id
int64 1
2.4k
| title
stringlengths 6
118
| description
stringlengths 1
273
| content
stringlengths 0
61k
| url
stringlengths 43
248
| image
stringlengths 77
252
| datePublished
timestamp[s] | dateModified
timestamp[s] | section
stringclasses 14
values |
---|---|---|---|---|---|---|---|---|
1 | تحول مثير.. لماذا قررت فرنسا دعم تحرك المحكمة الجنائية ضد نتنياهو؟ | تحول مفاجئ في موقف فرنسا من الحرب الإسرائيلية على غزة، فمن الدعم غير المشروط إلى انتقاد بات يعبر عنه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بوضوح تجاه سياسة إسرائيل، فما أسرار هذا التحول؟ | متوشحا بالسواد المعبّر عن الحداد نزل الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون من الطائرة الرئاسية الفرنسية في زيارة وصفتها صحيفة لوموند بالمتأخرة، بدا العنوان ظاهرا في كل خطوة يخطوها ماكرون، دعم إسرائيل ومواساتها بعد 17 يوما من طوفان الأقصى.
Nous sommes liés à Israël par le deuil.
Trente de nos compatriotes ont été assassinés le 7 octobre. Neuf autres sont encore portés disparus ou retenus en otage.
À Tel-Aviv, auprès de leurs familles, jai exprimé la solidarité de la Nation. pic.twitter.comd62qT7e8US
Emmanuel Macron EmmanuelMacron October 24, 2023
منذ اللحظة الأولى حاولت فرنسا تبني الحزن الإسرائيلي بالتذكير بالضحايا من مزدوجي الجنسية الفرنسية والإسرائيلية؛ فقد غرد ماكرون حول ذلك ودندنت به وسائل الإعلام الفرنسية إلا قليلا، لكن الود بين تل أبيب وباريس لم يدم طويلا، أو -على الأقل- لم يدم بالطريقة التي رغبت فيها حكومة نتنياهو، فقد تكرر التحذير الفرنسي من تجاوزات الجيش الإسرائيلي، وانتهى الأمر بدعم باريس إعلان المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية كريم خان عن عزمه إصدار مذكرة اعتقال في حق رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزير الدفاع يوآف غالانت، إلى جانب ثلاثة قيادات من حماس هم إسماعيل هنية ومحمد الضيف ويحيى السنوار.
لم يكن مفاجئا طبعا مطالبة فرنسا برؤوس قادة المقاومة الفلسطينية، فهي التي كانت قد طالبت منذ بداية المواجهات بتشكيل تحالف دولي يقضي على المقاومة أسوة بتنظيم الدولة الإسلامية، لكن لا أحد ينكر أن دعم قرار دولي ضد قيادات الصف الأول الإسرائيلي -وعلى رأسها نتنياهو- فاجأ أحباب إسرائيل وكارهيها على حد سواء.
بين ليلة وضحاها عدلت فرنسا بهدوء موقفها تجاه الحرب في غزة بشكل لم يكن متوقعا، إن باريس -التي تعد موطن أكبر المجتمعات اليهودية والمسلمة في أوروبا وتخوض حربا ضروسا في الداخل على كل مظاهر التدين الإسلامي- حولت تدريجيا بوصلة سياساتها منذ اندلعت معركة طوفان الأقصى في 7 أكتوبرتشرين الأول الماضي.
ففي بداية الهجوم سارعت فرنسا للانضمام إلى نظرائها في الاتحاد الأوروبي، وأعلنت دعمها الكامل لحق الاحتلال الإسرائيلي المزعوم في الدفاع عن نفسه، فيما أضاء برج إيفل بألوان العلم الإسرائيلي.
ومن بين كل الحلفاء اقترح الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون تشكيل تحالف دولي ضد حركة المقاومة الإسلامية حماس على غرار التحالف الدولي ضد تنظيم الدولة في العراق وسوريا، وفي الوقت ذاته حظرت على أراضيها التجمعات المؤيدة لفلسطين.
لم تكتفِ فرنسا بذلك، فبعد أسبوعين من عملية طوفان الأقصى التقى ماكرون رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في القدس ضمن جولة شملت مصر والأردن تضامنا مع تل أبيب، دون اكتراث بأعداد القتلى المدنيين في غزة.
لكن الدور الفرنسي لم يسر على الوتيرة نفسها، ففي غضون أقل من 3 أسابيع هدأت نبرة ماكرون الداعمة للاحتلال وخرجت تصريحاته نسبيا عن الاصطفاف الأوروبي، داعيا إسرائيل إلى وقف قتل المدنيين، فيما استضافت باريس مؤتمرا لجمع المساعدات الإنسانية من أجل الفلسطينيين، وتعهد المؤتمر بتوفير تبرعات فرنسية تتراوح بين 20 مليونا و100 مليون يورو هذا العام.
تشهد السياسة الخارجية لفرنسا في آخر عقدين تحولا بطيئا عن مواقف كانت في الماضي عقيدة فرنسية راسخة في ما يخص الصراع العربي الإسرائيلي، لقد كانت فرنسا ترى أنه لا يمكن تسوية الصراع إلا عن طريق حل الدولتين وبالتالي رفضت باريس عام 2017 الاعتراف بقرار الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب جعل القدس عاصمة لإسرائيل، إذ اعتبرت أن القدس أرض محتلة، ورغم ذلك فإن الرؤساء المتعاقبين منذ مطلع الألفية بدؤوا بالتخلي تدريجيا عن هذه العقيدة السياسية والاصطفاف بشكل أكثر صراحة مع مواقف إسرائيل.
تعود علاقة فرنسا الرسمية مع القضية الفلسطينية إلى نوفمبرتشرين الثاني 1947 حين صوتت باريس لصالح قرار الأمم المتحدة بشأن تقسيم فلسطين إلى دولتين، واحدة عربية والأخرى يهودية، وأسفر ذلك القرار عن إعلان تأسيس دولة الاحتلال التي اعترفت بها فرنسا.
لكن الوثائق السرية تشير إلى دور الحكومة الفرنسية الذي مهّد لظهور الكيان الصهيوني، بدءا من اتفاقية سايكس بيكو وموافقتها على وعد بلفور.
وبحلول الخمسينيات كانت فرنسا الحليف الذي لجأ إليه الاحتلال والمورد الرئيسي للأسلحة والعتاد العسكري حتى أن الفرنسيين كانت لهم المساهمة الكبرى ببناء المفاعل النووي في ديمونة بصحراء النقب.
ولم تقف الحماية عند ذلك الحد، بل تدخلت فرنسا إلى جانب بريطانيا وإسرائيل عام 1956 ضمن العدوان الثلاثي الذي هدف بالأساس إلى الإطاحة بحكم الرئيس المصري جمال عبد الناصر.
بوصول الرئيس الفرنسي شارل ديغول إلى السلطة لم تعد مواثيق الصداقة بالمتانة ذاتها، وعقب حرب عام 1967 -التي احتلت إسرائيل على إثرها سيناء وقطاع غزة والضفة الغربية والجولان- علقت فرنسا صفقات بيع الأسلحة لتل أبيب، كما دعمت قرارات مجلس الأمن لإنهاء الاحتلال العسكري الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية، وكانت تلك الخطوات بمنزلة شرخ في العلاقات بين فرنسا وإسرائيل.
وقد استمرت العلاقات الدبلوماسية على ودها البارد، في الوقت الذي اتجهت فيه دولة الاحتلال إلى الاعتماد على تحالفها الوثيق مع واشنطن.
شهدت حقبة الثمانينيات بوادر تقارب جديد بوصول الرئيس الفرنسي فرانسوا ميتران إلى السلطة وزيارته دولة الاحتلال، لكن ذلك لم يمنعه من الاعتراف بمنظمة التحرير الفلسطينية التي اعتبرتها واشنطن وإسرائيل آنذاك منظمة إرهابية.
ثم استمرت فرنسا على هذا النهج عقب تولي الرئيس جاك شيراك الذي دعا صراحة للاعتراف بدولة فلسطين.
عموما، عُدّت فترة حكم ميتران وشيراك العصر الذهبي للقضية الفلسطينية في باريس، ومع وصول نيكولا ساركوزي إلى الإليزيه عام 2007 بالتزامن مع هجوم إسرائيل على غزة عقب سيطرة حركة حماس على القطاع شهدت السياسة الفرنسية نقطة تحول ومنعطفا جديدا كان أول شواهده استقبال الرئيس الفرنسي رئيس الوزراء الإسرائيلي آنذاك أرييل شارون في باريس رغم جرائم الحرب التي ارتكبها جيشه بحق الفلسطينيين.
وقد استمرت السياسة الفرنسية على النهج الموالي لإسرائيل مع فرانسوا هولاند وإيمانويل ماكرون، حيث قدّما نفسيهما على أنهما صديقان للاحتلال، من دون التخلي شكليا عن مبدأ حل الدولتين، والاعتراف بحق الفلسطينيين في إقامة دولتهم.
لكن الذي اختلف هو أن أحدا لم يعد يضغط بقوة من أجل حل القضية الفلسطينية بشكل عادل في ظل تطور العلاقات بين باريس وتل أبيب.
لم يكتفِ ماكرون بتقديم الدعم، بل طار إلى تل أبيب ليكون قريبا من حلفائه، ودعا من هناك إلى تشكيل تحالف دولي لاجتثاث حماس، لكن عقب مرور أسابيع من طوفان الأقصى فشل الاحتلال في استعادة أسراه أو إحداث أي انتصارات عسكرية ذات قيمة في المعركة، في الوقت الذي قتل فيه آلاف المدنيين الفلسطينين بدم بارد.
غيّر ماكرون تعاطيه مع الحدث، ووجه في لقاء له مع هيئة الإذاعة البريطانية بي بي سي انتقادات لحرب الاحتلال وحملته البرية على غزة علانية بقوله يجب على إسرائيل أن تتوقف عن قتل الأطفال والنساء وكبار السن في غزة، لا يوجد مبرر للقصف.
وبعدما كان ماكرون يدعو العالم إلى الوقوف في صف إسرائيل تغيرت لهجته وبات يدعو القادة الأوروبيين والولايات المتحدة إلى دعم موقفه من أجل الضغط على إسرائيل لوقف إطلاق النار.
تكشف بعض أسرار هذا التحول مذكرة كان من المفترض أن تكون سرية، لكنها سُربت لصحيفة لوفيغارو الفرنسية، لقد كتب 12 سفيرا فرنسيا في الشرق الأوسط ومنطقة المغرب العربي مذكرة جماعية وقعوا عليها وأرسلوها إلى قصر الإليزيه ووزارة الخارجية الفرنسية، وهي سابقة في تاريخ الدبلوماسية الفرنسية.
تضمنت المذكرة اعتراضات صريحة وتحذيرات من تداعيات المواقف التي اتخذها ماكرون لدعم إسرائيل، وباتت فرنسا على إثرها متهمة بالتواطؤ في أعمال الإبادة التي قام بها الاحتلال في غزة، لقد تصاعد الغضب إلى حد تهديد أحد السفراء الفرنسيين العاملين في المنطقة بالقتل، ولذا اتخذ السفراء موقفا دبلوماسيا داخليا، في محاولة لتغيير موقف الحكومة الفرنسية والعودة بها مرة أخرى إلى التوازن.
ليست تلك الرسالة وحدها على ما يبدو هي ما دفع ماكرون إلى مراجعة سياسته، فالعملية التي شنتها حماس والغزو البري الإسرائيلي كانا كفيلين بإشعال التوترات العميقة في الداخل الفرنسي.
إن فرنسا موطن لنحو نصف مليون يهودي، وفي الوقت نفسه يمثل المسلمون ما لا يقل عن 6 ملايين نسمة من سكانها البالغ عددهم 70 مليون شخص، ومعظمهم من المغرب العربي، مما يجعلهم أكبر مجتمع مسلم في أوروبا.
كانت تلك اعتبارات من المفترض أن يضعها ماكرون في الحسبان قبل أن يعلن دعمه غير المشروط لإسرائيل، وقبل أن تتخذ شرطة باريس موقفا قاسيا ضد الاحتجاجات المناصرة للقضية الفلسطينية.
سرعان ما أصبحت فرنسا أول دولة في الاتحاد الأوروبي تدعو رسميا وعلنا إلى وقف إطلاق النار في غزة وإلى هدنة مستدامة بين حماس والاحتلال لإنهاء الحرب.
لم تكن الدوافع الفرنسية نتيجة صحوة متأخرة بقدر ما كانت مرتبطة بأسباب براغماتية مرتبطة بطموح فرنسا لإعادة تأثيرها المفقود على الساحة العالمية، وإعادة موضعة نفسها في الشرق الأوسط كي تحظى بمصداقية كافية تتيح لها أن تكون وسيطا حقيقيا ذا صوت مسموع.
يأتي كل ذلك في إطار سياسة الاستقلال الإستراتيجي عن واشنطن التي تتبناها باريس تحت قيادة ماكرون، في محاولة منه لاستدعاء الإرث القديم لديغول، بعد أن اتجهت باريس إلى الاصطفاف أكثر مع واشنطن منذ رئاسة ساركوزي.
يمكن قراءة التحولات المفاجئة في تصريحات ماكرون أيضا في خضم الصراعات الداخلية في فرنسا بين التيارات السياسية المختلفة، فقد انقسم المشهد السياسي في البلاد إلى 3 تيارات أساسية اليمين المتطرف بقياداته المختلفة، واليسار الراديكالي بقيادة حزب فرنسا الأبية، ثم هنالك ما يعرف بـالتيار الماكروني الذي لا يعبر فقط عن داعمي الرئيس الفرنسي الحالي، لكنه تيار سياسي واسع لا ينتمي إلى التيارات السياسات الكلاسيكية ويشق خطا مختلفا له.
في البداية، اختار ماكرون وتياره اتخاذ موقف حاد من هجوم المقاومة الفلسطينية ضد إسرائيل في 7 أكتوبرتشرين الأول، وذلك من خلال إظهار انحياز واضح لتل أبيب، وذلك لتجنب مزايدات اليمين المتطرف الذي يحاول في السنوات الأخيرة التخلص من عار الوصمة النازية، والتعبير عن دعم كامل لليهود ممثلين في إسرائيل، لتجاوز بعض التصريحات والمواقف القديمة التي وضعت هذا التيار في خانة معادية للسامية.
لذلك، دعمت الحكومة الفرنسية إسرائيل، محاولة في الوقت نفسه الاستئثار بهذا الدعم عبر التذكير بالمواقف القديمة لليمين المتطرف، وهو ما جاء في تغريدة لرئيسة الحكومة الفرنسية إليزابيث بورن قالت فيها إن حضور حزب مارين لوبان في المسيرة ضد معاداة السامية التي نظمت في 12 نوفمبرتشرين الثاني الماضي لا يخدع أحدا.
وفي التغريدة ذاتها قالت بورن إن غياب حزب فرنسا الأبية يتحدث عن نفسه، وهنا تظهر قطعة أخرى من الأحجية السياسية الفرنسية، فمنذ بداية الأحداث اتخذ حزب فرنسا الأبية موقفا داعما لغزة، مسلطا الضوء على الجرائم التي ترتكبها إسرائيل بحق المدنيين الفلسطينيين.
كما وصف بعض أعضاء الحزب ما يحدث في القطاع بالإبادة العرقية، في الوقت الذي كانت البرامج الحوارية الفرنسية تمجد دولة الاحتلال ليل نهار، وتشن هجوما قويا على كل شخص يتجرأ على انتقاد تل أبيب، بل ونتنياهو.
كانت إستراتيجية الحكومة الفرنسية دائما هي اعتبار اليسار الراديكالي وجها آخر لليمين المتطرف عبر اتهامه بمعاداة السامية وتأجيج الرأي العام ضد إسرائيل، وهو ما يعد محرما في فرنسا، ناهيك عن وصفه حركة حماس بأنها حركة مقاومة، وهو ما يعد خروجا كبيرا على النغمة السياسية السائدة في باريس.
لكن مع استمرار الحرب الإسرائيلية القاسية ومواصلة حزب جون لوك ميلانشون دعمه لغزة مسجلا حضورا دائما في المظاهرات الداعمة لفلسطين حتى في فترة المنع الرسمي وجد ماكرون نفسه مطالبا بإيجاد موقف متوازن لتأكيد سياسته المختلفة عن سياسات التيارات المتطرفة -من وجهة نظره- على الجانبين.
بدأ هذا التغير تدريجيا، في البداية كان التساهل نسبيا مع تنظيم تجمعات ومظاهرات داعمة لفلسطين، لينتهي الأمر بانتقاد رغبة إسرائيل في القضاء على حماس بحجة أن هذا الهدف غير واقعي ويمكن أن يطيل أمد الحرب لسنوات، والمطالبة بوقف دائم لإطلاق النار.
لا يمكننا قراءة هذا التغير في الموقف الفرنسي الرسمي بوصفه رؤية إستراتيجية بقدر ما يمكن رؤيته على أنه رد فعل ناجم عن الضبابية الكبيرة التي يعيش فيها الإليزيه في ما يخص عددا كبيرا من القضايا، ومنها الملفات الخاصة بالشرق الأوسط، حيث لا يمكننا وصف التحركات الفرنسية في المنطقة بكونها ناجحة، بما في ذلك تحركاتها في لبنان، الساحة الأبرز للنفوذ الفرنسي في الشرق الأوسط.
وفي الوقت نفسه، فإن هذا السعي الحثيث وراء أحلام العودة إلى لعب دور خارجي أوسع يُفقد ماكرون وبلاده الكثير من المصداقية كما ترى أنييس لوفالوا الكاتبة والباحثة في معهد الأبحاث والدراسات بشأن البحر الأبيض المتوسط والشرق الأوسط، خصوصا حين نادى بتشكيل تحالف للقضاء على حماس.
لا تملك فرنسا أيضا أي وسيلة حقيقية لتحقيق الحل الذي لطالما نادت به، وهو حل الدولتين، كما أنها تعلم يقينا أن مسألة تسليم غزة للسلطة الفلسطينية لا يقل صعوبة عن إنهاء المقاومة الإسلامية في القطاع.
يملك ماكرون إلى جانب كل هذه الأسباب سابقة الذكر سببا مهما لاتخاذ موقف مختلف ألا وهو أن استمرار الحرب يزيد انفجار الموقف داخليا بسبب تنامي الإسلاموفوبيا والعداء للسامية في آنٍ واحد على الأراضي الفرنسية.
لذا بات الرئيس الفرنسي مجبرا على البحث عن توازن دقيق لا يُغضب المسلمين ولا ينفر المجتمع اليهودي على السواء لتفادي تفاقم الاستقطاب الداخلي، وفي الوقت نفسه لمحاولة استعادة نفوذ باريس الضائع.
لقد أثبتت الأيام الأخيرة تخبط مساعي الأطراف التي حققت مكاسب فورية من إشعال التوترات العميقة في فرنسا أملا في الفوز بحصة من أصوات الناخبين على اليمين أو اليسار، والأهم أن الدعم الغربي الأعمى للاحتلال فتح الباب لوسطاء جدد بعيدا عن لندن وواشنطن وبرلين.
وتعد تلك فرصة في نظر ماكرون للعودة مجددا إلى المبدأ الديغولي القديم واستعادة السياسة الفرنسية التقليدية تجاه القضية الفلسطينية.
ولعل اتخاذ باريس موقفا مختلفا بطريقة راديكالية عن حليفتها واشنطن في ما يخص قرار المحكمة الجنائية الدولية يؤكد لنا أكثر فأكثر أن خط فرنسا الخارجي أصبح يخضع لحسابات أعقد بكثير من حسابات التحالفات الكلاسيكية. | https://www.aljazeera.net/politics/2024/5/21/%d8%aa%d8%ad%d9%88%d9%84-%d9%85%d8%ab%d9%8a%d8%b1-%d9%84%d9%85%d8%a7%d8%b0%d8%a7-%d9%82%d8%b1%d8%b1%d8%aa-%d9%81%d8%b1%d9%86%d8%b3%d8%a7-%d8%af%d8%b9%d9%85-%d9%85%d8%b0%d9%83%d8%b1%d8%a9 | 2024-05-21T16:35:26 | 2024-05-22T06:02:09 | أبعاد |
|
2 | التفكير مع وائل حلاق هل الدولة المستحيلة.. مستحيلة حقا؟ | يُصرِّح حلَّاق في كتابه “الدولة المستحيلة: الإسلام والسياسة ومأزق الحداثة الأخلاقي” بفكرته الأساسية الشهيرة، وهي استحالة مفهوم الدولة الإسلامية وتناقضه منطقيا.. فهل “الدولة الإسلامية” مستحيلة فعلا كما يذهب حلَّاق؟ | في وقت كانت الموجة الأولى من الربيع العربي وما استتبعته من تعديلات دستورية في عدة دول عربية وما حصل من سجالات حول موقع الإسلام أو الشريعة من هذه التعديلات الدستورية ومن الدولة عموما والصراعات السياسية والأيديولوجية بين التيارات الفكرية والسياسية العربية الإسلامية والعلمانية، ما زالت قائمة أو -على الأقل- ماثلة في الأذهان وحاضرة في السجال العام، في هذا الوقت المفصلّي في التاريخ العربي الحاضر، صدرت الترجمة العربية لكتاب الدولة المستحيلة الإسلام والسياسة ومأزق الحداثة الأخلاقي عام ٢٠١٤، ولعَلّ هذا المَلحَظ حول التوقيت غير ذي أهمية عند مؤلف الكتاب الذي أصدره في سياق اشتغاله الأكاديمي العام بتاريخ الشريعة، وهو الاشتغال الذي أنتج أعمالا سبقت هذا الكتاب وتلته.
لكن كتابه الأهم الشريعة النظرية والممارسة والتحولات الذي سبق الدولة المستحيلة في الإنجليزية، والذي يُشكِّل الأخير فرعا عنه واستكمالا له، لم يكن قد صدر بعد بالعربية حين صدر كتاب الدولة المستحيلة، وبهذا فقد الكتاب في النقاش العربي حوله أصلا مهمّا. لكن هذا السياق الذي يختلف أشد الاختلاف عن سياق صدور الأصل الإنجليزي، حدَّد طبيعة الاستقبال العربي للكتاب بشكل كبير في الإطار العام للصراعات السياسية والأيديولوجية التي سادت العالم العربي في هذا التوقيت؛ فهوجم الكتاب وانتُقد، أو أُثني عليه ومُدح، أو دُلِّس عليه وعلى مؤلِّفه استنادا إلى طغيان الموقف القَبْلِي من هذه الصراعات بشكل أساسي، دون التعرض غالبا لصلب أطروحته النظرية وأُطره الحاكمة أو محاكمتها وانتقادها؛ فتركّزت النقود التي قُدِّمت على بعض قشور الكتاب ونتائجه دون التعرض لصلب أطروحته كما أسلفنا.
أ الشكر موصول هنا للمترجم الدكتور طارق عثمان على ترجمته لهذا النص ووضعه في هامش ترجمة ما هي الشريعة؟.
ب وهذه المواضع متعدّدة حتى إننا لم نجد في نقلها ما يُفيد القارئ بقدر الإشارة إليها والإحالة عليها في الفصلين الأُوَل من الكتابين المذكورين الشرق والغرب والدولة المستحيلة.
جـ في هذا يقول جينو بألمعية فائقة إن أولئك الذين يَهُبُّون حاليا لمعاداة هذه الأوضاع، دون أن يُعوِّلوا في ذلك على أي مبدأ يرجع إلى منظومة عليا، عاجزون عن علاج هذه الفوضى واقعيّا، بل لعلهم يزيدون نارَها تأريثا حين يُغِذِّون السيرَ بعيدا في الاتجاه نفسه. انظر رينيه جينو عبد الواحد يحيى، أزمة العالم الحديث القاهرة مدارات للأبحاث والنشر، 2019، ص 163. | https://www.aljazeera.net/culture/2020/3/28/%d9%85%d8%b9-%d9%88%d8%a7%d8%a6%d9%84-%d8%ad%d9%84%d8%a7%d9%82 | 2020-03-28T12:41:55 | 2024-10-15T10:59:35 | أبعاد |
|
3 | هل الجنود بلا ضمير؟ وهل يستطيعون النوم بعد قتل الآخرين؟ | قليلة هي المصادر التي تبحث في الجُناة أنفسهم وفي المجرمين، أليس لهم ضمير؟ ألا يشعرون بالأسى والندم والذنب على ما فعلوا؟ هل يُقْدِم النّاس على الاعتداءات دون أن يشعروا بأي تناقض؟ | لعلّك قد مَررت أثناء تصفّحك لمواقع التواصل الاجتماعي بأحد المقاطع التي تُظهر مدنيين يُعذَّبون ويُعتَدى عليهم وتُنتهَك حقوقهم عبر التعذيب والإهانة، خاصة في مناطق الحروب والنزاع والثورات حيث السحل والتنكيل والإذلال وخروج الأمور عن السيطرة. كان آخرها مقاطع عديدة تداولها ناشطون على حسابات التواصل الاجتماعي حول إقدام بعض الميليشيات على تعذيب وإهانة مدنيين في أوكرانيا خلال الحرب الروسية-الأوكرانية الأخيرة.
وغالبًا ما تتناول الدراسات والمقالات جانب الضحايا أنفسهم، الأبعاد النفسية والاجتماعية المترتّبة على الاعتداء عليهم وانتهاك حقوقهم، لكن قليلة هي المصادر التي تبحث في الجُناة أنفسهم وفي المجرمين، أليس لهم ضمير؟ ألا يشعرون بالأسى والندم والذنب على ما فعلوا؟ هل يُقْدِم النّاس على الاعتداءات دون أن يشعروا بأي تناقض؟ هل ينامون جيدًا ويُمارسون حياتهم وكأنّ شيئًا لَم يكن؟
في مؤتمر الأبحاث الاجتماعية في الصحة النفسية في أمريكا اللاتينية، والذي أُقيم في جامعة لندن عام 2018، قدّم أحد الباحثين وصفًا لحالة مراهق من جنوب أمريكا يُعاني من الاكتئاب، كان هذا المراهق قد شارك بأعمال عنف تجاه المدنيين أثناء الاحتجاجات عام 2017 في فنزويلا. في إحدى المرات، هاجم المراهق مع أصحابه بيتًا لسيدة عجوز وقاموا بتقييدها ونهب منزلها، يستذكر المراهق هذه الحادثة بكونها نقطة فاصلة في تاريخه المَرَضي، حيث إن نظرات الذعر في عيون الجدّة -كما وصفها- قد أثارت الهلع في نفسه من سوء فعلته، وقد أخذ يتخيّل أن أحدًا يمكن أن يقوم بالفعل نفسه مع أحد أقاربه وهو ما لا يتمناه أبدًا.
تُشكّل لحظة التحوّل هذه بداية لتشخيص نشأ في عيادات الطب النفسي العسكري يُعرَف باسم الجراح الأخلاقية Moral Injuries، ورغم أن هذا التشخيص لم يُضَف إلى كُتيِّب الأمراض النفسية الأمريكي DSM-5، فإنه أسهم في معرفة جذور الاعتلالات النفسية عند الجنود، كالاكتئاب والاضطراب التالي للصدمة، وأسهم أيضًا في تبني خطط علاجية جديدة لأمراض نفسية لم تنفع معها العلاجات التقليدية. فما هذه الجراح أو الإصابات؟ وكيف نشأت؟ وما علاقتها بالمشاعر والأمراض النفسية؟ كل هذه الأسئلة ستكون محور جولتنا القادمة في ملف الطب النفسي العسكريّ.
قبل الحديث عن هذا التشخيص ونشأته، لا بدّ من الالتفات إلى الجَذر اللُّغوي له القادم من الكلمة الإنجليزية Moral أو كما يمكن ترجمتها إلى اللغة العربية بمصطلح الأخلاق الجمعية، والتي يمكن تعريفها بأنها الشيفرة الأخلاقية التي يتبناها الشخص وتكون متناسقة مع ثقافة وأخلاقيات الجماعة التي ينتمي إليها ابتداءً من العائلة وانتهاءً بالمجتمع، وتكون هذه الأخلاقيات متفقًا عليها بشكل ضمني أو صريح مثل المواد القانونية، ويتوقع من الفرد أن يتصرف طبقًا لهذه الشيفرة الأخلاقية1. أما مصطلح الجراح الأخلاقية فهو مرتبط بالطبيب النفسي الأمريكي جوهانثان شاي، والذي استخدمه لأول مرة في كتاباته عام 1994 كوصف لتجاربه مع الجنود الأمريكان خصوصا في مرحلة حرب الفيتنام في عيادته في بوسطن التابعة لبرنامج تأهيل الجنود، حيث لاحظ استمرار بعض الأمراض النفسية لديهم لعشرات السنين، ومقاومتها لطرق العلاج التقليدية. ويرى الدكتور شاي أن هذا التشخيص يجب أن يكون منفصلًا عن تشخيص الاضطراب التالي للصدمة على الرغم من تزامنهما في معظم الحالات2.
ويجب تحقق ثلاثة شروط حتى نستطيع وصف حالة ما بهذا التشخيص بحسب الطبيب شاي أولا أن تكون هناك خيانة أخلاقية عن طريق انتهاك الفرد لمنظومة المبادئ والقيم الأخلاقية التي يُؤمن بها، وثانيًا أن تصدر هذه الخيانة الأخلاقية من شخص يملك سلطة الاختيار، وثالثًا أن تحدث الخيانة الأخلاقية ضمن مواقف عالية الخطورة2,3. ويرى باحثون آخرون أن مصدر الاعتلال هو الذات وليس السلطة أو الفاعلية الأخلاقية، أي أن الإنسان في أي موقع قد تلحق به مثل هذه الجراح في حال تعرّض لموقف شكّل له صدمة ناجمة عن تصرفه بعكس ما تملي عليه أخلاقه2,3. إلا أنه في كلا الحالتين تتسبب المواقف بنقص ثقة المصاب في نفسه وفي المؤسسة التابع لها، وتزيد من فرص انتحاره ويأسه وتبنيه مواقف عنيفة2.
تحوّل العالم بشكل جذري بعد الحرب العالمية الثانية، وشمل هذا التحول اختلافًا في القيم العسكرية وتغيرات في تقدير قيم كالشجاعة والتضحية والإقدام إلى تقدير فكرة الضحية لحروب بلا مُبرّرات. فإذا كانت أوروبا قد قاتلت في الحربين العالميتين للدفاع عن الأرض، فقد أصبحت الحروب بعد الحرب العالمية الثانية تُفتعَل لأهداف غير مبررة وفقًا لمناخ فكري جديد فرضه صعود ثقافة عالمية ضد الاستعمار والقوى المستعمرة.
يرجّح الباحثون أن هذه التحولات في شكل الحروب الجديدة وبروز حركات مدنيّة رافضة للحروب والتدخلات العسكرية منذ حرب الفيتنام، لها دور أساسي في ظهور تشخيصات مثل المتلازمة التالية للصدمة أو تشخيص مثل الجراح الأخلاقية. وإن كان الطب النفسي لا يزال لا يعترف بمثل التشخيص الأخير لكونه متعلقًا بمنظومة أخلاقية خارج حقل دراسة الطب، إلا أن بروز مصطلح الجراح الأخلاقية بعد حرب الفيتنام واجتياح العراق وأفغانستان، كان له ارتباط وثيق بطبيعة هذه الحروب من جهة، وتشخيصات لأمراض نفسية من جهة أخرى.
يرى الباحث الأمريكي بريت ليتز وزملاؤه -والذي اشتُهِر بأبحاثه في مجال الجراح الأخلاقية لدى الجنود الأمريكان- أن هناك عواملَ مشتركةً بين الحروب المذكورة آنفًا أسهمت في توليد تساؤلات أخلاقية لدى الجنود، أهمها غياب وجود عدو واضح أو جيش مقابل، ومهاجمة المدنيين في كثير من الأحيان، بالإضافة إلى أساليب وأسلحة القتال المبالغ في عنفها وشدتها1. وعلى الرغم من أن هؤلاء الجنود مدرَّبون على العنف والهجوم دون التفكير بأي أسئلة أخلاقية، وأن العنف والقتل هو جزء مبرر بالنسبة إلى طبيعة عملهم، بالإضافة للبيئة والثقافة القتالية التي ينشؤون عليها وتأثرهم بسلوك الجماعة العسكرية والقائد؛ فإن انفصالهم اللاحق بعد انتهاء المهمة وعودتهم إلى حياتهم الطبيعية يُفقد كل هذه العوامل قدرتها على تحييد السؤال الأخلاقي، ويواجهونه مجردين، ما يقود لاحقًا لأمراض نفسية طويلة الأمد1.
إن أثر الجراح الأخلاقية لم يدرس بشكل مباشر، إلا أن كثيرًا من الدراسات أشارت إليه عن طريق دراسة المتلازمة التالية للصدمة عند الجنود. فعلى سبيل المثال، تعد نسبة الجنود الذين شُخّصوا بالمتلازمة ممن ارتكبوا فظائع في الحرب خصوصا كالقتل بوسائل مفرطة بالعنف، أكبر من نسبة الجنود الذين شاهدوا فظائع الحرب دون المشاركة فيها بشكل مباشر1. وقد وُجد ارتباط بين هذه الحوادث وأعراض متلازمة التالية للصدمة المتعلقة بإعادة اختبار الحدث والتجنب، وليس أعراض التأهب المرتبطة عادة بمناطق الخوف في الدماغ والتعرض لتجربة كادت أن تودي بحياة الشخص، بمعنى كون المصاب هو المرتكب للعنف، أي إنّ هناك فرقًا بين الصدمة النفسية التي يتعرّض لها الإنسان حين يكون هو الضحية، وبين الصدمة النفسية التي يتعرّض لها الإنسان حين يكون هو المُجرِم أو المُرتكِب للعنف1. وما زالت الدراسات قائمة لدراسة العلاقة بين ارتكاب الفظائع، والتوتر الدائم وفقدان الإيمان والعنف المنزلي والرغبة في الانتحار أو ارتكاب جرائم أخرى بعد العودة إلى المجتمع المدني.
تجدر بنا الإشارة إلى أن ثمة وظائف أخرى قد تؤدي إلى جراح أخلاقية، مثل وظائف خط الاستجابة الأوّل كالمسعفين والصحفيين في الحروب الذين قد يواجهون مواقفَ يحتاج فيها جريح أو شخص في وضع خطر إلى مساعدة ولا يستطيعون ذلك، بالإضافة لوظائف أخرى كالعمل في أجهزة الشرطة واستخدام العنف المفرط أو القتل تجاه المدنيين، أو مثلا المعلمين الذين لا يستطيعون حماية التلاميذ في حالات الهجوم على المدارس، أو الممرضين الذين يقومون بالقتل الرحيم -في الدول التي تسمح بذلك- لأسباب هم غير مقتنعين بها4. ويبدو أن العامل المشترك بين جميع هذه الوظائف هي إما وجود سلطة ما يتبع لها الإنسان ويفقد إيمانه بها لتجاوزاتها الأخلاقية، وإما مواجهة موقف تكون فيه حياة شخص آخر في خطر ولا يستطيع حمايته، ومن ثَمّ يدخل في دوامة من الأعراض النفسية بسبب الجرح الأخلاقي مثل الشعور بالذنب أو الاكتئاب وغيرها.
بحسب الباحث ليتز وزملائه فإنه بإمكاننا فهم الجراح الأخلاقية من خلال مقاربتها مع النظريات التي تفسّر المتلازمة التالية للصدمة، فمثلا تفسّر النظرية الاجتماعية الإدراكية حدوث المتلازمة بسبب حصول خلل في المنظومة التي تحدد نظرة الإنسان لنفسه والعالم بعد تعرضه لصدمة ما1. تتمثل هذه الاعتقادات بخيرية العالم ووجود المعنى واستحقاق النفس البشرية للكرامة والتقدير، وفي حال عدم قدرة الإنسان على تجاوز الانتهاك الأخلاقي الذي ارتكبه وفي حال انعدام وجود الخبرات الكافية لديه لإيجاد معنًى بديل من الحدث وعجزه عن تبريره، فإنّه حينها يطوّر أعراض المتلازمة التالية للصدمة، ويفقد الثقة بنفسه وبالناس، ما يُعرّض حياته وعمله وعلاقاته للتعطيل والمشكلات1.
كذلك الأمر بالنسبة إلى الجراح الأخلاقية، عندما لا يستطيع الإنسان تجاوز حادثة ما أثّرت في منظومته الأخلاقية ولا يستطيع التعامل معها وتبريرها ضمن سياقه الأخلاقي، حينها تسيطر عليه مشاعر الذنب والعار، وقد تتطور بعدها لأمراض نفسية أخرى كالقلق الدائم، كما يمكن فهم الجرح الأخلاقي بوصفه استبدالًا لمشاعر الخوف والقلق من إمكانية أن يتكرّر معنا هذا، بالشعور بالخزي أو العار1.
وقد حاول الباحثون تفسير هذه الإصابات بشكل آخر من خلال مقارنة الأشخاص الذين شُخّصوا بما يُعرف بالجراح الأخلاقية في مقابل الأشخاص الذين تعرضوا للظروف نفسها ولم يصابوا بذلك، فوجدوا أربعة عوامل أساسية تُسهم في حصول المرض أولًا يختلف النّاس في نمط العزو التفسيري للأحداث، فبعض النّاس يرون أن ما قد حدث لهم سببه عوامل خارج عن إرادتهم وسيطرتهم، وبعضهم يرون أنّ ما جرى سببه عوامل ذاتية هُم أنفسهم مسؤولون عنها، وهؤلاء يشعرون بالذنب والعار. ثانيًا يختلف النّاس في مدى استمرارية التفكير بالمشاعر السلبية، حيث يستطيع بعض الأفراد السيطرة على أفكارهم، فيما يعجز آخرون عن إيقاف الأفكار المتولدة عن الاعتداء الذي ارتكبوه، وهؤلاء يُعانون أكثر من الجرح الأخلاقي. وثالثًا التوجّس والحساسية تجاه الأحداث المقلقة، والتفكير فيها قبل حدوثها. وأخيرًا قدرة الفرد أو عجزه عن التأقلم مع الظروف المباغتة والتجارب السيئة.
كيف يمكننا معرفة الحكم الأخلاقي من غيره أو تعريفه؟ لطالما تساءل الفلاسفة والباحثون في العلوم الإنسانية عن ذلك، ولكن بشكل مقتضب يتناسب مع مجال المقالة يمكننا تلخيص بعض آراء الباحثين بأن الحكم الأخلاقي هو ما تتفق عليه جماعة ما بكونه خيارًا يستحق الثواب، والحكم غير الأخلاقي هو الخيار الذي يستحق العقاب5. ويمكن كذلك التفريق بين ما هو أخلاقي مما هو غير أخلاقي من خلال المشاعر التي ترتبط بخيار ما، ومن هنا يمكننا الالتفات إلى أهم الادعاءات البحثية التي تحاول دراسة علاقة المشاعر بالحكم الأخلاقي وغير الأخلاقي. قدّم الباحثان يانا أفراموفا ويويل إنبار في ورقة بحثية5 تلخيصًا لثلاثة ادعاءات رئيسية تربط الأخلاق بالمشاعر، تتلخص بالآتي
بعد دراسة هذه العلاقات بين المشاعر والحكم الأخلاقي على فعل ما، فيمكننا الآن الانتقال للحديث عن نوعين من المشاعر التي قد يكون لديها دور في الجراح الأخلاقية. تنقسم المشاعر المرتبطة بالأخلاق إلى مشاعر موجهة تجاه الذات أو تجاه الآخرين، وعادة ما تركّز الأبحاث على المشاعر الموجهة للذات كالشعور بالذنب والشعور بالعار بسبب ارتباطهم بشكل مباشر بالجراح الأخلاقية 1. ويبرز ذلك بشكل خاص مع الشعور بالعار الذي يختلف عن الشعور بالذنب، لأنه غالبًا عندما يشعر أحدنا بالذنب يكون ذلك دافعًا لتغيير السلوك وإصلاح الخطأ، أما الشعور بالعار فيولد عدائية تجاه الغير والذات ودخولًا بدائرة مفرغة من جلد الذات دون تقويم السلوك أو تغييره بسبب شعور الإنسان بالعجز أو أن غيره هو المسؤول عن هذا الذنب الدائم الذي لا يمكن غفرانه. وعلى الرغم من أن الشعور بالذنب هو شعور اجتماعي محفز لتحمل المسؤولية وإصلاح السلوك، فإن بعض الدراسات وجدت ارتباطه بصحة نفسية أقل لدى الجنود، وقابلية لتطوير المتلازمة التالية للصدمة، خصوصًا عندما يكون شعورًا عامًّا غير محدد تجاه فعل واحد يمكن إصلاحه6. ولكن، يبقى الشعور بالعار محفزًا أقوى للأمراض النفسية، ويُولّد أعراضًا أكثر شدة من الشعور بالذنب6.
وبالحديث عن الشعور بالذنب والعار، واللذين يمكن تسميتهما كذلك بمشاعر الوعي بالذات المؤلمة، يمكننا الآن الانتقال للحديث عن مشاعر أخرى ترتبط بالجراح الأخلاقية، والتي تتلخص في الشعور بالغضب والاشمئزاز والازدراء. أما عن شعور الغضب، فهو من أكثر المشاعر التي دُرِست في السياق العسكري6، وعادة ما يكون مرتبطًا بكسر لقاعدة أخلاقية عن سبق إصرار وترصد، أو أن تتقيد حرية اختيار شخص بسلطة ما وتؤدي إلى سلوك غير أخلاقي. ومثال ذلك ارتباط الغضب بالقتل المتعمد في الحروب، والذي سبق أن ذكرنا ارتباطه بأعراض أكبر للجراح الأخلاقية6. أما بالنسبة إلى الشعور بالاشمئزاز، فقد وُجد ارتباط بينه وبين كسر قواعد ومحرمات اجتماعية، كالأمور المتعلقة بالتحرش الجنسي والاغتصاب أو ممارسات مقززة متعلقة بتقاليد الطعام والحياة اليومية، وقد وجدت الأبحاث أن هذا الشعور أقل استجابة من غيره للعلاج النفسي6. وأخيرًا يتولد شعور الازدراء بعلاقة الشخص مع السلطة التراتبية، إلا أنه الشعور الأقل فهمًا للآن في الدراسات، لكن يمكن اعتباره مزيجًا من الاشمئزاز والغضب تجاه سلطة ما6.
تحدَّثْنا سابقًا عن ارتباط الجراح الأخلاقية بالمتلازمة التالية للصدمة، وفي هذا الجزء من المقالة سنتحدث عن ارتباطات أخرى لهذا التشخيص مع أمراض نفسية أخرى، وعلاقة المشاعر الأخلاقية التي تحدثنا عنها سابقًا بتوليد التشخيصات النفسية. وسنركز بشكل أساسي على أربعة تشخيصات المتلازمة التالية للصدمة، والاكتئاب، والقلق، وأخيرًا الانتحار.
يذكر الطبيب النفسي شاي أنّ الجمعية الأمريكية للأمراض النفسية كانت ترفض سابقًا أي تشخيص يتحدث عن تغييرات دائمة في الشخصية والإدراك بعد التعرض لصدمة ما، لذلك -سابقًا- تشخيص مثل المتلازمة التالية للصدمة المركبة Complex PTSD كان مرفوضًا، وكان يُسمَّى باضطراب القلق الشديد غير المعرّف، أما اليوم في الكتيب الخامس للأمراض النفسية فقد تم تغيير مكان تشخيص المتلازمة من مجموعة أمراض القلق، وتم التركيز على التغيّر في الإدراك والمِزاج المرتبط بصدمة ما يتبعها لوم شديد للذات6. ويكمل شاي أنه للآن فإن تشخيصًا مثل الجراح الأخلاقية لم تتم إضافته على الرغم من تشابهه مع المتلازمة التالية للصدمة. أما نقاط الاختلاف بين التشخيصين فتتلخص بالتالي تنبع المتلازمة التالية للصدمة من موقف خطير كاد أن يودي بحياة الشخص، أي أن الشخص هو الضحية أو الشاهد على الموقف، أما الجراح الأخلاقية فتنبع عادة من موقف تُكسَر فيه قاعدة أخلاقية ما، ويكون المريض غالبًا هو الجاني نفسه. وترتبط المتلازمة بمشاعرَ مثلِ الخوف والهلع وفقد الأمان، بينما ترتبط الجراح الأخلاقية بمشاعر الذنب والعار وفقد الثقة. وأخيرًا تتشابه الأعراض لكلا التشخيصين، إلا أن الجراح الأخلاقية تفتقر لأعراض التحفيز المستمر2. وقد وجدت بعض الدراسات أن الجراح الأخلاقية ترتبط وتتزامن مع ما يقارب 9.4 من حالات المتلازمة التالية للصدمة 4.
أما بالنسبة إلى مرضى الاكتئاب والقلق، فكذلك وجدت عدة دراسات على الجنود وجود ارتباط وثيق بين التشخيصين وملامح الجراح الأخلاقية وارتباط ما يقارب 5 من حالات الاكتئاب بهذا النوع من الجراح4. وقد ارتبط تشخيص القلق بشكل خاص مع الجراح الأخلاقية الناجمة عن الشعور بخيانة منظومة أخلاقية ما للجندي وإجباره على القيام بما هو غير أخلاقي4. أما بالنسبة إلى حالات الانتحار، فقد ارتبطت الجراح الأخلاقية بـ2 من حالات الانتحار4، وعلى الرغم من كون هذه النسب قليلة نسبيًّا، فإنها مهمة إحصائيًّا، وتشير إلى روابط ما بين الأمراض النفسية وسمات الجراح الأخلاقية.
وبالنسبة إلى التعامل الكلينيكي مع الجراح الأخلاقية للأطباء الذين يعترفون بوجودها، خصوصًا في العيادات العسكرية، فإنها غالبًا ما تعالج بحسب الأمراض النفسية المتزامنة معها، لكن بالتركيز على المشاعر التي ولّدتها مثل العار والذنب عوضًا عن الخوف، وبالتركيز كذلك على مشاعر أخلاقية إيجابية مثل مسامحة الذات والتعاطف المجتمعي بالقيام بأعمال مفيدة اجتماعيًّا للآخرين3,6. أما بالنسبة إلى الباحث لتز وزملائه، فقد قام بتطوير مجموعة خطوات علاجية للتعامل مع الجراح الأخلاقية تتلخص في الآتي أولًا، التعامل مع الافتراض بأن الأفعال شريرة أو خيّرة بالمطلق، والاعتماد على المنطقة الرمادية التي تحصل فيها الأحداث لإضفاء تفسيرات مختلفة لها. ثانيًا، اتّباع تقنيات علاجية خاصة للتعامل مع التشخيص، مثل التأكد من حسن الصلة بين المريض والمعالج بسبب حساسية الموضوع، وتحضيره للخطة العلاجية وتزويده بأدوات للتعامل مع الأعراض المترافقة مع الجرح الأخلاقي، والعلاج بالصدمة للتحفيز على عدم تجنب المشاعر المرتبطة بالحدث، بل التعامل معها. بالإضافة إلى الحوار المستمر للوصول إلى مسامحة الذات وتوطيد العلاقات بين المريض والمعالج والمجتمع، وأخيرًا وضع خطط طويلة الأمد لمستقبل وحياة المريض ضمن رغباته وإرادته.
| https://www.aljazeera.net/sukoon/2022/3/28/%d9%87%d9%84-%d8%a7%d9%84%d8%ac%d9%86%d9%88%d8%af-%d8%a8%d9%84%d8%a7-%d8%b6%d9%85%d9%8a%d8%b1%d8%9f-%d9%88%d9%87%d9%84-%d9%8a%d8%b3%d8%aa%d8%b7%d9%8a%d8%b9%d9%88%d9%86-%d8%a7%d9%84%d9%86%d9%88%d9%85 | 2022-03-28T09:54:57 | 2024-06-06T11:49:46 | أبعاد |
|
4 | ابنك المراهق يحاول إيذاء نفسه أو الانتحار.. ماذا تفعل لمنعه؟ | حين يُمسك المرء بآلةٍ حادة وينتوي جرحَ نفسه بها فمسعاه هو أن يهدأ من خلال الألم، لكن هل هذا السلوك يعد مرضًا أو اضطرابًا أم هو نتاج صورةٍ أكبر؟ | بشكلٍ أو بآخر، يؤذي البعضُ منا نفسه متعمدًا بسلوكياتٍ قد تبدأ بالتدخين أو الكحول أو حتى الأفكار السلبية عن ذواتنا، أو إنفاق مالٍ لا نمتلكه من الأساس، لكن، سواء أكنت صديقًا أم أبًا أم مرشدًا في مدرسة، قد يتناهى إلى علمك أن شخصًا ما يؤذي نفسه بجرح ذراعه متعمدًا، أو بحرق نفسه أو شدِّ شعره أو حتى قرع رأسه في جدار أو أن يضرب جسده. أن يُلحق المرء أذًى متعمدًا لجسده هو نقيض غريزة النجاة والبقاء على قيد الحياة، ويُشيع وجوده بين المراهقين. في هذه الحالة، لا تتضرر غالبًا أنسجة الجسم بشكلٍ يتطلب تدخلًا طبيًا، لكنه القلق حيال إيذاء النفس المتعمد غير الانتحاري، أو ما يُعرف اختصارًا بإيذاء النفس، بل هو سلوكٌ يتعدى سلامة الجسد والإصابة نفسها، ويكون دلالةً على اضطرابٍ أعمق 1.
قد يقودك التفسير الأول إلى أن منبع هذا السلوك هو حيلةٌ مخادعة لجذب الاهتمام، ولوقتٍ طويل ظنَّ مختصو علم النفس أن المشاعر والأفكار المرتبطة بإيذاء النفس تكون في الأغلب استجابةً لشعورٍ بالتوتر يُرهق الشخص، لكن أُجرِي بحث جديد فُحصتْ فيه عينات اللعاب لمجموعةٍ كبيرةٍ ومتنوعة من المراهقين، أظهرتْ هرمون الإجهاد -الكورتيزول- أقل عند المراهقين الذين يؤذون أنفسهم، كذلك قدرتهم على تحمُّل الألم أعلى من المعتاد. على سبيل المثال، في وسعهم وضع أيديهم في ماءٍ مثلَّج وقتًا أطول من الأشخاص الذين لا يؤذون أنفسهم.
قدَّم أستاذ الباثولوجيا النفسيَّة بجامعة هايدلبرغ في ألمانيا، كريستيان شمايل، محاضرةً عن البيولوجيا العصبية لإيذاء النفس، يوضح فيها أنه يدور في أدمغة المراهقين الذين يؤذون أنفسهم نشاط ذهني وفسيولوجي مختلف حيال الألم ومرأى الدماء. يفزعُ أغلب المراهقين حين يلمُّ بهم ألم جسدي أو حين يرون جروحًا تنزف من أجسادهم، يفاقم ألمهم من حالة تشمل مشاعر الحزن والغضب، ويستجيب البالغون استجابةً مماثلةً تقريبًا، إذ يباغتنا الإحباط والألم حين نمر بموقفٍ عصيب ونجدُ أنفسنا نلوي أصابعنا أو نعض شفاهنا. لكن المراهق الذي يُمسك آلةً حادة ويقرر جرح نفسه تراوده مشاعر وأفكار مختلفة2.
حين يُمسك المراهق بآلةٍ حادة وينتوي جرحَ نفسه بها فمسعاه هو أن يهدأ من خلال الألم؛ يتبدد غضبه وحزنه وإحباطه حين يقطع جرحًا في رسغه أو فخذه أو يلسع نفسه بعود كبريتٍ متقد. يغمره الارتياح، وفي ذيل الألم يأتي الرضا والسعادة والراحة. بمعنى أن الدافع الأساسي لإيذاء النفس هو التنظيم العاطفي، الرغبة في تطويع مشاعر بعينها، وقد كان السبب العصبي لسلوكٍ كهذا لغزًا حتى وقتٍ قريب.
يجرِّب المراهق أحيانًا، بمشاعره سريعة التقلُّب، تقنيات غريبة للتحكم في مشاعره. قد يحاول مراهقون كُثر جرحَ أنفسهم في نوبة غضب، كأن يضرب رأسه بالجدار، أو يلوي أصابعه بقوة، لكن السلوك لا يستمر في الأحوال الهادئة الطبيعية إلى حدّ أن يكوِّن نمطًا ثابتًا؛ لأنه لا يسعى من خلال هذا الأذى إلى أن يجني تأثيرًا مهدئًا أو إيجابيًا. وحده من يستمر في إيذاء نفسه وتشكيل نمط على المدى البعيد من يجد راحةً ومتعةً برؤية الدم أو الشعور بالألم، ويقلل النشاط في جزءٍ من الدماغ يُسمى اللوزة الدماغية، التي تتحكم وتنذر الإنسان بالخوف أو القلق والمسؤولة عن الاستجابات الحسية لهما.
لهذا التفسير العصبي جانبٌ إيجابي يتمثل في معرفة أن مَن يؤذي نفسه لا يسلك سلوكًا مَرَضيًا أو خبيثًا أو يسعى لنيل اهتمامِ مَن حوله، ولكنه يمثل مشكلة في الاستجابات العصبية الحيوية التي تحدثُ في دماغ الشخص. لكنْ لهذا التفسير جانبٌ سلبي؛ إذ قد يبدو منه أن تقويم هذا السلوك أو التخلّص منه هو أمرٌ مستحيل لأنه لا علاقة له بالسياق العاطفي؛ ما يجعله غير قابلٍ للعلاج النفسي. لكن ما نحتاج لمعرفته هو أن جهازنا العصبي يرتبط بأفكارنا ومشاعرنا ترابطًا معقدًا؛ وصف أي نشاطٍ عصبي يحدثُ في أدمغتنا هو استكشاف لأفكارنا وعواطفنا وليس شرحًا لها.
يُشير شمايل إلى وجهٍ آخر من أوجه دراسته، أن المراهقين الذين يؤذون أنفسهم لا ينتابهم التوتر والقلق بالمستويات الطبيعية؛ الشائع أن الكورتيزول -الهرمون الذي يُفرز عند الإجهاد- له أثرٌ ضار على صحتنا، لكنه يمنحنا إحساسًا بالإثارة والتيقظ، إلى حدّ أننا نشعر بالخمول حين ينخفضُ بشكل كبير. لذا، فإن أحد مساعي المراهق الذي يؤذي نفسه هو البحثُ عن مستويات الكورتيزول الطبيعية، إثارة واندفاع طبيعيين مطلوبين.
ينطلقُ الكورتيزول عادةً في أوقات مختلفةٍ من اليوم، لكنه يبلغُ أَوجه في الصباح الباكر. عندما تكون المستويات مرتفعة، يحاول الجسم الحفاظ على استقراره أيًّا كانت العوامل المحيطة، فتُخفف مستويات الكورتيزول بتأثير مهدئ داخلي. مستوى الكورتيزول المنخفض لدى المراهقين الذين يؤذون أنفسهم يزعج دورة الاستقرار هذه. ونظرًا لافتقارهم إلى المستوى الطبيعي من الكورتيزول ونظيره المهدئ، فإنهم يلجؤون لإيذاء أنفسهم لرفع مستويات الكورتيزول، ولتخفيف وطأة المشاعر السلبية. لذا، فإن شمايل يُشير إلى أن ما قد يحتاج إليه المراهقون الذين يؤذون أنفسهم هو مزيد من الضغط في شكل تحفيز ودينامية2.
