إلا أن تكون تخمينات. لا توجد إجابة واضحة لهذه المسألة. ربما يكون من الأفضل طرح السؤال حول سبب تقبّل الفن التجريدي فنًّا من الفنون الرسمية في تاريخ الفن الغربي في مرحلة معينة على علماء الأنثروبولوجيا بدلًا من طرحها على مؤرخي الفن. فما هو واضح أن الفن التجريدي كان موجودًا دائمًا في مناطق أخرى من العالم. ما جعل الفن التجريدي فنًّا حديثًا على وجه التحديد في العالم الغربي هو نظام المعارض، الذي أعطى القيمة الفنية للأعمال المعروضة. وكما هو واضح فقد ازدهر التجريد لآلاف السنين المناطق الشرقية والجنوبية من العالم، دون عناء التحقق من مكانة الأعمال المعروضة في الصالونات [والمعارض، كما هو في العالم الغربي]. الواقع الافتراضي و«الافتراضية» يتبنى بيبي كرمل وهو مؤرخ فني، في كتابه « الفن التجريدي: تاريخ عالمي»، فكرة أنّ الفن التجريدي كان دائمًا موجودًا بشكل طبيعي عندما ننظر إليه نظرة شاملة وعالمية، بيد أنّه يتحاشى طرح نظرية عن تطور الفن التجريدي. بالنسبة إلى كرمل، فإنّ هذا الفنّ متجذر في العالم الحقيقي، وهو ليس فنًّا «مجردًا» على الإطلاق، كما أنّه تقليد عالمي وليس محليًا. في دراسته حول الفن التجريدي يقسم العمل الفني إلى خمس فئات واسعة تنتمي إلى العالم الحقيقي: الأجسام، والمناظر الطبيعية، والكون، والبنى، والعلامات والأنماط. من خلال فحص الفن التجريدي بهذه الطريقة، يرى كرمل في اللوحات التجريدية موضوعات قابلة للتحليل، بعكس النقاد والمؤرخين الأرثوذكسيين الذين رأوا فيها مجرّد توليفات شكلية مكوّنة من لون وشكل. ربما يكون من الأفضل أن يطلق على الفن التجريدي: فن ما تم تجريده (abstracted art)؛ لأنّ الفنانين التجريديين عادةً ما يستخلصون ويجرّدون تعبيرات التجارب في شكل ولون،  أكثر من كونها توليفات مكونة من شكل ولون. ومرّد ذلك الطبيعة الجوهرية للرسم والنحت؛ فهما (الشكل اللّون) وسيطان للتعبير، مثل الشاشة أو المسرح لخيال الفنان. كما هو الحال في المسرح أو السينما، فإنّ جمهور اللوحة أو المنحوتة يعلّق معتقداته من أجل أن يتقبل المشهد. من المفيد التفكير في اللوحة التشخيصية التقليدية أو النحت على أنها حقيقة افتراضية. إذْ استخدم الفنانون لقرون عديدة الحيل البصرية -مثل المنظور الخطي، والتقصير المسبق، والتظليل- لمحاكاة الطريقة التي ندرك بها الأشياء في الفضاء الحقيقي. إنّ المشاهد تُنشأ في فضاء افتراضي – سواء كانت القاعدة التي تدعم التمثال أو القماش – ليراها المشاهدون بوصفها خدعة بصرية. «القديس بطرس شفاء أحد الأشخاص وبعث تابيثا من الموت» ماسولينو دي بانيكال. اعتمد الرسم الغربي قبل القرن العشرين على الحيل البصرية لخلق واقع افتراضي. إحدى هذه الحيل هي المنظور الخطي، وهذه اللوحة هي أول مثال لاستخدام نقطة تلاشٍ متسقة.«القديس بطرس شفاء أحد الأشخاص وبعث تابيثا من الموت» ماسولينو دي بانيكال. اعتمد الرسم الغربي قبل القرن العشرين على الحيل البصرية لخلق واقع افتراضي. إحدى هذه الحيل هي المنظور الخطي، وهذه اللوحة هي أول مثال لاستخدام نقطة تلاشٍ متسقة. يستمتع مشاهدوّ الأعمال الفنية العظيمة معنى ما يُرسم، ويقدرون الطريقة التي يتجلّى فيها الوهم عبر تمازج اللون والشكل. يبقى الفن التجريدي، إلى حدٍ ما، ضمن إطار التجربة الجمالية. فقد سعت حركات الفن الحديث التي أدت إلى التجريد -أيّ «مدارس الفن»، مثل الانطباعية والفاوفية والتكعيبية- إلى تمثيل العالم بشكل مختلف عن كل الفنون التي سبقتها. إذْ ادعوا الاقتراب من الحقيقة الذاتية عبر تهميش جميع الحيل الوهمية التقليدية التي حاولت إعادة إنتاج الواقع بحذافيره كحقيقة موضوعية. «الأحمر والأصفر والأزرق» (1925) واسيلي كاندينسكي.  كان كاندينسكي يعدّ لفترةٍ طويلة أب الرسم التجريدي الغربي.«الأحمر والأصفر والأزرق» (1925) واسيلي كاندينسكي.  كان كاندينسكي يعدّ لفترةٍ طويلة أب الرسم التجريدي الغربي. بالنسبة إلى هذه المدارس، أصبح الفن أقل من أن يوصف بأنّه واقع افتراضي، لكنه مع ذلك احتفظ بالافتراضية، وأصبح افتراضيًا. لقد أخذ الفن التجريدي مسار التطور هذا إلى أقصاه: من الواقع الافتراضي إلى الافتراضية. ماذا تعني «الافتراضية» هنا؟ إنّها الوجود كجوهر وتأثير، ولكن بدون اللجوء إلى الواقع. اللوحة التجريدية التي رسمها كاندينسكي، على سبيل المثال، ما زالت تُعدّ علاقة متبادلة بين الشكل واللون، و تعتمد على الرسم كمستوى تخطيطي: إنها نافذة تطلّ على «الواقع» الفردي الذي تصوّره كاندينسكي. وما تزال العناصر في لوحات كاندينسكي تحظى بعلاقة متبادلة، كما هو الحال في فضاء الواقع الافتراضي للوحة التشخيصية؛ فجوهر الرسم سليم إذ إنّ ذلك الفضاء الافتراضي ما زال موجودًا. عندما يكون الفن التجريدي بناءً خالصًا، ويتخلص من المساحة الافتراضية الملازمة للرسم والنحت، يصبح متميزًا عنهما. وصف دونالد جود الفنان التخفيفي (minimalist) مثل هذه الأعمال الفنية بأنها «أجسام محدّدة» (Specific Objects). إنّه مصطلح غير دقيق، ولكنه يصلح لإظهار أن مثل هذه الأعمال الفنية ليست رسمًا ولا نحتًا، ولكنها فئة أخرى تمامًا. رأى دونالد جود أن أعماله وأعمال العديد من معاصريه تشغل مساحة هجينة، لا هي لوحات ولا هي نحت. عمل دون عنوان لدونالد جود. استخدم جود هذا المصطلح لوصف أعماله الخاصة، ولكنه ينطبق على لوحات كازيمير ماليفيتش وفرانك ستيلا أحادية اللون، والتي تجعل اللوحة تندمج مع نفسها بالكامل، من أجل الوصول للتأثير الذي يأمل العمل في تحقيقه. في مثل هذه الأعمال، لم يعد قماش اللّوحة (أو القاعدة) سطحًا تتفاعل فيه الأشكال والألوان في الفضاء الافتراضي. بدلاً من ذلك، تتفاعل الأشكال والألوان في الفضاء الحقيقي، في فضائنا. تختلف معايير النجاح أو الفشل لهذه الأعمال عن الخصائص التقليدية للرسم والنحت. رأى جود أنّ خصائص الرسم والنحت تقف في طريق ما أراد تحقيقه من خلال اللون والشكل. في رأيه، كان لـ «أجسامه المحددة» تأثيرًا أحدّ من غيرها. الواقع والأشكال الجديدة للإدراك الحسّي الرسم نفسه له ثلاثة أنواع عامة من التجريد؛ أولًا، ثمّة أسلوب تعبيري تُرسم فيه الأشكال بحركاتٍ غير مقيدة؛ ثم هناك التجريد الهندسي حيث يتم هيكلة الأشكال؛ أما النوع الثالث، فهو تجريد مجال اللون حيث يتم عرض مساحات من الألوان بطريقةٍ لا شكل واضح لها. لم تكن هذه «الأنماط» (styles) أنماطًا عرضيةً أو تعتمد على ذوق أو ميل الرسام كوسيلة لتحقيق هدفٍ ما من البحث الفني. وخير مثال على ذلك هو الفنان الذي غالبًا ما ينظر إلى عمله على أنّه ذروة التجريد الهندسي: بيت موندريان. إنّ لوحات بيت موندريان المكونة من شبكات (grids) ذات الخطوط السوداء والأجزاء الملونة على خلفية بيضاء؛ تهدف إلى استحضار «حقيقة أعلى». بالنسبة إلى موندريان، كان الفن في جوهره معارضًا للواقع؛ «لأن الواقع يتعارض مع الروحي». بغض النظر عن هذه اللوحة الأشهر لموندريان، فإنّ جوانب الرسم التي تهم هذا الفنان حقًا لم تكن الجوانب المحددة للموضوع -أيّ ماذا أو ما يتم تصويره في اللوحة مثلًا- بل الجوانب القابلة للفهم عالميًا للشكل والخط واللون. إنّ لوحات موندريان، مثلها مثل لوحات الفنانين الآخرين، هي محاولة لاستخلاص الشكل واللون من أجل الاقتراب من ذلك الجوهر العالمي والروحي للفن. عبّر موندريان عن رغبته في الوصول إلى «أساس» الأشياء من خلال الحدس، كالعديد من الفنانين التجريديين الآخرين في النصف الأول من القرن العشرين الذين رغبوا في الوصول إلى قوى غير مرئية حولنا، ولكنها معروفة أو محدوسة. «التكوين الثاني باللون الأحمر والأزرق والأصفر» (1930) - بيت موندريان«التكوين الثاني باللون الأحمر والأزرق والأصفر» (1930) – بيت موندريان في أواخر القرن التاسع عشر، لاحظ العلماء بشكلٍ أفضل مما سبق القوى غير المرئية مع انتشار التقنيات الجديدة، وأصبح من الواضح أن العالم أرحب مما يبدو للعين. في الوقت نفسه، ظهرت حركات روحية بديلة جمعت بين الأفكار الأفلاطونية والتصوف. كان كلينت وموندريان من بين العديد من الفنانين الذين انغمسوا في أشكال الروحانية خارج العوالم التقليدية للدين. اعتقدت كلينت أن لوحاتها هي وحي عالم روحي، وأن مهمتها كانت العمل «على مستوى روحاني» لتمثيل روح الإنسان، بدلًا من صورته الفانية. بحلول عشرينيات القرن الماضي، كانت نظرية فرويد عن للعقل البشري قد تغلغلت أيضًا في عالم الفن.  كذلك السريالية، وهي حركة منظمة بإحكام بدأت مع بعض الفنانين الذين سعوا إلى التنقيب عن الإمكانات الإبداعية للعقل الباطن، وهي الحركة الثقافية التي كانت سائدة في أوروبا بين الحربين العالميتين. لم تكن السريالية دوغمائية في محاولتها لاستكشاف اللاوعي، ولذلك ظهر عدد من الأساليب والطرق لمحاولة إخراج اللاوعي إلى السطح. إحدى هذه الأساليب كان الرسم الآلي (Automatism)، وهي عملية يتخلى فيها الفنان عن السيطرة الواعية لليد التي ترسم  أو تصور. في هذا المجال، تبنى الفنانون مثل أندريه ماسون وخوان ميرو الفرصة لبناء صورهم باستخدام حركات حرّة، وحتى إلقاء الطلاء على القماش. طور أرشيل غوركي -هو مهاجر أرمني عاش في الولايات المتحدة- أسلوبًا في الرسم يدمج بين الرسم الآلي وتجريد مجال الألوان. لوحاته في الأربعينيات حجمُها ضخم – ومرد ذلك تأثره بأعماله السابقة كفنان جداري مُعيّن من الدولة خلال السنوات الأخيرة من الكساد الكبير – لكنها معبّرة وغنائية في الرسم بالفرشاة. ألهم إدماج غوركي للأنماط جيلًا واسعًا من الفنانين الأمريكيين في فترة ما بعد الحرب لاحتضان التجريد الواسع النطاق. ما نسميه الآن «التعبيرية التجريدية»، وكان ذاك الجيل في الواقع مجموعة فضفاضة من الفنانين الذين يستخدمون أنماطًا متعدّدة من أنماط التجريد. ربما كان القاسم المشترك بين هؤلاء الفنانين – على الأقل في السنوات الأولى – هو دعم جيل جديد من النقاد بقيادة كليمنت غرينبيرغ، الذي كان يعتقد أن التجريد هو التعبير الأسمى للفن الغربي. «الكبد هو مشط الديك» (1944) - أرشيل جوركي.«الكبد هو مشط الديك» (1944) – أرشيل جوركي. الحداثة ومصير الفنّ الغربي كان يُعتقد في بعض الأوساط الفكرية المؤثرة أنّ الفن يتقدم نحو هدف؛ وهذا المضمون يشتمل عليه مصطلح «الطليعية» (Avant-garde)، الذي يُوصف به الفنّانون الذين يبتكرون أرضية جمالية جديدة. أصل المصطلح فرنسي يُطلق على الجنود الذين يتقدمون إلى مناطق جديدة. بالنسبة إلى غرينبيرغ، لم يكن هؤلاء الفنّانون يوسّعون حدود إمكانات الفن؛ بل كانوا يتقدمون نحو الهدف الحقيقي والمفرد لكل شكل فني. يُعدّ غرينبيرغ شخصية مهمة في تاريخ الفن التجريدي، وذلك لأمرين: بوصفه مناصرًا رائدًا في مسألة تفوق الفن التجريدي على غيره من أنواع الرسم، وتأكيده للقوة التي امتلكها هذا الفن. كان ناقدًا في اللجنة الأمريكية للحريّة الثقافية التي تمولها الدولة، وهي مجموعة تم إنشاؤها لتعزيز الفن الأمريكي على المستوى الدولي. أصبحت أفكار غرينبيرغ مؤثرة عندما كانت الولايات المتحدة جزءًا من الحرب على الفاشية والنازية، وخلال الحرب الباردة اللاحقة ضد الشيوعية السوفيتية. كانت معايير الفن الفاشي والسوفياتي واضحة، وهي ما تحددها السلطات الثقافية أنها كذلك، بيد أنّه ما لم يكن واضحًا هو معايير الفن «الجيد» وتحديدًا في الغرب الديمقراطي. كان الماركسيون هم من تعاطف مع غرينبيرغ في البداية، لكن ارتبط تفكيره بشكلٍ متزايد بالهيمنة الثقافية الأمريكية. بالنسبة إليه، كان التجريد في أعمال بولوك فنًا مثاليًا لمجتمع ديمقراطي. تتجلى الحداثة في الفن، وفقًا لغرينبيرغ، في إطار التنوير الأوروبي؛ أيّ في فترة ازدهار الأفكار الفلسفية والعلمية التي أعطت الأولوية للعقل. في مقالته المؤثرة « الرسم الحداثي» (1961)، وصفَ غرينبيرغ إيمانويل كانط – الفيلسوف الألماني في عصر التنوير – بأنّه «أول حداثي حقيقي». كان أسلوب كانط في «النقد» هو استخدام العقل لنقد العقل بغرض توضيحه، ومنحه استقلالية عن أنواع التفكير الأخرى. «أولمبيا» - إدوارد مانيه (1863). بالنسبة إلى كليمنت غرينبيرغ، كان مانيه أول رسام حداثي. لقد رسم مانيه لوحاته بأسلوبٍ مسطّح بشكلٍ متعمد.«أولمبيا» – إدوارد مانيه (1863). بالنسبة إلى كليمنت غرينبيرغ، كان مانيه أول رسام حداثي. لقد رسم مانيه لوحاته بأسلوبٍ مسطّح بشكلٍ متعمد. بالطريقة نفسها، كان الرسامون الحداثيون – من إدوارد مانيه في القرن التاسع عشر إلى موريس لويس، وهو رسام يعمل ينتمي إلى رسامي أسلوب مجال ألوان في الولايات المتحدة في الوقت الذي كتب فيه غرينبيرغ مقالته – يعملون على ترسيخ الفن التعبيري «بشكل صارم في مجال تخصصه». رأى غرينبيرغ أن وضوح الفن التجريدي -الذي كان صادقًا بالنسبة إلى الوسيط الذي يُعبّر من خلاله- معارضٌ لـ«الفن الشعبي المبتذل [الكيتش]» الذي ينُتج على نطاق واسع في الثقافة الشعبية. إن إزالة «الكيتش» كانت مسألة استجلاء وتوضيح تحتاجها جميع الفنون لكي تصبح تعبيرًا عن إمكاناتها الجمالية الكامنة. اللوحات مسطّحة، وإيهام العمق الذي نجده في معظم الفن الغربي كان انحرافًا عن جوهر فن الرسم ذاته. كانت استقلالية الشكل الفني في جميع خصائصه دون أن تتلوث بأشكال فنية أخرى. وفقًا لغرينبيرغ، يعدّ الشكل واللون من أهم خصائص الرسم، و أفضل تمثيل لها يكون بشكلٍ مسطّح. وهكذا دافع غرينبيرغ عن «التسطيح» الذي تجلّى في لوحات الفنانين الأمريكيين التجريدية مثل جاكسون بولوك باعتباره تحقيقًا لهذا الوضوح الحداثي. لقد ضم هؤلاء الفنانين معًا ضمن فريق واحد، وهم يمثّلون المرحلة التالية في الحداثة، وقد حلّت رؤيتهم الأمريكية المميزة محلّ الفن الأوروبي الطليعي. وفي الوقت الذي أصبح فيه الفن التجريدي الأمريكي مهيمنًا، تراجعت هيمنة غرينبيرغ النقدية، وظهرت أشكال جديدة من الفن الطليعي، مستوحاة مباشرة من الثقافة الجماهيرية، وحلّت محلّ التعبيرية التجريدية في المخيال العام. تبنى فنانوّ «البوب» مثل: آندي وارهول، وريتشارد هاميلتون هذا النوع من «الفن الشعبي المبتذل» الذي رآه غرينبيرغ تلويثًا للفن الحقيقي. استمرت الأعمال الفنية التجريدية، ولكن تخلّى الفنّانون التجريديون الأكثر جرأة عن الفكرة الصارمة «للنقد الحداثي»، وعن الوضوح المتعلق بخصوصية الوسيط الفني، وذلك لصالح أشكال أخرى من التعبير. نظر فنانوّ «ما بعد الحداثة» إلى السخرية وعملية الرسم نفسها، كطرق لتجاوز الطريق المسدود للحداثة. تبنى الألماني غيرهارد ريختر كلا النهجين؛ فبعض أعماله التجريدية في الستينيات كانت مصنوعة بممسحاتٍ بدلًا من الفرشاة، حتى يتمكن من لفت الانتباه إلى عملية صنع اللوحة نفسها. كانت «اللوحات التجريدية» البارزة الأخرى التي رسمها ريختر في الواقع صورًا واقعية مرسومة بعناية تعكس لوحاته التجريدية الأخرى. أصبحت طلائعية الرسم التجريدي مفهومية أكثر، ما جعل ضمنيًّا قضية الرسم تحظى باستقلالية أقل مما كان كان يعتقد النقاد الحداثيون. قلّد فنانوّ «نيو جيو»، مثل: الرسام بيتر هالي، والنحات أشلي بيكرتون اللغة البصرية للتجريد الهندسي، لكنهما دمجاها مع السلع الاستهلاكية بألوانٍ تجارية فاتحة وأحيانًا فلورية. منذ ذلك الجيل ما بعد الحداثي من الرسامين والنحاتين الممتد من الستينيات إلى التسعينيات، ازدهر التجريد متفرّعًا إلى عددٍ لا يُحصى من الأساليب والمقاربات بجوار الفن التشخيصي. هنا يمكن القول إنّ التجريد المتحرّر من عبء التوقعات الحداثية هو ببساطة نهج للتعبير مثل أيّ نهج آخر. وتجدر الإشارة إلى أنّ بعض الفنانين التجريديين استخدموا الحيل البصرية المستعملة في الفن التشخيصي – مثل المنظور والتظليل – في لوحاتهم. ولاستخدامهم هذا أهداف فريدة و غالبًا لا تهتم بالنظرية. قلّد فنانوّ «ما بعد الحداثة» مثل: بيتر هالي اللغة البصرية المستعملة في الفن التجريدي الحديث (في حالة بيتر، التجريد الهندسي)، للتعليق على طبيعة الفن والمعنى نفسه. تمثّل هذه الكتل الملونة «الخلايا» و«الأنابيب».قلّد فنانوّ «ما بعد الحداثة» مثل: بيتر هالي اللغة البصرية المستعملة في الفن التجريدي الحديث (في حالة بيتر، التجريد الهندسي)، للتعليق على طبيعة الفن والمعنى نفسه. تمثّل هذه الكتل الملونة «الخلايا» و«الأنابيب». هذا هو التحرّر نحو الأفضل بين الرسامين التجريديين الذين يمكنهم الالتزام برؤيةٍ فريدة بالرسم على القماش. لكن فكّ ارتباط الفن التجريدي عن إطاره الفلسفي الأوسع أدى أيضًا إلى انتشارٍ يثير التساؤل لأعمال تجريدية متنوعة قابلة للاستهلاك – بمعنى أنّها فقدت قيمتها، وباتت تُباع وتُشترى سريعًا بأسعارٍ مربحة – يشتريها المشترون المتضاربون. دفع هذا التحول الناقد جيري سالتز إلى كتابة: « الزومبي على الجدران: لماذا يبدو الكثير من التجريد الجديد متشابهًا؟». وقد شبه اللّوحات التجريدية بصورة «الزومبي»، تحقيرًا لأعمال عددٍ من الرسامين التجريديين البارزين، الذين استخدموا الفنّ وجماليته لتقديم أعمال مبتذلة. ومن المفارقات أن هؤلاء الفنانين نظروا إلى الشكلانية بوصفها فنًّا حداثيًّا متبنّين منظور غرينبيرغ، لكنهم بالطبع قدّموا أعمالًا في ظلّ فراغ تاريخي وبعد فترةٍ طويلة حين لم يُصبح التجريد مثيرًا للاهتمام أو راديكاليًا بأي وجه من الوجوه. في الواقع، لم يصل مشروع الحداثة  في الفن التجريدي إلى نهايته، بل النقد. إنّ النقد -أيّ الإطار الفلسفي الواسع الذي يصادق على الأعمال الفنية ويثمّنها لأهميتها الثقافية والتاريخية- هو ما فقد التوجه والسلطة. كان مسار الفن الغربي منذ عصر التنوير يتأرجح بين قطبي الدوغمائية النقدية والإبداع. تكمن المشكلة أنه في العقود الأخيرة، وفي ظلّ غياب أي مشروع نقدي متماسك، انجرف الفن نحو إرضاء اهتمامات دقيقة ومتنوعة تزداد باستمرار. في حين كانت هناك «حركات» و«مدارس» فنية -مصطلحان يشيران إلى الوجهة والانضباط- لم يعد لدينا الآن سوى «مشاهد». هذا ليس بالضرورة أمرًا سيئًا. ولكن في عالم حيث «كل شيء مقبول – anything goes»، لا يوجد مجال لهذا النوع من الابتكار والتجاوز الذي أدى إلى ظهور الفن التجريدي في الغرب، وهذا ما جعل الفن الحديث فنًّا مثيرًا للغاية. من الصعب في هذه اللحظة التاريخية أن ندرك ما الذي جعل لوحة بولوك «رقم 32» مثيرة للانقسام، ومخلخلةً جدًا للمعايير، وفي الوقت نفسه محتفظةً بقيمةٍ عالية جدًا لأولئك الذين يعتقدون أن للفنِّ مكانًا في المجتمع يتجاوز المتعة. [divider style=”solid” top=”20″ bottom=”20″] [1] واللقب كذلك يُلمح إلى القاتل المتسلسل في لندن آخر القرن التاسع عشر: جاك السفّاح Jack the ripper (مدير التحرير). ### خارج عقلك | توم تشاتفيلد – ت: محمد السعيد                  عندما يكون هاتفي النقال بين يديّ، هل أكون أنا الشخص نفسه لو كان الهاتف في غرفة أخرى؟ من ناحية،... ### الدراما في التعليم: مقاربات وتطبيقات | نعيم حيماد افتتاحيّة حظي استخدام الدراما في التعليمفي السنوات الأخيرة باهتمام كبير من قبل نخبة من المنظرين والممارسين للدراما في مجال التعليم.... ### الحقائق المخفية | دي بي سي بيير – ت: محمد السعيد       يحمل جبل كلسي خشن في غرب إيران عددًا من النقوش البارزة، من بينها لوحة طولها خمسة وعشرين مترًا منقوشة... ### التغلُّب على كاشف الكذب | كلاريسا سيباغ-مونتِنفيوري – ت: محمد السعيد          حين  اتُّهِمَتْ مربية الأطفال البريطانية لويز وودورد بهزِّ رضيع حتى الموت في مدينة نيوتن بولاية ماساتشوستس، لم تكتفِ بإعلان... ### عن منصة معنى «معنى»، مؤسسة ثقافية تقدّمية ودار نشر تهتم بالفلسفة والمعرفة والفنون، عبر مجموعة متنوعة من المواد المقروءة والمسموعة والمرئية. انطلقت في 20 مارس 2019، بهدف إثراء المحتوى العربي، ورفع ذائقة ووعي المتلقّي المحلي والدولي، عبر الإنتاج الأصيل للمنصة والترجمة ونقل المعارف. ### روابط سريعة ### التصنيفات ### مرحبا بك! قم بتسجيل الدخول إلى حسابك تذكرني ### قم بإنشاء حساب جديد! املأ النموذج أدناه للتسجيل ### طلب إعادة تعيين كلمة المرور يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان البريد الإلكتروني لإعادة تعيين كلمة المرور الخاصة بك. ### Add New Playlist - Select Visibility -PublicPrivate No Result عرض جميع النتائج - 00:00 00:00 - 00:00 00:00
article
Arabic
ar
الفنّ التجريدي: بين الماضي والحاضر - منصة معنى الثقافية
https://mana.net/abstract-art/
1,878
في أواخر القرن التاسع عشر، لاحظ العلماء بشكلٍ أفضل مما سبق القوى غير المرئية مع انتشار التقنيات الجديدة، وأصبح من الواضح أن العالم أرحب مما يبدو للعين. في الوقت نفسه، ظهرت حركات روحية بديلة جمعت بين الأفكار الأفلاطونية والتصوف.
paragraph
لا توجد منتجات في سلة المشتريات. No Result عرض جميع النتائج الثلاثاء, سبتمبر 10, 2024 No Result عرض جميع النتائج No Result عرض جميع النتائج # الفنّ التجريدي: بين الماضي والحاضر ## ترجمة: أنطونيوس نادر AA AA إعادة تعيين فنٌ مليء بالتحديات ثمّة خطٌ رفيع يفصل بين الفن التجريدي ومجرد الزخرفة، ولوحة «رقم 32» (نُشرت عام 1950)، لجاكسون بولوك تتأرجح بين هذا الخطّ. فهي لا تشير إلى معنىً واضح، ولكن لا يمكن القول إنّها بلا معنى على الإطلاق. كما أنّها ليست معبّرة بشكلٍ مباشر، ولا يعني هذا أنها لا تعبّر عن مدلولٍ ما. تحمل هذه اللوحة الكثير من المضامين عن الفن الغربي بالنسبة إلى شخصٍ خبيرٍ في تاريخ الفن؛ أما بالنسبة إلى شخصٍ عادي، فقد يراها عملًا مبتذلًا بالكاد يعبّر عن أمرٍ ما. اللوحة شبكة من الخطوط وبقعٍ من الألوان، رُسمت عن طريق صبّ طلاءٍ رخيص بعشوائيةٍ مباشرة على القماش. تتكون اللوحة من طلاءٍ أسود فقط وقماشٍ خام. واللوحة ضخمة؛ إذ يبلغ طولها تسعة أقدام وعرضها خمسة عشر قدمًا، وتغطي مجال رؤية المشاهد أثناء اقترابه منها. تقليديًّا، حتى اللوحات التجريدية تتكون من أجزاءٍ مترابطة مع بؤر تركيز (emphases) وعمقٍ يُنقل من خلال اللون والظلال، ولكن «رقم 32» ليس لها أجزاء؛ إنّها تتكون من تعالقات، والبؤرة فيها تكمن عبر امتداد سطح القماش المستطيل. يمنحها ما سبق عمقًا سطحيًا، وربما لا عمق فيها: مجرّد طلاء على قماش. إنّها عبث بالشكل واللون. حتى اسمها، ببساطة رقمٌ معيّن – رقم 32 – يجعلها تنأى بنفسها عن أي فكرة مفادها أنها تعكس مدلولًا محدّدًا. تشير عناوين أعمال بولوك الأخرى إلى نوعٍ من الاختبار الشخصي، وإلى الاستخدام السمفوني المتعدد الطبقات للون والملمس؛ خذ مثلًا لوحاته التي تحمل اسم: «إيقاع الخريف»، و«الضباب الأرجواني»، و«الأقطاب الزرقاء»، و«انعكاس الدنقلة الكبير». هذا لا ينطبق على لوحة «رقم 32»؛ شكلها الخام وبساطتها دليل على أنّ الفنان لم يخطط مسبقًا لرسمها؛ أيّ أنّه لم ينتق الألوان ولا الطبقات. يبدو بولوك هنا أكثر حضورًا، من خلال لمساته الحادة. بالنسبة إلى مؤيديّ عمل بولوك، تختصر هذه اللوحة خلاصة نظرة الفنان الجمالية. أما بالنسبة للبعض الآخر، فهي لوحة مبتذلة. وصف جوزيف بويس -النحات الألماني في فترة ما بعد الحرب- الفنَّ التجريدي الأمريكي بأنه مجرد «تغليف»، أيّ سطح بلا محتوى. في هذا الصدد، قد يتفق البعض أن لوحة «رقم 32» تجسد فراغ الفكر والشعور ذاك. فقد رأى الروائي والناقد الفني روبرت كوتس أن فن بولوك لم يكن سوى «انفجارات» غير منظمة من الطاقة العشوائية. غير أنّ طائفة كبيرة من متذوقي الفن التجريدي لا تروق إليهم أعمال بولوك ويرونها فنًّا محيرًا، حتى إنّ بعضهم يراها إهانةً للذوق أو الحسّ السليم. عُرف بولوك بلقب: «جاك فنان النقط» (Jack the Dripper) [1] في الأوساط الإعلامية المشككة بعمله حيث ادعى كثر أن أيّ شخص يمكنه أن يرسم كما يرسم بولوك إلّا أنّ أحدًا لم يتجرأ على فعل ذلك. «رقم 32» - جاكسون بولوك«رقم 32» – جاكسون بولوك بيد أنّ هذا هو مغزى الفن التجريدي في التقليد الغربي: إنّه تحدّ. وفي ظل الكثير هذه التحديات، تُعد لوحة « رقم 32» اللوحة الأكثر تمثيلًا لهذا الفن. قصة الفنّ التجريدي مسار قصة الفن التجريدي مضمّنة في الدراسات التاريخية الفنية، إلّا أنّ المحطات الرئيسة لهذا المسار كانت محط تغييرات مفاجئة كلما اكتشف مؤرخوّ الفن حقائق جديدة. انطلق مسار الفن التجريدي بدءًا من القرن التاسع عشر وما تلاه؛ حيث استفاد الفنانون من مادة الطلاء والجوانب الشكلية للرسم مثل اللون والدرجة والخطوط. يُعرف هذا الانشغال بالجوانب غير التمثيلية (non-representative) للفن باسم «الشكلانية»، لأنّه انشغال «بالشكل»، أيّ بتوسل شكل المحتوى بدلًا من المحتوى في ذاته. بالنسبة إلى الفنانين في القرن التاسع عشر، صُنّف الفن التجريدي على أنّه «فنٌّ من أجل الفنّ»، وكانت الفكرة الشائعة مفادها أنّ المتذوق للفن يمكنه الاستمتاع بالعمل دون اللجوء إلى معنى أو حتى أي شيء آخر يمثل أمرًا ما. تمثّل لوحة «الموسيقى الهادئة باللّونين الأسود والذهبي – الصاروخ الساقط» (1872)، للفنان جيمس مكنيل ويسلر هذا الاتجاه الذي تبلور لاحقًا في الفن التجريدي.  إنّ مشهد ويسلر الغامض من الناحية المكانيّة يقترب إلى التجريد، وذلك بمحاولته نقل الشعور أو الانطباع الخاص بالمشهد بدلًا من إعادة إنتاجه بحذافيره. «الموسيقى الهادئة باللونين الأسود والذهبي - الصاروخ الساقط» (1872-1877) - جيمس أبوت مكنيل ويسلير«الموسيقى الهادئة باللونين الأسود والذهبي – الصاروخ الساقط» (1872-1877) – جيمس أبوت مكنيل ويسلير في عام 1877، انتقد جون روسكين – أبرز نقّاد بريطانيا في ذلك الوقت – عمل ويسلير هذا نقدًا لاذعًا فشبهه «بمن قام برمي الطلاء في وجه الجمهور». تأثر ويسلر بهذا الكلام، فرفع دعوى قضائية ضد روسكين، بيد أنّه خسرها لأن المسؤولين عرضوا اللوحة -خطأً- مقلوبةً على المحكمة. أفلس ويسلير بسبب هذه القضية، لكن مسيرة تطور الفن التجريدي استمرت. من ناحيةٍ أخرى، تحديد أول فنان تجريدي في العالم موضوع نزاع. في نظر أبحاث تاريخ الفن التقليدية، كان فاسيلي كاندينسكي – فنان روسي الجنسية رسم لوحات تجريدية بالكامل في مطلع عام 1911- هو أول فنان تجريدي. لم ينل الفن التجريدي الرائد لهيلما أف كلينت تقديرًا إلا قبل سنوات قريبة. هذه صورة للمعرض الشهير في  متحف غاغينهايم، عام 2018 .لم ينل الفن التجريدي الرائد لهيلما أف كلينت تقديرًا إلا قبل سنوات قريبة. هذه صورة للمعرض الشهير في  متحف غاغينهايم، عام 2018 . ولكن في الآونة الأخيرة، وبفضل المعرض الرائد في متحف مقاطعة لوس أنجلوس للفنون في عام 1986 الذي حمل اسم «الروحانية في الفن: الرسم التجريدي 1890 – 1985»، وقع الاختيار على هيلما أف كلينت كأول رسامة تجريدية. بدأت كلينت في رسم لوحات تجريدية بدءًا من عام 1906، وحملت مجموعتها عنوان «الفوضى البدائية». كانت الفنانة متكتمة في ما يتعلق بأعمالها التجريدية، ولم تُعرض أيّ منها في معارض عامة، وبقيت غير معروفة حتى أزيح عنها الستار مؤخرًا. ولعل الجدال حول هوية أول من مارس الفن التجريدي سيستم، لكن الحقيقة الأكثر أهمية هي أن العديد من الفنانين الأوروبيين البارزين قد توصّلوا في أعمالهم إلى التجريد بحلول الحرب العالمية الأولى. لقد وجد كل منهم طريقته الخاصة في التخلي عن الفن التشخيصي (figurative painting). وجديرٌ بالذكر أنّه لم تكن هناك حركة «تجريدية» دولية ذات رؤية أو بيان مشترك. في ضوء ذلك، فإن السؤال الملحّ حقًا هو: لمَ لمْ يتبنى الفنانون الغربيون الفن التجريدي على امتداد قرون عديدة؟ لماذا كان التجريد غير ضروري أو لا معنى له أو غير مناسب أو حتى لا يمكن تقبّله لقرونٍ متوالية في الفن الغربي؟ ظهرت العديد من التفسيرات لشرح ذلك. إحدى النظريات الأكثر وضوحًا هي أن ظهور التصوير الفوتوغرافي بوصفه شكلًا من أشكال الفن، إضافةً إلى تطور الفن الحديث، سببان رئيسان لإزاحة الرسم التشخيصي. ثمّة إجابات أخرى غير ملموسة لاستكشاف الأسباب: ربما عندما أصبحت الأعمال الفنية قابلة للاستهالاك بشكل متزايد، مثل السلع، بات من السهولة فصل اللوحات والمنحوتات عن التجارب المحددة لمبدعيها. ربما أدت الحداثة في الغرب إلى إفراغ الفن من المحتوى التشخيصي؛ مما دفع الفنانين أيضًا إلى التخلي عن التمثيل التشخيصي. كل من هذه الإجابات معقدة وتتطلب الكثير من الشرح، ولا يمكن إلا أن تكون تخمينات. لا توجد إجابة واضحة لهذه المسألة. ربما يكون من الأفضل طرح السؤال حول سبب تقبّل الفن التجريدي فنًّا من الفنون الرسمية في تاريخ الفن الغربي في مرحلة معينة على علماء الأنثروبولوجيا بدلًا من طرحها على مؤرخي الفن. فما هو واضح أن الفن التجريدي كان موجودًا دائمًا في مناطق أخرى من العالم. ما جعل الفن التجريدي فنًّا حديثًا على وجه التحديد في العالم الغربي هو نظام المعارض، الذي أعطى القيمة الفنية للأعمال المعروضة. وكما هو واضح فقد ازدهر التجريد لآلاف السنين المناطق الشرقية والجنوبية من العالم، دون عناء التحقق من مكانة الأعمال المعروضة في الصالونات [والمعارض، كما هو في العالم الغربي]. الواقع الافتراضي و«الافتراضية» يتبنى بيبي كرمل وهو مؤرخ فني، في كتابه « الفن التجريدي: تاريخ عالمي»، فكرة أنّ الفن التجريدي كان دائمًا موجودًا بشكل طبيعي عندما ننظر إليه نظرة شاملة وعالمية، بيد أنّه يتحاشى طرح نظرية عن تطور الفن التجريدي. بالنسبة إلى كرمل، فإنّ هذا الفنّ متجذر في العالم الحقيقي، وهو ليس فنًّا «مجردًا» على الإطلاق، كما أنّه تقليد عالمي وليس محليًا. في دراسته حول الفن التجريدي يقسم العمل الفني إلى خمس فئات واسعة تنتمي إلى العالم الحقيقي: الأجسام، والمناظر الطبيعية، والكون، والبنى، والعلامات والأنماط. من خلال فحص الفن التجريدي بهذه الطريقة، يرى كرمل في اللوحات التجريدية موضوعات قابلة للتحليل، بعكس النقاد والمؤرخين الأرثوذكسيين الذين رأوا فيها مجرّد توليفات شكلية مكوّنة من لون وشكل. ربما يكون من الأفضل أن يطلق على الفن التجريدي: فن ما تم تجريده (abstracted art)؛ لأنّ الفنانين التجريديين عادةً ما يستخلصون ويجرّدون تعبيرات التجارب في شكل ولون،  أكثر من كونها توليفات مكونة من شكل ولون. ومرّد ذلك الطبيعة الجوهرية للرسم والنحت؛ فهما (الشكل اللّون) وسيطان للتعبير، مثل الشاشة أو المسرح لخيال الفنان. كما هو الحال في المسرح أو السينما، فإنّ جمهور اللوحة أو المنحوتة يعلّق معتقداته من أجل أن يتقبل المشهد. من المفيد التفكير في اللوحة التشخيصية التقليدية أو النحت على أنها حقيقة افتراضية. إذْ استخدم الفنانون لقرون عديدة الحيل البصرية -مثل المنظور الخطي، والتقصير المسبق، والتظليل- لمحاكاة الطريقة التي ندرك بها الأشياء في الفضاء الحقيقي. إنّ المشاهد تُنشأ في فضاء افتراضي – سواء كانت القاعدة التي تدعم التمثال أو القماش – ليراها المشاهدون بوصفها خدعة بصرية. «القديس بطرس شفاء أحد الأشخاص وبعث تابيثا من الموت» ماسولينو دي بانيكال. اعتمد الرسم الغربي قبل القرن العشرين على الحيل البصرية لخلق واقع افتراضي. إحدى هذه الحيل هي المنظور الخطي، وهذه اللوحة هي أول مثال لاستخدام نقطة تلاشٍ متسقة.«القديس بطرس شفاء أحد الأشخاص وبعث تابيثا من الموت» ماسولينو دي بانيكال. اعتمد الرسم الغربي قبل القرن العشرين على الحيل البصرية لخلق واقع افتراضي. إحدى هذه الحيل هي المنظور الخطي، وهذه اللوحة هي أول مثال لاستخدام نقطة تلاشٍ متسقة. يستمتع مشاهدوّ الأعمال الفنية العظيمة معنى ما يُرسم، ويقدرون الطريقة التي يتجلّى فيها الوهم عبر تمازج اللون والشكل. يبقى الفن التجريدي، إلى حدٍ ما، ضمن إطار التجربة الجمالية. فقد سعت حركات الفن الحديث التي أدت إلى التجريد -أيّ «مدارس الفن»، مثل الانطباعية والفاوفية والتكعيبية- إلى تمثيل العالم بشكل مختلف عن كل الفنون التي سبقتها. إذْ ادعوا الاقتراب من الحقيقة الذاتية عبر تهميش جميع الحيل الوهمية التقليدية التي حاولت إعادة إنتاج الواقع بحذافيره كحقيقة موضوعية. «الأحمر والأصفر والأزرق» (1925) واسيلي كاندينسكي.  كان كاندينسكي يعدّ لفترةٍ طويلة أب الرسم التجريدي الغربي.«الأحمر والأصفر والأزرق» (1925) واسيلي كاندينسكي.  كان كاندينسكي يعدّ لفترةٍ طويلة أب الرسم التجريدي الغربي. بالنسبة إلى هذه المدارس، أصبح الفن أقل من أن يوصف بأنّه واقع افتراضي، لكنه مع ذلك احتفظ بالافتراضية، وأصبح افتراضيًا. لقد أخذ الفن التجريدي مسار التطور هذا إلى أقصاه: من الواقع الافتراضي إلى الافتراضية. ماذا تعني «الافتراضية» هنا؟ إنّها الوجود كجوهر وتأثير، ولكن بدون اللجوء إلى الواقع. اللوحة التجريدية التي رسمها كاندينسكي، على سبيل المثال، ما زالت تُعدّ علاقة متبادلة بين الشكل واللون، و تعتمد على الرسم كمستوى تخطيطي: إنها نافذة تطلّ على «الواقع» الفردي الذي تصوّره كاندينسكي. وما تزال العناصر في لوحات كاندينسكي تحظى بعلاقة متبادلة، كما هو الحال في فضاء الواقع الافتراضي للوحة التشخيصية؛ فجوهر الرسم سليم إذ إنّ ذلك الفضاء الافتراضي ما زال موجودًا. عندما يكون الفن التجريدي بناءً خالصًا، ويتخلص من المساحة الافتراضية الملازمة للرسم والنحت، يصبح متميزًا عنهما. وصف دونالد جود الفنان التخفيفي (minimalist) مثل هذه الأعمال الفنية بأنها «أجسام محدّدة» (Specific Objects). إنّه مصطلح غير دقيق، ولكنه يصلح لإظهار أن مثل هذه الأعمال الفنية ليست رسمًا ولا نحتًا، ولكنها فئة أخرى تمامًا. رأى دونالد جود أن أعماله وأعمال العديد من معاصريه تشغل مساحة هجينة، لا هي لوحات ولا هي نحت. عمل دون عنوان لدونالد جود. استخدم جود هذا المصطلح لوصف أعماله الخاصة، ولكنه ينطبق على لوحات كازيمير ماليفيتش وفرانك ستيلا أحادية اللون، والتي تجعل اللوحة تندمج مع نفسها بالكامل، من أجل الوصول للتأثير الذي يأمل العمل في تحقيقه. في مثل هذه الأعمال، لم يعد قماش اللّوحة (أو القاعدة) سطحًا تتفاعل فيه الأشكال والألوان في الفضاء الافتراضي. بدلاً من ذلك، تتفاعل الأشكال والألوان في الفضاء الحقيقي، في فضائنا. تختلف معايير النجاح أو الفشل لهذه الأعمال عن الخصائص التقليدية للرسم والنحت. رأى جود أنّ خصائص الرسم والنحت تقف في طريق ما أراد تحقيقه من خلال اللون والشكل. في رأيه، كان لـ «أجسامه المحددة» تأثيرًا أحدّ من غيرها. الواقع والأشكال الجديدة للإدراك الحسّي الرسم نفسه له ثلاثة أنواع عامة من التجريد؛ أولًا، ثمّة أسلوب تعبيري تُرسم فيه الأشكال بحركاتٍ غير مقيدة؛ ثم هناك التجريد الهندسي حيث يتم هيكلة الأشكال؛ أما النوع الثالث، فهو تجريد مجال اللون حيث يتم عرض مساحات من الألوان بطريقةٍ لا شكل واضح لها. لم تكن هذه «الأنماط» (styles) أنماطًا عرضيةً أو تعتمد على ذوق أو ميل الرسام كوسيلة لتحقيق هدفٍ ما من البحث الفني. وخير مثال على ذلك هو الفنان الذي غالبًا ما ينظر إلى عمله على أنّه ذروة التجريد الهندسي: بيت موندريان. إنّ لوحات بيت موندريان المكونة من شبكات (grids) ذات الخطوط السوداء والأجزاء الملونة على خلفية بيضاء؛ تهدف إلى استحضار «حقيقة أعلى». بالنسبة إلى موندريان، كان الفن في جوهره معارضًا للواقع؛ «لأن الواقع يتعارض مع الروحي». بغض النظر عن هذه اللوحة الأشهر لموندريان، فإنّ جوانب الرسم التي تهم هذا الفنان حقًا لم تكن الجوانب المحددة للموضوع -أيّ ماذا أو ما يتم تصويره في اللوحة مثلًا- بل الجوانب القابلة للفهم عالميًا للشكل والخط واللون. إنّ لوحات موندريان، مثلها مثل لوحات الفنانين الآخرين، هي محاولة لاستخلاص الشكل واللون من أجل الاقتراب من ذلك الجوهر العالمي والروحي للفن. عبّر موندريان عن رغبته في الوصول إلى «أساس» الأشياء من خلال الحدس، كالعديد من الفنانين التجريديين الآخرين في النصف الأول من القرن العشرين الذين رغبوا في الوصول إلى قوى غير مرئية حولنا، ولكنها معروفة أو محدوسة. «التكوين الثاني باللون الأحمر والأزرق والأصفر» (1930) - بيت موندريان«التكوين الثاني باللون الأحمر والأزرق والأصفر» (1930) – بيت موندريان في أواخر القرن التاسع عشر، لاحظ العلماء بشكلٍ أفضل مما سبق القوى غير المرئية مع انتشار التقنيات الجديدة، وأصبح من الواضح أن العالم أرحب مما يبدو للعين. في الوقت نفسه، ظهرت حركات روحية بديلة جمعت بين الأفكار الأفلاطونية والتصوف. كان كلينت وموندريان من بين العديد من الفنانين الذين انغمسوا في أشكال الروحانية خارج العوالم التقليدية للدين. اعتقدت كلينت أن لوحاتها هي وحي عالم روحي، وأن مهمتها كانت العمل «على مستوى روحاني» لتمثيل روح الإنسان، بدلًا من صورته الفانية. بحلول عشرينيات القرن الماضي، كانت نظرية فرويد عن للعقل البشري قد تغلغلت أيضًا في عالم الفن.  كذلك السريالية، وهي حركة منظمة بإحكام بدأت مع بعض الفنانين الذين سعوا إلى التنقيب عن الإمكانات الإبداعية للعقل الباطن، وهي الحركة الثقافية التي كانت سائدة في أوروبا بين الحربين العالميتين. لم تكن السريالية دوغمائية في محاولتها لاستكشاف اللاوعي، ولذلك ظهر عدد من الأساليب والطرق لمحاولة إخراج اللاوعي إلى السطح. إحدى هذه الأساليب كان الرسم الآلي (Automatism)، وهي عملية يتخلى فيها الفنان عن السيطرة الواعية لليد التي ترسم  أو تصور. في هذا المجال، تبنى الفنانون مثل أندريه ماسون وخوان ميرو الفرصة لبناء صورهم باستخدام حركات حرّة، وحتى إلقاء الطلاء على القماش. طور أرشيل غوركي -هو مهاجر أرمني عاش في الولايات المتحدة- أسلوبًا في الرسم يدمج بين الرسم الآلي وتجريد مجال الألوان. لوحاته في الأربعينيات حجمُها ضخم – ومرد ذلك تأثره بأعماله السابقة كفنان جداري مُعيّن من الدولة خلال السنوات الأخيرة من الكساد الكبير – لكنها معبّرة وغنائية في الرسم بالفرشاة. ألهم إدماج غوركي للأنماط جيلًا واسعًا من الفنانين الأمريكيين في فترة ما بعد الحرب لاحتضان التجريد الواسع النطاق. ما نسميه الآن «التعبيرية التجريدية»، وكان ذاك الجيل في الواقع مجموعة فضفاضة من الفنانين الذين يستخدمون أنماطًا متعدّدة من أنماط التجريد. ربما كان القاسم المشترك بين هؤلاء الفنانين – على الأقل في السنوات الأولى – هو دعم جيل جديد من النقاد بقيادة كليمنت غرينبيرغ، الذي كان يعتقد أن التجريد هو التعبير الأسمى للفن الغربي. «الكبد هو مشط الديك» (1944) - أرشيل جوركي.«الكبد هو مشط الديك» (1944) – أرشيل جوركي. الحداثة ومصير الفنّ الغربي كان يُعتقد في بعض الأوساط الفكرية المؤثرة أنّ الفن يتقدم نحو هدف؛ وهذا المضمون يشتمل عليه مصطلح «الطليعية» (Avant-garde)، الذي يُوصف به الفنّانون الذين يبتكرون أرضية جمالية جديدة. أصل المصطلح فرنسي يُطلق على الجنود الذين يتقدمون إلى مناطق جديدة. بالنسبة إلى غرينبيرغ، لم يكن هؤلاء الفنّانون يوسّعون حدود إمكانات الفن؛ بل كانوا يتقدمون نحو الهدف الحقيقي والمفرد لكل شكل فني. يُعدّ غرينبيرغ شخصية مهمة في تاريخ الفن التجريدي، وذلك لأمرين: بوصفه مناصرًا رائدًا في مسألة تفوق الفن التجريدي على غيره من أنواع الرسم، وتأكيده للقوة التي امتلكها هذا الفن. كان ناقدًا في اللجنة الأمريكية للحريّة الثقافية التي تمولها الدولة، وهي مجموعة تم إنشاؤها لتعزيز الفن الأمريكي على المستوى الدولي. أصبحت أفكار غرينبيرغ مؤثرة عندما كانت الولايات المتحدة جزءًا من الحرب على الفاشية والنازية، وخلال الحرب الباردة اللاحقة ضد الشيوعية السوفيتية. كانت معايير الفن الفاشي والسوفياتي واضحة، وهي ما تحددها السلطات الثقافية أنها كذلك، بيد أنّه ما لم يكن واضحًا هو معايير الفن «الجيد» وتحديدًا في الغرب الديمقراطي. كان الماركسيون هم من تعاطف مع غرينبيرغ في البداية، لكن ارتبط تفكيره بشكلٍ متزايد بالهيمنة الثقافية الأمريكية. بالنسبة إليه، كان التجريد في أعمال بولوك فنًا مثاليًا لمجتمع ديمقراطي. تتجلى الحداثة في الفن، وفقًا لغرينبيرغ، في إطار التنوير الأوروبي؛ أيّ في فترة ازدهار الأفكار الفلسفية والعلمية التي أعطت الأولوية للعقل. في مقالته المؤثرة « الرسم الحداثي» (1961)، وصفَ غرينبيرغ إيمانويل كانط – الفيلسوف الألماني في عصر التنوير – بأنّه «أول حداثي حقيقي». كان أسلوب كانط في «النقد» هو استخدام العقل لنقد العقل بغرض توضيحه، ومنحه استقلالية عن أنواع التفكير الأخرى. «أولمبيا» - إدوارد مانيه (1863). بالنسبة إلى كليمنت غرينبيرغ، كان مانيه أول رسام حداثي. لقد رسم مانيه لوحاته بأسلوبٍ مسطّح بشكلٍ متعمد.«أولمبيا» – إدوارد مانيه (1863). بالنسبة إلى كليمنت غرينبيرغ، كان مانيه أول رسام حداثي. لقد رسم مانيه لوحاته بأسلوبٍ مسطّح بشكلٍ متعمد. بالطريقة نفسها، كان الرسامون الحداثيون – من إدوارد مانيه في القرن التاسع عشر إلى موريس لويس، وهو رسام يعمل ينتمي إلى رسامي أسلوب مجال ألوان في الولايات المتحدة في الوقت الذي كتب فيه غرينبيرغ مقالته – يعملون على ترسيخ الفن التعبيري «بشكل صارم في مجال تخصصه». رأى غرينبيرغ أن وضوح الفن التجريدي -الذي كان صادقًا بالنسبة إلى الوسيط الذي يُعبّر من خلاله- معارضٌ لـ«الفن الشعبي المبتذل [الكيتش]» الذي ينُتج على نطاق واسع في الثقافة الشعبية. إن إزالة «الكيتش» كانت مسألة استجلاء وتوضيح تحتاجها جميع الفنون لكي تصبح تعبيرًا عن إمكاناتها الجمالية الكامنة. اللوحات مسطّحة، وإيهام العمق الذي نجده في معظم الفن الغربي كان انحرافًا عن جوهر فن الرسم ذاته. كانت استقلالية الشكل الفني في جميع خصائصه دون أن تتلوث بأشكال فنية أخرى. وفقًا لغرينبيرغ، يعدّ الشكل واللون من أهم خصائص الرسم، و أفضل تمثيل لها يكون بشكلٍ مسطّح. وهكذا دافع غرينبيرغ عن «التسطيح» الذي تجلّى في لوحات الفنانين الأمريكيين التجريدية مثل جاكسون بولوك باعتباره تحقيقًا لهذا الوضوح الحداثي. لقد ضم هؤلاء الفنانين معًا ضمن فريق واحد، وهم يمثّلون المرحلة التالية في الحداثة، وقد حلّت رؤيتهم الأمريكية المميزة محلّ الفن الأوروبي الطليعي. وفي الوقت الذي أصبح فيه الفن التجريدي الأمريكي مهيمنًا، تراجعت هيمنة غرينبيرغ النقدية، وظهرت أشكال جديدة من الفن الطليعي، مستوحاة مباشرة من الثقافة الجماهيرية، وحلّت محلّ التعبيرية التجريدية في المخيال العام. تبنى فنانوّ «البوب» مثل: آندي وارهول، وريتشارد هاميلتون هذا النوع من «الفن الشعبي المبتذل» الذي رآه غرينبيرغ تلويثًا للفن الحقيقي. استمرت الأعمال الفنية التجريدية، ولكن تخلّى الفنّانون التجريديون الأكثر جرأة عن الفكرة الصارمة «للنقد الحداثي»، وعن الوضوح المتعلق بخصوصية الوسيط الفني، وذلك لصالح أشكال أخرى من التعبير. نظر فنانوّ «ما بعد الحداثة» إلى السخرية وعملية الرسم نفسها، كطرق لتجاوز الطريق المسدود للحداثة. تبنى الألماني غيرهارد ريختر كلا النهجين؛ فبعض أعماله التجريدية في الستينيات كانت مصنوعة بممسحاتٍ بدلًا من الفرشاة، حتى يتمكن من لفت الانتباه إلى عملية صنع اللوحة نفسها. كانت «اللوحات التجريدية» البارزة الأخرى التي رسمها ريختر في الواقع صورًا واقعية مرسومة بعناية تعكس لوحاته التجريدية الأخرى. أصبحت طلائعية الرسم التجريدي مفهومية أكثر، ما جعل ضمنيًّا قضية الرسم تحظى باستقلالية أقل مما كان كان يعتقد النقاد الحداثيون. قلّد فنانوّ «نيو جيو»، مثل: الرسام بيتر هالي، والنحات أشلي بيكرتون اللغة البصرية للتجريد الهندسي، لكنهما دمجاها مع السلع الاستهلاكية بألوانٍ تجارية فاتحة وأحيانًا فلورية. منذ ذلك الجيل ما بعد الحداثي من الرسامين والنحاتين الممتد من الستينيات إلى التسعينيات، ازدهر التجريد متفرّعًا إلى عددٍ لا يُحصى من الأساليب والمقاربات بجوار الفن التشخيصي. هنا يمكن القول إنّ التجريد المتحرّر من عبء التوقعات الحداثية هو ببساطة نهج للتعبير مثل أيّ نهج آخر. وتجدر الإشارة إلى أنّ بعض الفنانين التجريديين استخدموا الحيل البصرية المستعملة في الفن التشخيصي – مثل المنظور والتظليل – في لوحاتهم. ولاستخدامهم هذا أهداف فريدة و غالبًا لا تهتم بالنظرية. قلّد فنانوّ «ما بعد الحداثة» مثل: بيتر هالي اللغة البصرية المستعملة في الفن التجريدي الحديث (في حالة بيتر، التجريد الهندسي)، للتعليق على طبيعة الفن والمعنى نفسه. تمثّل هذه الكتل الملونة «الخلايا» و«الأنابيب».قلّد فنانوّ «ما بعد الحداثة» مثل: بيتر هالي اللغة البصرية المستعملة في الفن التجريدي الحديث (في حالة بيتر، التجريد الهندسي)، للتعليق على طبيعة الفن والمعنى نفسه. تمثّل هذه الكتل الملونة «الخلايا» و«الأنابيب». هذا هو التحرّر نحو الأفضل بين الرسامين التجريديين الذين يمكنهم الالتزام برؤيةٍ فريدة بالرسم على القماش. لكن فكّ ارتباط الفن التجريدي عن إطاره الفلسفي الأوسع أدى أيضًا إلى انتشارٍ يثير التساؤل لأعمال تجريدية متنوعة قابلة للاستهلاك – بمعنى أنّها فقدت قيمتها، وباتت تُباع وتُشترى سريعًا بأسعارٍ مربحة – يشتريها المشترون المتضاربون. دفع هذا التحول الناقد جيري سالتز إلى كتابة: « الزومبي على الجدران: لماذا يبدو الكثير من التجريد الجديد متشابهًا؟». وقد شبه اللّوحات التجريدية بصورة «الزومبي»، تحقيرًا لأعمال عددٍ من الرسامين التجريديين البارزين، الذين استخدموا الفنّ وجماليته لتقديم أعمال مبتذلة. ومن المفارقات أن هؤلاء الفنانين نظروا إلى الشكلانية بوصفها فنًّا حداثيًّا متبنّين منظور غرينبيرغ، لكنهم بالطبع قدّموا أعمالًا في ظلّ فراغ تاريخي وبعد فترةٍ طويلة حين لم يُصبح التجريد مثيرًا للاهتمام أو راديكاليًا بأي وجه من الوجوه. في الواقع، لم يصل مشروع الحداثة  في الفن التجريدي إلى نهايته، بل النقد. إنّ النقد -أيّ الإطار الفلسفي الواسع الذي يصادق على الأعمال الفنية ويثمّنها لأهميتها الثقافية والتاريخية- هو ما فقد التوجه والسلطة. كان مسار الفن الغربي منذ عصر التنوير يتأرجح بين قطبي الدوغمائية النقدية والإبداع. تكمن المشكلة أنه في العقود الأخيرة، وفي ظلّ غياب أي مشروع نقدي متماسك، انجرف الفن نحو إرضاء اهتمامات دقيقة ومتنوعة تزداد باستمرار. في حين كانت هناك «حركات» و«مدارس» فنية -مصطلحان يشيران إلى الوجهة والانضباط- لم يعد لدينا الآن سوى «مشاهد». هذا ليس بالضرورة أمرًا سيئًا. ولكن في عالم حيث «كل شيء مقبول – anything goes»، لا يوجد مجال لهذا النوع من الابتكار والتجاوز الذي أدى إلى ظهور الفن التجريدي في الغرب، وهذا ما جعل الفن الحديث فنًّا مثيرًا للغاية. من الصعب في هذه اللحظة التاريخية أن ندرك ما الذي جعل لوحة بولوك «رقم 32» مثيرة للانقسام، ومخلخلةً جدًا للمعايير، وفي الوقت نفسه محتفظةً بقيمةٍ عالية جدًا لأولئك الذين يعتقدون أن للفنِّ مكانًا في المجتمع يتجاوز المتعة. [divider style=”solid” top=”20″ bottom=”20″] [1] واللقب كذلك يُلمح إلى القاتل المتسلسل في لندن آخر القرن التاسع عشر: جاك السفّاح Jack the ripper (مدير التحرير). ### خارج عقلك | توم تشاتفيلد – ت: محمد السعيد                  عندما يكون هاتفي النقال بين يديّ، هل أكون أنا الشخص نفسه لو كان الهاتف في غرفة أخرى؟ من ناحية،... ### الدراما في التعليم: مقاربات وتطبيقات | نعيم حيماد افتتاحيّة حظي استخدام الدراما في التعليمفي السنوات الأخيرة باهتمام كبير من قبل نخبة من المنظرين والممارسين للدراما في مجال التعليم.... ### الحقائق المخفية | دي بي سي بيير – ت: محمد السعيد       يحمل جبل كلسي خشن في غرب إيران عددًا من النقوش البارزة، من بينها لوحة طولها خمسة وعشرين مترًا منقوشة... ### التغلُّب على كاشف الكذب | كلاريسا سيباغ-مونتِنفيوري – ت: محمد السعيد          حين  اتُّهِمَتْ مربية الأطفال البريطانية لويز وودورد بهزِّ رضيع حتى الموت في مدينة نيوتن بولاية ماساتشوستس، لم تكتفِ بإعلان... ### عن منصة معنى «معنى»، مؤسسة ثقافية تقدّمية ودار نشر تهتم بالفلسفة والمعرفة والفنون، عبر مجموعة متنوعة من المواد المقروءة والمسموعة والمرئية. انطلقت في 20 مارس 2019، بهدف إثراء المحتوى العربي، ورفع ذائقة ووعي المتلقّي المحلي والدولي، عبر الإنتاج الأصيل للمنصة والترجمة ونقل المعارف. ### روابط سريعة ### التصنيفات ### مرحبا بك! قم بتسجيل الدخول إلى حسابك تذكرني ### قم بإنشاء حساب جديد! املأ النموذج أدناه للتسجيل ### طلب إعادة تعيين كلمة المرور يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان البريد الإلكتروني لإعادة تعيين كلمة المرور الخاصة بك. ### Add New Playlist - Select Visibility -PublicPrivate No Result عرض جميع النتائج - 00:00 00:00 - 00:00 00:00
article
Arabic
ar
الفنّ التجريدي: بين الماضي والحاضر - منصة معنى الثقافية
https://mana.net/abstract-art/
1,879
في أواخر القرن التاسع عشر، لاحظ العلماء بشكلٍ أفضل مما سبق القوى غير المرئية مع انتشار التقنيات الجديدة، وأصبح من الواضح أن العالم أرحب مما يبدو للعين.
sentence
في أواخر القرن التاسع عشر، لاحظ العلماء بشكلٍ أفضل مما سبق القوى غير المرئية مع انتشار التقنيات الجديدة، وأصبح من الواضح أن العالم أرحب مما يبدو للعين. في الوقت نفسه، ظهرت حركات روحية بديلة جمعت بين الأفكار الأفلاطونية والتصوف.
paragraph
Arabic
ar
الفنّ التجريدي: بين الماضي والحاضر - منصة معنى الثقافية
https://mana.net/abstract-art/
1,880
في الوقت نفسه، ظهرت حركات روحية بديلة جمعت بين الأفكار الأفلاطونية والتصوف.
sentence
في أواخر القرن التاسع عشر، لاحظ العلماء بشكلٍ أفضل مما سبق القوى غير المرئية مع انتشار التقنيات الجديدة، وأصبح من الواضح أن العالم أرحب مما يبدو للعين. في الوقت نفسه، ظهرت حركات روحية بديلة جمعت بين الأفكار الأفلاطونية والتصوف.
paragraph
Arabic
ar
الفنّ التجريدي: بين الماضي والحاضر - منصة معنى الثقافية
https://mana.net/abstract-art/
1,881
كان كلينت وموندريان من بين العديد من الفنانين الذين انغمسوا في أشكال الروحانية خارج العوالم التقليدية للدين. اعتقدت كلينت أن لوحاتها هي وحي عالم روحي، وأن مهمتها كانت العمل «على مستوى روحاني» لتمثيل روح الإنسان، بدلًا من صورته الفانية.
paragraph
لا توجد منتجات في سلة المشتريات. No Result عرض جميع النتائج الثلاثاء, سبتمبر 10, 2024 No Result عرض جميع النتائج No Result عرض جميع النتائج # الفنّ التجريدي: بين الماضي والحاضر ## ترجمة: أنطونيوس نادر AA AA إعادة تعيين فنٌ مليء بالتحديات ثمّة خطٌ رفيع يفصل بين الفن التجريدي ومجرد الزخرفة، ولوحة «رقم 32» (نُشرت عام 1950)، لجاكسون بولوك تتأرجح بين هذا الخطّ. فهي لا تشير إلى معنىً واضح، ولكن لا يمكن القول إنّها بلا معنى على الإطلاق. كما أنّها ليست معبّرة بشكلٍ مباشر، ولا يعني هذا أنها لا تعبّر عن مدلولٍ ما. تحمل هذه اللوحة الكثير من المضامين عن الفن الغربي بالنسبة إلى شخصٍ خبيرٍ في تاريخ الفن؛ أما بالنسبة إلى شخصٍ عادي، فقد يراها عملًا مبتذلًا بالكاد يعبّر عن أمرٍ ما. اللوحة شبكة من الخطوط وبقعٍ من الألوان، رُسمت عن طريق صبّ طلاءٍ رخيص بعشوائيةٍ مباشرة على القماش. تتكون اللوحة من طلاءٍ أسود فقط وقماشٍ خام. واللوحة ضخمة؛ إذ يبلغ طولها تسعة أقدام وعرضها خمسة عشر قدمًا، وتغطي مجال رؤية المشاهد أثناء اقترابه منها. تقليديًّا، حتى اللوحات التجريدية تتكون من أجزاءٍ مترابطة مع بؤر تركيز (emphases) وعمقٍ يُنقل من خلال اللون والظلال، ولكن «رقم 32» ليس لها أجزاء؛ إنّها تتكون من تعالقات، والبؤرة فيها تكمن عبر امتداد سطح القماش المستطيل. يمنحها ما سبق عمقًا سطحيًا، وربما لا عمق فيها: مجرّد طلاء على قماش. إنّها عبث بالشكل واللون. حتى اسمها، ببساطة رقمٌ معيّن – رقم 32 – يجعلها تنأى بنفسها عن أي فكرة مفادها أنها تعكس مدلولًا محدّدًا. تشير عناوين أعمال بولوك الأخرى إلى نوعٍ من الاختبار الشخصي، وإلى الاستخدام السمفوني المتعدد الطبقات للون والملمس؛ خذ مثلًا لوحاته التي تحمل اسم: «إيقاع الخريف»، و«الضباب الأرجواني»، و«الأقطاب الزرقاء»، و«انعكاس الدنقلة الكبير». هذا لا ينطبق على لوحة «رقم 32»؛ شكلها الخام وبساطتها دليل على أنّ الفنان لم يخطط مسبقًا لرسمها؛ أيّ أنّه لم ينتق الألوان ولا الطبقات. يبدو بولوك هنا أكثر حضورًا، من خلال لمساته الحادة. بالنسبة إلى مؤيديّ عمل بولوك، تختصر هذه اللوحة خلاصة نظرة الفنان الجمالية. أما بالنسبة للبعض الآخر، فهي لوحة مبتذلة. وصف جوزيف بويس -النحات الألماني في فترة ما بعد الحرب- الفنَّ التجريدي الأمريكي بأنه مجرد «تغليف»، أيّ سطح بلا محتوى. في هذا الصدد، قد يتفق البعض أن لوحة «رقم 32» تجسد فراغ الفكر والشعور ذاك. فقد رأى الروائي والناقد الفني روبرت كوتس أن فن بولوك لم يكن سوى «انفجارات» غير منظمة من الطاقة العشوائية. غير أنّ طائفة كبيرة من متذوقي الفن التجريدي لا تروق إليهم أعمال بولوك ويرونها فنًّا محيرًا، حتى إنّ بعضهم يراها إهانةً للذوق أو الحسّ السليم. عُرف بولوك بلقب: «جاك فنان النقط» (Jack the Dripper) [1] في الأوساط الإعلامية المشككة بعمله حيث ادعى كثر أن أيّ شخص يمكنه أن يرسم كما يرسم بولوك إلّا أنّ أحدًا لم يتجرأ على فعل ذلك. «رقم 32» - جاكسون بولوك«رقم 32» – جاكسون بولوك بيد أنّ هذا هو مغزى الفن التجريدي في التقليد الغربي: إنّه تحدّ. وفي ظل الكثير هذه التحديات، تُعد لوحة « رقم 32» اللوحة الأكثر تمثيلًا لهذا الفن. قصة الفنّ التجريدي مسار قصة الفن التجريدي مضمّنة في الدراسات التاريخية الفنية، إلّا أنّ المحطات الرئيسة لهذا المسار كانت محط تغييرات مفاجئة كلما اكتشف مؤرخوّ الفن حقائق جديدة. انطلق مسار الفن التجريدي بدءًا من القرن التاسع عشر وما تلاه؛ حيث استفاد الفنانون من مادة الطلاء والجوانب الشكلية للرسم مثل اللون والدرجة والخطوط. يُعرف هذا الانشغال بالجوانب غير التمثيلية (non-representative) للفن باسم «الشكلانية»، لأنّه انشغال «بالشكل»، أيّ بتوسل شكل المحتوى بدلًا من المحتوى في ذاته. بالنسبة إلى الفنانين في القرن التاسع عشر، صُنّف الفن التجريدي على أنّه «فنٌّ من أجل الفنّ»، وكانت الفكرة الشائعة مفادها أنّ المتذوق للفن يمكنه الاستمتاع بالعمل دون اللجوء إلى معنى أو حتى أي شيء آخر يمثل أمرًا ما. تمثّل لوحة «الموسيقى الهادئة باللّونين الأسود والذهبي – الصاروخ الساقط» (1872)، للفنان جيمس مكنيل ويسلر هذا الاتجاه الذي تبلور لاحقًا في الفن التجريدي.  إنّ مشهد ويسلر الغامض من الناحية المكانيّة يقترب إلى التجريد، وذلك بمحاولته نقل الشعور أو الانطباع الخاص بالمشهد بدلًا من إعادة إنتاجه بحذافيره. «الموسيقى الهادئة باللونين الأسود والذهبي - الصاروخ الساقط» (1872-1877) - جيمس أبوت مكنيل ويسلير«الموسيقى الهادئة باللونين الأسود والذهبي – الصاروخ الساقط» (1872-1877) – جيمس أبوت مكنيل ويسلير في عام 1877، انتقد جون روسكين – أبرز نقّاد بريطانيا في ذلك الوقت – عمل ويسلير هذا نقدًا لاذعًا فشبهه «بمن قام برمي الطلاء في وجه الجمهور». تأثر ويسلر بهذا الكلام، فرفع دعوى قضائية ضد روسكين، بيد أنّه خسرها لأن المسؤولين عرضوا اللوحة -خطأً- مقلوبةً على المحكمة. أفلس ويسلير بسبب هذه القضية، لكن مسيرة تطور الفن التجريدي استمرت. من ناحيةٍ أخرى، تحديد أول فنان تجريدي في العالم موضوع نزاع. في نظر أبحاث تاريخ الفن التقليدية، كان فاسيلي كاندينسكي – فنان روسي الجنسية رسم لوحات تجريدية بالكامل في مطلع عام 1911- هو أول فنان تجريدي. لم ينل الفن التجريدي الرائد لهيلما أف كلينت تقديرًا إلا قبل سنوات قريبة. هذه صورة للمعرض الشهير في  متحف غاغينهايم، عام 2018 .لم ينل الفن التجريدي الرائد لهيلما أف كلينت تقديرًا إلا قبل سنوات قريبة. هذه صورة للمعرض الشهير في  متحف غاغينهايم، عام 2018 . ولكن في الآونة الأخيرة، وبفضل المعرض الرائد في متحف مقاطعة لوس أنجلوس للفنون في عام 1986 الذي حمل اسم «الروحانية في الفن: الرسم التجريدي 1890 – 1985»، وقع الاختيار على هيلما أف كلينت كأول رسامة تجريدية. بدأت كلينت في رسم لوحات تجريدية بدءًا من عام 1906، وحملت مجموعتها عنوان «الفوضى البدائية». كانت الفنانة متكتمة في ما يتعلق بأعمالها التجريدية، ولم تُعرض أيّ منها في معارض عامة، وبقيت غير معروفة حتى أزيح عنها الستار مؤخرًا. ولعل الجدال حول هوية أول من مارس الفن التجريدي سيستم، لكن الحقيقة الأكثر أهمية هي أن العديد من الفنانين الأوروبيين البارزين قد توصّلوا في أعمالهم إلى التجريد بحلول الحرب العالمية الأولى. لقد وجد كل منهم طريقته الخاصة في التخلي عن الفن التشخيصي (figurative painting). وجديرٌ بالذكر أنّه لم تكن هناك حركة «تجريدية» دولية ذات رؤية أو بيان مشترك. في ضوء ذلك، فإن السؤال الملحّ حقًا هو: لمَ لمْ يتبنى الفنانون الغربيون الفن التجريدي على امتداد قرون عديدة؟ لماذا كان التجريد غير ضروري أو لا معنى له أو غير مناسب أو حتى لا يمكن تقبّله لقرونٍ متوالية في الفن الغربي؟ ظهرت العديد من التفسيرات لشرح ذلك. إحدى النظريات الأكثر وضوحًا هي أن ظهور التصوير الفوتوغرافي بوصفه شكلًا من أشكال الفن، إضافةً إلى تطور الفن الحديث، سببان رئيسان لإزاحة الرسم التشخيصي. ثمّة إجابات أخرى غير ملموسة لاستكشاف الأسباب: ربما عندما أصبحت الأعمال الفنية قابلة للاستهالاك بشكل متزايد، مثل السلع، بات من السهولة فصل اللوحات والمنحوتات عن التجارب المحددة لمبدعيها. ربما أدت الحداثة في الغرب إلى إفراغ الفن من المحتوى التشخيصي؛ مما دفع الفنانين أيضًا إلى التخلي عن التمثيل التشخيصي. كل من هذه الإجابات معقدة وتتطلب الكثير من الشرح، ولا يمكن إلا أن تكون تخمينات. لا توجد إجابة واضحة لهذه المسألة. ربما يكون من الأفضل طرح السؤال حول سبب تقبّل الفن التجريدي فنًّا من الفنون الرسمية في تاريخ الفن الغربي في مرحلة معينة على علماء الأنثروبولوجيا بدلًا من طرحها على مؤرخي الفن. فما هو واضح أن الفن التجريدي كان موجودًا دائمًا في مناطق أخرى من العالم. ما جعل الفن التجريدي فنًّا حديثًا على وجه التحديد في العالم الغربي هو نظام المعارض، الذي أعطى القيمة الفنية للأعمال المعروضة. وكما هو واضح فقد ازدهر التجريد لآلاف السنين المناطق الشرقية والجنوبية من العالم، دون عناء التحقق من مكانة الأعمال المعروضة في الصالونات [والمعارض، كما هو في العالم الغربي]. الواقع الافتراضي و«الافتراضية» يتبنى بيبي كرمل وهو مؤرخ فني، في كتابه « الفن التجريدي: تاريخ عالمي»، فكرة أنّ الفن التجريدي كان دائمًا موجودًا بشكل طبيعي عندما ننظر إليه نظرة شاملة وعالمية، بيد أنّه يتحاشى طرح نظرية عن تطور الفن التجريدي. بالنسبة إلى كرمل، فإنّ هذا الفنّ متجذر في العالم الحقيقي، وهو ليس فنًّا «مجردًا» على الإطلاق، كما أنّه تقليد عالمي وليس محليًا. في دراسته حول الفن التجريدي يقسم العمل الفني إلى خمس فئات واسعة تنتمي إلى العالم الحقيقي: الأجسام، والمناظر الطبيعية، والكون، والبنى، والعلامات والأنماط. من خلال فحص الفن التجريدي بهذه الطريقة، يرى كرمل في اللوحات التجريدية موضوعات قابلة للتحليل، بعكس النقاد والمؤرخين الأرثوذكسيين الذين رأوا فيها مجرّد توليفات شكلية مكوّنة من لون وشكل. ربما يكون من الأفضل أن يطلق على الفن التجريدي: فن ما تم تجريده (abstracted art)؛ لأنّ الفنانين التجريديين عادةً ما يستخلصون ويجرّدون تعبيرات التجارب في شكل ولون،  أكثر من كونها توليفات مكونة من شكل ولون. ومرّد ذلك الطبيعة الجوهرية للرسم والنحت؛ فهما (الشكل اللّون) وسيطان للتعبير، مثل الشاشة أو المسرح لخيال الفنان. كما هو الحال في المسرح أو السينما، فإنّ جمهور اللوحة أو المنحوتة يعلّق معتقداته من أجل أن يتقبل المشهد. من المفيد التفكير في اللوحة التشخيصية التقليدية أو النحت على أنها حقيقة افتراضية. إذْ استخدم الفنانون لقرون عديدة الحيل البصرية -مثل المنظور الخطي، والتقصير المسبق، والتظليل- لمحاكاة الطريقة التي ندرك بها الأشياء في الفضاء الحقيقي. إنّ المشاهد تُنشأ في فضاء افتراضي – سواء كانت القاعدة التي تدعم التمثال أو القماش – ليراها المشاهدون بوصفها خدعة بصرية. «القديس بطرس شفاء أحد الأشخاص وبعث تابيثا من الموت» ماسولينو دي بانيكال. اعتمد الرسم الغربي قبل القرن العشرين على الحيل البصرية لخلق واقع افتراضي. إحدى هذه الحيل هي المنظور الخطي، وهذه اللوحة هي أول مثال لاستخدام نقطة تلاشٍ متسقة.«القديس بطرس شفاء أحد الأشخاص وبعث تابيثا من الموت» ماسولينو دي بانيكال. اعتمد الرسم الغربي قبل القرن العشرين على الحيل البصرية لخلق واقع افتراضي. إحدى هذه الحيل هي المنظور الخطي، وهذه اللوحة هي أول مثال لاستخدام نقطة تلاشٍ متسقة. يستمتع مشاهدوّ الأعمال الفنية العظيمة معنى ما يُرسم، ويقدرون الطريقة التي يتجلّى فيها الوهم عبر تمازج اللون والشكل. يبقى الفن التجريدي، إلى حدٍ ما، ضمن إطار التجربة الجمالية. فقد سعت حركات الفن الحديث التي أدت إلى التجريد -أيّ «مدارس الفن»، مثل الانطباعية والفاوفية والتكعيبية- إلى تمثيل العالم بشكل مختلف عن كل الفنون التي سبقتها. إذْ ادعوا الاقتراب من الحقيقة الذاتية عبر تهميش جميع الحيل الوهمية التقليدية التي حاولت إعادة إنتاج الواقع بحذافيره كحقيقة موضوعية. «الأحمر والأصفر والأزرق» (1925) واسيلي كاندينسكي.  كان كاندينسكي يعدّ لفترةٍ طويلة أب الرسم التجريدي الغربي.«الأحمر والأصفر والأزرق» (1925) واسيلي كاندينسكي.  كان كاندينسكي يعدّ لفترةٍ طويلة أب الرسم التجريدي الغربي. بالنسبة إلى هذه المدارس، أصبح الفن أقل من أن يوصف بأنّه واقع افتراضي، لكنه مع ذلك احتفظ بالافتراضية، وأصبح افتراضيًا. لقد أخذ الفن التجريدي مسار التطور هذا إلى أقصاه: من الواقع الافتراضي إلى الافتراضية. ماذا تعني «الافتراضية» هنا؟ إنّها الوجود كجوهر وتأثير، ولكن بدون اللجوء إلى الواقع. اللوحة التجريدية التي رسمها كاندينسكي، على سبيل المثال، ما زالت تُعدّ علاقة متبادلة بين الشكل واللون، و تعتمد على الرسم كمستوى تخطيطي: إنها نافذة تطلّ على «الواقع» الفردي الذي تصوّره كاندينسكي. وما تزال العناصر في لوحات كاندينسكي تحظى بعلاقة متبادلة، كما هو الحال في فضاء الواقع الافتراضي للوحة التشخيصية؛ فجوهر الرسم سليم إذ إنّ ذلك الفضاء الافتراضي ما زال موجودًا. عندما يكون الفن التجريدي بناءً خالصًا، ويتخلص من المساحة الافتراضية الملازمة للرسم والنحت، يصبح متميزًا عنهما. وصف دونالد جود الفنان التخفيفي (minimalist) مثل هذه الأعمال الفنية بأنها «أجسام محدّدة» (Specific Objects). إنّه مصطلح غير دقيق، ولكنه يصلح لإظهار أن مثل هذه الأعمال الفنية ليست رسمًا ولا نحتًا، ولكنها فئة أخرى تمامًا. رأى دونالد جود أن أعماله وأعمال العديد من معاصريه تشغل مساحة هجينة، لا هي لوحات ولا هي نحت. عمل دون عنوان لدونالد جود. استخدم جود هذا المصطلح لوصف أعماله الخاصة، ولكنه ينطبق على لوحات كازيمير ماليفيتش وفرانك ستيلا أحادية اللون، والتي تجعل اللوحة تندمج مع نفسها بالكامل، من أجل الوصول للتأثير الذي يأمل العمل في تحقيقه. في مثل هذه الأعمال، لم يعد قماش اللّوحة (أو القاعدة) سطحًا تتفاعل فيه الأشكال والألوان في الفضاء الافتراضي. بدلاً من ذلك، تتفاعل الأشكال والألوان في الفضاء الحقيقي، في فضائنا. تختلف معايير النجاح أو الفشل لهذه الأعمال عن الخصائص التقليدية للرسم والنحت. رأى جود أنّ خصائص الرسم والنحت تقف في طريق ما أراد تحقيقه من خلال اللون والشكل. في رأيه، كان لـ «أجسامه المحددة» تأثيرًا أحدّ من غيرها. الواقع والأشكال الجديدة للإدراك الحسّي الرسم نفسه له ثلاثة أنواع عامة من التجريد؛ أولًا، ثمّة أسلوب تعبيري تُرسم فيه الأشكال بحركاتٍ غير مقيدة؛ ثم هناك التجريد الهندسي حيث يتم هيكلة الأشكال؛ أما النوع الثالث، فهو تجريد مجال اللون حيث يتم عرض مساحات من الألوان بطريقةٍ لا شكل واضح لها. لم تكن هذه «الأنماط» (styles) أنماطًا عرضيةً أو تعتمد على ذوق أو ميل الرسام كوسيلة لتحقيق هدفٍ ما من البحث الفني. وخير مثال على ذلك هو الفنان الذي غالبًا ما ينظر إلى عمله على أنّه ذروة التجريد الهندسي: بيت موندريان. إنّ لوحات بيت موندريان المكونة من شبكات (grids) ذات الخطوط السوداء والأجزاء الملونة على خلفية بيضاء؛ تهدف إلى استحضار «حقيقة أعلى». بالنسبة إلى موندريان، كان الفن في جوهره معارضًا للواقع؛ «لأن الواقع يتعارض مع الروحي». بغض النظر عن هذه اللوحة الأشهر لموندريان، فإنّ جوانب الرسم التي تهم هذا الفنان حقًا لم تكن الجوانب المحددة للموضوع -أيّ ماذا أو ما يتم تصويره في اللوحة مثلًا- بل الجوانب القابلة للفهم عالميًا للشكل والخط واللون. إنّ لوحات موندريان، مثلها مثل لوحات الفنانين الآخرين، هي محاولة لاستخلاص الشكل واللون من أجل الاقتراب من ذلك الجوهر العالمي والروحي للفن. عبّر موندريان عن رغبته في الوصول إلى «أساس» الأشياء من خلال الحدس، كالعديد من الفنانين التجريديين الآخرين في النصف الأول من القرن العشرين الذين رغبوا في الوصول إلى قوى غير مرئية حولنا، ولكنها معروفة أو محدوسة. «التكوين الثاني باللون الأحمر والأزرق والأصفر» (1930) - بيت موندريان«التكوين الثاني باللون الأحمر والأزرق والأصفر» (1930) – بيت موندريان في أواخر القرن التاسع عشر، لاحظ العلماء بشكلٍ أفضل مما سبق القوى غير المرئية مع انتشار التقنيات الجديدة، وأصبح من الواضح أن العالم أرحب مما يبدو للعين. في الوقت نفسه، ظهرت حركات روحية بديلة جمعت بين الأفكار الأفلاطونية والتصوف. كان كلينت وموندريان من بين العديد من الفنانين الذين انغمسوا في أشكال الروحانية خارج العوالم التقليدية للدين. اعتقدت كلينت أن لوحاتها هي وحي عالم روحي، وأن مهمتها كانت العمل «على مستوى روحاني» لتمثيل روح الإنسان، بدلًا من صورته الفانية. بحلول عشرينيات القرن الماضي، كانت نظرية فرويد عن للعقل البشري قد تغلغلت أيضًا في عالم الفن.  كذلك السريالية، وهي حركة منظمة بإحكام بدأت مع بعض الفنانين الذين سعوا إلى التنقيب عن الإمكانات الإبداعية للعقل الباطن، وهي الحركة الثقافية التي كانت سائدة في أوروبا بين الحربين العالميتين. لم تكن السريالية دوغمائية في محاولتها لاستكشاف اللاوعي، ولذلك ظهر عدد من الأساليب والطرق لمحاولة إخراج اللاوعي إلى السطح. إحدى هذه الأساليب كان الرسم الآلي (Automatism)، وهي عملية يتخلى فيها الفنان عن السيطرة الواعية لليد التي ترسم  أو تصور. في هذا المجال، تبنى الفنانون مثل أندريه ماسون وخوان ميرو الفرصة لبناء صورهم باستخدام حركات حرّة، وحتى إلقاء الطلاء على القماش. طور أرشيل غوركي -هو مهاجر أرمني عاش في الولايات المتحدة- أسلوبًا في الرسم يدمج بين الرسم الآلي وتجريد مجال الألوان. لوحاته في الأربعينيات حجمُها ضخم – ومرد ذلك تأثره بأعماله السابقة كفنان جداري مُعيّن من الدولة خلال السنوات الأخيرة من الكساد الكبير – لكنها معبّرة وغنائية في الرسم بالفرشاة. ألهم إدماج غوركي للأنماط جيلًا واسعًا من الفنانين الأمريكيين في فترة ما بعد الحرب لاحتضان التجريد الواسع النطاق. ما نسميه الآن «التعبيرية التجريدية»، وكان ذاك الجيل في الواقع مجموعة فضفاضة من الفنانين الذين يستخدمون أنماطًا متعدّدة من أنماط التجريد. ربما كان القاسم المشترك بين هؤلاء الفنانين – على الأقل في السنوات الأولى – هو دعم جيل جديد من النقاد بقيادة كليمنت غرينبيرغ، الذي كان يعتقد أن التجريد هو التعبير الأسمى للفن الغربي. «الكبد هو مشط الديك» (1944) - أرشيل جوركي.