الخبر السار هو أنه عند الإقلاع تمامًا عن إيذاء النفس نتيجةً للعلاج أو النضج الذاتي، فإن الاستجابة العصبية تعود إلى طبيعتها؛ لا يعود من يؤذي نفسه هادئًا أمام منظر الدماء، ولا يشعر بالإكراه المندفع نحو قرار إيذاء نفسه أو جرحها في حالة الحزن أو الوحدة أو الإحباط.
في الأساس، يعدُّ سلوك إيذاء النفس عَرضًا ثانويًّا لاضطرابٍ أساسي، فهو في حد ذاته ليس مرضًا أو اضطرابًا، بل نتاج صورةٍ أكبر، قد يكون مرتبطًا بالقلق الحاد أو الاكتئاب أو اضطرابات الأكل أو تدني احترام الذات أو اضطراب الشخصية الحدية أو نتيجة الإهمال العاطفي. يلجأ الفرد إلى إيذاء نفسه سعيًا لتهدئة شعورٍ غامرٍ من قلقه الأساسي، أو لمحاولة إدارة مشاعره عمومًا، في حالة الاكتئاب مثلًا، قد ترجحُ كفة أن يشعر بأي شيء على ألَّا يشعر بأي شيءٍ على الإطلاق.
يسردُ الطبيب النفسي المتخصص في أبحاثه عن فقدان الشهية وإيذاء النفس، ستيڤن ليڤنكرون، في كتابه جرح كيف نفهم سلوك إيذاء النفس ونتغلَّب عليه؟ لماذا قد يُقدِم شخص ما على إيذاء نفسه، إليكَ الصورة التالية التي تُجيب عن هذا السؤال.
حسنًا، بعد أن عرفنا الأسباب والدوافع التي قد تدفع بشخصٍ ما لإيذاء نفسه، ما هي الخطوات المناسبة التي يجب أن أتّبعها للتحدّث مع الشخص الذي يؤذي نفسه؟ وكيف أتصرّف مع صديقي الذي يؤذي نفسه؟
لا تُسيء الفهم ولا تقفز إلى أي استنتاج سابق دون محاولة إجراء حوارٍ هادئ مع من يؤذي نفسه. ضع في اعتبارك الوصمة الاجتماعية التي تُحيط بهذا السلوك، وخوف الشخص من التعبير عنها صراحةً في أول محاولةٍ للحديث معه. قد تفشل المحاولة الأولى والثانية، لذا كن صبورًا وامنحه وقته ومساحته ليعبِّر عما بداخله في الوقت الأنسب له. لا تُشعره بأن ما يفعله هو ضربٌ من الجنون أو أمرٌ لا يُصدق؛ لأنه مذعور ومحاصرٌ داخل نفسه بالفعل، وقد يؤدي انتقاده أو لومه إلى مزيدٍ من الانخراط في سلوكه. وتذكَّر أن إيذاء النفس بأي طريقة هي ليست محاولات انتحارية مميتة، لذا فالتروي في الحديث لن ينتهي إلى نتيجةٍ كارثية.
سيُجيبك على الأرجح في أول مرةٍ حين تسأله عن سبب جرحه لنفسه أنه لا يعرف السبب، أو أنه كان متوترًا فحسب. وهو على الأغلب صادقٌ فيما يقول، لذا فإن الوصول لحل المشكلة يتطلب صبرًا وفهمًا ودراسةً عميقةً لأسبابه، وكل هذا ستتمكن من الوصول إليه بحوارٍ هادئٍ متكرر، لا تُظهر أثناءه نفورك أو غضبك من سلوكه. ضع في اعتبارك أن الطفل والمراهق ليس متقدمًا في تعبيره اللغوي واللفظي عن نفسه، وأنه من المنطقي أن يلجأ إلى سلوكياتٍ تعبِّر عما يمر به من اضطراب، وحين يعجز المرء عن التعبير عن مشاعره في جملٍ منطوقةٍ واعية، فإنه سيجد منفذًا لها، لذا فكلما زادتْ حدة إيذائه لنفسه، تكون دلالةً على مدى الصراع الذي يضطرم في داخله.
إن كنتَ أبًا فثقِّف نفسك بشأن سلوكيات إيذاء النفس، وتواصل مع مختصٍّ نفسي لتعبِّر له عن مخاوفك، وهي الطريقة الأنسب لبداية علاج طفلك. وإن كنتَ صديقًا مقربًا فتحدث معه بهدوء، وشجعه على طلب المساعدة دون خجل. كن صبورًا؛ يستغرق تقويم سلوك إيذاء النفس وقتًا طويلًا، ويجب معرفة المحفزات الأساسية والدوافع ومعالجتها قبل أن يتمكن المرء من التعافي. ما من أدوية أو طرق سحرية تُخفي هذا السلوك، وقد يستغرق العلاج وقتًا يمتد من أسابيع إلى شهور قبل أن يظهر أي تحسن. الهدف النهائي هو أن يجد المرء، مراهقًا كان أو طفلًا، آليات صحية ليتعامل بها مع مشاعره، وأن يظل في مأمنٍ من الأذى4.
اقتراح أن يتوقف وحسب عما يفعله هو اقتراحٌ لا يُساعد ويُضعف موقف من يؤذي نفسه، بل يُظهر عدم فهمٍ لما يمر به؛ لأن إيذاء النفس -كما ذكرنا- هو لغةٌ تعبيرية في حد ذاتها، وليس مجرد نشاط يفعله في وقت نشاطه. قد يبدو من الغريب اقتراح وسيلةٍ بديلةٍ سواءً للتأقلم مع الضغوطات أو للإحساس بأي شيءٍ؛ لأنها فكرةٌ قد لا تنجح بدايةً لأنها لن تساعد في لحظة الرغبة في أن يجرح المرء نفسه، فلا يُسعفه البديل، أو لأنه وقتها لا يكون عاقدًا العزم على التوقف نهائيًّا عن إيذاء نفسه، أو لأن هذه البدائل لم تحلَّ جذر المشكلة ولم تعالجها من الأساس.
قبل محاولة استبدال السلوك المؤذي جسديًّا، علينا أن نعدد لأنفسنا الأسباب التي تدفع المرء إلى جرح نفسه. لن يفيد الاندفاع والرغبة والقرار الحاسم للإقلاع عن هكذا سلوك واستبداله بآخر صحي إن لم نتوغل في قلبه ونفهم ما يغذي الدافع الأول للسلوك. يُشبه الأمر محاولة تغطية رائحة عفنة بنشر رائحةٍ حلوة دون محاولة إيجاد مصدر العفن، والامتناع عنه دون استبداله هو وصفةٌ فاشلة.
حاوِلْ معه خلال حوارٍ هادئ استكشاف دوافعه لإيذاء نفسه، متى بدأت ومن أين أتت وأي أفكارٍ تحثه على هذا السلوك. حاوِلَا معًا تحديد المشاعر أو الأماكن أو المواقف التي تثير هذه الرغبة بالتحديد، فهم ما يمر به قبل إيذاء نفسه هو خطوة مهمة في تقويم هذا السلوك وقبل اللجوء إلى مختص نفسي. اطرح أسئلةً مثل لماذا يجرح نفسه؟ وما هي توقعاته من جرحه لنفسه؟ إذ إن التفكير في هذه التفاصيل هو أولى خطوات طريق استبدال السلوك3.
قبل اللجوء إلى مختص نفسي، أو حتى العزم على الاستعانة باستشارة طبيب نفسي، يُوصَى بعدد من البدائل التي من الممكن أن تُساعد في تقليل وتيرة إيذاء النفس حتى تختفي بشكلٍ كامل
يتعلق هذا السلوك بالأنماط الثابتة، مثل أماكنَ أو أوقاتٍ بعينها يشعر فيها المرء بتلك الرغبة غرفة النوم أو دورة المياه مثلًا، أو أدوات يحملها بشكل دائم وتستخدم في جرح نفسه مبرد أظافر، مشرط، مفتاح...، تغيير هذه التفاصيل والانتباه إليها أمر أساسي، إن كان ممكنًا إخراجها من الغرفة، أو من الحقيبة الشخصية. كذلك الانتباه إلى أنه فور الشعور بالراحة والاطمئنان للمكان أو الوقت المعتادين لجرح نفسه وبادَرَتْه الرغبة المُلِحّة، فعليه الخروج من مكانه، أن يغادر المكان برمته، أو يجلس بصحبة أحدهم، أو يغير الغرفة؛ الأرجح أنه لن ينتهي به المطاف إلى إيذاء نفسه وقتها إن أبعد نفسه عن تلك المساحة.
أجسامنا تساعدنا بشكل طبيعي على التعامل مع المشاعر الصعبة؛ التخلص من المشاعر التي تحثه على إيذاء نفسه بالبكاء دون حرج أو خجل. غسيل الصحون أو أعمال المنزل الرتيبة بشكل عام هي مصدر مقترح من مصادر الاسترخاء؛ نظرًا لما فيها من تَكرارٍ كبير، مع إضافة قائمة من الموسيقى المفضلة أو بودكاست شيق، وسينشغل وقتًا طويلًا.
الكتابة وسيلة فعالة للتعامل المباشر مع المشاعر وفهمها، أي نوع من أنواع الكتابة. يُنصح بتتبع المحفزات طوال اليوم ومراقبتها، مثلًا الإشارة إلى موقف سيئ أو شعور ثقيل من بدايته وتتبعه مع الوقت، يُساعد هذا في تحديد متى تكون الرغبة في أَوجها وكيف يشعر وقتها. من الأفضل الدقة في توصيف الحالة المزاجية أيضًا، إن كانت مثل مجرد حكة مزعجة أو أشبه بالبركان المتوقد، في الحالتين، سيكون الوصف مريحًا عند إطلاق العنان لرغبته في شكل كلمات وأوصاف بدلاً من تركها تتفاقم في داخله.
ابحث عن شيءٍ صغير يناسب راحة اليد، صخرة صغيرة، صدفة ناعمة، كرة ضغط، أي شيء يبثُّ إحساسًا في النفس؛ ينبع الدافع لإيذاء النفس أحيانًا من الشعور بأن الشخص لا يشعر بشيء ولا يقفُ على أرضٍ ثابتة شعوريًّا، يمكن لإمساك صخرة أو صدفة أو أي شيء آخر أن يخلق إحساسًا بالأرض، بالتأصل في المكان؛ ما يساعد على تشتيت الذهن عن إلحاحه الأصلي.
إحدى التوصيات أيضًا هي الانتظار عشرين دقيقة بعد أن يُقرر المرء أنه سيجرح نفسه، خلالها يكون بوسعه الاتصال بصديقٍ أو مراسلة شخصٍ عزيز موثوقٍ فيه، ليس بالضرورة لإخباره عما يجول في باله تلك اللحظة، بل قد ينتج عن الاتصال تشتيت الذهن وتقرير أمرٍ آخر مثل الذهاب للتجوّل معًا أو الخروج إلى مكانٍ ما. حتى الاتصال أو ترك رسالة في حد ذاته قد يقلل الوحدة، أو حتى خلالها يمكن تشتيت نفسه بطهو شيءٍ ما أو مشاهدة فيلم أو الاستحمام، إن مرت العشرون دقيقة واجتازها بنجاح، فالأرجح أن القرار سيتغير مع خفوت الرغبة والتشتيت5.
______________________________________ الهامش الباثولوجيا النفسية دراسة الأساس البيولوجي الذي تُبنى عليه الأمراض العقلية.
المصادر | https://www.aljazeera.net/sukoon/2022/2/7/%d9%85%d8%a7%d8%b0%d8%a7-%d8%aa%d9%81%d8%b9%d9%84-%d9%84%d9%88-%d8%b9%d9%84%d9%85%d8%aa-%d8%a3%d9%86-%d8%a3%d8%ad%d8%af-%d8%a7%d9%84%d9%85%d9%82%d8%b1%d8%a8%d9%8a%d9%86-%d8%b9%d9%84%d9%8a%d9%83 | 2022-02-07T08:41:40 | 2024-06-06T11:49:03 | أبعاد |
|
5 | تعذيب الأطفال لأجل العلم.. التاريخ المظلم لعلم النفس وتجاربه غير الأخلاقية | يظل التجريب على الإنسان في المعامل النفسية في أغلبه عملا غير أخلاقي، ولا سيما تلك التجارب التي تتلاعب بعواطفه ونظرته إلى نفسه ومحيطه، حتى لو حظيت التجربة بموافقة المتبرع. | لقد أدركنا كيف يمكن للناس العاديين أن يتحولوا بسهولة من الدكتور جيكل الطيب إلى السيد هايد الشرير.
زيمباردو طبيب نفسي شهير
في الممرات المظلمة والضيقة في مختبرات جامعة ستانفورد، تحرك المتطوعان، مايكل وجون وهما اسمان مستعاران، حيث صمم فريق بحثي سجنًا مؤقتًا لدراسة تأثير العوامل النفسية والظرفية في السلوك. وجد المتطوعان نفسيهما في مواجهة حقيقة مقلقة، فالتجربة التي شاركا فيها بخليط من الفضول الأكاديمي والمنفعة المادية، تحولت إلى أكثر كثيرًا من مجرد تجربة معملية. فمع مرور الساعات، بدأت شخصية جون، الذي عُين في التجربة حارسًا، في الانفصال تمامًا عن ذاته التي يعرفها سمحة القياد. مسلحًا بزيه الرسمي، ونظارته الشمسية العاكسة، والسلطة الممنوحة له، بدأ جون تبنّي نمط سلطوي في التعامل، ليجبر المتطوعين الذين أُعطوا أدوار السجناء، ومنهم مايكل، على الالتزام بقواعد تعسفية، وليمارس عليهم ألاعيب نفسية عدة. فوجئ جون بالسرعة والسهولة التي تحول بها إلى طاغية
أما مايكل، فعلى الناحية الأخرى، فقد نُزعت منه إنسانيته، وأُعطي رقمًا يُنادى به بدلًا من اسمه، وهو ما أثر في نفسيته رغم علمه بأنه في تجربة علمية سيحصل منها على مقابل مادي. فكر في الاستسلام، وفكر في الاستقالة، وفكر أيضًا في المقاومة، لكن شيئًا ما دفع مايكل إلى الاستمرار في التجربة. اختفى الخط الفاصل بين سلوكه المحكوم بالتجربة، وحالته النفسية الحقيقية، فأصبح نومه مليئًا بالكوابيس، وصار تعامله اليومي مع المتطوعين الحراس بمثابة معركة نفسية مستمرة.
بعد مرور ستة أيام فقط، ومع تصاعد التوتر بين الحراس والمسجونين إلى درجة كبيرة، وازدياد الضغط النفسي على السجناء إلى حد مأساوي، قرر عالم النفس الذي صمم التجربة، فيليب زيمباردو، إيقافها، وهي التي كان مقررًا لها الاستمرار أسبوعين كاملين. يقول الطبيب زيمباردو عندما بلغت التجربة هذه الدرجة، قلت له اسمع أنت لست السجين رقم 819، اسمك مايكل وأنا الدكتور زيمباردو، لست مشرفًا مسؤولًا عن السجن، أنا أستاذ في علم النفس، وهذا ليس سجنًا حقيقيًّا كل ما تراه الآن مجرد تجربة، وكل هؤلاء طلاب مشاركون، ليسوا سجناء وليسوا حراسًا، مثلك تمامًا. هيا بنا، لنذهب من هنا.
لدهشة زيمباردو، توقف مايكل عن البكاء فجأة، ونظر إليه كطفل صغير استيقظ لتوه من كابوس، وأجاب في هدوء حسنًا، لنذهب.
بهذه الكلمات، انتهت تجربة من أشهر التجارب في علم النفس، أصبحت لاحقًا تُعرَف باسم تجربة سجن ستانفورد، وسنعود إليها بالتفصيل في ختام هذا التقرير.
تجربة سجن ستانفورد قد تكون استثنائية في شهرتها، لكن منطقها ليس استثنائيًّا. فغالبًا ما يُجري علماء النفس تجاربهم بهدف تحقيق فهم أفضل وأعمق للنفس البشرية، لكن ذلك لا يعني أن هذه الغاية النبيلة تجعل كل التجارب نبيلة؛ إذ قد يتورط بعض الباحثين في إجراء أبحاث بالغة القسوة، رُبما تُسبب أضرارًا بالغة للأشخاص الذين أُجريت عليهم هذه التجارب والاختبارات. يمكنك من خلال متابعة السطور التالية التعرف على بعض من أكثر التجارب النفسية التي وصفت بكونها غير أخلاقية أو تضمنت انتهاكات إنسانية.
يفتح نموذج التجريب النفسي على البشر بابا واسعا لنقد نموذج العلم في الفكر الغربي. وأساس هذا التجريب بحسب ما يرى المفكر عبد الوهاب المسيري بدأ على الحيوانات التي كانت تُعرَّض لاختبارات معملية لاستخلاص بعض النتائج والدلالات من قبل علماء النفس على غرار ما فعل العالم الروسي بافلوف في تجربة نظرية الارتباط الشرطي، ومن ثَمّ يُتصوَّر أن تلك التجارب قابلة للتكرار، وأنها يمكن أن تنطبق على البشر وأن تعطي نتائج أفضل. تم إخضاع الإنسان لنماذج مادية في التجريب السيكولوجي لا تلتفت إلى كرامته ولا إلى القداسة الدينية التي تُحرّم العبث بعقله وروحه لحسابات رؤية كمية بحتة، واندفعت اتجاهات كثيرة من العلوم الإنسانية الغربية في هذا الطريق المظلم دون اكتراث، أطمعتها في ذلك النجاحات المعملية في العلوم الطبيعية، والمجد العلمي لبعض الأطباء.
لكن مع الوقت، بدأت تظهر بشاعة هذه المنظومة، ولا سيما مع الأنظمة الشمولية، فمثلًا يذكر المسيري في كتابه العالم من منظور غربي، كيف قام علماء الرايخ الثالث خلال الحرب العالمية الثانية وقبلها بتجارب شديدة القسوة، مثل إجراء عمليات استئصال بدون تخدير، أو تجربة الرصاص على البشر من أجل معرفة فعاليته، أو تعذيب التوائم في غرف منفصلة، أو وضع شخص في غرفة مفرغة من الهواء لمعرفة المدة التي يستطيع الإنسان البقاء فيها حيًّا على ارتفاعات عالية أو بلا أوكسجين. ارتباط هذه التجارب باللحظة النازية، وغيرها من التجارب في البلدان الليبرالية، والبشر الذين كان يتم التجريب عليهم وما ترتب على ذلك من مآس، كل ذلك جعل المجتمع العلمي يعيد التفكير في الأخلاقيات المصاحبة للعملية التجريبية. حيث اتجهت الجماعة العلمية النفسية الغربية، إلى ضرورة وضع بعض المبادئ لتخفيف وجع الضمير، وتطويق ردّ الرأي العام. فقد اتفق المجتمع العلمي على وجوب الالتزام بالمبادئ الأخلاقية أثناء إجراء التجارب والبحوث، خاصة تلك التي تُجرى على البشر، من أجل حماية كرامة وحقوق المشاركين في البحث.
مثلًا، من المحددات الأخلاقية التي يجب ألا تُخترق، ما يُترجم بالموافقة المستنيرة Informed Consent. ويتضمن هذا النوع من الموافقة الواعية أن يكون الشخص كامل الأهلية وأن يعرف تمامًا ما هو مقدم عليه بلا خداع ولا مواربة وأن يقبل المشاركة بناء على هذه المعلومات الصادقة والدقيقة التي قُدّمت له والتي فهمها بشكل كامل.
من المحددات الأخلاقية أيضًا حماية المشاركين؛ فلا يجوز تعريض الصحة البدنية أو العقلية للمشاركين في التجربة للخطر أو عدم التمكن من حمايتهم إذا ساءت الأمور. كذلك، يجب حماية حق المشاركين في الانسحاب؛ فبإمكان المشارك أن يعلن عن عدم قدرته على الاستمرار في التجربة، ويجب أن يحترم الباحث هذا دون إجبار أو إرغام بأي درجة.
والحقيقة أن التجريب على الإنسان في المعامل النفسية يظل في أغلبه عملا غير أخلاقي، ولا سيما تلك التجارب التي تتلاعب بعواطفه ونظرته إلى نفسه ومحيطه، حتى لو حظيت التجربة بموافقة المتبرع، حيث إن الإنسان في النموذج الإسلامي مستأمن على نفسه يتصرف فيها وفق تعليمات الخالق وليس مطلق السراح في العبث بما اؤتُمن عليه، بيد أن هذا المنظور لم يكن مرحبا به في المنظومة المادية العلمية، لأنه سيعطل الجانب الاستكشافي التراكمي، ويقيده بشرائط أخلاقية لا تمثل لهم قيما عليا؛ لذا حاولت وضع ضوابط محدودة ونظمًا حاكمة تقيد التجريب على الإنسان؛ فإذا كانت النازية تجرب بلا قلب، فإن الغرب الليبرالي يجرب وفق شروط تحاول تخدير القلب والضمير.
منذ ما يزيد على 63 عامًا من وقتنا هذا، وتحديدًا في عام 1961، وفي الطابق السفلي من مبنى الحرم الجامعي بجامعة ييل، أُجرِيت تجارب أثارت الكثير من الجدل لاحقًا في مجتمع البحث العلمي. حيث بدأ عالم النفس ستانلي ميلجرام، إجراء عدد من التجارب التي تسببت في لغط وقلق داخل المجتمع الأميركي.
خلال تجاربه، قام ميلجرام بتجنيد رجال من خلفيات تعليمية ومهنية مختلفة لدراسة مدى استعدادهم لإلحاق الألم بغيرهم من البشر من خلال إدارة وتوجيه الصدمات الكهربائية المؤلمة. كان ميلجرام يحاول بشكل أساسي هنا دراسة مدى استعداد البعض لطاعة السلطة، خاصةً في أعقاب الحرب العالمية الثانية، وما تضمنته من انتهاكات للإنسانية مثل المحارق النازية.
قامت التجربة في البدء على معلم لديه طالب واحد، وطلب المجرب من المعلم الضغط على زر يُعرِّض الطالب إلى صدمة كهربائية عقابًا له في كل مرة يُخطئ فيها في اختيار الإجابة الصحيحة. هنا، تم تضليل المعلم؛ لأنه كان يعتقد أن الجهاز الذي بين يديه يُصدر صدمات كهربائية حقيقية، وأن ردود الطالب القائمة على إظهار الألم الشديد هي ردود حقيقية. لكن الواقع، هو أن الطالب كان يصدر ردودًا مفتعلة لأن الصدمات لم تكن حقيقية أصلًا. كان المعلم يعتقد أن الصدمات تبدأ عند 30 فولتًا وتزداد بمقدار 15 فولتًا مع كل إجابة خاطئة حتى تصل إلى 450 فولتًا.
في كل مرة يُخطئ فيها الطالب، يطلب القائم على التجربة من المعلم أن يصدمه. ومع زيادة حدة الصدمات الكهربائية، كانت تتعالى صرخات الطالب. وحينما كان المعلم يتردد في توجيه الصدمة، كان المجرب، الذي يمثل هنا الشخصية صاحبة السلطة، يطلب منه المضي قدمًا. فيقول مثلًا من الضروري للغاية أن تستمر أو ليس لديك خيار آخر. يجب أن تستمر.
كشفت النتائج التي توصل إليها ميلجرام عن الاستعداد التام لدى عدد من المشاركين في التجربة للانصياع للسلطة حتى لو بدت تعطي أوامر تمثيلية غير حقيقية، على غرار ما فعل الطالب الذي كان يتظاهر بالألم والصراخ بطلب الرحمة من أثر الصدمة الوهمية. وقد لوحظ أن الطرف الآخر، أبدى قدرا من الاضطراب والذهول والغضب من المجرب الذي يملي عليهم أوامر بالاستمرار، إلا أنهم استمروا في اتباع الأوامر حتى النهاية. فقد قام 65 من المشاركين في الدراسة بتنفيذ الحد الأقصى من الصدمات، وتوقف 35 قبل الوصول إلى أعلى المستويات.
توصلت تجارب مليجرام إلى نتائج هامة -رغم كونها صادمة- أبرزها تجذر الامتثالية لطلبات السلطة عند بعض الناس ولو أخذت طابع الأوامر المنحرفة. لكن من جهة أخرى أثارت الكثير من الجدل حول مدى مراعاتها للجانب الأخلاقي في إجرائها، وتعاملها مع البشر كأدوات باردة، والسماح بتعريض المشاركين لضغوط نفسية وعاطفية كبيرة، واستخدام الخداع، وعدم وجود حماية للمشاركين، والضغط من جانب المجرب على المشاركين للاستمرار حتى بعد طلب بعضهم التوقف، وهو أمر يتعارض بشكل رئيسي مع حق المشاركين في الانسحاب.
تخيل أن تأتي بكائن حي وتُعرّضه لصدمات كهربائية حقيقية على فترات، بهدف أن تختبر فرضية وتصل إلى نتيجة، هذا ما فعله عالما النفس مارتن سليجمان وستيفن إف ماير.
من خلال التجارب، كان سليجمان وماير يهدفان إلى التعرف بشكل أوضح وأعمق على مفهوم العجز المكتسب، وهو ظاهرة تمت ملاحظتها في كل من البشر والحيوانات الأخرى، حيث كانوا يكتسبون صفة العجز عندما يحاولون مرة أو أكثر تجنب الألم ويفشلون. حينها يستسلمون للألم ويحاولون التكيف معه، وإذا وُجدت لاحقًا فرصة لتجنّبه فإنهم لن يروها لأنهم لن يحاولوا تجنّبه مرة أخرى.
أُجريت التجارب الأولية التي شكلت الأساس لهذه النظرية في أواخر الستينيات وأوائل السبعينيات. فمن خلال تجاربهما، اختبر سليجمان وماير استجابة الكلاب للصدمات الكهربائية، حيث عرّضوا مجموعة من الكلاب لصدمات كهربائية حقيقية لا يمكن للكلاب التنبؤ بها أو السيطرة عليها. قام الباحثان بوضع الكلاب في صندوق به غرفتان مقسومتان بحاجز منخفض، وكانت إحدى الغرفتين ذات أرضية مكهربة والأخرى ليست كذلك.
عندما وضع الباحثان الكلاب في الصندوق وقاما بتعريضهم للصدمات الكهربائية من خلال الأرضية المكهربة، لاحظا أن بعض الكلاب لم تحاول القفز فوق الحاجز المنخفض إلى الجانب الآخر الآمن، ووجدا أن الكلاب التي لم تحاول القفز ولم تفكر في كيفية النجاة كانت بشكل عام هي الكلاب التي سبق أن تعرضت للصدمات دون أن تتمكن من إيجاد وسيلة للهروب منها.
في المرحلة التالية من التجربة، ولأجل التحقق من هذه النتائج الأولية جمع سليجمان وماير مجموعة جديدة من الكلاب وقسماها إلى ثلاث مجموعات المجموعة الأولى تم ربط الكلاب فيها بأحزمة فترة من الوقت ولم تُعرَّض لأي صدمات، وفي المجموعة الثانية رُبطت الكلاب أيضًا لكن مع تعريضها لصدمات كهربائية يمكن تجنبها عن طريق الضغط على لوحات بأنوفها، وكانت المجموعة الثالثة هي الأقل حظًّا فقد عُرِّضت الكلاب لصدمات كهربائية ولم تُمنَح أي وسيلة لتجنبها.
لاحقًا، وضع الباحثان جميع الكلاب، واحدًا تلو الآخر، في الصندوق الذي ينقسم إلى غرفتين. وكانت النتائج أن الكلاب في المجموعة الأولى والثانية أدركت ببساطة أن عليها القفز فوق الحاجز المنخفض للوصول إلى مكان آمن. أما كلاب المجموعة الثالثة فلم تحاول تجنب الصدمات لأن لديها خبرة سابقة تفيد بأن لا فائدة من المحاولة؛ وبالتالي اكتسبت صفة العجز، رغم أنه كان هناك هذه المرة فائدة فعلية من المحاولة. بمجرد رصد النتائج، أجرى سليجمان وماير تجارب مماثلة على 159 ذكرًا من الفئران بهدف التحقق من النتائج.
كانت الأزمة الأخلاقية الأساسية في تجارب سليجمان وزملائه هي القسوة التي شهدتها الحيوانات التي شاركت في التجارب، وقد وُصفت هذه التجارب بأنها تضمنت سوء معاملة للحيوانات. لكن بعض الباحثين يرد على هذا بأنه على الرغم من رفض مثل هذه الطرق الآن في الوسط العلمي والتجريبي، فإنها كانت بشكل ما مقبولة ورُبما منتشرة في حينها، حيث شهدت فترة الستينيات والسبعينيات إجراء الكثير من مثل هذه التجارب.
هل كانت التجارب السابقة صادمة بالنسبة لك؟ مهلًا، رُبما تجد هنا الأكثر قسوة، وهي التجارب التي أجرتها الطبيبة الباحثة لوريتا بندر لاختبار فعالية العلاج بالصدمات الكهربائية على الأطفال، وكان من بين الأطفال المشاركين في تجاربها طفل لم يتجاوز عمره ثلاثة أعوام.
خلال فترة الستينيات، كان تركيز الدكتورة لوريتا بندر من مستشفى كريدمور في نيويورك مُسلطًا على إجراء التجارب على علاج الأطفال الصغار، الذين تم وصفهم حينها بأنهم مصابون باضطرابات عقلية شديدة، بالصدمات الكهربائية.
تُعدّ لوريتا بندر من أوائل الأطباء الأمريكيين الذين عالجوا ودرسوا الأطفال المصابين بالفصام والاضطرابات العقلية الشديدة، وخلال مسيرتها المهنية الطويلة في البحث العلمي وخلال عملها طبيبة التقت بمئات الأطفال المصابين بالاضطرابات العقلية، بما في ذلك الأطفال المصابون بالتوحد، ويُشار إليها على أنها من الأشخاص البارزين الذين أدَّوا دورًا هامًّا في تاريخ التوحد والنظر إليه على أنه متلازمة سريرية.
رغم أهمية عملها ومسيرتها البحثية، فإن العديدين يوجهون الكثير من الانتقادات إلى الطريقة التي اتبعتها لإثبات فرضياتها. كانت تجارب بندر تُجرى على أطفال تتراوح أعمارهم بين ثلاثة واثني عشر عامًا. وقيل إن بندر قد أجرت اختباراتها على عدد من الأطفال لا يقل عن 100 ورُبما يصل إلى نحو 500 طفل وهم الأطفال الذين تلقوا العلاج بالصدمات الكهربائية في المستشفى الذي كانت بندر تعمل فيه، والواقع أن هذا العلاج لم يكن سوى تجارب لا يعرف أحد على وجه اليقين نتائج مؤكدة لها، ولا يعرف أحد، ولو بشكل تقريبي أو ظني، كيف ستؤثر في الطفل الذي يتلقاها.
سارت أساليب التجربة على هذا النحو كانت الدكتورة بندر تُعطي الطفل مقدارًا من الصدمة الكهربائية التي تتضمن تمرير تيارات كهربائية إلى دماغ الطفل بقصد توليد نوبة صرعية قصيرة. كان هذا يتم يوميًّا مدة عشرين يومًا على التوالي، وخلال تلقي الصدمات كانت بندر تسجل سلوك الأطفال قبل وبعد توجيه الصدمات وتضبط مقدار الجهد الكهربائي وفقًا لذلك. لتحديد تأثيرات العلاج بالصدمات الكهربائية، كانت بندر تستخدم الفن والرسم، حيث كانت تطلب من الأطفال أن يرسموا صورة لأنفسهم أو لشخص أو لشيء ما، ثم تقارن بين ما يقوم الطفل برسمه قبل تلقي العلاج وبعده.
لاحقًا، كانت بندر تقوم بمتابعة سلوك الأطفال الذين تلقوا الصدمات مع عائلاتهم ومع المعلمين والأصدقاء لتحديد تأثير علاجاتها على المدى الطويل. وكانت النتائج التي رصدتها بندر إيجابية في جميع الأطفال باستثناء طفلين أو ثلاثة. لكن هذا الرأي الشديد الإيجابية لم يكن نابعًا إلا من ملاحظة المراقبين في المستشفى وفي غرف المدرسة وأولياء الأمور.
بعد سنوات، قام الدكتور بيتر ر. بريجين بتحليل نتائج الدكتورة بندر، وقال عن نتائج تحليله لقد قمت شخصيًّا بتقييم حالتين من حالات بندر، وهما بالغان تعرضا لصدمات كهربائية على يدها عندما كانا طفلين. كان من بين أطفال تجارب بندر صبي يُدعى ج. ر، وقد نشأ في عائلة فوضوية ومضطربة للغاية. لقد كان يُعاني من الرعب بسبب ما كان يراه من عنف والده الشديد عندما كان يفقد وعيه بسبب معاقرة الخمر. كان الصبي يتغيب عن المدرسة، ولكن لا يوجد لديه ما يشير إلى وجود أي اضطراب نفسي شديد، وتم تشخيص حالته على أنها اضطراب السلوك الأولي.
يوضح بريجين أن الطفل قد خضع في الأربعينيات لتجارب الدكتورة بندر وتلقى 20 جلسة علاج بالصدمات الكهربائية. يقول بريجين بقدر ما أستطيع التأكد من سجلات التجارب، فقد أصبح الصبي عدوانيًّا لأول مرة بعد تلقي العلاج بالصدمات الكهربائية، وتم نقله حينها بشكل سريع إلى مستشفى آخر. وفي مرحلة البلوغ، أصبح ج. ر. مدانًا بقتل عدة أشخاص. وبخلاف تحليل الدكتور بريجين، أفاد أقران بندر المعاصرون لها بأنها لم تكن تُظهر أبدًا أي نوع من التعاطف اتجاه الأطفال الذين يخضعون لتجاربها.
حتى هذه اللحظة، يعتبر بعض المتخصصين في الصحة العقلية أن العلاج بالصدمات الكهربائية علاج مثير للجدل أو غير أخلاقي، حتى وإن كان فعّالًا في بعض الحالات. وقد أثيرت مخاوف من أن العلاج بالصدمات الكهربائية قد يتداخل مع نمو الدماغ ونضجه ويمنع النمو الطبيعي لدى الأطفال والمراهقين.
مثل الحالات السابقة وحالات غيرها، كانت هناك بعض التجارب العلمية النفسية التي تجاوزت الخطوط الأخلاقية، رُبما بشكل خاص على الفئات الأكثر ضعفًا مثل الأطفال. لكن في عام 1936 وصل المختصّ في أمراض النطق ويندل جونسون من جامعة أيوا إلى مرحلة الوحش في تجاوز الخطوط الأخلاقية، وحدث هذا التجاوز خلال تجاربه على مجموعة من الأطفال الأيتام الذين كانوا يعيشون في دافنبورت بولاية أيوا.
رُبما كانت جرأة التجاوز الأخلاقي في تجارب جونسون هي سبب تسميتها دراسة الوحش، إذ لم تتضمن التجربة، في الواقع، أي وحوش بشكل فعلي، لكن أُطلق عليها هذا الاسم لأنها كانت تجربة مرعبة وهددت بتدمير سمعة علماء النفس الذين قاموا بإجرائها. ولهذا ظلت هذه الدراسة والنتائج التي توصلت إليها مخفية سنوات.
كان الدكتور جونسون يهدف من الدراسة إلى معرفة المزيد حول سبب إصابة الأطفال بـالتلعثم، وتحديد ما إذا كانت التأتأة نتيجة لسلوك مكتسب أو غير ذلك. اختار جونسون 22 يتيمًا تتراوح أعمارهم بين خمسة أعوام وخمسة عشر عامًا للمشاركة في الدراسة.
كان بعض الأيتام يعاني من التأتأة بالفعل، وبعضهم لم يكن لديهم أي تلعثم. تم تقسيم الأيتام إلى مجموعتين، كل مجموعة تحتوي على عدد من الأطفال المتلعثمين وغير المتلعثمين. تم تصنيف إحدى المجموعتين على أن أفرادها متحدثون عاديون، رغم أن منهم أطفالًا يُعانون من التلعثم، وتم تصنيف أفراد المجموعة الأخرى على أنهم متلعثمون، رغم أن منهم أطفالًا كانوا يتحدثون بشكل طبيعي. طوال فترة التجربة، تم التعامل مع الأطفال وفقًا لهذا التصنيف.
التقى الفريق البحثي للدكتور جونسون بالأطفال في المجموعتين كل بضعة أسابيع مدة خمسة أشهر كاملة لتقييم كلامهم. وكان الفريق يُشيد بالأطفال في المجموعة العادية ويُثني على قدرتهم على التحدث بشكل جيد، حتى لو كانوا يتلعثمون بالفعل. أما أطفال مجموعة التلعثم فكان يقول لهم إنهم يتحدثون بشكل سيّئ، ويخاطبهم بعبارات مُحبِطة مثل يجب أن تتوقف عن الكلام على الفور، لا تتحدث أبدًا إلا إذا كنت تستطيع التحدث بشكل صحيح.
كانت نتيجة الدراسة هي أن الأطفال الذين تم تصنيفهم على أنهم طبيعيون وهم يُعانون فعليًّا من التلعثم لم يتأثروا كثيرًا بثناء الباحثين، وكان هناك بعض التحسن في طفل واحد فقط. وكانت المأساة الحقيقية في أداء أطفال مجموعة التلعثم، التي تضمنت 6 أطفال كانوا يتحدثون بشكل طبيعي تم إخبارهم كذبًا أنهم يُعانون من التلعثم؛ إذ أُصيب خمسة من هؤلاء الأطفال بمشاكل في النطق، وبعضهم توقف عن الكلام تمامًا، وأصبحوا منعزلين.
لم ينشر جونسون وزملاؤه نتائج دراستهم خوفًا من الهجوم عليهم ومقارنة تجاربهم بالتجارب البشرية لدى النازيين التي كانت تُجرى على الفئات المهمشة في ألمانيا. انتهكت هذه الدراسة الكثير من الخطوط والأبعاد الأخلاقية لأن الأطفال خلالها تعرضوا للأذى النفسي وتم استغلالهم، لأنهم نظرًا لحداثة أعمارهم لم يكن بإمكانهم إعطاء الموافقة الواعية على المشاركة في التجربة، فضلًا عن أنهم خُدعوا.
في أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، رفع ثلاثة أشخاص من مجموعة المتلعثمين، دعوى قضائية ضد جامعة أيوا بسبب الخداع والاضطراب العاطفي الذي عُرِّضوا له خلال هذه التجربة، وادعوا أن التأثيرات السلبية للتجربة كانت طويلة الأمد ورافقتهم على مدى حياتهم.
ماذا تفعل مجموعة من البشر إذا ملكت سلطة تامة وكاملة على مجموعة أخرى من البشر؟ ماذا تفعل المجموعة الأقوى إذا ما كان بيدها القدرة على قهر وتعنيف وتحطيم المجموعة الأضعف، وإذا ما أعطيت ضوءًا أخضر يُمكّنها من الانطلاق واستخدام هذه السلطة؟
قامت تجربة سجن ستانفورد على هذه الأسئلة الأولية. لكن ما رصده الباحثون خلال مراحل التجربة كان مفزعًا إلى الحد الذي جعل التجربة تتوقف بعد 6 أيام فقط من بدئها.
تجربة سجن ستانفورد هي دراسة في علم النفس الاجتماعي، أُجريت عام 1971 في جامعة ستانفورد من قبل عالم النفس فيليب زيمباردو، أُجريت التجربة بتمويل من مكتب الولايات المتحدة للأبحاث البحرية. كان الهدف الأساسي من هذه التجربة هو فحص القوى الظرفية مقابل التصرفات في السلوك البشري، أي قياس تأثير لعب الأدوار، والتوقعات الاجتماعية على السلوك، وذلك على مدى أسبوعين، هذا هو الوقت الذي كان من المقرر أن تستغرقه التجربة، لكن ما حدث جعل التجربة لا تصل إلى نصف الفترة المحددة لها.
للقيام بالتجربة، نُشر إعلان يطلب مجموعة من الشباب لإجراء تجربة تحمل عنوان دراسة نفسية للحياة في السجن وقد استجاب أكثر من 70 شابًّا للإعلان. اختار القائمون على التجربة نحو 24 متقدمًا، وتم اختيارهم على أساس تمتعهم بصحة جسدية وعقلية جيدة، ثم تم تقسيمهم إلى أعداد متساوية من الحراس والسجناء، مقابل الحصول على 15 دولارًا في اليوم.
المجموعة التي طُلب منها أداء دور الحراس طُلب منها أيضًا عدم الإساءة إلى السجناء جسديًّا، وارتدوا نظارات شمسية عاكسة تمنعهم من التواصل البصري. الأشخاص الذين من المفترض أن يقوموا بدور السجناء تم اعتقالهم من قبل الشرطة الفعلية، ثم تم تسليمهم إلى المجرِّبين في سجن وهمي في الطابق السفلي من مبنى الحرم الجامعي.
خلال التجربة، كان المجرِّبون يُراقِبون جميع المشاركين ويصوِّرونهم بالفيديو. عُرِّض السجناء لإهانات كان الهدف منها محاكاة بيئة السجن الواقعية. كان زيمباردو يرغب في إيجاد جو من القمع بسرعة كبيرة. لذا، أُجبر كل سجين على ارتداء فستان كزي موحد وحمل سلسلة مقفلة حول كاحله.
الأشخاص الذين تم منحهم دور الحراسة، سرعان ما صدقوا أدوارهم وتقمصوها، ورُبما على أسوأ نحو ممكن. بدأ الحراس في فرض إجراءات قاسية وأخضعوا سجناءهم لدرجات مختلفة من التعذيب النفسي، وتعمدوا التسبب في إذلال ومعاناة السجناء بطرق متنوعة.
تصاعدت إساءة معاملة السجناء بشكل مثير للقلق، وفي غضون الأيام الأربعة الأولى، أصيب ثلاثة سجناء بصدمة شديدة لدرجة أنه تم إطلاق سراحهم. أحدهم أُطلق سراحه بعد 36 ساعة فقط بسبب نوبات الصراخ والبكاء والغضب التي أصابته وكانت خارج نطاق السيطرة.
لكن، الأكثر إثارة للدهشة هو أن العديد من السجناء في التجربة استسلموا تمامًا وقبلوا الانتهاكات ببساطة، وأصبحوا مطيعين بشكل أعمى وسمحوا لأنفسهم بالتجرد من إنسانيتهم.
على مدار التجربة، أصبح بعض الحراس قساة ومستبدين، وأصيب عدد من السجناء بالاكتئاب والارتباك والانسحاق التام أمام ما عُرِّضوا له. كان التصاعد السلبي للأحداث مفاجئًا وصادمًا، إلى الحد الذي دفع زيمباردو إلى إنهاء التجربة بعد ستة أيام فقط.
ما توصلت إليه التجربة هو أن المواقف قد تكون لها قوة قاهرة في تغيير السلوك البشري بشكل كبير، وأكدت نتائج الدراسة أن الناس حتى الأشخاص العاديين الطيبين منهم يمكنهم فعل أشياء شريرة عندما يدفعهم الظرف أو قوى الموقف في هذا الاتجاه.
وُجِّهت العديد من الانتقادات الأخلاقية إلى الدراسة، لتجاوزها الخطوط الأخلاقية بعدم وجود موافقة مستنيرة كاملة من قبل المشاركين، إذ لم يكن زيمباردو نفسه يعرف ما سيحدث في التجربة، ولم يكن من الممكن التنبؤ بأن الأحداث ستتصاعد على هذا النحو. انتقاد آخر وُجّه إلى الدراسة هو أن السجناء لم يوافقوا على الاعتقال، بشكل حقيقي من قبل الشرطة الفعلية، من منازلهم. وذلك لأن الموافقة النهائية من الشرطة لم تُمنح إلا قبل دقائق من قرار المشاركين بالمشاركة، ولأن الباحثين أرادوا أن تكون الاعتقالات مفاجئة.
وقد وُجّه إلى الباحثين القائمين على التجربة انتقاد أخلاقي رئيسي هو أن الدراسة لم توفر الحماية اللازمة للمشاركين، فلم يكن المشاركون الذين أدّوا دور السجناء محميين من الأذى النفسي، بل عُرِّضوا لحوادث إذلال وإهانة مبالغ فيها.
وجه فيليب جي. زيمباردو، نفسه انتقادًا أخلاقيًّا لتجربة سجن ستانفورد فقال خلال مقابلة في الذكرى الأربعين للتجربة في دراسة سجن ستانفورد، كان الناس يشعرون بالتوتر ليلًا ونهارًا مدة 5 أيام، 24 ساعة يوميًّا. ليس هناك شكّ في أنه كان مستوى عال من التوتر لأن خمسة من الأولاد تعرضوا لانهيارات عاطفية، الأولى خلال 36 ساعة. الأولاد الآخرون الذين لم يصابوا بانهيارات عاطفية كانوا مطيعين بشكل أعمى للسلطة الفاسدة. أما الحراس، ففعلوا أشياء فظيعة، لذا فلا شك في أن ذلك كان غير أخلاقي. لا يمكنك إجراء بحث حيث يضطر الناس للمعاناة على هذا المستوى. | https://www.aljazeera.net/sukoon/2024/6/30/%d8%aa%d8%b9%d8%b0%d9%8a%d8%a8-%d8%a7%d9%84%d8%a3%d8%b7%d9%81%d8%a7%d9%84-%d9%84%d8%a3%d8%ac%d9%84-%d8%a7%d9%84%d8%b9%d9%84%d9%85-%d8%a7%d9%84%d8%aa%d8%a7%d8%b1%d9%8a%d8%ae | 2024-06-30T12:27:03 | 2024-06-30T12:27:16 | أبعاد |
|
6 | النار من كل مكان فهل باتت مبادئ بن غوريون فاشلة في حماية إسرائيل؟ | صاغ ديفيد بن غوريون مبدأ دفاعيا عام 1953 يستند إلى 3 ركائز أساسية هي: الردع والإنذار المبكر والقوة الهجومية. فهل ما زالت تلك المبادئ صالحة في حرب متعددة الجبهات؟ | منذ أكثر من 6 سنوات، وتحديدا في فبرايرشباط 2018، نشر مركز أبحاث إسرائيلي ورقة بعنوان كيف يستعد الجيش الإسرائيلي لحرب متعددة الجبهات؟، تضمنت إشارة إلى أن تقديرات أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية لا تشمل توقعا بالتعرض لهجوم في المستقبل القريب.
وكما نعلم اليوم، فقد كان يوم 7 أكتوبرتشرين الأول 2023، عنوانا للفشل الاستخباراتي الذي ظهرت نتائجه ذلك اليوم.
لكن اللافت هو ما أوردته تلك الورقة عن احتمالية أن يتسبب حدث متفجر وغير متوقع على جبهة واحدة؛ في سلسلة من الأحداث الصعبة على جبهات قتال متعددة، وأوصت بمواصلة العمل على تحسين فعالية القتال في مسارح متعددة متزامنة، لأن من شأن ذلك أن يشكّل أهمية بالغة في بقاء إسرائيل.
قبل ذلك بأكثر من عامين في أغسطسآب 2015، نشر رئيس هيئة الأركان الإسرائيلية الأسبق، غادي آيزنكوت، وثيقة بعنوان إستراتيجية الجيش الإسرائيلي، وهي نسخة مختصرة وغير سرية من محاولة أكثر شمولا لإنتاج خطة خمسية، تحدد البيئة الإستراتيجية والعملياتية لإسرائيل، إضافة إلى المبادئ الأساسية التي توجّه أعمالها العسكرية.
وكان من أبرز ما تناولته تلك الوثيقة، إعداد الجيش الإسرائيلي لسلسلة من الحروب المتزامنة على جبهات عدة.
آيزنكوت أعاد تكرار رؤيته في ينايركانون الثاني 2018، خلال خطاب ألقاه بالمركز المتعدد التخصصات في هرتسليا، حين حدد ما أسماها الجبهات الخمس التي تشكل تهديدًا لأمن إسرائيل، مشيرًا إلى أن إيران مظلة قوية تحوم فوق هذه الجبهات، وأن لها يدا في أكثر من جبهة منها.
المعنى ذاته صاغه رئيس الوزراء الحالي بنيامين نتنياهو في سبتمبرأيلول الماضي أثناء خطابه أمام الأمم المتحدة، حيث ذكر أن قواته تحارب على 7 جبهات مختلفة غزة والضفة الغربية إضافة إلى إيران وحلفائها في لبنان واليمن والعراق وسوريا، مضيفًا جبهتين أخريين على حسبة آيزنكوت، مما يعبّر عن نجاح إسرائيل في اكتساب الأعداء، كما يعكس شعورها المزمن بالاضطهاد والتهديد وعدم قبولها في المنطقة.
العالم لديه العديد من الصور لإسرائيل، لكن إسرائيل لديها صورة واحدة فقط لنفسها صورة شعب في طريقه إلى الزوال
يُعد هذا الشعور أحد مفاتيح فهم التناقض بين الدعوة إلى تعزيز فعالية القتال على جبهات متعددة، وبين الاطمئنان أو التراخي الاستخباراتي الذي سبق طوفان الأقصى، نظرًا لأن دعوة آيزنكوت الرامية إلى إعداد الجيش لمواجهة محتملة على مسارح متزامنة؛ وليدةُ شعور إسرائيل بامتداد التهديد من الدائرة الأولى الجيران المباشرين إلى دائرة أبعد تمثلها إيران وحلفاؤها.
شعور التهديد لم يسهم فقط في صياغة إستراتيجية الاحتلال الراهنة، بل كان مسؤولا بشكل أساسي عن بلورة عقيدته العسكرية منذ قيام دولته، إذ طالما نظر إلى معاركه بوصفها صراعا وجوديا مستمرًا، بما دفع بن غوريون إلى صياغة مبدأ دفاعي عام 1953 يستند إلى 3 ركائز أساسية هي الردع والإنذار المبكر والقوة الهجومية.
أما الركيزة الأولى وهي الردع، فترتبط بإحباط أي تحرك عسكري ضد إسرائيل، وتتضمن أدواتها ضرورة الحفاظ على تفوق نوعي، إضافة إلى ميزة نفسية من خلال رسم صورة القوة التي لا تُقهر، بما يدفع أعداء إسرائيل إلى اليأس من جدوى القيام بعمل عسكري ضدها.
ويشير الإنذار المبكر، الركيزة الثانية، إلى ضرورة التفوق الاستخباراتي الإسرائيلي، بما يمنح الجيش صورة استباقية عالية الجودة عن أصول العدو وأنشطته وقدرته على شن ضربات دقيقة أو واسعة النطاق، نظرا لأن إسرائيل لا تستطيع الاحتفاظ بجيش كبير لفترة طويلة، وبالتالي فإن أمنها يعتمد على مزيج من قوة احتياطية وضرورة تلقي تحذيرات قبل وقت كافٍ من اندلاع حرب.
وأخيرًا، تعني القوة الهجومية -بحسب نظرة بن غوريون- نقلَ المعركة إلى أراضي العدو من خلال المبادرة أو القيام بضربات وقائية، أي إن الإستراتيجية الدفاعية يتم تنفيذها عبر الهجوم بغرض مضاعفة عامل الردع، بالإضافة إلى تقليل الإصابات بين المدنيين، وهو ما يمكن ربطه بدعوات الفرار والسفر إلى خارج البلاد، التي تتكثف في الداخل الإسرائيلي كلما تعرضت إسرائيل لهجوم من جهة ما.
بمعنى أن رغبة بن غوريون ربما كانت مبنية بالأساس على إدراكه أن إلحاق أي أذى بالمستوطنين من شأنه أن يدفعهم إلى الفرار والعودة إلى بلادهم التي جاؤوا منها، وهو ما يهدد مشروع إسرائيل من الأساس.
ولا تزال هذه المبادئ تشكل حجر الزاوية في عقيدة الدفاع الإسرائيلية، رغم أن العام الأخير يطرح شكوكا حول صلاحيتها، إذ يرى مراقبون أن خصوم إسرائيل استطاعوا استيعابها إلى درجة كبيرة والتعامل معها.
ومن أمثلة ذلك، فشل أجهزة الاستخبارات في توقع طوفان الأقصى الذي كسر أيضا أوهام الردع، بما دفع غادي آيزنكوت إلى القول بأن الردع الأساسي لإسرائيل وصورتها كقوة لا تُقهر تلقى ضربة في 7 أكتوبرتشرين الأول، مما أدى إلى تغير النظرة إلى إسرائيل واستنتاج أن بالإمكان هزيمتها.
يرى الأستاذ المساعد في العلاقات الدولية بالجامعة العبرية في القدس، دانيال سوبلمان، أن الولايات المتحدة أدت دور الردع بدلا من إسرائيل في هذه المعركة، حيث التزمت بالتعبئة العسكرية والدبلوماسية كي لا يستغل حزب الله أو إيران ضعف إسرائيل، في الوقت الذي كانت فيه الأخيرة تكافح لاستعادة المدن والقرى التي سيطرت عليها حركة المقاومة الإسلامية حماس.
ورغم أن الانتشار الأميركي الضخم في المنطقة أثر على حسابات خصوم إسرائيل، فإنه لم يتمكن من إلغاء الفكرة الجديدة المتكونة عنها، وأنها لم تعد قادرة على الدفاع عن نفسها بشكل مستقل أمام ما تسميه إسرائيل بـحلقة النار الإيرانية التي باتت تطوّقها، بالإضافة لفصائل المقاومة الفلسطينية.
ويذهب سوبلمان إلى مدى أبعد، إذ يشير إلى أن مفهوم الردع الإسرائيلي تآكل قبل سنوات من ذلك، دون أن تشعر إسرائيل، نظرًا لأن حماس تحركت وفقا لمبدأ توماس شيلينغ الشهير، حين أدركت أن مراكمة المعدات العسكرية والاحتفاظ بمخزون احتياطي، من شأنه إجبار الاحتلال على الرضوخ لدبلوماسية العنف وتحقيق نوع من الردع المتبادل.
ويؤكد أن حماس استغلت قدراتها منذ عام 2018 لضرب وسط إسرائيل بوابل من الصواريخ لردع الأخيرة عن تجاوز عتبات معينة من التصعيد، بما فيها اغتيال نشطاء المقاومة أو الاستجابة غير المتناسبة لأنشطة حماس.
ويسوق سوبلمان من الوقائع ما يؤكد استخدام أعضاء حلقة النار الإيرانية آلية ردع مماثلة. من ضمن ذلك تهديد حزب الله اللبناني بحرب شاملة في عام 2022 واستهداف حقول الغاز الإسرائيلي حين أرادت إسرائيل استخراج الغاز من حقل كاريش المتنازع عليه، مما أسفر عن توقيع إسرائيل ولبنان اتفاقية بحرية بوساطة أميركية، لتحديد حدودهما البحرية الدائمة ومنطقتهما الاقتصادية الخالصة، وتنظيم حقوقهما في التنقيب عن الغاز في شرق البحر الأبيض المتوسط.
أما في عام 2023، فامتنعت إسرائيل عن إزالة خيمة أقامها حزب الله على الجانب الإسرائيلي من الحدود نظرا لقلقها من التصعيد، بينما أدت هجمات الحزب التي شنها باستخدام الصواريخ والطائرات المسيرة منذ أكتوبرتشرين الأول 2023، إلى إجلاء حوالي 70 ألف إسرائيلي من مستوطنات الشمال، كما أجبرت الاحتلال على الاحتفاظ بعدد كبير من قواته على الحدود الشمالية لمواجهة التهديد.
وفي اليمن، يرتبط ردع الحوثيين باستهداف سفن تعود ملكيتها إلى إسرائيل، أو سفن داعمة لها، أو تلك التي تستخدم موانئ إسرائيلية. كما أدى استهداف ميناء إيلات إلى إغلاقه كليا في يوليوتموز الماضي.
أما في العراق، فنفذ الحشد الشعبي الموالي لإيران 170 هجوما ضد قواعد أميركية داخل العراق وسوريا منذ أكتوبرتشرين الأول 2023، على خلفية دعم واشنطن لإسرائيل. كما استهدفوا منطقة الجولان السوري المحتل بالمسيرات في أكتوبرتشرين الأول الجاري، مما أدى إلى مقتل جنديين إسرائيليين وإصابة 25 آخرين، وفق إذاعة الجيش الإسرائيلي، التي أعلنت عن فشل الدفاعات الجوية في رصد المسيّرة العراقية، بما تسبب في عدم تفعيل الإنذارات.
وتشير التقديرات إلى أن حزب الله يملك ما يصل إلى 150 ألف صاروخ وقذيفة، أغلبها صواريخ غير موجهة أرض-أرض مثل الكاتيوشا التي يتراوح مداها بين 4 و40 كلم، إضافة إلى صواريخ رعد وفجر التي تتميز بمدى أطول وحمولة متفجرة أكبر، حيث يصل مداها إلى 75 كلم.
ويمكن لهذه الصواريخ أن تهدد أنظمة الدفاع الجوي الإسرائيلي حال إطلاقها بأعداد كبيرة، لكن ما يثير قلق إسرائيل هو الصواريخ الدقيقة التي كشف الحزب عن امتلاكها في عام 2018. كما كشف في عام 2023 عن منصة مزدوجة للصواريخ الموجهة سميت ثأر الله، وهي منظومة أسلحة مضادة للدروع تتألف من منصتي إطلاق مخصصة لإطلاق صواريخ الكورنيت، وللمنظومة قدرة على إصابة الأهداف بدقة وتدميرها.
وعن الترسانة اليمنية، يمتلك الحوثيون تشكيلة متنوعة من الطائرات المسيرة، مثل صماد وعيد، التي يتراوح مداها بين 2000 و2500 كلم ويمكنها بلوغ تل أبيب، إضافة إلى مجموعة من الصواريخ البالستية متوسطة المدى مثل طوفان الذي يصل مداه إلى 1900 كلم، مع رأس حربي يزن طنا واحدا. كما يمتلك الحوثيون تشكيلة من صواريخ كروز بعيدة المدى، منها نسخة قدس التي يصل مداها إلى 1700 كلم ويمكنها الطيران على ارتفاعات منخفضة لتجنب كشفها بواسطة الرادار.
يعني ذلك أن المخزون العسكري الذي يتمتع به محور المقاومة، قادر على استهداف عمق الاحتلال مهما بادر الأخير إلى توجيه ضربات وقائية، بما يضع على المحك؛ مبدأ بن غوريون القائل بضرورة نقل المعركة إلى أرض العدو، ويؤدي إلى فرض واقع مغاير لمفهوم الأمن الذي تبناه جيش الاحتلال منذ عام 1953.
ومع ذلك، يرى العسكريون الإسرائيليون أن الردع لا يزال العنصر الحاسم في وجود الدولة، ومن شأن الردع الفعّال أن يمنع الخصوم عن المبادرة بهجمات استفزازية. لكن معضلة تل أبيب الحالية تتمثل في اضطرارها لتوجيه قوتها إلى مسارح عدة، وهو ما عبّر عنه وزير دفاع جيش الاحتلال يوآف غالانت بقوله نعمل في كل مكان من أجل توضيح أن ثمن تهديدنا سيكون باهظا.
وتعيد وثيقة آيزنكوت المذكورة سالفا تعريف مفهوم الردع وفقا لما أسمته تنوّع التهديد، أي الجبهات المتعددة، حيث افترضت الوثيقة أن الجيش الإسرائيلي سيخوض سلسلة طويلة من الصراعات المسلحة مع جهات فاعلة من غير الدول مثل حماس وحزب الله اللبناني.
ووفقا لتصور الوثيقة، فإن أحد الحلول يتمثل في بناء ردع تراكمي عبر سلسلة من الانتصارات العسكرية الواضحة، بمعنى أن الردع في شكله الجديد يتطلب تعزيزا مستمرا، ولهذا ابتكر جيش الاحتلال الإسرائيلي مفهوم الحملة بين الحروب، وهو مفهوم يشير إلى الأنشطة السرية والعلنية التي يقوم بها الجيش خارج أزمنة الحرب، أي بشكل روتيني، والتي تهدف إلى إحباط التهديدات الناشئة المعادية.
وبالدرجة الأولى، يعتمد جيش الاحتلال في ذلك على تفوقه الجوي، إذ بحسب قائد القوات الجوية الإسرائيلية السابق، عمير إيشيل، فإن سلاح الجو لا بد أن يكون قادرا على التعامل مع 3 قطاعات رئيسية في وقت واحد، وهي الشمال حيث لبنان وسوريا، والجنوب في غزة، إضافة إلى الشرق، أي إيران.
ويرى إيشيل أن قوة إسرائيل الجوية هي الأكثر مرونة وعمومية، كما تُعد الميناء الأول لإسرائيل في حرب متعددة الجبهات، نظرا لغياب أي قوة عسكرية أخرى قادرة على الرد بسرعة مماثلة.
وبالفعل، تمتلك إسرائيل -بفضل الدعم الأميركي- أفضل ترسانة جوية في المنطقة، فهي أول دولة خارج مجموعة التطوير تحصل على مقاتلة إف-35 الشبحية، التي تعد الأكثر تطورا في العالم. كما وفرت واشنطن لحليفتها نسخة خاصة من المقاتلة إف-15، التي تتميز بأنظمة طيران وقدرات حرب إلكترونية أكثر تقدما عن سائر النسخ المباعة.
في المقابل، تضع واشنطن قيودًا على طائراتها المباعة إلى حلفائها الآخرين في المنطقة، فيما يتعلق بالحصول على الحزمة الكاملة لهذه المقاتلات، وتشمل هذه القيود حظر تزويد المقاتلات بالأسلحة الإستراتيجية والأسلحة التي تتجاوز مدى الرؤية البصرية، وذلك بهدف ضمان تفوق إسرائيل النوعي على بقية جيرانها.
ونظرا لأن سلاح الجو الإسرائيلي يفتقد وجود قاذفات بعيدة المدى، جرى تعديل أسطول من طائرات بوينغ 707 بحيث تُستخدم كناقلات للتزود بالوقود، مما يمكّن مقاتلات الاحتلال من الوصول إلى إيران أو اليمن لتنفيذ ضربات جوية دقيقة. كما تمتلك إسرائيل طائرات مسيرة من طراز هيرون قادرة على التحليق لأكثر من 30 ساعة، وهو ما يكفي لتنفيذ عمليات بعيدة المدى. ويعني ذلك أن الاحتلال قادر من خلال قواته الجوية على استهداف كافة أطراف حلقة النار الإيرانية.
إلى جانب ذلك، تعمل ترسانة أميركا الجوية الحاضرة في المنطقة على تخفيف العبء عن سلاح الجو الإسرائيلي، حيث شاركت في استيعاب الهجوم الإيراني الأول في أبريلنيسان الماضي. وتشير التقارير إلى أن مقاتلات إف-15 الأميركية شاركت في إسقاط قرابة 50 من المُسيرات التي استخدمتها طهران في هجومها، كما قصفت القوات الأميركية أهدافا في اليمن وسوريا والعراق مطلع العام الحالي.
وقد بررت الإدارة الأميركية ذلك بقولها إن المنشآت المستهدفة يستخدمها الحرس الثوري الإيراني ومليشيات تابعة له لمهاجمة القوات الأميركية.
يعني ذلك أن واشنطن قد تستمر في تأدية دور الردع نيابة عن الاحتلال في 3 جبهات، لكنها لن تتدخل في الوقت الحالي بشكل مباشر أمام إيران أو حزب الله. ويرى مراقبون أن تصعيد إسرائيل المتتابع وأعمالها العدوانية الموجهة إلى إيران، هدفها إخراج طهران من حظيرة ضبط النفس ودفعها إلى الرد بشكل متهور، وهو ما تحتاجه إسرائيل لوضع أميركا في مواجهة مباشرة مع إيران.
في المقابل، يشير زميل مركز دراسات الأمن بجامعة جورج تاون، بول بيلار، إلى أن التصعيد الإسرائيلي وفتح جبهات قتال متعددة؛ وسيلة مقصودة من جانب إسرائيل للخروج من مأزق غزة، ويشتمل على عنصرين الأول؛ استفزاز إيران ودفعها إلى الرد، بما يمكّن إسرائيل من تقديم نفسها في صورة المدافِعة وليس المُخالِفة، وبذلك تدفع النقاش بعيدًا عن الدمار الذي تُلحقه بقطاع غزة والذي يُعرّضها للمساءلة أمام المجتمع الدولي. أما العنصر الثاني فيتمثل في زيادة فرص تورط الولايات المتحدة في مواجهة مباشرة أمام إيران.
وعلى مستوى آخر، أجرى الاحتلال تطويرات عدة خلال السنوات الماضية لتحسين جاهزية قواته البرية وإعدادها لاحتمالية قتال متعدد متزامن، كما أنشأ ألوية مدرعة خفيفة لنشرها على الحدود مع مصر والأردن، وذلك بغرض إتاحة الفرصة لقوات القتال العملياتية بتكثيف مشاركتها في المناورات البرية ورفع جاهزيتها القتالية.
إضافة إلى ذلك، تضمنت إستراتيجية الاحتلال إنتاج ناقلات الجنود المدرعة والدبابات الحديثة بكميات كبيرة، وذلك لتلبية المتطلبات في حال نشوب حروب متزامنة. وتشير المصادر إلى أن زيادة الإنتاج ترتبط بتوقع معدلات خسارة، نظرا لانتشار قاذفات آر بي جي الخارقة للدروع والصواريخ المضادة للدبابات على نطاق واسع في غزة ولبنان.
وتعد ناقلة الجنود المدرعة إيتان أحدث ما أنتجته إسرائيل لهذا الغرض، حيث تبلغ سرعتها 90 كلمساعة، مما يمنحها القدرة على القفز من جبهة قتال إلى أخرى.
ومع ذلك، تبرز التقارير تدمير أكثر من 1100 آلية إسرائيلية على يد رجال المقاومة في غزة وحدها منذ 7 أكتوبرتشرين الأول 2023، منها 962 دبابة من إجمالي مخزون الجيش الإسرائيلي البالغ قرابة 2200 دبابة أي نحو 44. من ضمن ذلك، قيام كتائب القسام بتدمير مدرعتين إسرائيليتين من طراز إيتان، في كمين بمخيم الشابورة في رفح خلال يونيوحزيران الماضي.
وإذا ما كان الاحتلال قد خسر قرابة نصف مخزونه من الآليات البرية في جبهة واحدة فقط، فإن ذلك يطرح شكوكا حول جاهزية قواته البرية، ويضعها في مرتبة أدنى كثيرا مقارنة بقدراته الجوية.
بغض النظر عن خسائر جيش الاحتلال البرية في غزة، فإن أداءه الكلي في القطاع منذ أكتوبرتشرين الأول 2023، يثير شكوكا في قدرته على التعامل بمفرده مع حجم التهديدات التي تفرضها حلقة النار الإيرانية، حيث أعلن جيش الاحتلال مؤخرا أن تطهير غزة من حركة حماس ربما يستغرق عامين آخرين، بما دفع مراقبين إلى القول بأن إسرائيل تركت في غزة عملا غير مكتمل وذهبت مبكرا إلى الشمال.
ويشير المدير السابق لإستراتيجية الأمن الإسرائيلي والعقيد المتقاعد من سلاح الجو، غور لايش، إلى أن حماس لا تزال قائمة وتعمل بعد مضي عام على الحرب، رغم أن الجيش الإسرائيلي توغل إلى معظم أجزاء القطاع ودمر عددًا لا يحصى من المباني والبنى التحتية. ومع أن حماس غير قادرة على شن ضربات عسكرية كبيرة في الوقت الحالي كما يقول غور لايش، فإن السؤال المطروح هو هل سيتفاجأ أحد إذا ما أطلقت الحركة صاروخا باتجاه إسرائيل بعد إعلان الأخيرة النصر؟.
وحتى بين أشد المتفائلين في معسكر إسرائيل، والذين يعتبرون استقواءه على غزة نجاحا عظيما، فهُم ينظرون إلى إمكانياته بعين الريبة فيما يخص مواجهة حلف إيران، إذ يرى زميل معهد يوركتاون في واشنطن، غابرييل إليفتريو، أن نجاح إسرائيل في غزة يجب وضعه في سياق حلقة النار الإيرانية الواسعة التي تحيط بها، والتي لا تزال مواردها -مجتمعةً- هائلة، نظرا لأن حزب الله اللبناني ربما يعاني على مستوى الفعالية التنظيمية بعد اغتيال قادته، لكن لا يوجد أحد لا يمكن تعويضه، كما لم يتم استهداف قوته القتالية بشكل مؤثر بعد، بما يشمل مقاتليه وترسانته من الذخائر الموجهة عالية الدقة وبعيدة المدى.
إضافة إلى ذلك، قد يستفيد الحزب من البنية الأساسية القوية التي يديرها الحرس الثوري الإيراني ومن مقاتليه في سوريا المجاورة، أو حتى في العراق إذا اقتضت الحاجة، إذ قطعت إيران شوطا كبيرا في خطتها لنشر الصواريخ والطائرات المسيرة والأسلحة المتطورة في محيط إسرائيل، وتحويل الأراضي المحتلة من الشمال إلى الجنوب؛ إلى ساحة معركة حقيقية.
على جانب آخر، يبقى برنامج طهران النووي على رأس مخاوف إسرائيل، بما قد يشكله نجاح إيران في امتلاك رادع نووي من خلق توازن رعب، على غرار حالة الهند وباكستان، بينما لا تمتلك إسرائيل القدرة على شن هجوم مباشر على مشروع إيران النووي من دون دعم أميركي، نظرا لأن المنشآت البحثية النووية المحصنة تتطلب استخدام أنواع محددة من القنابل الخارقة للدروع مثل جي بي يو 57، وهي قنابل مصممة خصيصًا لهذا النوع من المهام، ولا يمكن إطلاقها إلا بواسطة قاذفات تمتلكها الولايات المتحدة حصرا، مثل القاذفة بي 2 سبيريت.
اجتماع هذه العوامل يبعد إسرائيل عن تحقيق هدفها النهائي من خوض حرب متعددة الجبهات، ويضعها في رحى آلة استنزاف مستمر. فإذا ما كان هدف إسرائيل من أي حرب -وفق مبادئ بن غوريون- هو إجبار العدو على وقف القتال من موقع قوة إسرائيلي، بعد تجريده من قدراته ودوافعه القتالية، فإن إسرائيل لم تتمكن من تدمير حماس وغزة بصورة نهائية، في حين أن توجيه ضربة قاضية لحزب الله اللبناني مهمة أصعب، ولن تتمكن أذرعها من إيقاف الغضب في اليمن أو في العراق، وربما لا يكون تحقيق نصر عسكري حاسم على إيران أمرا ممكنا في المدى القريب. | https://www.aljazeera.net/politics/2024/10/26/%d9%87%d9%84-%d9%85%d8%a7-%d8%b2%d8%a7%d9%84%d8%aa-%d9%85%d8%a8%d8%a7%d8%af%d8%a6-%d8%a8%d9%86-%d8%ba%d9%88%d8%b1%d9%8a%d9%86-%d8%b5%d8%a7%d9%84%d8%ad%d8%a9-%d9%84%d9%82%d8%aa%d8%a7%d9%84 | 2024-10-26T03:29:24 | 2024-12-05T08:02:02 | أبعاد |
|
7 | أفكر كثيرًا في الموت.. كيف أتعامل مع ذلك بحسب علماء النفس؟ | قد يخبركَ أحدهم: أفكّر كثيرًا بالموت، أو أشعر كما لو أنّني سأموت قريبًا. فماذا تفعل؟ وكيف تتصرّف لمساعدتهما على التخلّص من وساوس الموت وقلقه؟ هذا ما سنحاول إجابتك عنه وإرشادك إليه. | قد تستيقظ صباح يومٍ ما، وفكرةٌ واحدة تسيطر على أفكارك ما الفائدة؟ ما الفائدة من الذهاب إلى العمل وأنا ميتٌ لا محالة؟ ما الفائدة من فعل أي شيء، من رسم خططٍ كبيرة أو صغيرة؟ ما الفائدة وأنا لستُ متأكدًا إن كنتُ سأستيقظ صباح اليوم التالي أم لا؟ قد تشلّك الفكرة فعلًا، تمنعك عن فعل أي شيء، ناهيك بالاستمتاع به. قد تظنه خوفًا عدميًّا عابرًا، لكن مع الوقت يتحوَّل إلى حصارٍ كامل، إلى وحشٍ دؤوب يُلاحقك في كل خطوةٍ، بل ويتقدم عليك فيعيق سير أيامك. يراودك القلق، فتخرج مع أصدقائك وتشعر بأنّك لا تستمتع بما فيه الكفاية؛ لأنّك وبينما هُم يضحكون ويتهامسون، يقتحمكَ هذا الوسواس مرّة أخرى، وسواس المَوت، هل سيفتقدني هؤلاء؟ هل سيتذكّرني أحد إن متُّ في الغد؟
أحيانًا لا تكون أنتَ مَن يُطاردُك هاجس المَوت، أحيانًا قد ترى قلق المَوت ينهش أحد والديك، فحين يتقدّم الإنسان بالعُمر وبعد مُضي عشرين أو ثلاثين سنة على عملهما في إحدى الوظائف، يتقاعدان فجأة، ويشعران بوحشة مفاجئة وخوف شديد، وتحضر وساوس الموت أمامهما لأنّهما صارا في مواجهة مُباشرة معه بحكم فائض الوقت وشدّة الفراغ، وقد يخبركَ أحدهما أفكّر كثيرًا بالموت، أو أشعر كما لو أنّني سأموت قريبًا. فماذا تفعل؟ وكيف تتصرّف لمساعدتهما على التخلّص من وساوس الموت وقلقه؟ هذا ما سيحاول المقال إجابتك عنه وإرشادك إليه عبر خطوات علمية وعملية من علم النفس.
للخَوف من المَوت أربعة مصادر مختلفة خسارة النفس أو فقدان شخصٍ آخر، وفقدان السيطرة، والخوف من المجهول الجنة، النار، الحساب، وألم الموت ومعاناته. هنا نتناول فكرة الموت في حد ذاته، ليس موت الآخرين. الخوف من الموت أمرٌ طبيعي، غرائزنا تحتم علينا النجاة، حدَّ أن المجتمع يكافئ من يتغلب على مخاوفه وغرائزه ويعرض حياته للخطر ليُنقذ الآخرين أو يقاتل في الحرب.
قد تستثار المخاوف من الموت إثر فقدان شخصٍ عزيز، فيُسلط الضوء على مدى هشاشة الحياة التي نعيشها وأنها قد تُنتزَع منا في أي لحظة. في حالاتٍ نادرة، التعرض لتجارب قريبة من الموت مثل حادث سيارة أو مرض عضال قد توقظ القلق وتزيد من حدته، كذلك العاملون في مجال الصحة أو الطوارئ، مَن يتعرضون للموت بشكلٍ مكثف قد تزيد عرضتهم للإصابة بقلق الموت نظرًا لقربهم الشديد منه. رغم ذلك، قد يتطور قلق الموت فجأةً دون دوافع أو مسببات.
بدايةً، يبدأ قلق الموت بخوفٍ وفضول طبيعي وصحي عن المجهول الذي ينتظرنا، لكن تجاهله وعدم التعامل معه بحكمةٍ يؤدي بسهولةٍ شديدة إلى حلقةٍ مفرغة من القلق، لأن ما نقاومه ونتجاهله يستمر في النمو والسيطرة على أفكارنا بطبيعة الحال. تظهر أعراض قلق الموت في صورة خوفٍ حاد يصل إلى الرعب حين تفكر فيه، كذلك تجنب المواقف أو المحادثات التي تشعر أنها قد تؤدي للحديث عنه، وتظهر بعض الأعراض الجسدية المتعارف عليها للقلق عند التفكير به، مثل سرعة ضربات القلب والتعرق وآلام المعدة والغثيان والأرق. في كثيرٍ من الأحيان يجتمع الخوف من الأمراض وقلق الموت، إذ كلاهما يتعلقان باستحالة التعامل مع المجهول أو توقعه، لذا يأتي مع الأعراض توقع الأسوأ دومًا في حالة الإصابة بنزلة بردٍ بسيطة أو ما شابه.
لا يعدّ قلق الموت في حد ذاته اضطرابًا، لكن تكمن المخاوف الوجودية في صميم عددٍ من اضطرابات القلق والاكتئاب واضطراب ما بعد الصدمة والهلع والوسواس القهري، ويرتبطُ على الأخص باضطراب القلق العام، أي القلق المتكرر بلا سبب مع عجزٍ عن السيطرة عليه أو إيجاد منطقٍ يبرره. التفكير في الموت والقلق منه ليس مشكلةً في حد ذاته، بل يقول الفيلسوف الفرنسي فرانسوا دو لاروشفوكو شيئان يعجزُ الإنسان عن مواجهتمها مباشرةً الشمس والموت. يكون قلق الموت مشكلةً حادةً تستلزم الانتباه أو تدخل المختصين حين يظهر يوميًّا ويستمر فترةً طويلة أكثر من 6 أشهر، في هذه الحالة تحيل تلك المخاوف بينك وبين الاستمتاع بحياتك اليومية الطبيعية1.
يؤثر إدراك فنائنا الحتمي تأثيرًا عميقًا على أفكارنا ومشاعرنا، ومن ثم على جودة حياتنا وسلوكياتنا، توقُّع النهاية والخوف منها مؤلمٌ للغاية إلى حدّ أننا نحتاج إلى تحجيمه ووضعه في سياقه الصحيح. كلنا بطبيعة الحال نقلق من مواجهة أننا يومًا ما لن نوجد على الإطلاق، نجد صعوبةً في فهم أن الحياة ستستمر ربما لآلاف وملايين السنين بعدنا. يقول الطبيب النفسي روبرت فايرستون إننا قد لا نتحمل الفكرة فنقمعها تمامًا ونطوَّر وسائل دفاعية ضدها ليتلاشى التفكير فيها حتى، بل ربما يؤدي هذا الرعب إلى إنكاره من الأساس.
متى آخر مرةٍ فكرت في موتك؟ ربما تكون الإجابة بأنه نادرًا ما يخطر ببالك بشكلٍ واعٍ، لكن على مستوى اللاوعي، يُشير فايرستون أن إدراك حتمية موتنا دون تقبلها والتعامل معها بوعي، يؤجج قلقنا، ويؤثر على جوانب مهمة من حياتنا، ويحفز الكثير من أفعالنا وقراراتنا وسلوكياتنا. يتطور إدراك الموت تدريجيًّا من الطفولة، يموت حيوان الطفل الأليف أو يلحظُ موتًا في عائلته أو حتى يتعرفُ عليه في الأفلام كما في فيلم العثور على نيمو. بين الثالثة والسادسة يفهم الطفل حقيقة أن الشخصين اللذين تعتمدُ حياته عليهما معرضان أيضًا لهذا الخطر الخاطف، وفي النهاية يترسخُ إدراك أنه شخصيًّا لن يتمكن من الإفلات منه.
في هذه المرحلة، يتبدل حال العالم الذي آمن الطفل أنه متين وراسخ ودائم. هذا الوعي والرعب المرافق له يكون غامرًا ومدويًا لدرجة أنه يرى أنه لا مفر من قمعه. ورغم وسائل الدفاع التي تُقاوَم بها فكرة الموت، يظل محفوظًا في لاوعيه على حاله الأول، يستمر الخوف المتجاهل والمقموع في تأثيره على طفولته، ثم لاحقًا على مراهقته وشبابه2.
قد يستجيب المرء لهذا الخوف، يطوِّعه ويتعلم من خلاله أن يعيش حياته بطرقٍ طبيعية ويمنحها معاني تُقنعه وترضيه ويستغل فرصها في تحقيق أهدافه، لكن قد يفشل البعض في هذا ويتكوَّن لديهم قلقٌ حاد من الموت، يحثهم كلما حضر أو استُثير على اتخاذ قراراتٍ اندفاعية تتزايد أضرارها مع الكبر في السن ومعه المسؤولية، ما قد ينتهي إلى تخريب حياتهم وحياة من حولهم. قد ينكر المرء الموت مع الوقت، لا يلتفتُ إليه حمايةً لنفسه، فيفقد بوصلة حياته، ويولي أهميةً قصوى لقضايا ومسائل بلا أهمية في الواقع، ويفشل في التقدير السليم لِمَا يلعبُ دورًا حاسمًا في حياته. يعيش معظم الناس حياتهم كأنها لن تنتهي أبدًا، وأن بإمكانهم إفساد أهم تجاربها.
قد ينتهي المطاف بفقدان مشاعر الإثارة أو الفضول لعيش الحياة خلال بناء وسائل دفاعية تحمي الشخص القَلِق من فكرة الموت، قد يغدو أكثر صرامة وتحكَّمًا في حياته ظنًّا منه أنه لو تحكَّم وسيطر على كل تفاصيلها ونواحيها فقد يتمكَّن من كتابة نهايةٍ مختلفة عن النهاية التي لا مفر منها، فيحدّ نطاق تجاربه كأنه يمتنع عن خوض حياةٍ لا يرغب في مغادرتها. قد تظهر ردود الفعل الدفاعية هذه في صور كراهيةٍ للذات ولسانٍ ساخر من كل شيء وأي شخص، ورفض ممارسة نشاطٍ يُثير حماسه اتجاه نفسه وأيامه، وأيضًا أقل استمتاعًا بالملذات اليومية العابرة.
لكن قد يكون لوسائل دحض الموت جانبٌ إيجابي في بعض الحالات، قد ينتج عنها سعي لخلود رمزي في مخيلة العالم من خلال الأعمال الأدبية أو الفنية أو العلمية. البحثُ الدؤوب عن معنًى صادق للحياة في التفاني للعائلة والأصدقاء ومَن نحبهم، ومحاولة ترك أثرٍ إيجابي يُغير المرء وعالمه الصغير الشخصي. أحد دفاعات الموت السلبية هو محاولة العيش من خلال إنجاب نسلٍ جديد وترك خليفةٍ لغرض تخليد الاسم والعائلة، يؤدي هذا القرار الفادح إلى معاناة الأطفال في حياتهم من محاولة والديهم لتحويلهم إلى نسخةٍ طبق الأصل من ذواتهم34.
لديك كل الحق لتقلق، لترتعب. الموتُ مرعب، وكذلك الفناء والنهاية. يومًا ما ستكون هنا، ثم في اليوم التالي ستختفي. سيستيقظ العالم في اليوم التالي وكل شيءٍ سيسير على ما يرام، ستصدر الصحف، ستزهز الأزهار، ستُعدّ القهوة، لن يختل النظام، وهذا هو الرعب بذاته. هل هناك أي أسباب قد تنجدك من هذا الخوف؟ قد تُسعفك لتمضي أيامك مدركًا وواعيًا للفجوة اللحظية بين الوجود والعدم، ومع ذلك تعيشها في سلام؟ لحسن الحظ، نعم. يُساعدنا علم النفس والفلسفة على تخفيف وطأة هذه الأزمة الوجودية، التي قد تكون فكرةً عابرة لكنها تمتص سعادة الحياة كلها.
أي حدثٍ سلبي أو تذكير بالموت، مثل المرض أو الحوادث أو الأوبئة أو المآسي الصادمة بشكلٍ عام، تُثير قلقك حيال دنو الموت، والتي بدورها تشجعك أكثر على بناء حصنٍ من الدفاع ضد هذه المشاعر التي لا يمكن التخلص من مصدرها الذي سيحدث لا محالة. أحد أشهر الدفاعات هو الإنكار، تصور أن المآسي تحدثُ للآخرين وليس لي.
قد يُفاجئك هذا النمط من التفكير السحري الذي شهدناه في الأعوام الماضية خلال تفشي وباء فيروس كورونا. مَن لم يتّبعوا تعليمات السلامة والوقاية أو الحظر المنزلي لم يكونوا راغبين في التعجيل بموتهم، بل مؤمنين بأن كارثةً كهذه ستحلُّ على الآخرين وليس لهم على الأخص. يلجأ المرء إلى هذا التصور المفرط في تفاؤله وغروره لتعويض مشاعر الدونية، إنه بقايا تصورات القوة الخارقة المطلقة التي نتحلى بها في طفولتنا، ويعمل آليةً للنجاة في أوقات الضغط ووضوح مدى هشاشة الجسد البشري وضعفه، إنه يعبر عن الإيمان بأن الموت سيحدثُ للآخرين وليس لنا أبدًا. تمنح هذه الفردانية والخصوصية اللتان لا أساس لهما شعورًا بأن المرء محصنٌ ضد مصير الناس العاديين2.
من الوسائل الدفاعية الإيجابية لمقاومة قلق الموت هي احترام الذات وتقديرها، إذ هي البوابة الرئيسية للأمان النفسي. احترام الذات يعني الرضا عنها ومحاولة تحسينها دون قسوةٍ أو جلد لإيمانك بأنك تستحق. وعيك بأهمية دورك في حياة من حولك وبمميزاتك أساسيٌ لتخفيف رعب الموت، بل يؤكد لك أنك حتى بعد موتك ستظل حيًّا في ذكريات عائلتك وأحبائك، لتشعر حين يأتي أنك عشت حياةً راضية تقدّرها حق قدرها. احترام الذات والوعي بأهميتها سيؤدي بك إلى إحاطة نفسك بمن يُشبهك من الناس، فتجد بينهم عزاءً وسلوى لمقاومة هذا الخوف الوجودي. ستظل قلقًا من الموت، لكن بإمكانك تغيير دفة هذا القلق وتوظيفه كتذكير بأن تعش حياة هادئة.
كذلك يمكن لادخار المال ووضع خطط مستقبلية منطقية ومرنة أن يوفر حاجزًا نفسيًّا أمام قلق الموت، إذ يرتبط بإحساس بالسيطرة على المستقبل وتأمينه، ومن ثم راحة نسبية اتجاه قدومه. سيمنحنا الأمل في المستقبل طريقةً مختلفةً في التفكير حيال احتمالاته المختلفة بدلًا من النظر بشكلٍ قاطع إلى نهايته3.
يحكي الطبيب وعالم النفس وارن وارد عن إصابته بسرطان الجلد وعن إدراكه من عمله طبيبًا أن موته وشيك، بل كان وشيكًا منذ أيام دراسته؛ بسبب نَسْخ كل ما يعرفه عن الأمراض في دراسته وإسقاطه على جسده المسكين. يقرُّ الطبيب بصعوبة سرطان الجلد، لكن لحسن حظه تمر العملية الجراحية بسلام ويتعافى من مرضه. يُشير وارد إلى أنه محظوظٌ من جانب آخر، صدمة التجربة واليقين المطلق المثبت بدنو موته، عاجلًا أم آجلًا، شُفي أم لم يُشفَ، هذا التقبل والإدراك كان مهمًّا بالنسبة إليه بنفس أهمية التطورات الطبية التي أدت إلى نجاته من المرض.
الوعي بدنو الموت يؤدي إلى عيش حياةٍ مثمرة ومثيرة، ذكَّره مرضه بالموت كل يوم، بفنائه ومحدودية أيامه، ذكَّرته الصدمة بأن عليه عيش حياته بطولها وعرضها كل يوم، لأنه يريدُ تفادي الندم على ما فاته فيما بعد. من المهم محاولة استقاء هذا التقبل والإدراك من تجارب الآخرين لأننا لن نمرَّ جميعًا بتجربةٍ نقترب فيها من الموت، تحررنا من قلقنا منه وتذكّرنا بأن الأهم هو عيش حياةٍ صادقة. يدرك وارد بوصفه طبيبًا مدى هشاشة أجسادنا وقربها من الموت في أي لحظة، ويدرك -بصفته طبيبًا نفسيًّا- ضآلة الحياة وسطحيتها إن خلت من الأهداف والمعاني. إدراكُ قِصَر أعمارنا الثمينة ومحدودية الحياة قد يدفعنا -في مفارقةٍ مثيرة للسخرية- إلى البحث عن معنى لحياتنا أو حتى خلقه من البداية1.
نشرت الممرضة بروني وير عام 2011 كتابًا بعنوان أهم خمسة أشياء يندم عليها المرء عند الموت، أجرتْ مقابلاتٍ مع عشرات من الأشخاص يقضون شهورهم الأخيرة في الحياة، وسألتهم عن أكثر شيءٍ يندمون عليه في حياتهم، أتت الإجابات الخمس الأكثر شيوعًا كما تظهر في الشكل أدناه.
تحديد ما قد تندم عليه لاحقًا، أي ما أنت مقصّر به حاليًّا، سيُساعدك على تغيير طريقة تفكيرك حيال الموت البعيد أو غير مجهول الموعد لتفكر في اللحظة الحالية، كي تعيش حياةً ثريةً وعريضة فلا تقلق من نهايتها خلال محاولاتك لاستغلالها لآخر أمنيةٍ وقطرةٍ فيها.
كتب إيرفين يالوم، الطبيب النفسي الوجودي والخبير في فهم قلق الموت وطرق علاجه، كتابًا بعنوان التحديق في وجه الشمس كيف تتغلب على رعب الموت؟، يقول فيه إن الحيوات باختلافها تشتركُ في شيءٍ واحد الموت، وباختلاف طرق العلاج فإنها كلها تنتهي إلى التقبل، إذ كلما تجنبنا فكرةً أو خوفًا معينًا، زاد قلقنا حياله ومعه رغبتنا في تجنبه، أي حلقة مفرغة.
يقول الروائي الروسي، فلاديمير نابكوف يُخبرنا المنطق أن وجودنا ليس سوى شقٍّ ضيقٍ من النور بين عالمين أبديين من الظلام. سأل يالوم مرةً أحد عملائه عما يزعجه أكثر شيءٍ في فكرة الموت، فأجابه قائلًا غيابي خلال الخمسة مليارات سنة القادمة، فسأله يالوم إن كان قد أزعجه غيابه عن الخمسة مليارات سنة الماضية. تُسمى هذه الفكرة في الفلسفة حُجة التناظر. لتتغلب على خوفك من الموت، حاول أن تتذكر ما كنت عليه قبل أن تولد، ليس شكل عالمك وأسرتك، بل كيف كنتَ أنت قبل أن تُخلق من الأساس. لا يُمكنك التفكير في نفسك قبل أن تولد، ناهيك بطبيعتك وقتها. الجزء المتناظر من هذه الحجة هو أن الأمر نفسه ينطبق على بعد وفاتك. وفقًا لهذه الفلسفة، ما قبل مولدك يُساوي موتك، كنت وستكون في كلا الحالتين غائبًا. ونظرًا لهذا التساوي، يجدر بك القلق من الموت بنفس مقدار قلقك للحياة قبل وجودك على الإطلاق1.
تمنحنا الفلسفة الأبيقورية كذلك فهمًا مغايرًا لطبيعة الموت حتى نتقبله. ينص منهج هذه الفلسفة على أن هدف الحياة هو السعادة، ليس بالانغمار في الملذات فحسب، بل بتجنب المعاناة، ولكي نسعد بالحياة علينا ألا نقلق ونترقب نهايتها، ولذا ينبغي علينا فهم موتنا. أول شيءٍ عليك فعله هو محاولة تصور ما سيكون عليه الموت، ليس الحياة الآخرة ولا موت الآخرين، بل موتك أنت. تصوَّر نفسك ميتًا، لا يمكنك هذا، أليس كذلك؟ لأن تصوَّرك ميتًا يتناقض مع البقاء على قيد الحياة من الأساس. الموتُ غياب الوجود، كيف ستتخيل وجودك وأنت ميت؟ لا شيء يمكن تخيله، لا شيء يمكن منحه صورةً ولونًا وشكلًا فعليًّا، لا شيء يمكن الاقتراب منه. هذه هي التوصية الأولى، إدراك أن الموت ليس تجربةً ستمر بها، وكما يقول أبيقور الموتُ لا يمثل لنا شيئًا على الإطلاق5.
كما ذكرنا، قلق الموت ليس اضطرابًا بحد ذاته، لكن في حال احتد القلق والخوف وأصبح يعرقل سير الحياة بشكلٍ طبيعي، تحديدًا إن أصبحت تخاف من الأمراض وتقلق على صحتك بشكلٍ مفرط، فيُوصى بزيارة طبيبٍ نفسي مختص. قد يستخدم معك الطبيب العلاج النفسي السلوكي المعرفي الذي قد يشمل التعرض لتفصيل من تفاصيل الموت مثل حضور الجنائز، وكذلك تمارين التنفس، ومحاولة التوصل إلى أفكار مرنة حول الموت مثل إدراك أنه خوف مبرر وطبيعي تمامًا. كذلك يشتمل العلاج على وسائل استكشاف الأحداث السعيدة في الحياة لتغيّر وجهة نظرك حيال الموت من كونه حدثًا سلبيًّا إلى أنك كنت محظوظًا لأنك نلت فرصة عيش الحياة من الأساس.
كذلك قد يلجأ الطبيب إلى العلاج المرتكز على التعاطف الذي سيُشجعك على الانغماس في تجربة الحياة، استيعاب أن كل ما بين يديك هو من 25 ألف إلى 30 ألف يوم من الحياة فقط، تؤكد هذه الطريقة من العلاج على أن المعاناة أمر طبيعي ومسار الحياة واحد؛ نأتي، ننمو، نضعف، نموت. على الرغم من اختلاف الطرق التي قد يتبعها كل مختص، لكن جميعها يعتمد على فكرةٍ واحدة الموتُ حدثٌ علينا تعلُّم تقبُّله، المفتاح الأساسي في قلق الموت هو كيف نخرجُ من أفكارنا إلى معترك الحياة نفسه4.
____________________________________________________________
المصادر | https://www.aljazeera.net/sukoon/2022/6/22/%d9%83%d9%8a%d9%81-%d8%a3%d8%aa%d8%ae%d9%84%d9%91%d8%b5-%d9%85%d9%86-%d9%88%d8%b3%d9%88%d8%a7%d8%b3-%d8%a7%d9%84%d8%ae%d9%88%d9%81-%d9%85%d9%86-%d8%a7%d9%84%d9%85%d9%88%d8%aa%d8%9f | 2022-06-22T07:02:46 | 2024-05-26T11:26:22 | أبعاد |
|
8 | هل الجيش الروسي جاهز لحرب عالمية ثالثة في 2025؟ | يتوقع الأوروبيون أن تهاجم روسيا إحدى دول حلف الناتو قريبًا، فهل تستطيع روسيا الانخراط في حرب عالمية جديدة؟ | مع بداية العام الماضي، خرج الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب قبيل فوزه في الانتخابات التمهيدية للحزب الجمهوري بولاية نيو هامبشاير يوم 22 ينايركانون الثاني 2024، قائلًا في بيانٍ حاد اللهجة، إن بإمكانه إنهاء الحرب الروسية الأوكرانية، محذرًا من أن العالم يقف اليوم على حافة الحرب العالمية الثالثة، وهو الوحيد الذي بإمكانه تحقيق السلام.
لم يكن تصريح ترامب عن حرب عالمية وشيكة استثناءً، فقد صرح وزير الدفاع البريطاني حينها غرانت شابس هو الآخر قائلًا إننا انتقلنا من عالم ما بعد الحرب العالمية إلى عالم ما قبل الحرب، وهو ما أكدت عليه صحيفة تليغراف البريطانية في تقرير يشير إلى أن الجيش الروسي يتجهز لصراع قادم، بل ودعا التقرير إلى ضرورة إعادة تسليح الجيوش الأوروبية وعدم الاعتماد الكامل على قوة الولايات المتحدة، لأنها إن أدارت ظهرها، ستكون أوروبا قد خسرت بالفعل حربها القادمة قبل أن تدخلها.
تزامنت هذه التصريحات مع أخبار أوردتها صحيفة بيلد الألمانية العام الماضي عن سيناريو تُعِد له روسيا حاليًا لشن حرب شاملة ضد أوروبا ودول حلف شمال الأطلسي الناتو بحلول عام 2025، وذلك وفقًا لوثيقة سرية مسربة -بحسب الصحيفة- من وزارة الدفاع الألمانية، وهو السيناريو الذي تداولته بعض الصحف في أوروبا والولايات المتحدة مؤكدة على نية روسيا توسيع نطاق الحرب الأوكرانية.
نفت موسكو ما تردد في الصحف الألمانية، وشكك المتحدث باسم الكرملين ديمتري بيسكوف فيما إذا كانت الوثائق التي استخدمتها الصحيفة صادرة بالفعل عن مقر القيادة العليا لحلف الناتو في أوروبا. كما زعم البعض أن ما نشرته الصحيفة الألمانية لا يتجاوز كونه نتاج عمل مركز مستقل قدم آراءه للجهات المختصة الألمانية. رغم ذلك، ما زالت الصحف العالمية تتداول أخبارًا عن نية موسكو مهاجمة إحدى دول الناتو في غضون 5 سنوات.
بعدما أنهكتها الحرب المستمرة منذ أكثر من عامين، تزايدت المخاوف الغربية من أن تخسر أوكرانيا حربها أمام روسيا، خاصة بعد انسحاب الجيش الأوكراني من مدينة أفدييفكا، في خطوة اعتبرتها بعض المصادر انتصارًا رمزيًا لروسيا التي عملت على تقوية شوكتها وتثبيت أقدامها في الأرض.
وفي برنامج عُرض على قناة دويتشه فيله الألمانية، أشار المحللون السياسيون إلى أن هناك استعدادًا غربيًا لحربٍ كبرى قد يؤججها الانتصار الروسي في أوكرانيا، خوفًا من أن تتبع روسيا ذلك بالهجوم على واحدة من دول الناتو، الأمر الذي استدعى من الحلف أن يبدأ أكبر حركة مناورات عسكرية منذ الحرب الباردة تحت اسم المدافع الصامد، وهي المناورة التي من المقرر أن يشارك فيها 90 ألف جندي من 31 دولة، للتدرب لمدة أربعة أشهر على أسوأ سيناريو يمكن للعالم أن يواجهه، وهو الحرب الشاملة.
بحسب الخبراء، هناك حالة من العسكرة تجتاح دول الغرب، وذلك عقب تقرير نشرته مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي يشير إلى أن روسيا لأول مرة في تاريخها الحديث، قررت زيادة ميزانية الإنفاق الدفاعي لعام 2024 لتصل إلى 6 من الناتج المحلي الإجمالي، الأمر الذي فسره التقرير بالعلامة الواضحة على أن روسيا لا تنوي إنهاء الحرب مع أوكرانيا في وقتٍ قريب، بل على العكس من ذلك هناك تخطيط روسي لحرب طويلة الأمد قد تنضم إليها أطراف أخرى، وهو ما استدل عليه التقرير من كون الإنفاق الدفاعي الروسي للعام الماضي يفوق مقدار الإنفاق الاجتماعي، مما يعني إعطاء الأولوية الكبرى للحرب الروسية الأوكرانية، وإذا ما قلت حدة الصراع، فستذهب الميزانية -بحسبهم- نحو تجديد الترسانة العسكرية الروسية وإنتاج المعدات الجديدة.
في هذا السياق، صرح الأمين العام السابق لحلف الناتو، ينس ستولتنبرغ، أن روسيا تُعِد اقتصادها لحرب طويلة، وهو ما يستدعي من الحلف تجهيز نفسه لصراع قد يستمر عقودا من الزمن، وقال إنه في حال فوز روسيا في حرب أوكرانيا، فليس هناك ما يضمن أن الصراع لن يمتد إلى دول أخرى. وأضاف أن دعم أوكرانيا والاستثمار في تعزيز القدرات العسكرية للحلف هما أفضل الأدوات الدفاعية ضد روسيا.
نفس الأمر أكد عليه وزير الدفاع الدانماركي، ترولز لوند بولسن، في تصريحاته الأخيرة التي قال فيها إنه يتعين على الدانمارك تسريع استثماراتها العسكرية، خاصة أن المعلومات الاستخباراتية كلها تشير إلى أن روسيا تعمل على قدم وساق لإعادة تسليح جيشها بوتيرة متسارعة، الأمر الذي يجعلنا لا نستبعد أن تبادر روسيا بمهاجمة إحدى دول الناتو خلال فترة تتراوح بين ثلاث إلى خمس سنوات، بحسبه.
ورغم إنكار الكرملين نية روسيا الدخول في حرب شاملة، يبدو أن دول الناتو بدأت بالفعل التجهيز لصراعٍ عالمي وشيك، ففي مؤتمر صحفي عقد يوم 14 فبرايرشباط الماضي، أعلن ستولتنبرغ أن ميزانية الدفاع لدول الحلف لعام 2024 ستصل إلى 380 مليار دولار، وأنه يتوقع في العام نفسه أن تلتزم 18 من الدول الأعضاء بإنفاق ما لا يقل عن 2 من الناتج المحلي الإجمالي على الدفاع، وهي النسبة التي اتفق رؤساء دول وحكومات الناتو على تخصيصها للإنفاق الدفاعي في العام 2014، وذلك ردًا على ضم روسيا شبه جزيرة القرم، ونظرًا لحالة عدم الاستقرار المحتدمة في منطقة الشرق الأوسط. وبالفعل شهد الإنفاق الدفاعي لحلف الناتو ارتفاعًا غير مسبوق في أعقاب الحرب الروسية الأوكرانية، إذ زاد في العام 2023 وحده بنسبة 11.
يعتبر البعض فوز روسيا في الحرب على أوكرانيا أمرًا كارثيًا، ومنهم الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الذي صرح بأن انتصار روسيا في تلك الحرب يعني انعدام الأمن في أوروبا، فهم يعتبرون ذلك خطوة أولى في طريق تكوين إمبراطورية روسية كبرى، إذا استوعبت أوكرانيا داخل حدودها، فلن يستطيع أحد الوقوف في وجه المد الروسي تجاه دول الناتو، وهو السيناريو الأسوأ الذي يخشاه الحلف.
على عكس هذه الحيطة الغربية، أنكر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين نية بلاده مهاجمة بولندا أو توسيع نطاق الحرب الأوكرانية كما يزعم البعض، وذلك في حوارٍ له مع الصحفي الأميركي تاكر كارلسون، إذ أشار بوتين إلى أن نشوب أي حرب شاملة ليس من الحكمة والتفكير السليم، ويرى أن الغرب يحاول التلويح بورقة التهديد الروسي لتخويف شعوبهم تارة، وجمع الأموال تارة أخرى من دافعي الضرائب لتمويل الحرب الأوكرانية.
في الوقت ذاته، ألقى الرئيس الروسي باللوم على الدول الغربية قائلًا إن تحركاتها هي التي تدفع الإنسانية إلى حافة صراع عالمي، خاصةً بعدما أرسلت الولايات المتحدة وبولندا وجورجيا جنودها للمحاربة كمرتزقة على الجبهة الأوكرانية. وقد برر بوتين حربه على أوكرانيا بكونها ردعا لما تواجهه روسيا من تهديد استراتيجي، بعدما توسعت القواعد العسكرية لحلف الناتو إلى الشرق بشكل كبير في العقود الفائتة، الأمر الذي يجعل من انضمام أوكرانيا إلى الحلف -وفقًا له- تصعيدًا خطيرًا من قبل الغرب، لأنه يعني إضافة قاعدة عسكرية جديدة على الحدود الروسية، وهو أمر لطالما اعترض الاتحاد الروسي عليه، وهو الوضع الذي حفز ضم روسيا لشبه جزيرة القرم عام 2014 ومن ثم شن الهجوم على أوكرانيا في فبرايرشباط 2022.
الجدير بالذكر، أن هناك خلافا مفاهيميا حول ما يمكن أن نطلق عليه حربًا عالمية، إلا أنها في كل الأحوال تتضمن صراعا مسلحا بين كتلتين من القوى العظمى في العالم بهدف الهيمنة، وعادة ما يجري ذلك في أكثر من مسرح للمعارك. وبالرغم مما يجري الترويج له إعلاميًا، من أننا نشهد حاليًا ما يمكن أن نطلق عليه إرهاصات الحرب العالمية الثالثة، يرى بعض المؤرخين، مثل الأستاذ الفخري بجامعة ييل الأميركية ومدير أبحاث السياسات الخارجية في معهد بروكينغز، جاي وينتر، أنها مجرد لغة مبالغة إعلامية لا يمكن للواقع استيعابها، وهو ما أكد عليه تقرير مجلة تايم الأميركية الذي أشار إلى أن الساسة يستخدمون مثل هذه اللغة من أجل اللعب بمشاعر الجماهير.
ووفقًا لرأي الخبراء، فإن التوترات بين الولايات المتحدة والصين ووجود أكثر من ساحة حرب مفتوحة في أوكرانيا وغزة، لا ترقى إلى مستوى حرب عالمية جديدة، حيث لا يوجد ما يكفي من الترابط بين الصراعات الجارية على الأرض في الوقت الراهن ليثير هذا النوع من القلق.
لكنْ هل حقًا تجهز روسيا نفسها لحرب عالمية ثالثة؟ من واقع تحليل بسيط للتطوير القائم في جميع الجوانب الخاصة بالجيش الروسي، نرى أن هذا ممكن لا شك، لم لا وقد أصدر موقع غلوبال فاير باور تقريره السنوي للتصنيف العالمي لجيوش 145 دولة مؤخرا، وفيه احتلت روسيا المرتبة الثانية بعد الولايات المتحدة مباشرة، وذلك رغم العقوبات الغربية المفروضة عليها، ودخول حربها مع أوكرانيا عامها الثالث.
وتأتي الصين بعد روسيا في المرتبة الثالثة ومن بعدها الهند. ووفقًا لما جاء في التقرير، تمتلك القوة الجوية الروسية ما مجموعه 4255 طائرة، لتحتل بفارق كبير المركز الثاني بعد الولايات المتحدة التي تمتلك 13209 طائرات. وفيما يخص الطائرات المقاتلة، تمتلك روسيا 809 مقاتلات، بفارق كبير أيضًا لصالح الولايات المتحدة التي تمتلك ما يصل إلى 1854 مقاتلة.
رغم ذلك، تسعى روسيا بوتيرة متسارعة لمواكبة ما يشهده العالم من تقدم في التكنولوجيا العسكرية وإستراتيجيات الحروب، وهو أمر نستطيع أن نلحظه في تصميمات المقاتلات الروسية الحديثة. في عام 2021 وبحضور الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، جرى الكشف عن مقاتلة شبحية جديدة من مقاتلات الجيل الخامس، وذلك في معرض ماكس الجوي بموسكو، وهي سو-75،التي يُفترض أن نشهد قريبًا اختبارات الطيران الخاصة بها في وقت مبكر من هذا العام، ويتوقع الخبراء أن تتفوق الشبح الروسية الأحدث على غيرها من المقاتلات الغربية.
أطلقوا على المقاتلة الشبحية اسم كش مات، وهو اسم مستلهم من لغة لاعبي الشطرنج، ولديها القدرة العملياتية الفائقة التي تضمن لها السيطرة على الأجواء التي تحلق فيها، وهي من تصميم شركة سوخوي الروسية الشهيرة، التي أدمجت عام 2006 داخل شركة الطائرات المتحدة، وذلك ضمن خطط تطوير التسليح في روسيا.
وبإمكان هذه الطائرة إطلاق أسلحة موجهة وغير موجهة وصواريخ جو-جو وجو-أرض. بالإضافة إلى ذلك، تستطيع كش مات حمل ما يصل إلى 7 أطنان من المتفجرات، كما تمتاز بقدرتها على المناورة وسط تضاريس صعبة وظروف مناخية قاسية، كل هذا مدمج مع قدرات فائقة على التخفي. ومن المتوقع أن تكون تكلفة كش مات أقل بثلاث مرات من تكلفة طائرة إف-35 الأميركية، وإن كانت أقل في القدرة. ولذلك، صممت المقاتلة الشبح سو-57 لتكون المعادل الروسي للمقاتلة الشبح متعددة المهام إف-35 التي أنتجتها شركة لوكهيد مارتن الأميركية، وهي من مقاتلات الجيل الخامس الأكثر تطورًا في العالم، وتمتلكها الولايات المتحدة إلى جانب حلفائها من الدول الأعضاء في حلف الناتو.
قبل إنتاج سو-57 كان الكرملين بحاجة إلى مقاتلة شبحية بإمكانها أن تحل محل سو-27 وميغ-29، وقد تستغرب إن عرفت أن تصميمها يعود إلى ما قبل سقوط الاتحاد السوفياتي عام 1979، وهو المشروع الذي بدأ وتراجع بانهيار الاتحاد عام 1991 نظرًا لنقص الأموال، لكنه عاد إلى الواجهة مرةً أخرى بداية من الألفية الجديدة.
من أجل تصميم المقاتلة، اعتمدت شركة سوخوي الروسية على نموذج طائرة سو-27، لكنها طورته وأضافت إليه التقنيات التكنولوجية الأحدث. وعلى الرغم من أن الرحلة الأولى للطائرة كانت عام 2010، فإن النماذج الأولية منها عانت الكثير من المشكلات، وذلك حتى اجتازت المقاتلة اختبار قدراتها بنجاح إبان الحرب السورية عام 2018. وفي ديسمبركانون الأول 2020، استلمت القوات الجوية الروسية أول مقاتلة من طراز سو-57 مزودة بمحرك المرحلة الأولى التشغيلي، وفي عام 2022، أدخلت الجوية الروسية سو-57 في عملياتها العسكرية الخاصة ضد أوكرانيا.
تمتاز سو-57 بكونها مقاتلة تعمل بمحركين ويصل مداها إلى 3500 كلم، وهي بذلك تتفوق على إف-35 الأميركية أحادية المحرك، كما تتفوق في السرعة أيضًا على المقاتلة الأميركية، إذ تصل سرعتها إلى 2778 كلمساعة، في حين لا تتعدى السرعة القصوى للطائرة الأميركية 1975 كلمساعة.