«الكبد هو مشط الديك» (1944) – أرشيل جوركي. الحداثة ومصير الفنّ الغربي كان يُعتقد في بعض الأوساط الفكرية المؤثرة أنّ الفن يتقدم نحو هدف؛ وهذا المضمون يشتمل عليه مصطلح «الطليعية» (Avant-garde)، الذي يُوصف به الفنّانون الذين يبتكرون أرضية جمالية جديدة. أصل المصطلح فرنسي يُطلق على الجنود الذين يتقدمون إلى مناطق جديدة. بالنسبة إلى غرينبيرغ، لم يكن هؤلاء الفنّانون يوسّعون حدود إمكانات الفن؛ بل كانوا يتقدمون نحو الهدف الحقيقي والمفرد لكل شكل فني. يُعدّ غرينبيرغ شخصية مهمة في تاريخ الفن التجريدي، وذلك لأمرين: بوصفه مناصرًا رائدًا في مسألة تفوق الفن التجريدي على غيره من أنواع الرسم، وتأكيده للقوة التي امتلكها هذا الفن. كان ناقدًا في اللجنة الأمريكية للحريّة الثقافية التي تمولها الدولة، وهي مجموعة تم إنشاؤها لتعزيز الفن الأمريكي على المستوى الدولي. أصبحت أفكار غرينبيرغ مؤثرة عندما كانت الولايات المتحدة جزءًا من الحرب على الفاشية والنازية، وخلال الحرب الباردة اللاحقة ضد الشيوعية السوفيتية. كانت معايير الفن الفاشي والسوفياتي واضحة، وهي ما تحددها السلطات الثقافية أنها كذلك، بيد أنّه ما لم يكن واضحًا هو معايير الفن «الجيد» وتحديدًا في الغرب الديمقراطي. كان الماركسيون هم من تعاطف مع غرينبيرغ في البداية، لكن ارتبط تفكيره بشكلٍ متزايد بالهيمنة الثقافية الأمريكية. بالنسبة إليه، كان التجريد في أعمال بولوك فنًا مثاليًا لمجتمع ديمقراطي. تتجلى الحداثة في الفن، وفقًا لغرينبيرغ، في إطار التنوير الأوروبي؛ أيّ في فترة ازدهار الأفكار الفلسفية والعلمية التي أعطت الأولوية للعقل. في مقالته المؤثرة « الرسم الحداثي» (1961)، وصفَ غرينبيرغ إيمانويل كانط – الفيلسوف الألماني في عصر التنوير – بأنّه «أول حداثي حقيقي». كان أسلوب كانط في «النقد» هو استخدام العقل لنقد العقل بغرض توضيحه، ومنحه استقلالية عن أنواع التفكير الأخرى. «أولمبيا» - إدوارد مانيه (1863). بالنسبة إلى كليمنت غرينبيرغ، كان مانيه أول رسام حداثي. لقد رسم مانيه لوحاته بأسلوبٍ مسطّح بشكلٍ متعمد.«أولمبيا» – إدوارد مانيه (1863). بالنسبة إلى كليمنت غرينبيرغ، كان مانيه أول رسام حداثي. لقد رسم مانيه لوحاته بأسلوبٍ مسطّح بشكلٍ متعمد. بالطريقة نفسها، كان الرسامون الحداثيون – من إدوارد مانيه في القرن التاسع عشر إلى موريس لويس، وهو رسام يعمل ينتمي إلى رسامي أسلوب مجال ألوان في الولايات المتحدة في الوقت الذي كتب فيه غرينبيرغ مقالته – يعملون على ترسيخ الفن التعبيري «بشكل صارم في مجال تخصصه». رأى غرينبيرغ أن وضوح الفن التجريدي -الذي كان صادقًا بالنسبة إلى الوسيط الذي يُعبّر من خلاله- معارضٌ لـ«الفن الشعبي المبتذل [الكيتش]» الذي ينُتج على نطاق واسع في الثقافة الشعبية. إن إزالة «الكيتش» كانت مسألة استجلاء وتوضيح تحتاجها جميع الفنون لكي تصبح تعبيرًا عن إمكاناتها الجمالية الكامنة. اللوحات مسطّحة، وإيهام العمق الذي نجده في معظم الفن الغربي كان انحرافًا عن جوهر فن الرسم ذاته. كانت استقلالية الشكل الفني في جميع خصائصه دون أن تتلوث بأشكال فنية أخرى. وفقًا لغرينبيرغ، يعدّ الشكل واللون من أهم خصائص الرسم، و أفضل تمثيل لها يكون بشكلٍ مسطّح. وهكذا دافع غرينبيرغ عن «التسطيح» الذي تجلّى في لوحات الفنانين الأمريكيين التجريدية مثل جاكسون بولوك باعتباره تحقيقًا لهذا الوضوح الحداثي. لقد ضم هؤلاء الفنانين معًا ضمن فريق واحد، وهم يمثّلون المرحلة التالية في الحداثة، وقد حلّت رؤيتهم الأمريكية المميزة محلّ الفن الأوروبي الطليعي. وفي الوقت الذي أصبح فيه الفن التجريدي الأمريكي مهيمنًا، تراجعت هيمنة غرينبيرغ النقدية، وظهرت أشكال جديدة من الفن الطليعي، مستوحاة مباشرة من الثقافة الجماهيرية، وحلّت محلّ التعبيرية التجريدية في المخيال العام. تبنى فنانوّ «البوب» مثل: آندي وارهول، وريتشارد هاميلتون هذا النوع من «الفن الشعبي المبتذل» الذي رآه غرينبيرغ تلويثًا للفن الحقيقي. استمرت الأعمال الفنية التجريدية، ولكن تخلّى الفنّانون التجريديون الأكثر جرأة عن الفكرة الصارمة «للنقد الحداثي»، وعن الوضوح المتعلق بخصوصية الوسيط الفني، وذلك لصالح أشكال أخرى من التعبير. نظر فنانوّ «ما بعد الحداثة» إلى السخرية وعملية الرسم نفسها، كطرق لتجاوز الطريق المسدود للحداثة. تبنى الألماني غيرهارد ريختر كلا النهجين؛ فبعض أعماله التجريدية في الستينيات كانت مصنوعة بممسحاتٍ بدلًا من الفرشاة، حتى يتمكن من لفت الانتباه إلى عملية صنع اللوحة نفسها. كانت «اللوحات التجريدية» البارزة الأخرى التي رسمها ريختر في الواقع صورًا واقعية مرسومة بعناية تعكس لوحاته التجريدية الأخرى. أصبحت طلائعية الرسم التجريدي مفهومية أكثر، ما جعل ضمنيًّا قضية الرسم تحظى باستقلالية أقل مما كان كان يعتقد النقاد الحداثيون. قلّد فنانوّ «نيو جيو»، مثل: الرسام بيتر هالي، والنحات أشلي بيكرتون اللغة البصرية للتجريد الهندسي، لكنهما دمجاها مع السلع الاستهلاكية بألوانٍ تجارية فاتحة وأحيانًا فلورية. منذ ذلك الجيل ما بعد الحداثي من الرسامين والنحاتين الممتد من الستينيات إلى التسعينيات، ازدهر التجريد متفرّعًا إلى عددٍ لا يُحصى من الأساليب والمقاربات بجوار الفن التشخيصي. هنا يمكن القول إنّ التجريد المتحرّر من عبء التوقعات الحداثية هو ببساطة نهج للتعبير مثل أيّ نهج آخر. وتجدر الإشارة إلى أنّ بعض الفنانين التجريديين استخدموا الحيل البصرية المستعملة في الفن التشخيصي – مثل المنظور والتظليل – في لوحاتهم. ولاستخدامهم هذا أهداف فريدة و غالبًا لا تهتم بالنظرية. قلّد فنانوّ «ما بعد الحداثة» مثل: بيتر هالي اللغة البصرية المستعملة في الفن التجريدي الحديث (في حالة بيتر، التجريد الهندسي)، للتعليق على طبيعة الفن والمعنى نفسه. تمثّل هذه الكتل الملونة «الخلايا» و«الأنابيب».قلّد فنانوّ «ما بعد الحداثة» مثل: بيتر هالي اللغة البصرية المستعملة في الفن التجريدي الحديث (في حالة بيتر، التجريد الهندسي)، للتعليق على طبيعة الفن والمعنى نفسه. تمثّل هذه الكتل الملونة «الخلايا» و«الأنابيب». هذا هو التحرّر نحو الأفضل بين الرسامين التجريديين الذين يمكنهم الالتزام برؤيةٍ فريدة بالرسم على القماش. لكن فكّ ارتباط الفن التجريدي عن إطاره الفلسفي الأوسع أدى أيضًا إلى انتشارٍ يثير التساؤل لأعمال تجريدية متنوعة قابلة للاستهلاك – بمعنى أنّها فقدت قيمتها، وباتت تُباع وتُشترى سريعًا بأسعارٍ مربحة – يشتريها المشترون المتضاربون. دفع هذا التحول الناقد جيري سالتز إلى كتابة: « الزومبي على الجدران: لماذا يبدو الكثير من التجريد الجديد متشابهًا؟». وقد شبه اللّوحات التجريدية بصورة «الزومبي»، تحقيرًا لأعمال عددٍ من الرسامين التجريديين البارزين، الذين استخدموا الفنّ وجماليته لتقديم أعمال مبتذلة. ومن المفارقات أن هؤلاء الفنانين نظروا إلى الشكلانية بوصفها فنًّا حداثيًّا متبنّين منظور غرينبيرغ، لكنهم بالطبع قدّموا أعمالًا في ظلّ فراغ تاريخي وبعد فترةٍ طويلة حين لم يُصبح التجريد مثيرًا للاهتمام أو راديكاليًا بأي وجه من الوجوه. في الواقع، لم يصل مشروع الحداثة  في الفن التجريدي إلى نهايته، بل النقد. إنّ النقد -أيّ الإطار الفلسفي الواسع الذي يصادق على الأعمال الفنية ويثمّنها لأهميتها الثقافية والتاريخية- هو ما فقد التوجه والسلطة. كان مسار الفن الغربي منذ عصر التنوير يتأرجح بين قطبي الدوغمائية النقدية والإبداع. تكمن المشكلة أنه في العقود الأخيرة، وفي ظلّ غياب أي مشروع نقدي متماسك، انجرف الفن نحو إرضاء اهتمامات دقيقة ومتنوعة تزداد باستمرار. في حين كانت هناك «حركات» و«مدارس» فنية -مصطلحان يشيران إلى الوجهة والانضباط- لم يعد لدينا الآن سوى «مشاهد». هذا ليس بالضرورة أمرًا سيئًا. ولكن في عالم حيث «كل شيء مقبول – anything goes»، لا يوجد مجال لهذا النوع من الابتكار والتجاوز الذي أدى إلى ظهور الفن التجريدي في الغرب، وهذا ما جعل الفن الحديث فنًّا مثيرًا للغاية. من الصعب في هذه اللحظة التاريخية أن ندرك ما الذي جعل لوحة بولوك «رقم 32» مثيرة للانقسام، ومخلخلةً جدًا للمعايير، وفي الوقت نفسه محتفظةً بقيمةٍ عالية جدًا لأولئك الذين يعتقدون أن للفنِّ مكانًا في المجتمع يتجاوز المتعة. [divider style=”solid” top=”20″ bottom=”20″] [1] واللقب كذلك يُلمح إلى القاتل المتسلسل في لندن آخر القرن التاسع عشر: جاك السفّاح Jack the ripper (مدير التحرير). ### خارج عقلك | توم تشاتفيلد – ت: محمد السعيد                  عندما يكون هاتفي النقال بين يديّ، هل أكون أنا الشخص نفسه لو كان الهاتف في غرفة أخرى؟ من ناحية،... ### الدراما في التعليم: مقاربات وتطبيقات | نعيم حيماد افتتاحيّة حظي استخدام الدراما في التعليمفي السنوات الأخيرة باهتمام كبير من قبل نخبة من المنظرين والممارسين للدراما في مجال التعليم.... ### الحقائق المخفية | دي بي سي بيير – ت: محمد السعيد       يحمل جبل كلسي خشن في غرب إيران عددًا من النقوش البارزة، من بينها لوحة طولها خمسة وعشرين مترًا منقوشة... ### التغلُّب على كاشف الكذب | كلاريسا سيباغ-مونتِنفيوري – ت: محمد السعيد          حين  اتُّهِمَتْ مربية الأطفال البريطانية لويز وودورد بهزِّ رضيع حتى الموت في مدينة نيوتن بولاية ماساتشوستس، لم تكتفِ بإعلان... ### عن منصة معنى «معنى»، مؤسسة ثقافية تقدّمية ودار نشر تهتم بالفلسفة والمعرفة والفنون، عبر مجموعة متنوعة من المواد المقروءة والمسموعة والمرئية. انطلقت في 20 مارس 2019، بهدف إثراء المحتوى العربي، ورفع ذائقة ووعي المتلقّي المحلي والدولي، عبر الإنتاج الأصيل للمنصة والترجمة ونقل المعارف. ### روابط سريعة ### التصنيفات ### مرحبا بك! قم بتسجيل الدخول إلى حسابك تذكرني ### قم بإنشاء حساب جديد! املأ النموذج أدناه للتسجيل ### طلب إعادة تعيين كلمة المرور يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان البريد الإلكتروني لإعادة تعيين كلمة المرور الخاصة بك. ### Add New Playlist - Select Visibility -PublicPrivate No Result عرض جميع النتائج - 00:00 00:00 - 00:00 00:00
article
Arabic
ar
الفنّ التجريدي: بين الماضي والحاضر - منصة معنى الثقافية
https://mana.net/abstract-art/
1,882
كان كلينت وموندريان من بين العديد من الفنانين الذين انغمسوا في أشكال الروحانية خارج العوالم التقليدية للدين.
sentence
كان كلينت وموندريان من بين العديد من الفنانين الذين انغمسوا في أشكال الروحانية خارج العوالم التقليدية للدين. اعتقدت كلينت أن لوحاتها هي وحي عالم روحي، وأن مهمتها كانت العمل «على مستوى روحاني» لتمثيل روح الإنسان، بدلًا من صورته الفانية.
paragraph
Arabic
ar
الفنّ التجريدي: بين الماضي والحاضر - منصة معنى الثقافية
https://mana.net/abstract-art/
1,883
اعتقدت كلينت أن لوحاتها هي وحي عالم روحي، وأن مهمتها كانت العمل «على مستوى روحاني» لتمثيل روح الإنسان، بدلًا من صورته الفانية.
sentence
كان كلينت وموندريان من بين العديد من الفنانين الذين انغمسوا في أشكال الروحانية خارج العوالم التقليدية للدين. اعتقدت كلينت أن لوحاتها هي وحي عالم روحي، وأن مهمتها كانت العمل «على مستوى روحاني» لتمثيل روح الإنسان، بدلًا من صورته الفانية.
paragraph
Arabic
ar
الفنّ التجريدي: بين الماضي والحاضر - منصة معنى الثقافية
https://mana.net/abstract-art/
1,884
بحلول عشرينيات القرن الماضي، كانت نظرية فرويد عن للعقل البشري قد تغلغلت أيضًا في عالم الفن.  كذلك السريالية، وهي حركة منظمة بإحكام بدأت مع بعض الفنانين الذين سعوا إلى التنقيب عن الإمكانات الإبداعية للعقل الباطن، وهي الحركة الثقافية التي كانت سائدة في أوروبا بين الحربين العالميتين.
paragraph
لا توجد منتجات في سلة المشتريات. No Result عرض جميع النتائج الثلاثاء, سبتمبر 10, 2024 No Result عرض جميع النتائج No Result عرض جميع النتائج # الفنّ التجريدي: بين الماضي والحاضر ## ترجمة: أنطونيوس نادر AA AA إعادة تعيين فنٌ مليء بالتحديات ثمّة خطٌ رفيع يفصل بين الفن التجريدي ومجرد الزخرفة، ولوحة «رقم 32» (نُشرت عام 1950)، لجاكسون بولوك تتأرجح بين هذا الخطّ. فهي لا تشير إلى معنىً واضح، ولكن لا يمكن القول إنّها بلا معنى على الإطلاق. كما أنّها ليست معبّرة بشكلٍ مباشر، ولا يعني هذا أنها لا تعبّر عن مدلولٍ ما. تحمل هذه اللوحة الكثير من المضامين عن الفن الغربي بالنسبة إلى شخصٍ خبيرٍ في تاريخ الفن؛ أما بالنسبة إلى شخصٍ عادي، فقد يراها عملًا مبتذلًا بالكاد يعبّر عن أمرٍ ما. اللوحة شبكة من الخطوط وبقعٍ من الألوان، رُسمت عن طريق صبّ طلاءٍ رخيص بعشوائيةٍ مباشرة على القماش. تتكون اللوحة من طلاءٍ أسود فقط وقماشٍ خام. واللوحة ضخمة؛ إذ يبلغ طولها تسعة أقدام وعرضها خمسة عشر قدمًا، وتغطي مجال رؤية المشاهد أثناء اقترابه منها. تقليديًّا، حتى اللوحات التجريدية تتكون من أجزاءٍ مترابطة مع بؤر تركيز (emphases) وعمقٍ يُنقل من خلال اللون والظلال، ولكن «رقم 32» ليس لها أجزاء؛ إنّها تتكون من تعالقات، والبؤرة فيها تكمن عبر امتداد سطح القماش المستطيل. يمنحها ما سبق عمقًا سطحيًا، وربما لا عمق فيها: مجرّد طلاء على قماش. إنّها عبث بالشكل واللون. حتى اسمها، ببساطة رقمٌ معيّن – رقم 32 – يجعلها تنأى بنفسها عن أي فكرة مفادها أنها تعكس مدلولًا محدّدًا. تشير عناوين أعمال بولوك الأخرى إلى نوعٍ من الاختبار الشخصي، وإلى الاستخدام السمفوني المتعدد الطبقات للون والملمس؛ خذ مثلًا لوحاته التي تحمل اسم: «إيقاع الخريف»، و«الضباب الأرجواني»، و«الأقطاب الزرقاء»، و«انعكاس الدنقلة الكبير». هذا لا ينطبق على لوحة «رقم 32»؛ شكلها الخام وبساطتها دليل على أنّ الفنان لم يخطط مسبقًا لرسمها؛ أيّ أنّه لم ينتق الألوان ولا الطبقات. يبدو بولوك هنا أكثر حضورًا، من خلال لمساته الحادة. بالنسبة إلى مؤيديّ عمل بولوك، تختصر هذه اللوحة خلاصة نظرة الفنان الجمالية. أما بالنسبة للبعض الآخر، فهي لوحة مبتذلة. وصف جوزيف بويس -النحات الألماني في فترة ما بعد الحرب- الفنَّ التجريدي الأمريكي بأنه مجرد «تغليف»، أيّ سطح بلا محتوى. في هذا الصدد، قد يتفق البعض أن لوحة «رقم 32» تجسد فراغ الفكر والشعور ذاك. فقد رأى الروائي والناقد الفني روبرت كوتس أن فن بولوك لم يكن سوى «انفجارات» غير منظمة من الطاقة العشوائية. غير أنّ طائفة كبيرة من متذوقي الفن التجريدي لا تروق إليهم أعمال بولوك ويرونها فنًّا محيرًا، حتى إنّ بعضهم يراها إهانةً للذوق أو الحسّ السليم. عُرف بولوك بلقب: «جاك فنان النقط» (Jack the Dripper) [1] في الأوساط الإعلامية المشككة بعمله حيث ادعى كثر أن أيّ شخص يمكنه أن يرسم كما يرسم بولوك إلّا أنّ أحدًا لم يتجرأ على فعل ذلك. «رقم 32» - جاكسون بولوك«رقم 32» – جاكسون بولوك بيد أنّ هذا هو مغزى الفن التجريدي في التقليد الغربي: إنّه تحدّ. وفي ظل الكثير هذه التحديات، تُعد لوحة « رقم 32» اللوحة الأكثر تمثيلًا لهذا الفن. قصة الفنّ التجريدي مسار قصة الفن التجريدي مضمّنة في الدراسات التاريخية الفنية، إلّا أنّ المحطات الرئيسة لهذا المسار كانت محط تغييرات مفاجئة كلما اكتشف مؤرخوّ الفن حقائق جديدة. انطلق مسار الفن التجريدي بدءًا من القرن التاسع عشر وما تلاه؛ حيث استفاد الفنانون من مادة الطلاء والجوانب الشكلية للرسم مثل اللون والدرجة والخطوط. يُعرف هذا الانشغال بالجوانب غير التمثيلية (non-representative) للفن باسم «الشكلانية»، لأنّه انشغال «بالشكل»، أيّ بتوسل شكل المحتوى بدلًا من المحتوى في ذاته. بالنسبة إلى الفنانين في القرن التاسع عشر، صُنّف الفن التجريدي على أنّه «فنٌّ من أجل الفنّ»، وكانت الفكرة الشائعة مفادها أنّ المتذوق للفن يمكنه الاستمتاع بالعمل دون اللجوء إلى معنى أو حتى أي شيء آخر يمثل أمرًا ما. تمثّل لوحة «الموسيقى الهادئة باللّونين الأسود والذهبي – الصاروخ الساقط» (1872)، للفنان جيمس مكنيل ويسلر هذا الاتجاه الذي تبلور لاحقًا في الفن التجريدي.  إنّ مشهد ويسلر الغامض من الناحية المكانيّة يقترب إلى التجريد، وذلك بمحاولته نقل الشعور أو الانطباع الخاص بالمشهد بدلًا من إعادة إنتاجه بحذافيره. «الموسيقى الهادئة باللونين الأسود والذهبي - الصاروخ الساقط» (1872-1877) - جيمس أبوت مكنيل ويسلير«الموسيقى الهادئة باللونين الأسود والذهبي – الصاروخ الساقط» (1872-1877) – جيمس أبوت مكنيل ويسلير في عام 1877، انتقد جون روسكين – أبرز نقّاد بريطانيا في ذلك الوقت – عمل ويسلير هذا نقدًا لاذعًا فشبهه «بمن قام برمي الطلاء في وجه الجمهور». تأثر ويسلر بهذا الكلام، فرفع دعوى قضائية ضد روسكين، بيد أنّه خسرها لأن المسؤولين عرضوا اللوحة -خطأً- مقلوبةً على المحكمة. أفلس ويسلير بسبب هذه القضية، لكن مسيرة تطور الفن التجريدي استمرت. من ناحيةٍ أخرى، تحديد أول فنان تجريدي في العالم موضوع نزاع. في نظر أبحاث تاريخ الفن التقليدية، كان فاسيلي كاندينسكي – فنان روسي الجنسية رسم لوحات تجريدية بالكامل في مطلع عام 1911- هو أول فنان تجريدي. لم ينل الفن التجريدي الرائد لهيلما أف كلينت تقديرًا إلا قبل سنوات قريبة. هذه صورة للمعرض الشهير في  متحف غاغينهايم، عام 2018 .لم ينل الفن التجريدي الرائد لهيلما أف كلينت تقديرًا إلا قبل سنوات قريبة. هذه صورة للمعرض الشهير في  متحف غاغينهايم، عام 2018 . ولكن في الآونة الأخيرة، وبفضل المعرض الرائد في متحف مقاطعة لوس أنجلوس للفنون في عام 1986 الذي حمل اسم «الروحانية في الفن: الرسم التجريدي 1890 – 1985»، وقع الاختيار على هيلما أف كلينت كأول رسامة تجريدية. بدأت كلينت في رسم لوحات تجريدية بدءًا من عام 1906، وحملت مجموعتها عنوان «الفوضى البدائية». كانت الفنانة متكتمة في ما يتعلق بأعمالها التجريدية، ولم تُعرض أيّ منها في معارض عامة، وبقيت غير معروفة حتى أزيح عنها الستار مؤخرًا. ولعل الجدال حول هوية أول من مارس الفن التجريدي سيستم، لكن الحقيقة الأكثر أهمية هي أن العديد من الفنانين الأوروبيين البارزين قد توصّلوا في أعمالهم إلى التجريد بحلول الحرب العالمية الأولى. لقد وجد كل منهم طريقته الخاصة في التخلي عن الفن التشخيصي (figurative painting). وجديرٌ بالذكر أنّه لم تكن هناك حركة «تجريدية» دولية ذات رؤية أو بيان مشترك. في ضوء ذلك، فإن السؤال الملحّ حقًا هو: لمَ لمْ يتبنى الفنانون الغربيون الفن التجريدي على امتداد قرون عديدة؟ لماذا كان التجريد غير ضروري أو لا معنى له أو غير مناسب أو حتى لا يمكن تقبّله لقرونٍ متوالية في الفن الغربي؟ ظهرت العديد من التفسيرات لشرح ذلك. إحدى النظريات الأكثر وضوحًا هي أن ظهور التصوير الفوتوغرافي بوصفه شكلًا من أشكال الفن، إضافةً إلى تطور الفن الحديث، سببان رئيسان لإزاحة الرسم التشخيصي. ثمّة إجابات أخرى غير ملموسة لاستكشاف الأسباب: ربما عندما أصبحت الأعمال الفنية قابلة للاستهالاك بشكل متزايد، مثل السلع، بات من السهولة فصل اللوحات والمنحوتات عن التجارب المحددة لمبدعيها. ربما أدت الحداثة في الغرب إلى إفراغ الفن من المحتوى التشخيصي؛ مما دفع الفنانين أيضًا إلى التخلي عن التمثيل التشخيصي. كل من هذه الإجابات معقدة وتتطلب الكثير من الشرح، ولا يمكن إلا أن تكون تخمينات. لا توجد إجابة واضحة لهذه المسألة. ربما يكون من الأفضل طرح السؤال حول سبب تقبّل الفن التجريدي فنًّا من الفنون الرسمية في تاريخ الفن الغربي في مرحلة معينة على علماء الأنثروبولوجيا بدلًا من طرحها على مؤرخي الفن. فما هو واضح أن الفن التجريدي كان موجودًا دائمًا في مناطق أخرى من العالم. ما جعل الفن التجريدي فنًّا حديثًا على وجه التحديد في العالم الغربي هو نظام المعارض، الذي أعطى القيمة الفنية للأعمال المعروضة. وكما هو واضح فقد ازدهر التجريد لآلاف السنين المناطق الشرقية والجنوبية من العالم، دون عناء التحقق من مكانة الأعمال المعروضة في الصالونات [والمعارض، كما هو في العالم الغربي]. الواقع الافتراضي و«الافتراضية» يتبنى بيبي كرمل وهو مؤرخ فني، في كتابه « الفن التجريدي: تاريخ عالمي»، فكرة أنّ الفن التجريدي كان دائمًا موجودًا بشكل طبيعي عندما ننظر إليه نظرة شاملة وعالمية، بيد أنّه يتحاشى طرح نظرية عن تطور الفن التجريدي. بالنسبة إلى كرمل، فإنّ هذا الفنّ متجذر في العالم الحقيقي، وهو ليس فنًّا «مجردًا» على الإطلاق، كما أنّه تقليد عالمي وليس محليًا. في دراسته حول الفن التجريدي يقسم العمل الفني إلى خمس فئات واسعة تنتمي إلى العالم الحقيقي: الأجسام، والمناظر الطبيعية، والكون، والبنى، والعلامات والأنماط. من خلال فحص الفن التجريدي بهذه الطريقة، يرى كرمل في اللوحات التجريدية موضوعات قابلة للتحليل، بعكس النقاد والمؤرخين الأرثوذكسيين الذين رأوا فيها مجرّد توليفات شكلية مكوّنة من لون وشكل. ربما يكون من الأفضل أن يطلق على الفن التجريدي: فن ما تم تجريده (abstracted art)؛ لأنّ الفنانين التجريديين عادةً ما يستخلصون ويجرّدون تعبيرات التجارب في شكل ولون،  أكثر من كونها توليفات مكونة من شكل ولون. ومرّد ذلك الطبيعة الجوهرية للرسم والنحت؛ فهما (الشكل اللّون) وسيطان للتعبير، مثل الشاشة أو المسرح لخيال الفنان. كما هو الحال في المسرح أو السينما، فإنّ جمهور اللوحة أو المنحوتة يعلّق معتقداته من أجل أن يتقبل المشهد. من المفيد التفكير في اللوحة التشخيصية التقليدية أو النحت على أنها حقيقة افتراضية. إذْ استخدم الفنانون لقرون عديدة الحيل البصرية -مثل المنظور الخطي، والتقصير المسبق، والتظليل- لمحاكاة الطريقة التي ندرك بها الأشياء في الفضاء الحقيقي. إنّ المشاهد تُنشأ في فضاء افتراضي – سواء كانت القاعدة التي تدعم التمثال أو القماش – ليراها المشاهدون بوصفها خدعة بصرية. «القديس بطرس شفاء أحد الأشخاص وبعث تابيثا من الموت» ماسولينو دي بانيكال. اعتمد الرسم الغربي قبل القرن العشرين على الحيل البصرية لخلق واقع افتراضي. إحدى هذه الحيل هي المنظور الخطي، وهذه اللوحة هي أول مثال لاستخدام نقطة تلاشٍ متسقة.«القديس بطرس شفاء أحد الأشخاص وبعث تابيثا من الموت» ماسولينو دي بانيكال. اعتمد الرسم الغربي قبل القرن العشرين على الحيل البصرية لخلق واقع افتراضي. إحدى هذه الحيل هي المنظور الخطي، وهذه اللوحة هي أول مثال لاستخدام نقطة تلاشٍ متسقة. يستمتع مشاهدوّ الأعمال الفنية العظيمة معنى ما يُرسم، ويقدرون الطريقة التي يتجلّى فيها الوهم عبر تمازج اللون والشكل. يبقى الفن التجريدي، إلى حدٍ ما، ضمن إطار التجربة الجمالية. فقد سعت حركات الفن الحديث التي أدت إلى التجريد -أيّ «مدارس الفن»، مثل الانطباعية والفاوفية والتكعيبية- إلى تمثيل العالم بشكل مختلف عن كل الفنون التي سبقتها. إذْ ادعوا الاقتراب من الحقيقة الذاتية عبر تهميش جميع الحيل الوهمية التقليدية التي حاولت إعادة إنتاج الواقع بحذافيره كحقيقة موضوعية. «الأحمر والأصفر والأزرق» (1925) واسيلي كاندينسكي.  كان كاندينسكي يعدّ لفترةٍ طويلة أب الرسم التجريدي الغربي.«الأحمر والأصفر والأزرق» (1925) واسيلي كاندينسكي.  كان كاندينسكي يعدّ لفترةٍ طويلة أب الرسم التجريدي الغربي. بالنسبة إلى هذه المدارس، أصبح الفن أقل من أن يوصف بأنّه واقع افتراضي، لكنه مع ذلك احتفظ بالافتراضية، وأصبح افتراضيًا. لقد أخذ الفن التجريدي مسار التطور هذا إلى أقصاه: من الواقع الافتراضي إلى الافتراضية. ماذا تعني «الافتراضية» هنا؟ إنّها الوجود كجوهر وتأثير، ولكن بدون اللجوء إلى الواقع. اللوحة التجريدية التي رسمها كاندينسكي، على سبيل المثال، ما زالت تُعدّ علاقة متبادلة بين الشكل واللون، و تعتمد على الرسم كمستوى تخطيطي: إنها نافذة تطلّ على «الواقع» الفردي الذي تصوّره كاندينسكي. وما تزال العناصر في لوحات كاندينسكي تحظى بعلاقة متبادلة، كما هو الحال في فضاء الواقع الافتراضي للوحة التشخيصية؛ فجوهر الرسم سليم إذ إنّ ذلك الفضاء الافتراضي ما زال موجودًا. عندما يكون الفن التجريدي بناءً خالصًا، ويتخلص من المساحة الافتراضية الملازمة للرسم والنحت، يصبح متميزًا عنهما. وصف دونالد جود الفنان التخفيفي (minimalist) مثل هذه الأعمال الفنية بأنها «أجسام محدّدة» (Specific Objects). إنّه مصطلح غير دقيق، ولكنه يصلح لإظهار أن مثل هذه الأعمال الفنية ليست رسمًا ولا نحتًا، ولكنها فئة أخرى تمامًا. رأى دونالد جود أن أعماله وأعمال العديد من معاصريه تشغل مساحة هجينة، لا هي لوحات ولا هي نحت. عمل دون عنوان لدونالد جود. استخدم جود هذا المصطلح لوصف أعماله الخاصة، ولكنه ينطبق على لوحات كازيمير ماليفيتش وفرانك ستيلا أحادية اللون، والتي تجعل اللوحة تندمج مع نفسها بالكامل، من أجل الوصول للتأثير الذي يأمل العمل في تحقيقه. في مثل هذه الأعمال، لم يعد قماش اللّوحة (أو القاعدة) سطحًا تتفاعل فيه الأشكال والألوان في الفضاء الافتراضي. بدلاً من ذلك، تتفاعل الأشكال والألوان في الفضاء الحقيقي، في فضائنا. تختلف معايير النجاح أو الفشل لهذه الأعمال عن الخصائص التقليدية للرسم والنحت. رأى جود أنّ خصائص الرسم والنحت تقف في طريق ما أراد تحقيقه من خلال اللون والشكل. في رأيه، كان لـ «أجسامه المحددة» تأثيرًا أحدّ من غيرها. الواقع والأشكال الجديدة للإدراك الحسّي الرسم نفسه له ثلاثة أنواع عامة من التجريد؛ أولًا، ثمّة أسلوب تعبيري تُرسم فيه الأشكال بحركاتٍ غير مقيدة؛ ثم هناك التجريد الهندسي حيث يتم هيكلة الأشكال؛ أما النوع الثالث، فهو تجريد مجال اللون حيث يتم عرض مساحات من الألوان بطريقةٍ لا شكل واضح لها. لم تكن هذه «الأنماط» (styles) أنماطًا عرضيةً أو تعتمد على ذوق أو ميل الرسام كوسيلة لتحقيق هدفٍ ما من البحث الفني. وخير مثال على ذلك هو الفنان الذي غالبًا ما ينظر إلى عمله على أنّه ذروة التجريد الهندسي: بيت موندريان. إنّ لوحات بيت موندريان المكونة من شبكات (grids) ذات الخطوط السوداء والأجزاء الملونة على خلفية بيضاء؛ تهدف إلى استحضار «حقيقة أعلى». بالنسبة إلى موندريان، كان الفن في جوهره معارضًا للواقع؛ «لأن الواقع يتعارض مع الروحي». بغض النظر عن هذه اللوحة الأشهر لموندريان، فإنّ جوانب الرسم التي تهم هذا الفنان حقًا لم تكن الجوانب المحددة للموضوع -أيّ ماذا أو ما يتم تصويره في اللوحة مثلًا- بل الجوانب القابلة للفهم عالميًا للشكل والخط واللون. إنّ لوحات موندريان، مثلها مثل لوحات الفنانين الآخرين، هي محاولة لاستخلاص الشكل واللون من أجل الاقتراب من ذلك الجوهر العالمي والروحي للفن. عبّر موندريان عن رغبته في الوصول إلى «أساس» الأشياء من خلال الحدس، كالعديد من الفنانين التجريديين الآخرين في النصف الأول من القرن العشرين الذين رغبوا في الوصول إلى قوى غير مرئية حولنا، ولكنها معروفة أو محدوسة. «التكوين الثاني باللون الأحمر والأزرق والأصفر» (1930) - بيت موندريان«التكوين الثاني باللون الأحمر والأزرق والأصفر» (1930) – بيت موندريان في أواخر القرن التاسع عشر، لاحظ العلماء بشكلٍ أفضل مما سبق القوى غير المرئية مع انتشار التقنيات الجديدة، وأصبح من الواضح أن العالم أرحب مما يبدو للعين. في الوقت نفسه، ظهرت حركات روحية بديلة جمعت بين الأفكار الأفلاطونية والتصوف. كان كلينت وموندريان من بين العديد من الفنانين الذين انغمسوا في أشكال الروحانية خارج العوالم التقليدية للدين. اعتقدت كلينت أن لوحاتها هي وحي عالم روحي، وأن مهمتها كانت العمل «على مستوى روحاني» لتمثيل روح الإنسان، بدلًا من صورته الفانية. بحلول عشرينيات القرن الماضي، كانت نظرية فرويد عن للعقل البشري قد تغلغلت أيضًا في عالم الفن.  كذلك السريالية، وهي حركة منظمة بإحكام بدأت مع بعض الفنانين الذين سعوا إلى التنقيب عن الإمكانات الإبداعية للعقل الباطن، وهي الحركة الثقافية التي كانت سائدة في أوروبا بين الحربين العالميتين. لم تكن السريالية دوغمائية في محاولتها لاستكشاف اللاوعي، ولذلك ظهر عدد من الأساليب والطرق لمحاولة إخراج اللاوعي إلى السطح. إحدى هذه الأساليب كان الرسم الآلي (Automatism)، وهي عملية يتخلى فيها الفنان عن السيطرة الواعية لليد التي ترسم  أو تصور. في هذا المجال، تبنى الفنانون مثل أندريه ماسون وخوان ميرو الفرصة لبناء صورهم باستخدام حركات حرّة، وحتى إلقاء الطلاء على القماش. طور أرشيل غوركي -هو مهاجر أرمني عاش في الولايات المتحدة- أسلوبًا في الرسم يدمج بين الرسم الآلي وتجريد مجال الألوان. لوحاته في الأربعينيات حجمُها ضخم – ومرد ذلك تأثره بأعماله السابقة كفنان جداري مُعيّن من الدولة خلال السنوات الأخيرة من الكساد الكبير – لكنها معبّرة وغنائية في الرسم بالفرشاة. ألهم إدماج غوركي للأنماط جيلًا واسعًا من الفنانين الأمريكيين في فترة ما بعد الحرب لاحتضان التجريد الواسع النطاق. ما نسميه الآن «التعبيرية التجريدية»، وكان ذاك الجيل في الواقع مجموعة فضفاضة من الفنانين الذين يستخدمون أنماطًا متعدّدة من أنماط التجريد. ربما كان القاسم المشترك بين هؤلاء الفنانين – على الأقل في السنوات الأولى – هو دعم جيل جديد من النقاد بقيادة كليمنت غرينبيرغ، الذي كان يعتقد أن التجريد هو التعبير الأسمى للفن الغربي. «الكبد هو مشط الديك» (1944) - أرشيل جوركي.«الكبد هو مشط الديك» (1944) – أرشيل جوركي. الحداثة ومصير الفنّ الغربي كان يُعتقد في بعض الأوساط الفكرية المؤثرة أنّ الفن يتقدم نحو هدف؛ وهذا المضمون يشتمل عليه مصطلح «الطليعية» (Avant-garde)، الذي يُوصف به الفنّانون الذين يبتكرون أرضية جمالية جديدة. أصل المصطلح فرنسي يُطلق على الجنود الذين يتقدمون إلى مناطق جديدة. بالنسبة إلى غرينبيرغ، لم يكن هؤلاء الفنّانون يوسّعون حدود إمكانات الفن؛ بل كانوا يتقدمون نحو الهدف الحقيقي والمفرد لكل شكل فني. يُعدّ غرينبيرغ شخصية مهمة في تاريخ الفن التجريدي، وذلك لأمرين: بوصفه مناصرًا رائدًا في مسألة تفوق الفن التجريدي على غيره من أنواع الرسم، وتأكيده للقوة التي امتلكها هذا الفن. كان ناقدًا في اللجنة الأمريكية للحريّة الثقافية التي تمولها الدولة، وهي مجموعة تم إنشاؤها لتعزيز الفن الأمريكي على المستوى الدولي. أصبحت أفكار غرينبيرغ مؤثرة عندما كانت الولايات المتحدة جزءًا من الحرب على الفاشية والنازية، وخلال الحرب الباردة اللاحقة ضد الشيوعية السوفيتية. كانت معايير الفن الفاشي والسوفياتي واضحة، وهي ما تحددها السلطات الثقافية أنها كذلك، بيد أنّه ما لم يكن واضحًا هو معايير الفن «الجيد» وتحديدًا في الغرب الديمقراطي. كان الماركسيون هم من تعاطف مع غرينبيرغ في البداية، لكن ارتبط تفكيره بشكلٍ متزايد بالهيمنة الثقافية الأمريكية. بالنسبة إليه، كان التجريد في أعمال بولوك فنًا مثاليًا لمجتمع ديمقراطي. تتجلى الحداثة في الفن، وفقًا لغرينبيرغ، في إطار التنوير الأوروبي؛ أيّ في فترة ازدهار الأفكار الفلسفية والعلمية التي أعطت الأولوية للعقل. في مقالته المؤثرة « الرسم الحداثي» (1961)، وصفَ غرينبيرغ إيمانويل كانط – الفيلسوف الألماني في عصر التنوير – بأنّه «أول حداثي حقيقي». كان أسلوب كانط في «النقد» هو استخدام العقل لنقد العقل بغرض توضيحه، ومنحه استقلالية عن أنواع التفكير الأخرى. «أولمبيا» - إدوارد مانيه (1863). بالنسبة إلى كليمنت غرينبيرغ، كان مانيه أول رسام حداثي. لقد رسم مانيه لوحاته بأسلوبٍ مسطّح بشكلٍ متعمد.«أولمبيا» – إدوارد مانيه (1863). بالنسبة إلى كليمنت غرينبيرغ، كان مانيه أول رسام حداثي. لقد رسم مانيه لوحاته بأسلوبٍ مسطّح بشكلٍ متعمد. بالطريقة نفسها، كان الرسامون الحداثيون – من إدوارد مانيه في القرن التاسع عشر إلى موريس لويس، وهو رسام يعمل ينتمي إلى رسامي أسلوب مجال ألوان في الولايات المتحدة في الوقت الذي كتب فيه غرينبيرغ مقالته – يعملون على ترسيخ الفن التعبيري «بشكل صارم في مجال تخصصه». رأى غرينبيرغ أن وضوح الفن التجريدي -الذي كان صادقًا بالنسبة إلى الوسيط الذي يُعبّر من خلاله- معارضٌ لـ«الفن الشعبي المبتذل [الكيتش]» الذي ينُتج على نطاق واسع في الثقافة الشعبية. إن إزالة «الكيتش» كانت مسألة استجلاء وتوضيح تحتاجها جميع الفنون لكي تصبح تعبيرًا عن إمكاناتها الجمالية الكامنة. اللوحات مسطّحة، وإيهام العمق الذي نجده في معظم الفن الغربي كان انحرافًا عن جوهر فن الرسم ذاته. كانت استقلالية الشكل الفني في جميع خصائصه دون أن تتلوث بأشكال فنية أخرى. وفقًا لغرينبيرغ، يعدّ الشكل واللون من أهم خصائص الرسم، و أفضل تمثيل لها يكون بشكلٍ مسطّح. وهكذا دافع غرينبيرغ عن «التسطيح» الذي تجلّى في لوحات الفنانين الأمريكيين التجريدية مثل جاكسون بولوك باعتباره تحقيقًا لهذا الوضوح الحداثي. لقد ضم هؤلاء الفنانين معًا ضمن فريق واحد، وهم يمثّلون المرحلة التالية في الحداثة، وقد حلّت رؤيتهم الأمريكية المميزة محلّ الفن الأوروبي الطليعي. وفي الوقت الذي أصبح فيه الفن التجريدي الأمريكي مهيمنًا، تراجعت هيمنة غرينبيرغ النقدية، وظهرت أشكال جديدة من الفن الطليعي، مستوحاة مباشرة من الثقافة الجماهيرية، وحلّت محلّ التعبيرية التجريدية في المخيال العام. تبنى فنانوّ «البوب» مثل: آندي وارهول، وريتشارد هاميلتون هذا النوع من «الفن الشعبي المبتذل» الذي رآه غرينبيرغ تلويثًا للفن الحقيقي. استمرت الأعمال الفنية التجريدية، ولكن تخلّى الفنّانون التجريديون الأكثر جرأة عن الفكرة الصارمة «للنقد الحداثي»، وعن الوضوح المتعلق بخصوصية الوسيط الفني، وذلك لصالح أشكال أخرى من التعبير. نظر فنانوّ «ما بعد الحداثة» إلى السخرية وعملية الرسم نفسها، كطرق لتجاوز الطريق المسدود للحداثة. تبنى الألماني غيرهارد ريختر كلا النهجين؛ فبعض أعماله التجريدية في الستينيات كانت مصنوعة بممسحاتٍ بدلًا من الفرشاة، حتى يتمكن من لفت الانتباه إلى عملية صنع اللوحة نفسها. كانت «اللوحات التجريدية» البارزة الأخرى التي رسمها ريختر في الواقع صورًا واقعية مرسومة بعناية تعكس لوحاته التجريدية الأخرى. أصبحت طلائعية الرسم التجريدي مفهومية أكثر، ما جعل ضمنيًّا قضية الرسم تحظى باستقلالية أقل مما كان كان يعتقد النقاد الحداثيون. قلّد فنانوّ «نيو جيو»، مثل: الرسام بيتر هالي، والنحات أشلي بيكرتون اللغة البصرية للتجريد الهندسي، لكنهما دمجاها مع السلع الاستهلاكية بألوانٍ تجارية فاتحة وأحيانًا فلورية. منذ ذلك الجيل ما بعد الحداثي من الرسامين والنحاتين الممتد من الستينيات إلى التسعينيات، ازدهر التجريد متفرّعًا إلى عددٍ لا يُحصى من الأساليب والمقاربات بجوار الفن التشخيصي. هنا يمكن القول إنّ التجريد المتحرّر من عبء التوقعات الحداثية هو ببساطة نهج للتعبير مثل أيّ نهج آخر. وتجدر الإشارة إلى أنّ بعض الفنانين التجريديين استخدموا الحيل البصرية المستعملة في الفن التشخيصي – مثل المنظور والتظليل – في لوحاتهم. ولاستخدامهم هذا أهداف فريدة و غالبًا لا تهتم بالنظرية. قلّد فنانوّ «ما بعد الحداثة» مثل: بيتر هالي اللغة البصرية المستعملة في الفن التجريدي الحديث (في حالة بيتر، التجريد الهندسي)، للتعليق على طبيعة الفن والمعنى نفسه. تمثّل هذه الكتل الملونة «الخلايا» و«الأنابيب».قلّد فنانوّ «ما بعد الحداثة» مثل: بيتر هالي اللغة البصرية المستعملة في الفن التجريدي الحديث (في حالة بيتر، التجريد الهندسي)، للتعليق على طبيعة الفن والمعنى نفسه. تمثّل هذه الكتل الملونة «الخلايا» و«الأنابيب». هذا هو التحرّر نحو الأفضل بين الرسامين التجريديين الذين يمكنهم الالتزام برؤيةٍ فريدة بالرسم على القماش. لكن فكّ ارتباط الفن التجريدي عن إطاره الفلسفي الأوسع أدى أيضًا إلى انتشارٍ يثير التساؤل لأعمال تجريدية متنوعة قابلة للاستهلاك – بمعنى أنّها فقدت قيمتها، وباتت تُباع وتُشترى سريعًا بأسعارٍ مربحة – يشتريها المشترون المتضاربون. دفع هذا التحول الناقد جيري سالتز إلى كتابة: « الزومبي على الجدران: لماذا يبدو الكثير من التجريد الجديد متشابهًا؟». وقد شبه اللّوحات التجريدية بصورة «الزومبي»، تحقيرًا لأعمال عددٍ من الرسامين التجريديين البارزين، الذين استخدموا الفنّ وجماليته لتقديم أعمال مبتذلة. ومن المفارقات أن هؤلاء الفنانين نظروا إلى الشكلانية بوصفها فنًّا حداثيًّا متبنّين منظور غرينبيرغ، لكنهم بالطبع قدّموا أعمالًا في ظلّ فراغ تاريخي وبعد فترةٍ طويلة حين لم يُصبح التجريد مثيرًا للاهتمام أو راديكاليًا بأي وجه من الوجوه. في الواقع، لم يصل مشروع الحداثة  في الفن التجريدي إلى نهايته، بل النقد. إنّ النقد -أيّ الإطار الفلسفي الواسع الذي يصادق على الأعمال الفنية ويثمّنها لأهميتها الثقافية والتاريخية- هو ما فقد التوجه والسلطة. كان مسار الفن الغربي منذ عصر التنوير يتأرجح بين قطبي الدوغمائية النقدية والإبداع. تكمن المشكلة أنه في العقود الأخيرة، وفي ظلّ غياب أي مشروع نقدي متماسك، انجرف الفن نحو إرضاء اهتمامات دقيقة ومتنوعة تزداد باستمرار. في حين كانت هناك «حركات» و«مدارس» فنية -مصطلحان يشيران إلى الوجهة والانضباط- لم يعد لدينا الآن سوى «مشاهد». هذا ليس بالضرورة أمرًا سيئًا. ولكن في عالم حيث «كل شيء مقبول – anything goes»، لا يوجد مجال لهذا النوع من الابتكار والتجاوز الذي أدى إلى ظهور الفن التجريدي في الغرب، وهذا ما جعل الفن الحديث فنًّا مثيرًا للغاية. من الصعب في هذه اللحظة التاريخية أن ندرك ما الذي جعل لوحة بولوك «رقم 32» مثيرة للانقسام، ومخلخلةً جدًا للمعايير، وفي الوقت نفسه محتفظةً بقيمةٍ عالية جدًا لأولئك الذين يعتقدون أن للفنِّ مكانًا في المجتمع يتجاوز المتعة. [divider style=”solid” top=”20″ bottom=”20″] [1] واللقب كذلك يُلمح إلى القاتل المتسلسل في لندن آخر القرن التاسع عشر: جاك السفّاح Jack the ripper (مدير التحرير). ### خارج عقلك | توم تشاتفيلد – ت: محمد السعيد                  عندما يكون هاتفي النقال بين يديّ، هل أكون أنا الشخص نفسه لو كان الهاتف في غرفة أخرى؟ من ناحية،... ### الدراما في التعليم: مقاربات وتطبيقات | نعيم حيماد افتتاحيّة حظي استخدام الدراما في التعليمفي السنوات الأخيرة باهتمام كبير من قبل نخبة من المنظرين والممارسين للدراما في مجال التعليم.... ### الحقائق المخفية | دي بي سي بيير – ت: محمد السعيد       يحمل جبل كلسي خشن في غرب إيران عددًا من النقوش البارزة، من بينها لوحة طولها خمسة وعشرين مترًا منقوشة... ### التغلُّب على كاشف الكذب | كلاريسا سيباغ-مونتِنفيوري – ت: محمد السعيد          حين  اتُّهِمَتْ مربية الأطفال البريطانية لويز وودورد بهزِّ رضيع حتى الموت في مدينة نيوتن بولاية ماساتشوستس، لم تكتفِ بإعلان... ### عن منصة معنى «معنى»، مؤسسة ثقافية تقدّمية ودار نشر تهتم بالفلسفة والمعرفة والفنون، عبر مجموعة متنوعة من المواد المقروءة والمسموعة والمرئية. انطلقت في 20 مارس 2019، بهدف إثراء المحتوى العربي، ورفع ذائقة ووعي المتلقّي المحلي والدولي، عبر الإنتاج الأصيل للمنصة والترجمة ونقل المعارف. ### روابط سريعة ### التصنيفات ### مرحبا بك! قم بتسجيل الدخول إلى حسابك تذكرني ### قم بإنشاء حساب جديد! املأ النموذج أدناه للتسجيل ### طلب إعادة تعيين كلمة المرور يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان البريد الإلكتروني لإعادة تعيين كلمة المرور الخاصة بك. ### Add New Playlist - Select Visibility -PublicPrivate No Result عرض جميع النتائج - 00:00 00:00 - 00:00 00:00