أما فيما يخص تقنيات التخفي، فالمقاتلتان تمتازان بقدرات فائقة تجعل من الصعب على أجهزة الرادار رصدهما، أضف إلى ذلك خفة الحركة والقدرة على القيام بمهام متعددة وإطلاق صواريخ جو-جو وجو-أرض وصواريخ مضادة للسفن. كما جُهزت سو-57 بمدافع هوائية من عيار 30 ملم لعمليات القتال المباشر، واحتوى تصميمها على مقصورتين كبيرتين كل منهما قادرة على حمل أربعة صواريخ جو-جو من طراز K-77M.
إذا قارنا نقاط القوة بين كلتا المقاتلتين، سنجد الطائرة إف-35 مجهزة بأجهزة استشعار تستخدم في المراقبة والاستطلاع وجمع المعلومات، ومزودة بأنظمة أسلحة متطورة وتقنيات الذكاء الاصطناعي، وتتفوق بالقدرة المذهلة على المناورة في المنعطفات وتقاطعات الطرق الضيقة، وذلك بفضل نظام الدفع الموجه، وهي تتمتع في الوقت ذاته بالقدرة على الإقلاع والهبوط بشكل عمودي دون الحاجة إلى مدرج، وبحسب الخبراء العسكريين هي الأفضل في القيام بالعمليات التعاونية.
وبالنظر إلى قدرات سو-57 نجدها تتألق هي الأخرى في المناورات، أضف إلى ذلك أنظمة الرادار القوية، مثل جهاز رادار المسح الإلكتروني AESA الذي يستخدم في الكشف عن الأهداف وتتبعها، كما أنها مجهزة بذخيرة موجهة وغير موجهة، وبإمكانها حمل ما يصل إلى 8 أطنان من المتفجرات. وتضم الشبح الروسية بعض تقنيات الجيل الخامس، وتُعد المقاتلة الوحيدة على مستوى العالم التي تستخدم الطيران بواسطة نظام الأسلاك، وهو نظام إلكتروني يستخدم للتحكم في حركة الطائرة، وفيه تقوم مجموعة من الحاسبات بإدارة الطائرة عوضًا عن أدوات التحكم الميكانيكية، مما يجعلها واحدة من أكثر المقاتلات تقدمًا على مستوى العالم، وهي بحسب الخبراء العسكريين تتفوق في الاشتباكات الديناميكية.
في يوليوتموز 2022، نشرت روسيا العقيدة البحرية الجديدة، التي أظهرت نية موسكو بأن تصبح قوة بحرية عظمى، إذ ركزت العقيدة على زيادة النفوذ البحري الروسي من خلال تطوير قطاع النقل البحري، وحماية مناطق نفوذها في البحار والمحيطات ومنطقة القطب الشمالي، خاصةً بعدما أصبحت محاصرة من قبل الدول الغربية في بحار ومحيطات العالم، وهو ما اعتبرته روسيا تهديدًا استراتيجيا لمصالحها وأمنها القومي، لذلك تهدف موسكو إلى النهوض بإمكاناتها البحرية كأحد شروط تحقيق التنمية المستدامة خلال القرن الـ 21.
وبالنظر إلى نفوذ روسيا البحري، نجد أن موسكو تعاني من نقطة ضعف رئيسية، خاصة عندما يتعلق الأمر بالبحار، فهي لا تمتلك سوى حاملة طائرات وحيدة معطوبة تعتبر إرثها من فترة الحرب الباردة. ولتخطي هذه العقبة، تسعى روسيا حاليًا للعمل على عدة مشروعات في وقتٍ واحد، أحدها تجديد الحاملة القديمة وإعادتها إلى العمل، والثاني تصميم حاملة طائرات جديدة من المتوقع أن تصبح الأكبر في العالم، كما أنها تعمل بجد لإعادة إحياء المشاريع السوفياتية التي تراجعت بانهيار الاتحاد.
قالوا عنها إنها حاملة طائرات ملعونة، فقد دخلت حاملة الطائرات الروسية كوزنيتسوف الخدمة أول مرة عام 1985، لكنها لم تشارك إلا في عملية قتالية واحدة إبان الحرب السورية عام 2016، فقدت خلالها طائرتين نتيجة الأعطال التقنية، لتقبع بعدها خارج الخدمة منذ ذلك الحين. وفي الوقت الذي تمتلك فيه الولايات المتحدة 11 حاملة طائرات تعمل بالطاقة النووية، بقت روسيا عالقة مع كوزنيتسوف العتيقة التي ما زالت تعمل بالمازوت، ولا تملك تقنيات التخفي، بل على العكس من ذلك تغطيها سحابة دخان سوداء تجعلها مرئية بوضوح أمام دفاعات العدو. هذا الأمر وقف عائقًا بين موسكو وتحقيق ما تطمح إليه من استعادة نفوذها على البحار والمحيطات.
لهذا وفي منتصف عام 2022، أعلنت روسيا عن مشروع عودة الأدميرال كوزنيتسوف إلى الخدمة مرة أخرى بعد تجديدها، والذي كان مقررا أن يحدث بنهاية العام 2024 وفقًا لما ذكرته وكالة تاس الإخبارية.
إلى جانب ذلك، كشف مركز أبحاث كريلوف KRSC الروسي قبل عدة سنوات عن النموذج الأولي لحاملة الطائرات الأكبر في العالم، المشروع 23000 إي الذي أطلقوا عليه اسم شتورم أو العاصفة، وتبلغ تكلفته حوالي 9 مليارات دولار. عرفنا ذلك عندما صرح مصدر مسؤول لوكالة تاس الإخبارية الروسية، أن قسم البحث والتطوير RD سيبدأ تصنيع أول حاملة طائرات روسية تعمل بالطاقة النووية في العام 2023، وذلك ضمن خطة لإدخالها الخدمة بحلول العام 2027. وكانت البحرية الروسية قد ذكرت في وقت سابق أن الأسطول الروسي يتوقع تسلم حاملة الطائرات المتطورة بحلول عام 2030.
تمتاز حاملة الطائرات المنتظرة بقدرة إزاحة قرابة 100 ألف طن من المياه، ويبلغ طولها 330 مترًا وعرضها 40 مترًا، وبإمكانها حمل ما يصل إلى 90 طائرة، تشمل الطائرات الهجومية وطائرات الاستطلاع، ومعها بالطبع مقاتلات الجيل الخامس الروسية الشهيرة سو-57. كما سيتم تزويدها بأنظمة أسلحة مضادة للغواصات وأنظمة حرب إلكترونية متقدمة.
ومن المقرر أن يجري تزويد شتورم الروسية بنظام دفاع إس 500 روسي الصنع، وهي منظومة دفاع صاروخية أرض جو مضادة للصواريخ الباليستية، يصل مداها إلى 600 كلم، وبإمكانها الاشتباك مع 10 أهداف في الوقت ذاته، فضلا عن أنه يُعد نظام دفاع فريدا من نوعه، إذ بإمكانه تدمير الأقمار الصناعية ذات المدار المنخفض، والأسلحة التي يجري إطلاقها من الفضاء، والطائرات والمسيرات التي تفوق سرعتها سرعة الصوت.
كل هذا يجعل من شتورم منافسة شرسة لحاملة الطائرات الأميركية الأحدث في العالم جيرالد فورد المزودة بمفاعلين نوويين من طراز أي-1 بي يسمحان لها بالإبحار لمدى غير محدود من الكيلومترات، وتصل إزاحتها لحوالي 100 ألف طن. كما تمتلك فورد قدرات عالية على التخفي، ويبلغ طولها 333 مترًا وارتفاعها 76 مترًا. أما عن ميزتها الكبرى، فتتمثل في النظام الكهرومغناطيسي الذي يسمح بإقلاع الطائرات الثقيلة والخفيفة على حدٍ سواء، هذا بالإضافة إلى حمولة تصل إلى 90 طائرة، تشمل المقاتلة الشبح إف-35. كل هذا جعلها حاملة طائرات باهظة الثمن، إذ بلغت تكلفتها الإجمالية 13 مليار دولار.
وصفت الحرب الروسية الأوكرانية بأنها أول معركة حقيقية للمسيّرات في العالم، حيث استخدمت هذه الطائرات في مهام الاستطلاع والتجسس وتوجيه الضربات على الأرض للأهداف الاستراتيجية، خاصةً مع صعوبة رصدها من قبل أنظمة الدفاع التقليدية، ناهيك عن تكلفتها الزهيدة التي تسمح بإنتاجها بكميات كبيرة.
الجدير بالذكر، أن روسيا لم تكن تمتلك قبل عقد من الزمان سوى 200 طائرة مسيرة، ولكنها أدركت أنه لا يمكنها خوض حرب كبرى بأي حال من الأحوال دون تغيير جذري في هذا السياق، وتمكنت في غضون السنوات الفائتة من اللحاق بركب الصناعة المتطورة للمسيرات، وحققت تقدما كبيرًا بشأن تطبيق تقنيات الذكاء الاصطناعي فيما يخص الطائرات، حتى أصبح بحوزتها اليوم أكثر من 2000 طائرة. كما عملت الشركات الروسية على قدم وساق في مجالات البحث والتطوير حتى أصدرت نسخها الخاصة من المسيرات الإيرانية شاهد-136 وشاهد-131.
في البدء، عملت الشركات الروسية على تصنيع إصدارات قليلة من الطائرات المسيرة متوسطة المدى، منها أورلان-10، وهي مسيرة متعددة المهام استخدمت عادة من أجل المراقبة والاستطلاع، إذ نجدها مجهزة بتقنيات الحرب الإلكترونية وكاميرات تصوير الفيديو والتصوير الحراري، كما أنها مزودة بأجهزة إرسال لاسلكي توفر إرسال المعلومات الاستخباراتية مباشرة إلى وحدات التحكم الأرضية. تليها طائرة كورسار القتالية، وهي مسيّرة تزن حوالي 200 كلغ ويبلغ طول جناحيها 6.5 أمتار، وتمتاز بقدرتها على توجيه الضربات الموجهة وغير الموجهة، كما استخدمت في العمليات الاستطلاعية ذات الارتفاعات العالية.
هذه البدايات المتواضعة لم تنبئ بما نشرته المواقع الإخبارية المختلفة في نوفمبرتشرين الثاني 2023، من أن روسيا طورت سلاحا جديدا استطاع تجاوز الدفاعات الأوكرانية المضادة للطائرات المسيرة. كان هذا السلاح الفعال عبارة عن مسيّرات صغيرة يمكن إطلاقها من مقاتلات الجيل الخامس الروسية سو-57، الأمر الذي سمح لموسكو بالتحايل على أنظمة الدفاع الأوكرانية، وفقًا للتقارير.
لدى روسيا اليوم، أنواع مختلفة من المسيرات المتطورة، أشهرها المسيرة لانسيت، وهي طائرة طورتها شركة زالا Zala الروسية، وجرى اعتبارها السلاح الروسي الأكثر فاعلية في مواجهة آليات الحرب الأوكرانية، بداية من الدبابات والمدافع ووصولا إلى قواعد إطلاق نظام الدفاع الجوي إس-300، فهي مجهزة بمستشعرات متقدمة، وتبلغ سرعتها القصوى 300 كلمساعة، ويبدأ مداها من 7 كلم ويصل إلى قدرات المسيّرة الانتحارية الإيرانية شاهد-136 التي يبلغ مداها 2000 كلم.
وقد استطاعت لانسيت إظهار قدراتها الحربية المذهلة في أرض المعركة، خاصة بعدما دمرت مقاتلتين أوكرانيتين، واحدة من طراز ميغ-29 والأخرى من طراز سو-25، كما جرى استخدامها بكميات كبيرة من قبل الروس في توجيه الضربات الأرضية، وهو ما عزز سيرتها لكونها تمثل تطورًا كبيرًا في مجال صناعة المسيرات.
على الرغم من قدرات لانسيت الفائقة، فإن روسيا لم تتوقف عن محاولة تطويرها، ففي سبتمبرأيلول 2023، أعلنت شركة ايروسكان الروسية المتخصصة في إنتاج الطائرات المسيرة، عن طائرة انتحارية جديدة من طراز إيتالماس، تُعد نسخة مطورة من لانسيت، ويطلقون عليها اسم الذخيرة المتسكعة، لطريقتها في الاستهداف، فهذا النوع من المسيرات يحوم في البدء حول الهدف المنشود حتى التأكد منه ومن ثم توجه إليه ضربة قاضية.
أما عن مميزات المسيرة الجديدة، فلا تتوفر معلومات كثيرة حول خصائصها التقنية، لكنهم أشاروا إلى أنها مجهزة برأس حربي أكبر ومدى إطلاق يصل إلى 200 كلم، ويقال إنها شديدة الشبه بالمسيرة الإيرانية شاهد-136 في الشكل وطريقة الإطلاق.
كما أعلنت روسيا مؤخرًا عن دخول مسيرة جديدة مرحلة الإنتاج التسلسلي، وهي Okhotnik-B، التي يُتوقع أن تكون مسيّرة هجومية شبحية تُعد الأحدث والأكثر تقدمًا، فهي تمتاز بقدرتها على التخفي والإفلات من الرادارات. تصنف مسيرة Okhotnik من مقاتلات الجيل السادس، ويرجع تصميمها إلى العام 2009، عندما عملت شركتا سوخوي وميغ على تصميم مسيرة هجومية تبلغ سرعتها القصوى 1000 كلمساعة، ويصل وزنها إلى 20 طنًا، كما أدخلوا إليها بعض تقنيات المقاتلة الروسية الشبحية سو-57، وقد اختبرت روسيا النماذج الأولية منها في منتصف عام 2023 خلال الحرب الدائرة في أوكرانيا.
دخول روسيا إلى حرب عالمية ثالثة، لا يتوقف فقط على قدراتها الجوية والبحرية، بل هناك شقان هامان لهما علاقة بالعمليات البرية، وهما العتاد والذخائر. وفي هذا النطاق نجد الجيش الروسي يحتل المرتبة الأولى عالميًا من حيث عدد الدبابات التي تبلغ 14777 وحدة، والمدفعية ذاتية الدفع التي يبلغ عددها 6208 وحدات، والمدافع المقطورة بعدد 8356 وحدة، وذلك وفقًا لتقديرات غلوبال فاير باور لعام 2024. وهنا تأتي النقطة الأهم، إذ تحتل روسيا المركز الثاني عالميًا في راجمات الصواريخ التي يبلغ عددها 3056 وحدة، كما تمتلك مجموعة من راجمات الصواريخ المتقدمة، أشهرها توس-1 إيه Tos-1A، التي يعتبرها البعض أسوأ كابوس يمكن أن يواجهه أي جيش في العالم، إذ قالوا عنها إنها قادرة على تحويل الهواء إلى نيران.
وصممت راجمة الصواريخ توس-1 أي بحيث تكون قادرة على إطلاق رؤوس حربية من نوعين صواريخ حارقة تقليدية، وأخرى حرارية من عيار 220 ملم تعرف باسم الرؤوس الحربية الوقودية الهوائية، وتعمل هذه الرؤوس على توليد سحابة من الغازات الحارة قادرة على التسرب داخل المباني والأماكن المغلقة، وأثناء تفاعلها مع مادة متفجرة ثانية تُحدث انفجارًا شديدًا، ولهذا يطلقون عليها اسم الشمس الحارقة أو لهيب الشيطان، بل ويعتبرونها واحدة من أكثر الأسلحة الروسية فتكًا.
تمتاز هذه الراجمة بقدراتٍ قتالية عالية، ولهذا تستخدم في المهام الصعبة مثل استهداف المخابئ أو تدمير الآليات العسكرية للعدو، وقد شاهدنا نبذة عن قدراتها إبان العمليات العسكرية الروسية داخل أوكرانيا إذ استخدمت الشمس الحارقة في مواقع عسكرية بأكملها نظرا لخصائصها وقدرتها على عزل وتحييد مناطق معينة عن طريق قطع خطوط الإمداد.
وتحتوي الراجمة توس-1 أي على 24 أنبوبًا للإطلاق، وبالتالي يمكنها إطلاق 24 صاروخًا في ثوان معدودة، وهي تعمل بالوقود الصلب، وتزن حوالي 45 طنًا، كما تصل سرعتها إلى 60 كلمساعة، وتأتي مثبتة على دبابة من طراز تي-90 إس، وبإمكانها تغطية منطقة قتال بمساحة 40 كلم2. وفي مايوأيار 2020، كشفت روسيا خلال عرض عسكري عن نسخة محدثة ومطورة من توس-1 إيه تحت اسم توس-2 أو توسوشكا، بمدى إطلاق يبدأ من 3.5 كلم وحتى 100 كلم، وهو ما يفوق مدى النسخة القديمة الذي لم يتعد 6 كلم.
لكن راجمات الصواريخ المدمرة ليست المشكلة الوحيدة التي تقف أمام الجيوش الأوروبية في حال اندلاع حرب شاملة مع روسيا، فهناك أسلحة ارتجالية حديثة ومفاجئة، إلى درجة تجعل الدفاعات الغربية غير جاهزة لمواجهتها. خير مثال على ذلك القنابل الانزلاقية التي أغرقت سماء أوكرانيا باللعب، وتُعد نوعًا جديدًا من الذخائر لم نسمع عنه إلا مؤخرًا إبان العمليات الروسية داخل أوكرانيا، إذ لعبت دورًا كبيرًا في إلحاق خسائر فادحة بالقوات الأوكرانية.
في حديث نشر بصحيفة نيويورك تايمز الأميركية، قال الجنود الأوكرانيون يواجهون بوابات الجحيم التي فتحتها روسيا على الخطوط الأمامية الأوكرانية، وكانوا يقصدون القنابل الانزلاقية التي أدخلتها روسيا إلى ساحة معاركها ضد أوكرانيا مطلع مارسآذار 2023، وتطلق منه ما لا يقل عن 20 قنبلة يوميًا قادرة على الوصول إلى المخابئ تحت الأرض وتدميرها، إلا أن الدفاعات الأوكرانية لم تكن مستعدة لمواجهة مثل هذه الأسلحة المرتجلة.
كانت وزارة الدفاع الروسية قد أفادت أنها أدمجت قدرات الانزلاق إلى قنابل FAB-500 المعروفة بحمولة تصل إلى 500 كلغ من المواد المتفجرة، والتي زادت حمولتها إلى 900 كلغ بعد التعديلات الأخيرة. ونجد أن القنابل بعد تعديلها أصبحت مزودة بأجنحة تمنحها مدًى أطول قد يصل إلى قرابة 70 كلم اعتمادًا على الارتفاع الذي يجري إطلاقها منه، كما جهزت بأنظمة ملاحية من أجل مسار طيران أكثر دقة. هذا الأمر غيّر قواعد الصراع فيما يخص قدرة القوات الروسية على تقديم الدعم الجوي لجنودها خلال المعارك البرية.
تمتاز القنابل الانزلاقية عن غيرها من الأسلحة بقدرتها على التحليق بارتفاعات منخفضة، وهو ما جعل الدفاعات الأوكرانية غير فعالة في مواجهة مثل هذه الذخيرة التي استهدفت في قصفها البنى التحتية والمؤسسات الأوكرانية الإستراتيجية. ولأنها زهيدة التكلفة، إذ تُعد أرخص من صواريخ كروز والصواريخ الباليستية على حد سواء، عملت روسيا على إنتاجها بكميات هائلة، وهو ما ساعد في توفير الإمدادات الجوية اللازمة في وقت أسرع مما تستطيع أوكرانيا وشركاؤها مجاراته، خاصةً أنه لإسقاط مثل هذه الذخائر فإن على القوات الأوكرانية اختيار أحد أمريْن أحلاهما مُر، إما أن تستخدم صواريخ باتريوت أو سام الدفاعية باهظة الثمن، أو تحرك أنظمتها الدفاعية بعيدا عن المدن، وهو ما لا يمكنها القيام به.
منذ بداية الحرب الأوكرانية، انتهزت روسيا كل الفرص المتاحة للتلويح بأسلحتها النووية كوسيلة للردع وحل أخير قد تلجأ إليه لإنهاء النزاعات التي قد تهدد وجود الاتحاد الروسي. وبينما يعتبر البعض التهديد باستخدام السلاح النووي مجرد مناورة سياسية، يخشى البعض الآخر من إمكانات روسيا التي تتعلق بالأسلحة النووية، خاصة أن موسكو لا تحتكم إلى القوانين الدولية فيما يتعلق بالردع النووي، إذ لديها عقيدة نووية خاصة تجلت عبر إحدى الوثائق التي نشرتها الحكومة الروسية في يونيوحزيران 2020. وبالنظر إليها نجد أنها قد تمنح الضوء الأخضر لاستخدام الأسلحة النووية في حالتي تهديد وجود الدولة الروسية، أو ردًا على العدوان الغربي باستخدام الأسلحة النووية وأسلحة الدمار الشامل، سواء كان ذلك موجهًا ضدها أو ضد أحد حلفائها بما قد يعرض مصالح موسكو للخطر.
يبلغ المخزون العالمي الإجمالي من الأسلحة النووية 12512 وحدة، يوجد منها 5889 في روسيا وحدها، مما استدعى من أمين مجلس الأمن في الاتحاد الروسي، نيكولاي باتروشيف، أن يصرح بأن روسيا تفوقت على منافسيها لأول مرة في تاريخ الأسلحة النووية، وهو ما نقله الموقع الروسي نيوز ري، مشيرًا إلى أن الأسلحة الإستراتيجية التي طورتها روسيا في السنوات الأخيرة تستطيع أن تحفظ أمن البلاد لعقود، الأمر الذي يجعلنا نتساءل عن ماهية هذه الأسلحة التي يتحدثون عنها.
وفقًا للمعلومات الاستخباراتية الأميركية، تمتلك روسيا بحوزتها قرابة 2000 سلاح نووي تكتيكي، هذا بخلاف 4500 رأس نووي من الأسلحة الإستراتيجية، منها 1500 رأس جرى نشرها بالفعل حول العالم، و1500 أخرى وُضعت خارج الخدمة في انتظار التفكيك وإعادة التشغيل، والبقية هي رؤوس نووية صغيرة ذات قدرة تدميرية أقل. ولندرك أهمية أسلحة روسيا الإستراتيجية، علينا أن نعرف الفرق بين الرأس النووي الإستراتيجي والتكتيكي.
الرأس النووي الإستراتيجي يمتاز بمدى أطول وحمولة تفجيرية قد تصل إلى 800 كيلو طن من المواد شديدة التفجير، مما يجعل قدرته التدميرية هائلة، في حين أن الرأس التكتيكي مداه أقل وحمولته التفجيرية لا تتخطى 100 كيلو طن، ويقال إنه يستخدم لضرب مساحات صغيرة من الأرض لتجنب التسرب الإشعاعي. لكن بالنهاية ووفقًا للعديد من الخبراء، تظل عواقب استخدام الأسلحة النووية غير مضمونة، ولا يمكن التنبؤ بها.
في هذا السياق، تمتلك روسيا نظامين صاروخيين يستخدمان في حمل الرؤوس النووية التكتيكية، أحدهما صاروخ كاليبر الذي يتراوح مداه بين 1500 إلى 2500 كلم، ويطلق من السفن والغواصات، والآخر نظام صواريخ أرض-أرض المعروف باسم إسكندر، والذي يصل مداه إلى 500 كلم. والآن دعونا نلقي نظرة على أسلحة روسيا الإستراتيجية الحديثة.
أعلن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في مارسآذار 2018، عن مبادرة لتطوير جيل جديد من الأسلحة المتقدمة، من ضمنها صاروخ باليستي عابر للقارات، وأسلحة نووية تحت الماء، هذا إلى جانب أسلحة الليزر والصواريخ التي تفوق سرعتها سرعة الصوت ويمكن تزويدها برؤوس حربية نووية أو تقليدية، وهي الأسلحة التي جرى الكشف عنها واختبرت موسكو نماذجها الأولية خلال الأعوام الماضية.
ويتضح قدر التطوير الروسي العسكري في منظومة صواريخ سارمات الباليستية العابرة للقارات، التي يطلقون عليها لقب الشيطان أو صواريخ يوم القيامة، حيث وصفها الرئيس بوتين في أحد تصريحاته بأنها أسلحة لا تُقهر. ويُعد سارمات السلاح الروسي الأكثر فتكًا لما يمتاز به من قدرات خارقة، فهو صاروخ باليستي خفيف الوزن يعمل بالوقود السائل، ويسمح له المخزون الطاقي بالتحليق عبر القطبين الشمالي والجنوبي بمدى يصل إلى 18 ألف كلم، مما يعني أنه قادر على استهداف أي مكان على وجه الأرض.
وكانت روسيا قد أدخلته إلى الخدمة في خضم الحرب الدائرة في أوكرانيا وبالتوازي مع التوترات المتصاعدة بين روسيا ودول حلف الناتو، مما جعل البعض يعتبر دخول سارمات إلى الخدمة القتالية في هذا الوقت بالتحديد، مناورة سياسية روسية، وإنذارا للولايات المتحدة ودول الغرب.
بإمكان سارمات حمل ما يصل إلى 50 ميغا طن من مادة تي.أن.تي المتفجرة، وهو مزود بنحو 10 رؤوس نووية، لدى كل منها توجيه مستقل، هذا بخلاف الرؤوس الحربية الصغيرة التي يصل عددها إلى 16. كما يمتاز بالمرونة في تغيير الارتفاع والاتجاه والسرعة، ويأتي مجهزًا بأنظمة دفاعية مضادة للصواريخ، ناهيك عن أنه لا يقضي سوى الحد الأدنى من الوقت داخل الغلاف الجوي، مما يضمن له الحصانة ضد الاستهداف من قبل دفاعات العدو.
أما عن القوة التدميرية للشيطان الروسي، فيقال إنها تفوق قنبلتي هيروشيما وناغازاكي بحوالي 2000 مرة، وبإمكانك أن تتخيل كيف يمكن لصاروخ كهذا وفي مدة لا تتعدى ثلاث دقائق أن يمحو بلدانًا كاملة عن وجه الأرض، إذ تشير بعض التقديرات إلى أن بإمكانه تدمير ما يعادل مساحة دول مثل فرنسا وبريطانيا. كل هذا يجعل من سارمات أهم سلاح إستراتيجي بحوزة موسكو.
منذ عام 2014، تعكف الولايات المتحدة هي الأخرى على تصميم صاروخ عابر للقارات، وهو المشروع الذي أطلقوا عليه اسم إل جي إم-35 أي سنتينل الذي يُتوقع أن يصل مداه إلى 5500 كلم، وبإمكانه حمل رأس نووي حربي يمكن أن تنفصل في منتصف الرحلة ليتم توجيهها ناحية الهدف، وهو ما يستغرق حوالي 30 دقيقة. ومن المفترض أن يدخل الصاروخ الخدمة عام 2029 لينافس صاروخ يوم القيامة الروسي.
رغم ذلك، نجد أن روسيا رتبت أوراقها جيدًا فيما يخص الغزو النووي للعالم، فإذا كانت الصواريخ الباليستية العابرة للقارات ستستخدم في توجيه الضربة الأولى، فإن موسكو قد طورت ضمن أسلحة الجيل الجديد سلاحًا يمكن استخدامه ما بعد الصواريخ الباليستية، وذلك من أجل ضمان ضربة قاضية، وهو صاروخ بوريفيستنيك الذي أطلق عليه حلف الناتو اسم سكاي فول Skyfall ووصفوه بالسلاح الانتقامي، قائلين إن روسيا طورت هذا السلاح خصيصًا حتى تنهي مهمتها بالقضاء على البنى العسكرية التحتية لخصومها فلا تترك لهم فرصة البقاء.
أما بخصوص بوريفيستنيك، فهو صاروخ شبح كروز يمتاز بقدرته على التخفي، كما أنه مزود برأس نووي ويعمل بالطاقة النووية، مما يمنحه ميزة التحليق بمدى غير محدود يتراوح بين 10 آلاف إلى 20 ألف كلم. ويحلق الصاروخ الشبح الروسي على ارتفاع منخفض ويمتاز بإمكانية تغيير مساره باستمرار، مما يجعل حركته صعبة التنبؤ بها من قبل أنظمة الصواريخ المضادة. وفور الإعلان عنه في نهاية عام 2023، صرح الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بأن روسيا انتهت الآن من تطوير أسلحتها الإستراتيجية الحديثة التي تضمن أمنها لعقود قادمة، وما هي إلا مسألة وقت حتى تعمل على إدخالها إلى الخدمة العسكرية.
ولا تتوقف قدرات روسيا النووية عند منظومة سارمات الباليستية وصواريخ كروز، بل تتعدى ذلك إلى إحكام السيطرة على البحار من خلال طوربيد بوسيدون الفائق، وهو أحد أسلحة الجيل الجديد التي انضمت مؤخرًا إلى ترسانة روسيا النووية. وقد قالت عنه وسائل الإعلام إنه سلاح نهاية العالم، وذلك لقدرته على حمل رؤوس نووية لمسافات طويلة عابرة للقارات بحمولة تصل إلى 100 ميغا طن، مما يعني أن قوته التدميرية هائلة، والأدهى أن بإمكانه الوصول إلى السواحل الأميركية، وبضغطة زر قد يستهدف مدنا أو حاملات طائرات إذا أرادت روسيا ذلك.
عُرف بوسيدون أولًا باسم Status-6، وهو يعتبر سلاحا بحريا إستراتيجيا يمتاز بكونه يعمل بالطاقة النووية ويصل مداه إلى 10 آلاف كلم، كما أنه ذاتي القيادة، ويمتاز بإمكانية إعادة توجيهه عن بعد. ويبلغ طول الطوربيد حوالي 20 مترًا. وبحسب المصادر الروسية يمكن لسرعة بوسيدون أن تتخطى 200 كلمساعة، إلا أن البعض يشير إلى أن سرعته الفعلية أقل من ذلك بكثير، بحيث لا تتعدى 90 كلمساعة.
وإلى جانب قدراتها النووية، تعمل روسيا على تطوير ترسانتها في نطاق هام وهو الصواريخ الفرط صوتية، فبعد الهجوم الذي شنته روسيا على العاصمة الأوكرانية في 7 فبرايرشباط الفائت، صرح معهد كييف للبحث العلمي أنه بعد تحليل الحطام تبيّن أن روسيا استخدمت صاروخا متقدما تفوق سرعته سرعة الصوت، وذلك في حادثة تُعد الأولى من نوعها منذ بدء الحرب الأوكرانية. كان هذا الصاروخ هو تسيركون، الذي وصفته المصادر الأوكرانية بأنه يكاد يستحيل اعتراضه أو إسقاطه، ويُعد هذا هو الاستخدام الأول له في ساحة القتال.
يُعتبر تسيركون أحد الصواريخ المرعبة التي تمتلكها روسيا وتثير قلق الغرب، إذ يصل مداه إلى قرابة 1000 كلم، وتبلغ سرعته القصوى حوالي 9500 كلمساعة، وبإمكانه التحليق على ارتفاع 20 كلم.
تتفوق الصواريخ التي تتعدى سرعتها سرعة الصوت على الصواريخ الباليستية العادية في خاصية هامة جدًا، وهي القدرة على الإفلات من رادارات أنظمة الدفاع التقليدية، وهو أمر ناتج عن شقين الأول هو السرعة الفائقة التي تعمل على توليد سحابة من البلازما أمام الصاروخ أثناء تحركه، مما يساعد على امتصاص موجات الراديو بشكلٍ يصعب على أنظمة الرادار رصده. أما الشق الثاني، فيتعلق بالارتفاع المنخفض، إذ عادة ما تحلق الأسلحة الفرط صوتية على ارتفاعات أقل بكثير من الصواريخ الباليستية التقليدية، وهو ما يمنحها ميزة تجنب أنظمة الرادار لأطول فترة ممكنة. أضف إلى ذلك، قدرة هذه الصواريخ على تغيير مسارها في منتصف الرحلة. كل هذه المميزات تجعل من الصعب إسقاطها قبل الوصول إلى هدفها. وتشير العديد من المصادر الغربية إلى أنه إذا تمركزت الصواريخ الفرط صوتية الروسية في أراضي كاليننغراد، ستصبح العواصم الأوروبية في مرمى نيران موسكو، وهو ما يشكل تهديدًا واضحًا لدول حلف الناتو.
ولم تكن صواريخ تسيركون الفرط صوتية هي الوحيدة التي استخدمتها روسيا خلال عملياتها العسكرية داخل أوكرانيا، ففي مارسآذار 2023، أشارت وزارة الدفاع الأوكرانية إلى أن موسكو استخدمت صواريخ فرط صوتية من طراز كينغال الخنجر باللغة الروسية، وهو الصاروخ الذي استخدمته روسيا أكثر من مرة لضرب أهداف إستراتيجية أوكرانية منذ بدء الحرب.
قالت عنه موسكو إنه صاروخ يصعب اعتراضه، ويرجع ذلك إلى قدرة كينغال الفرط صوتي على تغيير مساره على مستويين أفقي ورأسي، إذ يمنحه ذلك قدرة عالية على المناورة، بالإضافة إلى ميزة الإفلات من الصواريخ المضادة. ويتراوح مدى كينغال بين 1500 إلى 2000 كلم، وتصل سرعته إلى 14.7 ألف كلمساعة، أي أسرع من الصوت بنحو 12 مرة. أما عن رأسه الحربي، فبالإمكان تزويده برأس نووي أو تقليدي بحمولة 500 كلغ من مادة تي إن تي المتفجرة، وعادة ما يجري إطلاقه من طائرات مقاتلة مثل ميغ على ارتفاع 18 كلم، كما يمكن إطلاقه من السفن أو الغواصات.
أضف إلى هذه الترسانة صاروخ أفانغارد، ويعني بالروسية الطليعة، إذ يمتاز هو الآخر بقدرته على حمل رأس نووي أو تقليدي من المواد المتفجرة. كما تصل سرعته القصوى إلى 33 ألف كلمساعة، ويبلغ مداه 6000 كلم، ويُعد من أبرز الصواريخ الروسية التي تفوق سرعتها سرعة الصوت، فهو معزز بمركبات انزلاقية، ويصل إلى أقصى ارتفاع له وهو 100 كلم عبر صاروخ باليستي لتنفصل بعدها مركبة الانزلاق عن الصاروخ. وقد صُمم ليكون عابرًا للقارات وقادرًا على الوصول إلى أهداف إستراتيجية جنوب الولايات المتحدة، وذلك لقدرته على التحليق في مسارات فوق القطب الجنوبي. | https://www.aljazeera.net/politics/2025/1/12/%d9%87%d9%84-%d8%a7%d9%84%d8%ac%d9%8a%d8%b4-%d8%a7%d9%84%d8%b1%d9%88%d8%b3%d9%8a-%d8%ac%d8%a7%d9%87%d8%b2-%d9%84%d8%ad%d8%b1%d8%a8-%d8%b9%d8%a7%d9%84%d9%85%d9%8a%d8%a9-%d8%ab%d8%a7%d9%84%d8%ab%d8%a9 | 2025-01-12T12:23:12 | 2025-01-14T10:27:11 | أبعاد |
|
9 | أسطول الأشباح الروسي.. ماذا يكون؟ ولماذا يُرعب الغرب؟ | عادة ما تستخدم السفن الشبحية من قبل دول تواجه عقوبات على تجارتها، بهدف التهرب من تلك العقوبات. كما أن سفن الأشباح الروسية تحديدا يعتقد أن لها مهام عسكرية، ما يجعلها تثير القلق في أوروبا والغرب. | خلال الأسبوع الأول من يوليوتموز 2024، فرض الاتحاد الأوروبي عقوبات جديدة على روسيا بسبب حربها في أوكرانيا، مستهدفا هذه المرة أسطول موسكو من الناقلات التي تحمل الغاز الطبيعي المسال عبر أوروبا، إضافة إلى عدد من الشركات الضالعة في هذه العملية، وقائمة من 50 مسؤولا روسيا في مقدمتهم الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ووزير الخارجية سيرغي لافروف.
وتهدف هذه الجولة من العقوبات تحديدا إلى منع روسيا من استخدام موانئ الاتحاد الأوروبي لشحن الغاز إلى أطراف ثالثة من أجل تقييد صادراتها الغازية وإجبارها على اللجوء إلى طرق أكثر تكلفة. ويُقدِّر الاتحاد الأوروبي أن نحو 4-6 مليارات متر مكعب 141 مليار إلى 212 مليار قدم مكعب من الغاز الطبيعي المسال الروسي شُحنت إلى دول ثالثة عبر موانئ الاتحاد الأوروبي خلال العام الماضي.
غالبا ما تُطلِق وسائل الإعلام على أسطول الناقلات الروسي هذا لقب أسطول الأشباح Ghost fleet بسبب صعوبة رصده وتتبعه، وتُستخدم هذه التسمية عموما للإشارة إلى مجموعات من السفن الغامضة، التي لا يمكن التعرف على موقعها بدقة أو تتبع خط سيرها أو إرجاع ملكيتها إلى دولة أو شركة بعينها، وعادة ما تُستخدم تلك السفن من قِبَل دول تواجه عقوبات على التجارة مثل إيران أو كوريا الشمالية أو روسيا، لأجل التهرب من تلك العقوبات، كما أن سفن الأشباح الروسية تحديدا يُعتقد أن لها مهامَّ عسكرية، ما يجعلها تثير المزيد من القلق في أوروبا والغرب.
هنا يبرز سؤال مهم كيف يمكن إخفاء مثل هذه السفن الضخمة؟ والجواب أن السفن القديمة عادة لا تتبع معايير التأمين الأحدث المعروفة في عالم البحار، وهي تستخدم ما يُعرف بـنظام التعريف الآلي AIS، وهو نظام تتبُّع مُثبَّت على السفن يعمل على تحديد موقعها من خلال تبادل البيانات إلكترونيا مع السفن القريبة الأخرى ومحطات المراقبة والأقمار الصناعية، في الوقت الفعلي وبصورة تلقائية دون تدخل من السفينة. ومن خلال تعطيل أجهزة الإرسال والاستقبال الخاصة بنظام التعريف الآلي، يمكن للسفينة ببساطة أن تختفي في غياهب البحار.
بشكل أساسي، يُستخدم نظام التعرف الآلي لتحسين السلامة البحرية من خلال توفير معلومات في الوقت الفعلي عن موقع السفينة دائرة العرض وخط الطول والسرعة والمسار واسم السفينة ورقم المنظمة البحرية الدولية التابعة لها ونوع السفينة وأبعادها، وهذا يساعد على منع الاصطدامات ويُسهِّل التنقل بشكل أفضل، والأهم أنه يساعد في مراقبة وإدارة الحركة البحرية وتحديد الأنشطة المشبوهة وتعزيز العمليات الأمنية، وهذا تحديدا ما لا ترغب فيه روسيا أو أي دولة تود إخفاء أنشطتها البحرية عن أعين الرقابة الدولية، لذا فإنها تعمد إلى تعطيل هذا النظام في السفن المستهدفة، لتحولها ببساطة إلى أشباح.
وإلى جانب تعطيل نظام التعريف التلقائي، هناك مناورات عدة يقوم بها الروس، مثل عمليات النقل من سفينة إلى سفينة، فكثيرا ما يُنقل النفط أو الغاز الروسي وحتى السلع الأخرى من سفينة إلى أخرى في المياه الدولية، وقد يحدث ذلك مرة واحدة أو أكثر من مرة، ما يُعقِّد عملية التتبع ويحجب مصدر الشحنة ووجهتها.
أكثر من ذلك، تمتلك السفن الروسية الشبحية آليات ملكية معقدة، حيث تُسجَّل ملكية السفن في البلدان التي لديها لوائح متساهلة، إلى جانب بناء شركات وهمية متعددة ومتنوعة ولديها مرجعيات قضائية متعددة، حتى يصعب تتبعها والكشف عن هويتها، ويتضمن ذلك أحيانا وثائق غير دقيقة المعلومات تحملها السفن حول هويتها وأصل حمولتها.
وبالطبع فإن روسيا تستفيد أيضا في جهودها لإخفاء سفنها من موانئ الدول الصديقة أو المتعاطفة معها أو على الأقل المحايدة تجاهها ما دامت هذه الدول ستستفيد من عملية التمويه لأجل الروس، مما يسمح لهذه السفن بالرسو ومزاولة أعمالها بأقل قدر من التدقيق، إلى جانب ذلك تمشي السفن الروسية تلك عبر طرق بحرية بديلة أقل خضوعا للمراقبة من قِبَل القوى الغربية لتقليل أخطار الحظر.
وعندما تنكشف تلك الشركات التي أُنشئت للتغطية على السفن، لسبب أو لآخر، فإن مسيرة أسطول الأشباح لا تتوقف، حيث تولد المزيد من الشركات البديلة لتتحكم في السفن نفسها، بعد تغيير هويتها بالكامل وإدخالها في شبكة بيروقراطية معقدة. على سبيل المثال، ظهرت شركة جاتيك الهندية لإدارة السفن فجأة بوصفها شركة شحن رئيسية للخام الروسي بعد اندلاع الحرب في أوكرانيا عام 2022، وبعد أن اجتازت سفنها التدقيق الدولي، بيعت تلك السفن إلى شركات أخرى لم يُسمع بها من قبل.
وعلى مدار الأشهر التالية، انضمت المزيد من السفن بطرق مشابهة إلى أسطول الظل بمعدل غير عادي؛ فبعد اثني عشر شهرا من الحرب نما الأسطول ليصل تعداده إلى نحو 600 ناقلة إلى جانب أنواع أخرى من السفن، فيما تشير التقديرات المتحفظة إلى أن روسيا تسيّر 400 ناقلة ضمن الأسطول الشبحي الخاص بها في الوقت الراهن.
ومن أجل التعمية على هذه السفن، يُقدِّر الخبراء أن عشرات الشركات البحرية المرتبطة بالحكومة الروسية أُنشئت لهذا الغرض، وهي تنخرط ضمن شبكة تضاهي في تعقيدها شركات الأمن الروسية الخاصة، وتتميز هذه الشبكات عادة بالمرونة الشديدة والتغيرات المستمرة، حيث تنشأ الشركات ضمنها بسرعة لأغراض محددة وسرعان ما تفنى لتحل محلها شركات جديدة، وهكذا في ظاهرة تشبه حركة الفقاعات فوق سطح الماء المغلي، التي تنشأ لثوانٍ ثم تنهار لتحل محلها فقاعات جديدة.
لا تُستخدم هذه الشركات للتعمية على حركة السفن الشبحية فقط، وكما تشير ويندوارد، وهي شركة متخصصة في مجال إدارة المخاطر البحرية، فإن حرب روسيا على أوكرانيا أدت إلى ظهور فئة جديدة من السفن سُمّيت الأسطول الرمادي، وهي ليست سفنا شبحية تماما، ولكن من الصعب التأكد من ملكيتها وامتثالها للعقوبات، وعادة ما تقوم هذه السفن بتبديل أعلامها التي تشير إلى بلد تسجيل السفينة باستمرار، وتستخدم غطاء من تلك الشركات الفقاعية لفعل ذلك. وفي الوقت الراهن، يُقدَّر أن هناك نحو 1000 سفينة رمادية حول العالم، بخلاف قرابة 1400 سفينة مظلمة شبحية، رغم صعوبة الجزم بالعدد على وجه اليقين بسبب الغموض الذي يلف هذا النوع من الأنشطة.
يُعَد العَلَم الذي ترفعه السفينة، ويُعرف في عالم البحار باسم علم الملاءمة أو راية السفينة، أمرا جوهريا في مسألة إخفاء هوية الأساطيل الشبحية والرمادية، وهو عَلَم ترفعه السفن أثناء ملاحتها للإشارة إلى البلد الذي سُجِّلت فيه السفينة رغم أن الشركة المشغلة للسفينة تكون تابعة لبلد آخر، عادة ما تقوم الشركات بتسجيل السفن في دول يسهل قانونيا وماديا اجتياز الإجراءات بها، وتشمل دولا مثل ليبيريا وبنما ومالطا واليونان وجزر مارشال والغابون.
في بحر البلطيق مثلا، وهو إحدى ساحات التنافس الجيوسياسي بين روسيا وأوروبا، رُصدت أعداد متزايدة من السفن التي ترفع عَلَم ليبيريا، وقد تزايدت هذه الأعلام بصورة ملحوظة منذ عام 2022، ما يشير إلى زيادة عمليات سفن الأشباح. ويُعتقد مؤخرا أن الغابون أصبحت وجهة مفضلة للسفن الشبحية الروسية، حيث تضاعف عدد السفن المسجلة في الغابون خلال النصف الأول من عام 2023، ويُقدَّر أن السواد الأعظم من الناقلات تحت عَلَمها ليس لها مالك معلوم، ما يشير إلى روسيا بوصفها مستفيدا مُحتملا.
وفيما يبدو، فإن روسيا وجدت طريقها للتحرك في عالم البحار الواسعة، والالتفاف على العقوبات الغربية ولو جزئيا. لكن ما يُغفل عن ذكره عادة هو تأثير أساطير الأشباح تلك على صناعة الشحن العالمية، فالروس وربما غيرهم من الدول الخاضعة للعقوبات يستخدمون ويُقبلون على شراء السفن القديمة التي يمكن إخفاؤها بسهولة، ولذلك يرجح أن نسبة السفن التي يزيد عمرها على عشرين عاما ضمن أسطول الناقلات العالمي ارتفعت منذ بداية الحرب الروسية على أوكرانيا، ولا تزال مرشحة للمزيد من الارتفاع.
هناك الكثير من المخاطر المرتبطة بزيادة أعداد السفن القديمة التي تتمتع بتجهيزات تقنية متدنية، ومستوى صيانة دون المطلوب، ولا تحظى بتغطية تأمينية كافية، أوضحها زيادة فرص التعرض للحوادث في عرض البحر. ويشير معهد أميركان إنتربرايز إلى أن عام 2023 وحده شهد أكثر من 40 حادثا يمكن عزوها إلى سفن شبحية، تتراوح بين فشل المحرك إلى الحرائق إلى الانفجارات والاصطدامات.
رغم هذه المخاطر، تؤدي سفن الأشباح وظيفة لا يمكن استبدالها بالنسبة إلى الدول الخاضعة للعقوبات، خاصة إذا كانت تعتمد بشكل كبير على الصادرات. في حالة روسيا مثلا، تهدف العقوبات الغربية إلى خنق الأنشطة التجارية للبلاد وجعل الحياة اليومية مرهقة بالنسبة للمواطنين، بشكل يضطرهم في النهاية للتشكيك في سياسات النظام، يحدث ذلك بشكل رئيسي من خلال محاصرة واردات النفط والغاز الروسية، وتحديد سقف أسعارها، ومنع شركات الشحن في الغرب وسائر العالم من المشاركة في تصديرها، إلى غير ذلك من الوسائل.
لكن روسيا نجحت في التحايل على هذه العقوبات من خلال إيجاد عملاء جدد، مع الاستخدام المكثف لسفن الأشباح لإرسال النفط والغاز عبر سفن تبدو غير روسية، مع استخدام الموانئ الأوروبية نفسها أحيانا لتصدير النفط والغاز لأطراف ثالثة. وقد بدأت روسيا في توسيع هذا الأسطول مع العقوبات الاقتصادية التي فرضتها الدول الغربية عليها بعد ضم شبه جزيرة القرم في عام 2014، واستثمرت فيه بشكل أكبر بعد الحرب على أوكرانيا عام 2022.
لكن كل ما سبق -على أهميته- ليس الهدف الوحيد من تلك السفن، وهذا تحديدا ما يُقلق الغرب حاليا، حيث يمكن استخدام تلك السفن جزءا من الحرب الهجينة التي تخوضها روسيا ضد الغرب حاليا. وتُعرف الحرب الهجينة بأنها إستراتيجية تمزج بين الحرب التقليدية والحرب غير النظامية، فتكون هناك قوات نظامية مسلحة تقليدية الطابع تستخدم تكتيكات ومعدات عسكرية قياسية، تمتزج مع تكتيكات الحرب غير النظامية، مثل عمليات تخريب بنى العدو التحتية، أو الهجمات السيبرانية.
قبل عدة أشهر، ادّعى فيلم وثائقي استقصائي عُرض في النرويج والدنمارك وفنلندا إلى جانب دول أخرى أن سفن الأشباح الروسية طافت حول موقع انفجارات خطَّيْ أنابيب نورد ستريم الذي ينقل الغاز من روسيا إلى ألمانيا وأوروبا الغربية عبر بحر البلطيق بالتزامن مع موعد الانفجارات في سبتمبرأيلول 2022، واستخدم الصحفيون الذين أعدّوا الوثائقي البيانات مفتوحة المصدر للتدقيق في شأن سفينة الأبحاث البحرية الروسية سيبيرياكوف، وزورق القطر إس بي 123، وسفينة ثالثة من الأسطول البحري الروسي لم تُحدَّد هويتها، حيث أُوقِـف تشغيل نظام التعريف التلقائي الخاص بجميع هذه السفن، وتُعَد تلك علامة مميزة على نشاط سفن الأشباح.
أظهرت أبحاث الفريق الاستقصائية أن أول سفينة زارت المنطقة القريبة من موقع انفجار نورد ستريم بحلول يونيوحزيران 2022، ثم دخلت سفينة أخرى إلى المنطقة في وقت لاحق وهي سيبيرياكوف، وهي سفينة أبحاث علمية يمكن لطاقمها تشغيل معدات تحت الماء ويمكنها إطلاق مركبات للعمل تحت المياه، كما أن زورق القطر البحري إس بي 123 كان موجودا في المنطقة قبل خمسة أيام فقط من بدء الانفجارات.
لا يُعَد ذلك دليلا قطعيا على تورط مباشر للروس في عملية نورد ستريم، لكن مجرد الإشارة إلى ذلك ولو من بعيد يزيد من المخاوف الغربية، خاصة مع سيل واسع من الهجمات الروسية السيبرانية على الحكومات الأوروبية، إلى جانب سعي الروس لتطوير أسلحة في نطاقات غير اعتيادية تتخطى عبرها قدرات الغرب أو على الأقل تضعهم في مأزق، مثل الصواريخ المضادة للأقمار الصناعية التي يمكن أن تُمثِّل ضررا كبيرا للبنية التحتية لتلك البلدان.
سفن الأشباح إذن ليست إلا واحدة من وسائل عدة استخدمها الروس لتحقيق درجة من التوازن والردع ضد أعدائهم الغربيين، خاصة بعدما طالت الحرب في أوكرانيا وبدا في مرحلة ما أنها لن تنتهي بنصر حاسم كما أراد الروس في البداية. تُعيد روسيا إذن تكييف إستراتيجيتها في أوكرانيا للتلاؤم مع ما يسمى بـالحرب الأبدية، ويشير المصطلح عادة إلى حالة حرب مستمرة دون وجود شروط واضحة تؤدي إلى نهايتها، وتُعَد سفن الأشباح إحدى الوسائل الرئيسية للتكيف الروسي مع النمط الجديد للحرب وفي قلبها العقوبات المستمرة، التي لا يبدو أنها ستُرفع في أي وقت قريب. | https://www.aljazeera.net/politics/2024/7/16/%d8%a3%d8%b3%d8%b7%d9%88%d9%84-%d8%a7%d9%84%d8%a3%d8%b4%d8%a8%d8%a7%d8%ad-%d8%a7%d9%84%d8%b1%d9%88%d8%b3%d9%8a-%d9%85%d8%a7%d8%b0%d8%a7-%d9%8a%d9%83%d9%88%d9%86 | 2024-07-16T12:11:55 | 2024-07-16T12:11:55 | أبعاد |
|
10 | درس غزة القاسي.. إسرائيل انهزمت إستراتيجيا رغم فداحة التدمير | نجحت المقاومة بتوليد قناعة لدى الأطراف كافة بما فيها واشنطن باستحالة القضاء على المقاومة عسكريا وهو ما أفضى في النهاية لفشل جيش الاحتلال في تحقيق أهداف الحرب والوصول لاتفاق وقف إطلاق النار. | لن نقبل بصفقة تبدد إنجازات الحرب، والصفقة الوحيدة المقبولة هي استسلام من بقي من حماس، وتحرير المختطفين.
هكذا صرح وزير المالية الإسرائيلي، ووزير الدولة بوزارة الدفاع، وعضو مجلس الوزراء الأمني المصغر، بتسلئيل سموتريتش في يوليوتموز 2024 بعد أكثر من 9 أشهر على الحرب، وهو تصريح يتسق مع ما أفصح عنه رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في أكثر من مناسبة، ومنها في خطابه أمام الكونغرس الأميركي في الشهر نفسه، إذ أشار إلى أن الحرب في غزة ستنتهي فقط إذا استسلمت حماس وألقت سلاحها وأعادت الأسرى.
شدد نتنياهو في خطابه أيضا على أن الجيش الإسرائيلي سوف يبقى في غزة كي لا تشكل أي تهديد عسكري، مشيرا إلى إمكانية تشكيل إدارة مدنية في غزة يقودها فلسطينيون لا يعادون إسرائيل، ومؤكدا رفض تسليم القطاع للسلطة الفلسطينية تحت شعار لا حماستان ولا فتحستان، ثم عزز نتنياهو موقفه بتأكيد الاحتفاظ بمحوري نتساريم وفيلادلفيا زاعما أن محور فيلادلفيا أصبح قضية وجودية وأن التواجد فيه أصبح إستراتيجية لا غنى عنها لأمن إسرائيل.
ولعله من نافلة القول أن تلك التصريحات الإسرائيلية ومثيلاتها لم تُطلق في الفراغ، إذ رافقتها تحركات عسكرية على الأرض شملت حشد نصف مليون جندي إسرائيلي نظامي واحتياطي بعد ما جرى يوم 7 أكتوبرتشرين الأول 2023، بهدف تحقيق 3 أهداف للحرب، وهي القضاء على حكم حماس في غزة، وتفكيك القدرات العسكرية للحركة وسائر فصائل المقاومة في القطاع، والإفراج عن الأسرى الإسرائيليين.
وفي المقابل، التزمت حماس بأن أسرى الاحتلال لن يفرج عنهم دون اتفاق تبادل، وتمسكت الحركة بـ3 شروط لقبول أي صفقة وهي عودة السكان لشمال غزة دون استثناء الرجال، والوقف الدائم لإطلاق النار، والتعهد بالانسحاب الإسرائيلي من القطاع.
وبالفعل انتهت الحرب الطويلة أخيرا باتفاق بوساطة قطرية مصرية ورعاية أميركية ينص على الانسحاب الإسرائيلي تدريجيا من غزة، بما في ذلك محور نتساريم الذي يفصل شمال القطاع عن جنوبه، ومحور فيلادلفيا على الحدود المصرية الفلسطينية، والإفراج عن الأسرى وفق اتفاق تبادل، مع عدم التطرق إلى مستقبل حكم القطاع داخل الاتفاق.
في غضون ذلك، كان الأسبوع الأخير قبل اعتماد الاتفاق من الأسابيع الدامية لجيش الاحتلال حيث شهد مقتل أكثر من 15 ضابطا وجنديا وإصابة العشرات، في دلالة على أن الهيكل العسكري لفصائل المقاومة لم يتفكك، وأن عناصرها رغم الحصار وشدة القصف وحجم المجازر الضخم ضد المدنيين، لم يرفعوا رايات الاستسلام، ولم يجعلوا الاحتلال يقرّ له قرار على أراضيهم، وجعلوا أيامه نزيفا متواصلا من الخسائر.