article
Arabic
ar
الفنّ التجريدي: بين الماضي والحاضر - منصة معنى الثقافية
https://mana.net/abstract-art/
1,885
بحلول عشرينيات القرن الماضي، كانت نظرية فرويد عن للعقل البشري قد تغلغلت أيضًا في عالم الفن.
sentence
بحلول عشرينيات القرن الماضي، كانت نظرية فرويد عن للعقل البشري قد تغلغلت أيضًا في عالم الفن.  كذلك السريالية، وهي حركة منظمة بإحكام بدأت مع بعض الفنانين الذين سعوا إلى التنقيب عن الإمكانات الإبداعية للعقل الباطن، وهي الحركة الثقافية التي كانت سائدة في أوروبا بين الحربين العالميتين.
paragraph
Arabic
ar
الفنّ التجريدي: بين الماضي والحاضر - منصة معنى الثقافية
https://mana.net/abstract-art/
1,886
كذلك السريالية، وهي حركة منظمة بإحكام بدأت مع بعض الفنانين الذين سعوا إلى التنقيب عن الإمكانات الإبداعية للعقل الباطن، وهي الحركة الثقافية التي كانت سائدة في أوروبا بين الحربين العالميتين.
sentence
بحلول عشرينيات القرن الماضي، كانت نظرية فرويد عن للعقل البشري قد تغلغلت أيضًا في عالم الفن.  كذلك السريالية، وهي حركة منظمة بإحكام بدأت مع بعض الفنانين الذين سعوا إلى التنقيب عن الإمكانات الإبداعية للعقل الباطن، وهي الحركة الثقافية التي كانت سائدة في أوروبا بين الحربين العالميتين.
paragraph
Arabic
ar
الفنّ التجريدي: بين الماضي والحاضر - منصة معنى الثقافية
https://mana.net/abstract-art/
1,887
لم تكن السريالية دوغمائية في محاولتها لاستكشاف اللاوعي، ولذلك ظهر عدد من الأساليب والطرق لمحاولة إخراج اللاوعي إلى السطح. إحدى هذه الأساليب كان الرسم الآلي (Automatism)، وهي عملية يتخلى فيها الفنان عن السيطرة الواعية لليد التي ترسم  أو تصور. في هذا المجال، تبنى الفنانون مثل أندريه ماسون وخوان ميرو الفرصة لبناء صورهم باستخدام حركات حرّة، وحتى إلقاء الطلاء على القماش.
paragraph
لا توجد منتجات في سلة المشتريات. No Result عرض جميع النتائج الثلاثاء, سبتمبر 10, 2024 No Result عرض جميع النتائج No Result عرض جميع النتائج # الفنّ التجريدي: بين الماضي والحاضر ## ترجمة: أنطونيوس نادر AA AA إعادة تعيين فنٌ مليء بالتحديات ثمّة خطٌ رفيع يفصل بين الفن التجريدي ومجرد الزخرفة، ولوحة «رقم 32» (نُشرت عام 1950)، لجاكسون بولوك تتأرجح بين هذا الخطّ. فهي لا تشير إلى معنىً واضح، ولكن لا يمكن القول إنّها بلا معنى على الإطلاق. كما أنّها ليست معبّرة بشكلٍ مباشر، ولا يعني هذا أنها لا تعبّر عن مدلولٍ ما. تحمل هذه اللوحة الكثير من المضامين عن الفن الغربي بالنسبة إلى شخصٍ خبيرٍ في تاريخ الفن؛ أما بالنسبة إلى شخصٍ عادي، فقد يراها عملًا مبتذلًا بالكاد يعبّر عن أمرٍ ما. اللوحة شبكة من الخطوط وبقعٍ من الألوان، رُسمت عن طريق صبّ طلاءٍ رخيص بعشوائيةٍ مباشرة على القماش. تتكون اللوحة من طلاءٍ أسود فقط وقماشٍ خام. واللوحة ضخمة؛ إذ يبلغ طولها تسعة أقدام وعرضها خمسة عشر قدمًا، وتغطي مجال رؤية المشاهد أثناء اقترابه منها. تقليديًّا، حتى اللوحات التجريدية تتكون من أجزاءٍ مترابطة مع بؤر تركيز (emphases) وعمقٍ يُنقل من خلال اللون والظلال، ولكن «رقم 32» ليس لها أجزاء؛ إنّها تتكون من تعالقات، والبؤرة فيها تكمن عبر امتداد سطح القماش المستطيل. يمنحها ما سبق عمقًا سطحيًا، وربما لا عمق فيها: مجرّد طلاء على قماش. إنّها عبث بالشكل واللون. حتى اسمها، ببساطة رقمٌ معيّن – رقم 32 – يجعلها تنأى بنفسها عن أي فكرة مفادها أنها تعكس مدلولًا محدّدًا. تشير عناوين أعمال بولوك الأخرى إلى نوعٍ من الاختبار الشخصي، وإلى الاستخدام السمفوني المتعدد الطبقات للون والملمس؛ خذ مثلًا لوحاته التي تحمل اسم: «إيقاع الخريف»، و«الضباب الأرجواني»، و«الأقطاب الزرقاء»، و«انعكاس الدنقلة الكبير». هذا لا ينطبق على لوحة «رقم 32»؛ شكلها الخام وبساطتها دليل على أنّ الفنان لم يخطط مسبقًا لرسمها؛ أيّ أنّه لم ينتق الألوان ولا الطبقات. يبدو بولوك هنا أكثر حضورًا، من خلال لمساته الحادة. بالنسبة إلى مؤيديّ عمل بولوك، تختصر هذه اللوحة خلاصة نظرة الفنان الجمالية. أما بالنسبة للبعض الآخر، فهي لوحة مبتذلة. وصف جوزيف بويس -النحات الألماني في فترة ما بعد الحرب- الفنَّ التجريدي الأمريكي بأنه مجرد «تغليف»، أيّ سطح بلا محتوى. في هذا الصدد، قد يتفق البعض أن لوحة «رقم 32» تجسد فراغ الفكر والشعور ذاك. فقد رأى الروائي والناقد الفني روبرت كوتس أن فن بولوك لم يكن سوى «انفجارات» غير منظمة من الطاقة العشوائية. غير أنّ طائفة كبيرة من متذوقي الفن التجريدي لا تروق إليهم أعمال بولوك ويرونها فنًّا محيرًا، حتى إنّ بعضهم يراها إهانةً للذوق أو الحسّ السليم. عُرف بولوك بلقب: «جاك فنان النقط» (Jack the Dripper) [1] في الأوساط الإعلامية المشككة بعمله حيث ادعى كثر أن أيّ شخص يمكنه أن يرسم كما يرسم بولوك إلّا أنّ أحدًا لم يتجرأ على فعل ذلك. «رقم 32» - جاكسون بولوك«رقم 32» – جاكسون بولوك بيد أنّ هذا هو مغزى الفن التجريدي في التقليد الغربي: إنّه تحدّ. وفي ظل الكثير هذه التحديات، تُعد لوحة « رقم 32» اللوحة الأكثر تمثيلًا لهذا الفن. قصة الفنّ التجريدي مسار قصة الفن التجريدي مضمّنة في الدراسات التاريخية الفنية، إلّا أنّ المحطات الرئيسة لهذا المسار كانت محط تغييرات مفاجئة كلما اكتشف مؤرخوّ الفن حقائق جديدة. انطلق مسار الفن التجريدي بدءًا من القرن التاسع عشر وما تلاه؛ حيث استفاد الفنانون من مادة الطلاء والجوانب الشكلية للرسم مثل اللون والدرجة والخطوط. يُعرف هذا الانشغال بالجوانب غير التمثيلية (non-representative) للفن باسم «الشكلانية»، لأنّه انشغال «بالشكل»، أيّ بتوسل شكل المحتوى بدلًا من المحتوى في ذاته. بالنسبة إلى الفنانين في القرن التاسع عشر، صُنّف الفن التجريدي على أنّه «فنٌّ من أجل الفنّ»، وكانت الفكرة الشائعة مفادها أنّ المتذوق للفن يمكنه الاستمتاع بالعمل دون اللجوء إلى معنى أو حتى أي شيء آخر يمثل أمرًا ما. تمثّل لوحة «الموسيقى الهادئة باللّونين الأسود والذهبي – الصاروخ الساقط» (1872)، للفنان جيمس مكنيل ويسلر هذا الاتجاه الذي تبلور لاحقًا في الفن التجريدي.  إنّ مشهد ويسلر الغامض من الناحية المكانيّة يقترب إلى التجريد، وذلك بمحاولته نقل الشعور أو الانطباع الخاص بالمشهد بدلًا من إعادة إنتاجه بحذافيره. «الموسيقى الهادئة باللونين الأسود والذهبي - الصاروخ الساقط» (1872-1877) - جيمس أبوت مكنيل ويسلير«الموسيقى الهادئة باللونين الأسود والذهبي – الصاروخ الساقط» (1872-1877) – جيمس أبوت مكنيل ويسلير في عام 1877، انتقد جون روسكين – أبرز نقّاد بريطانيا في ذلك الوقت – عمل ويسلير هذا نقدًا لاذعًا فشبهه «بمن قام برمي الطلاء في وجه الجمهور». تأثر ويسلر بهذا الكلام، فرفع دعوى قضائية ضد روسكين، بيد أنّه خسرها لأن المسؤولين عرضوا اللوحة -خطأً- مقلوبةً على المحكمة. أفلس ويسلير بسبب هذه القضية، لكن مسيرة تطور الفن التجريدي استمرت. من ناحيةٍ أخرى، تحديد أول فنان تجريدي في العالم موضوع نزاع. في نظر أبحاث تاريخ الفن التقليدية، كان فاسيلي كاندينسكي – فنان روسي الجنسية رسم لوحات تجريدية بالكامل في مطلع عام 1911- هو أول فنان تجريدي. لم ينل الفن التجريدي الرائد لهيلما أف كلينت تقديرًا إلا قبل سنوات قريبة. هذه صورة للمعرض الشهير في  متحف غاغينهايم، عام 2018 .لم ينل الفن التجريدي الرائد لهيلما أف كلينت تقديرًا إلا قبل سنوات قريبة. هذه صورة للمعرض الشهير في  متحف غاغينهايم، عام 2018 . ولكن في الآونة الأخيرة، وبفضل المعرض الرائد في متحف مقاطعة لوس أنجلوس للفنون في عام 1986 الذي حمل اسم «الروحانية في الفن: الرسم التجريدي 1890 – 1985»، وقع الاختيار على هيلما أف كلينت كأول رسامة تجريدية. بدأت كلينت في رسم لوحات تجريدية بدءًا من عام 1906، وحملت مجموعتها عنوان «الفوضى البدائية». كانت الفنانة متكتمة في ما يتعلق بأعمالها التجريدية، ولم تُعرض أيّ منها في معارض عامة، وبقيت غير معروفة حتى أزيح عنها الستار مؤخرًا. ولعل الجدال حول هوية أول من مارس الفن التجريدي سيستم، لكن الحقيقة الأكثر أهمية هي أن العديد من الفنانين الأوروبيين البارزين قد توصّلوا في أعمالهم إلى التجريد بحلول الحرب العالمية الأولى. لقد وجد كل منهم طريقته الخاصة في التخلي عن الفن التشخيصي (figurative painting). وجديرٌ بالذكر أنّه لم تكن هناك حركة «تجريدية» دولية ذات رؤية أو بيان مشترك. في ضوء ذلك، فإن السؤال الملحّ حقًا هو: لمَ لمْ يتبنى الفنانون الغربيون الفن التجريدي على امتداد قرون عديدة؟ لماذا كان التجريد غير ضروري أو لا معنى له أو غير مناسب أو حتى لا يمكن تقبّله لقرونٍ متوالية في الفن الغربي؟ ظهرت العديد من التفسيرات لشرح ذلك. إحدى النظريات الأكثر وضوحًا هي أن ظهور التصوير الفوتوغرافي بوصفه شكلًا من أشكال الفن، إضافةً إلى تطور الفن الحديث، سببان رئيسان لإزاحة الرسم التشخيصي. ثمّة إجابات أخرى غير ملموسة لاستكشاف الأسباب: ربما عندما أصبحت الأعمال الفنية قابلة للاستهالاك بشكل متزايد، مثل السلع، بات من السهولة فصل اللوحات والمنحوتات عن التجارب المحددة لمبدعيها. ربما أدت الحداثة في الغرب إلى إفراغ الفن من المحتوى التشخيصي؛ مما دفع الفنانين أيضًا إلى التخلي عن التمثيل التشخيصي. كل من هذه الإجابات معقدة وتتطلب الكثير من الشرح، ولا يمكن إلا أن تكون تخمينات. لا توجد إجابة واضحة لهذه المسألة. ربما يكون من الأفضل طرح السؤال حول سبب تقبّل الفن التجريدي فنًّا من الفنون الرسمية في تاريخ الفن الغربي في مرحلة معينة على علماء الأنثروبولوجيا بدلًا من طرحها على مؤرخي الفن. فما هو واضح أن الفن التجريدي كان موجودًا دائمًا في مناطق أخرى من العالم. ما جعل الفن التجريدي فنًّا حديثًا على وجه التحديد في العالم الغربي هو نظام المعارض، الذي أعطى القيمة الفنية للأعمال المعروضة. وكما هو واضح فقد ازدهر التجريد لآلاف السنين المناطق الشرقية والجنوبية من العالم، دون عناء التحقق من مكانة الأعمال المعروضة في الصالونات [والمعارض، كما هو في العالم الغربي]. الواقع الافتراضي و«الافتراضية» يتبنى بيبي كرمل وهو مؤرخ فني، في كتابه « الفن التجريدي: تاريخ عالمي»، فكرة أنّ الفن التجريدي كان دائمًا موجودًا بشكل طبيعي عندما ننظر إليه نظرة شاملة وعالمية، بيد أنّه يتحاشى طرح نظرية عن تطور الفن التجريدي. بالنسبة إلى كرمل، فإنّ هذا الفنّ متجذر في العالم الحقيقي، وهو ليس فنًّا «مجردًا» على الإطلاق، كما أنّه تقليد عالمي وليس محليًا. في دراسته حول الفن التجريدي يقسم العمل الفني إلى خمس فئات واسعة تنتمي إلى العالم الحقيقي: الأجسام، والمناظر الطبيعية، والكون، والبنى، والعلامات والأنماط. من خلال فحص الفن التجريدي بهذه الطريقة، يرى كرمل في اللوحات التجريدية موضوعات قابلة للتحليل، بعكس النقاد والمؤرخين الأرثوذكسيين الذين رأوا فيها مجرّد توليفات شكلية مكوّنة من لون وشكل. ربما يكون من الأفضل أن يطلق على الفن التجريدي: فن ما تم تجريده (abstracted art)؛ لأنّ الفنانين التجريديين عادةً ما يستخلصون ويجرّدون تعبيرات التجارب في شكل ولون،  أكثر من كونها توليفات مكونة من شكل ولون. ومرّد ذلك الطبيعة الجوهرية للرسم والنحت؛ فهما (الشكل اللّون) وسيطان للتعبير، مثل الشاشة أو المسرح لخيال الفنان. كما هو الحال في المسرح أو السينما، فإنّ جمهور اللوحة أو المنحوتة يعلّق معتقداته من أجل أن يتقبل المشهد. من المفيد التفكير في اللوحة التشخيصية التقليدية أو النحت على أنها حقيقة افتراضية. إذْ استخدم الفنانون لقرون عديدة الحيل البصرية -مثل المنظور الخطي، والتقصير المسبق، والتظليل- لمحاكاة الطريقة التي ندرك بها الأشياء في الفضاء الحقيقي. إنّ المشاهد تُنشأ في فضاء افتراضي – سواء كانت القاعدة التي تدعم التمثال أو القماش – ليراها المشاهدون بوصفها خدعة بصرية. «القديس بطرس شفاء أحد الأشخاص وبعث تابيثا من الموت» ماسولينو دي بانيكال. اعتمد الرسم الغربي قبل القرن العشرين على الحيل البصرية لخلق واقع افتراضي. إحدى هذه الحيل هي المنظور الخطي، وهذه اللوحة هي أول مثال لاستخدام نقطة تلاشٍ متسقة.«القديس بطرس شفاء أحد الأشخاص وبعث تابيثا من الموت» ماسولينو دي بانيكال. اعتمد الرسم الغربي قبل القرن العشرين على الحيل البصرية لخلق واقع افتراضي. إحدى هذه الحيل هي المنظور الخطي، وهذه اللوحة هي أول مثال لاستخدام نقطة تلاشٍ متسقة. يستمتع مشاهدوّ الأعمال الفنية العظيمة معنى ما يُرسم، ويقدرون الطريقة التي يتجلّى فيها الوهم عبر تمازج اللون والشكل. يبقى الفن التجريدي، إلى حدٍ ما، ضمن إطار التجربة الجمالية. فقد سعت حركات الفن الحديث التي أدت إلى التجريد -أيّ «مدارس الفن»، مثل الانطباعية والفاوفية والتكعيبية- إلى تمثيل العالم بشكل مختلف عن كل الفنون التي سبقتها. إذْ ادعوا الاقتراب من الحقيقة الذاتية عبر تهميش جميع الحيل الوهمية التقليدية التي حاولت إعادة إنتاج الواقع بحذافيره كحقيقة موضوعية. «الأحمر والأصفر والأزرق» (1925) واسيلي كاندينسكي.  كان كاندينسكي يعدّ لفترةٍ طويلة أب الرسم التجريدي الغربي.«الأحمر والأصفر والأزرق» (1925) واسيلي كاندينسكي.  كان كاندينسكي يعدّ لفترةٍ طويلة أب الرسم التجريدي الغربي. بالنسبة إلى هذه المدارس، أصبح الفن أقل من أن يوصف بأنّه واقع افتراضي، لكنه مع ذلك احتفظ بالافتراضية، وأصبح افتراضيًا. لقد أخذ الفن التجريدي مسار التطور هذا إلى أقصاه: من الواقع الافتراضي إلى الافتراضية. ماذا تعني «الافتراضية» هنا؟ إنّها الوجود كجوهر وتأثير، ولكن بدون اللجوء إلى الواقع. اللوحة التجريدية التي رسمها كاندينسكي، على سبيل المثال، ما زالت تُعدّ علاقة متبادلة بين الشكل واللون، و تعتمد على الرسم كمستوى تخطيطي: إنها نافذة تطلّ على «الواقع» الفردي الذي تصوّره كاندينسكي. وما تزال العناصر في لوحات كاندينسكي تحظى بعلاقة متبادلة، كما هو الحال في فضاء الواقع الافتراضي للوحة التشخيصية؛ فجوهر الرسم سليم إذ إنّ ذلك الفضاء الافتراضي ما زال موجودًا. عندما يكون الفن التجريدي بناءً خالصًا، ويتخلص من المساحة الافتراضية الملازمة للرسم والنحت، يصبح متميزًا عنهما. وصف دونالد جود الفنان التخفيفي (minimalist) مثل هذه الأعمال الفنية بأنها «أجسام محدّدة» (Specific Objects). إنّه مصطلح غير دقيق، ولكنه يصلح لإظهار أن مثل هذه الأعمال الفنية ليست رسمًا ولا نحتًا، ولكنها فئة أخرى تمامًا. رأى دونالد جود أن أعماله وأعمال العديد من معاصريه تشغل مساحة هجينة، لا هي لوحات ولا هي نحت. عمل دون عنوان لدونالد جود. استخدم جود هذا المصطلح لوصف أعماله الخاصة، ولكنه ينطبق على لوحات كازيمير ماليفيتش وفرانك ستيلا أحادية اللون، والتي تجعل اللوحة تندمج مع نفسها بالكامل، من أجل الوصول للتأثير الذي يأمل العمل في تحقيقه. في مثل هذه الأعمال، لم يعد قماش اللّوحة (أو القاعدة) سطحًا تتفاعل فيه الأشكال والألوان في الفضاء الافتراضي. بدلاً من ذلك، تتفاعل الأشكال والألوان في الفضاء الحقيقي، في فضائنا. تختلف معايير النجاح أو الفشل لهذه الأعمال عن الخصائص التقليدية للرسم والنحت. رأى جود أنّ خصائص الرسم والنحت تقف في طريق ما أراد تحقيقه من خلال اللون والشكل. في رأيه، كان لـ «أجسامه المحددة» تأثيرًا أحدّ من غيرها. الواقع والأشكال الجديدة للإدراك الحسّي الرسم نفسه له ثلاثة أنواع عامة من التجريد؛ أولًا، ثمّة أسلوب تعبيري تُرسم فيه الأشكال بحركاتٍ غير مقيدة؛ ثم هناك التجريد الهندسي حيث يتم هيكلة الأشكال؛ أما النوع الثالث، فهو تجريد مجال اللون حيث يتم عرض مساحات من الألوان بطريقةٍ لا شكل واضح لها. لم تكن هذه «الأنماط» (styles) أنماطًا عرضيةً أو تعتمد على ذوق أو ميل الرسام كوسيلة لتحقيق هدفٍ ما من البحث الفني. وخير مثال على ذلك هو الفنان الذي غالبًا ما ينظر إلى عمله على أنّه ذروة التجريد الهندسي: بيت موندريان. إنّ لوحات بيت موندريان المكونة من شبكات (grids) ذات الخطوط السوداء والأجزاء الملونة على خلفية بيضاء؛ تهدف إلى استحضار «حقيقة أعلى». بالنسبة إلى موندريان، كان الفن في جوهره معارضًا للواقع؛ «لأن الواقع يتعارض مع الروحي». بغض النظر عن هذه اللوحة الأشهر لموندريان، فإنّ جوانب الرسم التي تهم هذا الفنان حقًا لم تكن الجوانب المحددة للموضوع -أيّ ماذا أو ما يتم تصويره في اللوحة مثلًا- بل الجوانب القابلة للفهم عالميًا للشكل والخط واللون. إنّ لوحات موندريان، مثلها مثل لوحات الفنانين الآخرين، هي محاولة لاستخلاص الشكل واللون من أجل الاقتراب من ذلك الجوهر العالمي والروحي للفن. عبّر موندريان عن رغبته في الوصول إلى «أساس» الأشياء من خلال الحدس، كالعديد من الفنانين التجريديين الآخرين في النصف الأول من القرن العشرين الذين رغبوا في الوصول إلى قوى غير مرئية حولنا، ولكنها معروفة أو محدوسة. «التكوين الثاني باللون الأحمر والأزرق والأصفر» (1930) - بيت موندريان«التكوين الثاني باللون الأحمر والأزرق والأصفر» (1930) – بيت موندريان في أواخر القرن التاسع عشر، لاحظ العلماء بشكلٍ أفضل مما سبق القوى غير المرئية مع انتشار التقنيات الجديدة، وأصبح من الواضح أن العالم أرحب مما يبدو للعين. في الوقت نفسه، ظهرت حركات روحية بديلة جمعت بين الأفكار الأفلاطونية والتصوف. كان كلينت وموندريان من بين العديد من الفنانين الذين انغمسوا في أشكال الروحانية خارج العوالم التقليدية للدين. اعتقدت كلينت أن لوحاتها هي وحي عالم روحي، وأن مهمتها كانت العمل «على مستوى روحاني» لتمثيل روح الإنسان، بدلًا من صورته الفانية. بحلول عشرينيات القرن الماضي، كانت نظرية فرويد عن للعقل البشري قد تغلغلت أيضًا في عالم الفن.  كذلك السريالية، وهي حركة منظمة بإحكام بدأت مع بعض الفنانين الذين سعوا إلى التنقيب عن الإمكانات الإبداعية للعقل الباطن، وهي الحركة الثقافية التي كانت سائدة في أوروبا بين الحربين العالميتين. لم تكن السريالية دوغمائية في محاولتها لاستكشاف اللاوعي، ولذلك ظهر عدد من الأساليب والطرق لمحاولة إخراج اللاوعي إلى السطح. إحدى هذه الأساليب كان الرسم الآلي (Automatism)، وهي عملية يتخلى فيها الفنان عن السيطرة الواعية لليد التي ترسم  أو تصور. في هذا المجال، تبنى الفنانون مثل أندريه ماسون وخوان ميرو الفرصة لبناء صورهم باستخدام حركات حرّة، وحتى إلقاء الطلاء على القماش. طور أرشيل غوركي -هو مهاجر أرمني عاش في الولايات المتحدة- أسلوبًا في الرسم يدمج بين الرسم الآلي وتجريد مجال الألوان. لوحاته في الأربعينيات حجمُها ضخم – ومرد ذلك تأثره بأعماله السابقة كفنان جداري مُعيّن من الدولة خلال السنوات الأخيرة من الكساد الكبير – لكنها معبّرة وغنائية في الرسم بالفرشاة. ألهم إدماج غوركي للأنماط جيلًا واسعًا من الفنانين الأمريكيين في فترة ما بعد الحرب لاحتضان التجريد الواسع النطاق. ما نسميه الآن «التعبيرية التجريدية»، وكان ذاك الجيل في الواقع مجموعة فضفاضة من الفنانين الذين يستخدمون أنماطًا متعدّدة من أنماط التجريد. ربما كان القاسم المشترك بين هؤلاء الفنانين – على الأقل في السنوات الأولى – هو دعم جيل جديد من النقاد بقيادة كليمنت غرينبيرغ، الذي كان يعتقد أن التجريد هو التعبير الأسمى للفن الغربي. «الكبد هو مشط الديك» (1944) - أرشيل جوركي.«الكبد هو مشط الديك» (1944) – أرشيل جوركي. الحداثة ومصير الفنّ الغربي كان يُعتقد في بعض الأوساط الفكرية المؤثرة أنّ الفن يتقدم نحو هدف؛ وهذا المضمون يشتمل عليه مصطلح «الطليعية» (Avant-garde)، الذي يُوصف به الفنّانون الذين يبتكرون أرضية جمالية جديدة. أصل المصطلح فرنسي يُطلق على الجنود الذين يتقدمون إلى مناطق جديدة. بالنسبة إلى غرينبيرغ، لم يكن هؤلاء الفنّانون يوسّعون حدود إمكانات الفن؛ بل كانوا يتقدمون نحو الهدف الحقيقي والمفرد لكل شكل فني. يُعدّ غرينبيرغ شخصية مهمة في تاريخ الفن التجريدي، وذلك لأمرين: بوصفه مناصرًا رائدًا في مسألة تفوق الفن التجريدي على غيره من أنواع الرسم، وتأكيده للقوة التي امتلكها هذا الفن. كان ناقدًا في اللجنة الأمريكية للحريّة الثقافية التي تمولها الدولة، وهي مجموعة تم إنشاؤها لتعزيز الفن الأمريكي على المستوى الدولي. أصبحت أفكار غرينبيرغ مؤثرة عندما كانت الولايات المتحدة جزءًا من الحرب على الفاشية والنازية، وخلال الحرب الباردة اللاحقة ضد الشيوعية السوفيتية. كانت معايير الفن الفاشي والسوفياتي واضحة، وهي ما تحددها السلطات الثقافية أنها كذلك، بيد أنّه ما لم يكن واضحًا هو معايير الفن «الجيد» وتحديدًا في الغرب الديمقراطي. كان الماركسيون هم من تعاطف مع غرينبيرغ في البداية، لكن ارتبط تفكيره بشكلٍ متزايد بالهيمنة الثقافية الأمريكية. بالنسبة إليه، كان التجريد في أعمال بولوك فنًا مثاليًا لمجتمع ديمقراطي. تتجلى الحداثة في الفن، وفقًا لغرينبيرغ، في إطار التنوير الأوروبي؛ أيّ في فترة ازدهار الأفكار الفلسفية والعلمية التي أعطت الأولوية للعقل. في مقالته المؤثرة « الرسم الحداثي» (1961)، وصفَ غرينبيرغ إيمانويل كانط – الفيلسوف الألماني في عصر التنوير – بأنّه «أول حداثي حقيقي». كان أسلوب كانط في «النقد» هو استخدام العقل لنقد العقل بغرض توضيحه، ومنحه استقلالية عن أنواع التفكير الأخرى. «أولمبيا» - إدوارد مانيه (1863). بالنسبة إلى كليمنت غرينبيرغ، كان مانيه أول رسام حداثي. لقد رسم مانيه لوحاته بأسلوبٍ مسطّح بشكلٍ متعمد.«أولمبيا» – إدوارد مانيه (1863). بالنسبة إلى كليمنت غرينبيرغ، كان مانيه أول رسام حداثي. لقد رسم مانيه لوحاته بأسلوبٍ مسطّح بشكلٍ متعمد. بالطريقة نفسها، كان الرسامون الحداثيون – من إدوارد مانيه في القرن التاسع عشر إلى موريس لويس، وهو رسام يعمل ينتمي إلى رسامي أسلوب مجال ألوان في الولايات المتحدة في الوقت الذي كتب فيه غرينبيرغ مقالته – يعملون على ترسيخ الفن التعبيري «بشكل صارم في مجال تخصصه». رأى غرينبيرغ أن وضوح الفن التجريدي -الذي كان صادقًا بالنسبة إلى الوسيط الذي يُعبّر من خلاله- معارضٌ لـ«الفن الشعبي المبتذل [الكيتش]» الذي ينُتج على نطاق واسع في الثقافة الشعبية. إن إزالة «الكيتش» كانت مسألة استجلاء وتوضيح تحتاجها جميع الفنون لكي تصبح تعبيرًا عن إمكاناتها الجمالية الكامنة. اللوحات مسطّحة، وإيهام العمق الذي نجده في معظم الفن الغربي كان انحرافًا عن جوهر فن الرسم ذاته. كانت استقلالية الشكل الفني في جميع خصائصه دون أن تتلوث بأشكال فنية أخرى. وفقًا لغرينبيرغ، يعدّ الشكل واللون من أهم خصائص الرسم، و أفضل تمثيل لها يكون بشكلٍ مسطّح. وهكذا دافع غرينبيرغ عن «التسطيح» الذي تجلّى في لوحات الفنانين الأمريكيين التجريدية مثل جاكسون بولوك باعتباره تحقيقًا لهذا الوضوح الحداثي. لقد ضم هؤلاء الفنانين معًا ضمن فريق واحد، وهم يمثّلون المرحلة التالية في الحداثة، وقد حلّت رؤيتهم الأمريكية المميزة محلّ الفن الأوروبي الطليعي. وفي الوقت الذي أصبح فيه الفن التجريدي الأمريكي مهيمنًا، تراجعت هيمنة غرينبيرغ النقدية، وظهرت أشكال جديدة من الفن الطليعي، مستوحاة مباشرة من الثقافة الجماهيرية، وحلّت محلّ التعبيرية التجريدية في المخيال العام. تبنى فنانوّ «البوب» مثل: آندي وارهول، وريتشارد هاميلتون هذا النوع من «الفن الشعبي المبتذل» الذي رآه غرينبيرغ تلويثًا للفن الحقيقي. استمرت الأعمال الفنية التجريدية، ولكن تخلّى الفنّانون التجريديون الأكثر جرأة عن الفكرة الصارمة «للنقد الحداثي»، وعن الوضوح المتعلق بخصوصية الوسيط الفني، وذلك لصالح أشكال أخرى من التعبير. نظر فنانوّ «ما بعد الحداثة» إلى السخرية وعملية الرسم نفسها، كطرق لتجاوز الطريق المسدود للحداثة. تبنى الألماني غيرهارد ريختر كلا النهجين؛ فبعض أعماله التجريدية في الستينيات كانت مصنوعة بممسحاتٍ بدلًا من الفرشاة، حتى يتمكن من لفت الانتباه إلى عملية صنع اللوحة نفسها. كانت «اللوحات التجريدية» البارزة الأخرى التي رسمها ريختر في الواقع صورًا واقعية مرسومة بعناية تعكس لوحاته التجريدية الأخرى. أصبحت طلائعية الرسم التجريدي مفهومية أكثر، ما جعل ضمنيًّا قضية الرسم تحظى باستقلالية أقل مما كان كان يعتقد النقاد الحداثيون. قلّد فنانوّ «نيو جيو»، مثل: الرسام بيتر هالي، والنحات أشلي بيكرتون اللغة البصرية للتجريد الهندسي، لكنهما دمجاها مع السلع الاستهلاكية بألوانٍ تجارية فاتحة وأحيانًا فلورية. منذ ذلك الجيل ما بعد الحداثي من الرسامين والنحاتين الممتد من الستينيات إلى التسعينيات، ازدهر التجريد متفرّعًا إلى عددٍ لا يُحصى من الأساليب والمقاربات بجوار الفن التشخيصي. هنا يمكن القول إنّ التجريد المتحرّر من عبء التوقعات الحداثية هو ببساطة نهج للتعبير مثل أيّ نهج آخر. وتجدر الإشارة إلى أنّ بعض الفنانين التجريديين استخدموا الحيل البصرية المستعملة في الفن التشخيصي – مثل المنظور والتظليل – في لوحاتهم. ولاستخدامهم هذا أهداف فريدة و غالبًا لا تهتم بالنظرية. قلّد فنانوّ «ما بعد الحداثة» مثل: بيتر هالي اللغة البصرية المستعملة في الفن التجريدي الحديث (في حالة بيتر، التجريد الهندسي)، للتعليق على طبيعة الفن والمعنى نفسه. تمثّل هذه الكتل الملونة «الخلايا» و«الأنابيب».قلّد فنانوّ «ما بعد الحداثة» مثل: بيتر هالي اللغة البصرية المستعملة في الفن التجريدي الحديث (في حالة بيتر، التجريد الهندسي)، للتعليق على طبيعة الفن والمعنى نفسه. تمثّل هذه الكتل الملونة «الخلايا» و«الأنابيب». هذا هو التحرّر نحو الأفضل بين الرسامين التجريديين الذين يمكنهم الالتزام برؤيةٍ فريدة بالرسم على القماش. لكن فكّ ارتباط الفن التجريدي عن إطاره الفلسفي الأوسع أدى أيضًا إلى انتشارٍ يثير التساؤل لأعمال تجريدية متنوعة قابلة للاستهلاك – بمعنى أنّها فقدت قيمتها، وباتت تُباع وتُشترى سريعًا بأسعارٍ مربحة – يشتريها المشترون المتضاربون. دفع هذا التحول الناقد جيري سالتز إلى كتابة: « الزومبي على الجدران: لماذا يبدو الكثير من التجريد الجديد متشابهًا؟». وقد شبه اللّوحات التجريدية بصورة «الزومبي»، تحقيرًا لأعمال عددٍ من الرسامين التجريديين البارزين، الذين استخدموا الفنّ وجماليته لتقديم أعمال مبتذلة. ومن المفارقات أن هؤلاء الفنانين نظروا إلى الشكلانية بوصفها فنًّا حداثيًّا متبنّين منظور غرينبيرغ، لكنهم بالطبع قدّموا أعمالًا في ظلّ فراغ تاريخي وبعد فترةٍ طويلة حين لم يُصبح التجريد مثيرًا للاهتمام أو راديكاليًا بأي وجه من الوجوه. في الواقع، لم يصل مشروع الحداثة  في الفن التجريدي إلى نهايته، بل النقد. إنّ النقد -أيّ الإطار الفلسفي الواسع الذي يصادق على الأعمال الفنية ويثمّنها لأهميتها الثقافية والتاريخية- هو ما فقد التوجه والسلطة. كان مسار الفن الغربي منذ عصر التنوير يتأرجح بين قطبي الدوغمائية النقدية والإبداع. تكمن المشكلة أنه في العقود الأخيرة، وفي ظلّ غياب أي مشروع نقدي متماسك، انجرف الفن نحو إرضاء اهتمامات دقيقة ومتنوعة تزداد باستمرار. في حين كانت هناك «حركات» و«مدارس» فنية -مصطلحان يشيران إلى الوجهة والانضباط- لم يعد لدينا الآن سوى «مشاهد». هذا ليس بالضرورة أمرًا سيئًا. ولكن في عالم حيث «كل شيء مقبول – anything goes»، لا يوجد مجال لهذا النوع من الابتكار والتجاوز الذي أدى إلى ظهور الفن التجريدي في الغرب، وهذا ما جعل الفن الحديث فنًّا مثيرًا للغاية. من الصعب في هذه اللحظة التاريخية أن ندرك ما الذي جعل لوحة بولوك «رقم 32» مثيرة للانقسام، ومخلخلةً جدًا للمعايير، وفي الوقت نفسه محتفظةً بقيمةٍ عالية جدًا لأولئك الذين يعتقدون أن للفنِّ مكانًا في المجتمع يتجاوز المتعة. [divider style=”solid” top=”20″ bottom=”20″] [1] واللقب كذلك يُلمح إلى القاتل المتسلسل في لندن آخر القرن التاسع عشر: جاك السفّاح Jack the ripper (مدير التحرير). ### خارج عقلك | توم تشاتفيلد – ت: محمد السعيد                  عندما يكون هاتفي النقال بين يديّ، هل أكون أنا الشخص نفسه لو كان الهاتف في غرفة أخرى؟ من ناحية،... ### الدراما في التعليم: مقاربات وتطبيقات | نعيم حيماد افتتاحيّة حظي استخدام الدراما في التعليمفي السنوات الأخيرة باهتمام كبير من قبل نخبة من المنظرين والممارسين للدراما في مجال التعليم.... ### الحقائق المخفية | دي بي سي بيير – ت: محمد السعيد       يحمل جبل كلسي خشن في غرب إيران عددًا من النقوش البارزة، من بينها لوحة طولها خمسة وعشرين مترًا منقوشة... ### التغلُّب على كاشف الكذب | كلاريسا سيباغ-مونتِنفيوري – ت: محمد السعيد          حين  اتُّهِمَتْ مربية الأطفال البريطانية لويز وودورد بهزِّ رضيع حتى الموت في مدينة نيوتن بولاية ماساتشوستس، لم تكتفِ بإعلان... ### عن منصة معنى «معنى»، مؤسسة ثقافية تقدّمية ودار نشر تهتم بالفلسفة والمعرفة والفنون، عبر مجموعة متنوعة من المواد المقروءة والمسموعة والمرئية. انطلقت في 20 مارس 2019، بهدف إثراء المحتوى العربي، ورفع ذائقة ووعي المتلقّي المحلي والدولي، عبر الإنتاج الأصيل للمنصة والترجمة ونقل المعارف. ### روابط سريعة ### التصنيفات ### مرحبا بك! قم بتسجيل الدخول إلى حسابك تذكرني ### قم بإنشاء حساب جديد! املأ النموذج أدناه للتسجيل ### طلب إعادة تعيين كلمة المرور يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان البريد الإلكتروني لإعادة تعيين كلمة المرور الخاصة بك. ### Add New Playlist - Select Visibility -PublicPrivate No Result عرض جميع النتائج - 00:00 00:00 - 00:00 00:00
article
Arabic
ar
الفنّ التجريدي: بين الماضي والحاضر - منصة معنى الثقافية
https://mana.net/abstract-art/
1,888
لم تكن السريالية دوغمائية في محاولتها لاستكشاف اللاوعي، ولذلك ظهر عدد من الأساليب والطرق لمحاولة إخراج اللاوعي إلى السطح.