لم تكن حرب غزة حربا تقليدية بين جيشين، بل هي حرب بين جيش احتلال مدعوم بقوى دولية ضد فصائل مقاومة محاصرة تملك القليل من الإمكانات العسكرية.
ولذا فإن مؤشرات الانتصار أو بمعنى أدق نظرية النصر لدى كل طرف تظل مختلفة تماما عن الآخر، ولا يحددها فقط حجم الخسائر البشرية لدى كلا الطرفين، وعلى جانب الاحتلال يتمثل الانتصار في تحقيق أهداف الحرب الثلاثة التي حددها نتنياهو بنفسه كمعايير للنصر، بينما يتعرف النصر لدى المقاومة من خلال قدرتها على الصمود ومنع الاحتلال من تحقيق أهدافه.
في صبيحة 7 أكتوبرتشرين الأول 2023 انهارت أركان نظرية الأمن الإسرائيلية القائمة على الردع والتفوق الاستخباري، مع سقوط خط الدفاع الإسرائيلي مع قطاع غزة بالكامل، فضلا عن نجاح مقاتلي المقاومة في أسر مئات الأشخاص والعودة بهم إلى غزة، ومقتل وإصابة آلاف الجنود والمستوطنين في أضخم خسارة بشرية تلحق بإسرائيل في يوم واحد منذ تأسيسها، مما دفع نتنياهو إلى التصريح بأن إسرائيل في حرب وجودية صعبة، في حين لخص مارتن أنديك السفير الأميركي الأسبق في تل أبيب -الذي توفي في يوليوتموز من العام الفائت- دلالة ما حدث قائلا إن حماس أعادت إحياء فكرة هزيمة إسرائيل بالقوة.
في مواجهة هذه الحقيقة الجديدة والصعبة، شنت إسرائيل أضخم هجوم لها في فلسطين منذ النكبة وخاضت أطول حرب في تاريخها امتدت إلى 15 شهرا. واعتمدت الحملة العسكرية في مرحلتها الأولى على قصف جوي غير مسبوق لتدمير كل ما له صلة بالمقاومة والمجتمع المحيط بهم من منازل سكنية ومقرات حكومية ومؤسسات اجتماعية، فضلا عن الانتقام الجماعي من الأهالي عبر إحداث مقتلة هائلة في صفوف المدنيين، بالتزامن مع حصار مشدد يشمل منع المياه والطعام والوقود والكهرباء عن سكان القطاع، وتهديم البنية التحتية من مستشفيات ومدارس ومؤسسات.
لاحقا، شن الاحتلال عملية برية شملت كل أنحاء قطاع غزة، مع تكرار حملات الإخلاء لمنع السكان من الشعور بالاستقرار ولو في خيم النزوح، وأسفرت تلك المجزرة عن قرابة 50 ألف شهيد وفق الأرقام الرسمية، وأضعافهم من المصابين والمهجرين والمشردين، فضلا عن تدمير أغلب مقومات الحياة في قطاع غزة.
عسكريا، أعلن الاحتلال شروعه في تفكيك البنية التحتية للمقاومة، وتدمير بنيتها العسكرية ومنظومات القيادة والسيطرة، متعهدا بقتل كل من شارك في طوفان الأقصى، والقضاء على شبكة الأنفاق الواسعة، والأهم تحرير أسراه من خلال الضغط العسكري، رافضا عرض المقاومة منذ بداية الحرب بالتفاوض لإجراء عملية تبادل أسرى تشمل كل الأسرى من الجانبين.
وفي منتصف عام 2024 أعلنت هيئة البث الإسرائيلية أن حكومة نتنياهو أعطت الجيش الضوء الأخضر للانتقال تدريجيا للمرحلة الثالثة والأخيرة من الحرب، والتي تشمل البقاء في محوري نتساريم وفيلادلفيا للضغط على حماس، وتنفيذ غارات وعمليات برية مركزة تستهدف مقدرات المقاومة وعناصرها. ووسع جيش الاحتلال محور نتساريم عبر هدم المنازل على جانبيه، بهدف فصل شمال قطاع غزة الذي تعرض للقدر الأكبر من التدمير عن جنوبه.
في غضون ذلك، أعلن الاحتلال مخططات عدة لمستقبل قطاع غزة، بينما أطلق وزراء يشغلون مناصب حكومية تهديدات بمحو غزة تماما وتهجير أهلها عن بكرة أبيهم، كما في حديث وزير التراث عميحاي إلياهو بأن أحد الخيارات أمام إسرائيل هي إسقاط قنبلة ذرية على القطاع، وإشادة وزير المالية سموتريتش بمقال عضوين في الكنيست بصحيفة وول ستريت جورنال، دعوَا فيه إلى تهجير 10 ألاف فلسطيني لكل دولة من دول العالم، في حين شدد وزير الأمن القومي إيتمار بن غفير على أن الاستيطان في قطاع غزة وتشجيع هجرة الفلسطينيين منه صارا هدفين واقعيين.
ومن بين تلك المخططات التي قادت الاحتلال خلال شهور الحرب الطويلة مقترح إقامة حكم عسكري في غزة، وهو المخطط الذي ندد به علنا وزير الدفاع الإسرائيلي -آنذاك- يوآف غالانت بمؤتمر صحفي في مايوأيار 2024، فقد كشف أن بعض الجهات في حكومة الاحتلال تدفع باتجاه إقامة حكم عسكري في غزة، وأبدى تخوفه من غرق الجيش في حرب استنزاف طويلة في حال المضي قدما في تنفيذ هذه الخطة.
أكثر من ذلك، سعى الاحتلال من خلال غسان عليان منسق أعمال الحكومة الإسرائيلية للشؤون المدنية في محاولات لدفع بعض العائلات الغزية إلى تشكيل إدارة أهلية في مناطق وجودها، والتنسيق معها في إدخال المساعدات وتوزيعها، وهو ما رفضه وجهاء العشائر وكبار العائلات مشترطين التنسيق أولا مع الأجهزة الأمنية بغزة، وهو موقف رحبت به حماس.
كذلك شجع الاحتلال على حدوث مظاهر فوضى في غزة شملت عمليات للسطو على شاحنات المساعدات، غير أن المقاومة ووجهاء العشائر عملوا على التصدي بحزم لتلك المظاهر ولإحباط المخططات الإسرائيلية.
أما واشنطن، فأعلنت تدشين رصيف بحري في غزة لتسليم المساعدات الإنسانية، وهو ما عكس رغبة أميركية إسرائيلية في سحب ملف توزيع المساعدات من أي جهة فلسطينية بغية تحقيق قدر أكبر من السيطرة عبر التحكم في توزيع الطعام في القطاع، وتزامن ذلك مع الاستهداف الإسرائيلي الممنهج لأي مظاهر حكم في غزة لتعزيز حالة الفراغ الإداري والأمني، إذ استهدف جيش الاحتلال عناصر أجهزة الأمن العام والأمن الداخلي ولجان الطوارئ والشرطة بقطاع غزة.
وكشف الجيش الأميركي أن تكلفة بناء الرصيف بلغت 320 مليون دولار بمشاركة ألف جندي أميركي، لكن مشروع الرصيف انتهى بالتخلّي عنه وتفكيكه بسبب تجاوز أعباء تشغيله الفوائد المجنية منه، وفشله عمليا مع تعطله أكثر من مرة بسبب الأمواج العالية.
وفي سبتمبر أيلول 2024، درس الاحتلال خطة اقترحها مستشار الأمن القومي السابق الجنرال غيورا أيلاند، وتقضي بإعلان شمال غزة منطقة عسكرية مغلقة، وطرد من تبقّى من المدنيين والسكان 300 ألف شخص إلى جنوب القطاع عبر تجويعهم ومنع إدخال أي مساعدات إنسانية، واعتبار كل من يظل في الشمال مقاتلين في المقاومة، وتصفيتهم، مما يجعلهم عرضة للاستهداف. وذلك للضغط على حماس لإجبارها على الإفراج عن الأسرى الإسرائيليين، فيما عُرف إعلاميا بـ خطة الجنرالات.
وبالفعل بدأ الاحتلال في 7 أكتوبر تشرين الأول 2024 عملية عسكرية جديدة في مخيم جباليا بشمال غزة مع إجراءات في شمال القطاع تتسق مع هذه الخطة.
وفي الخلفية من المشهد كله، كانت حركات الاستيطان الإسرائيلية تمني نفسها بالعودة إلى القطاع الذي انسحبت منه مرغمة قبل عقدين، ضمن خطة فك الارتباط لرئيس الوزراء الأسبق أرييل شارون. وقد عقدت حركة نحالا الاستيطانية مؤتمرا في أكتوبرتشرين الأول الماضي بخصوص إعادة الاستيطان في غزة بحضور وزراء في حكومة نتنياهو مثل بن غفير وماي غولان، وأعلنت تسجيل 700 عائلة للسكن في مستوطنات محتملة في غزة.
وأشار البيان الختامي للمؤتمر إلى أن البدء في بناء المستوطنات قد يحدث في غضون عام. واللافت أن منظمي المؤتمر من بينهم وزراء بالحكومة يدفعون باتجاه تنفيذ مخططهم رغم إبداء الجيش تحفظه تجاه إمكانية تنفيذه وكلفته.
وسط هذا الزحام من الخطط الصهيونية المتخبطة، أصبح واضحا أن حكومة الاحتلال لا تمتلك رؤية لإنهاء الحرب وتحقيق الأهداف التي ألزمت نفسها بها، وأن السبب الرئيسي لاستمرار الحرب هو أن قادة الاحتلال لا يمتلكون تصورا حول تحقيق النصر خلالها، مكتفين فقط بالإمعان في أعمال التنكيل والإبادة الجماعية.
ومع كل يوم إضافي للحرب تناقصت مكتسباتها العسكرية باضطراد، بما يعني أن تكلفة مواصلة الحرب تفوق المنجزات العسكرية المتحققة على الأرض. ويوما بعد يوم، توسعت الهوة بين وعود القيادة الإسرائيلية ونتائج الحرب، وبدأ كبار السياسيين والقادة العسكريين في تبادل الاتهامات.
فمن جهته، حمّل نتنياهو قيادة الجيش وأجهزة الاستخبارات المسؤولية عن الفشل في التصدي لهجوم 7 أكتوبر، وقال إن كل وكالات الاستخبارات اعتبرت أن حركة حماس كانت تحت الردع إثر الحروب السابقة وتتجه نحو التسوية.
وفي المقابل، صدم دانيال هاغاري المتحدث باسم جيش الاحتلال نتنياهو وحكومته بتصريح صاعق في 19 يونيوحزيران 2024 قائلا إن الكلام عن القضاء على حماس خداع للجمهور لأنّ حماس فكرة ولا يمكن تدمير الأفكار، وأنه طالما لم تجد الحكومة بديلا لها فستبقى في غزة، ولذا سرعان ما رد وزير الاتصالات شلومو كارعي قائلا إن تصريحات المتحدث باسم الجيش تشير إلى الروح القيادية المتراخية والضعيفة لرئيس الأركان ووزير الدفاع.
لم تقتصر الخلافات على التراشقات الإعلامية فقد شملت تطورات عملية حملت رسائل سلبية وقت القتال، فعلى سبيل المثال انهار مجلس الحرب الذي تشكل من 5 أعضاء بعد طوفان الأقصى عقب انسحاب بيني غانتس وغادي أيزنكوت منه في 9 يونيوحزيران 2024، ودعوتهما لإجراء انتخابات بأسرع وقت ممكن، واتهامهما لنتنياهو بعرقلة اتخاذ قرارات إستراتيجية مهمة لاعتبارات سياسية.
كما تصاعدت الخلافات بين نتنياهو وبين وزير الدفاع والجيش من جانب آخر على وقع تداعيات الحرب، فحينما صادق الكنيست على قانون تمديد إعفاء الحريديم من الخدمة العسكرية صوت وزير الدفاع غالانت إلى جانب المعارضة، وخالف حزب الليكود الذي ينتمي له، بحجة عدم العدالة في توزيع أعباء الحرب، وعيش الحريديم عالة على المجتمع، وهو ما تسبب في تفاقم الخلافات وصولا إلى قرار نتنياهو بإقالة وزير دفاعه غالانت في الأسبوع الأول من نوفمبرتشرين الثاني الماضي.
بالإضافة إلى ذلك، وقعت العديد من الاستقالات وسط قادة الجيش وأجهزة الأمن على خلفية الإخفاق في التصدي لطوفان الأقصى، والخلاف مع إدارة الحكومة والجيش للحرب، ومن أبرز المستقيلين أهارون هاليفا رئيس شعبة الاستخبارات العسكرية، وأمير برعام نائب رئيس الأركان، وتامير يدعي قائد القوات البرية، ويوسي شاريئيل قائد وحدة التجسس 8200.
وكانت المحصلة لكل ذلك هي ازدياد حجم التشققات في المجتمع الإسرائيلي مع طول أمد الحرب، وتضرر جنود الاحتياط من طول فترات خدمتهم، والانزعاج من رفض الحريديم للتجنيد في الجيش، واستمرار نزيف الخسائر البشرية، والإنهاك من صفارات الإنذار المتكررة بسبب القصف الصاروخي وبالطائرات المسيرة من لبنان واليمن.
لقد ماطل نتنياهو طويلا في عقد صفقة لوقف الحرب، وطرح شروطا على المقاومة أقرب إلى الاستسلام، وراهن على أن الضغط العسكري المكثف وارتكاب المجازر في غزة سيحسن شروط الصفقة؛ وسيضمن تفكيك القدرات العسكرية لحماس فضلا عن إضعاف قدرتها على الحكم، فيما عمل جيش الاحتلال على تحويل قطاع غزة إلى منطقة غير قابلة للمعيشة، بهدف دفع السكان عند أول فرصة لمغادرته.
لكن في المقابل، صمدت حماس رغم ضخامة الثمن، ولم ترفع راية الاستسلام، وأعلنت أنها لن تقبل اقتراحات جديدة من إسرائيل، وأنها تطالب بتنفيذ الاتفاق السابق الموافقة من الطرفين عليه منتصف عام 2024 استنادا إلى رؤية بايدن وقرار مجلس الأمن، دون قبول تعديلات كتلك التي تشترط بقاء الاحتلال في محوري فيلادلفيا ونتساريم، وتفتيش العائدين إلى شمال القطاع من السكان.
ونجحت المقاومة بتوليد قناعة لدى الأطراف كافة بما فيها واشنطن باستحالة القضاء على المقاومة عسكريا، وهو ما أقرّ به وزير الخارجية الأميركي بلينكن قائلا إن حماس جندت خلال الحرب مقاتلين أكثر ممن فقدتهم.
تشير قدرة حماس وفصائل المقاومة على الاحتفاظ بأكثر من 90 أسيرا يُعتقد أن بعضهم قتلوا بسبب القصف الإسرائيلي رغم تلك الحرب الطاحنة، وتنفيذ هجمات يوميا على جيش الاحتلال في أنحاء غزة، واستمرار التواصل بين القيادة السياسية في الخارج والقيادة العسكرية في الداخل، إلى أن أهداف الاحتلال المعلنة لم تتحقق، وأن بنية المقاومة ما زالت موجودة وفاعلة، وأن منظومة القيادة والسيطرة تعمل ولم تتفكك، وذلك يعني فشل نتنياهو في تحقيق أحد الأهداف الرئيسية الكبيرة للحرب، ومن نافلة القول الإشارة إلى أن الهدف الكبير الآخر وهو استعادة الأسرى لم يتحقق أيضا.
تقاطع هذا الصمود الكبير لحماس في مواجهة التعنت الشديد لنتنياهو مع قرب وصول إدارة ترامب للبيت الأبيض في 20 ينايركانون الثاني 2025، حيث تشكلت قناعة في واشنطن بأن نتنياهو يطيل أمد الحرب لتحقيق أهدافه السياسية الخاصة، وهو ما تقاطع مع رغبة ترامب في إنهاء الحرب بالشرق الأوسط للتفرغ لملفات أخرى ذات أولوية لديه، ولتجنب توريط أميركا في حرب لا مصلحة لها فيها، فضلا عن رغبة ترامب في تعزيز مسار التطبيع العربي مع إسرائيل بضم دول أخرى لاتفاقية أبراهام، وهو ما لا يمكن تنفيذه مع استمرار الحرب.
لقد أثبتت عملية طوفان الأقصى استحالة تحقيق إسرائيل للأمن مع استمرار انتهاكاتها للفلسطينيين واحتلالها لأراضيهم، كما أعادت طرح ملف الاحتلال الإسرائيلي على الأجندة السياسة العالمية، وأحدثت زلزالا جيوسياسيا بالمنطقة، ظهرت أولى تداعياته في لبنان وسوريا، ووضعت إسرائيل تحت مطرقة الحصار الدولي رغم مظلة الحماية الأميركية، حيث أصدرت المحكمة الجنائية الدولية مذكرات اعتقال بحق نتنياهو ووزير دفاعه غالانت، في حين اعترفت النرويج وإسبانيا وأيرلندا بالدولة الفلسطينية.
ومع هدوء غبار المعركة، ستصبح المسيرة السياسية لنتنياهو في خطر، إذ ستتشكل لجان تحقيق لتحديد أوجه القصور ومحاسبة المسؤولين عنها، وفي مقدمتهم رئيس الوزراء الذي أشغل الرأي العام الإسرائيلي بتعديلاته القانونية التي أحدثت شرخًا مجتمعيا وأضعفت الاحتلال أمام خصومه، في وقت تتعالى فيه الأصوات في إسرائيل بأن الصفقة الأخيرة هي ذاتها التي عرقلها نتنياهو في منتصف عام 2024، وها هو ذا يقبل بها بعد أن دفعت إسرائيل ثمنا أكبر، وخاضت شهورا إضافية من القتال بلا طائل.
لا شك أن حرب الإبادة الإسرائيلية أحدثت دمارا هائلا في غزة بشريا وماديا، وتركت ندوبا غائرة تحتاج زمنا طويلا للتعافي، لكن الحقيقة الأكيدة أنها فشلت في تحقيق أهدافها، والأهم أنها لم تكفل الأمن لإسرائيل. لقد خرجت دولة الاحتلال من الحرب أكثر توحشا، لكنها في الوقت نفسه أكثر ضعفا وهشاشة، والأهم أن تداعيات هذه الهزيمة الإستراتيجية لإسرائيل لا تزال في بدايتها، وربما يتطلب الأمر سنوات قبل أن يدرك الإسرائيليون حقيقة ما فعله نتنياهو بدولتهم حين أوهمهم أن بإمكانه تحقيق الأمن من خلال تدمير غزة وإبادة شعبها. | https://www.aljazeera.net/politics/2025/1/16/%d8%af%d8%b1%d8%b3-%d8%ba%d8%b2%d8%a9-%d8%a7%d9%84%d9%82%d8%a7%d8%b3%d9%8a-%d9%84%d9%85%d8%a7%d8%b0%d8%a7-%d8%a7%d9%86%d9%87%d8%b2%d9%85%d8%aa-%d8%a5%d8%b3%d8%b1%d8%a7%d8%a6%d9%8a%d9%84 | 2025-01-16T12:45:04 | 2025-01-24T12:45:09 | أبعاد |
|
11 | تعرف على القاتل الكهرومغناطيسي الذي تطوره أميركا والصين | يرى خبراء عسكريون أن الأسلحة الكهرومغناطيسية سوف تمكّن جيشا بإمكانيات أقل من هزيمة جيش آخر متفوق، عبر مهاجمة أنظمة الاتصالات والمراقبة وسفن القيادة، وستكون هذه أهدافا ذات أولوية في الحروب المستقبلية. | دوّى الصوت في رأس كاثرين فاستيقظت منزعجة تتساءل عما إذا كان ما سمعته حلمًا وعقارب الساعة تُظهر منتصف الليل، وثمة أرقام مضيئة أسفل العقربين، تشير إلى أحد أيام أكتوبرتشرين الأول 2017. أرادت كاثرين معاودة النوم؛ فلديها غدا مهام تستلزم صفاء الذهن. تعمل كاثرين ورنر في وزارة التجارة الأميركية، وكانت آنذاك تشغل منصب مسؤولة التجارة في القنصلية الأميركية في مدينة قوانغتشو الصينية. أغمضت كاثرين عينيها محاولة العودة إلى النوم، لكن نباح كلبيها علا في أرجاء المنزل؛ كأنهما يواجهان تهديدا ما، وأحست هي ضغطا قويا على الصدغين وآلاما تتصاعد في رأسها، ورافق ذلك طنين منخفض تردد في أنحاء البيت.
في البناية ذاتها، تحديدا أسفل الطابق الذي تقطنه كاثرين، يسكن زميلها مارك ليندسي، وهو ضابط أمن في وزارة الخارجية الأميركية يعمل أيضا في القنصلية الأميركية في قوانغتشو. كان مارك وزوجته في طريقهما إلى النوم حين انبعث صوت منفر يشبه دوران قطعة رخام في قمع معدني، بحسب تعبير مارك لاحقا. حاولا تتبعه، فبدا أنه يصدر من غرفة طفلهما من مكان ما أعلى سرير الطفل، وقد أحس الاثنان ألما شديدا في رأسيهما وشعور غثيان.
بعد قرابة 6 أشهر وعلى بُعد آلاف الأميال عن مدينة قوانغتشو الصينية، كان مايلز تايلور نائما في بيته الذي يقع بالقرب من حي الكابيتول هيل في العاصمة واشنطن. كان تايلور آنذاك، قد حاز ترقية شغل بموجبها منصب رئيس الأركان في وزارة الأمن الداخلي، إبان إدارة الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب. ومثلما جرى لكاثرين استيقظ تايلور على صوت أشبه بالنقيق يتردد في أنحاء منزله. شيء ما دفعه إلى الذهاب نحو النافذة والنظر إلى الشارع، وهناك رأى شاحنة بيضاء متوقفة، ما لبثت أن أضاءت أنوارها وانطلقت مسرعة فور أن لاحظ قائدها حركة في نافذة المنزل، وتركت وراءها تايلور في حالة إعياء، وصفها فيما بعد بأنها تشبه التعرض لارتجاج الرأس
عانى هؤلاء الأمر ذاته لأكثر من ليلة؛ الطنين المسائي تكرر في منزلي مارك وكاثرين قرابة 4 ليالٍ، أما تايلور فقد شاهد الشاحنة البيضاء أمام منزله بعد مرور 5 أسابيع على الواقعة الأولى، وبمضي الوقت ظهرت عليهم أعراض أسوأ، تضمنت زيادة حدة الصداع والغثيان والدوار، إضافة إلى نزيف الأنف وفقدان جزئي للذاكرة وضعف البصر، وهي أعراض تتفق مع ما يُعرف باسم متلازمة هافانا.
يعود مصطلح متلازمة هافانا إلى إصابة مجموعة من الدبلوماسيين الأميركيين بأعراض مماثلة في كوبا عام 2016، وقد ادعى هؤلاء أنهم استهدفوا بسلاح صوتي مجهول المصدر، كما أفادوا بأنهم سمعوا صريرا مثل الضوضاء والاهتزازات المفاجئة إبان ظهور تلك الأعراض، ومنذ ذلك الحين تُعرف هذه الإصابات غير المبررة، التي عاناها عشرات المسؤولين الأميركيين، والتي تسببت في إنهاء الحياة المهنية للكثير منهم، باسم متلازمة هافانا، وقد أظهرت الفحوص الطبية أن تلك الأعراض ارتبطت بأضرار دماغية.
يؤكد جيمس بنفورد، الفيزيائي والخبير في مجال الموجات الدقيقة، أن أجهزة إرسال الموجات الدقيقة ميكروويف المحمولة يمكن أن تلحق الضرر بأنسجة الدماغ، بشكل مماثل لما رصدته تلك الفحوص. ويشير بنفورد إلى أن تلك الأجهزة تمت دراستها أكثر من 50 عاما، وجرى تطويرها على نطاق واسع في قرابة 12 دولة، منها أميركا والصين وروسيا، وهناك أنواع كثيرة منها، يتراوح حجمها بين حقيبة سفر ووحدة مقطورة، وكلما زاد حجم الجهاز زاد مدى الإرسال.
جدير بالذكر، أن طبيعة عمل مارك ليندسي تتضمن استخدام معدات سرية للغاية، وفق تعبيره، بغرض تحليل التهديدات الإلكترونية التي تتعرض لها البعثات الدبلوماسية الأميركية؛ مما يعني أن لديه خبرة ما في هذا الصدد، وقد صرّح بأن ما أصابه كان هجوما مباشرا بأحد أسلحة طاقة الترددات الراديوية في نطاق الموجات الدقيقة العالية الطاقة.
وكان البيان الصادر عن وكالة الأمن القومي الأميركية عام 2014، قد أشار إلى أن التعرض لأنظمة أسلحة الموجات الدقيقة العالية الطاقة يسبب شعورا بالوهن، وقد يؤدي إلى الموت بعد فترة من التعرض، ووفقا لتقارير، أُصيب هؤلاء المسؤولون بهجوم بأحد أسلحة الطاقة الموجهة Directed Energy Weapons DEWs، التي تشمل أشعة الليزر العالي الطاقة، وأشعة الموجات المليمترية، وأشعة الموجات الدقيقة ميكروويف العالية الطاقة، إضافة إلى الأشعة الصوتية. وتعدّ هذه الأسلحة من أنواع الأسلحة الكهرومغناطيسية Electromagnetic Weapons، التي تتضمن أسلحة النبض الكهرومغناطيسي Electromagnetic Pulse والقاذفات الكهرومغناطيسية Electromagnetic launchers، إلى جانب أسلحة الطاقة الموجهة، المذكورة سالفا.
يُذكر أن مؤسسة أبحاث فيجن جين البريطانية Visiongain، نشرت تقريرا في فبرايرشباط الماضي بعنوان سوق أسلحة الطاقة الموجهة Directed Energy Weapons DEW، أوضحت خلاله أن مبيعات هذا السوق بلغت 6.4 مليارات دولار أميركي عام 2023، كما أورد التقرير، أن معدل النمو السنوي المتوقع لهذا السوق سوف يبلغ 19.5 فيما بين عامي 2024 و2034. وأشار التقرير إلى أن الحاجة إلى حلول دفاعية فعالة منخفضة التكلفة، تدفع الأنظمة العسكرية في أنحاء العالم إلى اعتماد أسلحة الطاقة الموجهة، عوضا عن الأسلحة الحركية التقليدية وأنظمة الدفاع الصاروخي التي تمثل تكلفة مرتفعة على مستويات الشراء والتشغيل والصيانة؛ مما يجعلها غير مستدامة اقتصاديًّا بالنسبة للعديد من ميزانيات الدفاع.
تستهدف القاذفات الكهرومغناطيسيةمعدّات العدو بشكل رئيسي والأفراد بدرجة أقل، إذ إنها تستخدم الطاقة الكهرومغناطيسية في توليد طاقة حركية، ثم تستعملها في إرسال المقذوف نحو الهدف، بمعنى أنها تشبه الأسلحة التقليدية إلى حد بعيد، والاختلاف الوحيد بينهما هو أن الأخيرة تعتمد على الطاقة الكيميائية لتوليد الطاقة الحركية، مثل استخدام البارود في دفع الرصاص من البندقية، في حين تستخدم الأسلحة الكهرومغناطيسية مجالا كهرومغناطيسيا لتوليد الطاقة الحركية التي تدفع المقذوف نحو الهدف.
على جانب آخر فإن آلية عمل أسلحة النبض الكهرومغناطيسي وأسلحة الطاقة المباشرة تتضمن التداخل مع البنية التحتية الإلكترونية للهدف، حيث تقوم بالتشويش على خطوط الهاتف وكابلات الطاقة والاتصالات اللاسلكية، أي أنها تستهدف معدّات العدو فقط. ومع ذلك، فإن بعض هذه الأسلحة يمكن أن يؤثر سلبًا في الجلد والأعضاء الداخلية للإنسان، ولفهم ذلك يجدر بنا إلقاء نظرة على مفهوم الطيف الكهرومغناطيسي وعلى تكوينه.
يمثل الطيف الكهرومغناطيسي الأشعة الموجودة في الكون، ويتكوّن من 7 أنواع من الموجات، إحداها هي موجات الطيف المرئي أما البقية فلا تستطيع العين المجردة رؤيتها. وتختلف هذه الموجات من حيث التردد والطول الموجي. الأنواع التي تتميز بتردد عالٍ مثل أشعة جاما والأشعة فوق البنفسجية تعد ضارة بالإنسان، حيث تعمل على إحداث تغيير في الحمض النووي؛ مما يسبب أمراضا مثل السرطان وابيضاض الدم، ولولا وجود الغلاف الجوي الذي يعمل على امتصاص تلك الأشعة الضارة وتشتيتها لانعدمت الحياة على الأرض.
تنشأ الطاقة الكهرومغناطيسية من مصادر طبيعية مثل الشمس، أو صناعية من خلال إحداث تغير في المجال المغناطيسي أو الكهربائي أي من خلال حدوث اهتزاز في أي من المجالين، نظرا إلى أن تغير أحدهما يُحدث تغيرا في الآخر فهما مترابطان. الموجات الكهرومغناطيسية تنتقل بسرعة الضوء، ولا تحتاج إلى وسط للانتشار، أي أن في إمكانها الانتقال عبر الهواء والمواد الصلبة وكذلك فراغ الفضاء، على عكس الموجات الحركية والصوتية التي تحتاج إلى وسط للانتقال خلاله.
ارتبط تاريخ تطوير هذه الأسلحة ومفهوم السلاح غير المميت، وقد نشأ هذا المفهوم خلال حقبة الستينيات في القرن الماضي، وكان الغرض من تطوير هذه الأسلحة هو استخدامها في مهام حفظ الأمن للسيطرة على الحشود ومكافحة أعمال الشغب، حيث عُرفت تلك الحقبة في الولايات المتحدة بـحقبة الاحتجاجات، نظرا إلى انتشار التظاهرات المناهضة لحرب فيتنام وغيرها من النزاعات العسكرية والسياسية التي شهدتها تلك الفترة؛ مما يعني أن العمل على تطوير هذه النوعية من الأسلحة كان لأغراض حفظ الأمن وللمهام الشرطية بالأساس.
ومع ذلك، جرت مناقشات في الأوساط العسكرية وأوساط أبحاث السلام خلال ستينيات وسبعينيات القرن الماضي حول مفهوم الحرب بدون موت، ففي عام 1970 كتب جوزيف كوتس، أحد العاملين في معهد التحليلات الدفاعية الأميركي في واشنطن، ورقة بحثية بعنوان القتال غير القاتل وغير المدمر في حروب المدن، اقترح خلالها دورا أوسع للأسلحة غير الفتاكة وغير المدمرة في الحروب المنخفضة الحدة، إذ توقع أن نزاعات أميركا المستقبلية سوف تجري بالأساس في مناطق حضرية تتميز بالاختلاط بين المعتدين والمدنيين، على غرار فيتنام؛ مما يستدعي الحاجة إلى هذه النوعية من الأسلحة.
وفي عام 1978، أشارت دراسة صادرة عن معهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام إلى ثلاثة مجالات رئيسية في علم الفيزياء وهي الكهرباء والصوتيات والإشعاع الكهرومغناطيسي، بوصفها مجالات قادرة على تطوير تطبيقات عسكرية غير قاتلة، باعتبار أن تسبُّب هذه الأسلحة في حالات مرضية أو في وفيات لاحقًا، يُعدّ أمرا رحيما مقارنة بالأسلحة التقليدية التي تُسبِّب وفيات مباشرة.
سبق ذلك إجراء إحدى التجارب النووية الأميركية على ارتفاع 250 ميلا فوق جزيرة جونستون شمال المحيط الهادئ عام 1962، وقد أنتجت هذه التجربة -بصورة عرضية- نبضا كهرومغناطيسيا بلغ جزر هاواي على بعد 800 ميل شرق التفجير، الذي تم باستخدام سلاح نووي بقوة 1.4 ميغا طن.
أحدث التفجير رشقات من أشعة جاما اصطدمت بأكسجين ونتروجين الغلاف الجوي؛ مما أدى إلى تأيّن جزيئات الهواء إلى أيونات موجبة وإلى إلكترونات ارتدادية تسمى إلكترونات كومبتون، ومن ثم إطلاق تسونامي كهرومغناطيسي انتشر مئات الأميال، أعقبه انطفاء أضواء الشوارع وانقطاع الخدمات الهاتفية في الجُزر، وكذلك تعطل الملاحة اللاسلكية مدة 18 ساعة فيما بين الجُزر وأستراليا. وتعد الانفجارات النووية أحد مصادر النبضات الكهرومغناطيسية وتُعرف بـالنبض الكهرومغناطيسي النووي، ويمكن أن تتولد النبضة الكهرومغناطيسية من مصادر طبيعية.
ومع ذلك، انصب اهتمام الأنظمة العسكرية على تطوير الأسلحة النووية خلال حقبة الثمانينيات، بسبب مواجهات الحرب الباردة التي كانت قائمة بين دول حلف شمال الأطلسي ودول حلف وارسو. ويشير ستيفن سكوفيلد، أستاذ كلية الرياضيات والعلوم الفيزيائية في مركز لندن لتقنية النانو، ونيك لوير، أستاذ كلية الشؤون الحكومية والدولية بجامعة دورهام البريطانية، إلى أن العديد من التقنيات التي شكّلت أساسا لترسانة الأسلحة غير الفتاكة تم تحديدها بالفعل في الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي، لكنها لم تعطَ أولوية حقيقية في سياق التخطيط العسكري للحرب الباردة، على أن هذه الأبحاث العسكرية وفرت في وقت لاحق، الأساس الذي انطلقت منه هذه الأسلحة.
يؤكد ذلك تقرير مؤتمر المعهد الوطني للعدالة التابع لوزارة العدل الأميركية الذي أقيم عام 1986، حيث يشير التقرير إلى أن الجيش الأميركي أجرى أبحاثا واختبارات ذات صلة بتطوير أسلحة أقل فتكا، لكن الكثير من هذا العمل كان سريا. كما حظيت أسلحة الطاقة الموجهة باهتمام خاص في إطار مبادرة الدفاع الإستراتيجي الأميركية عام 1983، وهي المبادرة التي سعت إلى إيجاد طرق مختلفة للدفاع ضد الصواريخ البالستية خلال حقبة الثمانينيات عبر تطوير أسلحة الليزر العالية الطاقة.
وفي عام 1989، نشر جون ألكسندر، مدير برنامج مجموعة التقنيات الخاصة في مختبر لوس ألاموس الوطني في الولايات المتحدة، مقالا في مجلة المراجعة العسكرية Military review، اقترح خلاله تطوير تقنيات جديدة مثل الليزر والموجات الدقيقة العالية الطاقة والضوء العالي الكثافة لتعطيل المعدات العسكرية. وعلى عكس ما جرى في المناقشات السابقة التي ركّزت على تلك الأسلحة بوصفها أقل ضررا على البشر، استهدف اقتراح ألكسندر استخدام تلك الأسلحة لمضاعفة قوة فتك الأسلحة الموجودة في ترسانة الجيش الأميركي، ومن ثم لزيادة نسبة القتل.
الاتحاد السوفياتي السابق شارك الولايات المتحدة الاهتمام ذاته، خصوصا خلال فترة الحرب الباردة التي اتسمت بالصراع بين القطبين، على أن روسيا عرفت تطبيقات عملية للأسلحة الإلكترونية في وقت مبكر من القرن الماضي، ففي 15 أبريلنيسان عام 1904، قامت السفينة الحربية الروسية بوبيدا باستهداف الاتصالات اللاسلكية اليابانية أثناء القصف الياباني للأسطول الروسي في بورت آرثر؛ مما منع أكثر من 60 قذيفة يابانية من إصابة أهداف روسية. ويعد هذا التاريخ إلى الآن، يوما للاحتفال بمختصِّي الحرب الإلكترونية في الجيش الروسي.
وبحسب توم بيردن، الخبير العسكري الأميركي المختص في الهندسة النووية، فإن أهم خطوة في سياق التسليح الكهرومغناطيسي السوفياتي أتت في أعقاب استخدام أميركا القنبلة الذرية في اليابان، إذ أدى ذلك إلى شعور السوفيت بالإحباط نظرا إلى أن الغرب سبقهم إلى امتلاك سلاح نووي؛ مما دفع الروس إلى السعي وراء مجال تقني جديد بغرض تطوير سلاح خارق، ويعني ذلك أن أحد الدوافع وراء دخول روسيا هذا المضمار، كان الرغبة في تضميد الكبرياء الروسي والحصول على أداة تفوق، بعيدا عن الرؤية الغربية التي أرادت تطوير سلاح غير فتّاك من خلال التقنيات الكهرومغناطيسية.
يؤكد بيردن أن الروس وضعوا أقدامهم على أول الطريق بفضل فريق الرادار العلمي الألماني، الذي تم نقله إلى موسكو بعد الحرب، وأن الاتحاد السوفياتي طوّر خلال خمسينيات القرن الماضي، آلات كهرومغناطيسية يمكنها التأثير في الجهاز العصبي وإحداث حالة من الجمود في الأشخاص، كما يشير بيردن إلى أن المخابرات السوفياتية سيطرت على تطوير برنامج الطاقة، الذي كان مخصصا لأبحاث وتطوير سلاح خارق متقدم وأكثر فعالية من القنبلة الذرية، وأن التكتم أحاط تفاصيل ذلك البرنامج بحيث لم توضع قطّ في أيدي القوات المسلحة الروسية النظامية.
ويذهب بيردن إلى مدى أبعد في تضخيم قدرات الروس، حيث يربط بين حادثة غرق الغواصة النووية الأميركية ثريشر U.S.S Thresher ومقتل أفراد طاقهما في أبريلنيسان 1963، وبين استخدام الروس لأشعة نبضة كهرومغناطيسية تداخلت ودوائر التحكم في الغواصة؛ مما أدى إلى التشويش عليها، ومن ثم فقدان السيطرة وهبوط الغواصة إلى عمق سحيق وهو ما نتج عنه انفجارها. ويشير بيردن إلى أن التداخل الكهرومغناطيسي كان قويا للغاية، بحيث تطلّب الأمر أكثر من 90 دقيقة لإرسال رسالة طوارئ إلى القيادة من السفينة سكايلارك Skylark التي رافقت الغواصة.
نظريات بيردن لم يتم قبولها على نطاق واسع من قبل المجتمع العلمي، وظلت مجرد تخمينات تفتقد إلى الدلائل، ورغم ذلك يُذكر أن الأطباء الأميركيين، الذين حصلوا على أحد تلك الأجهزة التي ذكرها بيردن في ثمانينيات القرن الماضي، أفادوا بأن الجهاز الذي حمل اسم ليدا Lida، يولِّد إشعاعات منخفضة التردد تقوم بتهدئة الأشخاص الخاضعين للتجارب. وقد علّق أحد الأطباء المشاركين على ذلك بقوله يبدو الجهاز بديلا جيدا لتناول الفاليوم عندما تريد الاسترخاء.
تجدر الإشارة إلى أن الوكالة الدولية لأبحاث السرطان التابعة لمنظمة الصحة العالمية، صنّفت إشعاعات التردد الراديوية عام 2011 مادّةً مسرطنة؛ لذلك فإن رأي هذا الطبيب الأميركي، وكذلك الدوافع الغربية وراء تطوير هذه الأسلحة باعتبارها أسلحة غير فتاكة، تكوّنت غالبا بسبب قصور الدراسات في مجال الأشعة الكهرومغناطيسية آنذاك، وانعدام الدراية بتأثيراتها الطويلة الأمد.
لم يثمر سباق التسلح الكهرومغناطيسي الكثيرَ في القرن الماضي، نظرا إلى أن أغلب التقنيات المطروحة كانت مجرد نظريات أو أسلحة قيد التطوير، ولم يؤخذ منها في الاعتبار للاستخدامات العملية، إلا قنابل النبضات الكهرومغناطيسية العالية الطاقة والأنظمة المعتمدة على الموجات المليمترية المعروفة باسم أنظمة الرفض النشط Active Denial Systems ADS.
وتعدّ أسلحة الموجات المليمترية من أبرز أمثلة أسلحة الطاقة الموجهة، مثل أشعة الليزر العالية الطاقة وأسلحة الموجات الدقيقة الميكروويف العالي الطاقة. ويعمل كل نوع من هذه الأنواع الثلاثة في منطقة طيف كهرومغناطيسي مختلفة عن منطقة عمل النوع الآخر، ونظرا إلى ذلك، يتميز كل نوع بخصائص مختلفة نظرا إلى اختلاف أطوالها الموجية وتردداتها، على سبيل المثال، يؤثر الطول الموجي فيما يمكن أن تخترقه الطاقة الموجهة، مثل المعدن أو جلد الإنسان.
في الصورة تتضح منطقة عمل موجات الليزر العالية الطاقة التي تعمل فيما بين المنطقة المرئية ومنطقة الأشعة تحت الحمراء، وكذلك الموجات المليمترية والميكروويف العالي الطاقة، اللذان يعملان في منطقة ما بين الموجات الدقيقة والموجات الراديوية.
أشعة الليزر العالية الطاقة تنتج شعاعًا ضوئيًّا ضيقًا، عادةً ما يكون بين منطقة الأشعة تحت الحمراء والمنطقة المرئية، ويتم استخدامه على هدف واحد في كل مرة. يمكن أن يكون الشعاع نابضًا متقطعا أو مستمرًّا، ويولد طاقة قادرة على صهر الفولاذ. أما أسلحة الموجات المليمترية فإنها تتمتع بحجم شعاع أكبر من أسلحة الليزر العالية الطاقة؛ مما يعني أن بإمكانها التأثير في أهداف متعددة في آن واحد.
من تطبيقات الموجات المليمترية نظام الرفض النشط من تطوير شركة رايثيون الأميركية، وهذا النظام موجات مليمترية بتردد 95 غيغا هرتز، تتفاعل مع جزيئات الماء والدهون في جلد الشخص حتى عمق 0.4 مليمتر في الجلد، لإحداث إحساس بالحرارة يبلغ نحو 53 درجة مئوية، بغرض دفع القوات المعادية بعيدا عن منطقة ما أو للسيطرة على حالات الشغب.
أما عن أسلحة الموجات الدقيقة microwaves، فإنها تنتج قدرا كبيرا من الطاقة؛ مما يجعلها مؤهلة لإحداث ضرر دائم في الهدف، ونظرا إلى أنها تتميز بحجم شعاع كبير مثل أسلحة الموجات المليمترية، فإنها تستطيع التأثير في أهداف متعددة في وقت واحد.
في هذا السياق تشير التقارير إلى إعداد وزارة الدفاع الأميركية تدابير مضادة جديدة للحد من تهديدات الطائرات المسيّرة، حيث يرى المراقبون أن هذه الأساطيل المنخفضة التكلفة أصبحت تؤدي أدوارا بارزة في الصراعات، ويعتقد البنتاغون أن لديه في هذا الصدد سلاحا واعدا يعتمد على الموجات الدقيقة العالية الطاقة، وفق ما أشارت إليه مجلة العلوم الأميركية.
هذا ويخطط البنتاغون لإجراء عرض عسكري مضاد للطائرات المسيّرة في شهر يونيوحزيران المُقبل، وسوف يقوم خلاله بتقييم 6 تقنيات جديدة، بينها تقنيات تستند إلى أنظمة الموجات الدقيقة، في مواجهة سرب من 50 طائرة من الطائرات المسيّرة.
يُذكر أن مختبر أبحاث القوات الجوية الأميركية أعلن في وقتٍ سابق خلال عام 2021، نجاحه في تطوير نموذج أولي لنظام كهرومغناطيسي مضاد للطائرات المسيّرة، وقد حمل هذا النظام اسم ثور Tactical High Power Operational Responder THOR، وهو سلاح موجات دقيقة عالية الطاقة، يمكن وضعه كله في حاوية بطول 6 أمتار، كما يمكن نقله جوا في طائرة نقل عسكرية متوسطة الحجم، ويستغرق إعداد النظام كله بواسطة شخصين ثلاث ساعات فقط، ويمتلك النظام واجهة مستخدم تقلل من الحاجة إلى التدريب.
في السياق ذاته كشف وزير مشتريات الدفاع في الحكومة البريطانية جيمس كارتليدج، عن تصميمات مدمرة بحرية من طراز 83 يُفترض أن تمثّل جزءا من منظومة الهيمنة الجوية المستقبلية في البحرية الملكية. وقال كارتليدج إن نظام السيطرة الجوية المستقبلي سوف يستخدم مجموعة متنوعة من التقنيات المتطورة، بما في ذلك قدرات الكشف الرادارية المتطورة وأسلحة الطاقة الموجهة.
وزير المشتريات البريطاني لم يذكر نوعية سلاح الليزر الذي سوف يتم إلحاقه بهذه السفينة الحربية، إلا أن بريطانيا اختبرت بنجاح في وقت سابق، نظام سلاح الطاقة الموجه بالليزر دارجون فاير Dragonfire وهو أحد أسلحة الطاقة الموجهة التي تتميز بالدقة وسرعة الاستجابة واحتمال إصابتها العالية للصواريخ السريعة الحركة والصواريخ الفرط صوتية، وقد أوضح بيان وزارة الدفاع البريطانية أن شعاع دراجون فاير يمكنه أن يخترق المعدن؛ مما يؤدي إلى فشل هيكلي في معدات العدو.
التهديد الذي تشكّله الصواريخ الفرط صوتية أصبح متزايدا، بسبب مسارات الحرب الروسية الأوكرانية، حيث تقوم روسيا بتجهيز سفنها الحربية وغواصاتها التي تعمل بالطاقة النووية بصواريخها المتطورة من طراز زيركون الفرط صوتي؛ مما دفع الدول الغربية إلى اعتماد أسلحة الطاقة الموجهة باعتبارها دفاعات ناعمة ضد تهديدات الصواريخ الباليستية. هذا وقد أصبح الدفاع الجوي القائم على الليزر -وهو أحد أسلحة الطاقة الموجهة- محطّ تركيز الجيوش المتقدمة خاصة على متن السفن الحربية.
من جانبه كشف الجيش الروسي عن إدخاله أسلحة طاقة موجهة حديثة مؤخرا إلى ترسانته، بغرض التصدي لتهديدات الطائرات المسيّرة في ساحة الحرب الأوكرانية، حيث أوضح يوري بوريسوف نائب رئيس الوزراء، أن روسيا نشرت أسلحة ليزر حديثة لمواجهة الطائرات المسيّرة التي قدمتها القوى الغربية لأوكرانيا، ومن ضمن هذه الأسلحة نظام الصواريخ الباليستية العابر للقارات زاديرا الذي يتضمن عنصر ليزر عالي الطاقة يسمى بيريسيفت.
بوريسوف أوضح أن النظام تم نشره على نطاق واسع، وأن في إمكانه أيضًا تعتيم الأقمار الصناعية على ارتفاع يصل إلى 1500 كيلومتر فوق الأرض، كما ادّعى بوريسوف في وقت سابق خلال عام 2022، أن زاديرا أسقط بالفعل طائرة أوكرانية بدون طيار في غضون خمس ثوان، وقد بلغت المسافة التي تفصل الطائرة عن النظام 5 كيلومترات.
هذا وقد أعلن باحثون صينيون مؤخرا، نجاحهم في تطوير أول مدفع كهرومغناطيسي يمكنه إطلاق عدد كبير من المقذوفات من دون تعرضه لأضرار. وكما ذكرنا، فإن المدافع الكهرومغناطيسية تشبه المدافع التقليدية إلى حد بعيد، باستثناء أن الأولى تعتمد على المجال الكهرومغناطيسي لتوليد طاقة حركية تدفع المقذوف، بدلا من الاعتماد على التفجير الكيميائي.
وكان الجيش الأميركي قد أعلن في وقت سابق من عام 2021، تخليه عن برنامجه المتعلق بتطوير مدفع كهرومغناطيسي بعد إنفاقه أكثر من 500 مليون دولار. وقد تمثلت الأسباب المعلنة في وجود تحديات هندسية عدة، مثل تعرض برميل المدفع للتآكل بعد بضع طلقات فقط، فضلًا عن الرغبة في تحويل الموارد إلى برامج الصواريخ الفرط صوتية.
التقارير تشير إلى وجود أسباب أخرى وراء التخلي عن البرنامج الأميركي، تتمثل في عدم التطابق بين الدور المتصوّر للمدفع وأولويات البحرية المتغيرة، حيث كان التصور الرئيسي هو إلحاق المدفع بالمدمرة زوموالت Zumwalt، إلا أن هذا البرنامج لم يكتمل بسبب مشكلات التكلفة الخاصة به.
اختبارات المدفع الصيني الأخيرة، شهدت تسارع مقذوف يبلغ وزنه 124 كيلوغراما إلى سرعة أولية بلغت 700 كيلومترا في الساعة 194 مترا في الثانية. ولوضع هذا في الاعتبار، تجدر الإشارة إلى أن المشروع الأميركي الذي تم إنهاؤه تمكّن من إطلاق مقذوف يبلغ وزنه 18 كيلوغرامًا فقط؛ مما يعني أن استخدام مقذوف أخف وزنا في المدفع الصيني، سوف يدفع السرعة إلى تجاوز سرعة الصوت 340 مترا في الثانية بسهولة.
أما وكالة الاستحواذ والتكنولوجيا التابعة لوزارة الدفاع الذاتي اليابانية، فقد أعلنت أيضا في أكتوبرتشرين الأول الماضي، نجاحها في اختبار مدفع كهرومغناطيسي، بالتعاون مع قوة الدفاع الذاتي البحرية اليابانية. في السياق ذاته كشفت وكالة المشتريات الدفاعية الفرنسية، عن مشروعها الخاص بتطوير مدفع كهرومغناطيسي في يوليوتموز الماضي. وأشارت الوكالة إلى أن تطوير هذا المدفع المصمم لتسليح السفن، تم من قبل معهد الأبحاث الفرنسي الألماني في سان لوي بتمويل من وكالة الابتكار الدفاعي.
إيمانويل شيفا، الرئيس التنفيذي للمديرية العامة للتسليح التابعة لوزارة الدفاع الفرنسية، سلط الضوء على هذا المشروع، موضحا أن المدفع يعمل عن طريق إرسال قذيفة بين قضيبين مع فرق جهد كهربائي كبير، وأشار إلى أن المقذوف يمكن أن يغطي مسافة تصل إلى 600 كيلومتر، كما ذكر أنه خلال أحد العروض التجريبية، تمكّن قرص مطاطي صغير أُطلق من المدفع بقوة تعادل 100 ألف ضعف للجاذبية، من اختراق دروع سميكة.
ويتألف المدفع الكهرومغناطيسي من قضيبين متوازيين ومحرك، وكلاهما موصّل للتيار الكهربائي، إضافة إلى مقذوف غير موصّل للتيار. يتم توليد التيار على شكل نبضات بواسطة مصدر طاقة نبضي لإثارة القضبان، ويتدفق التيار الكهربائي عبر القضبان ثم يولد مجالًا كهرومغناطيسيا على المحرك بسبب قوة لورنتز، مما يؤدي إلى تسريع المحرك والمقذوف معا.
من الممكن التكهن بأن امتلاك أسلحة كهرومغناطيسية متطورة واسعة المدى سيؤدي إلى تغيير جذري في الصراعات المستقبلية، نظرا إلى أن هذه الأسلحة تجرّد الخصم من مزاياه التقنية، وتمحو عقودا من الاستثمار المالي والعقلي الذي قامت به المعامل البحثية في جيوش الدول العظمى. في هذا الصدد يرى العاملون في معهد أبحاث البحرية الصينية، أن الأسلحة الكهرومغناطيسية سوف تمكّن جيشا بإمكانيات أقل من هزيمة جيش آخر متفوق، من خلال مهاجمة أنظمة الاتصالات والمراقبة وسفن القيادة، وسوف تكون هذه أهدافا ذات أولوية في الحروب المستقبلية.
يؤكد ذلك موقع الفضاء العسكري military aerospace، حيث يشير إلى أن الأسلحة الكهرومغناطيسية العالية الطاقة سوف تتمكّن من تعطيل مجموعة قتالية من حاملات الطائرات في ثوانٍ معدودة، إضافة إلى تدمير الأجهزة الإلكترونية للطائرات قبل أن تبادر تلك بإطلاق أسلحتها، وكذلك تدمير الاتصالات الحيوية وأجهزة المراقبة والقيادة وإلغاء السيطرة على المركبات الفضائية من دون سابق إنذار؛ مما يؤدي إلى ترك القوات البرية عمياء وبعضها معزول عن بعض، في حين سوف يحتفظ العدو بقدراته العسكرية المتطورة، وفي هذه الحالة فإن الحرب، سوف تكون أشبه بمواجهة بين جيش بدائي من العصور الوسطى وآخر متفوق يمتلك أحدث التقنيات العسكرية.
أضف إلى ذلك أن هذه الأسلحة توفر عنصر المباغتة، نظرا إلى انتقالها بسرعة الضوء؛ مما يمنحها زمن طيران يقترب من الصفر، وهو ما يتيح ردًّا أسرع وتوافر وقت أطول لاتخاذ القرار من قبل المُستخدم، كما توفر هذه الأسلحة درجة كبيرة من السرية أثناء عملها؛ لأن الإشعاعات فوق وتحت نطاق الطيف المرئي غير ملحوظة ولا تولد صوتا مما يجعل تتبع مصدر الهجوم أمرا في غاية الصعوبة.
من المزايا الهامة أيضا لهذه الأسلحة، انخفاضُ تكلفة الاشتباك على المستويين البشري والمادي، على سبيل المثال، تُكلّف طلقة الليزر من نظام دراجون فاير البريطاني قرابة 13 دولارا، مما يعني أن النظام اقتصادي للغاية إذا ما قارناه بتكلفة تشغيل أي نظام اعتراض جوي آخر، مثل صواريخ كروز التي تطلقها القوات الأميركية قبالة اليمن، وتبلغ تكلفتها ما لا يقل عن ثلاثة أضعاف تكلفة الطائرات المسيّرة التي تهدف إلى تدميرها.
ميزة انخفاض تكلفة التشغيل لا تقتصر فقط على المعركة، بل تنعكس كذلك على تكلفة التدريب مقارنة بالأسلحة التقليدية، نظرا إلى أن الطلقات التدريبية للأخيرة تمثل عبأ ماديا، كما في حالات التدريب على صاروخ متطور، ويمثل ذلك ميزة على مستوى تكلفة الاشتباك الواحد؛ مما يجعل الهجوم على الأهداف الصغيرة في حالات التهديد غير المتماثل أقل تكلفة.