sentence
لم تكن السريالية دوغمائية في محاولتها لاستكشاف اللاوعي، ولذلك ظهر عدد من الأساليب والطرق لمحاولة إخراج اللاوعي إلى السطح. إحدى هذه الأساليب كان الرسم الآلي (Automatism)، وهي عملية يتخلى فيها الفنان عن السيطرة الواعية لليد التي ترسم  أو تصور. في هذا المجال، تبنى الفنانون مثل أندريه ماسون وخوان ميرو الفرصة لبناء صورهم باستخدام حركات حرّة، وحتى إلقاء الطلاء على القماش.
paragraph
Arabic
ar
الفنّ التجريدي: بين الماضي والحاضر - منصة معنى الثقافية
https://mana.net/abstract-art/
1,889
إحدى هذه الأساليب كان الرسم الآلي (Automatism)، وهي عملية يتخلى فيها الفنان عن السيطرة الواعية لليد التي ترسم  أو تصور.
sentence
لم تكن السريالية دوغمائية في محاولتها لاستكشاف اللاوعي، ولذلك ظهر عدد من الأساليب والطرق لمحاولة إخراج اللاوعي إلى السطح. إحدى هذه الأساليب كان الرسم الآلي (Automatism)، وهي عملية يتخلى فيها الفنان عن السيطرة الواعية لليد التي ترسم  أو تصور. في هذا المجال، تبنى الفنانون مثل أندريه ماسون وخوان ميرو الفرصة لبناء صورهم باستخدام حركات حرّة، وحتى إلقاء الطلاء على القماش.
paragraph
Arabic
ar
الفنّ التجريدي: بين الماضي والحاضر - منصة معنى الثقافية
https://mana.net/abstract-art/
1,890
في هذا المجال، تبنى الفنانون مثل أندريه ماسون وخوان ميرو الفرصة لبناء صورهم باستخدام حركات حرّة، وحتى إلقاء الطلاء على القماش.
sentence
لم تكن السريالية دوغمائية في محاولتها لاستكشاف اللاوعي، ولذلك ظهر عدد من الأساليب والطرق لمحاولة إخراج اللاوعي إلى السطح. إحدى هذه الأساليب كان الرسم الآلي (Automatism)، وهي عملية يتخلى فيها الفنان عن السيطرة الواعية لليد التي ترسم  أو تصور. في هذا المجال، تبنى الفنانون مثل أندريه ماسون وخوان ميرو الفرصة لبناء صورهم باستخدام حركات حرّة، وحتى إلقاء الطلاء على القماش.
paragraph
Arabic
ar
الفنّ التجريدي: بين الماضي والحاضر - منصة معنى الثقافية
https://mana.net/abstract-art/
1,891
طور أرشيل غوركي -هو مهاجر أرمني عاش في الولايات المتحدة- أسلوبًا في الرسم يدمج بين الرسم الآلي وتجريد مجال الألوان. لوحاته في الأربعينيات حجمُها ضخم – ومرد ذلك تأثره بأعماله السابقة كفنان جداري مُعيّن من الدولة خلال السنوات الأخيرة من الكساد الكبير – لكنها معبّرة وغنائية في الرسم بالفرشاة.
paragraph
لا توجد منتجات في سلة المشتريات. No Result عرض جميع النتائج الثلاثاء, سبتمبر 10, 2024 No Result عرض جميع النتائج No Result عرض جميع النتائج # الفنّ التجريدي: بين الماضي والحاضر ## ترجمة: أنطونيوس نادر AA AA إعادة تعيين فنٌ مليء بالتحديات ثمّة خطٌ رفيع يفصل بين الفن التجريدي ومجرد الزخرفة، ولوحة «رقم 32» (نُشرت عام 1950)، لجاكسون بولوك تتأرجح بين هذا الخطّ. فهي لا تشير إلى معنىً واضح، ولكن لا يمكن القول إنّها بلا معنى على الإطلاق. كما أنّها ليست معبّرة بشكلٍ مباشر، ولا يعني هذا أنها لا تعبّر عن مدلولٍ ما. تحمل هذه اللوحة الكثير من المضامين عن الفن الغربي بالنسبة إلى شخصٍ خبيرٍ في تاريخ الفن؛ أما بالنسبة إلى شخصٍ عادي، فقد يراها عملًا مبتذلًا بالكاد يعبّر عن أمرٍ ما. اللوحة شبكة من الخطوط وبقعٍ من الألوان، رُسمت عن طريق صبّ طلاءٍ رخيص بعشوائيةٍ مباشرة على القماش. تتكون اللوحة من طلاءٍ أسود فقط وقماشٍ خام. واللوحة ضخمة؛ إذ يبلغ طولها تسعة أقدام وعرضها خمسة عشر قدمًا، وتغطي مجال رؤية المشاهد أثناء اقترابه منها. تقليديًّا، حتى اللوحات التجريدية تتكون من أجزاءٍ مترابطة مع بؤر تركيز (emphases) وعمقٍ يُنقل من خلال اللون والظلال، ولكن «رقم 32» ليس لها أجزاء؛ إنّها تتكون من تعالقات، والبؤرة فيها تكمن عبر امتداد سطح القماش المستطيل. يمنحها ما سبق عمقًا سطحيًا، وربما لا عمق فيها: مجرّد طلاء على قماش. إنّها عبث بالشكل واللون. حتى اسمها، ببساطة رقمٌ معيّن – رقم 32 – يجعلها تنأى بنفسها عن أي فكرة مفادها أنها تعكس مدلولًا محدّدًا. تشير عناوين أعمال بولوك الأخرى إلى نوعٍ من الاختبار الشخصي، وإلى الاستخدام السمفوني المتعدد الطبقات للون والملمس؛ خذ مثلًا لوحاته التي تحمل اسم: «إيقاع الخريف»، و«الضباب الأرجواني»، و«الأقطاب الزرقاء»، و«انعكاس الدنقلة الكبير». هذا لا ينطبق على لوحة «رقم 32»؛ شكلها الخام وبساطتها دليل على أنّ الفنان لم يخطط مسبقًا لرسمها؛ أيّ أنّه لم ينتق الألوان ولا الطبقات. يبدو بولوك هنا أكثر حضورًا، من خلال لمساته الحادة. بالنسبة إلى مؤيديّ عمل بولوك، تختصر هذه اللوحة خلاصة نظرة الفنان الجمالية. أما بالنسبة للبعض الآخر، فهي لوحة مبتذلة. وصف جوزيف بويس -النحات الألماني في فترة ما بعد الحرب- الفنَّ التجريدي الأمريكي بأنه مجرد «تغليف»، أيّ سطح بلا محتوى. في هذا الصدد، قد يتفق البعض أن لوحة «رقم 32» تجسد فراغ الفكر والشعور ذاك. فقد رأى الروائي والناقد الفني روبرت كوتس أن فن بولوك لم يكن سوى «انفجارات» غير منظمة من الطاقة العشوائية. غير أنّ طائفة كبيرة من متذوقي الفن التجريدي لا تروق إليهم أعمال بولوك ويرونها فنًّا محيرًا، حتى إنّ بعضهم يراها إهانةً للذوق أو الحسّ السليم. عُرف بولوك بلقب: «جاك فنان النقط» (Jack the Dripper) [1] في الأوساط الإعلامية المشككة بعمله حيث ادعى كثر أن أيّ شخص يمكنه أن يرسم كما يرسم بولوك إلّا أنّ أحدًا لم يتجرأ على فعل ذلك. «رقم 32» - جاكسون بولوك«رقم 32» – جاكسون بولوك بيد أنّ هذا هو مغزى الفن التجريدي في التقليد الغربي: إنّه تحدّ. وفي ظل الكثير هذه التحديات، تُعد لوحة « رقم 32» اللوحة الأكثر تمثيلًا لهذا الفن. قصة الفنّ التجريدي مسار قصة الفن التجريدي مضمّنة في الدراسات التاريخية الفنية، إلّا أنّ المحطات الرئيسة لهذا المسار كانت محط تغييرات مفاجئة كلما اكتشف مؤرخوّ الفن حقائق جديدة. انطلق مسار الفن التجريدي بدءًا من القرن التاسع عشر وما تلاه؛ حيث استفاد الفنانون من مادة الطلاء والجوانب الشكلية للرسم مثل اللون والدرجة والخطوط. يُعرف هذا الانشغال بالجوانب غير التمثيلية (non-representative) للفن باسم «الشكلانية»، لأنّه انشغال «بالشكل»، أيّ بتوسل شكل المحتوى بدلًا من المحتوى في ذاته. بالنسبة إلى الفنانين في القرن التاسع عشر، صُنّف الفن التجريدي على أنّه «فنٌّ من أجل الفنّ»، وكانت الفكرة الشائعة مفادها أنّ المتذوق للفن يمكنه الاستمتاع بالعمل دون اللجوء إلى معنى أو حتى أي شيء آخر يمثل أمرًا ما. تمثّل لوحة «الموسيقى الهادئة باللّونين الأسود والذهبي – الصاروخ الساقط» (1872)، للفنان جيمس مكنيل ويسلر هذا الاتجاه الذي تبلور لاحقًا في الفن التجريدي.  إنّ مشهد ويسلر الغامض من الناحية المكانيّة يقترب إلى التجريد، وذلك بمحاولته نقل الشعور أو الانطباع الخاص بالمشهد بدلًا من إعادة إنتاجه بحذافيره. «الموسيقى الهادئة باللونين الأسود والذهبي - الصاروخ الساقط» (1872-1877) - جيمس أبوت مكنيل ويسلير«الموسيقى الهادئة باللونين الأسود والذهبي – الصاروخ الساقط» (1872-1877) – جيمس أبوت مكنيل ويسلير في عام 1877، انتقد جون روسكين – أبرز نقّاد بريطانيا في ذلك الوقت – عمل ويسلير هذا نقدًا لاذعًا فشبهه «بمن قام برمي الطلاء في وجه الجمهور». تأثر ويسلر بهذا الكلام، فرفع دعوى قضائية ضد روسكين، بيد أنّه خسرها لأن المسؤولين عرضوا اللوحة -خطأً- مقلوبةً على المحكمة. أفلس ويسلير بسبب هذه القضية، لكن مسيرة تطور الفن التجريدي استمرت. من ناحيةٍ أخرى، تحديد أول فنان تجريدي في العالم موضوع نزاع. في نظر أبحاث تاريخ الفن التقليدية، كان فاسيلي كاندينسكي – فنان روسي الجنسية رسم لوحات تجريدية بالكامل في مطلع عام 1911- هو أول فنان تجريدي. لم ينل الفن التجريدي الرائد لهيلما أف كلينت تقديرًا إلا قبل سنوات قريبة. هذه صورة للمعرض الشهير في  متحف غاغينهايم، عام 2018 .لم ينل الفن التجريدي الرائد لهيلما أف كلينت تقديرًا إلا قبل سنوات قريبة. هذه صورة للمعرض الشهير في  متحف غاغينهايم، عام 2018 . ولكن في الآونة الأخيرة، وبفضل المعرض الرائد في متحف مقاطعة لوس أنجلوس للفنون في عام 1986 الذي حمل اسم «الروحانية في الفن: الرسم التجريدي 1890 – 1985»، وقع الاختيار على هيلما أف كلينت كأول رسامة تجريدية. بدأت كلينت في رسم لوحات تجريدية بدءًا من عام 1906، وحملت مجموعتها عنوان «الفوضى البدائية». كانت الفنانة متكتمة في ما يتعلق بأعمالها التجريدية، ولم تُعرض أيّ منها في معارض عامة، وبقيت غير معروفة حتى أزيح عنها الستار مؤخرًا. ولعل الجدال حول هوية أول من مارس الفن التجريدي سيستم، لكن الحقيقة الأكثر أهمية هي أن العديد من الفنانين الأوروبيين البارزين قد توصّلوا في أعمالهم إلى التجريد بحلول الحرب العالمية الأولى. لقد وجد كل منهم طريقته الخاصة في التخلي عن الفن التشخيصي (figurative painting). وجديرٌ بالذكر أنّه لم تكن هناك حركة «تجريدية» دولية ذات رؤية أو بيان مشترك. في ضوء ذلك، فإن السؤال الملحّ حقًا هو: لمَ لمْ يتبنى الفنانون الغربيون الفن التجريدي على امتداد قرون عديدة؟ لماذا كان التجريد غير ضروري أو لا معنى له أو غير مناسب أو حتى لا يمكن تقبّله لقرونٍ متوالية في الفن الغربي؟ ظهرت العديد من التفسيرات لشرح ذلك. إحدى النظريات الأكثر وضوحًا هي أن ظهور التصوير الفوتوغرافي بوصفه شكلًا من أشكال الفن، إضافةً إلى تطور الفن الحديث، سببان رئيسان لإزاحة الرسم التشخيصي. ثمّة إجابات أخرى غير ملموسة لاستكشاف الأسباب: ربما عندما أصبحت الأعمال الفنية قابلة للاستهالاك بشكل متزايد، مثل السلع، بات من السهولة فصل اللوحات والمنحوتات عن التجارب المحددة لمبدعيها. ربما أدت الحداثة في الغرب إلى إفراغ الفن من المحتوى التشخيصي؛ مما دفع الفنانين أيضًا إلى التخلي عن التمثيل التشخيصي. كل من هذه الإجابات معقدة وتتطلب الكثير من الشرح، ولا يمكن إلا أن تكون تخمينات. لا توجد إجابة واضحة لهذه المسألة. ربما يكون من الأفضل طرح السؤال حول سبب تقبّل الفن التجريدي فنًّا من الفنون الرسمية في تاريخ الفن الغربي في مرحلة معينة على علماء الأنثروبولوجيا بدلًا من طرحها على مؤرخي الفن. فما هو واضح أن الفن التجريدي كان موجودًا دائمًا في مناطق أخرى من العالم. ما جعل الفن التجريدي فنًّا حديثًا على وجه التحديد في العالم الغربي هو نظام المعارض، الذي أعطى القيمة الفنية للأعمال المعروضة. وكما هو واضح فقد ازدهر التجريد لآلاف السنين المناطق الشرقية والجنوبية من العالم، دون عناء التحقق من مكانة الأعمال المعروضة في الصالونات [والمعارض، كما هو في العالم الغربي]. الواقع الافتراضي و«الافتراضية» يتبنى بيبي كرمل وهو مؤرخ فني، في كتابه « الفن التجريدي: تاريخ عالمي»، فكرة أنّ الفن التجريدي كان دائمًا موجودًا بشكل طبيعي عندما ننظر إليه نظرة شاملة وعالمية، بيد أنّه يتحاشى طرح نظرية عن تطور الفن التجريدي. بالنسبة إلى كرمل، فإنّ هذا الفنّ متجذر في العالم الحقيقي، وهو ليس فنًّا «مجردًا» على الإطلاق، كما أنّه تقليد عالمي وليس محليًا. في دراسته حول الفن التجريدي يقسم العمل الفني إلى خمس فئات واسعة تنتمي إلى العالم الحقيقي: الأجسام، والمناظر الطبيعية، والكون، والبنى، والعلامات والأنماط. من خلال فحص الفن التجريدي بهذه الطريقة، يرى كرمل في اللوحات التجريدية موضوعات قابلة للتحليل، بعكس النقاد والمؤرخين الأرثوذكسيين الذين رأوا فيها مجرّد توليفات شكلية مكوّنة من لون وشكل. ربما يكون من الأفضل أن يطلق على الفن التجريدي: فن ما تم تجريده (abstracted art)؛ لأنّ الفنانين التجريديين عادةً ما يستخلصون ويجرّدون تعبيرات التجارب في شكل ولون،  أكثر من كونها توليفات مكونة من شكل ولون. ومرّد ذلك الطبيعة الجوهرية للرسم والنحت؛ فهما (الشكل اللّون) وسيطان للتعبير، مثل الشاشة أو المسرح لخيال الفنان. كما هو الحال في المسرح أو السينما، فإنّ جمهور اللوحة أو المنحوتة يعلّق معتقداته من أجل أن يتقبل المشهد. من المفيد التفكير في اللوحة التشخيصية التقليدية أو النحت على أنها حقيقة افتراضية. إذْ استخدم الفنانون لقرون عديدة الحيل البصرية -مثل المنظور الخطي، والتقصير المسبق، والتظليل- لمحاكاة الطريقة التي ندرك بها الأشياء في الفضاء الحقيقي. إنّ المشاهد تُنشأ في فضاء افتراضي – سواء كانت القاعدة التي تدعم التمثال أو القماش – ليراها المشاهدون بوصفها خدعة بصرية. «القديس بطرس شفاء أحد الأشخاص وبعث تابيثا من الموت» ماسولينو دي بانيكال. اعتمد الرسم الغربي قبل القرن العشرين على الحيل البصرية لخلق واقع افتراضي. إحدى هذه الحيل هي المنظور الخطي، وهذه اللوحة هي أول مثال لاستخدام نقطة تلاشٍ متسقة.«القديس بطرس شفاء أحد الأشخاص وبعث تابيثا من الموت» ماسولينو دي بانيكال. اعتمد الرسم الغربي قبل القرن العشرين على الحيل البصرية لخلق واقع افتراضي. إحدى هذه الحيل هي المنظور الخطي، وهذه اللوحة هي أول مثال لاستخدام نقطة تلاشٍ متسقة. يستمتع مشاهدوّ الأعمال الفنية العظيمة معنى ما يُرسم، ويقدرون الطريقة التي يتجلّى فيها الوهم عبر تمازج اللون والشكل. يبقى الفن التجريدي، إلى حدٍ ما، ضمن إطار التجربة الجمالية. فقد سعت حركات الفن الحديث التي أدت إلى التجريد -أيّ «مدارس الفن»، مثل الانطباعية والفاوفية والتكعيبية- إلى تمثيل العالم بشكل مختلف عن كل الفنون التي سبقتها. إذْ ادعوا الاقتراب من الحقيقة الذاتية عبر تهميش جميع الحيل الوهمية التقليدية التي حاولت إعادة إنتاج الواقع بحذافيره كحقيقة موضوعية. «الأحمر والأصفر والأزرق» (1925) واسيلي كاندينسكي.  كان كاندينسكي يعدّ لفترةٍ طويلة أب الرسم التجريدي الغربي.«الأحمر والأصفر والأزرق» (1925) واسيلي كاندينسكي.  كان كاندينسكي يعدّ لفترةٍ طويلة أب الرسم التجريدي الغربي. بالنسبة إلى هذه المدارس، أصبح الفن أقل من أن يوصف بأنّه واقع افتراضي، لكنه مع ذلك احتفظ بالافتراضية، وأصبح افتراضيًا. لقد أخذ الفن التجريدي مسار التطور هذا إلى أقصاه: من الواقع الافتراضي إلى الافتراضية. ماذا تعني «الافتراضية» هنا؟ إنّها الوجود كجوهر وتأثير، ولكن بدون اللجوء إلى الواقع. اللوحة التجريدية التي رسمها كاندينسكي، على سبيل المثال، ما زالت تُعدّ علاقة متبادلة بين الشكل واللون، و تعتمد على الرسم كمستوى تخطيطي: إنها نافذة تطلّ على «الواقع» الفردي الذي تصوّره كاندينسكي. وما تزال العناصر في لوحات كاندينسكي تحظى بعلاقة متبادلة، كما هو الحال في فضاء الواقع الافتراضي للوحة التشخيصية؛ فجوهر الرسم سليم إذ إنّ ذلك الفضاء الافتراضي ما زال موجودًا. عندما يكون الفن التجريدي بناءً خالصًا، ويتخلص من المساحة الافتراضية الملازمة للرسم والنحت، يصبح متميزًا عنهما. وصف دونالد جود الفنان التخفيفي (minimalist) مثل هذه الأعمال الفنية بأنها «أجسام محدّدة» (Specific Objects). إنّه مصطلح غير دقيق، ولكنه يصلح لإظهار أن مثل هذه الأعمال الفنية ليست رسمًا ولا نحتًا، ولكنها فئة أخرى تمامًا. رأى دونالد جود أن أعماله وأعمال العديد من معاصريه تشغل مساحة هجينة، لا هي لوحات ولا هي نحت. عمل دون عنوان لدونالد جود. استخدم جود هذا المصطلح لوصف أعماله الخاصة، ولكنه ينطبق على لوحات كازيمير ماليفيتش وفرانك ستيلا أحادية اللون، والتي تجعل اللوحة تندمج مع نفسها بالكامل، من أجل الوصول للتأثير الذي يأمل العمل في تحقيقه. في مثل هذه الأعمال، لم يعد قماش اللّوحة (أو القاعدة) سطحًا تتفاعل فيه الأشكال والألوان في الفضاء الافتراضي. بدلاً من ذلك، تتفاعل الأشكال والألوان في الفضاء الحقيقي، في فضائنا. تختلف معايير النجاح أو الفشل لهذه الأعمال عن الخصائص التقليدية للرسم والنحت. رأى جود أنّ خصائص الرسم والنحت تقف في طريق ما أراد تحقيقه من خلال اللون والشكل. في رأيه، كان لـ «أجسامه المحددة» تأثيرًا أحدّ من غيرها. الواقع والأشكال الجديدة للإدراك الحسّي الرسم نفسه له ثلاثة أنواع عامة من التجريد؛ أولًا، ثمّة أسلوب تعبيري تُرسم فيه الأشكال بحركاتٍ غير مقيدة؛ ثم هناك التجريد الهندسي حيث يتم هيكلة الأشكال؛ أما النوع الثالث، فهو تجريد مجال اللون حيث يتم عرض مساحات من الألوان بطريقةٍ لا شكل واضح لها. لم تكن هذه «الأنماط» (styles) أنماطًا عرضيةً أو تعتمد على ذوق أو ميل الرسام كوسيلة لتحقيق هدفٍ ما من البحث الفني. وخير مثال على ذلك هو الفنان الذي غالبًا ما ينظر إلى عمله على أنّه ذروة التجريد الهندسي: بيت موندريان. إنّ لوحات بيت موندريان المكونة من شبكات (grids) ذات الخطوط السوداء والأجزاء الملونة على خلفية بيضاء؛ تهدف إلى استحضار «حقيقة أعلى». بالنسبة إلى موندريان، كان الفن في جوهره معارضًا للواقع؛ «لأن الواقع يتعارض مع الروحي». بغض النظر عن هذه اللوحة الأشهر لموندريان، فإنّ جوانب الرسم التي تهم هذا الفنان حقًا لم تكن الجوانب المحددة للموضوع -أيّ ماذا أو ما يتم تصويره في اللوحة مثلًا- بل الجوانب القابلة للفهم عالميًا للشكل والخط واللون. إنّ لوحات موندريان، مثلها مثل لوحات الفنانين الآخرين، هي محاولة لاستخلاص الشكل واللون من أجل الاقتراب من ذلك الجوهر العالمي والروحي للفن. عبّر موندريان عن رغبته في الوصول إلى «أساس» الأشياء من خلال الحدس، كالعديد من الفنانين التجريديين الآخرين في النصف الأول من القرن العشرين الذين رغبوا في الوصول إلى قوى غير مرئية حولنا، ولكنها معروفة أو محدوسة. «التكوين الثاني باللون الأحمر والأزرق والأصفر» (1930) - بيت موندريان«التكوين الثاني باللون الأحمر والأزرق والأصفر» (1930) – بيت موندريان في أواخر القرن التاسع عشر، لاحظ العلماء بشكلٍ أفضل مما سبق القوى غير المرئية مع انتشار التقنيات الجديدة، وأصبح من الواضح أن العالم أرحب مما يبدو للعين. في الوقت نفسه، ظهرت حركات روحية بديلة جمعت بين الأفكار الأفلاطونية والتصوف. كان كلينت وموندريان من بين العديد من الفنانين الذين انغمسوا في أشكال الروحانية خارج العوالم التقليدية للدين. اعتقدت كلينت أن لوحاتها هي وحي عالم روحي، وأن مهمتها كانت العمل «على مستوى روحاني» لتمثيل روح الإنسان، بدلًا من صورته الفانية. بحلول عشرينيات القرن الماضي، كانت نظرية فرويد عن للعقل البشري قد تغلغلت أيضًا في عالم الفن.  كذلك السريالية، وهي حركة منظمة بإحكام بدأت مع بعض الفنانين الذين سعوا إلى التنقيب عن الإمكانات الإبداعية للعقل الباطن، وهي الحركة الثقافية التي كانت سائدة في أوروبا بين الحربين العالميتين. لم تكن السريالية دوغمائية في محاولتها لاستكشاف اللاوعي، ولذلك ظهر عدد من الأساليب والطرق لمحاولة إخراج اللاوعي إلى السطح. إحدى هذه الأساليب كان الرسم الآلي (Automatism)، وهي عملية يتخلى فيها الفنان عن السيطرة الواعية لليد التي ترسم  أو تصور. في هذا المجال، تبنى الفنانون مثل أندريه ماسون وخوان ميرو الفرصة لبناء صورهم باستخدام حركات حرّة، وحتى إلقاء الطلاء على القماش. طور أرشيل غوركي -هو مهاجر أرمني عاش في الولايات المتحدة- أسلوبًا في الرسم يدمج بين الرسم الآلي وتجريد مجال الألوان. لوحاته في الأربعينيات حجمُها ضخم – ومرد ذلك تأثره بأعماله السابقة كفنان جداري مُعيّن من الدولة خلال السنوات الأخيرة من الكساد الكبير – لكنها معبّرة وغنائية في الرسم بالفرشاة. ألهم إدماج غوركي للأنماط جيلًا واسعًا من الفنانين الأمريكيين في فترة ما بعد الحرب لاحتضان التجريد الواسع النطاق. ما نسميه الآن «التعبيرية التجريدية»، وكان ذاك الجيل في الواقع مجموعة فضفاضة من الفنانين الذين يستخدمون أنماطًا متعدّدة من أنماط التجريد. ربما كان القاسم المشترك بين هؤلاء الفنانين – على الأقل في السنوات الأولى – هو دعم جيل جديد من النقاد بقيادة كليمنت غرينبيرغ، الذي كان يعتقد أن التجريد هو التعبير الأسمى للفن الغربي. «الكبد هو مشط الديك» (1944) - أرشيل جوركي.«الكبد هو مشط الديك» (1944) – أرشيل جوركي. الحداثة ومصير الفنّ الغربي كان يُعتقد في بعض الأوساط الفكرية المؤثرة أنّ الفن يتقدم نحو هدف؛ وهذا المضمون يشتمل عليه مصطلح «الطليعية» (Avant-garde)، الذي يُوصف به الفنّانون الذين يبتكرون أرضية جمالية جديدة. أصل المصطلح فرنسي يُطلق على الجنود الذين يتقدمون إلى مناطق جديدة. بالنسبة إلى غرينبيرغ، لم يكن هؤلاء الفنّانون يوسّعون حدود إمكانات الفن؛ بل كانوا يتقدمون نحو الهدف الحقيقي والمفرد لكل شكل فني. يُعدّ غرينبيرغ شخصية مهمة في تاريخ الفن التجريدي، وذلك لأمرين: بوصفه مناصرًا رائدًا في مسألة تفوق الفن التجريدي على غيره من أنواع الرسم، وتأكيده للقوة التي امتلكها هذا الفن. كان ناقدًا في اللجنة الأمريكية للحريّة الثقافية التي تمولها الدولة، وهي مجموعة تم إنشاؤها لتعزيز الفن الأمريكي على المستوى الدولي. أصبحت أفكار غرينبيرغ مؤثرة عندما كانت الولايات المتحدة جزءًا من الحرب على الفاشية والنازية، وخلال الحرب الباردة اللاحقة ضد الشيوعية السوفيتية. كانت معايير الفن الفاشي والسوفياتي واضحة، وهي ما تحددها السلطات الثقافية أنها كذلك، بيد أنّه ما لم يكن واضحًا هو معايير الفن «الجيد» وتحديدًا في الغرب الديمقراطي. كان الماركسيون هم من تعاطف مع غرينبيرغ في البداية، لكن ارتبط تفكيره بشكلٍ متزايد بالهيمنة الثقافية الأمريكية. بالنسبة إليه، كان التجريد في أعمال بولوك فنًا مثاليًا لمجتمع ديمقراطي. تتجلى الحداثة في الفن، وفقًا لغرينبيرغ، في إطار التنوير الأوروبي؛ أيّ في فترة ازدهار الأفكار الفلسفية والعلمية التي أعطت الأولوية للعقل. في مقالته المؤثرة « الرسم الحداثي» (1961)، وصفَ غرينبيرغ إيمانويل كانط – الفيلسوف الألماني في عصر التنوير – بأنّه «أول حداثي حقيقي». كان أسلوب كانط في «النقد» هو استخدام العقل لنقد العقل بغرض توضيحه، ومنحه استقلالية عن أنواع التفكير الأخرى. «أولمبيا» - إدوارد مانيه (1863). بالنسبة إلى كليمنت غرينبيرغ، كان مانيه أول رسام حداثي. لقد رسم مانيه لوحاته بأسلوبٍ مسطّح بشكلٍ متعمد.«أولمبيا» – إدوارد مانيه (1863). بالنسبة إلى كليمنت غرينبيرغ، كان مانيه أول رسام حداثي. لقد رسم مانيه لوحاته بأسلوبٍ مسطّح بشكلٍ متعمد. بالطريقة نفسها، كان الرسامون الحداثيون – من إدوارد مانيه في القرن التاسع عشر إلى موريس لويس، وهو رسام يعمل ينتمي إلى رسامي أسلوب مجال ألوان في الولايات المتحدة في الوقت الذي كتب فيه غرينبيرغ مقالته – يعملون على ترسيخ الفن التعبيري «بشكل صارم في مجال تخصصه». رأى غرينبيرغ أن وضوح الفن التجريدي -الذي كان صادقًا بالنسبة إلى الوسيط الذي يُعبّر من خلاله- معارضٌ لـ«الفن الشعبي المبتذل [الكيتش]» الذي ينُتج على نطاق واسع في الثقافة الشعبية. إن إزالة «الكيتش» كانت مسألة استجلاء وتوضيح تحتاجها جميع الفنون لكي تصبح تعبيرًا عن إمكاناتها الجمالية الكامنة. اللوحات مسطّحة، وإيهام العمق الذي نجده في معظم الفن الغربي كان انحرافًا عن جوهر فن الرسم ذاته. كانت استقلالية الشكل الفني في جميع خصائصه دون أن تتلوث بأشكال فنية أخرى. وفقًا لغرينبيرغ، يعدّ الشكل واللون من أهم خصائص الرسم، و أفضل تمثيل لها يكون بشكلٍ مسطّح. وهكذا دافع غرينبيرغ عن «التسطيح» الذي تجلّى في لوحات الفنانين الأمريكيين التجريدية مثل جاكسون بولوك باعتباره تحقيقًا لهذا الوضوح الحداثي. لقد ضم هؤلاء الفنانين معًا ضمن فريق واحد، وهم يمثّلون المرحلة التالية في الحداثة، وقد حلّت رؤيتهم الأمريكية المميزة محلّ الفن الأوروبي الطليعي. وفي الوقت الذي أصبح فيه الفن التجريدي الأمريكي مهيمنًا، تراجعت هيمنة غرينبيرغ النقدية، وظهرت أشكال جديدة من الفن الطليعي، مستوحاة مباشرة من الثقافة الجماهيرية، وحلّت محلّ التعبيرية التجريدية في المخيال العام. تبنى فنانوّ «البوب» مثل: آندي وارهول، وريتشارد هاميلتون هذا النوع من «الفن الشعبي المبتذل» الذي رآه غرينبيرغ تلويثًا للفن الحقيقي. استمرت الأعمال الفنية التجريدية، ولكن تخلّى الفنّانون التجريديون الأكثر جرأة عن الفكرة الصارمة «للنقد الحداثي»، وعن الوضوح المتعلق بخصوصية الوسيط الفني، وذلك لصالح أشكال أخرى من التعبير. نظر فنانوّ «ما بعد الحداثة» إلى السخرية وعملية الرسم نفسها، كطرق لتجاوز الطريق المسدود للحداثة. تبنى الألماني غيرهارد ريختر كلا النهجين؛ فبعض أعماله التجريدية في الستينيات كانت مصنوعة بممسحاتٍ بدلًا من الفرشاة، حتى يتمكن من لفت الانتباه إلى عملية صنع اللوحة نفسها. كانت «اللوحات التجريدية» البارزة الأخرى التي رسمها ريختر في الواقع صورًا واقعية مرسومة بعناية تعكس لوحاته التجريدية الأخرى. أصبحت طلائعية الرسم التجريدي مفهومية أكثر، ما جعل ضمنيًّا قضية الرسم تحظى باستقلالية أقل مما كان كان يعتقد النقاد الحداثيون. قلّد فنانوّ «نيو جيو»، مثل: الرسام بيتر هالي، والنحات أشلي بيكرتون اللغة البصرية للتجريد الهندسي، لكنهما دمجاها مع السلع الاستهلاكية بألوانٍ تجارية فاتحة وأحيانًا فلورية. منذ ذلك الجيل ما بعد الحداثي من الرسامين والنحاتين الممتد من الستينيات إلى التسعينيات، ازدهر التجريد متفرّعًا إلى عددٍ لا يُحصى من الأساليب والمقاربات بجوار الفن التشخيصي. هنا يمكن القول إنّ التجريد المتحرّر من عبء التوقعات الحداثية هو ببساطة نهج للتعبير مثل أيّ نهج آخر. وتجدر الإشارة إلى أنّ بعض الفنانين التجريديين استخدموا الحيل البصرية المستعملة في الفن التشخيصي – مثل المنظور والتظليل – في لوحاتهم. ولاستخدامهم هذا أهداف فريدة و غالبًا لا تهتم بالنظرية. قلّد فنانوّ «ما بعد الحداثة» مثل: بيتر هالي اللغة البصرية المستعملة في الفن التجريدي الحديث (في حالة بيتر، التجريد الهندسي)، للتعليق على طبيعة الفن والمعنى نفسه. تمثّل هذه الكتل الملونة «الخلايا» و«الأنابيب».قلّد فنانوّ «ما بعد الحداثة» مثل: بيتر هالي اللغة البصرية المستعملة في الفن التجريدي الحديث (في حالة بيتر، التجريد الهندسي)، للتعليق على طبيعة الفن والمعنى نفسه. تمثّل هذه الكتل الملونة «الخلايا» و«الأنابيب». هذا هو التحرّر نحو الأفضل بين الرسامين التجريديين الذين يمكنهم الالتزام برؤيةٍ فريدة بالرسم على القماش. لكن فكّ ارتباط الفن التجريدي عن إطاره الفلسفي الأوسع أدى أيضًا إلى انتشارٍ يثير التساؤل لأعمال تجريدية متنوعة قابلة للاستهلاك – بمعنى أنّها فقدت قيمتها، وباتت تُباع وتُشترى سريعًا بأسعارٍ مربحة – يشتريها المشترون المتضاربون. دفع هذا التحول الناقد جيري سالتز إلى كتابة: « الزومبي على الجدران: لماذا يبدو الكثير من التجريد الجديد متشابهًا؟». وقد شبه اللّوحات التجريدية بصورة «الزومبي»، تحقيرًا لأعمال عددٍ من الرسامين التجريديين البارزين، الذين استخدموا الفنّ وجماليته لتقديم أعمال مبتذلة. ومن المفارقات أن هؤلاء الفنانين نظروا إلى الشكلانية بوصفها فنًّا حداثيًّا متبنّين منظور غرينبيرغ، لكنهم بالطبع قدّموا أعمالًا في ظلّ فراغ تاريخي وبعد فترةٍ طويلة حين لم يُصبح التجريد مثيرًا للاهتمام أو راديكاليًا بأي وجه من الوجوه. في الواقع، لم يصل مشروع الحداثة  في الفن التجريدي إلى نهايته، بل النقد. إنّ النقد -أيّ الإطار الفلسفي الواسع الذي يصادق على الأعمال الفنية ويثمّنها لأهميتها الثقافية والتاريخية- هو ما فقد التوجه والسلطة. كان مسار الفن الغربي منذ عصر التنوير يتأرجح بين قطبي الدوغمائية النقدية والإبداع. تكمن المشكلة أنه في العقود الأخيرة، وفي ظلّ غياب أي مشروع نقدي متماسك، انجرف الفن نحو إرضاء اهتمامات دقيقة ومتنوعة تزداد باستمرار. في حين كانت هناك «حركات» و«مدارس» فنية -مصطلحان يشيران إلى الوجهة والانضباط- لم يعد لدينا الآن سوى «مشاهد». هذا ليس بالضرورة أمرًا سيئًا. ولكن في عالم حيث «كل شيء مقبول – anything goes»، لا يوجد مجال لهذا النوع من الابتكار والتجاوز الذي أدى إلى ظهور الفن التجريدي في الغرب، وهذا ما جعل الفن الحديث فنًّا مثيرًا للغاية. من الصعب في هذه اللحظة التاريخية أن ندرك ما الذي جعل لوحة بولوك «رقم 32» مثيرة للانقسام، ومخلخلةً جدًا للمعايير، وفي الوقت نفسه محتفظةً بقيمةٍ عالية جدًا لأولئك الذين يعتقدون أن للفنِّ مكانًا في المجتمع يتجاوز المتعة. [divider style=”solid” top=”20″ bottom=”20″] [1] واللقب كذلك يُلمح إلى القاتل المتسلسل في لندن آخر القرن التاسع عشر: جاك السفّاح Jack the ripper (مدير التحرير). ### خارج عقلك | توم تشاتفيلد – ت: محمد السعيد                  عندما يكون هاتفي النقال بين يديّ، هل أكون أنا الشخص نفسه لو كان الهاتف في غرفة أخرى؟ من ناحية،... ### الدراما في التعليم: مقاربات وتطبيقات | نعيم حيماد افتتاحيّة حظي استخدام الدراما في التعليمفي السنوات الأخيرة باهتمام كبير من قبل نخبة من المنظرين والممارسين للدراما في مجال التعليم.... ### الحقائق المخفية | دي بي سي بيير – ت: محمد السعيد       يحمل جبل كلسي خشن في غرب إيران عددًا من النقوش البارزة، من بينها لوحة طولها خمسة وعشرين مترًا منقوشة... ### التغلُّب على كاشف الكذب | كلاريسا سيباغ-مونتِنفيوري – ت: محمد السعيد          حين  اتُّهِمَتْ مربية الأطفال البريطانية لويز وودورد بهزِّ رضيع حتى الموت في مدينة نيوتن بولاية ماساتشوستس، لم تكتفِ بإعلان... ### عن منصة معنى «معنى»، مؤسسة ثقافية تقدّمية ودار نشر تهتم بالفلسفة والمعرفة والفنون، عبر مجموعة متنوعة من المواد المقروءة والمسموعة والمرئية. انطلقت في 20 مارس 2019، بهدف إثراء المحتوى العربي، ورفع ذائقة ووعي المتلقّي المحلي والدولي، عبر الإنتاج الأصيل للمنصة والترجمة ونقل المعارف. ### روابط سريعة ### التصنيفات ### مرحبا بك! قم بتسجيل الدخول إلى حسابك تذكرني ### قم بإنشاء حساب جديد! املأ النموذج أدناه للتسجيل ### طلب إعادة تعيين كلمة المرور يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان البريد الإلكتروني لإعادة تعيين كلمة المرور الخاصة بك. ### Add New Playlist - Select Visibility -PublicPrivate No Result عرض جميع النتائج - 00:00 00:00 - 00:00 00:00
article
Arabic
ar
الفنّ التجريدي: بين الماضي والحاضر - منصة معنى الثقافية
https://mana.net/abstract-art/
1,892
طور أرشيل غوركي -هو مهاجر أرمني عاش في الولايات المتحدة- أسلوبًا في الرسم يدمج بين الرسم الآلي وتجريد مجال الألوان.
sentence
طور أرشيل غوركي -هو مهاجر أرمني عاش في الولايات المتحدة- أسلوبًا في الرسم يدمج بين الرسم الآلي وتجريد مجال الألوان. لوحاته في الأربعينيات حجمُها ضخم – ومرد ذلك تأثره بأعماله السابقة كفنان جداري مُعيّن من الدولة خلال السنوات الأخيرة من الكساد الكبير – لكنها معبّرة وغنائية في الرسم بالفرشاة.
paragraph
Arabic
ar
الفنّ التجريدي: بين الماضي والحاضر - منصة معنى الثقافية
https://mana.net/abstract-art/
1,893
لوحاته في الأربعينيات حجمُها ضخم – ومرد ذلك تأثره بأعماله السابقة كفنان جداري مُعيّن من الدولة خلال السنوات الأخيرة من الكساد الكبير – لكنها معبّرة وغنائية في الرسم بالفرشاة.
sentence
طور أرشيل غوركي -هو مهاجر أرمني عاش في الولايات المتحدة- أسلوبًا في الرسم يدمج بين الرسم الآلي وتجريد مجال الألوان. لوحاته في الأربعينيات حجمُها ضخم – ومرد ذلك تأثره بأعماله السابقة كفنان جداري مُعيّن من الدولة خلال السنوات الأخيرة من الكساد الكبير – لكنها معبّرة وغنائية في الرسم بالفرشاة.
paragraph
Arabic
ar
الفنّ التجريدي: بين الماضي والحاضر - منصة معنى الثقافية
https://mana.net/abstract-art/
1,894
ألهم إدماج غوركي للأنماط جيلًا واسعًا من الفنانين الأمريكيين في فترة ما بعد الحرب لاحتضان التجريد الواسع النطاق. ما نسميه الآن «التعبيرية التجريدية»، وكان ذاك الجيل في الواقع مجموعة فضفاضة من الفنانين الذين يستخدمون أنماطًا متعدّدة من أنماط التجريد.
paragraph
لا توجد منتجات في سلة المشتريات. No Result عرض جميع النتائج الثلاثاء, سبتمبر 10, 2024 No Result عرض جميع النتائج No Result عرض جميع النتائج # الفنّ التجريدي: بين الماضي والحاضر ## ترجمة: أنطونيوس نادر AA AA إعادة تعيين فنٌ مليء بالتحديات ثمّة خطٌ رفيع يفصل بين الفن التجريدي ومجرد الزخرفة، ولوحة «رقم 32» (نُشرت عام 1950)، لجاكسون بولوك تتأرجح بين هذا الخطّ. فهي لا تشير إلى معنىً واضح، ولكن لا يمكن القول إنّها بلا معنى على الإطلاق. كما أنّها ليست معبّرة بشكلٍ مباشر، ولا يعني هذا أنها لا تعبّر عن مدلولٍ ما. تحمل هذه اللوحة الكثير من المضامين عن الفن الغربي بالنسبة إلى شخصٍ خبيرٍ في تاريخ الفن؛ أما بالنسبة إلى شخصٍ عادي، فقد يراها عملًا مبتذلًا بالكاد يعبّر عن أمرٍ ما. اللوحة شبكة من الخطوط وبقعٍ من الألوان، رُسمت عن طريق صبّ طلاءٍ رخيص بعشوائيةٍ مباشرة على القماش. تتكون اللوحة من طلاءٍ أسود فقط وقماشٍ خام. واللوحة ضخمة؛ إذ يبلغ طولها تسعة أقدام وعرضها خمسة عشر قدمًا، وتغطي مجال رؤية المشاهد أثناء اقترابه منها. تقليديًّا، حتى اللوحات التجريدية تتكون من أجزاءٍ مترابطة مع بؤر تركيز (emphases) وعمقٍ يُنقل من خلال اللون والظلال، ولكن «رقم 32» ليس لها أجزاء؛ إنّها تتكون من تعالقات، والبؤرة فيها تكمن عبر امتداد سطح القماش المستطيل. يمنحها ما سبق عمقًا سطحيًا، وربما لا عمق فيها: مجرّد طلاء على قماش. إنّها عبث بالشكل واللون. حتى اسمها، ببساطة رقمٌ معيّن – رقم 32 – يجعلها تنأى بنفسها عن أي فكرة مفادها أنها تعكس مدلولًا محدّدًا. تشير عناوين أعمال بولوك الأخرى إلى نوعٍ من الاختبار الشخصي، وإلى الاستخدام السمفوني المتعدد الطبقات للون والملمس؛ خذ مثلًا لوحاته التي تحمل اسم: «إيقاع الخريف»، و«الضباب الأرجواني»، و«الأقطاب الزرقاء»، و«انعكاس الدنقلة الكبير». هذا لا ينطبق على لوحة «رقم 32»؛ شكلها الخام وبساطتها دليل على أنّ الفنان لم يخطط مسبقًا لرسمها؛ أيّ أنّه لم ينتق الألوان ولا الطبقات. يبدو بولوك هنا أكثر حضورًا، من خلال لمساته الحادة. بالنسبة إلى مؤيديّ عمل بولوك، تختصر هذه اللوحة خلاصة نظرة الفنان الجمالية. أما بالنسبة للبعض الآخر، فهي لوحة مبتذلة. وصف جوزيف بويس -النحات الألماني في فترة ما بعد الحرب- الفنَّ التجريدي الأمريكي بأنه مجرد «تغليف»، أيّ سطح بلا محتوى. في هذا الصدد، قد يتفق البعض أن لوحة «رقم 32» تجسد فراغ الفكر والشعور ذاك. فقد رأى الروائي والناقد الفني روبرت كوتس أن فن بولوك لم يكن سوى «انفجارات» غير منظمة من الطاقة العشوائية. غير أنّ طائفة كبيرة من متذوقي الفن التجريدي لا تروق إليهم أعمال بولوك ويرونها فنًّا محيرًا، حتى إنّ بعضهم يراها إهانةً للذوق أو الحسّ السليم. عُرف بولوك بلقب: «جاك فنان النقط» (Jack the Dripper) [1] في الأوساط الإعلامية المشككة بعمله حيث ادعى كثر أن أيّ شخص يمكنه أن يرسم كما يرسم بولوك إلّا أنّ أحدًا لم يتجرأ على فعل ذلك. «رقم 32» - جاكسون بولوك«رقم 32» – جاكسون بولوك بيد أنّ هذا هو مغزى الفن التجريدي في التقليد الغربي: إنّه تحدّ. وفي ظل الكثير هذه التحديات، تُعد لوحة « رقم 32» اللوحة الأكثر تمثيلًا لهذا الفن. قصة الفنّ التجريدي مسار قصة الفن التجريدي مضمّنة في الدراسات التاريخية الفنية، إلّا أنّ المحطات الرئيسة لهذا المسار كانت محط تغييرات مفاجئة كلما اكتشف مؤرخوّ الفن حقائق جديدة. انطلق مسار الفن التجريدي بدءًا من القرن التاسع عشر وما تلاه؛ حيث استفاد الفنانون من مادة الطلاء والجوانب الشكلية للرسم مثل اللون والدرجة والخطوط. يُعرف هذا الانشغال بالجوانب غير التمثيلية (non-representative) للفن باسم «الشكلانية»، لأنّه انشغال «بالشكل»، أيّ بتوسل شكل المحتوى بدلًا من المحتوى في ذاته. بالنسبة إلى الفنانين في القرن التاسع عشر، صُنّف الفن التجريدي على أنّه «فنٌّ من أجل الفنّ»، وكانت الفكرة الشائعة مفادها أنّ المتذوق للفن يمكنه الاستمتاع بالعمل دون اللجوء إلى معنى أو حتى أي شيء آخر يمثل أمرًا ما. تمثّل لوحة «الموسيقى الهادئة باللّونين الأسود والذهبي – الصاروخ الساقط» (1872)، للفنان جيمس مكنيل ويسلر هذا الاتجاه الذي تبلور لاحقًا في الفن التجريدي.  إنّ مشهد ويسلر الغامض من الناحية المكانيّة يقترب إلى التجريد، وذلك بمحاولته نقل الشعور أو الانطباع الخاص بالمشهد بدلًا من إعادة إنتاجه بحذافيره. «الموسيقى الهادئة باللونين الأسود والذهبي - الصاروخ الساقط» (1872-1877) - جيمس أبوت مكنيل ويسلير«الموسيقى الهادئة باللونين الأسود والذهبي – الصاروخ الساقط» (1872-1877) – جيمس أبوت مكنيل ويسلير في عام 1877، انتقد جون روسكين – أبرز نقّاد بريطانيا في ذلك الوقت – عمل ويسلير هذا نقدًا لاذعًا فشبهه «بمن قام برمي الطلاء في وجه الجمهور». تأثر ويسلر بهذا الكلام، فرفع دعوى قضائية ضد روسكين، بيد أنّه خسرها لأن المسؤولين عرضوا اللوحة -خطأً- مقلوبةً على المحكمة. أفلس ويسلير بسبب هذه القضية، لكن مسيرة تطور الفن التجريدي استمرت. من ناحيةٍ أخرى، تحديد أول فنان تجريدي في العالم موضوع نزاع. في نظر أبحاث تاريخ الفن التقليدية، كان فاسيلي كاندينسكي – فنان روسي الجنسية رسم لوحات تجريدية بالكامل في مطلع عام 1911- هو أول فنان تجريدي. لم ينل الفن التجريدي الرائد لهيلما أف كلينت تقديرًا إلا قبل سنوات قريبة. هذه صورة للمعرض الشهير في  متحف غاغينهايم، عام 2018 .لم ينل الفن التجريدي الرائد لهيلما أف كلينت تقديرًا إلا قبل سنوات قريبة. هذه صورة للمعرض الشهير في  متحف غاغينهايم، عام 2018 . ولكن في الآونة الأخيرة، وبفضل المعرض الرائد في متحف مقاطعة لوس أنجلوس للفنون في عام 1986 الذي حمل اسم «الروحانية في الفن: الرسم التجريدي 1890 – 1985»، وقع الاختيار على هيلما أف كلينت كأول رسامة تجريدية. بدأت كلينت في رسم لوحات تجريدية بدءًا من عام 1906، وحملت مجموعتها عنوان «الفوضى البدائية». كانت الفنانة متكتمة في ما يتعلق بأعمالها التجريدية، ولم تُعرض أيّ منها في معارض عامة، وبقيت غير معروفة حتى أزيح عنها الستار مؤخرًا. ولعل الجدال حول هوية أول من مارس الفن التجريدي سيستم، لكن الحقيقة الأكثر أهمية هي أن العديد من الفنانين الأوروبيين البارزين قد توصّلوا في أعمالهم إلى التجريد بحلول الحرب العالمية الأولى. لقد وجد كل منهم طريقته الخاصة في التخلي عن الفن التشخيصي (figurative painting). وجديرٌ بالذكر أنّه لم تكن هناك حركة «تجريدية» دولية ذات رؤية أو بيان مشترك. في ضوء ذلك، فإن السؤال الملحّ حقًا هو: لمَ لمْ يتبنى الفنانون الغربيون الفن التجريدي على امتداد قرون عديدة؟ لماذا كان التجريد غير ضروري أو لا معنى له أو غير مناسب أو حتى لا يمكن تقبّله لقرونٍ متوالية في الفن الغربي؟ ظهرت العديد من التفسيرات لشرح ذلك. إحدى النظريات الأكثر وضوحًا هي أن ظهور التصوير الفوتوغرافي بوصفه شكلًا من أشكال الفن، إضافةً إلى تطور الفن الحديث، سببان رئيسان لإزاحة الرسم التشخيصي. ثمّة إجابات أخرى غير ملموسة لاستكشاف الأسباب: ربما عندما أصبحت الأعمال الفنية قابلة للاستهالاك بشكل متزايد، مثل السلع، بات من السهولة فصل اللوحات والمنحوتات عن التجارب المحددة لمبدعيها. ربما أدت الحداثة في الغرب إلى إفراغ الفن من المحتوى التشخيصي؛ مما دفع الفنانين أيضًا إلى التخلي عن التمثيل التشخيصي. كل من هذه الإجابات معقدة وتتطلب الكثير من الشرح، ولا يمكن إلا أن تكون تخمينات. لا توجد إجابة واضحة لهذه المسألة. ربما يكون من الأفضل طرح السؤال حول سبب تقبّل الفن التجريدي فنًّا من الفنون الرسمية في تاريخ الفن الغربي في مرحلة معينة على علماء الأنثروبولوجيا بدلًا من طرحها على مؤرخي الفن. فما هو واضح أن الفن التجريدي كان موجودًا دائمًا في مناطق أخرى من العالم. ما جعل الفن التجريدي فنًّا حديثًا على وجه التحديد في العالم الغربي هو نظام المعارض، الذي أعطى القيمة الفنية للأعمال المعروضة. وكما هو واضح فقد ازدهر التجريد لآلاف السنين المناطق الشرقية والجنوبية من العالم، دون عناء التحقق من مكانة الأعمال المعروضة في الصالونات [والمعارض، كما هو في العالم الغربي]. الواقع الافتراضي و«الافتراضية» يتبنى بيبي كرمل وهو مؤرخ فني، في كتابه « الفن التجريدي: تاريخ عالمي»، فكرة أنّ الفن التجريدي كان دائمًا موجودًا بشكل طبيعي عندما ننظر إليه نظرة شاملة وعالمية، بيد أنّه يتحاشى طرح نظرية عن تطور الفن التجريدي. بالنسبة إلى كرمل، فإنّ هذا الفنّ متجذر في العالم الحقيقي، وهو ليس فنًّا «مجردًا» على الإطلاق، كما أنّه تقليد عالمي وليس محليًا. في دراسته حول الفن التجريدي يقسم العمل الفني إلى خمس فئات واسعة تنتمي إلى العالم الحقيقي: الأجسام، والمناظر الطبيعية، والكون، والبنى، والعلامات والأنماط. من خلال فحص الفن التجريدي بهذه الطريقة، يرى كرمل في اللوحات التجريدية موضوعات قابلة للتحليل، بعكس النقاد والمؤرخين الأرثوذكسيين الذين رأوا فيها مجرّد توليفات شكلية مكوّنة من لون وشكل. ربما يكون من الأفضل أن يطلق على الفن التجريدي: فن ما تم تجريده (abstracted art)؛ لأنّ الفنانين التجريديين عادةً ما يستخلصون ويجرّدون تعبيرات التجارب في شكل ولون،  أكثر من كونها توليفات مكونة من شكل ولون. ومرّد ذلك الطبيعة الجوهرية للرسم والنحت؛ فهما (الشكل اللّون) وسيطان للتعبير، مثل الشاشة أو المسرح لخيال الفنان. كما هو الحال في المسرح أو السينما، فإنّ جمهور اللوحة أو المنحوتة يعلّق معتقداته من أجل أن يتقبل المشهد. من المفيد التفكير في اللوحة التشخيصية التقليدية أو النحت على أنها حقيقة افتراضية. إذْ استخدم الفنانون لقرون عديدة الحيل البصرية -مثل المنظور الخطي، والتقصير المسبق، والتظليل- لمحاكاة الطريقة التي ندرك بها الأشياء في الفضاء الحقيقي. إنّ المشاهد تُنشأ في فضاء افتراضي – سواء كانت القاعدة التي تدعم التمثال أو القماش – ليراها المشاهدون بوصفها خدعة بصرية. «القديس بطرس شفاء أحد الأشخاص وبعث تابيثا من الموت» ماسولينو دي بانيكال. اعتمد الرسم الغربي قبل القرن العشرين على الحيل البصرية لخلق واقع افتراضي. إحدى هذه الحيل هي المنظور الخطي، وهذه اللوحة هي أول مثال لاستخدام نقطة تلاشٍ متسقة.«القديس بطرس شفاء أحد الأشخاص وبعث تابيثا من الموت» ماسولينو دي بانيكال. اعتمد الرسم الغربي قبل القرن العشرين على الحيل البصرية لخلق واقع افتراضي. إحدى هذه الحيل هي المنظور الخطي، وهذه اللوحة هي أول مثال لاستخدام نقطة تلاشٍ متسقة. يستمتع مشاهدوّ الأعمال الفنية العظيمة معنى ما يُرسم، ويقدرون الطريقة التي يتجلّى فيها الوهم عبر تمازج اللون والشكل. يبقى الفن التجريدي، إلى حدٍ ما، ضمن إطار التجربة الجمالية. فقد سعت حركات الفن الحديث التي أدت إلى التجريد -أيّ «مدارس الفن»، مثل الانطباعية والفاوفية والتكعيبية- إلى تمثيل العالم بشكل مختلف عن كل الفنون التي سبقتها. إذْ ادعوا الاقتراب من الحقيقة الذاتية عبر تهميش جميع الحيل الوهمية التقليدية التي حاولت إعادة إنتاج الواقع بحذافيره كحقيقة موضوعية. «الأحمر والأصفر والأزرق» (1925) واسيلي كاندينسكي.  كان كاندينسكي يعدّ لفترةٍ طويلة أب الرسم التجريدي الغربي.«الأحمر والأصفر والأزرق» (1925) واسيلي كاندينسكي.  كان كاندينسكي يعدّ لفترةٍ طويلة أب الرسم التجريدي الغربي. بالنسبة إلى هذه المدارس، أصبح الفن أقل من أن يوصف بأنّه واقع افتراضي، لكنه مع ذلك احتفظ بالافتراضية، وأصبح افتراضيًا. لقد أخذ الفن التجريدي مسار التطور هذا إلى أقصاه: من الواقع الافتراضي إلى الافتراضية. ماذا تعني «الافتراضية» هنا؟ إنّها الوجود كجوهر وتأثير، ولكن بدون اللجوء إلى الواقع. اللوحة التجريدية التي رسمها كاندينسكي، على سبيل المثال، ما زالت تُعدّ علاقة متبادلة بين الشكل واللون، و تعتمد على الرسم كمستوى تخطيطي: إنها نافذة تطلّ على «الواقع» الفردي الذي تصوّره كاندينسكي. وما تزال العناصر في لوحات كاندينسكي تحظى بعلاقة متبادلة، كما هو الحال في فضاء الواقع الافتراضي للوحة التشخيصية؛ فجوهر الرسم سليم إذ إنّ ذلك الفضاء الافتراضي ما زال موجودًا. عندما يكون الفن التجريدي بناءً خالصًا، ويتخلص من المساحة الافتراضية الملازمة للرسم والنحت، يصبح متميزًا عنهما. وصف دونالد جود الفنان التخفيفي (minimalist) مثل هذه الأعمال الفنية بأنها «أجسام محدّدة» (Specific Objects). إنّه مصطلح غير دقيق، ولكنه يصلح لإظهار أن مثل هذه الأعمال الفنية ليست رسمًا ولا نحتًا، ولكنها فئة أخرى تمامًا. رأى دونالد جود أن أعماله وأعمال العديد من معاصريه تشغل مساحة هجينة، لا هي لوحات ولا هي نحت. عمل دون عنوان لدونالد جود. استخدم جود هذا المصطلح لوصف أعماله الخاصة، ولكنه ينطبق على لوحات كازيمير ماليفيتش وفرانك ستيلا أحادية اللون، والتي تجعل اللوحة تندمج مع نفسها بالكامل، من أجل الوصول للتأثير الذي يأمل العمل في تحقيقه. في مثل هذه الأعمال، لم يعد قماش اللّوحة (أو القاعدة) سطحًا تتفاعل فيه الأشكال والألوان في الفضاء الافتراضي. بدلاً من ذلك، تتفاعل الأشكال والألوان في الفضاء الحقيقي، في فضائنا. تختلف معايير النجاح أو الفشل لهذه الأعمال عن الخصائص التقليدية للرسم والنحت. رأى جود أنّ خصائص الرسم والنحت تقف في طريق ما أراد تحقيقه من خلال اللون والشكل. في رأيه، كان لـ «أجسامه المحددة» تأثيرًا أحدّ من غيرها. الواقع والأشكال الجديدة للإدراك الحسّي الرسم نفسه له ثلاثة أنواع عامة من التجريد؛ أولًا، ثمّة أسلوب تعبيري تُرسم فيه الأشكال بحركاتٍ غير مقيدة؛ ثم هناك التجريد الهندسي حيث يتم هيكلة الأشكال؛ أما النوع الثالث، فهو تجريد مجال اللون حيث يتم عرض مساحات من الألوان بطريقةٍ لا شكل واضح لها. لم تكن هذه «الأنماط» (styles) أنماطًا عرضيةً أو تعتمد على ذوق أو ميل الرسام كوسيلة لتحقيق هدفٍ ما من البحث الفني. وخير مثال على ذلك هو الفنان الذي غالبًا ما ينظر إلى عمله على أنّه ذروة التجريد الهندسي: بيت موندريان. إنّ لوحات بيت موندريان المكونة من شبكات (grids) ذات الخطوط السوداء والأجزاء الملونة على خلفية بيضاء؛ تهدف إلى استحضار «حقيقة أعلى». بالنسبة إلى موندريان، كان الفن في جوهره معارضًا للواقع؛ «لأن الواقع يتعارض مع الروحي». بغض النظر عن هذه اللوحة الأشهر لموندريان، فإنّ جوانب الرسم التي تهم هذا الفنان حقًا لم تكن الجوانب المحددة للموضوع -أيّ ماذا أو ما يتم تصويره في اللوحة مثلًا- بل الجوانب القابلة للفهم عالميًا للشكل والخط واللون. إنّ لوحات موندريان، مثلها مثل لوحات الفنانين الآخرين، هي محاولة لاستخلاص الشكل واللون من أجل الاقتراب من ذلك الجوهر العالمي والروحي للفن. عبّر موندريان عن رغبته في الوصول إلى «أساس» الأشياء من خلال الحدس، كالعديد من الفنانين التجريديين الآخرين في النصف الأول من القرن العشرين الذين رغبوا في الوصول إلى قوى غير مرئية حولنا، ولكنها معروفة أو محدوسة. «التكوين الثاني باللون الأحمر والأزرق والأصفر» (1930) - بيت موندريان«التكوين الثاني باللون الأحمر والأزرق والأصفر» (1930) – بيت موندريان في أواخر القرن التاسع عشر، لاحظ العلماء بشكلٍ أفضل مما سبق القوى غير المرئية مع انتشار التقنيات الجديدة، وأصبح من الواضح أن العالم أرحب مما يبدو للعين. في الوقت نفسه، ظهرت حركات روحية بديلة جمعت بين الأفكار الأفلاطونية والتصوف. كان كلينت وموندريان من بين العديد من الفنانين الذين انغمسوا في أشكال الروحانية خارج العوالم التقليدية للدين. اعتقدت كلينت أن لوحاتها هي وحي عالم روحي، وأن مهمتها كانت العمل «على مستوى روحاني» لتمثيل روح الإنسان، بدلًا من صورته الفانية. بحلول عشرينيات القرن الماضي، كانت نظرية فرويد عن للعقل البشري قد تغلغلت أيضًا في عالم الفن.  كذلك السريالية، وهي حركة منظمة بإحكام بدأت مع بعض الفنانين الذين سعوا إلى التنقيب عن الإمكانات الإبداعية للعقل الباطن، وهي الحركة الثقافية التي كانت سائدة في أوروبا بين الحربين العالميتين. لم تكن السريالية دوغمائية في محاولتها لاستكشاف اللاوعي، ولذلك ظهر عدد من الأساليب والطرق لمحاولة إخراج اللاوعي إلى السطح. إحدى هذه الأساليب كان الرسم الآلي (Automatism)، وهي عملية يتخلى فيها الفنان عن السيطرة الواعية لليد التي ترسم  أو تصور. في هذا المجال، تبنى الفنانون مثل أندريه ماسون وخوان ميرو الفرصة لبناء صورهم باستخدام حركات حرّة، وحتى إلقاء الطلاء على القماش. طور أرشيل غوركي -هو مهاجر أرمني عاش في الولايات المتحدة- أسلوبًا في الرسم يدمج بين الرسم الآلي وتجريد مجال الألوان. لوحاته في الأربعينيات حجمُها ضخم – ومرد ذلك تأثره بأعماله السابقة كفنان جداري مُعيّن من الدولة خلال السنوات الأخيرة من الكساد الكبير – لكنها معبّرة وغنائية في الرسم بالفرشاة. ألهم إدماج غوركي للأنماط جيلًا واسعًا من الفنانين الأمريكيين في فترة ما بعد الحرب لاحتضان التجريد الواسع النطاق. ما نسميه الآن «التعبيرية التجريدية»، وكان ذاك الجيل في الواقع مجموعة فضفاضة من الفنانين الذين يستخدمون أنماطًا متعدّدة من أنماط التجريد. ربما كان القاسم المشترك بين هؤلاء الفنانين – على الأقل في السنوات الأولى – هو دعم جيل جديد من النقاد بقيادة كليمنت غرينبيرغ، الذي كان يعتقد أن التجريد هو التعبير الأسمى للفن الغربي. «الكبد هو مشط الديك» (1944) - أرشيل جوركي.«الكبد هو مشط الديك» (1944) – أرشيل جوركي. الحداثة ومصير الفنّ الغربي كان يُعتقد في بعض الأوساط الفكرية المؤثرة أنّ الفن يتقدم نحو هدف؛ وهذا المضمون يشتمل عليه مصطلح «الطليعية» (Avant-garde)، الذي يُوصف به الفنّانون الذين يبتكرون أرضية جمالية جديدة. أصل المصطلح فرنسي يُطلق على الجنود الذين يتقدمون إلى مناطق جديدة. بالنسبة إلى غرينبيرغ، لم يكن هؤلاء الفنّانون يوسّعون حدود إمكانات الفن؛ بل كانوا يتقدمون نحو الهدف الحقيقي والمفرد لكل شكل فني. يُعدّ غرينبيرغ شخصية مهمة في تاريخ الفن التجريدي، وذلك لأمرين: بوصفه مناصرًا رائدًا في مسألة تفوق الفن التجريدي على غيره من أنواع الرسم، وتأكيده للقوة التي امتلكها هذا الفن. كان ناقدًا في اللجنة الأمريكية للحريّة الثقافية التي تمولها الدولة، وهي مجموعة تم إنشاؤها لتعزيز الفن الأمريكي على المستوى الدولي. أصبحت أفكار غرينبيرغ مؤثرة عندما كانت الولايات المتحدة جزءًا من الحرب على الفاشية والنازية، وخلال الحرب الباردة اللاحقة ضد الشيوعية السوفيتية. كانت معايير الفن الفاشي والسوفياتي واضحة، وهي ما تحددها السلطات الثقافية أنها كذلك، بيد أنّه ما لم يكن واضحًا هو معايير الفن «الجيد» وتحديدًا في الغرب الديمقراطي. كان الماركسيون هم من تعاطف مع غرينبيرغ في البداية، لكن ارتبط تفكيره بشكلٍ متزايد بالهيمنة الثقافية الأمريكية. بالنسبة إليه، كان التجريد في أعمال بولوك فنًا مثاليًا لمجتمع ديمقراطي. تتجلى الحداثة في الفن، وفقًا لغرينبيرغ، في إطار التنوير الأوروبي؛ أيّ في فترة ازدهار الأفكار الفلسفية والعلمية التي أعطت الأولوية للعقل. في مقالته المؤثرة « الرسم الحداثي» (1961)، وصفَ غرينبيرغ إيمانويل كانط – الفيلسوف الألماني في عصر التنوير – بأنّه «أول حداثي حقيقي». كان أسلوب كانط في «النقد» هو استخدام العقل لنقد العقل بغرض توضيحه، ومنحه استقلالية عن أنواع التفكير الأخرى. «أولمبيا» - إدوارد مانيه (1863). بالنسبة إلى كليمنت غرينبيرغ، كان مانيه أول رسام حداثي. لقد رسم مانيه لوحاته بأسلوبٍ مسطّح بشكلٍ متعمد.«أولمبيا» – إدوارد مانيه (1863). بالنسبة إلى كليمنت غرينبيرغ، كان مانيه أول رسام حداثي. لقد رسم مانيه لوحاته بأسلوبٍ مسطّح بشكلٍ متعمد. بالطريقة نفسها، كان الرسامون الحداثيون – من إدوارد مانيه في القرن التاسع عشر إلى موريس لويس، وهو رسام يعمل ينتمي إلى رسامي أسلوب مجال ألوان في الولايات المتحدة في الوقت الذي كتب فيه غرينبيرغ مقالته – يعملون على ترسيخ الفن التعبيري «بشكل صارم في مجال تخصصه». رأى غرينبيرغ أن وضوح الفن التجريدي -الذي كان صادقًا بالنسبة إلى الوسيط الذي يُعبّر من خلاله- معارضٌ لـ«الفن الشعبي المبتذل [الكيتش]» الذي ينُتج على نطاق واسع في الثقافة الشعبية. إن إزالة «الكيتش» كانت مسألة استجلاء وتوضيح تحتاجها جميع الفنون لكي تصبح تعبيرًا عن إمكاناتها الجمالية الكامنة. اللوحات مسطّحة، وإيهام العمق الذي نجده في معظم الفن الغربي كان انحرافًا عن جوهر فن الرسم ذاته. كانت استقلالية الشكل الفني في جميع خصائصه دون أن تتلوث بأشكال فنية أخرى. وفقًا لغرينبيرغ، يعدّ الشكل واللون من أهم خصائص الرسم، و أفضل تمثيل لها يكون بشكلٍ مسطّح. وهكذا دافع غرينبيرغ عن «التسطيح» الذي تجلّى في لوحات الفنانين الأمريكيين التجريدية مثل جاكسون بولوك باعتباره تحقيقًا لهذا الوضوح الحداثي. لقد ضم هؤلاء الفنانين معًا ضمن فريق واحد، وهم يمثّلون المرحلة التالية في الحداثة، وقد حلّت رؤيتهم الأمريكية المميزة محلّ الفن الأوروبي الطليعي. وفي الوقت الذي أصبح فيه الفن التجريدي الأمريكي مهيمنًا، تراجعت هيمنة غرينبيرغ النقدية، وظهرت أشكال جديدة من الفن الطليعي، مستوحاة مباشرة من الثقافة الجماهيرية، وحلّت محلّ التعبيرية التجريدية في المخيال العام. تبنى فنانوّ «البوب» مثل: آندي وارهول، وريتشارد هاميلتون هذا النوع من «الفن الشعبي المبتذل» الذي رآه غرينبيرغ تلويثًا للفن الحقيقي. استمرت الأعمال الفنية التجريدية، ولكن تخلّى الفنّانون التجريديون الأكثر جرأة عن الفكرة الصارمة «للنقد الحداثي»، وعن الوضوح المتعلق بخصوصية الوسيط الفني، وذلك لصالح أشكال أخرى من التعبير. نظر فنانوّ «ما بعد الحداثة» إلى السخرية وعملية الرسم نفسها، كطرق لتجاوز الطريق المسدود للحداثة. تبنى الألماني غيرهارد ريختر كلا النهجين؛ فبعض أعماله التجريدية في الستينيات كانت مصنوعة بممسحاتٍ بدلًا من الفرشاة، حتى يتمكن من لفت الانتباه إلى عملية صنع اللوحة نفسها. كانت «اللوحات التجريدية» البارزة الأخرى التي رسمها ريختر في الواقع صورًا واقعية مرسومة بعناية تعكس لوحاته التجريدية الأخرى. أصبحت طلائعية الرسم التجريدي مفهومية أكثر، ما جعل ضمنيًّا قضية الرسم تحظى باستقلالية أقل مما كان كان يعتقد النقاد الحداثيون. قلّد فنانوّ «نيو جيو»، مثل: الرسام بيتر هالي، والنحات أشلي بيكرتون اللغة البصرية للتجريد الهندسي، لكنهما دمجاها مع السلع الاستهلاكية بألوانٍ تجارية فاتحة وأحيانًا فلورية. منذ ذلك الجيل ما بعد الحداثي من الرسامين والنحاتين الممتد من الستينيات إلى التسعينيات، ازدهر التجريد متفرّعًا إلى عددٍ لا يُحصى من الأساليب والمقاربات بجوار الفن التشخيصي. هنا يمكن القول إنّ التجريد المتحرّر من عبء التوقعات الحداثية هو ببساطة نهج للتعبير مثل أيّ نهج آخر. وتجدر الإشارة إلى أنّ بعض الفنانين التجريديين استخدموا الحيل البصرية المستعملة في الفن التشخيصي – مثل المنظور والتظليل – في لوحاتهم. ولاستخدامهم هذا أهداف فريدة و غالبًا لا تهتم بالنظرية. قلّد فنانوّ «ما بعد الحداثة» مثل: بيتر هالي اللغة البصرية المستعملة في الفن التجريدي الحديث (في حالة بيتر، التجريد الهندسي)، للتعليق على طبيعة الفن والمعنى نفسه. تمثّل هذه الكتل الملونة «الخلايا» و«الأنابيب».قلّد فنانوّ «ما بعد الحداثة» مثل: بيتر هالي اللغة البصرية المستعملة في الفن التجريدي الحديث (في حالة بيتر، التجريد الهندسي)، للتعليق على طبيعة الفن والمعنى نفسه. تمثّل هذه الكتل الملونة «الخلايا» و«الأنابيب». هذا هو التحرّر نحو الأفضل بين الرسامين التجريديين الذين يمكنهم الالتزام برؤيةٍ فريدة بالرسم على القماش. لكن فكّ ارتباط الفن التجريدي عن إطاره الفلسفي الأوسع أدى أيضًا إلى انتشارٍ يثير التساؤل لأعمال تجريدية متنوعة قابلة للاستهلاك – بمعنى أنّها فقدت قيمتها، وباتت تُباع وتُشترى سريعًا بأسعارٍ مربحة – يشتريها المشترون المتضاربون. دفع هذا التحول الناقد جيري سالتز إلى كتابة: « الزومبي على الجدران: لماذا يبدو الكثير من التجريد الجديد متشابهًا؟». وقد شبه اللّوحات التجريدية بصورة «الزومبي»، تحقيرًا لأعمال عددٍ من الرسامين التجريديين البارزين، الذين استخدموا الفنّ وجماليته لتقديم أعمال مبتذلة. ومن المفارقات أن هؤلاء الفنانين نظروا إلى الشكلانية بوصفها فنًّا حداثيًّا متبنّين منظور غرينبيرغ، لكنهم بالطبع قدّموا أعمالًا في ظلّ فراغ تاريخي وبعد فترةٍ طويلة حين لم يُصبح التجريد مثيرًا للاهتمام أو راديكاليًا بأي وجه من الوجوه. في الواقع، لم يصل مشروع الحداثة  في الفن التجريدي إلى نهايته، بل النقد. إنّ النقد -أيّ الإطار الفلسفي الواسع الذي يصادق على الأعمال الفنية ويثمّنها لأهميتها الثقافية والتاريخية- هو ما فقد التوجه والسلطة. كان مسار الفن الغربي منذ عصر التنوير يتأرجح بين قطبي الدوغمائية النقدية والإبداع. تكمن المشكلة أنه في العقود الأخيرة، وفي ظلّ غياب أي مشروع نقدي متماسك، انجرف الفن نحو إرضاء اهتمامات دقيقة ومتنوعة تزداد باستمرار. في حين كانت هناك «حركات» و«مدارس» فنية -مصطلحان يشيران إلى الوجهة والانضباط- لم يعد لدينا الآن سوى «مشاهد». هذا ليس بالضرورة أمرًا سيئًا. ولكن في عالم حيث «كل شيء مقبول – anything goes»، لا يوجد مجال لهذا النوع من الابتكار والتجاوز الذي أدى إلى ظهور الفن التجريدي في الغرب، وهذا ما جعل الفن الحديث فنًّا مثيرًا للغاية. من الصعب في هذه اللحظة التاريخية أن ندرك ما الذي جعل لوحة بولوك «رقم 32» مثيرة للانقسام، ومخلخلةً جدًا للمعايير، وفي الوقت نفسه محتفظةً بقيمةٍ عالية جدًا لأولئك الذين يعتقدون أن للفنِّ مكانًا في المجتمع يتجاوز المتعة. [divider style=”solid” top=”20″ bottom=”20″] [1] واللقب كذلك يُلمح إلى القاتل المتسلسل في لندن آخر القرن التاسع عشر: جاك السفّاح Jack the ripper (مدير التحرير). ### خارج عقلك | توم تشاتفيلد – ت: محمد السعيد                  عندما يكون هاتفي النقال بين يديّ، هل أكون أنا الشخص نفسه لو كان الهاتف في غرفة أخرى؟ من ناحية،... ### الدراما في التعليم: مقاربات وتطبيقات | نعيم حيماد افتتاحيّة حظي استخدام الدراما في التعليمفي السنوات الأخيرة باهتمام كبير من قبل نخبة من المنظرين والممارسين للدراما في مجال التعليم.... ### الحقائق المخفية | دي بي سي بيير – ت: محمد السعيد       يحمل جبل كلسي خشن في غرب إيران عددًا من النقوش البارزة، من بينها لوحة طولها خمسة وعشرين مترًا منقوشة... ### التغلُّب على كاشف الكذب | كلاريسا سيباغ-مونتِنفيوري – ت: محمد السعيد          حين  اتُّهِمَتْ مربية الأطفال البريطانية لويز وودورد بهزِّ رضيع حتى الموت في مدينة نيوتن بولاية ماساتشوستس، لم تكتفِ بإعلان... ### عن منصة معنى «معنى»، مؤسسة ثقافية تقدّمية ودار نشر تهتم بالفلسفة والمعرفة والفنون، عبر مجموعة متنوعة من المواد المقروءة والمسموعة والمرئية. انطلقت في 20 مارس 2019، بهدف إثراء المحتوى العربي، ورفع ذائقة ووعي المتلقّي المحلي والدولي، عبر الإنتاج الأصيل للمنصة والترجمة ونقل المعارف. ### روابط سريعة ### التصنيفات ### مرحبا بك! قم بتسجيل الدخول إلى حسابك تذكرني ### قم بإنشاء حساب جديد! املأ النموذج أدناه للتسجيل ### طلب إعادة تعيين كلمة المرور يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان البريد الإلكتروني لإعادة تعيين كلمة المرور الخاصة بك. ### Add New Playlist - Select Visibility -PublicPrivate No Result عرض جميع النتائج - 00:00 00:00 - 00:00 00:00
article
Arabic
ar
الفنّ التجريدي: بين الماضي والحاضر - منصة معنى الثقافية
https://mana.net/abstract-art/
1,895
ألهم إدماج غوركي للأنماط جيلًا واسعًا من الفنانين الأمريكيين في فترة ما بعد الحرب لاحتضان التجريد الواسع النطاق.