في هذا السياق، توقعت إحدى الدراسات الصادرة عن جامعة جيمس ماديسون الأميركية، أن الولايات المتحدة سوف تواجه في النزاعات المستقبلية خصومًا يستخدمون أسلحة النبضات الكهرومغناطيسية ضمن التكتيكات غير المتماثلة لتعطيل أنظمة المعلومات، كما يؤكد أحد التقارير الصادرة عن كلية القيادة والأركان الجوية في قاعدة ماكسويل الجوية بالولايات المتحدة أن تطوير أسلحة الطاقة الموجهة صار قابلا للتطبيق، وأن هذه الأسلحة سوف تنتشر في بيئة العمليات في السنوات الخمس أو العشر القادمة، حيث إن تقنيات توليد الترددات العالية الكثافة وصلت إلى النقطة التي أصبحت فيها الأجهزة العملية ممكنة من الناحية التقنية.
التقرير يؤيد استثمار الجيش الأميركي في تطوير هذه النوعية من الأسلحة، نظرا إلى أنها تحفظ الميزة التنافسية للولايات المتحدة، كما أن هذه الأسلحة غير الحركية توفر للسياسيين والقادة العسكريين خيارات رد متنوعة تختلف عن تلك التي توفرها الأسلحة التقليدية، حيث إن تأثيراتها في معدّات العدو تتراوح بين التعطيل والتلف الدائم، اعتمادًا على عوامل عدة، مثل المسافة التي تفصلها عن الهدف، والوقت الذي تستغرقه وهي مسلطة على الهدف، وكذلك الجزء من الهدف الذي يركز عليه السلاح الموجه، حيث يمكن تسليطه على جهاز الاستشعار الخاص بالهدف بغرض تعطيله، أو التركيز على خزان الوقود أو البطارية بغرض التدمير.
هذه المجموعة من التأثيرات يمكن الاستفادة منها في إنذار الهدف وتحذيره بشكل متدرج، ويمكن أن يبدأ الإنذار المتدرج بمنع استخدام أصول العدو داخل منطقة ما بشكل مؤقت، ثم يتصاعد إلى تدمير الأصل إذا لزم الأمر، كما يمكن استخدامها جنبًا إلى جنب مع الأسلحة التقليدية لزيادة فعالية النظام القتالي بشكل عام، بغرض تعطيل المعدات الإلكترونية قبل الاشتباك بسلاح حركي، كما اقترح سابقا جون ألكسندر، مدير برنامج التقنيات الخاصة في مختبر لوس ألاموس.
_________________
الهوامش
التردد تردد الموجة هو عدد الدورات الكاملة خلال ثانية واحدة ويقاس بالهرتز.
الطول الموجي هو المسافة اللازمة لتكمل الموجة دورة كاملة واحدة. أو هو المسافة بين اثنتين من القمم المتعاقبة أو القيعان المتعاقبة للموجة.
قوة لورنتس القوة المؤثرة في جُسيم مشحون يتحرك بسرعة V خلال مجال كهربائي E ومجال مغناطيسي B، لتعتبر بذلك مزيجًا من القوى المغناطيسية والكهربائية. سُميت بهذا الاسم نسبة إلى العالم الهولندي هندريك لورنتز الذي اكتشفها عام 1895. ويعبر عنها بالمعادلة F qE qv B | https://www.aljazeera.net/politics/2024/8/20/%d8%a7%d9%84%d8%a3%d8%b3%d9%84%d8%ad%d8%a9-%d8%a7%d9%84%d9%83%d9%87%d8%b1%d9%88%d9%85%d8%ba%d9%86%d8%a7%d8%b7%d9%8a%d8%b3%d9%8a%d8%a9-%d8%aa%d9%82%d9%86%d9%8a%d8%a7%d8%aa | 2024-08-20T05:25:03 | 2024-10-15T02:16:46 | أبعاد |
|
12 | كيف تُنهي صداقة شخص يؤذيك؟ وماذا تقول؟ | حين تُصادق شخصا جديدا لن يخطر ببالك حينها أن صداقتك به قد تنتهي، لكن مسارات الحياة وتقلباتها لا تسمح للمرء سوى بالقدر الضئيل من الثبات، وشئنا أم أبينا، تنتهي الصداقات الجميلة منها والسيئة. | الصداقة مرتعنا الآمن، متطلباتها قليلة وعوائدها علينا عظيمة، لذا حين تُصادق شخصا جديدا لن يخطر ببالك حينها أن صداقتك به قد تنتهي، لكن مسارات الحياة وتقلباتها لا تسمح للمرء سوى بالقدر الضئيل من الثبات، وشئنا أم أبينا، تنتهي الصداقات الجميلة منها والسيئة. قد تُفاجأ في لحظة ما بتورطك بصداقة ثقيلة على قلبك، شخص يؤذيك ويؤثر عليك سلبا أو يتلاعب بك، أو ربما ترغب في قطع علاقتك بصديق ما أيا كان السبب، حينها لا يعرف أغلبنا طريقة مثلى لإنهاء الصداقة عندما يشعر بأنه ما عاد قادرا على الاستمرار، أو أن يكتشف أن الشخص المدعو صديقه يؤذيه بشكل ما. إن الأمر تحوَّل إلى مهمة شاقة، ربما لأن في علاقة الصداقة مساحة ضبابية عن معنى الإساءة والأذى فيها. في هذا الدليل نُعرِّفك بأكثر الطرق الصحية لإنهاء صداقتك بشخص لا تشعر بالأمان معه.
من المهم، قبل إنهاء الصداقة، أن ترتب أفكارك وتحدد بالضبط أسباب عدم رغبتك في وجود هذا الشخص في حياتك، لأن هذا التنظيم سيساعدك على التقدم بشجاعة وتجاوز الأمر بسرعة. رتّب أفكارك بالكتابة، لا داعي لمشاركة ما كتبته مع صديقك. إنها طريقة للتعبير عما يدور في ذهنك من أفكار ومشاعر فحسب، لكن تجنّب مناقشتها حتى تتضح الصورة لك.
نظرا لقلة تناول علاقة الصداقة ذاتها، قد لا تجد مسوّغا لإنهائها، وإن وجدته فقد تشعر أن صديقك على عيبه، مؤكدا لنفسك أن قطع صلتك به تصرف مُنافٍ للأخلاق والأصول. بالطبع هي خسارة فادحة، خاصة حين تكون صداقة طويلة أو عميقة، لكن عليك أن تعرف أن شخصا لا يُحسّن حياتك أو يقلل من قدرك أو يتسبب لك في أي أذى دون أن يعتذر عنه أو يشرح نفسه، لا يستحق مساحة من حياتك أو جزءا من وقتك واهتمامك.
عموما، العلاقة الصحية هي العلاقة التي يتساوى طرفاها في العطاء والأخذ، أما في الصداقة المؤذية أو السامة، فعادة ما يمنح طرف أكثر مما يتلقى. راقب شعورك في المرة القادمة التي تُقابل فيها صديقك الذي تفكر في قطع علاقتك به وبما تشعر بعد أن تقضي وقتا بصحبته. علامات الصداقات المؤذية واضحة، لكن أحيانا نخبئها خلف ستارة المبررات أولا، تجده لا يعبأ بأمرك ولا يولي اهتماما بحياتك. ثانيا، يكذب عليك، أو يتلاعب بك، أو يحاول التحكّم بك أو فرض آرائه عليك. ثالثا، لا يُعتمد عليه ولا يدعمك تحت أي ظرف. رابعا، تشعر أنه يحكم عليك وينتقدك. خامسا، تشعر بأنك مُستنزَف نفسيا بعد قضاء الوقت معه.
لكن الأمر يبدأ وينتهي عند الحدس. ربما لا تجد الأسباب التي دفعتك للتفكير في إنهاء تلك الصداقة هنا، لذا اتبع حدسك، أحيانا يتلاعب بعض الناس بطرق ملتوية، قد لا تتضح طريقة إيذائه لك بشكل تتمكن من التعبير عنه في كلمات واضحة تبرر بها لنفسك أو حتى تدعم قرارك، لذا عليك بحدسك، شعورك هذا الخفي الذي يبث فيك قلقا وانزعاجا غامضا من شخص ما، لا تُكذِّبه.
تعتمد هذه الطريقة على أن تدع الصداقة تصل إلى نهايتها الطبيعية بأن تقلل التواصل معه شيئا فشيئا، يشبه هذا تفكيك غرز الجرح واحدة تلو الأخرى بدلا من تمزيقها دفعة واحدة، وهو حل مناسب في حال قلقك من المواجهة أو عدم تفضيلك لها، لأنه بطبيعة الحال قد لا يُنصت الطرف الآخر لما تقوله أو لا يتقبّله بصورة لائقة. ليس هذا فحسب، الانسحاب محاولة لتفادي تجريح المشاعر ولفظها في العلن في حال التخوف من ذلك. بدلا منه، تعلل بالانشغال، أو بشكل عام قلل تواصلكما، بمعنى أن ترسل رسالة بدلا من الاتصال، أن تنسحب من تفاعلك على حساباته على وسائل التواصل الاجتماعي، أن تُلغي متابعته وليس صداقته، في حال تطلب الأمر التعليق عنده، علّق بردود قصيرة، لا تفتح بابا لمزيد من الحوار، وغيرها من مناورات كهذه.
ليس عليك الشعور بالذنب جراء هذا السلوك، قد تحدث هذه الأشياء بشكل طبيعي في أي صداقة مع تقلّب الظروف، المختلف في هذا السياق أنك ستقرر بشكل واعٍ سلك هذا الطريق بنفسك. لكن عليك الانتباه أنه بينما الانسحاب التدريجي أنسب وألطف بك، قد لا يتقبله الشخص الآخر ويعدّه إهمالا أو تجاهلا متعمدا، قد لا يفهم أنك تحاول إنهاء الصداقة، وأيضا قد يقلق من اختفائك أو تغيّرك المفاجئ، لذا من الأفضل اللجوء لحل الانسحاب حين يكون الصديق مؤذيا أذى تخاف على نفسك منه، أو في حال لا تعبأ بالأمر كله إلى حدّ أنك لا تريد التبرير له من الأساس1.
ستُفاجأ مما قد تؤول إليه الصداقات، لذا لا بأس إن أخبرت صديقك بأنك بحاجة إلى هدنة في حال لم ترغب في قطع العلاقة من بابها، ليس منه بالتحديد، بل من التواصل مثلا، لتدرس مشاعرك عن كثب، لذا لا تدع مشاعر صديقك تغمرك وتشتتك عن هدفك الأساس الذي هو رسم حدود واضحة مع هذا الشخص. لهذه الاستراحة تأثير إيجابي من عدة نواحٍ أن تفكّر في أهمية هذه الصداقة من عدمها دون تأثير هذا الشخص عليك، أن تمنح نفسك وقتا حتى تهدأ في حال كنت غاضبا، وأيضا وقتا لتفكّر مليا فيما يزعجك منه. قد تُخبره هذه الأسباب بصراحة، أو قد تكتفي بقول إنك ستنشغل بشدة خلال الفترة المقبلة لذا لن تظهر كثيرا.
إن كنتما قد تحدثتما في بعض المواضيع، في وسعك أن تقول إنك بحاجة إلى وقت لهضم نقاشكما، وإنك ستتواصل معه فور شعورك بالجاهزية. خلال الهدنة، يجدر بك إلغاء متابعة صديقك أو كتم حساباته على وسائل التواصل كي تحظى بمساحة لا يعكّر صفوها وجوده وتأثيره. في حال قررت استكمال الصداقة، عليك أن تتأكد أن كليكما متفق على الصفحة نفسها من التوقعات والحدود بينكما1.
في حال قررت مصارحة صديقك بمشاعرك ورغبتك، حاول أن تصرح بأي أمر إيجابي أو لطيف تشاركه مع هذا الشخص، سواء كان وقتا ممتعا قضيتماه معا، أو خدمة قدّمها لك، أو شيئا علّمك إياه، أو أثرا تركه فيك، أو تمشية طويلة خففت عن نفسك، أو وقتا تحمّل فيه شكواك وتذمرك، أو موقفا صعبا ساعدك على تخطيه، أو هدية أهداها إليك، أو وجبة شهية تناولتها بصحبته، أي موقف. عليك وقتها أن تخبره عما عَنى ذلك لك وعن مقدار امتنانك له.
في وسعك إحباطه بسهولة، أنت بالفعل أحبطته بإنهاء صداقتكما، لكن العطف واللطف قرار فردي وشجاع، في يدك الآن ألا تردّ الأذى بأذى مثله، في وسعك أن تكون نموذجا للترفق بمشاعر صديق سيختفي من حياتك عما قريب، ربما قد يتعلّم هذا الشخص قيمة أن يحظى بصديق مخلص وصدوق. قد لا يكون هذا سهلا، لكنك قد ترسل له رسالة ضمنية تُنبّهه بعلاقاته بالآخرين، وقد تتعلّم أنتَ أيضًا شيئًا جديدًا عن نفسك، إذ عبر امتنانك له ستلاحظ المواقف التي جعلت هذه الصداقة ممكنة في المقام الأول، وستسهِّل الانفصال على نفسك، وستشعر بتحسّن كبير حيال الطريقة التي اخترتها لتنفيذ هذا الانفصال2.
توجد حلول أخرى في حال قررت أن الانسحاب تدريجيا ليس خيارا مناسبا. عليك مواجهته ببساطة. عقدت العزم على إنهاء صداقتك بالشخص المعني، صحيح؟ لا شيء قد يُغيِّر رأيك، صحيح؟ إذن كل حديثك سيدور عنك أنت، عن مشاعرك وقرارك. كثيرون، بسبب الانفعال أو الألم، يندفعون للوم شخص آذاهم، شخص قرروا قطع علاقتهم به، لِمَ؟ لن يجلس أمامك صامتا إن ألقيت باللوم عليه، من الطبيعي أن يدافع عن نفسه ويبرر كل ما تتهمه به، قد تتصاعد الأحداث بسرعة وينشأ نزاع أو شجار جديد.
بعيدا عن مَن قد يوصف بالضحية في علاقتكما، عليك تجنّب الجُمل التي لن تجلب سوى المزيد من المشاحنات مثل لقد جعلتني أفعل كذا، ما كان عليك أبدا أن تقولتفعل كذا، أنت لست سوى كذا. صحيح أن التعبير عما يدور في ذهنك سيريحك نفسيا، لكن تلك الكلمات ستؤدي بك إلى فخ دراماتيكي، ولن تُنهي العلاقة أبدا. على الناحية الأخرى، حين تصرّح بمشاعرك بوضوح فأنت تضع نفسك أولوية. عليك أن تقول شعرتُ بـ... حين حدث كذا، ولهذا قررت كذا. بهذه الطريقة تُعبّر عما تريده ولا تريده في صداقتك بالآخرين. حين تصف الموقف الذي آذاك، فأنت تشير بوضوح إلى التصرّفات التي فتّحت عينيك على مستقبل علاقتكما. لن يمنحك اللوم سوى شعور مؤقت بالنصر، أما الصراحة والصدق فهما يتطلبان شجاعة أكثر من اللوم، وسيؤديان بك إلى نتيجة مُرضية على المدى البعيد.
ربما، مهما حاولت أن تُبقي الأمور هادئة، ينفعل صديقك ويخرج الأمر عن سيطرتك، وقتها ليس عليك سوى أن تُنهي الحوار بدبلوماسية وتغادر المكان. ذكرنا مسبقا أنك ستعبّر عن امتنانك للأوقات التي قضيتماها معا والتاريخ المشترك بينكما، ربما لن يستقبل الطرف الآخر هذا الكلام، لن يسمعه وسط كل ما ستقوله، لكن على الأقل، من ناحيتك، ستكون متأكدا أنك بذلت قصارى جهدك لإحداث أقل ضرر ممكن2.
يحب البعض ألا يرحلوا بلا أثر، أثر حرفي. يندفعون مع غضبهم وتصميمهم على أخذ حقهم كاملا، سواء أكان حقا معنويا أو ماديا أو مجرد رد الضربة، العين بالعين، لكن هذا ليس أفضل مسار لصحتك النفسية. من الطبيعي أن تشعر بالغضب حين تتعرض للأذى أو الإهانة أو التجريح، بل طبيعي لدى البعض أن يرغبوا في أن يتحمّل مَن آذاهم بعضا من العواقب، لكن الهوس أو التركيز على تلك الرغبة شديد الضرر على سلامك النفسي.
حتى تخيّل معاقبة صديقك السابق سيؤدي بك إلى التمسك بمشاعرك السلبية في حالتها الأولى، وتنخرط في حلقة مفرغة من التحدّث عنه والشكوى منه إلى درجة تستنزف مشاعرك أكثر من علاقتك به. ليس جميعنا قادرا على مسامحة مَن آذانا بسهولة، لذا ذكّر نفسك دائما، ما دام أن التواصل بينكما انقطع، أن تدع الأمر يرحل بخفة، وأن تأخذ الحياة مجراها في تخفيف المشاعر والأمور، لن يكون سهلا تخطي الأذى، لكن تذكَّر أن أفضل انتقام لشخص آذاك هو تخطيه تماما والخروج من هذه الحلقة في حالة أكثر استقرارا من الماضي، حتى وإن لم يعرف هذا الشخص تقدمك فيما بعد، لكن الانتقام هو مساحة، بشكل آخر، لكي يستمر مَن آذاك في السيطرة على أفكارك وأحاسيسك23.
حاول أن تعوّض الفراغ الذي تركه هذا الصديق، أو إصلاح ما أفسده، بأن تُحط نفسك بشبكة آمنة، سواء من العائلة أو أصدقائك المقرَّبين. افعل أشياء تحبّها أو نشاطات عادة ما تشعرك بتحسن كيلا تعتمد على من حولك بشكل كامل. عُد إلى مشروع بدأته ثم أجَّلته، مارس رياضة ما، حبذا لو جماعية مثل كرة القدم أو كرة السلة، اقرأ، زُر مكتبة مدينتك، أي نشاط يذكِّرك بأنك لن تظل حزينا أو غاضبا وقتا طويلا. أحط نفسك بأشخاص إيجابيين، ليسوا بالضرورة أصدقاء، أشخاص يحترمون حدود الآخرين، ويبحثون عما تبحث عنه في علاقاتك الإنسانية. ستتمكن الآن من اختيارهم بعناية بعدما مررت بالتجربة بنفسك3.
لا يختلف إنهاء الصداقات عن إنهاء العلاقات العاطفية، بل يتساويان في الضغط والتألم والاستنزاف العاطفي، لذا عليك الانتباه لنفسك والترفّق بها خلال إنهاء الصداقة وبعدها، من الطبيعي أن تشعر بالغضب أو الحزن، لأنك خسرت شخصا استثمرتْ في علاقتك به ولم يكن شخصا عابرا. راقب التغيّرات في نفسيتك، خفف ضغوطات العمل إن كان ذلك ممكنا حتى لا ينعكس الأمر بالسلب على صحتك الجسدية، وتأكد تماما أن ما تشعر به سيمر ويهدأ بمرور الوقت.
| https://www.aljazeera.net/sukoon/2023/7/9/%d9%83%d9%8a%d9%81-%d8%aa%d9%8f%d9%86%d9%87%d9%8a-%d8%b5%d8%af%d8%a7%d9%82%d8%a9-%d8%b4%d8%ae%d8%b5-%d9%8a%d8%a4%d8%b0%d9%8a%d9%83%d8%9f-%d9%88%d9%85%d8%a7%d8%b0%d8%a7-%d8%aa%d9%82%d9%88%d9%84%d8%9f | 2023-07-09T07:31:44 | 2024-06-06T11:57:09 | أبعاد |
|
13 | كيف كشف طوفان الأقصى كذبة الصهيونية الكبرى؟ | مقابل كل مناضل خاطر بحياته في زمن سيادة الكذبة، كان هناك العشرات من الخائفين من بطش آلة الدعاية، ومع كل معركة جديدة تُختبر الكذبة، وكل شجاعة يُظهرها الغزّيون تصيب العدوى أولئك الصامتين وتحررهم. | قبيل فجر السابع من أكتوبرتشرين الأول الماضي، لم يكن المشهد الدولي عموما، والفلسطيني خصوصا، يشي بالحقيقة. بطريقة ما، اجتمعت كل حقائق العالم المخادعة لتُنتج كذبة واحدة ضخمة، وكان شرط أن تبقى تلك الكذبة الضخمة على قيد الحياة هو ألا تُخترق تلك الحقيقة.
أما طريقة الاختراق فهي تجاوز نُظُم المراقبة والمدافع تلقائية التفعيل والأسوار الخرسانية السميكة التي صنعتها إسرائيل واستثمرت فيها مليارات الدولارات على الحدود مع قطاع غزة المحاصر. هذه هي كذبة الصهيونية، كما تحدّث عنها الحاخام اليهودي الأميركي يعقوب شابيرو، التي سيفاجئك إدراكه لتفاصيلها.
الأكاذيب خادعة بطبيعتها، لا لأنها تُخفي الحقيقة فقط وتنقل واقعا مضللا، بل لأنها لا تُفصح عن أضرارها الكاملة. وهذا جزء من سيكولوجية الأكاذيب؛ ذلك أن وجودها بحد ذاته يُهين ذكاءنا وقدرتنا على الملاحظة والتحليل والنقد، وبالتبعية يُهين غرورنا نحن البشر.
لهذا السبب تحديدا، يقل أثر الأكاذيب مع الزمن مهما بلغت بشاعتها. فالأكاذيب القديمة لا تستفزنا، ولا تحفزنا على رد الفعل، لأنها أهانت مَن سبقونا، واستقرَّت حتى باتت بديهية، وهذا يُنسينا لعنة الأكاذيب الأهم؛ أنها لا تعيش، ولا تستقر، إلا لو تكاثرت، واستقرت باختلاف الأجيال، واحدا تلو آخر.
وفي هذا التقرير، سنستعرض تلك الأكاذيب التي فكّكتها عملية السابع من أكتوبر، وجعلتها واضحة للعالم كما لم تكن يوما.
يعتقد الحاخام اليهودي الأميركي المناهض للحركة الصهيونية، يعقوب شابيرو، أن الصهيونية هي الكذبة الجامعة التي تنطوي تحتها كل الأكاذيب اللاحقة، على حد تعبيره. يشرح شابيرو فكرته خلال حوار مُطوَّل مع شبكة تي آر تي، ففي بدايات تبلور فكرة الصهيونية، لم يكن اليهود شعبا واحدا، أو قومية واحدة، أو حتى عِرقية واحدة، ولم تجمعهم ثقافة أو لغة أو عادات، أو حتى نسخة واحدة من الديانة اليهودية.
لذا كان يقال إن تجمعات اليهود المنغلقة في أوروبا، أو ما يُعرف بـالغيتو، كانت موصدة من الداخل قبل الخارج، بمعنى أن اليهود أدركوا تمايزهم عن محيطهم الأوروبي المسيحي منذ قرون، وبما أن اليهودية ليست ديانة تبشيرية تسعى لجذب الكثير من الأتباع، فكان الحل المنطقي هو أن تتجمع الأقليات اليهودية في مجتمعات انطوائية، تُمكِّنها من الاحتفاظ بهذا التمايز وتراعي خصوصيتها.
من هنا أتت الفكرة للرعيل الأول من مؤسسي الحركة الصهيونية بتحويل الديانة إلى قومية. تلك كانت الكذبة الأولى بحسب وصف شابيرو؛ الهوية الموحَّدة التي سيجتمع عليها يهود الشرق والغرب والشمال والجنوب، المتدينون منهم وغيرهم، ثم فتح هذه المجتمعات على مصراعيها لتمتزج مع محيطها، لأنها الطريقة الوحيدة لاستمالة كل هذا المزيج المختلط.
المشكلة هنا، كما يشرحها شابيرو، أن قضية الحركة الصهيونية المحورية -أي إنشاء وطن موحَّد لليهود- إلى جانب توقيتها -أي عصر صعود القوميات الأوروبية- ساقت كل يهود العالم لاختيارات متطرفة؛ حيث كان بإمكانهم وقتها البقاء في أوروبا والتعرض للمزيد من النبذ والتشكيك بما أن وجودهم -بوصفهم أقليات- لم يعد منطقيا بعد إنشاء وطنهم، أو هجر مجتمعاتهم وحياتهم التي بنوها لعقود لأجل احتمالية مبهمة لم تبدُ واقعية أو مستدامة.
هذه الخيارات الضبابية هي ما دفع مؤسسي الصهيونية الأوائل لصناعة حالة من العداء بين اليهود وبين الدول التي يعيشون بها، وذلك بحسب توصيف شابيرو نفسه، وهو ما يحكيه المؤرخ اليهودي آفي شلايم عما وصفها بالعمليات الإرهابية التي نفذتها أجهزة المخابرات للعصابات الصهيونية في العراق واليمن والمغرب لدفع أقلياتها اليهودية للهجرة للمشروع الاستيطاني الناشئ، كما يقول شلايم .
وفي نظر الصهاينة الأوائل، لم يكن من الممكن تعريف اليهود بما هم عليه، بل أرادوا تعريفهم بما هم ليسوا عليه، أي تعريفهم بالنقيض، حتى يصبح ذلك النقيض هو الهوية الحقيقية، وبذلك بات تعريف الذات مبنيا على عداء الآخر لها، وهذا ما يعرفه علماء النفس بالهوية السلبية.
هذه الأكاذيب، كما يصفها شابيرو، صنعت جزءا لا بأس به من المشهد؛ فهذا الاستعداء لكل ما هو غير يهودي تطور في العقود التالية إلى نظام تعليمي متكامل، يحكي سردية موازية للتاريخ، لا تاريخ العرب والفلسطينيين وحسب، بل تاريخ العالم، ويقسمه إلى فئتين فقط لا غير؛ اليهود، وأعدائهم.
تعتقد الدكتورة نوريت بيليد-الحنان، أستاذة فقه اللغة بالجامعة العبرية بالقدس، أن المكوِّن الأوضح في المناهج التعليمية الإسرائيلية هو العداء المبطَّن لكل ما هو غير يهودي، فالأطفال يتعلمون في المدارس أن الجميع يلاحقهم من فجر التاريخ لمجرد كونهم يهودا.
وبالتالي، فلا فرق بين آشوريين ما قبل الميلاد، ولا رومان ما بعد الميلاد، ولا إنجليز القرن الثاني عشر، ولا نازيين القرن العشرين، ولا عرب القرن الحادي والعشرين. كلهم أوجه لعُملة واحدة.
هذا ما يمكن ملاحظته بوضوح من خطاب الدولة الرسمي وخطاب عوامها كذلك، وما تقوله الدكتورة الحنان إنه أمر مخطط ومدروس ومقصود، لأن الدولة التي قسّمها الرئيس الإسرائيلي السابق رؤوفين ريفلين إلى ما سمَّاه العشائر الأربعة تحتاج إلى هذا العداء مبررا لوجودها واتحادها، وتستخدمه في تحفيز المزيد من الهجرات الجماعية الضرورية للإبقاء على تفوقها العددي على الفلسطينيين، وهي مسألة أخرى تعاني فيها إسرائيل بشدة.
هذا ما يمنح وثائقي تشهير Defamation أهمية خاصة، كونه العمل الذي عبَّر عن هذا التناقض بأفضل طريقة ممكنة، وكذلك لأنه حظي بنفاذية لم يكن أي عمل آخر قد حظي بها عند إصداره، خاصة أن منتجه يهودي وإسرائيلي.
ففي عام 2009، تمكَّن المنتج، الصحفي الإسرائيلي يؤاف شامير، من إقناع رئيس منظمة عصبة مكافحة التشهير الأميركية آبراهام فوكسمان، بأن ينتج وثائقيا عن معاداة السامية، وهذا السبب -إلى جانب جنسيته طبعا- جعل فوكسمان يثق به على الفور، ويفتح له مكاتب المنظمة على مصراعيها، ويصطحبه معه في كل رحلاته الميدانية، بل ويسمح له بتصويره وتصوير أعضاء المنظمة وهم يناقشون أسرارا خطيرة، كالولاء المزدوج لإسرائيل على حساب مواطَنَتهم الأميركية.
ما كان ينويه شامير فعلا هو أن ينتج رؤية تحليلية ناقدة للمسألة وليس فيلما دعائيا منحازا، ولم يدرك فوكسمان وأعضاء المنظمة وقتها حقيقة ما يجري حتى عُرض الفيلم.
وبعد عرضه، تعرَّض شامير لهجوم واسع قادته المنظمة. لكن الوثائقي خرج ليؤكد ما كانت الدكتورة الحنان ستصفه في كتابها، فلسطين في كتب التعليم الإسرائيلية، بعدها بثلاث سنوات فقط.
أحد المشاهد اللافتة في الوثائقي وقعت أثناء تقصي إحدى حالات معاداة السامية التي بلَّغت المؤسسة واعتبرتها إحدى الحالات المتعددة للتمييز الذي يتعرَّض له اليهود.
لكن شامير، وباعتباره صحفيا في المقام الأول، ذهب ليتتبع الحادثة. وبسؤال شيا هِخت، الحاخام الأميركي وأحد قادة المجتمع اليهودي في المنطقة التي وقعت فيها الحادثة، اعتبرها مُبالَغا في تقديرها، فلا يمكن تفسير أي اعتداء على أي يهودي بكونه نابعا من معاداة السامية.
أنا أرتاب عندما أرى رجلا يصنع رزقه من مشكلة معينة، فلو كان هناك رجل يتكسّب من وقائع معاداة السامية، ويجمع على إثرها التبرعات، فسأشك في تقاريره وبلاغاته عن وقائع معاداة السامية. هذا الرجل يحتاج إلى مشكلة ليبقى على وظيفته.
هنا تلتقي نظريات شابيرو وشامير ودكتورة الحنان في مشهدين محوريين في الوثائقي، عندما يذهب شامير رفقة طلبة الجامعات الإسرائيلية في الرحلة السنوية التي تنظمها المؤسسة إلى معسكرات الاعتقال النازية في بولندا.
في المشهد الأول يتجمّع فوج الطلبة في أحد الميادين وهم يحملون أعلام إسرائيل، فتتوجَّه فتاتان بالسؤال عن الطريق الذي ينبغي لهما السير فيه لمجموعة من المسنين البولنديين الذين لا يجيدون الإنجليزية، وبمجرد فشلهما في التفاهم، تفترض الفتاتان أسوأ احتمال ممكن؛ هؤلاء البولنديون ينعتوننا بـ العاهرات.
يحاول شامير -الذي يفهم البولندية- التصحيح لهما لاحقا، ولكن دون جدوى.
ثم يتبع الموقف السابق موقف مشابه في الفندق الذي يعامله الفوج الزائر وكأنه سكن جامعي، فيركضون خلف بعضهم في الطرقات، ويتمازحون ويلعبون ويتشاجرون بصوت عالٍ، فيأتي موظف الاستقبال ليبلغهم بشكوى باقي النزلاء من الضوضاء.
بعدها، سأل شامير الطلبة عن رأيهم فيما حدث، ليكتشف شامير أن تفسيرهم الوحيد للواقعة هو أن الموظف والنزلاء معادون للسامية.
صناعة هذه العقلية كان أمرا مفيدا للحركة الصهيونية منذ تأسيسها، ما دام يمكن استثمار أثر هذا الخطاب والتصوّر في دفع المزيد من اليهود نحو الهجرة إلى إسرائيل، أو بالحصول على المزيد من التعويضات والمساعدات، أو المزيد من الغطاء السياسي والعسكري والإعلامي.
يظهر هذا التناقض جليا في الدوائر الأكاديمية كذلك؛ منذ عقدين تقريبا، صدرت ورقة بحثية مهمة بعنوان تراجع علم الاجتماع الإسرائيلي للإسرائيلي أليك إبستين، الدكتور بعلم الاجتماع بالجامعة العبرية بالقدس، ويعتبر فيها أن ظهور مَن سمَّاهم بـعلماء الاجتماع النقديين، وتصدُّرهم المشهد بعد أن كانوا على هامش المجتمع الأكاديمي، يُعبِّر عن تراجع المجال في إسرائيل عموما، ليس لأن علماء الاجتماع النقديين قليلو الكفاءة، أو لم يستحقوا درجاتهم العلمية، بل لأنهم كوّنوا تيارا يشكك في الرواية الرسمية لنشأة الدولة، بل ويعادي الدولة ذاتها أحيانا.
من هذه الزاوية يتضح أن دعاية الحركة الصهيونية وسرديتها التاريخية بُنيت على معادلة صفرية، تقتضي أن تغِيب الحقيقة تماما -حتى لو صدرت من علماء ومؤرخين إسرائيليين- لكي تسود الكذبة، ثم تتكاثر، ثم تقضي عمرها كله في ابتكار أكاذيب جديدة تلاحق الثغرات التي أوجدتها الأكاذيب القديمة، وتلك هي الكلفة التي لا ندركها عند الكذبة الأولى؛ أن لكل كذبة حياتها الخاصة، وأن تكاثرها ليس اختيارا، بل ضرورة بقائها، وهذا هو المعنى الذي أكَّده الحاخام شابيرو وأكّده شلايم وغيرهما من اليهود المناهضين للصهيونية.
على الأرجح، مرّت اللحظة الأولى بالفعل منذ عقود، فظهور أول موجة من المؤرخين الجدد الذين شكَّكوا في السردية التاريخية لنشأة الدولة لم يؤثر في إعادة تعريف الحقيقة. وقد فشلت جميع المحاولات الرامية إلى المراجعة أو النقد، ولُفِظَ أصحابها، وهذا بالضبط ما مهَّد للحظة الثانية.
ربما لا تكون اللحظة الحالية مناسبة لتقييم جدوى العملية العسكرية في السابع من أكتوبر وفائدتها، وهي مسألة متروكة للمحللين السياسيين والعسكريين. ولكنها، في الوقت ذاته، كافية لإدراك حقيقة أنها اختبرت السردية التاريخية لإسرائيل الاختبار الأكبر.
الطوفان كان أضخم عملية لفصائل المقاومة في تاريخ إسرائيل، وبالإضافة إلى عناصر المشهد المعلومة بالضرورة، مثل الإنترنت، وظهور المنصات المستقلة عن الحلف الغربي مثل تيك توك، فإن حجم العملية، وانكشاف جيش الاحتلال بقتله للمدنيين على مستويات واسعة ضَمِن انتباها عالميا غير مسبوق.
في تلك اللحظة، لم تكن فصائل المقاومة تحتاج من إسرائيل إلا أن تتصرف على طبيعتها، وما ترسّخ في المناهج الدينية والتعليمية. كان ذلك كفيلا بظهور عدائهم لكل ما هو غير إسرائيلي، حتى من أولئك اليهود الذين رفضوا أن يُقتل الأبرياء باسمهم، فأُطلق عليهم وصف اليهود الكارهين لأنفسهم. كان كل ذلك كفيلا أن تصطدم كل كذبة بحقيقتها في الواقع الافتراضي وعلى الأرض.
الطوفان لم يوقف تكاثر الأكاذيب، ولكنه وضعها في سياق سريع مُعادٍ، لا يمنحها وقتا كافيا للتخطيط والنضج والهضم، بل تتحول فيه إلى ردة فعل عشوائية لمجزرة هنا أو مذبحة هناك، فتُنتج المزيد من الثغرات والثقوب، يعجز عن رتقها جيل من الإعلاميين والمُنظِّرين الذين نشؤوا في عهد سيادة الكذبة، وأفسدهم الانحياز الإعلامي الغربي، ولم يعتادوا النقد والتشكيك والحوار والأسئلة، ولا يعلمون عن العالم إلا ما تعلموه في المدارس ورحلات الجامعة؛ المرويات القديمة ذاتها التي لم تعد تقنع الكثيرين.
أسهم في كل تلك التغيرات ثلاث ملاحظات مهمة؛ الأولى هي ما أظهره موقع مركز بيو للأبحاث، الذي أظهر تغيرا في الديمغرافية المسيحية في المجتمع الأميركي، التي تُعد الرافد الأول للتأييد المطلق الذي حظيت به إسرائيل في الولايات المتحدة خلال العقود الأخيرة. وذلك بتراجع عدد مَن يُعرّفون أنفسهم بوصفهم مسيحيين من 90 من البالغين منذ بضعة عقود إلى 63 في 2022، وبالعكس، صعود نسبة مَن يُعرِّفون أنفسهم بكونهم غير مُعرّفين دينيا لتملأ هذا الفراغ.
المهم في هذا السياق هو أن كل المؤشرات تدل باستمرار على هذا النسق، كون نسبة أعلى ممن نشؤوا مسيحيين ينتقلون إلى المعسكر الثاني المعسكر الذي لا يُعرِّف نفسه بوصفه مسيحيا عند البلوغ، بينما العكس غير صحيح، فعدد أقل ممن نشؤوا غير مُعرّفين بوصفهم مسيحيين يصبحون مسيحيين عند البلوغ.
هذا يعني ببساطة أن الفئة الأميل لتأييد إسرائيل ودعمها في الولايات المتحدة الأميركية تقل باستمرار، وتتقدم في السن، وبالتبعية تصبح أقل نشاطا على منصات التواصل، وهو ما يفسر جنوح التجمعات الشبابية الجامعية لمساندة القضية الفلسطينية.
الملاحظة الثانية أنه في العقود الماضية كان قادة المجتمع اليهودي -وعلى رأسهم نتنياهو- ممن وُلدوا ونشؤوا بين المجتمعات الغربية التي يسعون لاستمالتها، وعاشوا لحظات ميلاد إسرائيل وصعودها لمكانتها الحالية في العالم، وهذا سلَّحهم بقدر من الحصافة في التعامل مع حلفائهم وأعدائهم، وقدرة على التفريق، في كثير من الأحيان، بين التكتيكي والإستراتيجي، على عكس سموترتش وبن غفير اللذين يقودان الجناح اليميني الآن، أبناء مستوطنات الجولان والضفة، وخريجي المدارس الكاهانية المتطرفة.
هذا كله أنتج مشهدا إعلاميا استثنائيا غير مسبوق في تاريخ الصراع، باتت تحتل فيه الحقيقة موقعا من المشهد بعد أن غابت كليا، لتزداد مساحة وجودها في قفزات ضخمة متصاعدة لا تبدو منطقية للوهلة الأولى، ولكنها تصبح كذلك عندما نضع في اعتبارنا الملاحظة الثالثة.
فمقابل كل مناضل خاطر بحياته في زمن سيادة الكذبة، كان هناك العشرات من الصامتين الخائفين من بطش آلة الدعاية، ومع كل معركة جديدة تُختبر الكذبة، وكل شجاعة يُظهرها الغزّيون تصيب العدوى أولئك الصامتين وتحررهم، وتدفعهم إلى تحرير غيرهم، فالحقيقة تقوى بالتكاثر أيضا.
لا أحد يعلم نتيجة هذه الجولة من الحرب، ولكن الجميع يعلم أن زمن سيادة الكذب والتضليل قد انتهى. خصوصية الطوفان لم تكن فقط في أنه أظهر للعالم وحشية جيش الاحتلال ضد الفلسطينيين، بل في كونه أيضا منح الجميع الفرصة لإظهار عداء الجيش الأكثر أخلاقية في العالم واستخفافه بالعالم ذاته. | https://www.aljazeera.net/politics/2024/12/25/%d8%ae%d8%b5%d9%88%d8%b5%d9%8a%d8%a9-%d8%a7%d9%84%d8%b7%d9%88%d9%81%d8%a7%d9%86-%d9%84%d9%85%d8%a7%d8%b0%d8%a7-%d8%aa%d8%b5%d8%af%d8%b9%d8%aa-%d8%a7%d9%84%d8%b3%d8%b1%d8%af%d9%8a%d8%a9 | 2024-12-25T05:06:12 | 2024-12-25T06:43:30 | أبعاد |
|
14 | السهم الأحمر الحارق.. الصاروخ القسامي مذيب الدروع الإسرائيلية | يعد “السهم الأحمر” المعدل مناسبا للإستراتيجية التي تعتنقها المقاومة للقتال ضد الاحتلال، فهو سهل الاستخدام والصيانة، ومؤثر في مختلف ظروف القتال، وخفيف الوزن؛ مما يسهل عليهم الحركة والتخفي والاستهداف. | في 24 يونيوحزيران الحالي بثت كتائب القسام الجناح العسكري لحركة المقاومة الإسلامية حماس عبر قناتها على تطبيق تيلغرام فيديو يتضمن استهداف آلية هندسية إسرائيلية بصاروخ موجه غرب منطقة تل زعرب بمدينة رفح في قطاع غزة، وأظهرت المشاهد استخدام صاروخ جديد أطلقت عليه السهم الأحمر، ويبدو أن هذا الإطلاق بمثابة تدشين رسمي له من قبل المقاومة، بعد 9 أشهر من الحرب.
أظهر مقطع الفيديو إصابة دقيقة للآلية المستهدفة آلية هندسية من نوع أوفك، ومسارعة جنود كانوا بجانبها، إلى الهروب.
هذا النوع من الصواريخ يحمل اسم أتش جي 8 وهو من إنتاج صيني بالأساس، وتبلغ دقته 90، إذا كانت الظروف مواتية. واستخدامه في تلك اللحظات الفارقة، التي تمر بها المعارك في غزة، يمثل مفاجأة غير سارة لجيش الاحتلال، ويوحي بأن الأنفاق لا تزال -على قساوة القصف الرهيب- تحتفظ بالكثير من الأسرار الإستراتيجية، وأن جعبة أسلحة فصائل المقاومة لم تنفذ بعد.
يعد السهم الأحمر من الصواريخ المضادة للدبابات، التي تتميز بخاصية القيادة شبه الآلية لخط البصر أو اختصارا ساكلوز SACLOS، وهي طريقة لتوجيه الصواريخ، توجب على المشغّل البشري أن يحافظ على الهدف في مرمى بصره أثناء طيران الصاروخ، بغية تصويب الحركة من خلال وحدة هندسية وعمليات حسابية ترصد أي انحراف للصاروخ عن خط الرؤية، واحتمالية تشتته عن هدفه، وخلال ذلك تُرسل أوامر التصحيح أولا بأول لضبط مساره.
لكن في هذه النسخة من السهم الأحمر التي يستخدمها القسام، فإن التوجيه يكون سلكيًّا، حيث ينطلق الصاروخ وهو متصل بأسلاك رفيعة يتم عبرها التحكم في مساره وتوجيهه نحو هدفه بشكل صحيح.
والميزة الأهم لتلك الوحدة الصاروخية، أنها تتسم بالمرونة، التي تمكّنها من العمل عبر الكثير من منصات إطلاق الصواريخ، بما في ذلك المنصات الثابتة ذات الحوامل المعدنية، وكذلك المركبات والمروحيات والسفن البحرية المزودة بمنصات إطلاق.
أما عن الرأس الحربي الذي ينطلق لضرب الآليات العسكرية الإسرائيلية، فإنه من النوع هيت الشديد الانفجار ويعمل عبر ما يسمى تأثير مونرو، وهو نظام تفجيري، يرتبط بتصميم العبوة الناسفة، التي تظهر مقدمتها على شكل حرف V مائل مجوف، وهذا التجويف يؤدي إلى تركيز طاقة الانفجار في اتجاه معين دقيق، الأمر الذي يزيد من قوة اختراق المادة المتفجرة للهدف عن طريق إنشاء تيار حراري عالي السرعة، وهو ما يجعل الصاروخ مدمرا للدروع الكثيفة.
يُعد الرأس الحربي هيت من أقوى الأسلحة الموجهة المضادة للدبابات، ويمكنه اختراق الدروع التي تحمي الآلية العسكرية بعمق يصل إلى 1200 مم. وهذا يجعله فعالا ضد مجموعة متنوعة من المركبات المدرعة، بما في ذلك دبابات القتال الرئيسية الحديثة.
أضف إلى ذلك أن مداه الأقصى يصل إلى 4 كيلومترات وهو بذلك يتجاوز الكثير من الصواريخ الحالية المضادة للدبابات، فعلى سبيل المثال يصل مدى صاروخ جافلين الشهير إلى 2.5 كيلومتر فقط.
يبدو من تأمل الصور التي بثتها كتائب القسام، أنها تمتلك نوعا خاصا من السهم الأحمر يسمى أتش جي -8 أل HJ-8L، طُوِّر في التسعينيات من القرن الماضي، وهو منخفض الوزن، يمكنه أن يستوعب مقذوفين، أحدهما بمدى 3 كم والآخر بمدى 4 كم. وبسبب خفة وزنه، يمكن حمل وتشغيل هذا النموذج المطور بواسطة طاقم مكون من شخصين فقط.
يعد السهم الأحمر المعدّل مناسبا للإستراتيجية التي تتبناها المقاومة في القتال ضد جيش الاحتلال، وهي نمط الحرب غير المتكافئة، التي تلتقي فيها قوتان إحداهما أقل من ناحية العتاد، فتلجأ إلى تكتيكات غير نظامية تعظم من قوة أسلحة أرخص سعرًا، وأسهل استخدامًا، لكنها تحقق أثرا فعّالا.
ويعد السهم الأحمر مكونا رئيسيا من تلك الإستراتيجية، فهو سهل الاستخدام والصيانة، ومؤثر في مختلف ظروف القتال، وخفيف الوزن؛ مما يسهل على جنود القسام الحركة والتخفي واستهداف القوات الإسرائيلية.
ونظرًا لتقنيته البسيطة وسهولة إنتاجه، فإنه قليل التكلفة نسبيًّا مقارنة بأنظمة الصواريخ الأكثر تقدمًا. كل هذه الخصائص جعلته خيارًا جيدا للعديد من القوات العسكرية في العالم منذ إطلاق نسخه الأولى في الثمانينيات من القرن الماضي، ولنفس الأسباب فإنه ما زال بالفعل يستخدم في الكثير من الدول مثل ألبانيا وبوليفيا والإكوادور إلى جانب عدد من الدول العربية.
أما بالنسبة للقسام فإن السهم الأحمر يعد من صواريخ الجيل الثاني المضادة للدبابات، وبعد ظهوره على مسرح العمليات، فإنه ينضم إلى صاروخ ماليوتكا، وصاروخ كونكورس وكلاهما مضاد للدروع، وصُمِّما للتعامل مع الأهداف المتحركة، إضافة إلى صاروخ فاجوت وهو يُطلَق بأنبوب من الأرض أو من المركبات، وكل تلك الأنظمة الصاروخية روسية المنشأ.
وبالطبع أشهر هذه الأنظمة في هذا السياق، هو صاروخ الياسين 105 الذي تصنعه القسام محليا، ويمكنها توفير كميات كبيرة منه، وكذلك صواريخ الكورنيت التي تعد أكثر تقدمًا، وهي من الجيل الثالث للأنظمة الصاروخية، وتعمل بطريقة سلكية أيضا مثل السهم الأحمر.
والهدف من تركيز كتائب القسام على هذا النوع من الأسلحة، هو مواجهة القدرات العسكرية الإسرائيلية الفائقة في نطاق الآليات والمدرعات والدبابات، التي تعد الوسيلة الوحيدة لدخول غزة بريا، وبدون تلك الآليات يستحيل التقدم في غزة أو تحقيق أي نتائج ملموسة على الأرض.
وحتى اللحظة فإن المقاومة تمتلك من الأنظمة الصاروخية المضادة ما يحجّم تقدم القوات الإسرائيلية أو على الأقل يكلفها خسائر فادحة، ففي فبرايرشباط 2024 أي قبل قرابة خمسة أشهر أعلنت كتائب القسام تدمير أكثر من 1100 آلية إسرائيلية، وهذا عدد كثير.
ولا تعد تلك هي المرة الأولى التي تنجح فيها قوات غير نظامية في تكليف الإسرائيليين خسائر في الآليات العسكرية، فمثلا أطلق حزب الله في حرب لبنان عام 2006 أكثر من 1000 صاروخ مضاد للدبابات، وبسبب ذلك أُلحق ضررا بالغا بقرابة 50 دبابة إسرائيلية مشاركة في المعركة إلى جانب عدد أكبر من الأعطاب الصغيرة في الدبابات وبقية الآليات، بحسب مصادر إسرائيلية.
كل ذلك أسّس لمرحلة جديدة من أشكال وأساليب الصراع مع الدبابات في هذه المنطقة، أصبحت فيها قدرات تلك الأسلحة وأنظمة تشغيلها البشرية والتقنية، بمثابة تحدٍّ مهين لأحد أقوى جيوش المدرعات في العالم.
يعيدنا ذلك مرة أخرى إلى نموذج الحرب غير المتكافئة التي تخوضها المقاومة ضد الاحتلال، فهناك جانبان يخدمان هذه الحرب، الأول يتعلق بالتضاريس الحضرية التي تستوعب انتشار المقاومة، وتوفر لها وسائل للكمون والمناورة، وفي حوزتها تلك المقذوفات؛ لتصبح مهمة اصطياد الآليات العسكرية ممكنة.
والثاني يتعلق بسلاح الأنفاق التي تُتّخَذ مستقرات للتخطيط والتجميع، وبؤرا للانطلاق ثم الاختفاء، فضلا عن أنها تتيح لأفراد المقاومة الاشتباك، من مسافة قصيرة.
ومن ثم فإن تكتيكات الحرب غير النظامية، مثل استخدام وحدات أو خلايا صغيرة متنقلة وعمليات الكرّ والفرّ والكمائن وعمليات تخريب بنى العدو التحتية وخطوط الإمداد، واستثمار المقاومة في العبوات الناسفة التي تمكنها من صنع كمائن معقدة متعددة الأسلحة السهلة التصنيع، وعظيمة الأثر، كل ذلك يمثل خيارا مناسبا وناجزا بالنسبة للقوة الأقل من حيث العدد والعتاد في هذه النوعية من الحروب، التي لا تلتقي فيها القوات في مواجهة مباشرة.
وكل سلاح تستخدمه المقاومة، توظفه لخدمة هذه الإستراتيجية، وصولا إلى الكلاشنكوف مثلا، وهو بندقية شهيرة على مستوى العالم تتميز بأنها سهلة الاستخدام والصيانة وتعمل في كل البيئات الممكنة تقريبًا، ورغم أن مداها الفعال قصير وتنخفض دقتها مع المسافة، فإنها تؤدي دورا جيدا في الحروب الحضرية حيث يمكن للمقاومة استهداف الجنود الإسرائيليين على مسافات أقصر من المعتاد في هذه النوعية من المواجهات.
ولتعظيم الأثر فإن القوات المقاومة غير النظامية قد تلجأ إلى عمليات تتكامل فيها الأسلحة معا، فيتمكن السهم الأحمر مثلا أو الياسين 105 من إيقاف قافلة عسكرية للاحتلال، ثم توجيه ما بقي منها إلى منطقة مفخخة بالعبوات الناسفة ليكونوا في مرمى بنادق قناصة الغول أو الكلاشنكوف، وتلك المشاهد هي آخر ما يتمنى جيش الاحتلال أن يراه. | https://www.aljazeera.net/politics/2024/6/26/%d8%a7%d9%84%d8%b3%d9%87%d9%85-%d8%a7%d9%84%d8%a3%d8%ad%d9%85%d8%b1-%d8%a7%d9%84%d8%ad%d8%a7%d8%b1%d9%82-%d8%a7%d9%84%d8%b5%d8%a7%d8%b1%d9%88%d8%ae-%d8%a7%d9%84%d9%82%d8%b3%d8%a7%d9%85%d9%8a | 2024-06-26T10:11:06 | 2024-06-26T15:37:51 | أبعاد |
|
15 | سيكولوجية التديّن.. البنية التحتيّة للمقاومة في غزة | يخلص بنا هذا التحليل إلى أنّه إن كان من استثمار ممكن في مواجهة المحتلّ فهو لا شك يكمن في العودة الأصيلة إلى الذات ومصادرها الطبيعية، وفي مقدمتها الدّين الإسلاميّ والإرث العربي الأصيل. | أمام فائض العنف وبحر الدماء التي سالت من أجساد الشهداء والتعرّض المُفرِط لآلة القتل العسكرية الشرسة التي يستخدمها الاحتلال الإسرائيلي في حربه على قطاع غزّة، تفجّرت في الأذهان بالعالَم أسئلة عديدة وجديدة حول الطبيعة البشرية.
وصار الذهول والتعجّب شائعًا لدى النّاس عند الحديث عن مشهد الحرب والمقاومة في غزّة، بالأخصّ في ظلّ فجوة غير معقولة على مستوى التقدّم التقني وطبيعة الأدوات المستخدمة والقدرة التدميرية التي يملكها جيش الاحتلال الإسرائيلي.
كان السؤال الأبرز الذي أثار عقول شريحة عريضة من مواطني الدول الغربية أنفسهم، كيف يمكن لإنسان ما أن يحتمل هذا الحجم من الدمار والأسى؟
كيف يمكن للإنسان أن يعيش مُطوّلًا لأشهر بانتظار موته، أن يتنفّس اللايقين القادم بهذه الكثافة، أن يُعايش صوت الطائرات الحربية مجيئًا وذهابًا، وهو يترقّب موقع القصف ولا يدري هل سيكون الضحيّة القادمة أم ستكتب له الأقدار عمرًا جديدًا؟
كيف يمكن للمرء أن يُعاين مذابح تستهدف أطفاله وإخوانه، أهله وجيرانه، في الوقت الذي يصله في كلّ ساعة خبر استشهاد لعزيز يعرفه أو زميلٍ يُصادقه؟
إنّنا حين ننظر إلى هذه الفوارق والمعطيات التقنية بمنظور المعادلات الماديّة الصرفة، فإنّ النتيجة الحتمية لهذه المقاربة إصابتنا بالجزع والرّعب من شدّة التعقيد والتقدّم الذي يملكه جيش الاحتلال الإسرائيلي وأدواته، من تقانة عسكرية مدمّرة ومُسيّرات زنّانة تجوب السماء بحثًا عن أهدافها في الأرض.
بالإضافة إلى نُظُم رقابية معقّدة تتوسّل الذكاء الاصطناعي وتحليل البيانات الضخمة، لتحليل الوجوه والتعرّف على الأصوات ومراقبة خطوط الاتّصالات والتجسّس الدقيق، فضلًا عن الجهاز الاستخباري الضخم وأدوات الموساد في اختراق الحواسيب ومنصّات التواصل الاجتماعي والحرب النفسية وحرب الدعاية وتأليب النّاس على قادتهم، كلّ هذا غير الولوج التجسّسي الممنهج في حسابات الغزيّين والعرب والمسلمين بالعالَم لتقفّي حركاتهم ووأد المحاولات التي لمّا تُولَد بعد.
ولكنّنا حين نرى حركة المقاومة، برجالاتها وتنظيمها وقدرتها على اجتراح هامش من الحركة الفعّالة، في حدود التضييق والقصف العنيف، نجد أفقًا أوّليًّا ممكنًا لقهر الحتميات التقنية، وكسر أسطورة التفوّق الحربيّ لدى جيش الاحتلال. وهذا الشعور بالمناورة وممكنات المقاومة يتضاعف أضعافًا مضاعفة، حين نرى المجتمع الغزيّ نفسه، يردّد عقب هذا الدمار كلّه عبارات الصمود وآيات النصر وشعارات التحرير.