sentence
ألهم إدماج غوركي للأنماط جيلًا واسعًا من الفنانين الأمريكيين في فترة ما بعد الحرب لاحتضان التجريد الواسع النطاق. ما نسميه الآن «التعبيرية التجريدية»، وكان ذاك الجيل في الواقع مجموعة فضفاضة من الفنانين الذين يستخدمون أنماطًا متعدّدة من أنماط التجريد.
paragraph
Arabic
ar
الفنّ التجريدي: بين الماضي والحاضر - منصة معنى الثقافية
https://mana.net/abstract-art/
1,896
ما نسميه الآن «التعبيرية التجريدية»، وكان ذاك الجيل في الواقع مجموعة فضفاضة من الفنانين الذين يستخدمون أنماطًا متعدّدة من أنماط التجريد.
sentence
ألهم إدماج غوركي للأنماط جيلًا واسعًا من الفنانين الأمريكيين في فترة ما بعد الحرب لاحتضان التجريد الواسع النطاق. ما نسميه الآن «التعبيرية التجريدية»، وكان ذاك الجيل في الواقع مجموعة فضفاضة من الفنانين الذين يستخدمون أنماطًا متعدّدة من أنماط التجريد.
paragraph
Arabic
ar
الفنّ التجريدي: بين الماضي والحاضر - منصة معنى الثقافية
https://mana.net/abstract-art/
1,897
ربما كان القاسم المشترك بين هؤلاء الفنانين – على الأقل في السنوات الأولى – هو دعم جيل جديد من النقاد بقيادة كليمنت غرينبيرغ، الذي كان يعتقد أن التجريد هو التعبير الأسمى للفن الغربي.
paragraph
لا توجد منتجات في سلة المشتريات. No Result عرض جميع النتائج الثلاثاء, سبتمبر 10, 2024 No Result عرض جميع النتائج No Result عرض جميع النتائج # الفنّ التجريدي: بين الماضي والحاضر ## ترجمة: أنطونيوس نادر AA AA إعادة تعيين فنٌ مليء بالتحديات ثمّة خطٌ رفيع يفصل بين الفن التجريدي ومجرد الزخرفة، ولوحة «رقم 32» (نُشرت عام 1950)، لجاكسون بولوك تتأرجح بين هذا الخطّ. فهي لا تشير إلى معنىً واضح، ولكن لا يمكن القول إنّها بلا معنى على الإطلاق. كما أنّها ليست معبّرة بشكلٍ مباشر، ولا يعني هذا أنها لا تعبّر عن مدلولٍ ما. تحمل هذه اللوحة الكثير من المضامين عن الفن الغربي بالنسبة إلى شخصٍ خبيرٍ في تاريخ الفن؛ أما بالنسبة إلى شخصٍ عادي، فقد يراها عملًا مبتذلًا بالكاد يعبّر عن أمرٍ ما. اللوحة شبكة من الخطوط وبقعٍ من الألوان، رُسمت عن طريق صبّ طلاءٍ رخيص بعشوائيةٍ مباشرة على القماش. تتكون اللوحة من طلاءٍ أسود فقط وقماشٍ خام. واللوحة ضخمة؛ إذ يبلغ طولها تسعة أقدام وعرضها خمسة عشر قدمًا، وتغطي مجال رؤية المشاهد أثناء اقترابه منها. تقليديًّا، حتى اللوحات التجريدية تتكون من أجزاءٍ مترابطة مع بؤر تركيز (emphases) وعمقٍ يُنقل من خلال اللون والظلال، ولكن «رقم 32» ليس لها أجزاء؛ إنّها تتكون من تعالقات، والبؤرة فيها تكمن عبر امتداد سطح القماش المستطيل. يمنحها ما سبق عمقًا سطحيًا، وربما لا عمق فيها: مجرّد طلاء على قماش. إنّها عبث بالشكل واللون. حتى اسمها، ببساطة رقمٌ معيّن – رقم 32 – يجعلها تنأى بنفسها عن أي فكرة مفادها أنها تعكس مدلولًا محدّدًا. تشير عناوين أعمال بولوك الأخرى إلى نوعٍ من الاختبار الشخصي، وإلى الاستخدام السمفوني المتعدد الطبقات للون والملمس؛ خذ مثلًا لوحاته التي تحمل اسم: «إيقاع الخريف»، و«الضباب الأرجواني»، و«الأقطاب الزرقاء»، و«انعكاس الدنقلة الكبير». هذا لا ينطبق على لوحة «رقم 32»؛ شكلها الخام وبساطتها دليل على أنّ الفنان لم يخطط مسبقًا لرسمها؛ أيّ أنّه لم ينتق الألوان ولا الطبقات. يبدو بولوك هنا أكثر حضورًا، من خلال لمساته الحادة. بالنسبة إلى مؤيديّ عمل بولوك، تختصر هذه اللوحة خلاصة نظرة الفنان الجمالية. أما بالنسبة للبعض الآخر، فهي لوحة مبتذلة. وصف جوزيف بويس -النحات الألماني في فترة ما بعد الحرب- الفنَّ التجريدي الأمريكي بأنه مجرد «تغليف»، أيّ سطح بلا محتوى. في هذا الصدد، قد يتفق البعض أن لوحة «رقم 32» تجسد فراغ الفكر والشعور ذاك. فقد رأى الروائي والناقد الفني روبرت كوتس أن فن بولوك لم يكن سوى «انفجارات» غير منظمة من الطاقة العشوائية. غير أنّ طائفة كبيرة من متذوقي الفن التجريدي لا تروق إليهم أعمال بولوك ويرونها فنًّا محيرًا، حتى إنّ بعضهم يراها إهانةً للذوق أو الحسّ السليم. عُرف بولوك بلقب: «جاك فنان النقط» (Jack the Dripper) [1] في الأوساط الإعلامية المشككة بعمله حيث ادعى كثر أن أيّ شخص يمكنه أن يرسم كما يرسم بولوك إلّا أنّ أحدًا لم يتجرأ على فعل ذلك. «رقم 32» - جاكسون بولوك«رقم 32» – جاكسون بولوك بيد أنّ هذا هو مغزى الفن التجريدي في التقليد الغربي: إنّه تحدّ. وفي ظل الكثير هذه التحديات، تُعد لوحة « رقم 32» اللوحة الأكثر تمثيلًا لهذا الفن. قصة الفنّ التجريدي مسار قصة الفن التجريدي مضمّنة في الدراسات التاريخية الفنية، إلّا أنّ المحطات الرئيسة لهذا المسار كانت محط تغييرات مفاجئة كلما اكتشف مؤرخوّ الفن حقائق جديدة. انطلق مسار الفن التجريدي بدءًا من القرن التاسع عشر وما تلاه؛ حيث استفاد الفنانون من مادة الطلاء والجوانب الشكلية للرسم مثل اللون والدرجة والخطوط. يُعرف هذا الانشغال بالجوانب غير التمثيلية (non-representative) للفن باسم «الشكلانية»، لأنّه انشغال «بالشكل»، أيّ بتوسل شكل المحتوى بدلًا من المحتوى في ذاته. بالنسبة إلى الفنانين في القرن التاسع عشر، صُنّف الفن التجريدي على أنّه «فنٌّ من أجل الفنّ»، وكانت الفكرة الشائعة مفادها أنّ المتذوق للفن يمكنه الاستمتاع بالعمل دون اللجوء إلى معنى أو حتى أي شيء آخر يمثل أمرًا ما. تمثّل لوحة «الموسيقى الهادئة باللّونين الأسود والذهبي – الصاروخ الساقط» (1872)، للفنان جيمس مكنيل ويسلر هذا الاتجاه الذي تبلور لاحقًا في الفن التجريدي.  إنّ مشهد ويسلر الغامض من الناحية المكانيّة يقترب إلى التجريد، وذلك بمحاولته نقل الشعور أو الانطباع الخاص بالمشهد بدلًا من إعادة إنتاجه بحذافيره. «الموسيقى الهادئة باللونين الأسود والذهبي - الصاروخ الساقط» (1872-1877) - جيمس أبوت مكنيل ويسلير«الموسيقى الهادئة باللونين الأسود والذهبي – الصاروخ الساقط» (1872-1877) – جيمس أبوت مكنيل ويسلير في عام 1877، انتقد جون روسكين – أبرز نقّاد بريطانيا في ذلك الوقت – عمل ويسلير هذا نقدًا لاذعًا فشبهه «بمن قام برمي الطلاء في وجه الجمهور». تأثر ويسلر بهذا الكلام، فرفع دعوى قضائية ضد روسكين، بيد أنّه خسرها لأن المسؤولين عرضوا اللوحة -خطأً- مقلوبةً على المحكمة. أفلس ويسلير بسبب هذه القضية، لكن مسيرة تطور الفن التجريدي استمرت. من ناحيةٍ أخرى، تحديد أول فنان تجريدي في العالم موضوع نزاع. في نظر أبحاث تاريخ الفن التقليدية، كان فاسيلي كاندينسكي – فنان روسي الجنسية رسم لوحات تجريدية بالكامل في مطلع عام 1911- هو أول فنان تجريدي. لم ينل الفن التجريدي الرائد لهيلما أف كلينت تقديرًا إلا قبل سنوات قريبة. هذه صورة للمعرض الشهير في  متحف غاغينهايم، عام 2018 .لم ينل الفن التجريدي الرائد لهيلما أف كلينت تقديرًا إلا قبل سنوات قريبة. هذه صورة للمعرض الشهير في  متحف غاغينهايم، عام 2018 . ولكن في الآونة الأخيرة، وبفضل المعرض الرائد في متحف مقاطعة لوس أنجلوس للفنون في عام 1986 الذي حمل اسم «الروحانية في الفن: الرسم التجريدي 1890 – 1985»، وقع الاختيار على هيلما أف كلينت كأول رسامة تجريدية. بدأت كلينت في رسم لوحات تجريدية بدءًا من عام 1906، وحملت مجموعتها عنوان «الفوضى البدائية». كانت الفنانة متكتمة في ما يتعلق بأعمالها التجريدية، ولم تُعرض أيّ منها في معارض عامة، وبقيت غير معروفة حتى أزيح عنها الستار مؤخرًا. ولعل الجدال حول هوية أول من مارس الفن التجريدي سيستم، لكن الحقيقة الأكثر أهمية هي أن العديد من الفنانين الأوروبيين البارزين قد توصّلوا في أعمالهم إلى التجريد بحلول الحرب العالمية الأولى. لقد وجد كل منهم طريقته الخاصة في التخلي عن الفن التشخيصي (figurative painting). وجديرٌ بالذكر أنّه لم تكن هناك حركة «تجريدية» دولية ذات رؤية أو بيان مشترك. في ضوء ذلك، فإن السؤال الملحّ حقًا هو: لمَ لمْ يتبنى الفنانون الغربيون الفن التجريدي على امتداد قرون عديدة؟ لماذا كان التجريد غير ضروري أو لا معنى له أو غير مناسب أو حتى لا يمكن تقبّله لقرونٍ متوالية في الفن الغربي؟ ظهرت العديد من التفسيرات لشرح ذلك. إحدى النظريات الأكثر وضوحًا هي أن ظهور التصوير الفوتوغرافي بوصفه شكلًا من أشكال الفن، إضافةً إلى تطور الفن الحديث، سببان رئيسان لإزاحة الرسم التشخيصي. ثمّة إجابات أخرى غير ملموسة لاستكشاف الأسباب: ربما عندما أصبحت الأعمال الفنية قابلة للاستهالاك بشكل متزايد، مثل السلع، بات من السهولة فصل اللوحات والمنحوتات عن التجارب المحددة لمبدعيها. ربما أدت الحداثة في الغرب إلى إفراغ الفن من المحتوى التشخيصي؛ مما دفع الفنانين أيضًا إلى التخلي عن التمثيل التشخيصي. كل من هذه الإجابات معقدة وتتطلب الكثير من الشرح، ولا يمكن إلا أن تكون تخمينات. لا توجد إجابة واضحة لهذه المسألة. ربما يكون من الأفضل طرح السؤال حول سبب تقبّل الفن التجريدي فنًّا من الفنون الرسمية في تاريخ الفن الغربي في مرحلة معينة على علماء الأنثروبولوجيا بدلًا من طرحها على مؤرخي الفن. فما هو واضح أن الفن التجريدي كان موجودًا دائمًا في مناطق أخرى من العالم. ما جعل الفن التجريدي فنًّا حديثًا على وجه التحديد في العالم الغربي هو نظام المعارض، الذي أعطى القيمة الفنية للأعمال المعروضة. وكما هو واضح فقد ازدهر التجريد لآلاف السنين المناطق الشرقية والجنوبية من العالم، دون عناء التحقق من مكانة الأعمال المعروضة في الصالونات [والمعارض، كما هو في العالم الغربي]. الواقع الافتراضي و«الافتراضية» يتبنى بيبي كرمل وهو مؤرخ فني، في كتابه « الفن التجريدي: تاريخ عالمي»، فكرة أنّ الفن التجريدي كان دائمًا موجودًا بشكل طبيعي عندما ننظر إليه نظرة شاملة وعالمية، بيد أنّه يتحاشى طرح نظرية عن تطور الفن التجريدي. بالنسبة إلى كرمل، فإنّ هذا الفنّ متجذر في العالم الحقيقي، وهو ليس فنًّا «مجردًا» على الإطلاق، كما أنّه تقليد عالمي وليس محليًا. في دراسته حول الفن التجريدي يقسم العمل الفني إلى خمس فئات واسعة تنتمي إلى العالم الحقيقي: الأجسام، والمناظر الطبيعية، والكون، والبنى، والعلامات والأنماط. من خلال فحص الفن التجريدي بهذه الطريقة، يرى كرمل في اللوحات التجريدية موضوعات قابلة للتحليل، بعكس النقاد والمؤرخين الأرثوذكسيين الذين رأوا فيها مجرّد توليفات شكلية مكوّنة من لون وشكل. ربما يكون من الأفضل أن يطلق على الفن التجريدي: فن ما تم تجريده (abstracted art)؛ لأنّ الفنانين التجريديين عادةً ما يستخلصون ويجرّدون تعبيرات التجارب في شكل ولون،  أكثر من كونها توليفات مكونة من شكل ولون. ومرّد ذلك الطبيعة الجوهرية للرسم والنحت؛ فهما (الشكل اللّون) وسيطان للتعبير، مثل الشاشة أو المسرح لخيال الفنان. كما هو الحال في المسرح أو السينما، فإنّ جمهور اللوحة أو المنحوتة يعلّق معتقداته من أجل أن يتقبل المشهد. من المفيد التفكير في اللوحة التشخيصية التقليدية أو النحت على أنها حقيقة افتراضية. إذْ استخدم الفنانون لقرون عديدة الحيل البصرية -مثل المنظور الخطي، والتقصير المسبق، والتظليل- لمحاكاة الطريقة التي ندرك بها الأشياء في الفضاء الحقيقي. إنّ المشاهد تُنشأ في فضاء افتراضي – سواء كانت القاعدة التي تدعم التمثال أو القماش – ليراها المشاهدون بوصفها خدعة بصرية. «القديس بطرس شفاء أحد الأشخاص وبعث تابيثا من الموت» ماسولينو دي بانيكال. اعتمد الرسم الغربي قبل القرن العشرين على الحيل البصرية لخلق واقع افتراضي. إحدى هذه الحيل هي المنظور الخطي، وهذه اللوحة هي أول مثال لاستخدام نقطة تلاشٍ متسقة.«القديس بطرس شفاء أحد الأشخاص وبعث تابيثا من الموت» ماسولينو دي بانيكال. اعتمد الرسم الغربي قبل القرن العشرين على الحيل البصرية لخلق واقع افتراضي. إحدى هذه الحيل هي المنظور الخطي، وهذه اللوحة هي أول مثال لاستخدام نقطة تلاشٍ متسقة. يستمتع مشاهدوّ الأعمال الفنية العظيمة معنى ما يُرسم، ويقدرون الطريقة التي يتجلّى فيها الوهم عبر تمازج اللون والشكل. يبقى الفن التجريدي، إلى حدٍ ما، ضمن إطار التجربة الجمالية. فقد سعت حركات الفن الحديث التي أدت إلى التجريد -أيّ «مدارس الفن»، مثل الانطباعية والفاوفية والتكعيبية- إلى تمثيل العالم بشكل مختلف عن كل الفنون التي سبقتها. إذْ ادعوا الاقتراب من الحقيقة الذاتية عبر تهميش جميع الحيل الوهمية التقليدية التي حاولت إعادة إنتاج الواقع بحذافيره كحقيقة موضوعية. «الأحمر والأصفر والأزرق» (1925) واسيلي كاندينسكي.  كان كاندينسكي يعدّ لفترةٍ طويلة أب الرسم التجريدي الغربي.«الأحمر والأصفر والأزرق» (1925) واسيلي كاندينسكي.  كان كاندينسكي يعدّ لفترةٍ طويلة أب الرسم التجريدي الغربي. بالنسبة إلى هذه المدارس، أصبح الفن أقل من أن يوصف بأنّه واقع افتراضي، لكنه مع ذلك احتفظ بالافتراضية، وأصبح افتراضيًا. لقد أخذ الفن التجريدي مسار التطور هذا إلى أقصاه: من الواقع الافتراضي إلى الافتراضية. ماذا تعني «الافتراضية» هنا؟ إنّها الوجود كجوهر وتأثير، ولكن بدون اللجوء إلى الواقع. اللوحة التجريدية التي رسمها كاندينسكي، على سبيل المثال، ما زالت تُعدّ علاقة متبادلة بين الشكل واللون، و تعتمد على الرسم كمستوى تخطيطي: إنها نافذة تطلّ على «الواقع» الفردي الذي تصوّره كاندينسكي. وما تزال العناصر في لوحات كاندينسكي تحظى بعلاقة متبادلة، كما هو الحال في فضاء الواقع الافتراضي للوحة التشخيصية؛ فجوهر الرسم سليم إذ إنّ ذلك الفضاء الافتراضي ما زال موجودًا. عندما يكون الفن التجريدي بناءً خالصًا، ويتخلص من المساحة الافتراضية الملازمة للرسم والنحت، يصبح متميزًا عنهما. وصف دونالد جود الفنان التخفيفي (minimalist) مثل هذه الأعمال الفنية بأنها «أجسام محدّدة» (Specific Objects). إنّه مصطلح غير دقيق، ولكنه يصلح لإظهار أن مثل هذه الأعمال الفنية ليست رسمًا ولا نحتًا، ولكنها فئة أخرى تمامًا. رأى دونالد جود أن أعماله وأعمال العديد من معاصريه تشغل مساحة هجينة، لا هي لوحات ولا هي نحت. عمل دون عنوان لدونالد جود. استخدم جود هذا المصطلح لوصف أعماله الخاصة، ولكنه ينطبق على لوحات كازيمير ماليفيتش وفرانك ستيلا أحادية اللون، والتي تجعل اللوحة تندمج مع نفسها بالكامل، من أجل الوصول للتأثير الذي يأمل العمل في تحقيقه. في مثل هذه الأعمال، لم يعد قماش اللّوحة (أو القاعدة) سطحًا تتفاعل فيه الأشكال والألوان في الفضاء الافتراضي. بدلاً من ذلك، تتفاعل الأشكال والألوان في الفضاء الحقيقي، في فضائنا. تختلف معايير النجاح أو الفشل لهذه الأعمال عن الخصائص التقليدية للرسم والنحت. رأى جود أنّ خصائص الرسم والنحت تقف في طريق ما أراد تحقيقه من خلال اللون والشكل. في رأيه، كان لـ «أجسامه المحددة» تأثيرًا أحدّ من غيرها. الواقع والأشكال الجديدة للإدراك الحسّي الرسم نفسه له ثلاثة أنواع عامة من التجريد؛ أولًا، ثمّة أسلوب تعبيري تُرسم فيه الأشكال بحركاتٍ غير مقيدة؛ ثم هناك التجريد الهندسي حيث يتم هيكلة الأشكال؛ أما النوع الثالث، فهو تجريد مجال اللون حيث يتم عرض مساحات من الألوان بطريقةٍ لا شكل واضح لها. لم تكن هذه «الأنماط» (styles) أنماطًا عرضيةً أو تعتمد على ذوق أو ميل الرسام كوسيلة لتحقيق هدفٍ ما من البحث الفني. وخير مثال على ذلك هو الفنان الذي غالبًا ما ينظر إلى عمله على أنّه ذروة التجريد الهندسي: بيت موندريان. إنّ لوحات بيت موندريان المكونة من شبكات (grids) ذات الخطوط السوداء والأجزاء الملونة على خلفية بيضاء؛ تهدف إلى استحضار «حقيقة أعلى». بالنسبة إلى موندريان، كان الفن في جوهره معارضًا للواقع؛ «لأن الواقع يتعارض مع الروحي». بغض النظر عن هذه اللوحة الأشهر لموندريان، فإنّ جوانب الرسم التي تهم هذا الفنان حقًا لم تكن الجوانب المحددة للموضوع -أيّ ماذا أو ما يتم تصويره في اللوحة مثلًا- بل الجوانب القابلة للفهم عالميًا للشكل والخط واللون. إنّ لوحات موندريان، مثلها مثل لوحات الفنانين الآخرين، هي محاولة لاستخلاص الشكل واللون من أجل الاقتراب من ذلك الجوهر العالمي والروحي للفن. عبّر موندريان عن رغبته في الوصول إلى «أساس» الأشياء من خلال الحدس، كالعديد من الفنانين التجريديين الآخرين في النصف الأول من القرن العشرين الذين رغبوا في الوصول إلى قوى غير مرئية حولنا، ولكنها معروفة أو محدوسة. «التكوين الثاني باللون الأحمر والأزرق والأصفر» (1930) - بيت موندريان«التكوين الثاني باللون الأحمر والأزرق والأصفر» (1930) – بيت موندريان في أواخر القرن التاسع عشر، لاحظ العلماء بشكلٍ أفضل مما سبق القوى غير المرئية مع انتشار التقنيات الجديدة، وأصبح من الواضح أن العالم أرحب مما يبدو للعين. في الوقت نفسه، ظهرت حركات روحية بديلة جمعت بين الأفكار الأفلاطونية والتصوف. كان كلينت وموندريان من بين العديد من الفنانين الذين انغمسوا في أشكال الروحانية خارج العوالم التقليدية للدين. اعتقدت كلينت أن لوحاتها هي وحي عالم روحي، وأن مهمتها كانت العمل «على مستوى روحاني» لتمثيل روح الإنسان، بدلًا من صورته الفانية. بحلول عشرينيات القرن الماضي، كانت نظرية فرويد عن للعقل البشري قد تغلغلت أيضًا في عالم الفن.  كذلك السريالية، وهي حركة منظمة بإحكام بدأت مع بعض الفنانين الذين سعوا إلى التنقيب عن الإمكانات الإبداعية للعقل الباطن، وهي الحركة الثقافية التي كانت سائدة في أوروبا بين الحربين العالميتين. لم تكن السريالية دوغمائية في محاولتها لاستكشاف اللاوعي، ولذلك ظهر عدد من الأساليب والطرق لمحاولة إخراج اللاوعي إلى السطح. إحدى هذه الأساليب كان الرسم الآلي (Automatism)، وهي عملية يتخلى فيها الفنان عن السيطرة الواعية لليد التي ترسم  أو تصور. في هذا المجال، تبنى الفنانون مثل أندريه ماسون وخوان ميرو الفرصة لبناء صورهم باستخدام حركات حرّة، وحتى إلقاء الطلاء على القماش. طور أرشيل غوركي -هو مهاجر أرمني عاش في الولايات المتحدة- أسلوبًا في الرسم يدمج بين الرسم الآلي وتجريد مجال الألوان. لوحاته في الأربعينيات حجمُها ضخم – ومرد ذلك تأثره بأعماله السابقة كفنان جداري مُعيّن من الدولة خلال السنوات الأخيرة من الكساد الكبير – لكنها معبّرة وغنائية في الرسم بالفرشاة. ألهم إدماج غوركي للأنماط جيلًا واسعًا من الفنانين الأمريكيين في فترة ما بعد الحرب لاحتضان التجريد الواسع النطاق. ما نسميه الآن «التعبيرية التجريدية»، وكان ذاك الجيل في الواقع مجموعة فضفاضة من الفنانين الذين يستخدمون أنماطًا متعدّدة من أنماط التجريد. ربما كان القاسم المشترك بين هؤلاء الفنانين – على الأقل في السنوات الأولى – هو دعم جيل جديد من النقاد بقيادة كليمنت غرينبيرغ، الذي كان يعتقد أن التجريد هو التعبير الأسمى للفن الغربي. «الكبد هو مشط الديك» (1944) - أرشيل جوركي.«الكبد هو مشط الديك» (1944) – أرشيل جوركي. الحداثة ومصير الفنّ الغربي كان يُعتقد في بعض الأوساط الفكرية المؤثرة أنّ الفن يتقدم نحو هدف؛ وهذا المضمون يشتمل عليه مصطلح «الطليعية» (Avant-garde)، الذي يُوصف به الفنّانون الذين يبتكرون أرضية جمالية جديدة. أصل المصطلح فرنسي يُطلق على الجنود الذين يتقدمون إلى مناطق جديدة. بالنسبة إلى غرينبيرغ، لم يكن هؤلاء الفنّانون يوسّعون حدود إمكانات الفن؛ بل كانوا يتقدمون نحو الهدف الحقيقي والمفرد لكل شكل فني. يُعدّ غرينبيرغ شخصية مهمة في تاريخ الفن التجريدي، وذلك لأمرين: بوصفه مناصرًا رائدًا في مسألة تفوق الفن التجريدي على غيره من أنواع الرسم، وتأكيده للقوة التي امتلكها هذا الفن. كان ناقدًا في اللجنة الأمريكية للحريّة الثقافية التي تمولها الدولة، وهي مجموعة تم إنشاؤها لتعزيز الفن الأمريكي على المستوى الدولي. أصبحت أفكار غرينبيرغ مؤثرة عندما كانت الولايات المتحدة جزءًا من الحرب على الفاشية والنازية، وخلال الحرب الباردة اللاحقة ضد الشيوعية السوفيتية. كانت معايير الفن الفاشي والسوفياتي واضحة، وهي ما تحددها السلطات الثقافية أنها كذلك، بيد أنّه ما لم يكن واضحًا هو معايير الفن «الجيد» وتحديدًا في الغرب الديمقراطي. كان الماركسيون هم من تعاطف مع غرينبيرغ في البداية، لكن ارتبط تفكيره بشكلٍ متزايد بالهيمنة الثقافية الأمريكية. بالنسبة إليه، كان التجريد في أعمال بولوك فنًا مثاليًا لمجتمع ديمقراطي. تتجلى الحداثة في الفن، وفقًا لغرينبيرغ، في إطار التنوير الأوروبي؛ أيّ في فترة ازدهار الأفكار الفلسفية والعلمية التي أعطت الأولوية للعقل. في مقالته المؤثرة « الرسم الحداثي» (1961)، وصفَ غرينبيرغ إيمانويل كانط – الفيلسوف الألماني في عصر التنوير – بأنّه «أول حداثي حقيقي». كان أسلوب كانط في «النقد» هو استخدام العقل لنقد العقل بغرض توضيحه، ومنحه استقلالية عن أنواع التفكير الأخرى. «أولمبيا» - إدوارد مانيه (1863). بالنسبة إلى كليمنت غرينبيرغ، كان مانيه أول رسام حداثي. لقد رسم مانيه لوحاته بأسلوبٍ مسطّح بشكلٍ متعمد.«أولمبيا» – إدوارد مانيه (1863). بالنسبة إلى كليمنت غرينبيرغ، كان مانيه أول رسام حداثي. لقد رسم مانيه لوحاته بأسلوبٍ مسطّح بشكلٍ متعمد. بالطريقة نفسها، كان الرسامون الحداثيون – من إدوارد مانيه في القرن التاسع عشر إلى موريس لويس، وهو رسام يعمل ينتمي إلى رسامي أسلوب مجال ألوان في الولايات المتحدة في الوقت الذي كتب فيه غرينبيرغ مقالته – يعملون على ترسيخ الفن التعبيري «بشكل صارم في مجال تخصصه». رأى غرينبيرغ أن وضوح الفن التجريدي -الذي كان صادقًا بالنسبة إلى الوسيط الذي يُعبّر من خلاله- معارضٌ لـ«الفن الشعبي المبتذل [الكيتش]» الذي ينُتج على نطاق واسع في الثقافة الشعبية. إن إزالة «الكيتش» كانت مسألة استجلاء وتوضيح تحتاجها جميع الفنون لكي تصبح تعبيرًا عن إمكاناتها الجمالية الكامنة. اللوحات مسطّحة، وإيهام العمق الذي نجده في معظم الفن الغربي كان انحرافًا عن جوهر فن الرسم ذاته. كانت استقلالية الشكل الفني في جميع خصائصه دون أن تتلوث بأشكال فنية أخرى. وفقًا لغرينبيرغ، يعدّ الشكل واللون من أهم خصائص الرسم، و أفضل تمثيل لها يكون بشكلٍ مسطّح. وهكذا دافع غرينبيرغ عن «التسطيح» الذي تجلّى في لوحات الفنانين الأمريكيين التجريدية مثل جاكسون بولوك باعتباره تحقيقًا لهذا الوضوح الحداثي. لقد ضم هؤلاء الفنانين معًا ضمن فريق واحد، وهم يمثّلون المرحلة التالية في الحداثة، وقد حلّت رؤيتهم الأمريكية المميزة محلّ الفن الأوروبي الطليعي. وفي الوقت الذي أصبح فيه الفن التجريدي الأمريكي مهيمنًا، تراجعت هيمنة غرينبيرغ النقدية، وظهرت أشكال جديدة من الفن الطليعي، مستوحاة مباشرة من الثقافة الجماهيرية، وحلّت محلّ التعبيرية التجريدية في المخيال العام. تبنى فنانوّ «البوب» مثل: آندي وارهول، وريتشارد هاميلتون هذا النوع من «الفن الشعبي المبتذل» الذي رآه غرينبيرغ تلويثًا للفن الحقيقي. استمرت الأعمال الفنية التجريدية، ولكن تخلّى الفنّانون التجريديون الأكثر جرأة عن الفكرة الصارمة «للنقد الحداثي»، وعن الوضوح المتعلق بخصوصية الوسيط الفني، وذلك لصالح أشكال أخرى من التعبير. نظر فنانوّ «ما بعد الحداثة» إلى السخرية وعملية الرسم نفسها، كطرق لتجاوز الطريق المسدود للحداثة. تبنى الألماني غيرهارد ريختر كلا النهجين؛ فبعض أعماله التجريدية في الستينيات كانت مصنوعة بممسحاتٍ بدلًا من الفرشاة، حتى يتمكن من لفت الانتباه إلى عملية صنع اللوحة نفسها. كانت «اللوحات التجريدية» البارزة الأخرى التي رسمها ريختر في الواقع صورًا واقعية مرسومة بعناية تعكس لوحاته التجريدية الأخرى. أصبحت طلائعية الرسم التجريدي مفهومية أكثر، ما جعل ضمنيًّا قضية الرسم تحظى باستقلالية أقل مما كان كان يعتقد النقاد الحداثيون. قلّد فنانوّ «نيو جيو»، مثل: الرسام بيتر هالي، والنحات أشلي بيكرتون اللغة البصرية للتجريد الهندسي، لكنهما دمجاها مع السلع الاستهلاكية بألوانٍ تجارية فاتحة وأحيانًا فلورية. منذ ذلك الجيل ما بعد الحداثي من الرسامين والنحاتين الممتد من الستينيات إلى التسعينيات، ازدهر التجريد متفرّعًا إلى عددٍ لا يُحصى من الأساليب والمقاربات بجوار الفن التشخيصي. هنا يمكن القول إنّ التجريد المتحرّر من عبء التوقعات الحداثية هو ببساطة نهج للتعبير مثل أيّ نهج آخر. وتجدر الإشارة إلى أنّ بعض الفنانين التجريديين استخدموا الحيل البصرية المستعملة في الفن التشخيصي – مثل المنظور والتظليل – في لوحاتهم. ولاستخدامهم هذا أهداف فريدة و غالبًا لا تهتم بالنظرية. قلّد فنانوّ «ما بعد الحداثة» مثل: بيتر هالي اللغة البصرية المستعملة في الفن التجريدي الحديث (في حالة بيتر، التجريد الهندسي)، للتعليق على طبيعة الفن والمعنى نفسه. تمثّل هذه الكتل الملونة «الخلايا» و«الأنابيب».قلّد فنانوّ «ما بعد الحداثة» مثل: بيتر هالي اللغة البصرية المستعملة في الفن التجريدي الحديث (في حالة بيتر، التجريد الهندسي)، للتعليق على طبيعة الفن والمعنى نفسه. تمثّل هذه الكتل الملونة «الخلايا» و«الأنابيب». هذا هو التحرّر نحو الأفضل بين الرسامين التجريديين الذين يمكنهم الالتزام برؤيةٍ فريدة بالرسم على القماش. لكن فكّ ارتباط الفن التجريدي عن إطاره الفلسفي الأوسع أدى أيضًا إلى انتشارٍ يثير التساؤل لأعمال تجريدية متنوعة قابلة للاستهلاك – بمعنى أنّها فقدت قيمتها، وباتت تُباع وتُشترى سريعًا بأسعارٍ مربحة – يشتريها المشترون المتضاربون. دفع هذا التحول الناقد جيري سالتز إلى كتابة: « الزومبي على الجدران: لماذا يبدو الكثير من التجريد الجديد متشابهًا؟». وقد شبه اللّوحات التجريدية بصورة «الزومبي»، تحقيرًا لأعمال عددٍ من الرسامين التجريديين البارزين، الذين استخدموا الفنّ وجماليته لتقديم أعمال مبتذلة. ومن المفارقات أن هؤلاء الفنانين نظروا إلى الشكلانية بوصفها فنًّا حداثيًّا متبنّين منظور غرينبيرغ، لكنهم بالطبع قدّموا أعمالًا في ظلّ فراغ تاريخي وبعد فترةٍ طويلة حين لم يُصبح التجريد مثيرًا للاهتمام أو راديكاليًا بأي وجه من الوجوه. في الواقع، لم يصل مشروع الحداثة  في الفن التجريدي إلى نهايته، بل النقد. إنّ النقد -أيّ الإطار الفلسفي الواسع الذي يصادق على الأعمال الفنية ويثمّنها لأهميتها الثقافية والتاريخية- هو ما فقد التوجه والسلطة. كان مسار الفن الغربي منذ عصر التنوير يتأرجح بين قطبي الدوغمائية النقدية والإبداع. تكمن المشكلة أنه في العقود الأخيرة، وفي ظلّ غياب أي مشروع نقدي متماسك، انجرف الفن نحو إرضاء اهتمامات دقيقة ومتنوعة تزداد باستمرار. في حين كانت هناك «حركات» و«مدارس» فنية -مصطلحان يشيران إلى الوجهة والانضباط- لم يعد لدينا الآن سوى «مشاهد». هذا ليس بالضرورة أمرًا سيئًا. ولكن في عالم حيث «كل شيء مقبول – anything goes»، لا يوجد مجال لهذا النوع من الابتكار والتجاوز الذي أدى إلى ظهور الفن التجريدي في الغرب، وهذا ما جعل الفن الحديث فنًّا مثيرًا للغاية. من الصعب في هذه اللحظة التاريخية أن ندرك ما الذي جعل لوحة بولوك «رقم 32» مثيرة للانقسام، ومخلخلةً جدًا للمعايير، وفي الوقت نفسه محتفظةً بقيمةٍ عالية جدًا لأولئك الذين يعتقدون أن للفنِّ مكانًا في المجتمع يتجاوز المتعة. [divider style=”solid” top=”20″ bottom=”20″] [1] واللقب كذلك يُلمح إلى القاتل المتسلسل في لندن آخر القرن التاسع عشر: جاك السفّاح Jack the ripper (مدير التحرير). ### خارج عقلك | توم تشاتفيلد – ت: محمد السعيد                  عندما يكون هاتفي النقال بين يديّ، هل أكون أنا الشخص نفسه لو كان الهاتف في غرفة أخرى؟ من ناحية،... ### الدراما في التعليم: مقاربات وتطبيقات | نعيم حيماد افتتاحيّة حظي استخدام الدراما في التعليمفي السنوات الأخيرة باهتمام كبير من قبل نخبة من المنظرين والممارسين للدراما في مجال التعليم.... ### الحقائق المخفية | دي بي سي بيير – ت: محمد السعيد       يحمل جبل كلسي خشن في غرب إيران عددًا من النقوش البارزة، من بينها لوحة طولها خمسة وعشرين مترًا منقوشة... ### التغلُّب على كاشف الكذب | كلاريسا سيباغ-مونتِنفيوري – ت: محمد السعيد          حين  اتُّهِمَتْ مربية الأطفال البريطانية لويز وودورد بهزِّ رضيع حتى الموت في مدينة نيوتن بولاية ماساتشوستس، لم تكتفِ بإعلان... ### عن منصة معنى «معنى»، مؤسسة ثقافية تقدّمية ودار نشر تهتم بالفلسفة والمعرفة والفنون، عبر مجموعة متنوعة من المواد المقروءة والمسموعة والمرئية. انطلقت في 20 مارس 2019، بهدف إثراء المحتوى العربي، ورفع ذائقة ووعي المتلقّي المحلي والدولي، عبر الإنتاج الأصيل للمنصة والترجمة ونقل المعارف. ### روابط سريعة ### التصنيفات ### مرحبا بك! قم بتسجيل الدخول إلى حسابك تذكرني ### قم بإنشاء حساب جديد! املأ النموذج أدناه للتسجيل ### طلب إعادة تعيين كلمة المرور يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان البريد الإلكتروني لإعادة تعيين كلمة المرور الخاصة بك. ### Add New Playlist - Select Visibility -PublicPrivate No Result عرض جميع النتائج - 00:00 00:00 - 00:00 00:00
article
Arabic
ar
الفنّ التجريدي: بين الماضي والحاضر - منصة معنى الثقافية
https://mana.net/abstract-art/
1,898
كان يُعتقد في بعض الأوساط الفكرية المؤثرة أنّ الفن يتقدم نحو هدف؛ وهذا المضمون يشتمل عليه مصطلح «الطليعية» (Avant-garde)، الذي يُوصف به الفنّانون الذين يبتكرون أرضية جمالية جديدة. أصل المصطلح فرنسي يُطلق على الجنود الذين يتقدمون إلى مناطق جديدة.