ولا يسعنا إلّا أن نرقب باحترام وإجلال إرادة الحياة التي يوجِدها الشعب الغزيّ رغم الفاتورة البشرية المرتفعة التي عانى ويُعاني منها. إنّه انتصار الإرادة الذي يُحدثه مشهد يرقص فيه طفل فوق الأنقاض، فيُصفّق له أطفال آخرون من عمره يتبادلون الضحكات وأناشيد النصر بكامل براءتهم مستغرقين بطفولتهم وكأنّ الاحتلال يمكنه أن يسلب النّاس كلّ شيء، لكنّه لا يمكنه أن يسلبهم إرادتهم العيش وأملهم النصر.
والسؤال الذي نطرحه هنا، هل من مدخل نظري يُعيننا على فهم هذا الاستثناء الغزيّ؟ هل من تفسير للردود غير المتوقّعة بالنسبة لعلم النفس التقليدي حيال هذا الحجم المرعب من الآلام والدماء؟ يدّعي المقال أنّ التديّن بمعناه العميق ومضامينه النفسية هو الكلمة المفتاحية هنا، وأنّ ديناميات التديّن الكبرى والتفصيلية قد تكون أهمّ بنية تحتية يملكها المقاومون والصامدون في غزّة شعبًا ومقاومةً وهي ديناميات تُسهِم في تعزيز الصمود الجمعي وفي تخليق المعنى الفرديّ لكلّ شخص يُقاسي الأمرّين الموت والحرب في غزّة.
سوف نستعرض معا أثر التدّين والحضور الديني على واقع الحياة اليومية للحرب في غزّة منذ السابع من أكتوبر ومجرياتها، ضمن إطار تحليلي نفسيّ غالبًا واجتماعيّ أحيانًا، يتقصّى الحالة النوعية التي فرضها أهل غزّة جماعةً وأفرادًا وأذرعَ مقاومة من قدرة الإنسان على الفاعلية الإيجابية تحت وطأة القصف والقنابل المدمّرة وفي ظلّ كلّ الدمار والتدمير الممنهج لشكل المدينة وسكّانها.
ويبحث في المُستغرَب عالميًّا وتاريخيًّا من ممكنات الصمود والضحك والتمسّك بالحياة بالرغم من شلال الدماء الذي جرى ويجري وفي ظلّ غياب أفق واضح للمستقبل.
يُفكّك المقال أثر الدين والتديّن والإسلام تحديدًا من خلال أربعة محاور رئيسة ، هي أولًا البحث في علاقة الدّين وتخليق المعنى، وثانيًا البحث في علاقة الدّين بتنشيط فاعلية البشر حتّى تحت أقسى الظروف وأصعبها. وثالثًا عن أثر الدّين والتديّن في جانب المرونة النفسية والعودة والتعافي ومواصلة الحياة.
وأخيرًا نتقصّى لأوّل مرّة جوانب نفسية اجتماعية تتعلّق بالمضمون النوعي للإسلام الذي يفرض إطارًا معرفيًّا يثير فضول الغربيين عن فرادة الإسلام تحديدًا من دون باقي الأديان.
قد أكون ممتعضًا بعض الشيء، من كوني مُلحِدًا، وأنا أُقرّ بوجود بحوث عديدة ومتينة، تُظهر الفوائد الصحّية نفسيًّا وجسديًّا حين يكون المرءُ مُتديّنًا ويُؤمن بقوة إلهية عُليا.
روبرت م. سابولسكي، بروفيسور بالبيولوجيا السلوكية والأعصاب في جامعة ستانفورد
لم تعد الدراسات التي تتحدّث عن علاقة التديّن بالصحّة النفسية للأفراد مُجرّد دراسات متناثرة هنا وهناك، بل نجد تراكمًا بحثيًّا علميًّا يجعل دور التديّن في تقليل نسب الإصابة بالاضطرابات النفسية مُعطىً إحصائيًّا معروفًا بالأوساط العلمية.
لا تقتصر انعكاسات التديّن على مستوى الاضطرابات النفسية فحسب، بل يرتبط التديّن بمعدّلات سعادة أعلى لدى الأفراد، ومعدّلات رضا مرتفعة عن حياتهم وأنفسهم، إضافة إلى اتّباع نمط حياة صحّي وسليم.
وقد كانت الدراسات في الماضي تعتبر الممارسات الروحانية بحدّ ذاتها هي المفيدة، وإن كانت منزوعة من سياقها الدّيني الخاصّ، وكان من الشائع أن يتعامل الباحثون مع آثار التديّن وآثار الممارسات الروحانية بوصفها حزمة واحدة من التأثيرات.
على سبيل المثال، وُجِد أنّ التديّن عامل مهم في تقليل نسب الانتحار، فالأشخاص المتديّنون أقلّ انتحارًا من غيرهم من الجماعات السُّكّانية حول العالم، بل ومن المثير للاهتمام هنا، هي أنّ الانتماء للإسلام يرتبط بأقل نسب محاولات الانتحار، أي أنّ المسلمون في العالَم وداخل دول غربية، هم أقل الجماعات إقدامًا على الانتحار.
بالطبع يُحاول مراقبون كُثر التشكيك في هذه النسب بدعوى الوصمة الاجتماعية التي تدفع باتّجاه غياب البيانات الدقيقة أو عدم التوثيق والإبلاغ بالشكل المطلوب، رغم أنّ جُزءًا كبيرًا من هذه البيانات لا علاقة له بالإبلاغ نفسه بقدر ما يعتمد على سجلّات المستشفيات والوقائع الجنائية التي يقرّر أسبابها الطبّ الشرعيّ.
يُعتَبر الطبيب النفسي هارولد جي كونيغ الأب الروحي لدراسات العلاقة بين التديّن والممارسات الروحانية والصحّة النفسية، ويشغل كونيغ حاليًّا منصب أستاذ في الطبّ النفسي في جامعة ديوك. وبحسب سلسلة أبحاثه فإنّ تأثيرات التدّين والممارسات الروحانية تختلف وتتباين على المستوى الدقيق.
بشكلٍ عام يساعد التديّن على تخفيف آثار الاكتئاب والقلق ويُسرّع التعافي بعد الصدمات النفسية، ويساعد النّاس على تبنّي عادات سلوكية صحّية خالية من الكحول والمخدّرات قدر الإمكان، خلافًا لتأثير الممارسات الروحانية المُجرّدة التي ترتبط بمعدّلات إحصائية أعلى في تعاطي المخدّرات وإدمان الكحول.
وتتباين تأثيرات الدّين بالنسبة لاضطرابات نفسية أخرى مثل اضطراب الوسواس القهري أو الأمراض الذهانية، حيث تعطينا الدراسات تباينًا بالنتائج تشير إلى وجود علاقة بين التديّن وكلا النوعين السابقين من الاضطرابات النفسية، فيما تنفي دراسات أخرى وجود علاقة واضحة.
يوفّر الدّين لمعتنقيه ثلاثية فريدة من عناصر الدعم النفسي والاجتماعي بل وحتّى الوجوديّ. بحسب النموذج الثلاثي الذي صاغته عالمة النفس وزملاؤها فإنّ الدّين أولًا يُشبِع احتياجات المرء المعرفية، وثانيًا يخلق للنّاس معنىً عامًّا وخاصًّا لحياتهم، وثالثًا يُوفّر للأفراد شبكات داعمة مُلزمة أخلاقيًّا بدعم بعضها لبعض.
في الركن الأوّل من هذه الثُّلاثية، يوفّر الدّين مُرتكزًا لإشباع غرائز الإنسان واحتياجاته المعرفية، من حيث منحه إجابات يقينية كبرى حيال المجهول الذي لا يمكن اكتشافه، فمن أين أتينا؟ وإلى أين سنذهب بعد الموت؟ وكيف نعيش هذه الحياة؟ وما معنى وجودنا في هذه البُقعة الجغرافية تحديدًا وفي هذا التوقيت الزماني دون باقي أزمنة التاريخ؟ كلّ هذه الأسئلة وما يتفرّع عنها من مخاوف وهواجس تتبدّد أمام إجابات الأديان المنسوجة بإحكام وشيء من التعقيد.
من المهم هنا في الركن والمرتكز الأوّل الذي توفّره الأديان، أن نتنبّه إلى أنّ الدّين يُقدّم لنا ثلاثة مستويات من الفهم، فهو أولًا يُعطينا تفسيرًا لفهم العالَم الخارجيّ، ويُعطينا تفسيرًا لفهم ذواتنا وأنفسنا، وهو أيضًا يمنحنا تفسيرًا لفهم الآخرين وكيفية التعامل معهم وفق منظومة أخلاقية مُحدّدة مُسبقًا تحدّد الصواب والخطأ الأخلاقي.
هذه المستويات الثلاثة من الفهم ليست مُعطيات معرفية محايدة أو معزولة إدراكيًّا، بل إنّها تمنحنا بالضرورة شعورًا بالفرادة وتبعث فينا شعورًا بالأهميّة، وتقينا من الوقوع في شراك العبثية حين نستوعب أنّ وجودنا مقصودٌ لذاته، ولسنا مُجرّد كيان زائد على الحاجة أو رقم مُضاف إلى مليارات البشر الذين سبق أن قدموا إلى هذا الوجود قبلنا.
أمّا الركن الثاني والمرتكز الّلاحق الذي يمنحه الدّين لأتباعه، فهو السردية أو المعنى العموميّ والخصوصيّ من وجودهم، وبمعنى أوضح، يوفّر الدّين للإنسان الغايات النهائية من وجوده وسُبُل الخلاص الأخروي والأبدي وكيفية الانعتاق من عذابات الدنيا والآخرة.
تعمل السردية الدّينية على تخليق الحوافز والدوافع في الحياة اليومية وخلال الأزمات، لأنّها تُعطي معنىً خاصًّا للسعي وفق شريحة عريضة من الخيارات التي يحدّدها كلّ دين ويضع الأولويات بالطريقة التي يراها مناسبًا، فقد تكون الأولوية للعمل الصالح، أو التخفّف من الشهوات، أو الإحسان إلى الآخرين، أو التواصل المُكرّر مع المُقدّس أو الإله.
تأتي الشبكات في الركن الثالث أحد المرتكزات التي يوفّرها الدّين للمتديّنين، والشبكات بهذا المعنى ليست تنظيمًا اجتماعيًّا فحسب، وإنّما جماعة تشارك الفرد رؤيته للعالَم، أي أنّها تساعد الفرد على تقليل التناقض بين رؤيته الخاصّة للعالَم وبين واقع الحال للعالَم الخارجيّ عن طريق العيش ضمن جماعة أكبر تشاركه مقولاته الدّينية وتصوّراته للوجود من حوله.
هذا العنصر مهم كي ينسج الفرد المُتديّن علاقة منسجمة ومتصالحة مع المحيط الخارجيّ، لكنّ أهمية الشبكات تتجاوز ذلك كي تكون بمثابة عناصر دعم نفسي اجتماعي عند وقوع الفرد في أزمة وجودية أو انتكاسة مرضية أو فشل اجتماعي ما كالبطالة أو الطلاق ونحو ذلك.
في كثير من الأحيان تتوقّف المُعاناة عن كونها مُعاناة في اللّحظة التي نجد فيها المَعنى من مُعاناتنا
فيكتور فرانكل، الإنسان يبحث عن المعنى
قديمًا كان الافتراض السائد في علم نفس المعتقدات والأديان، أنّ الدّين يمنح المعنى للأفراد بشكلٍ مباشر وثابت لا يتغيّر، لكنّ السنوات الأخيرة من البحث العلمي وجدت أنّ الدين يقوم بأكثر من مجرّد منح المعنى للنّاس، وإنّما الدّين هو مَعمَل لتنصيع المعنى وإعادة تخليقه وتجديده بحسب ما يستجدّ من ظروف وبحسب ما يواجه الفرد من تحدّيات مصيرية ويومية في حياته.
تقدّم عالمة النفس كريستال بارك، نموذجًا ديناميكيًّا للدّين وفيه تحاول تفسير ما الذي يحدث حين يفشل المعنى الأوّلي الذي نؤمن به في تفسير واقعنا؟ على سبيل المثال، ما الذي يحدث حين تنهزم جماعة مُؤمنة بأنّها لا تمكن هزيمتها؟ على المستوى الإدراكي والنفسي يحدث لدى الأفراد المؤمنين بهذا التصوّر تناقض مبدئي بين التصوّرات التي يؤمنون بها وبين ما يسمح به الواقع. بحسب كريستال بارك،
من بين مشكلات عديدة يواجهها البشر في حياتهم، يظلّ الموت المصيبة الكبرى والحدث الأكثر استعصاءً على التفسير والتجاوز. يأتي الموت، لكنّه يأتي غالبًا بلا مُبرّرات، يموت الطفل قبل الأب، ويستشهد الصحيح قبل المريض، ويحدث أن تفقد طفلة عائلتها كاملة في لمحة بصر أو دقائق معدودة.
يواجه المعالجون النفسيون تحدّيًا أمام الأحوال النفسية التي لا يمكن استعادتها، كالفقد أو الموت أو الخسارة، بعض التجارب الإنسانية لا يمكن أن تُحلّ تمامًا، يمكن للمعالجين في هذه الحالة أن يُساعدوا على التئام الجروح لكنّهم لا يمكنهم أن يزيلوا ندبة الفقد وآثار الجروح التي لا تُمحى بتطاول الزمان. عند هذه النقطة تحديدًا يأتي الدّين مثل البلسم وبخصائصه العلاجية، إذ يجعل للموت نفسه معنى.
يستشهد الابن فيسبق الأب، وهذه انعطافة غير متوقّعة في مسار الحياة، ولذلك تكون منعكساتها النفسية على الأهل عادةً صعبة جدًّا، إذ من المفترض أن يموت أبوك أو أمّك، وأنتَ ما زلت في ريعان شبابك، ولمّا ترى وتختبر الحياة بعد. تشير الدراسات النفسية إلى أنّ فقد الابن أشدّ وقعًا وأكثر كثافةً وتشويهًا للنفس من الفقد الذي يشعر به المرء عند فقد أحد والديه أو شريك حياته من زوج أو زوجة.
في الحالة الغزّية يُعطينا الإيمان ومُعامل التديّن مُقاربات جديدة للنفس البشرية، يأتي الدّين وتأتي معه معاني التضحية والصمود، وتأتي مع الدّين مفاهيمه الخاصّة لأتباعه كالشهادة والاستشهاد في حالة الإسلام، حينها يأخذ الموت صيغة جديدة في نفوس من يصابون به.
هل هذا يعني أنّ المَوت بالنسبة لهم ليس مؤلمًا؟ بالطبع لا، تظل تجربة الموت قاسية ومؤلمة حتّى لدى أكثر النّاس إيمانًا، يجسدّها قول النبي صلى الله عليه وسلم في مشهد موت ابنه إبراهيم إنّ العين لتدمع، والقلب ليحزن، ولكنّ الدّين بهذا المعنى يجعل الموت مفهومًا، وبالتالي يجعل التعافي أسهل بمرور الوقت.
يعتبر الفهم أو توفّر إطار ديني لتفسير الموت، مُعطىً أساسيًّا للتعافي من حوادث الخسارة والفقد، خلافًا لما يُسمّى في علم النفس الخسارة الغامضة أو الموت غير المفهوم لمن يعانون الفقد. مَن لا يجد منظومة لتفسير موت أعزائه وأقربائه من حوله، يُعاني نفسيًّا بشكلٍ أكبر، لأنّه يظلّ عالقًا نفسيًّا بحثًا عن خاتمة وعن اعتذار وعن تفسير.
لا شكّ في أنّ ما يجري في قطاع غزّة في نطاقه الشخصيّ والخاصّ قتل غير مبرّر وخسارة غير مفهومة في أصلها من حيث استحقاق الشهداء والضحايا للقتل بالمقام الأوّل. لكنّ الدّين يأتي ليُعطي معنىً لهذا الموت، يجعله مفهومًا ومقبولًا بل وأحيانًا مطلوبًا ومرغوبًا فيه حين يعرف المرء ما للشهداء من مكانة وفضل لهم ولأهلهم وأقربائهم، وبينما تستلزم اللّحظة في نطاقها الطبيعي الحداد والحزن والأسى، يُصبّر الرجل نفسه ومن حوله فيقول كلنا شهداء.. كلنا مشاريع شهداء.
إنّنا خلافًا للمدرسة السلوكية في علم النفس، نجد لدى البشر مسافة بين المُثير والاستجابة وفي هذه المسافة تكمن قوّتنا في انتقاء استجابتنا وإثبات حرّيتنا
فيكتور فرانكل، الإنسان يبحث عن المعنى
يمكن بثقة عالية عنونة الربع الأوّل من الألفية الجديدة للبشرية، بأنّه عصر العلوم السلوكية والعصبية، إذ يشهد علم النفس تضخّمًا في الدراسات التجريبية الواسعة بسبب الأدوات البحثية التي أتاحها التقدّم التقني بين يدي العلماء. لكنّ المرعب في هذا التطوّر هو قابلية العلوم السلوكية للاستغلال وإساءة الاستخدام لغايات التنبّؤ السلوكي والتحكّم وتعذيب البشر.
حين نعرف شيئًا ما عن ضعف البشر وهشاشتهم فهذا يعني تلقائيًّا أنّنا نعرف شيئًا جديدًا عن كيفية استغلالهم وتوجيههم. فحتّى أرقى المؤسّسات العلمية في حقل علم النفس، جمعية علماء النفس الأميركيين المرموقة، ثبت تورّطها بالإشراف على عمليات التعذيب بتعاون مقصود بينها وبين وكالة المخابرات المركزية ووزارة الدفاع الأميركية وإرشاد هذه المؤسّسات بالخبرات العلمية اللّازمة لاستنطاق المُعذّبين وأفضل الطرائق النفسية والسلوكية لاستجوابهم.
تعطينا تطلّعات التطوّر العلمي والتقني التي يملكها الغرب صورة عن نزعة الدول المُهيمنة لتأليه نفسها، وإحكام قبضتها على غيرها من الشعوب وغيرها من الحضارات. وفقًا للمدرسة السلوكية في علم النفس، فإنّ كلّ ردّ بشري ما هو إلا تصرّف مشروط ومُتعلّم مُسبَقًا، أيّ أنّ الردود على اختلافها قابلة للتوقّع وقابلة للتحفيز.
بهذا المعنى لا يكون البشر أحرارًا، إذ كلّ ما نحتاج إليه لكي يقوم شخص ما بردّ مُحدّد مُسبقًا أن نضعه في السياقات المناسبة، وأن نوفّر له المُثيرات اللّازمة، وحينها سيسلك هذا الإنسان مسارًا حتميًّا متوقّعًا.
تعطينا المقاومة وأفرادها دروسًا في كسر الحتميات، فبينما تفترض المقدّمة الضمنية أنّ فائض العُنف والدمار والقتل سيدفع النّاس باتّجاه الاستسلام والهروب والتنازل عن معتقداتهم الأوّلية، يأتي المقاومون فيختلقون مسارات جديدة، تعبيرًا عن حرّيتهم وإرادتهم الحرّة وعدم خضوعهم للتقليد النفسيّ الطبيعيّ المُعتاد من البشر.
تُضفي العقيدة القتالية والإيمان الصادق بُعدًا جديدًا على ممكنات الردّ البشريّ تحت لحظة محكمة الظروف. يُدخِل الخبراء الغربيون والقتلة المتمرّسون على أجهزتهم المتقدّمة العوامل المحيطية المؤثّرة في سلوك المقاومين، ويفترضون أنّهم سيخضعون أو يرضخون للنماذج الإحصائية. لكنّ الإيمان يُضيف متغيّرات إحصائية لم تكن في الحسبان، ولم تكن واردة في البيانات السابقة التي جُمعت من ملايين السُكّان في العالَم.
ولنأخذ على سبيل المثال فيديو المقاومَين، حين يتعرّض المُقاوم الأوّل للإصابة في قدمه، وبدلًا من أن يتراجع قليلًا كي يسترجع قواه، أو ينزوي في نقطة تُعطيه فرصة للنجاة واستطالة أمد الحياة، يُسارع ليقفز على قدمه الأخرى ويقترب من خطّ المواجهة مرّة أخرى، ويُصرّ على الاشتباك من جديد، ليرتقي شهيدًا.
ثمّة تعقيدات نفسية عدّة في مشهد المقاوم يصعب تفسيرها بدون إدخال الإيمان الصادق والعقيدة الصلبة. لكنّ المُفاجأة تكمن حين يتقدّم زميله ليتناول سلاحه وينحني بشجاعة عند نفس نقطة المواجهة والاشتباك فيواصل مسير صديقه الشهيد من قبل، خلافًا للمسار السلوكي المُتوقّع ابتداءً من هروب الآخرين، أو على الأقل انتقالهم إلى نقاط اشتباك مغايرة.
إنّها الإرادة الحرّة ومتغيّرات الإيمان التي تجعل الاستجابة للمثيرات، استجابة نوعية وجديدة وغير مألوفة في قواميس علم النفس التقليديّ، حيث الفرار من أجل النجاة أو التسمّر من شدّة هول الموقف.
لا تُصبح الحياة غير مُحتملة وغير قابلة للعيش بسبب الظروف الصعبة ولكنّها تصبح كذلك فقط حين نفتقر إلى المعنى والهدف من وجودنا
فيكتور فرانكل، الإنسان يبحث عن المعنى
من الخرافات الشائعة التي أسهمت في تعزيزها خطابات الصحّة النفسية الغربية وسينما الهشاشة والضعف البشريّ، أنّ كلّ إنسان على وجه الأرض، هو إنسان مصدوم نفسيًّا، تعرّض للصدمات في طفولته، لكنّه يكبتها في لاوعيه ومن ثمّ فهو ينكرها، وإن كان سليمًا في هذه اللّحظة، فذلك لأنّه لا يذكر صدماته.
تستبطن هذه الافتراضات حول البشر مقولة ضمنية مفادها أنّ كلّ حدث صعب يمرّ به الإنسان، فإنّ النتيجة الوحيدة والحتمية لهذه التجربة هي الصدمة النفسية. فالنّاس بهذا المعنى إمّا مصدومون، أو متعافون من صدمة نفسية ما.
لكنّ، يعتمد هذا على مدى المرونة النفسية والاستعداد النفسي السليم والسابق للتعرّض للصدمة. هذا بالطبع يعني تداخل عوامل قبلية مثل الجينات الموروثة والعلاقة الآمنة مع الأبوين خلال فترة الطفولة، والتنشئة الاجتماعية السليمة والتعرّض المعقول للتحدّيات خلال فترات نماء الفرد المختلفة من حياته.
ليست كلّ تجربة صعبة وضاغطة هي تجربة شيطانية بالضرورة، بل إنّ مؤسّس دراسات الضغط النفسية هانز سيلي قد أشار لمفهوم الضغوط المفيدة Eustress خلافًا للمصطلح الشائع التوتّرات الضاغطة Distress. شاع لاحقًا مفهوم المرونة النفسية Psychological Resilience ، وهو مفهوم اتّخذ صيغًا عديدة موازية مثل الصلابة النفسية أو المطاوعة النفسية أو المَنَعة النفسية، وهي كلّها ذات دلالة واحدة مفادها قدرة الفرد على التعافي والرجوع إلى وظائفه الطبيعية بعد تعرّضه لحدث صادم أو مِحنة عصيبة.
يغفل الخطاب التقليدي للصحّة النفسية، عن المسارات المُحتملة والمتباينة والمختلفة بين الأفراد عند إصابتهم بالشدائد والمِحَن والأزمات. تعتبر الصدمة النفسية والانتكاسة نحو المرض النفسي والاعتلال إحدى الاستجابات المُحتملة للتعرّض للضغوط الفائقة.
لكنّنا نجد بعد الأشخاص القادرين على التعاطي مع الضغوط ومقاومتها برشاقة نفسية عالية، من دون أن يُصابوا بانتكاسة نفسية أو اعتلال نفسي حاد كاضطراب الصدمة الحادّة أو اضطراب ما بعد الصدمة.
ثمّة مسار محتمل آخر نجده لدى فئة ثالثة من البشر عند تعرّضهم للضغوط والمصائب والشدائد، وهو ما يُطلِق عليه العلماء النماء النفسي أو نمو ما بعد الصدمة، وهو ما يحدث حين يقرّر الفرد الاستفادة من الشدائد للاتّساع وبناء ذات جديدة والتسامي على المصائب وتطوير ذاته متعلّمًا من آلامه ومعاناته.
ليست الصلاة مجرّد تعبير عن موقف الإسلام من العالم إنما هي أيضًا انعكاس للطريقة التي يريد الإسلام بها تنظيم هذا العالم
علي عزّت بيغوفيتش، الإسلام بين الشرق والغرب
يقيس الباحثون في علم النفس الدّيني مفهوم نظام المعتقدات لدى الأفراد، وهي مجموعة التصوّرات والقِيَم التي يؤمن بها الفرد، وتشكّل نظامه الإدراكيّ.
ينعكس نظام المعتقدات على المستوى الانفعالي والسلوكي للأفراد، مثلًا إذا كان الفرد يؤمن بنظرية العالم العادل، من أنّ الأشخاص السيّئين تحدث لهم أمور سيّئة والأشخاص الطيّبين تحدث لهم أمور جيّدة، حينها ستنعكس هذه المعتقدات والتصوّرات على ردوده المجتمعية، من لومه للضحايا بوصفهم يستحقّون ما يجري لهم، بدل المبادرة إلى مساعدتهم.
على الجهّة الأخرى قد يؤمن الأفراد بوجود الظلم في هذا العالَم، وهذا يعني أنّ الأشخاص الطيّبين قد يتعثّرون بأشخاص سيّئين وقد يكون حظّهم تعيسًا أو أقدارهم مليئة بالابتلاءات، وهذا الاتّجاه الإدراكي المختلف من نظام المعتقدات، ينعكس على ردود الأشخاص الذين يؤمنون بها، فمثلًا قد يصيرون أكثر مبادرة إلى التدخّل لمساعدة الآخرين وقد تؤنّبهم ضمائرهم من شدّة المسؤولية الشخصية التي يشعرون بها حين يعجزون عن مساعدة أحد المظلومين أو المحتاجين.
من الانعكاسات العاطفية والسلوكية لنظام المعتقدات، مقياس شهير في علم النفس يُسمّى احتمال الإحباط Frustration Tolerance، وهو يقيس مدى شعور الفرد بالانفعال وفقدانه لأعصابه وردوده حين يصاب بالإحباط في حياته اليومية. الإحباط بهذا المعنى يعني عدم حصول ما يتمنّاه، وعدم وقوع ما كان يرغب في وقوعه.
تتباين مستويات الأفراد على هذا المقياس، تبعًا لعوامل عدّة أبرزها نظام المعتقدات. بشكلٍ عام، يميل المتدّينون إلى تحمّل الإحباطات أكثر من غيرهم، لأنّهم يُسلّمون بأنّ الأحداث تجري بإرادة الله وعنايته وتدبيره.
بل يعيب الإسلام على الفِرار خلال المعركة ويعتبره من الموبقات أو الآثام الكُبرى التي تخرق إيمان صاحبها. يعتبر المسلمون أنّ المواجهات مع الأعداء ينبغي أن تنتهي بإحدى مُكافأتين، إمّا النصر والفوز الدُّنيويّ، وإمّا جائزة أخروية كُبرى تتمثّل بالاستشهاد خلال مقاتلة العدو.
بل يأمر الإسلام بضرورة الإقبال والإثخان في العدو، وعدم النزوع إلى السلم ومعاهدات التسوية إلّا بعد إحقاق الحقّ وإظهار الغلبة والمنعة على الطرف المعتدي، أيّ أنّ السلام لا يكون إلّا من منطق قوّة وتفوّق لا من منطق خسارة وهزيمة.
تقوم فلسفة الإسلام العقدية على مفهوم التوحيد الذي يعني أنّه لا يُوجَد فاعل حقيقيّ ولا مُستحقّ للعبادة في هذا الكون سوى الله. بهذا المعنى، يكون الله دائمًا هو الأعلى وهو الأسمى وهو الأكبر وهو الأقوى وهو الأعلم، إنّه الحقيقة المنفصلة عن العالَم خلافًا لوحدة الوجود له وجوده المُستقلّ، غني بذاته، مطلق القدرة، علمه مُحيط بُكلّ شيء، حكيم بتدبيره، ورحيم بعباده.
يُعطينا التوحيد بفلسفته العميقة انعكاسات ديناميكية كثيرة مثل تحرير الأفراد وانعتاقهم من كلّ سُلطة دُنيوية، ومثل سعي الأفراد الموحِّدين لإحقاق الحقّ وإقامة العدل، إضافة إلى حزمة انعكاسات على المستوى الأنثروبولوجي والنفسي والاجتماعي للإنسان.
على سبيل المثال، لا يوجد حال يحدث في الوجود خارج علم الله، وهذا بالضرورة يدعو إلى الاطمئنان والرّاحة مهما بدا الواقع قاسيًا وكئيبًا. مثلًا لا يوجد شيء أعظم من الله، وهذا مُعطى تحريري يجعل المرء المؤمن لا يخشى أي مصدر قوّة مهما بدت مطلقة ومستحكمة وشديدة القهر، فثمّة دائمًا الإله العظيم في عليائه أعظم وأكبر وأحكم.
هذه المعطيات الإدراكية العميقة والتصوّرات الدّينية الصلبة توفّر أرضية خصبة لتأسيس جماعة مسلمة وأفراد مسلمين يَصعُب إن لم يكن مستحيلًا إخضاعهم لأي كيان قهري أو استعماري.
من جهةٍ أخرى، يحمل المسلمون نظامًا أخلاقيًّا عموميًّا لا يختص بجماعة إثنية أو مجموعة عرقية، بل يُقدّم الإنسان نفسه دائمًا بصيغة عالمية وبوصفه مشروعًا عدلًا رياديًّا يسعى لتسيّد العالَم ومستوعبًا للفروق الثقافية والتنوّعات البشرية.
من المهم الإشارة هنا إلى أنّ الاتّساق الأخلاقي للمسلمين وعدم نفاقهم أو تناقضهم يعتبر جُزءًا لا يتجزّأ من اكتمال إيمانهم ومن شروط نجاتهم الأخروية.
من هنا تحديدًا وعلى سبيل المثال، دفعت أخلاقيات المقاومين في غزّة وانضباطهم وتصريحات الأسرى المُفرَج عنهم حيال تعامل المقاومين معهم، إلى إثارة فضول المجتمع الغربيّ الذي يترقّب مصير الأسرى بعناية، وأعادت أخلاقيات المسلمين في ظلّ أعتى حروبهم وأشد لحظات قهرهم وقتلهم إلى الواجهة من جديد، وهي أخلاقيات منضبطة تتجاوز رغبة الأفراد في الانتقام لأنفسهم، تماشيًا مع تعليمات الإسلام الكُبرى التي تلزمهم برعاية الأسرى.
في تحليلها لميثاق حركة المقاومة الإسلامية في غزّة، تركّز الحكومة الإسرائيلية على أنّ المُشكِل الحقيقي مع حركة حماس، لا يكمن في الحركة لوحدها ولكن في البُنية التحتية للمقاومة التي تمثّلها الثقافة الإسلامية والتعليم الإسلامي اللّذان تصفهما بأنّهما إسلام راديكالي لمُجرّد أنّه يعتمد على القرآن الكريم والسنّة النبوية فحسب.
بهذا المعنى تكون مشكلة الكيان الإسرائيلي مع الفلسطينيين ليست مشكلة في تسليحهم أو أدواتهم وإنّما مشكلة في الحاضنة المجتمعية للمقاومة وفي المنظومة الدّينية والفكرية التي تُنتِج حركات المقاومة وتجعل من عملية الاستسلام والخضوع مسألة مستحيلة.
يخلص بنا هذا التحليل كلّه إلى أنّه إن كان من استثمار ممكن في مواجهة المحتلّ فهو لا شك يكمن في العودة الأصيلة إلى الذات ومصادرها الطبيعية، وفي مقدمتها الدّين الإسلاميّ والإرث العربي الأصيل اللّذان يُكرّسان الشجاعة والعزّة والكرامة ويذمّان الخضوع والاستسلام والهزيمة. | https://www.aljazeera.net/politics/2024/6/11/%d8%b3%d9%8a%d9%83%d9%88%d9%84%d9%88%d8%ac%d9%8a%d8%a9-%d8%a7%d9%84%d8%aa%d8%af%d9%8a%d9%86-%d8%a7%d9%84%d8%a8%d9%86%d9%8a%d8%a9-%d8%a7%d9%84%d8%aa%d8%ad%d8%aa%d9%8a%d8%a9 | 2024-06-11T09:17:56 | 2024-06-11T09:17:56 | أبعاد |
|
16 | لماذا لم تنتصر روسيا ولماذا لم تُهزم أوكرانيا؟ | يبدو أن أحد المسارات القريبة المتوقعة لانتهاء الحرب الأوكرانية هو قبول الطرفين بالجلوس إلى طاولة التفاوض في الشهور الأولى من عام 2025، بغض النظر عن حجم التنازلات التي سوف يقبل بها كل طرف. | مع بدايات عام 2024، تحديدا في فبرايرشباط، قرر الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي إعفاء القائد الأعلى للقوات المسلحة الأوكرانية فاليري زالوجني من منصبه، وتعيين قائد القوات البرية الأوكرانية، الجنرال أولكسندر سيرسكي، محله.
في ذلك الوقت، كانت القوات الروسية تثبت تفوقا ميدانيا وتحتفظ لنفسها باليد العليا في مسار الحرب، ما يعطي مبررا للخطوة التي أقدم عليها زيلينسكي، حيث كان زالوجني متهما على نطاق واسع بالعجز عن تغيير مسار الحرب بشكل فعّال لصالح أوكرانيا خلال عام 2023، كما أنه لم يُحدث تقدما يُذكر منذ أن تقدمت القوات الأوكرانية في مقاطعة خيرسون أواخر عام 2022، بيد أن إقالته أثارت قلقا لدى غالبية الأوكرانيين، وبصورة أكبر بين الجنود، خاصة مع الإعلان عن اسم قائد الجيش الجديد وبدء توليه مهمته.
كان مبعث القلق لدى الجنود هو ما يعرف عن القائد الجديد سيرسكي من عدم الاكتراث بالخسائر البشرية واعتبارها آثارا جانبية ضرورية للحرب، خلافا لسلفه زالوجني، الذي عرف عنه اهتمامه بالجنود وعائلاتهم وتعزيز ثقافة حفظ الأرواح.
أما عن أسباب قرار تغيير القيادة العسكرية، فمن المرجح أن إقالة زالوجني جاءت على خلفية ميوله الواقعية، التي تمثلت في إعلانه بوضوح عن عدم قدرة أوكرانيا على تحقيق تغيير جذري في الحرب لصالحها، وكان ذلك هو الاختلاف الأكبر بينه وبين رئيس بلاده زيلينسكي، الذي ظل حريصا على رفع توقعات الأوكرانيين، والترويج لإمكانية تحقيق نصر حاسم واستعادة الأراضي الأوكرانية بمجرد بدء العمليات المضادة.
رصدت تقارير عدة هذا التباين الواضح بين رؤية كل من زيلينسكي وزالوجني فيما يتعلق بحجم الدعم الغربي المطلوب، وأسلوب سير العمليات المضادة، وكذلك الحاجة إلى تعبئة المزيد من الجنود، وصولا إلى رؤية زالوجني حول ضرورة تمركز القوات الأوكرانية في وضع الدفاع الإستراتيجي في عام 2024، بدلا من الهجوم.
في المقابل، لم يكن زيلينسكي يتحلى بصبر مماثل، وأراد إنهاء حالة الجمود في ساحة المعركة بأي شكل، ووفقا لهذا التصور، كان الجنرال سيرسكي اختيارا مناسبا، نظرا لكونه أكثر استعدادا لتبني رؤية رئيسه. وقد أثبتت الأيام ذلك بالفعل، إذ أقدمت القوات الأوكرانية -تحت قيادته- على غزو منطقة كورسك الروسية في أغسطسآب الماضي، وهو ما اعتُبر أكبر انتصار عملياتي للأوكرانيين منذ تحرير خيرسون في نوفمبرتشرين الثاني 2022.
غير أن هذا لا يتنافى مع حقيقة أن التوغل في كورسك كان أيضا باهظ الثمن بالنسبة للجيش الأوكراني، ويبدو أنه لا يزال يدفع ضريبة هذه المغامرة إلى الآن. فبحسب بيانات وزارة الدفاع الروسية، فقدت أوكرانيا في كورسك أكثر من 23 ألف عسكري بين قتيل وجريح، في غضون شهرين، بما قد يعد دليلا على صدق مخاوف الأوكرانيين بشأن الجنرال سيرسكي واستعداده للتضحية بموجات بشرية هائلة في مسرح الحرب.
على جانب آخر، أقرّ المشاركون في الهجوم بأنه كان عملية صعبة ومعقدة، وأن الحفاظ على المنطقة تحت السيطرة الأوكرانية يزداد صعوبة مع الوقت، ما دفع بعضهم للتساؤل عن جدواه في وقت تتصاعد خلاله أولوية الدفاع عن المدن والبلدات الرئيسية في شرق البلاد بعد تعرضها لهجوم روسي مكثف، وخصوصا إذا ما وضع في الاعتبار تقلص المساحة التي يسيطر عليها الجيش الأوكراني في كورسك، وفقدانه فعليا أكثر من 40 منها بحلول نوفمبرتشرين ثاني الماضي، بما يعيد الاعتبار لتصورات زالوجني القائد المُقال حول ضرورة التمسك بوضعية الدفاع الإستراتيجي، ويظهر أنه كان يمتلك نظرة أبعد وأدق من خلفه سيرسكي.
ومن جهة أخرى، فقد أثمر الهجوم الروسي في شرق أوكرانيا عن تقدم تدريجي منذ بداية عام 2024، بما مثل انكسارا لحالة الجمود التي اتسمت بها خطوط المواجهة في العام الذي سبقه. وإجمالا، يبدو أن القوات الروسية حققت مكاسب أفضل خلال عام 2024، رغم اجتياح منطقة كورسك.
يتزامن ذلك مع توقعات بشأن اقتراب الطرفين من الجلوس إلى طاولة التفاوض، خصوصا مع بدء الولاية الجديدة للرئيس الأميركي دونالد ترامب، الذي وعد مرارا بإنهاء الحرب فور توليه إدارة البيت الأبيض، وفي الوقت نفسه الذي تبحث فيه موسكو عن انتصار يسهم في ترميم صورتها الذهنية، بعد تراجع نفوذها في الشرق الأوسط نتيجة تطورات الساحة السورية، وما ترتب على ذلك من وضع سمعة القوة الروسية في موضع مساءلة.
وفي حين تدفع هذه المعطيات الكثيرين لاعتبار أن العام 2025 سيكون عاما حاسما لهذه الحرب المديدة والمعقدة، فإن هذا يعزز من أهمية التساؤلات حول المسارات المحتملة للحرب في 2025، وعن الأهداف الرئيسية لأطرافها المباشرة وغير المباشرة، وكيفية إدارتها مؤخرا لمسرح العمليات بما يتلاءم مع تلك الأهداف. وأن نحاول الإجابة على السؤال المحير، لماذا لم تنتصر روسيا ولماذا لم تُهزم أوكرانيا؟
يمكن تلخيص أحداث الحرب الأوكرانية في عام 2024 من خلال النظر إلى 3 نقاط تحول رئيسية وما ترتب على كل منها. هذه النقاط هي تقدم روسيا التدريجي في شرق أوكرانيا، ثم نجاح الأخيرة في الهجوم المضاد داخل منطقة كورسك الروسية، علاوة على تداعيات توسع الدعم العسكري الغربي على مسار الحرب تحديدا في الربع الأخير من العام.
منذ مطلع 2024، تدفع موسكو قواتها بشكل منسق في إقليم دونيتسك، خاصة أن أوكرانيا فشلت في تطوير مواقع دفاعية محصنة في العديد من المناطق، إضافة إلى تزايد إرهاق القوات الأوكرانية بعد استنزافها على مدار أكثر من عامين، وقيامها بالمغامرة في كورسك بغرض تحقيق توازن إستراتيجي، وهو ما سوف نتناوله لاحقا بشكل تفصيلي.
وبصورة عامة، استمر القتال في عام 2024 عبر قرابة ألف كيلومتر من خط المواجهة الذي يبلغ طوله 3,700 كيلومتر، إضافة إلى تبادل هجمات المسيرات واستهداف بنية الطاقة التحتية الأوكرانية عبر هجمات صاروخية روسية، كذلك استهداف بعض مصافي النفط الروسية غرب البلاد والأسطول الروسي في البحر الأسود من جانب الجيش الأوكراني.
وقد أولت موسكو اهتماما بالسيطرة على مدينة بوكروفسك ذات الأهمية الإستراتيجية في شرق أوكرانيا، والتي تُطلق عليها وسائل الإعلام الروسية اسم بوابة دونيتسك، نظرا لوقوعها عند تقاطع الطرق الرئيسية والسكك الحديدية، ما يجعلها مركزا لوجستيا بالغ الأهمية بالنسبة للجيش الأوكراني، حيث يستخدمها لتزويد مواقعه الشرقية المحاصرة بالإمدادات.
وعلاوة على إمكانية تعطيل خطوط الإمداد على طول الجبهة الأوكرانية الشرقية بشكل مؤثر، في حالة سقوط بوكروفسك في يد القوات الروسية، تسمح المدينة بتعزيز حملة السيطرة على منطقة تشاسيف يار ذات التضاريس المرتفعة، الواقعة على الطريق المؤدية إلى تجمع سلوفيانسك-كراماتورسك، بما يوفر سيطرة أفضل على المنطقة، ويقرّب موسكو من هدفها المتمثل في الاستيلاء على منطقة دونيتسك بالكامل.
هذه الأهمية تفسر عدم انجرار الروس إلى مواجهة توغل الجيش الأوكراني في كورسك، والاستمرار في عملياتهم شرق أوكرانيا دون توقف، مع إيفاد عدد من القوات غير الفاعلة إلى كورسك، ومن بينها قرابة 12 ألف جندي من الحليفة كوريا الشمالية، وفق تقديرات أميركية، حيث أعلن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في أكثر من مناسبة أن الأولوية الحالية هي للعمليات الهجومية الروسية في دونيتسك، كما وعد باستعادة ما تبقى من منطقة كورسك لكنه امتنع عن تقديم جدول زمني دقيق لذلك.
ونتيجة للضغط على بوكروفسك، تمكّن الروس من تدمير نحو 80 من البنية التحتية للمدينة بحلول أكتوبرتشرين أول الماضي، وفق ما أفاد مسؤولون محليون، فيما لا تزال المعارك العنيفة تدور حول المدينة، نظرا إلى أن القوات الروسية ترغب في تطويق الأطراف وإجبار الجيش الأوكراني على التراجع، بدلا من الهجوم المباشر أو نقل القتال إلى داخل المدينة، تجنبا لسقوط القوات الروسية في فخ الحرب الحضرية، بحسب ما أدلى به القائد الإقليمي للجيش الأوكراني فيكتور تريهوبوف.
ومع ذلك، يُعد محور المدينة في الوقت الحالي أحد أسخن جبهات القتال بين روسيا وأوكرانيا على الإطلاق، إذ تدور خلاله معظم الاشتباكات، ويسقط فيه غالبية القتلى والمصابين من الجانبين.
وبحسب هيئة الأركان الأوكرانية، يشهد المحور نحو 100 اشتباك مباشر يوميا، بما يعادل 50 من اشتباكات الجبهة بأكملها، وعلى الرغم من تبادل الجانبين الإعلان عن الخسائر التي مُني بها الطرف الآخر، لا ينكر الأوكرانيون أن الدفاع عن المدينة بات أمرا صعبا على قواتهم، وأن القوات الروسية تتقدم خلاله بوتيرة بطيئة لكنها ثابتة، ما يدفع مسؤوليهم إلى التشكك في قدرتهم على الاحتفاظ بالمدينة، وإلى الاعتقاد بأن المدينة قد تصبح باخموت أخرى، يتم الدفاع عنها بشراسة وبتكلفة باهظة، ثم ينتهي ذلك إلى إخلائها وانسحاب القوات منها لاحقا.
لكن تقدم روسيا الملحوظ في شرق أوكرانيا لم يكن أيضا بلا ثمن، حيث كانت خسائر موسكو في القوات البشرية والمعدات خلال أكتوبرتشرين أول الماضي أعلى من أي شهر آخر منذ بدء الحرب، وتضمن ذلك نحو 200 دبابة وأكثر من 650 مركبة مدرعة، إضافة لما يقرب من 80 ألف شخص، مقارنة بمعدل وفيات بلغ 36 ألفا في الشهور الأخرى، كما تجاوز عدد الضحايا الروس 125 ألف شخص منذ سبتمبرأيلول الماضي مقابل تحقيق مكاسب تقدر بنحو 2,700 كيلومتر مربع من الأراضي الأوكرانية، وفق تقديرات معهد دراسات الحرب.
وإجمالا، فقدت القوات الروسية 539 دبابة إضافة إلى 1,020 مركبة مشاة قتالية في بوكروفسك منذ أكتوبرتشرين أول 2023. ونظرا إلى تضاؤل مخزونات الدبابات والمركبات المدرعة من الحقبة السوفياتية، وتراجع معدلات إنتاج المركبات المدرعة حاليا في روسيا، فمن المرجح أن يكون تعويض مثل هذه الخسائر صعبا على المدى القريب.
في مقابل هجوم روسيا شرقا، سعت كييف إلى تحقيق قدر من التوازن الإستراتيجي خلال 2024، فيما يبدو أنه استعداد لاحتمالات وصول الطرفين إلى طاولة التفاوض في وقت قريب، وهو ما يفسر إقدامها على مغامرة التوغل في كورسك في أوائل أغسطسآب الماضي، والتي أرادت كييف من خلالها تشتيت الروس عن هجومهم شرق البلاد، وامتلاك ما يمكن من خلاله مساومة موسكو فيما بعد على تبادل الأراضي، إضافة إلى تعزيز الروح المعنوية لدى القوات الأوكرانية.
رغم ذلك، ثمة خبراء يتبنون رأيا آخر مفاده أن خطوة التوغل في كورسك كانت مقامرة وكارثة إستراتيجية على المدى الطويل، وذلك لأسباب عدة، على رأسها تقييد الوحدات الأوكرانية الأكثر خبرة وفعالية في القتال داخل كورسك بينما تواجه أوكرانيا خطر انهيار جبهتها الشرقية، كما تُظهر البيانات أن سيطرة أوكرانيا على كورسك آخذة في التقلص، حيث فقدت بحلول نوفمبرتشرين الثاني الماضي قرابة نصف الأراضي التي نجحت في احتلالها خلال أبعد تقدم لها في الهجوم.
وتشير إيما آشفورد، كبيرة الباحثين في مركز ستيمسون الأميركي، أنه من غير المرجح أن تتمكن القوات الأوكرانية من الاحتفاظ بما استولت عليه، وأن العملية أنتجت في أفضل الأحوال، تحولا سرديا قصير الأمد لصالح زيلينسكي، وهو ما أكده رئيس الاتصالات الإستراتيجية السابق في هيئة الأركان العامة الأوكرانية بقوله إن روسيا تضع فكوكا قوية حول جوانب المدينة، وتقوم عبرها بسحق الدفاعات الأوكرانية ببطء حتى تنهار.
وبعيدا عن مقامرة كورسك، أدى تزايد التوقعات بشأن اقتراب الطرفين من التفاوض إلى سعي إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن لمحاولة الإسهام في تعزيز موقف كييف خلال عام 2024 قبل رحيله من البيت الأبيض. وفي هذا السياق، تلقت أوكرانيا دعما أميركيا غير مسبوق منذ مايوأيار الماضي، حيث باتت واشنطن تعطي الأولوية لتأمين قدرات الدفاع الجوي الأوكراني على أي دولة أخرى، كما سمحت الإدارة الأميركية للقوات الأوكرانية بشنّ هجمات داخل الأراضي الروسية باستخدام أسلحة أميركية لأول مرة منذ بدء الحرب.
ورغم أن الإذن الأميركي اقترن في بدايته بشرط اقتصار هذه الهجمات قرب مدينة خاركيف الحدودية في شمال شرق البلاد، فإن مستشار الأمن القومي الأميركي جيك سوليفان صرح في وقت لاحق بأن أوكرانيا يمكنها شن هجوم مضاد في أي مكان على طول الحدود باستخدام أسلحة دولته.
تلا ذلك تزويد كييف بأنظمة صواريخ متحركة وبعيدة المدى، مثل أتاكمز الأميركية وستورم شادو وسكالب الفرنسية، وقد استخدمها الجيش الأوكراني خلال الشهرين الماضيين في قصف عمق الأراضي الروسية، لأول مرة منذ بدء الحرب، ما أثار غضب موسكو وأدى إلى تلويحها بالقوة النووية، وإعلانها تعديل شروط استخدام أسلحتها النووية لتشمل الهجوم من دولة غير نووية إذا كانت مدعومة من دولة نووية أخرى، كما في حالة أوكرانيا والولايات المتحدة.
ولا تعد هذه هي الخطوة الاستفزازية الوحيدة من جانب واشنطن خلال 2024، حيث تشير التقارير إلى تسارع وتيرة الدعم الأميركي في الشهور الأخيرة، بما يخالف سياسة واشنطن، التي اعتادت تقديم الدعم إلى كييف بشكل محسوب حرصا على عدم استفزاز موسكو، حيث انتهجت إدارة بايدن في السابق سياسة تدريج المساعدات العسكرية إلى أوكرانيا منذ بدء الحرب، بما يمنحها القدرة على استكشاف الخطوط الحمراء لدى موسكو، وقياس ردة فعل الروس إزاء كل خطوة دعم جديدة قبل الإقدام على أخرى.
وقد يفسر ذلك باستباق بايدن لقدوم خليفته ترامب الذي يعتقد أنه سيكون أقل حرصا على تقديم الدعم المالي لأوكرانيا، كما أن واشنطن تغامر بذلك في سبيل وضع أوكرانيا في موقف تفاوضي أفضل في حال أجبر ترامب الطرفين على بدء التفاوض.
وهو ما يتضح أيضا من خلال توريد مقاتلات إف-16 إلى كييف، في حين تعهدت دول الناتو بمنح كييف 65 طائرة، وتشير التقديرات إلى أن إنشاء أسطول إستراتيجي يلبي أهداف أوكرانيا في الحرب يتطلب عددا أكبر من ذلك بكثير.
ووفقا لآراء الباحثين في مركز الدراسات الإستراتيجية والدولية الأميركي، تحتاج أوكرانيا إلى 12 سرب مقاتل، بواقع 18 طائرة في كل سرب، لتحقيق الدعم الجوي اللازم للحرب على الأرض، ما يعني أن عدد مقاتلات إف-16 المطلوب هو 216 طائرة، بالإضافة لضرورة توفر احتياطي لإعادة الإمداد بما يتناسب مع معدلات الخسارة القتالية.
يعني ذلك أن إرسال إف-16 إلى كييف لم يهدف إلى حسم الحرب، بقدر ما كان يهدف إلى إزعاج الروس وتعريض المزيد من قواتهم للخطر، بما يجبرهم على خفض سقف التوقعات وعدم التعنت في التفاوض.
كما أنها، على جانب آخر، تعد مهمة في دمج كييف في النظام الاقتصادي والدفاعي الأميركي، نظرا إلى أن إعادة تشكيل ترسانة أوكرانيا الحربية من خلال معدات أميركية، بما في ذلك القدرات الجوية والطيران، يترتب عليه أن تبقى كييف في حاجة دائمة إلى سلاسل الإمداد الأميركي، في ما يتعلق بأمور صيانة هذه المعدات وتوفير قطع الغيار.
روسيا تسيطر على بلدات عدة جنوب بوكروفسك وفي دونيتسك من بينها كوراخوف وزير الدفاع الأميركي يزعم أن روسيا خسرت 700 ألف قتيل وأنفقت 200 مليار دولار منذ بدء غزوها أوكرانيا.الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترامب يزعم أن أوكرانيا فقدت 400 ألف عسكري منذ بدء الحرب.روسيا تستعيد السيطرة على مناطق عدة في كورسك.
يبدو أن أحد المسارات القريبة المتوقعة لانتهاء الحرب الأوكرانية هو قبول الطرفين بالجلوس إلى طاولة التفاوض في الشهور الأولى من عام 2025، بغض النظر عن حجم التنازلات التي سوف يقبل بها كل طرف.
إلا أن وجود دونالد ترامب على رأس البيت الأبيض في 2025، يرجح أن أوكرانيا قد تكون الطرف الأكثر استعدادا للتنازل، نظرا إلى أن ترامب سبق أن أعطى وعودا لناخبيه في أكثر من مناسبة انتخابية بإنهاء تورط واشنطن في الحرب التي تستنزف أموال دافعي الضرائب.
وقد تتضمن خطة ترامب الضغط على أوكرانيا من خلال تقليص المساعدات، بغرض دفعها إلى التخلي عن شبه جزيرة القرم ودونباس مقابل اتفاق سلام، وهو ما أكده رئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان في مارسآذار الماضي، إذ قال إن ترامب يخطط لإنهاء الحرب من خلال التهديد بسحب كل الدعم الأميركي لأوكرانيا.
وبحسب التقرير الاستشرافي السنوي لمركز ستراتفور لعام 2025، من المرجح أن تهدد إدارة ترامب موسكو بزيادة العقوبات عليها، وتقديم المساعدة العسكرية الإضافية لأوكرانيا، وفي الوقت نفسه تهدد كييف بخفض الدعم المالي، في محاولة للضغط على الحكومتين للدخول في محادثات وقف إطلاق النار.
ومع ضغوط الحكومات الغربية على كييف لمواصلة المفاوضات وإثبات الدعم الأجنبي لكييف عدم كفايته لوقف التقدم الروسي وسط القيود السياسية والصناعية والمالية، ستزداد احتمالية قبول الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي لبعض مطالب موسكو. كما ستسهم التساؤلات المتزايدة حول جدوى إستراتيجية الحرب الأوكرانية والحاجة إلى خفض سن التعبئة إلى أقل من 25 عاما وهو ما من شأنه أن يشعل فتيل الهجرة من البلاد في الضغط المحلي على زيلينسكي.
ونتيجة لهذا، فمن المرجح أن تعقد محادثات وقف إطلاق النار في عام 2025، ولكن في حين من المرجح أن تقبل أوكرانيا بتقديم تنازلات إقليمية لوقف القتال، فإن قضية الضمانات الأمنية الغربية لمنع الهجمات الروسية في المستقبل ستظل العقبة الرئيسية أمام التوصل إلى اتفاق سلام أكثر ديمومة.
إن إحجام الغرب عن منح أوكرانيا مسارا نحو عضوية حلف شمال الأطلسي الناتو والانقسامات الداخلية داخل الغرب بشأن نشر قوات في أوكرانيا لضمان اتفاق سلام من شأنه أن يؤخر التوصل إلى اتفاق طويل الأمد.
وفي كل الأحوال، إذا حدث وقف إطلاق النار في عام 2025، فمن المرجح أن يكون مؤقتا فقط. وعلى هذه الخلفية، فإن الانتخابات الرئاسية والبرلمانية في أوكرانيا -التي كان من المفترض أن تُعقد في عامي 2024 و2023 على التوالي- من غير المرجح أن تجرى ما لم يتم التوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار.