paragraph
لا توجد منتجات في سلة المشتريات. No Result عرض جميع النتائج الثلاثاء, سبتمبر 10, 2024 No Result عرض جميع النتائج No Result عرض جميع النتائج # الفنّ التجريدي: بين الماضي والحاضر ## ترجمة: أنطونيوس نادر AA AA إعادة تعيين فنٌ مليء بالتحديات ثمّة خطٌ رفيع يفصل بين الفن التجريدي ومجرد الزخرفة، ولوحة «رقم 32» (نُشرت عام 1950)، لجاكسون بولوك تتأرجح بين هذا الخطّ. فهي لا تشير إلى معنىً واضح، ولكن لا يمكن القول إنّها بلا معنى على الإطلاق. كما أنّها ليست معبّرة بشكلٍ مباشر، ولا يعني هذا أنها لا تعبّر عن مدلولٍ ما. تحمل هذه اللوحة الكثير من المضامين عن الفن الغربي بالنسبة إلى شخصٍ خبيرٍ في تاريخ الفن؛ أما بالنسبة إلى شخصٍ عادي، فقد يراها عملًا مبتذلًا بالكاد يعبّر عن أمرٍ ما. اللوحة شبكة من الخطوط وبقعٍ من الألوان، رُسمت عن طريق صبّ طلاءٍ رخيص بعشوائيةٍ مباشرة على القماش. تتكون اللوحة من طلاءٍ أسود فقط وقماشٍ خام. واللوحة ضخمة؛ إذ يبلغ طولها تسعة أقدام وعرضها خمسة عشر قدمًا، وتغطي مجال رؤية المشاهد أثناء اقترابه منها. تقليديًّا، حتى اللوحات التجريدية تتكون من أجزاءٍ مترابطة مع بؤر تركيز (emphases) وعمقٍ يُنقل من خلال اللون والظلال، ولكن «رقم 32» ليس لها أجزاء؛ إنّها تتكون من تعالقات، والبؤرة فيها تكمن عبر امتداد سطح القماش المستطيل. يمنحها ما سبق عمقًا سطحيًا، وربما لا عمق فيها: مجرّد طلاء على قماش. إنّها عبث بالشكل واللون. حتى اسمها، ببساطة رقمٌ معيّن – رقم 32 – يجعلها تنأى بنفسها عن أي فكرة مفادها أنها تعكس مدلولًا محدّدًا. تشير عناوين أعمال بولوك الأخرى إلى نوعٍ من الاختبار الشخصي، وإلى الاستخدام السمفوني المتعدد الطبقات للون والملمس؛ خذ مثلًا لوحاته التي تحمل اسم: «إيقاع الخريف»، و«الضباب الأرجواني»، و«الأقطاب الزرقاء»، و«انعكاس الدنقلة الكبير». هذا لا ينطبق على لوحة «رقم 32»؛ شكلها الخام وبساطتها دليل على أنّ الفنان لم يخطط مسبقًا لرسمها؛ أيّ أنّه لم ينتق الألوان ولا الطبقات. يبدو بولوك هنا أكثر حضورًا، من خلال لمساته الحادة. بالنسبة إلى مؤيديّ عمل بولوك، تختصر هذه اللوحة خلاصة نظرة الفنان الجمالية. أما بالنسبة للبعض الآخر، فهي لوحة مبتذلة. وصف جوزيف بويس -النحات الألماني في فترة ما بعد الحرب- الفنَّ التجريدي الأمريكي بأنه مجرد «تغليف»، أيّ سطح بلا محتوى. في هذا الصدد، قد يتفق البعض أن لوحة «رقم 32» تجسد فراغ الفكر والشعور ذاك. فقد رأى الروائي والناقد الفني روبرت كوتس أن فن بولوك لم يكن سوى «انفجارات» غير منظمة من الطاقة العشوائية. غير أنّ طائفة كبيرة من متذوقي الفن التجريدي لا تروق إليهم أعمال بولوك ويرونها فنًّا محيرًا، حتى إنّ بعضهم يراها إهانةً للذوق أو الحسّ السليم. عُرف بولوك بلقب: «جاك فنان النقط» (Jack the Dripper) [1] في الأوساط الإعلامية المشككة بعمله حيث ادعى كثر أن أيّ شخص يمكنه أن يرسم كما يرسم بولوك إلّا أنّ أحدًا لم يتجرأ على فعل ذلك. «رقم 32» - جاكسون بولوك«رقم 32» – جاكسون بولوك بيد أنّ هذا هو مغزى الفن التجريدي في التقليد الغربي: إنّه تحدّ. وفي ظل الكثير هذه التحديات، تُعد لوحة « رقم 32» اللوحة الأكثر تمثيلًا لهذا الفن. قصة الفنّ التجريدي مسار قصة الفن التجريدي مضمّنة في الدراسات التاريخية الفنية، إلّا أنّ المحطات الرئيسة لهذا المسار كانت محط تغييرات مفاجئة كلما اكتشف مؤرخوّ الفن حقائق جديدة. انطلق مسار الفن التجريدي بدءًا من القرن التاسع عشر وما تلاه؛ حيث استفاد الفنانون من مادة الطلاء والجوانب الشكلية للرسم مثل اللون والدرجة والخطوط. يُعرف هذا الانشغال بالجوانب غير التمثيلية (non-representative) للفن باسم «الشكلانية»، لأنّه انشغال «بالشكل»، أيّ بتوسل شكل المحتوى بدلًا من المحتوى في ذاته. بالنسبة إلى الفنانين في القرن التاسع عشر، صُنّف الفن التجريدي على أنّه «فنٌّ من أجل الفنّ»، وكانت الفكرة الشائعة مفادها أنّ المتذوق للفن يمكنه الاستمتاع بالعمل دون اللجوء إلى معنى أو حتى أي شيء آخر يمثل أمرًا ما. تمثّل لوحة «الموسيقى الهادئة باللّونين الأسود والذهبي – الصاروخ الساقط» (1872)، للفنان جيمس مكنيل ويسلر هذا الاتجاه الذي تبلور لاحقًا في الفن التجريدي.  إنّ مشهد ويسلر الغامض من الناحية المكانيّة يقترب إلى التجريد، وذلك بمحاولته نقل الشعور أو الانطباع الخاص بالمشهد بدلًا من إعادة إنتاجه بحذافيره. «الموسيقى الهادئة باللونين الأسود والذهبي - الصاروخ الساقط» (1872-1877) - جيمس أبوت مكنيل ويسلير«الموسيقى الهادئة باللونين الأسود والذهبي – الصاروخ الساقط» (1872-1877) – جيمس أبوت مكنيل ويسلير في عام 1877، انتقد جون روسكين – أبرز نقّاد بريطانيا في ذلك الوقت – عمل ويسلير هذا نقدًا لاذعًا فشبهه «بمن قام برمي الطلاء في وجه الجمهور». تأثر ويسلر بهذا الكلام، فرفع دعوى قضائية ضد روسكين، بيد أنّه خسرها لأن المسؤولين عرضوا اللوحة -خطأً- مقلوبةً على المحكمة. أفلس ويسلير بسبب هذه القضية، لكن مسيرة تطور الفن التجريدي استمرت. من ناحيةٍ أخرى، تحديد أول فنان تجريدي في العالم موضوع نزاع. في نظر أبحاث تاريخ الفن التقليدية، كان فاسيلي كاندينسكي – فنان روسي الجنسية رسم لوحات تجريدية بالكامل في مطلع عام 1911- هو أول فنان تجريدي. لم ينل الفن التجريدي الرائد لهيلما أف كلينت تقديرًا إلا قبل سنوات قريبة. هذه صورة للمعرض الشهير في  متحف غاغينهايم، عام 2018 .لم ينل الفن التجريدي الرائد لهيلما أف كلينت تقديرًا إلا قبل سنوات قريبة. هذه صورة للمعرض الشهير في  متحف غاغينهايم، عام 2018 . ولكن في الآونة الأخيرة، وبفضل المعرض الرائد في متحف مقاطعة لوس أنجلوس للفنون في عام 1986 الذي حمل اسم «الروحانية في الفن: الرسم التجريدي 1890 – 1985»، وقع الاختيار على هيلما أف كلينت كأول رسامة تجريدية. بدأت كلينت في رسم لوحات تجريدية بدءًا من عام 1906، وحملت مجموعتها عنوان «الفوضى البدائية». كانت الفنانة متكتمة في ما يتعلق بأعمالها التجريدية، ولم تُعرض أيّ منها في معارض عامة، وبقيت غير معروفة حتى أزيح عنها الستار مؤخرًا. ولعل الجدال حول هوية أول من مارس الفن التجريدي سيستم، لكن الحقيقة الأكثر أهمية هي أن العديد من الفنانين الأوروبيين البارزين قد توصّلوا في أعمالهم إلى التجريد بحلول الحرب العالمية الأولى. لقد وجد كل منهم طريقته الخاصة في التخلي عن الفن التشخيصي (figurative painting). وجديرٌ بالذكر أنّه لم تكن هناك حركة «تجريدية» دولية ذات رؤية أو بيان مشترك. في ضوء ذلك، فإن السؤال الملحّ حقًا هو: لمَ لمْ يتبنى الفنانون الغربيون الفن التجريدي على امتداد قرون عديدة؟ لماذا كان التجريد غير ضروري أو لا معنى له أو غير مناسب أو حتى لا يمكن تقبّله لقرونٍ متوالية في الفن الغربي؟ ظهرت العديد من التفسيرات لشرح ذلك. إحدى النظريات الأكثر وضوحًا هي أن ظهور التصوير الفوتوغرافي بوصفه شكلًا من أشكال الفن، إضافةً إلى تطور الفن الحديث، سببان رئيسان لإزاحة الرسم التشخيصي. ثمّة إجابات أخرى غير ملموسة لاستكشاف الأسباب: ربما عندما أصبحت الأعمال الفنية قابلة للاستهالاك بشكل متزايد، مثل السلع، بات من السهولة فصل اللوحات والمنحوتات عن التجارب المحددة لمبدعيها. ربما أدت الحداثة في الغرب إلى إفراغ الفن من المحتوى التشخيصي؛ مما دفع الفنانين أيضًا إلى التخلي عن التمثيل التشخيصي. كل من هذه الإجابات معقدة وتتطلب الكثير من الشرح، ولا يمكن إلا أن تكون تخمينات. لا توجد إجابة واضحة لهذه المسألة. ربما يكون من الأفضل طرح السؤال حول سبب تقبّل الفن التجريدي فنًّا من الفنون الرسمية في تاريخ الفن الغربي في مرحلة معينة على علماء الأنثروبولوجيا بدلًا من طرحها على مؤرخي الفن. فما هو واضح أن الفن التجريدي كان موجودًا دائمًا في مناطق أخرى من العالم. ما جعل الفن التجريدي فنًّا حديثًا على وجه التحديد في العالم الغربي هو نظام المعارض، الذي أعطى القيمة الفنية للأعمال المعروضة. وكما هو واضح فقد ازدهر التجريد لآلاف السنين المناطق الشرقية والجنوبية من العالم، دون عناء التحقق من مكانة الأعمال المعروضة في الصالونات [والمعارض، كما هو في العالم الغربي]. الواقع الافتراضي و«الافتراضية» يتبنى بيبي كرمل وهو مؤرخ فني، في كتابه « الفن التجريدي: تاريخ عالمي»، فكرة أنّ الفن التجريدي كان دائمًا موجودًا بشكل طبيعي عندما ننظر إليه نظرة شاملة وعالمية، بيد أنّه يتحاشى طرح نظرية عن تطور الفن التجريدي. بالنسبة إلى كرمل، فإنّ هذا الفنّ متجذر في العالم الحقيقي، وهو ليس فنًّا «مجردًا» على الإطلاق، كما أنّه تقليد عالمي وليس محليًا. في دراسته حول الفن التجريدي يقسم العمل الفني إلى خمس فئات واسعة تنتمي إلى العالم الحقيقي: الأجسام، والمناظر الطبيعية، والكون، والبنى، والعلامات والأنماط. من خلال فحص الفن التجريدي بهذه الطريقة، يرى كرمل في اللوحات التجريدية موضوعات قابلة للتحليل، بعكس النقاد والمؤرخين الأرثوذكسيين الذين رأوا فيها مجرّد توليفات شكلية مكوّنة من لون وشكل. ربما يكون من الأفضل أن يطلق على الفن التجريدي: فن ما تم تجريده (abstracted art)؛ لأنّ الفنانين التجريديين عادةً ما يستخلصون ويجرّدون تعبيرات التجارب في شكل ولون،  أكثر من كونها توليفات مكونة من شكل ولون. ومرّد ذلك الطبيعة الجوهرية للرسم والنحت؛ فهما (الشكل اللّون) وسيطان للتعبير، مثل الشاشة أو المسرح لخيال الفنان. كما هو الحال في المسرح أو السينما، فإنّ جمهور اللوحة أو المنحوتة يعلّق معتقداته من أجل أن يتقبل المشهد. من المفيد التفكير في اللوحة التشخيصية التقليدية أو النحت على أنها حقيقة افتراضية. إذْ استخدم الفنانون لقرون عديدة الحيل البصرية -مثل المنظور الخطي، والتقصير المسبق، والتظليل- لمحاكاة الطريقة التي ندرك بها الأشياء في الفضاء الحقيقي. إنّ المشاهد تُنشأ في فضاء افتراضي – سواء كانت القاعدة التي تدعم التمثال أو القماش – ليراها المشاهدون بوصفها خدعة بصرية. «القديس بطرس شفاء أحد الأشخاص وبعث تابيثا من الموت» ماسولينو دي بانيكال. اعتمد الرسم الغربي قبل القرن العشرين على الحيل البصرية لخلق واقع افتراضي. إحدى هذه الحيل هي المنظور الخطي، وهذه اللوحة هي أول مثال لاستخدام نقطة تلاشٍ متسقة.«القديس بطرس شفاء أحد الأشخاص وبعث تابيثا من الموت» ماسولينو دي بانيكال. اعتمد الرسم الغربي قبل القرن العشرين على الحيل البصرية لخلق واقع افتراضي. إحدى هذه الحيل هي المنظور الخطي، وهذه اللوحة هي أول مثال لاستخدام نقطة تلاشٍ متسقة. يستمتع مشاهدوّ الأعمال الفنية العظيمة معنى ما يُرسم، ويقدرون الطريقة التي يتجلّى فيها الوهم عبر تمازج اللون والشكل. يبقى الفن التجريدي، إلى حدٍ ما، ضمن إطار التجربة الجمالية. فقد سعت حركات الفن الحديث التي أدت إلى التجريد -أيّ «مدارس الفن»، مثل الانطباعية والفاوفية والتكعيبية- إلى تمثيل العالم بشكل مختلف عن كل الفنون التي سبقتها. إذْ ادعوا الاقتراب من الحقيقة الذاتية عبر تهميش جميع الحيل الوهمية التقليدية التي حاولت إعادة إنتاج الواقع بحذافيره كحقيقة موضوعية. «الأحمر والأصفر والأزرق» (1925) واسيلي كاندينسكي.  كان كاندينسكي يعدّ لفترةٍ طويلة أب الرسم التجريدي الغربي.«الأحمر والأصفر والأزرق» (1925) واسيلي كاندينسكي.  كان كاندينسكي يعدّ لفترةٍ طويلة أب الرسم التجريدي الغربي. بالنسبة إلى هذه المدارس، أصبح الفن أقل من أن يوصف بأنّه واقع افتراضي، لكنه مع ذلك احتفظ بالافتراضية، وأصبح افتراضيًا. لقد أخذ الفن التجريدي مسار التطور هذا إلى أقصاه: من الواقع الافتراضي إلى الافتراضية. ماذا تعني «الافتراضية» هنا؟ إنّها الوجود كجوهر وتأثير، ولكن بدون اللجوء إلى الواقع. اللوحة التجريدية التي رسمها كاندينسكي، على سبيل المثال، ما زالت تُعدّ علاقة متبادلة بين الشكل واللون، و تعتمد على الرسم كمستوى تخطيطي: إنها نافذة تطلّ على «الواقع» الفردي الذي تصوّره كاندينسكي. وما تزال العناصر في لوحات كاندينسكي تحظى بعلاقة متبادلة، كما هو الحال في فضاء الواقع الافتراضي للوحة التشخيصية؛ فجوهر الرسم سليم إذ إنّ ذلك الفضاء الافتراضي ما زال موجودًا. عندما يكون الفن التجريدي بناءً خالصًا، ويتخلص من المساحة الافتراضية الملازمة للرسم والنحت، يصبح متميزًا عنهما. وصف دونالد جود الفنان التخفيفي (minimalist) مثل هذه الأعمال الفنية بأنها «أجسام محدّدة» (Specific Objects). إنّه مصطلح غير دقيق، ولكنه يصلح لإظهار أن مثل هذه الأعمال الفنية ليست رسمًا ولا نحتًا، ولكنها فئة أخرى تمامًا. رأى دونالد جود أن أعماله وأعمال العديد من معاصريه تشغل مساحة هجينة، لا هي لوحات ولا هي نحت. عمل دون عنوان لدونالد جود. استخدم جود هذا المصطلح لوصف أعماله الخاصة، ولكنه ينطبق على لوحات كازيمير ماليفيتش وفرانك ستيلا أحادية اللون، والتي تجعل اللوحة تندمج مع نفسها بالكامل، من أجل الوصول للتأثير الذي يأمل العمل في تحقيقه. في مثل هذه الأعمال، لم يعد قماش اللّوحة (أو القاعدة) سطحًا تتفاعل فيه الأشكال والألوان في الفضاء الافتراضي. بدلاً من ذلك، تتفاعل الأشكال والألوان في الفضاء الحقيقي، في فضائنا. تختلف معايير النجاح أو الفشل لهذه الأعمال عن الخصائص التقليدية للرسم والنحت. رأى جود أنّ خصائص الرسم والنحت تقف في طريق ما أراد تحقيقه من خلال اللون والشكل. في رأيه، كان لـ «أجسامه المحددة» تأثيرًا أحدّ من غيرها. الواقع والأشكال الجديدة للإدراك الحسّي الرسم نفسه له ثلاثة أنواع عامة من التجريد؛ أولًا، ثمّة أسلوب تعبيري تُرسم فيه الأشكال بحركاتٍ غير مقيدة؛ ثم هناك التجريد الهندسي حيث يتم هيكلة الأشكال؛ أما النوع الثالث، فهو تجريد مجال اللون حيث يتم عرض مساحات من الألوان بطريقةٍ لا شكل واضح لها. لم تكن هذه «الأنماط» (styles) أنماطًا عرضيةً أو تعتمد على ذوق أو ميل الرسام كوسيلة لتحقيق هدفٍ ما من البحث الفني. وخير مثال على ذلك هو الفنان الذي غالبًا ما ينظر إلى عمله على أنّه ذروة التجريد الهندسي: بيت موندريان. إنّ لوحات بيت موندريان المكونة من شبكات (grids) ذات الخطوط السوداء والأجزاء الملونة على خلفية بيضاء؛ تهدف إلى استحضار «حقيقة أعلى». بالنسبة إلى موندريان، كان الفن في جوهره معارضًا للواقع؛ «لأن الواقع يتعارض مع الروحي». بغض النظر عن هذه اللوحة الأشهر لموندريان، فإنّ جوانب الرسم التي تهم هذا الفنان حقًا لم تكن الجوانب المحددة للموضوع -أيّ ماذا أو ما يتم تصويره في اللوحة مثلًا- بل الجوانب القابلة للفهم عالميًا للشكل والخط واللون. إنّ لوحات موندريان، مثلها مثل لوحات الفنانين الآخرين، هي محاولة لاستخلاص الشكل واللون من أجل الاقتراب من ذلك الجوهر العالمي والروحي للفن. عبّر موندريان عن رغبته في الوصول إلى «أساس» الأشياء من خلال الحدس، كالعديد من الفنانين التجريديين الآخرين في النصف الأول من القرن العشرين الذين رغبوا في الوصول إلى قوى غير مرئية حولنا، ولكنها معروفة أو محدوسة. «التكوين الثاني باللون الأحمر والأزرق والأصفر» (1930) - بيت موندريان«التكوين الثاني باللون الأحمر والأزرق والأصفر» (1930) – بيت موندريان في أواخر القرن التاسع عشر، لاحظ العلماء بشكلٍ أفضل مما سبق القوى غير المرئية مع انتشار التقنيات الجديدة، وأصبح من الواضح أن العالم أرحب مما يبدو للعين. في الوقت نفسه، ظهرت حركات روحية بديلة جمعت بين الأفكار الأفلاطونية والتصوف. كان كلينت وموندريان من بين العديد من الفنانين الذين انغمسوا في أشكال الروحانية خارج العوالم التقليدية للدين. اعتقدت كلينت أن لوحاتها هي وحي عالم روحي، وأن مهمتها كانت العمل «على مستوى روحاني» لتمثيل روح الإنسان، بدلًا من صورته الفانية. بحلول عشرينيات القرن الماضي، كانت نظرية فرويد عن للعقل البشري قد تغلغلت أيضًا في عالم الفن.  كذلك السريالية، وهي حركة منظمة بإحكام بدأت مع بعض الفنانين الذين سعوا إلى التنقيب عن الإمكانات الإبداعية للعقل الباطن، وهي الحركة الثقافية التي كانت سائدة في أوروبا بين الحربين العالميتين. لم تكن السريالية دوغمائية في محاولتها لاستكشاف اللاوعي، ولذلك ظهر عدد من الأساليب والطرق لمحاولة إخراج اللاوعي إلى السطح. إحدى هذه الأساليب كان الرسم الآلي (Automatism)، وهي عملية يتخلى فيها الفنان عن السيطرة الواعية لليد التي ترسم  أو تصور. في هذا المجال، تبنى الفنانون مثل أندريه ماسون وخوان ميرو الفرصة لبناء صورهم باستخدام حركات حرّة، وحتى إلقاء الطلاء على القماش. طور أرشيل غوركي -هو مهاجر أرمني عاش في الولايات المتحدة- أسلوبًا في الرسم يدمج بين الرسم الآلي وتجريد مجال الألوان. لوحاته في الأربعينيات حجمُها ضخم – ومرد ذلك تأثره بأعماله السابقة كفنان جداري مُعيّن من الدولة خلال السنوات الأخيرة من الكساد الكبير – لكنها معبّرة وغنائية في الرسم بالفرشاة. ألهم إدماج غوركي للأنماط جيلًا واسعًا من الفنانين الأمريكيين في فترة ما بعد الحرب لاحتضان التجريد الواسع النطاق. ما نسميه الآن «التعبيرية التجريدية»، وكان ذاك الجيل في الواقع مجموعة فضفاضة من الفنانين الذين يستخدمون أنماطًا متعدّدة من أنماط التجريد. ربما كان القاسم المشترك بين هؤلاء الفنانين – على الأقل في السنوات الأولى – هو دعم جيل جديد من النقاد بقيادة كليمنت غرينبيرغ، الذي كان يعتقد أن التجريد هو التعبير الأسمى للفن الغربي. «الكبد هو مشط الديك» (1944) - أرشيل جوركي.«الكبد هو مشط الديك» (1944) – أرشيل جوركي. الحداثة ومصير الفنّ الغربي كان يُعتقد في بعض الأوساط الفكرية المؤثرة أنّ الفن يتقدم نحو هدف؛ وهذا المضمون يشتمل عليه مصطلح «الطليعية» (Avant-garde)، الذي يُوصف به الفنّانون الذين يبتكرون أرضية جمالية جديدة. أصل المصطلح فرنسي يُطلق على الجنود الذين يتقدمون إلى مناطق جديدة. بالنسبة إلى غرينبيرغ، لم يكن هؤلاء الفنّانون يوسّعون حدود إمكانات الفن؛ بل كانوا يتقدمون نحو الهدف الحقيقي والمفرد لكل شكل فني. يُعدّ غرينبيرغ شخصية مهمة في تاريخ الفن التجريدي، وذلك لأمرين: بوصفه مناصرًا رائدًا في مسألة تفوق الفن التجريدي على غيره من أنواع الرسم، وتأكيده للقوة التي امتلكها هذا الفن. كان ناقدًا في اللجنة الأمريكية للحريّة الثقافية التي تمولها الدولة، وهي مجموعة تم إنشاؤها لتعزيز الفن الأمريكي على المستوى الدولي. أصبحت أفكار غرينبيرغ مؤثرة عندما كانت الولايات المتحدة جزءًا من الحرب على الفاشية والنازية، وخلال الحرب الباردة اللاحقة ضد الشيوعية السوفيتية. كانت معايير الفن الفاشي والسوفياتي واضحة، وهي ما تحددها السلطات الثقافية أنها كذلك، بيد أنّه ما لم يكن واضحًا هو معايير الفن «الجيد» وتحديدًا في الغرب الديمقراطي. كان الماركسيون هم من تعاطف مع غرينبيرغ في البداية، لكن ارتبط تفكيره بشكلٍ متزايد بالهيمنة الثقافية الأمريكية. بالنسبة إليه، كان التجريد في أعمال بولوك فنًا مثاليًا لمجتمع ديمقراطي. تتجلى الحداثة في الفن، وفقًا لغرينبيرغ، في إطار التنوير الأوروبي؛ أيّ في فترة ازدهار الأفكار الفلسفية والعلمية التي أعطت الأولوية للعقل. في مقالته المؤثرة « الرسم الحداثي» (1961)، وصفَ غرينبيرغ إيمانويل كانط – الفيلسوف الألماني في عصر التنوير – بأنّه «أول حداثي حقيقي». كان أسلوب كانط في «النقد» هو استخدام العقل لنقد العقل بغرض توضيحه، ومنحه استقلالية عن أنواع التفكير الأخرى. «أولمبيا» - إدوارد مانيه (1863). بالنسبة إلى كليمنت غرينبيرغ، كان مانيه أول رسام حداثي. لقد رسم مانيه لوحاته بأسلوبٍ مسطّح بشكلٍ متعمد.«أولمبيا» – إدوارد مانيه (1863). بالنسبة إلى كليمنت غرينبيرغ، كان مانيه أول رسام حداثي. لقد رسم مانيه لوحاته بأسلوبٍ مسطّح بشكلٍ متعمد. بالطريقة نفسها، كان الرسامون الحداثيون – من إدوارد مانيه في القرن التاسع عشر إلى موريس لويس، وهو رسام يعمل ينتمي إلى رسامي أسلوب مجال ألوان في الولايات المتحدة في الوقت الذي كتب فيه غرينبيرغ مقالته – يعملون على ترسيخ الفن التعبيري «بشكل صارم في مجال تخصصه». رأى غرينبيرغ أن وضوح الفن التجريدي -الذي كان صادقًا بالنسبة إلى الوسيط الذي يُعبّر من خلاله- معارضٌ لـ«الفن الشعبي المبتذل [الكيتش]» الذي ينُتج على نطاق واسع في الثقافة الشعبية. إن إزالة «الكيتش» كانت مسألة استجلاء وتوضيح تحتاجها جميع الفنون لكي تصبح تعبيرًا عن إمكاناتها الجمالية الكامنة. اللوحات مسطّحة، وإيهام العمق الذي نجده في معظم الفن الغربي كان انحرافًا عن جوهر فن الرسم ذاته. كانت استقلالية الشكل الفني في جميع خصائصه دون أن تتلوث بأشكال فنية أخرى. وفقًا لغرينبيرغ، يعدّ الشكل واللون من أهم خصائص الرسم، و أفضل تمثيل لها يكون بشكلٍ مسطّح. وهكذا دافع غرينبيرغ عن «التسطيح» الذي تجلّى في لوحات الفنانين الأمريكيين التجريدية مثل جاكسون بولوك باعتباره تحقيقًا لهذا الوضوح الحداثي. لقد ضم هؤلاء الفنانين معًا ضمن فريق واحد، وهم يمثّلون المرحلة التالية في الحداثة، وقد حلّت رؤيتهم الأمريكية المميزة محلّ الفن الأوروبي الطليعي. وفي الوقت الذي أصبح فيه الفن التجريدي الأمريكي مهيمنًا، تراجعت هيمنة غرينبيرغ النقدية، وظهرت أشكال جديدة من الفن الطليعي، مستوحاة مباشرة من الثقافة الجماهيرية، وحلّت محلّ التعبيرية التجريدية في المخيال العام. تبنى فنانوّ «البوب» مثل: آندي وارهول، وريتشارد هاميلتون هذا النوع من «الفن الشعبي المبتذل» الذي رآه غرينبيرغ تلويثًا للفن الحقيقي. استمرت الأعمال الفنية التجريدية، ولكن تخلّى الفنّانون التجريديون الأكثر جرأة عن الفكرة الصارمة «للنقد الحداثي»، وعن الوضوح المتعلق بخصوصية الوسيط الفني، وذلك لصالح أشكال أخرى من التعبير. نظر فنانوّ «ما بعد الحداثة» إلى السخرية وعملية الرسم نفسها، كطرق لتجاوز الطريق المسدود للحداثة. تبنى الألماني غيرهارد ريختر كلا النهجين؛ فبعض أعماله التجريدية في الستينيات كانت مصنوعة بممسحاتٍ بدلًا من الفرشاة، حتى يتمكن من لفت الانتباه إلى عملية صنع اللوحة نفسها. كانت «اللوحات التجريدية» البارزة الأخرى التي رسمها ريختر في الواقع صورًا واقعية مرسومة بعناية تعكس لوحاته التجريدية الأخرى. أصبحت طلائعية الرسم التجريدي مفهومية أكثر، ما جعل ضمنيًّا قضية الرسم تحظى باستقلالية أقل مما كان كان يعتقد النقاد الحداثيون. قلّد فنانوّ «نيو جيو»، مثل: الرسام بيتر هالي، والنحات أشلي بيكرتون اللغة البصرية للتجريد الهندسي، لكنهما دمجاها مع السلع الاستهلاكية بألوانٍ تجارية فاتحة وأحيانًا فلورية. منذ ذلك الجيل ما بعد الحداثي من الرسامين والنحاتين الممتد من الستينيات إلى التسعينيات، ازدهر التجريد متفرّعًا إلى عددٍ لا يُحصى من الأساليب والمقاربات بجوار الفن التشخيصي. هنا يمكن القول إنّ التجريد المتحرّر من عبء التوقعات الحداثية هو ببساطة نهج للتعبير مثل أيّ نهج آخر. وتجدر الإشارة إلى أنّ بعض الفنانين التجريديين استخدموا الحيل البصرية المستعملة في الفن التشخيصي – مثل المنظور والتظليل – في لوحاتهم. ولاستخدامهم هذا أهداف فريدة و غالبًا لا تهتم بالنظرية. قلّد فنانوّ «ما بعد الحداثة» مثل: بيتر هالي اللغة البصرية المستعملة في الفن التجريدي الحديث (في حالة بيتر، التجريد الهندسي)، للتعليق على طبيعة الفن والمعنى نفسه. تمثّل هذه الكتل الملونة «الخلايا» و«الأنابيب».قلّد فنانوّ «ما بعد الحداثة» مثل: بيتر هالي اللغة البصرية المستعملة في الفن التجريدي الحديث (في حالة بيتر، التجريد الهندسي)، للتعليق على طبيعة الفن والمعنى نفسه. تمثّل هذه الكتل الملونة «الخلايا» و«الأنابيب». هذا هو التحرّر نحو الأفضل بين الرسامين التجريديين الذين يمكنهم الالتزام برؤيةٍ فريدة بالرسم على القماش. لكن فكّ ارتباط الفن التجريدي عن إطاره الفلسفي الأوسع أدى أيضًا إلى انتشارٍ يثير التساؤل لأعمال تجريدية متنوعة قابلة للاستهلاك – بمعنى أنّها فقدت قيمتها، وباتت تُباع وتُشترى سريعًا بأسعارٍ مربحة – يشتريها المشترون المتضاربون. دفع هذا التحول الناقد جيري سالتز إلى كتابة: « الزومبي على الجدران: لماذا يبدو الكثير من التجريد الجديد متشابهًا؟». وقد شبه اللّوحات التجريدية بصورة «الزومبي»، تحقيرًا لأعمال عددٍ من الرسامين التجريديين البارزين، الذين استخدموا الفنّ وجماليته لتقديم أعمال مبتذلة. ومن المفارقات أن هؤلاء الفنانين نظروا إلى الشكلانية بوصفها فنًّا حداثيًّا متبنّين منظور غرينبيرغ، لكنهم بالطبع قدّموا أعمالًا في ظلّ فراغ تاريخي وبعد فترةٍ طويلة حين لم يُصبح التجريد مثيرًا للاهتمام أو راديكاليًا بأي وجه من الوجوه. في الواقع، لم يصل مشروع الحداثة  في الفن التجريدي إلى نهايته، بل النقد. إنّ النقد -أيّ الإطار الفلسفي الواسع الذي يصادق على الأعمال الفنية ويثمّنها لأهميتها الثقافية والتاريخية- هو ما فقد التوجه والسلطة. كان مسار الفن الغربي منذ عصر التنوير يتأرجح بين قطبي الدوغمائية النقدية والإبداع. تكمن المشكلة أنه في العقود الأخيرة، وفي ظلّ غياب أي مشروع نقدي متماسك، انجرف الفن نحو إرضاء اهتمامات دقيقة ومتنوعة تزداد باستمرار. في حين كانت هناك «حركات» و«مدارس» فنية -مصطلحان يشيران إلى الوجهة والانضباط- لم يعد لدينا الآن سوى «مشاهد». هذا ليس بالضرورة أمرًا سيئًا. ولكن في عالم حيث «كل شيء مقبول – anything goes»، لا يوجد مجال لهذا النوع من الابتكار والتجاوز الذي أدى إلى ظهور الفن التجريدي في الغرب، وهذا ما جعل الفن الحديث فنًّا مثيرًا للغاية. من الصعب في هذه اللحظة التاريخية أن ندرك ما الذي جعل لوحة بولوك «رقم 32» مثيرة للانقسام، ومخلخلةً جدًا للمعايير، وفي الوقت نفسه محتفظةً بقيمةٍ عالية جدًا لأولئك الذين يعتقدون أن للفنِّ مكانًا في المجتمع يتجاوز المتعة. [divider style=”solid” top=”20″ bottom=”20″] [1] واللقب كذلك يُلمح إلى القاتل المتسلسل في لندن آخر القرن التاسع عشر: جاك السفّاح Jack the ripper (مدير التحرير). ### خارج عقلك | توم تشاتفيلد – ت: محمد السعيد                  عندما يكون هاتفي النقال بين يديّ، هل أكون أنا الشخص نفسه لو كان الهاتف في غرفة أخرى؟ من ناحية،... ### الدراما في التعليم: مقاربات وتطبيقات | نعيم حيماد افتتاحيّة حظي استخدام الدراما في التعليمفي السنوات الأخيرة باهتمام كبير من قبل نخبة من المنظرين والممارسين للدراما في مجال التعليم.... ### الحقائق المخفية | دي بي سي بيير – ت: محمد السعيد       يحمل جبل كلسي خشن في غرب إيران عددًا من النقوش البارزة، من بينها لوحة طولها خمسة وعشرين مترًا منقوشة... ### التغلُّب على كاشف الكذب | كلاريسا سيباغ-مونتِنفيوري – ت: محمد السعيد          حين  اتُّهِمَتْ مربية الأطفال البريطانية لويز وودورد بهزِّ رضيع حتى الموت في مدينة نيوتن بولاية ماساتشوستس، لم تكتفِ بإعلان... ### عن منصة معنى «معنى»، مؤسسة ثقافية تقدّمية ودار نشر تهتم بالفلسفة والمعرفة والفنون، عبر مجموعة متنوعة من المواد المقروءة والمسموعة والمرئية. انطلقت في 20 مارس 2019، بهدف إثراء المحتوى العربي، ورفع ذائقة ووعي المتلقّي المحلي والدولي، عبر الإنتاج الأصيل للمنصة والترجمة ونقل المعارف. ### روابط سريعة ### التصنيفات ### مرحبا بك! قم بتسجيل الدخول إلى حسابك تذكرني ### قم بإنشاء حساب جديد! املأ النموذج أدناه للتسجيل ### طلب إعادة تعيين كلمة المرور يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان البريد الإلكتروني لإعادة تعيين كلمة المرور الخاصة بك. ### Add New Playlist - Select Visibility -PublicPrivate No Result عرض جميع النتائج - 00:00 00:00 - 00:00 00:00
article
Arabic
ar
الفنّ التجريدي: بين الماضي والحاضر - منصة معنى الثقافية
https://mana.net/abstract-art/
1,899
كان يُعتقد في بعض الأوساط الفكرية المؤثرة أنّ الفن يتقدم نحو هدف؛ وهذا المضمون يشتمل عليه مصطلح «الطليعية» (Avant-garde)، الذي يُوصف به الفنّانون الذين يبتكرون أرضية جمالية جديدة.
sentence
كان يُعتقد في بعض الأوساط الفكرية المؤثرة أنّ الفن يتقدم نحو هدف؛ وهذا المضمون يشتمل عليه مصطلح «الطليعية» (Avant-garde)، الذي يُوصف به الفنّانون الذين يبتكرون أرضية جمالية جديدة. أصل المصطلح فرنسي يُطلق على الجنود الذين يتقدمون إلى مناطق جديدة.
paragraph
Arabic
ar
الفنّ التجريدي: بين الماضي والحاضر - منصة معنى الثقافية
https://mana.net/abstract-art/