ورغم أن هذا يبدو التوقع الأقرب للتحقق، لكن ثمة 4 مسارات أخرى تبقى محتملة، بدرجات أقل ومتفاوتة فيما بينها، وهي استمرار الصراع الاستنزافي بين الطرفين كما هو الآن واختبار حدود تحمل كل جانب، أو القبول بهدنة تعمل على استقرار خط المواجهة حيثما هو، ويبدو أن ذلك المسار قد لا يختلف بالضرورة عن خطة ترامب بل ربما يمثّل إطارا لها في لحظة ما.
وحتى إذا ما تم التوصل إلى هدنة بهذه الصورة، فلن يعني ذلك بالضرورة توقف الحرب تماما في المستقبل، فقد تكون هذه الهدنة على غرار تجربة اتفاقيات مينسك في 2014-2015، التي سعت لإنهاء الحرب في دونباس، وقد ضغطت الدول الغربية لإتمامها باعتبارها طريقا إلى السلام، لكنها أدت فقط إلى خفض الأعمال العدائية بدلا من إنهاء الحرب بشكل كامل.
المسار الثالث يتمثل في تزايد الدعم الأوروبي لأوكرانيا، بغرض إجبار موسكو على العودة إلى خط ترسيم الحدود لما قبل فبرايرشباط 2022، وهو يبدو احتمالا مستبعدا، كما أن الخوض فيه يهدد باتساع نطاق الحرب لما هو أبعد من الأراضي الأوكرانية.
فيما يشير الاحتمال الأخير إلى إلحاق هزيمة صريحة بأوكرانيا، ما سوف يؤدي إلى قبولها شروط الاستسلام الروسية، بما في ذلك تغيير حكومتها ونزع السلاح وضمان الحياد، وهو المسار الأكثر قتامة بالنسبة لكييف، وربما تكون عرضة له في حالة سحب الدعم الغربي مع رفضها تقديم تنازلات أكثر عند التفاوض.
ويشير جون لوف، الزميل المشارك في المعهد الملكي للشؤون الدولية ومقره لندن، إلى وجود أسباب قوية تدعم الاعتقاد باستمرار الحرب الاستنزافية بين الطرفين، لأنها باتت حربا وجودية لكل من أوكرانيا ونظام بوتين. ومع ذلك، يقر لوف بأن نجاح أي من هذه المسارات يخضع، في المقام الأول، لقدرة حلفاء كييف الغربيين على تقديم الدعم المالي والعسكري، وهو أمر ليس مؤكدا في ظل ولاية ترامب الثانية.
والخلاصة أن اتجاه الحرب لا يزال متعلقا -إلى حد كبير- بالموقف الذي سوف تتخذه الإدارة الأميركية القادمة، وهو موقف لن يكون بمعزل عن عوامل أخرى خارجية، تتصدرها المنافسة بين واشنطن وبكين والتي أصبحت العامل الهيكلي الرئيسي في السياسات الدولية.
ومن خلال هذه الزاوية، يبرز تناقض الآراء الأميركية حول طبيعة القرار الأميركي المناسب، ففي حين زعم منتقدو إدارة بايدن بأن الموارد الأميركية المخصصة لأوكرانيا يجب أن تتجه إلى ردع الصين، في حين رأى آخرون أن النجاح في خفض تطلعات القوة العسكرية الروسية يصب في صالح إعادة التوازن إلى آسيا، مثلما يرسل إشارة إلى تايوان ودول منطقة المحيطين الهندي والهادئ عن جدية واشنطن في دعم حلفائها، بما يعزز التعاون مستقبلا في مواجهة بكين.
لكن ذلك يلقى اعتراضا آخر، نظرا إلى أن خيار الحرب المطولة من شأنه أن يعزز نفوذ بكين ويعطيها الفرصة لتطوير تحالفاتها في آسيا، كما أن هذا الرأي القائل باستمرار الدعم الأميركي ومن ثم استمرار الحرب يغفل مخاطر ذلك، ومنها تلويح موسكو مؤخرا باللجوء إلى القوة النووية.
وعلى وجه العموم، فإن مغامرة روسيا التي أقدمت عليها مطلع 2022 بغية إعادة تشكيل نظام الأمن العالمي وتصحيح نتائج الحرب الباردة من وجهة نظر الإستراتيجيين الروس، في عملية خططت لها موسكو لتكون خاطفة وسريعة الحسم، لم تكن كذلك قط، بل تمخضت عن حرب مديدة ومعقدة، ليس يقينيا أنها تقترب من فصولها الأخيرة بعد، ولا زالت تراوح مكانها منذ قرابة 3 أعوام لتصبح واحدة من أطول الحروب النظامية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.
لم تنتصر روسيا ولم تنهزم أوكرانيا، حيث لم تنجح روسيا حتى الآن في تحقيق أهدافها من الحرب التي كانت تتمثل في تحجيم طموحات حلف شمال الأطلسي، بل ازداد الحلف توسعا باتجاه روسيا ليضم دولا جديدة في شرق أروربا، وازداد تضامنا أمام الشعور بالتهديد الروسي، كذلك لم تنهزم أوكرانيا رغم تعثر استراتيجيتها المتمثلة في الصمود الدفاعي وإفشال التقدم الروسي ميدانيا، في ظل استمرار الاختراقات الروسية وقدرة الأخيرة على الاحتفاظ بمساحات شاسعة من أراضي أوكرانيا تحت سيطرتها، وباتت قطاعات من الأوكرانيين تتساءل عن الأسباب التي أدخلتهم في الحرب ولماذا يدفعون وحدهم ثمن الأمن الأوروبي وثمن تماسك النظام العالمي؟ وفي انتظار أن يجد ترامب حلا ما للحرب غير معلوم على وجه الدقة؛ لا زالت الحرب تراوح مكانها بين هجوم وتراجع، يستنزف المزيد من الوقت والمال والبشر دون أن يتحقق لأي من طرفيها أهدافه الأصلية، ولعل هذا من أهم بواعث القلق في هذا الصراع المحير. | https://www.aljazeera.net/politics/2025/1/2/%d8%a7%d9%84%d8%ad%d8%b1%d8%a8-%d8%a7%d9%84%d8%a3%d9%88%d9%83%d8%b1%d8%a7%d9%86%d9%8a%d8%a9-%d9%83%d9%8a%d9%81-%d9%83%d8%a7%d9%86%d8%aa-%d9%81%d9%8a-2024-%d9%88%d8%a5%d9%84%d9%89 | 2025-01-02T09:38:20 | 2025-01-05T06:15:32 | أبعاد |
|
17 | جان بول سارتر.. الفيلسوف الفرنسي الذي عشق فرنسا وكرهها | بعد الحرب على غزة وما رافقها من حرب إبادة وأحداث كشفت ازدواجية المعايير الغربية، نستذكر الفيلسوف الفرنسي الراحل جون بول سارتر الذي واجه إشكالات عدة مع سياسات بلاده. | كشفت عملية المقاومة الفلسطينية ضد الاحتلال الإسرائيلي في السابع من أكتوبرتشرين الأول 2023، وما تبعها من حرب إبادة وأحداث، أن الفكر الاستعماري الغربي ما زال حيًا، إذ كشفت الحرب بما لا يدع مجالًا للشك عن ازدواجية المعايير الغربية، والإنكار شبه الكامل لحقوق الإنسان ما دام الضحية فلسطينيًا، بل قد كشفت الحرب عن استعداد الكثير من الدول الأوروبية ومنها فرنسا لمصادرة حرية التعبير وانتهاك حقوق الإنسان داخل بلادها من خلال قمع ومنع المظاهرات المطالبة بحقوق الشعب الفلسطيني في التخلص من احتلال أراضيه.
في ظل هذه الأجواء، نستذكر الفيلسوف الفرنسي الراحل جون بول سارتر، الذي كان مدافعا عن بلاده فرنسا ومحبا لها، وقاوم النازية وشارك في الحرب العالمية الثانية، لكن أمرا ما قد تغير في حبه ذاك. إذ إن فيلسوف الحرية، كما يُعرف، واجه إشكالات عدة مع سياسة بلده في استعمارها للجزائر وغيرها من الدول، وقد أثر ذلك على رؤيته لحقوق الإنسان، وعلى نقده للكثير من السياسات الفرنسية.
هل سمعت من قبل عن شخص يحب ويمقت الشيء ذاته في آن واحد؟ لا ريب في أن ذلك قد يؤدي إلى الجنون أو -على الأقل- إلى الألم العميق، وقد يصبح الوضع أكثر سوءا إذا كان هذا الشيء هو وطنك. ذلك كان حال جان بول سارتر، فقد كان فيلسوفا فرنسيا ضد فرنسا، ونسلا فلسفيا لرينيه ديكارت وأحد معجبي أونوريه دي بلزاك، كما أنه قاتل من أجل فرنسا في الحرب العالمية الثانية، وكان أسير حرب في ألمانيا. إلا أن الحال تبدل بعد الحرب، فقد تحول إلى أشد منتقدي السياسة الفرنسية وأقساهم. فما السبب؟
عاين سارتر كيف أصبحت فرنسا -أرض الحرية والمساواة والأخوة- مفترسا استعماريا في الجزائر والكاميرون والهند الصينية جزء من الإمبراطورية الفرنسية الاستعمارية في جنوبي شرقي آسيا. وفي الافتتاحية الأولى لمجلة لي تون موديرن Les Temps Modernes في عام 1945، أعلن كل من سارتر وعالم الظواهر موريس ميرليو بونتي أن أبناء المقاومة الفرنسية الذين قاتلوا لتحرير فرنسا في الحرب العالمية الثانية، والذين أصبحوا الآن في الهند الصينية، هم مثل الجنود الألمان، يقاتلون لأجل الفاشية.
لقد كانت باريس تمثل بالنسبة لسارتر رمزا للحرية ضد آلية الفاشية، ولكن بعد أسبوع واحد فقط من وفاة هتلر، أرسلت باريس -المدينة ذاتها التي ارتبط اسمها بالرومانسية والحرية- قوات لارتكاب مجزرة دموية في مدينة سطيف الجزائرية، وذبح الآلاف من الجزائريين. وفيما تلا من سنوات، واصلت فرنسا المتحضرة قمعها الوحشي للحركة الصاعدة المناهضة للاستعمار، وكثيرا ما حكمت بالإعدام على أفراد في المحاكم العسكرية.
وهو أمر دفع بسارتر إلى الإعلان صارخا جميعنا قتلة في عنوان مقالته عام 1958، وفيها كتب
في نوفمبرتشرين الثاني 1956، قام فرناند إفيتون، وهو عضو في حركة مقاتلي التحرير مجموعة مقاومة أنشأها الحزب الشيوعي الجزائري، بزرع قنبلة في محطة كهرباء حماة، وهي عملية لا يمكن بأي حال من الأحوال أن نساويها بعمل إرهابي.
أثبتت التحليلات أن الحادث كان قنبلة موقوتة معدة بدقة بحيث لا يمكن أن يحدث الانفجار قبل مغادرة الموظفين، إلا أن ذلك كان بلا جدوى؛ فألقي القبض على إفيتون، وحكم عليه بالإعدام ورُفض أي إرجاء للحكم، فأعدم الرجل. وبلا أدنى تردد أعلن هذا الرجل وأثبت عدم رغبته في قتل أي أحد، ولكننا أردنا أن نقتله وفعلنا ذلك دون أن يرف لنا جفن.
لم تعد فرنسا بطلة للحرية بالنسبة لسارتر، بل كانت على النقيض من ذلك، مناهضة للحرية. فقد كانت تلعب لعبة مزدوجة، تحاول القيام بدور قيادي في خطاب حقوق الإنسان، وتقمع في الوقت نفسه السكان الأصليين للأراضي التي تستعمرها.
في مقدمته لكتاب فرانز فانون لعام 1961 معذبو الأرض، قال سارتر إن فرنسا يجب أن تخلص نفسها من فرنسا؛ أي إن فرنسا، تلك الحرة المثالية يجب أن تفصل نفسها عن فرنسا الدولة الاستعمارية. وكان أستاذ القانون الفرنسي رينيه كاسين هو الممثل الفرنسي في لجنة صياغة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وعمل على تنقيح مسودته الأولى في السنوات التي تلت الحرب. ولا شك في أن سارتر كان ليصاب بالغثيان لو اطلع على هذا المشروع، لإعلانه أن حقوق الإنسان تفترض مسبقا درجة عالية من الحضارة، وبالتالي لا تنطبق على من هم في مراحل بدائية من التنمية. وذلك يفيد بأن حقوق الإنسان ليست لكل الناس، بل هي لأولئك الأكثر إنسانية.
تذكر إعلان الخنازير في مزرعة الحيوان لجورج أورويل جميع الحيوانات متساوية، ولكن بعضها أكثر مساواة عن الآخرين
على أي حال، تذبذب سارتر لثلاثة عقود باتجاه فكرة حقوق الإنسان وبعيدا عنها، لأنه كان يشكك في نزاهة نظرية حقوق الإنسان تجاه أولئك المعذبين الذين يُطلق عليهم الشعوب غير المتحضرة. فإذا كان من أصدر الإعلان هي الإمبراطوريات الاستعمارية مثل فرنسا وبريطانيا، هل حقا سيكون إعلانا داعيا للسلام ومنصفا وحسن النية؟ أم كان خلف تلك الابتسامة الإنسانية اللطيفة مجموعةٌ من الأسنان الحادة؟
كان سارتر يدافع أحيانا عن الإعلان لأنه رأى أنه على الرغم من تضييقاته، فإنه يعزز الحقوق الأساسية التي يجب أن يتمتع بها كل إنسان. وفي بيانه المعنون بـالإبادة الجماعية في الدورة الثانية لمحكمة برتراند راسل الدولية لجرائم الحرب في عام 1967، أبدى قلقه البالغ إزاء حقوق الإنسان العالمية، ودان الولايات المتحدة لانتهاكها حقوق الإنسان في فيتنام.
ولكن باعتباره ماركسيا، كان سارتر قلقا كذلك بشأن ما اعتبرها عناصر برجوازية مضمنة في الإعلان، خاصة الفردية المتطرفة، وهو ينتقد البرجوازية لاستخدامها طريقة تحليلية لشرح كل شيء، حيث يجب تقسيم كل واقع مركب إلى عناصر بسيطة. ويهدف التحليل البرجوازي إلى اختزال المجتمع البشري ليصبح عبارة عن أفراد معزولين.
وقال سارتر في لي تون موديرن Les Temps Modernes إنه يعتقد أن هذا المبدأ ترأس الإعلان العالمى لحقوق الإنسان أيضا، إلا أنه عندما يفقد شعب ما أرضه وتجارته وجيله الشاب ولا يبقى معه شيء يملكه سوى نفسه، فإنه لا يحتاج إلى الفردية والممتلكات الخاصة، بل على العكس من ذلك يحتاج إلى الجماعية بدلا من الفردانية، وإلى العودة إلى جماعته التقليدية، وحقهم الجماعي في تقرير المصير.
ولو كان سارتر مجرد مفكر يساري فقط، لكان موقفه ضد النزعة الفردانية المطلقة أكثر وضوحا؛ لكنه كان وجوديا كذلك، والفردانية أحد الأركان الأساسية للوجودية. وفي محاضرته عام 1945 التي حملت عنوان الوجودية هي الإنسانية، أعلن أن نقطة الانطلاق الوجودية هي في الواقع ذاتية الفرد ليس لأننا برجوازيون، ولكن لأننا نسعى إلى بناء عقيدتنا على الحقيقة.
وفي محاضرة الوجود واللا شيء 1943، قال إن كل فرد مسؤول وجوديا عن خلق طريقته في الحياة والالتزام بها. وهو نوع من الوجود يسميه الفيلسوف اللاهوتي سورين كريكجارد التفرد أو الفردية. ويجب أن نلاحظ أنه بالنسبة لسارتر، يختلف التفرد أو الفردية عن الفردانية؛ فالنزعة الفردانية المتطرفة هي نفي أي هوية جماعية، في حين أن الفردية يمكنها أن تشمل كونك مع الآخرين.
ورغم أن سارتر ينتمي إلى الجانب الأيسر من الجدل حول حقوق الإنسان، فإن انتقاداته لا تتفق تماما مع المفكرين اليساريين المعاصرين مثل سلافوي جيجك في كتابه ضد حقوق الإنسان 2005. يربط جيجك نظرية حقوق الإنسان بالرأسمالية الليبرالية، تماما كما فعل سارتر، إلا أنه يولي اهتماما لظاهرة جديدة، وهي ظاهرة التدخل الإنساني. فقد شهد نقاد مثل جيجك مؤخرا الطريقة المدمرة التي تتدخل بها الدول الغربية سياسيا واقتصاديا وعسكريا في بلدان العالم الثالث باسم الدفاع عن حقوق الإنسان.
وكما يقول جيجك من الواضح، على سبيل المثال، أن الإطاحة بصدام حسين تحت قيادة الولايات المتحدة، والتي اكتسبت مشروعيتها على أساس إنهاء معاناة الشعب العراقي، لم تكن مدفوعة بمصالح سياسية واقتصادية فحسب، بل اعتمدت كذلك على فكرة محددة عن الظروف السياسية والاقتصادية التي يتم بموجبها تسليم الحرية إلى الشعب العراقي؛ وهي الرأسمالية الليبرالية الديمقراطية، والاندماج في اقتصاد السوق العالمي وما إلى ذلك.
لذلك ليس من السهل القول إن سارتر كان مع نظرية حقوق الإنسان مطلقا، ولا ضدها تماما. ويجب ذكر نقطتين حاسمتين
يمكن القول إنه على الرغم من أن سارتر وناشطي العالم الثالث قد ناشدوا حقوق الإنسان في مطالبهم المتعلقة بالمساواة والكرامة الإنسانية، فإن تاريخ الإعلان العالمي لحقوق الإنسان يبيّن أنه في البداية كانت حقوقه مكتوبة من أجل الدفاع عن المواطنين الأوروبيين ضد إرهاب النازية، وليس للدفاع عن غير الأوروبيين ضد الاستعمار الأوروبي.
ترجمة سارة المصري
هذا التقرير مترجم عن Philosophy Now ولا يعبر بالضرورة عن موقع ميدان. | https://www.aljazeera.net/culture/2020/10/28/%d8%a7%d9%84%d9%81%d9%8a%d9%84%d8%b3%d9%88%d9%81-%d8%a7%d9%84%d9%81%d8%b1%d9%86%d8%b3%d9%8a-%d8%b3%d8%a7%d8%b1%d8%aa%d8%b1-%d8%b1%d9%81%d8%b6-%d8%a7%d8%b3%d8%aa%d8%b9%d9%85%d8%a7%d8%b1 | null | 2024-05-13T11:39:58 | أبعاد |
|
18 | أخلاق الصائمين في نهار رمضان.. كيف نفهم سرعة الغضب؟ وكيف نضبط أنفسنا؟ | الفجوة بين الواقع وبين النصوص الدّينية مُتّسعة، وسلوكيات النّاس في نهار رمضان أقرب لأن تنقسم إلى اتّجاهين: حالة من التأهّب والحساسية العامّة وعدم الصبر أو حالة من الكسل والخمول المُفرِط.. فما القصة؟ | يبدأ شهر رمضان الكريم، فتتغيّر ساعات الدوام في الجامعات والوظائف والمؤسّسات مراعاةً للصائمين. أنتَ صائم والمُعظَم من حولك كما هو المفترض صائمون، ولعلّك سمعت كثيرًا عن أهمّية الصيام لتهذيب النفس وبناء الأخلاق الحسنة وتحسين السلوك، لكنّك حين تقود سيارتك في نهار رمضان، تجدّ النّاس متوتّرة وسريعة الانفعال، يصعب أن تتحدّث مع الآخرين، كما يصعب أن يسمحوا لك بالمرور من أمامهم أثناء القيادة، فالجميع صائمون، وهُم ليسوا بمِزاج جيّد قبل الإفطار، ويجب أن تَعي أنتَ كذلك، وعلى الجميع أن يُراعي الجميع إذ لا أحد يشعر بأنّه على ما يُرام، والجميع يشعر باستحقاق وبضرورة معاملته معاملة خاصّة؛ لأنّه صائم.
تشعر بالتناقض، فالفجوة بين الواقع وبين النصوص الدّينية مُتّسعة، وسلوكيات النّاس في نهار رمضان أقرب لأن تنقسم إلى اتّجاهين رئيسيين حالة من التأهّب والحساسية العامّة وعدم الصبر أو حالة من الكسل والخمول المُفرِط والتململ الدائم والشكوى المتكرّرة، فإمّا أن تحتدم المشكلات وإمّا أن يتمّ تأجيل المهام الجدّية والتقصير في أدائها، وكلّ هذا يتم تعليقه على ظرف الصيام، هذه الشعيرة المباركة والطيّبة.
لماذا يحصل هذا التناقض في سلوكيات الصائمين؟ وكيف يُهذّب الإيمان والأخلاقيات التي يُوصي بها من سلوك الناس خلال الصيام؟ وكيف يُمكِن للصيام أن يرفع من قدرة الإنسان على ضبط نفسه والسمو به وتحسين سلوكه؟ هذا ما سيستعرضه المقال عبر تناول دراسات حديثة من حقل علم النفس الدّيني والأخلاقي والتي تتبّع أثر الصيام على السلوك، وعلى تنمية عضلات الأخلاق الإيمانية للصائمين.
لفترة طويلة ظلّ نقاش السلوكيات الأخلاقية مقتصرًا على علوم الدّين والفلسفة، وكانت نقاشات التصرّفات الأخلاقية للبشر تغرق في فضاء نظري مع بعض الشواهد الواقعية هنا وهناك. لكنّ القرن الأخير شهد ثورة علمية في حقول معرفية جديدة متعدّدة التخصّصات، مثل علم النفس المعرفي وعلم النفس السلوكي وعلم النفس الديني وكذلك علم النفس الأخلاقي والعصبي، والتي صارت تدرس السلوك الأخلاقي بطرق تجريبية وعلمية ترصد وتتبّع التصرّفات البشرية الأخلاقية وتفسّر أسبابها ودوافعها وجذورها.
هناك عدّة عوامل تُساهم في تشكيل السلوك الأخلاقيّ للإنسان، منها العوامل المعرفية كالمعتقدات، والعوامل الاجتماعيّة كالعادات والتقاليد، والعوامل الثقافيّة كمنظومة القيم، والعوامل الاقتصاديّة كالفقر والغنى، والعوامل البيولوجيةالثقافية مثل درجة الشعور بالتقزّز والاشمئزاز، وكلّ هذه العوامل تجتمع معًا عند كلّ فرد فتُحفّز السلوك الأخلاقي أو تكبحه. ومن بين هذه العوامل المختلفة نلتمس الحديث هنا عن العامل البيولوجيّ والنفسي في حالة الصيام، وعلاقته بظهور السلوك الأخلاقيّ لدى الصائم.
تشير بعض النتائج والروابط العلميّة عن وجود علاقة وثيقة بين ضبط النفس ومستوى الجلوكوز في الدم إذ بحسب عالم النفس والبروفيسور ماثيو جيليوت في بحثه الشهير فسيولوجيا قوة الإرادةعلاقة الجلوكوز في الدم بضبط النفس 1 فإنّ الجلوكوز أو سُكّر الدم هو المصدر الأساسي للطاقة في عمليات البناء في الخلايا، وبانخفاض كميات الجلوكوز -نتيجة الصيام مثلًا- تقلّ قدرة المرء على ضبط نفسه والسيطرة على انفعالاته، والعكس صحيح.2
ولهذا تجد أنّ الإسلام على سبيل المثال شديد التركيز على ضرورة التحلّي بالحِلم والصبر والأخلاق الحسنة خلال فترة الصيام، وتشديده الدائم على أنّ اكتمال أجر الصائم لا يكون إلّا من خلال السلامة الأخلاقية للصائم امتثالًا لقول النبيّ الكريم وإذا كان يوم صوم أحدكم، فلا يرفث ولا يصخب، فإن سابّه أحد أو قاتله فليقل إنّي امرؤ صائم.3 وكأنّه يتفهّم أنّ الوضع الفسيولوجيّ للجسد تحت حالة الصيام يجعله أكثر عرضة للانفعال وأنّ الارتقاء الروحيّ للإنسان يكون أفضل ما يكون حين يُقاوم الإنسان هذه الجاهزية الجسدية للغضب ويتفوّق عليها ويسمو بنفسه عبر التحلّي بالأخلاق الحميدة وإلزام نفسه بعدم الإساءة لأي أحد خلال صيامه.
يلاحظ كثير من المسلمين زيادة في معدلات الغضب، والتشاجر بين الناس في شهر رمضان، وهذا ما تثبته بعض الدراسات من ارتفاع معدلات الحوادث ومراجعة أقسام الطوارئ في البلاد الإسلامية أثناء شهر رمضان 4 5 ،وقد يستنتج القارئ لأوّل وَهلة أنّ هذه الدراسات تُحاول تشويه الصيام وثني النّاس عن هذه الشعيرة العظيمة، أو قد يستشكل المسلم حين يرى نتائج هذه الداراسات تُظهِر تعارضًا ظاهريًا مع أحاديث صحيحة في السياق الإسلاميّ تُخبر بأنّ الشياطين تُصفّد في شهر رمضان الكريم وتعجز فيه عن إغواء المسلمين وفتنتهم فما هو السبب خلف هذه الحوادث ونوبات الغضب؟ تحاول هذه المقالة الإجابة عن هذا التساؤل من خلال التفكير في علاقة غياب السكّر وأثره على ضبط النفس في رمضان
بداية من المتفق عليه أنّ معظم الأديان تحثّ أتباعها من الناحية السلوكية على المُعاملة الحسنة وتشجّع على ضبط النفس، وفي السياق الإسلامي نجد بأنّ الإسلام أولى أهمية فائقة لمفهوم الصبر، الذي يتحدد في تعريفات العلماء المسلمين بحسب الراغب الأصفهانيّ بأنّ الصبر هو حبس النفس على ما يقتضيه العقل والشرع6، فقد وردت مشتقات الجذر صَبَرَ في القرآن الكريم أكثر من مئة مرة، وتكرر الأمر بالصبر والحث عليه عشرات المرّات، ويحكي القرآن الكريم عن محبة الله للصابرين، والصبور من صـفات الله وأسـمائه الحسـنى6، وللصبر علاقة وثيقة بالعبادات التي يدعو إليها الإسلام، خاصة الصيام، أحد أركان الإسلام الخمسة، وفي ذلك يقول محمد رشيد رضا في تفسيره لمّا جاء على ذكر آية الصوم ... لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ .
هذا تعليل لكتابة الصيام، ببيان فائدته الكبرى وحكمته العليا، وهو أنه يعدُّ نفس الصائم لتقوى الله -تعالى- بترك شهواته الطبيعية المباحة الميسورة؛ امتثالاً لأمره، واحتسابًا للأجر عنده، فتربَّى بذلك إرادته على مَلكة ترك الشهوات المحرَّمة، والصبر عنها، فيكون اجتنابها أيسر عليه، وتَقوى على النهوض بالطاعات والمصالح، والاصطبار عليها، فيكون الثبات أهون عليه؛ ولذلك قال -صلى الله عليه وسلم- الصيام نصف الصبر، وقال سفيان بن عيينة الصوم هو الصبر، يصبر الإنسان على الطعام والشراب والنكاح، ثم قرأ إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب 7
يدرس علم النفس الحديث ظاهرة الصبر تحت مسمى ضبط النفس Self-Control، والنموذج العلمي المتداول اليوم في حقل علم النفس يُشبّه الصبر بالعضلة8 أو ما يسميه البعض بـ العضلة الأخلاقيّة moral muscle 9 ووفقا لهذا النموذج فلكل إنسان مقدرة معينة من الصبر تماما كما لعضلات جسمه قدرة تحمّل مُعيّنة، وكما تنضب قدرة العضلات خلال القيام بالمهمات الشاقّة، فإنّ مصادر الصبر عند الإنسان تنضب وتنفذ أيضًا، حين يستنزف نفسه بأداء مهمات شاقة متعددة.9
ولهذا النموذج وجه مشرق، فمن المعلوم لمن يمارس رياضة كمال الأجسام وبناء العضلات أن تعريض العضلة لمهام شاقة -حتى تكاد تبلغ درجة الإجهاد- شرط أساسي في تحقيق نموها، ويلاحظ هنا أن الجهد الذي أفشل العضلة في التمرين الأول يصبح غير قادر على إفشالها لاحقا، ولا بد من بذل جهد أكبر حتى تبلغ العضلة مرحلة الفشل، وهذا الأمر يطبقه علم النفس الحديث على الصبر، فعضلة الصبر تنمو مع التمرين تماما كما تنمو عضلات الجسم.
الصيام إذًا يقلل كميات الجلوكوز في الدم فتنخفض المقدرة على ضبط النفس أو الصبر ولكن يبرز هنا تساؤل مثير هل شرع الصيام لتقليل الصبر أم لزيادته؟
للإجابة عن هذا التساؤل نعود مرة أخرى للنموذج العضلي ورياضة كمال الأجسام، إن إحدى الطرق المعروفة في تنمية قوة العضلات هي وضعها في تمرين تنفرد العضلة بأدائه، وهذا يعني أن تواجه العضلة وحدها المهمة الشاقة دون مساعدة من العضلات الأخرى، ولتحقيق هذا الأمر يتم تصميم معدات خاصة وأوضاع معينة، وهذا تماما ما يقوم به الصيام فعندما يقل مستوى الجلوكوز في الدم وتتراجع القدرة على ضبط النفس، تواجه عضلة الإيمان الدينيّ وحدها المهمة الشاقة، ويبدأ تمرينها القاسي، ويستمر هذا التمرين طوال شهر رمضان الكريم، ومع نهاية الشهر الفضيل تكون عضلة الإيمان قد نمت لتواجه عامًا كاملًا من الابتلاءات حتى عودة رمضان مرة أخرى.
توقّع بعض علماء الاجتماع وجود علاقة إيجابية بين الدين وضبط النفس بسبب معتقدات ما بعد الحياة، حيث يبدو من المنطقي لمن يؤمن بوجود حساب أخرويّ على أفعاله الدنيوية أن يظهر مقاومة أكبر أمام المغريات الدُنيوية. كما يعتقد بعض الباحثين أن الإيمان بالعقاب والثواب يعزز الإيمان بالإرادة الحرة، الذي بدوره يعزز من ضبط النفس. الدراسات التي استقصت العلاقة بين الدين وضبط النفس تقترح أن آلية تعزيز الدين لضبط النفس هي من خلال تعزيز المراقبة الذاتية الناتجة عن الإيمان بالثواب والعقاب.
في العقد الأخير وجدت هذه التوقّعات النظرية مصداقًا تجريبيا عبر دراسات عديدة في علم النفس تُؤكّد وجود علاقة إيجابية بين الدين و ضبط النفس. فقد أجرى فريق بحثي في علم النفس10 ثلاث دراسات تؤكد أن تذكير المشاركين طلاب جامعيون بالله يزيد من مقاومة المغريات الآنية، ففي واحدة من هذه الدراسات وُزع المشاركون عشوائيا على ثلاث مجموعات، مجموعة ذكرت بالله، ومجموعة ذكرت بأفكار إيجابية، ومجموعة حيادية ضابطة لَم تُذكّر بأي شيء، فكانت النتائج أنّ المجموعة التي ذكرت بالله قللت من كمية الطعام السريع أكثر من المجموعتين الأخريين، وفي الدراسة الثانية، قُسِّم المشاركون إلى مجموعتين، مجموعة ذكرت بالله ومجموعة حيادية ضابطة، المجموعة التي ذكرت بالله استهلكت كمية أقل من الطعام غير الصحي.
أمّا في الدراسة الثالثة لسلسلة الدراسات السابقة، فقد أظهرت النتائج أنه في المجموعة التي ذكرت بالله يزداد تقريرهم لمقاومة المغريات مع زيادة اعتقادهم بأن الله يراقب وعالم بكل شيء. هذه الدراسة تدعم مقترح أن التفاوت بين الأفراد في مفهومهم الإدراكي الديني حول العقاب على المعصية وآلية حدوثه قد يؤدي إلى درجات متفاوتة من ضبط النفس، إذ أن التذكير بالإله العالم بكل شيء والقادر على إنزال عقاب شديد قد يكون له تأثير مختلف عن التذكير بالإله العالم بكل شيء والذي يُحجِم عن إنزال عقوبة شديدة فورية بأصحابه.10
في دراسة أخرى11 أكدت النتائج وجود علاقة إيجابية بين الدين وضبط النفس، حيث وُجدِ أنّ المجموعة التي ذُكّرت بالدّين ووصاياه أظهرت مستوى أعلى من ضبط النفس الامتناع عن شرب مشروب مكروه مقارنة مع المجموعة الحيادية. وقد وجدت تجربة لاحقة لنفس الدراسة، أنّ المجموعة التي تعرّضت لتأثير الدين ضمنيًا والتذكير غير المباشر بتعاليمه، أظهرت مستوى أعلى من تأخير الإشباع مقارنة بالمجموعة الحيادية الضابطة حيث فضّل معظمهم الحصول على أجر أكبر مؤجل عوضًا عن أجر أقل عاجل.
وحتّى يتمّ التحقّق من قابلية عضلة ضبط النفس للتقوية أو الاستنزاف فقد قام الفريق البحثي نفسه بإجراء تجربة، طلبوا منهم طباعة نص بشرط حذف حرفي E و S حيثما حلّت هذه الحروف وهي طريقة لدراسة قدرة الإنسان على كبح اندفاعيته وضبط نفسه من الاندفاع ومدى قدرته على السيطرة على نفسه ثم وزعت هذه المجموعة إلى مجموعتين إحداهما تعرضت لتذكير ضمني بالدين والأخرى تعرضت لتأثير محايد، ثم طلب من المجموعات حل ألغاز هندسية، النتائج أظهرت أن المجموعة التي تعرضت للتذكير الضمني بالدين أظهرت مستوى أعلى من ضبط النفس عن طريق مقارنة مقدار الوقت المُستَغرَق في محاولة حل اللغز. كما لم يجد الباحثون فرقًا بين المجموعة التي لم تتعرض لمهمة الإنضاب والمجموعة تعرضت له ثم ذكرت بالدين. وهذا دليل على أن الدين يشحن مصادر ضبط النفس.11
في دراسة طويلة المدى12 تتبّعت أكثر من ألف مراهق لمدّة تزيد على سنتين، خلال فترة تتبع الباحث للمشاركين قام بقياس كل من ارتكابهم للجرائم، وتدينهم، ومستوى ضبط النفس. نتائج الدراسة تشير إلى أن زيادة التدين لدى المشاركين أدت إلى زيادة ضبط النفس وتقليل السلوكيات الإجرامية، التحليل أثبت أيضا أن ضبط النفس لا يمكنه أن يتنبأ بالتدين ولكن العكس صحيح أيّ أنّ الديّن يُمكنه التنبّؤ بقدرة المرء على ضبط نفسه. لم توضّح هذه الدراسة آلية تأثير الدين في ضبط النفس، لكنّ الباحثين يقترحون أن الخوف من العقاب الإلهي قد يكون إحدى التفسيرات الممكنة.
يُضاف إلى هذا، دراسة أخرى طويلة المدى،13 قامت بقياس أثر الدين في استخدام المواد المخدرة الكحول، التبغ، ميرجوانا بين المراهقين. شارك في الدراسة 106 مشارك تتراوح أعمارهم بين 10 و13 سنة، جميع المشاركين لم يكونوا من مستخدمي المواد المخدرة عند بداية الدراسة، بعد سنتين وأربعة أشهر، جمعت بياناتهم حول استخدام المواد المخدرة، فأثبت التحليل المساري أنّ التدين الشخصي تذكّر الله واستحضاره يرتبط عكسيًا باستعمال المواد المخدرة، وأنّ تأثير زيادة التدّين على انخفاض استعمال المخدّرات يتمّ من خلال عامل وسيط هو ضبط النفس. حيث يعتقد الباحثون أنّ تأثير الدين في ضبط النفس يتمّ من خلال آلية المراقبة والثواب والعقاب التي تجعل الأفراد واعين لتبعات سلوكهم.
أخيرا، فمن المدهش أنّ الدراسات14 وجدت أنّ المجرمين الذين لا يمارسون الصبر أو ضبط النفس يقومون بتحريف المعتقدات الدينية كي يبرّروا أفعالهم فقد قام فريق بحثي14 بدراسة المعتقدات الدينية لمجرمي الشوارع الخطرين، حيث اتّبعت الدراسة منهجية كيفية، أجرى فيها الباحثون مقابلات مع المجرمين، وتوصّلوا إلى نتائج مُثيرة للتعجّب، حيث تشير النتائج إلى أنّ المجرمين الذين يحملون معتقدات حول الثواب والعقاب الأخروي تدفعهم للإقدام على المزيد من المخاطر الإجرامية حيث يقوم المجرمون بتحريف المعتقدات الدينية كي تساعدهم على مواجهة الخوف من الموت وتشجعهم على الإجرام، فعلى سبيل المثال، أخبر الباحثون مجرمًا متهمًا بالقتل 33 عاما أن عقوبة القتل المتعمد هي الخلود في جهنم، فكان ردّه
لا، لا، لا، أنا لا أعتقد بأنّ عقوبة القتل المتعمّد هو الخلود في جهنّم. أعني، أي شيء يمكن أن يُغفَر. نحن نعيش في الجحيم الآن ويمكنك أن تفعل أي شيء القتل في الجحيم. وعندما ينتهي هذا كله.. سنذهب إلى هناك إلى الجنة. فقط الشيطان هو مَن سيعيش في الجحيم إلى الأبد. أمّا الله، فإنّه يغفر للجميع، حتى لأولئك الذين لا يؤمنون به
لعلّ هذه المقاربة من علم النفس تُساعدنا على فهم الصبر وضبط النفس كمهارة يُمكِن تطويرها لدى الإنسان، والمُفارقة في هذه المقاربة هي أنّ تدريب نفسك بالامتناع عن إشباع رغباتها الفسيولوجية واليومية والروتينية، يُساعدها أن تكون أكثر انضباطًا تجاه أمور سلوكية واجتماعية في مجالات أخرى من حياة المرء. وقد تنبّه علماء المسلمين لهذه المفارقة اللطيفة منها على سبيل المثال ما ذكره الإمام أبو حامد الغزالي في كتابه إحياء علوم الدّين لا يمكن إصلاح القلب لسلوك طريق الآخرة ما لم يمنع نفسه عن التنعّم بالمباح، فإنّ النفس إذا لم تُمنَع بعض المباحات طَمِعَت في المحظورات.15
وقد ورد في السيرة النبوية16 أنّ الأنصار عقب معركة حنين وجدوا في أنفسهم شيئًا تجاه توزيع النبي صلى الله عليه وسلم- الغنائم، وحين بلغ ذلك النبي خاطبهم قائلًا أوجدتم يا معشر الأنصار في أنفسكم في لُعاعة من الدنيا تألفت بها قوما ليسلموا، ووكلتكم إلى إسلامكم ما أراد قوله النبي لأنصاره من أهل المدينة، أنّكم أهل سابقة، وشهدتم معي المشاهد الكبرى، ومن كان هذا حالهم، لن يكون سبب إسلامهم السلب والغنيمة، خلاف القوم الذين تآلفهم النبي ببعض العطايا والهدايا.16
وليس بعيدًا عن الأنصار والمؤلفة قلوبهم، الصبر عضلة، والصيام هو التمرين الأفضل لتقويتها، لأجل ذلك يجيء رمضان كدورة تدريبيّةٍ قاسية لعضلة الإيمان والصبر، من غير مساندات السُكّر التي تقف وراء بعض الأخلاق، فيقف المسلم حينئذ أمام إيمانه وتقواه وصبره، لا يوكَلُ إلّا إليه.
| https://www.aljazeera.net/sukoon/2022/4/4/%d8%b9%d9%84%d9%85-%d9%86%d9%81%d8%b3-%d8%a7%d9%84%d8%b5%d9%8a%d8%a7%d9%85-%d9%83%d9%8a%d9%81-%d9%8a%d9%8f%d8%b3%d8%a7%d8%b9%d8%af%d9%86%d8%a7-%d8%a7%d9%84%d8%a5%d9%8a%d9%85%d8%a7%d9%86 | 2022-04-04T13:12:29 | 2024-06-06T11:49:57 | أبعاد |
|
19 | أبو عبيدة والبلاغة من فوهة البندقية | في عصر يتسابق فيه الجميع وراء الشهرة، جاءت النجومية الكاملة إلى ذلك المُلثَّم، الذي تصاعدت شعبيته مع بداية الحرب بطول العالم العربي كله، رغم أن أحدا لا يعرف وجهه الحقيقي. | بعد 471 يوما من حرب الإبادة الجماعية على قطاع غزة، يخرج الناطق باسم كتائب القسام، أبو عبيدة، بعد سريان اتفاق الهدنة ليلقي كلمة تلخيصية يُجمل فيها تأثيرات طوفان الأقصى على إسرائيل أولا وعلى الإقليم والعالم من ورائه. وبعد كل تلك المدة، وحجم الدمار الهائل الذي قتل البشر، ودمر الحجر والشجر، خرج أبوعبيدة وكأنه في أيام المعركة الأولى، مسنودا بصور ولقطات سبقت خروجه من خروج مقاتلي فصائل المقاومة لشوارع القطاع والتفاف الجماهير حولهم.
وفي السياق ذاته، طرح الباحث السياسي والإستراتيجي سعيد زياد على قناة الجزيرة في تعقيب له على الكلمة أن هذا الخطاب حمل نبرة دافئة موجّهةً لحاضنة المقاومة في غزة، وخطابا حازما موجّها لإسرائيل، وخطابا شاكرا موجّها لكل من وقف مع فصائل المقاومة في هذه المعركة.
أما المفارقة، أن الترقب لخطابات أبو عبيدة لم يخفت بريقه طوال المعركة، وكان لحديثه الأثر ذاته الذي اعتاد أن يتركه في مستمعيه منذ بداية الحرب كما يمكن لأي متابع أن يلحظ أصداء ما يقوله في حجم الترقب الشعبي والتفاعلات على مواقع التواصل.
ويبقى السؤال القديم المتجدد، هو كيف استطاعت أيقونة أبي عبيدة أن تظل راسخة وقادرة على التأثير إلى هذا الحد حتى بعد كل هذا الدمار الذي تسببت فيه آلة الإبادة الصهيونية؟
قبل أكثر من 66 عاما، في السابع من أكتوبرتشرين الثاني عام 1957، كانت القوات المظلية للاحتلال الفرنسي في الجزائر، التي اشتهرت بقسوتها المفرطة، قد اكتشفت أخيرا مخبأ بطل الثورة الجزائرية المقاوم علي لابوانت الذي دوَّخ الاستعمار. مباشرةً، وفي اليوم التالي، توجَّهت القوات الفرنسية نحو المنزل الذي كان يختبئ فيه رفقة مقاومين آخرين، وطلبت منه الاستسلام مقابل حياته.
علي، الذي كان قد خطَّ وشما على جسده يقول تقدَّم أو مُت، رفض نداء جنود الاستعمار وفضَّل الموت مقاوما على الاستسلام، فنسفت القوات الفرنسية المنزل بأكمله وأردته شهيدا مع رفاقه. استشهد علي وهو مُصنَّف آنذاك إرهابيا من قبل الفرنسيين، وانضم إلى ركب أكثر من مليون ونصف مليون شهيد قدَّمتهم الجزائر على مدار أكثر من مئة عام في مقاومة الاستعمار الفرنسي.
لم يكن علي يعرف حين فضَّل الموت على الاستسلام أنه بعد عام واحد من استشهاده، سترضخ فرنسا وسيعلن زعيمها آنذاك شارل ديغول في يونيوحزيران 1958 عن رغبة فرنسا في المصالحة مع الشعب الجزائري والتفاوض مع المقاومين.
ولم يكن علي ليتخيل أنه بعد أقل من 10 سنوات سيختار المخرج الفرنسي جيلو بونتيكورفو أن يحكي قصة الثورة الجزائرية من خلال قصة حياته، في واحد من أشهر الأفلام عالميا معركة الجزائر، وأنه في كل مرة ستخرج فيها المظاهرات في الجزائر على مدار العقود اللاحقة ستُرفَع صورة علي لابوانت هاتفة بأنها تريد الجزائر التي حلم بها علي وضحى لها شهيدا. هكذا هُم المقاومون من أجل قضايا التحرر الوطني العادلة، كلما أُمطِروا بالرصاص؛ علا ذكرهم بين الناس.
اليوم، نرى مشهدا مماثلا، فبينما تُصنف الدول الكبرى حركات المقاومة الفلسطينية باعتبارها منظمات إرهابية، وبينما تستعِر حرب الإبادة الإسرائيلية على قطاع غزة، نرى أفئدة الناس تهوي إلى فلسطين، ليكتب الناس عربا وعجما على صفحاتهم الشخصية في وسائل التواصل الاجتماعي عن حبهم للمقاومة وتقديرهم لرجالها.
كان الحب والشوق يفيضان من الشارع في انتظار معرفة أول مقاوم كي يصب عليه الناس كل هذا التقدير. وبينما جلست الجماهير تنتظر رسول المقاومة، جاء أبو عبيدة، المتحدث العسكري باسم كتائب الشهيد عز الدين القسام، الجناح العسكري لحركة المقاومة الإسلامية حماس، ناقلا أخبار صمود المقاومة وانتصاراتها، فتحوَّل من متحدث إعلامي باسم حركة مسلحة، إلى رمز لكل مقاوم؛ إذ نجد صورته في مواقع الأخبار وعلى حسابات التواصل الاجتماعي وفي الغرافيتي في الشوارع وحتى في ساحات أرقى جامعات العالم.
قبل السابع من أكتوبرتشرين الثاني 2023 كانت القضية الفلسطينية قد تأخرت على سلم أولويات العالم، إذ كانت اتفاقات التطبيع تجري على قدم وساق مع إسرائيل، وكانت الولايات المتحدة الأمريكية قد بدأت تأخذ خطوات في السنوات الأخيرة لإتمام صفقة تقضي على حقوق الفلسطينيين، بعد أن تراجعت حتى عن موقفها التاريخي بخصوص مدينة القدس ونقلت سفارتها من تل أبيب إلى القدس، اعترافًا منها بأحقية جيش الاحتلال بالمدينة.
وفي عصر يلهث فيه الجميع وراء الشهرة، جاءت النجومية الكاملة إلى ذلك الرجل المُلثَّم، الذي أصبحت شعبيته مع بداية الحرب -من دون منافس- بطول العالم العربي كله، رغم أن حدا لا يعرف وجهه الحقيقي وربما لن يعرفه أبدا، باستثناء أفراد قليلين من قادة المقاومة في غزة. فالرجل الذي يمشي بين الناس في القطاع بوجهه من دون أن يتعرف عليه أحد، يبدو في نظر الكثيرين مثل الأبطال الخارقين الذين يعيشون حياة عادية في الصباح، قبل أن يرتدوا أقنعة تخفي هوياتهم في المساء ليحاربوا أشرار المدينة، دون أن يرى الناس وجوههم الحقيقية، لكنهم يرون آثارهم فقط.
رأت الشعوب العربية مع اندلاع الحرب في أبي عبيدة ناطقا باسمها هي أيضا، إذ صعد نجم الرجل حتى صار انتظار خطاباته طقسا أساسيا في البلاد العربية، مع ارتباط عاطفي واضح به، تحوَّل معه إلى الأيقونة الأشهر للحرب منذ بدايتها.
ففي مصر كُتِبَت لأبي عبيدة أغان شعبية، وفي الأردن توقف الشباب في الصالات الرياضية عن أداء التمارين لمتابعة خطاباته وأذاعت المساجد خطاباته بمكبرات الصوت، وفي لبنان أُضيف اسمه إلى أسئلة الامتحانات في المدارس، كما انتشرت صوره في شوارع بيروت وقد كُتب عليها الناطق باسم الأمة، وتنافس الأطفال في الجزائر على تأدية دوره في مسرحياتهم وألعابهم.
وفي تركيا صار تقليد أبي عبيدة لعبة مفضلة للأطفال فضلا عن تعليق صوره في المقاهي. وقد انتشرت الصور على مواقع التواصل الاجتماعي لأطفال من مختلف البلدان العربية وهم يتابعون خطاباته أو يقلدونه، وكذلك صور أخرى لمسنّين يقفون بإجلال رغم مرضهم وهم يُشاهدون خطابه احترامًا له.
أصبح أبو عبيدة أيقونة عربية، ومع ذلك تجاهل الإعلام الغربي ظاهرته عن عمد، فليس من الممكن أن تفوِّت الصحافة الأمريكية والأوروبية مناقشة ظاهرة شديدة الحضور مثل أبي عبيدة. وربما كان هذا تعلُّمًا من خطأ المؤسسات الإعلامية الكبير في تحويل الأيقونة الثورية اليسارية تشي جيفارا إلى رمز يغزو الثقافة الغربية في كل أرجائها، ويُستحضَر عند أي غضب أو انتقاد للرأسمالية والعولمة.
ويشرح أستاذ القانون في جامعة ولاية أريزونا خالد بيضون، أن العالم في ظل الهيمنة الأميركية قد تم تكييفه على أساس التطبيع مع موت المسلمين، بينما يُنظر فيه إلى أي معاناة تلحق بالبيض بوصفها وضعا شاذا وغير مقبول، ومن ثم فحتى أعمال المقاومة والتحرر الوطني والبطولة، وإن اتسمت بكل الشرعية الأخلاقية، دائما ما يُنظَر إليها بريبة وخوف إذا قام بها مسلمون.
ويُذكِّرنا بيضون بما قاله رموز حركة النضال المدني في الولايات المتحدة مثل جيمس بالدوين ومالكوم إكس من أن العنف والبطولة يترادفان في اللاوعي الأميركي، إلا عندما يتعلق الأمر بالسود. فالعنف يُبرَّر باعتباره عملا بطوليا عندما تمارسه أجساد بيضاء جدير بالذكر هنا مثلا المقاومة الأوكرانية، بينما تُحرَّم البطولة على الأجساد السوداء والمسلمة حتى حين يسعون لتحقيق أهداف عادلة.
ولذا فإن التعريف المفاهيمي الغربي في حالة المسلمين لا يكون بالفعل وإنما بالذات التي صاغها الغرب من خلال قوالبه مسبقا، فالمُلوَّن ليس بطلا مهما كانت عدالة قضيته، والمسلم ليس له بريق مهما كانت كاريزميته. ومن ثَمّ يكون الصمت الإعلامي الغربي عن ظاهرة أبي عبيدة مفهوما. فماذا سيقولون عنه للجماهير؟ هل سيقولون إنه شخص مجهول اكتسب شعبية جارفة في العالم العربي لأنه يتحدث باسم المقاومة المسلحة ضد احتلال بلاده؟
لاحظ هنا أن قناع أبي عبيدة والجهل بهويته يُصعِّب على الإعلام الغربي ما يقوم به عادة، إذ اعتاد أن يُقدِّم قادة المقاومة على أنهم يعيشون في الخارج بينما يموت الناس في غزة، لكنه لا يذكر أبدا أن أبناءهم يموتون في القطاع مثل بقية سكانه، كما يتجاهل الإعلام الغربي أيضا ذكر الأسباب الموضوعية لوجود هؤلاء القادة في الخارج.
ولكن في حالة أبي عبيدة سيكون من الصعب استغلال أنصاف معلومات لبناء سردية مضادة تَحُول بين المشاهد أو القارئ وبين فهم الطبيعة العميقة للصراع، ومن ثَمّ فمن السهل أن يتحوَّل الملثم، الذي يجهل الناس هويته أصلا، إلى رمز للبطولة في وجه الإمبريالية.
لنعُد هنا إلى الحديث عن صمود رمز أبي عبيدة طوال تلك الشهور بما فيها من آلام وليالٍ حالكة. بعد 10 أيام فقط من حرب الإبادة الجماعية التي شنها جيش الاحتلال على سكان غزة، كان حجم ما ألقته من متفجرات على القطاع يوازي ربع قنبلة نووية، وبحلول نهاية أبريلنيسان، كان عدد ضحايا حرب الإبادة قد تعدى 35 ألفا.
ولتوضيح الأمر لنا أن نعرف أن اليابان في الحرب العالمية الثانية، التي تزيد مساحتها على مساحة غزة بنحو ألف ضعف، استسلم نظامها الشرس بعد إلقاء قنبلتيْن نوويتيْن، أما المقاومة الشعبية في بلد محروم من السيادة الحقيقية، وفي جيب جغرافيّ صغير مُحاصر، فلا تزال صامدة رافضة للاستسلام ومدافعة عن الحق التاريخي لشعبها لا عن نظام حُكم.
لقد كان منطقيا أن يكتسب أبو عبيدة كل هذا الزخم في الشارع العربي في بداية طوفان الأقصى، فالنجاح الذي تحقق في العملية جعل القلوب ترتبط بالمقاومة، لكن الغريب أن أبا عبيدة لا يزال رمزا حتى اللحظة بعد كل التضحيات التي قدَّمها الفلسطينيون.
فلا يزال بكلمة الأردن منا ونحن منه قادرا على تحريك الشارع في الأردن وإعطاء زخم مختلف للمشهد السياسي، بل وقد التقطت صور في العاصمة الأردنية لحفل خطوبة توقف فيه الأهل والضيوف عن الاحتفال ليستمعوا إلى كلمة لأبي عبيدة عبر مكبرات الصوت. وفي العاصمة العُمانية مسقط التُقطت صور لشباب تجمعوا قرب مسجد السلطان قابوس ليستمعوا إلى الخطاب، فضلا عن مشاركات لا حصر لها على وسائل التواصل الاجتماعي في العالم العربي.
أصبح واضحا أن أبا عبيدة صار رمزا معبرا عن صوت المقاومة لم تكسره قوة تفجيرية تجاوزت ثلاث قنابل نووية، ولا يزال قادرا حتى بعد كل تلك التضحيات والليالي الحالكة على حشد اهتمام العالم العربي. لقد تهيأت الظروف لتجعل التواصل الإعلامي من خلال أبي عبيدة الأنجح على الإطلاق في تاريخ تواصل الجيوش مع شعوبها في العالم العربي، حتى وصل الأمر إلى تحوُّل الناطق العسكري لأيقونة في حد ذاته تمثل قيم المقاومة والكرامة والاستقلال.
مشاهدة جماعية لخطاب أبو_عبيدة في أحد باصات الطلبة في جامعة آل البيت بمدينة المفرق في الأردنالأردن_منا_ونحن_منه pic.twitter.comY6NmMZInzn
رضا ياسين Reda Yasen RedaYasen2021 April 23, 2024
لقد كانت البداية الحقيقية لقصة أبي عبيدة مع الشارع العربي في يونيوحزيران 2006، حين أعلن عن نجاح المقاومة في تنفيذ عملية الوهم المتبدد، التي أدت إلى قتل جنديين من جيش الاحتلال، وجرح اثنين آخرين، وأسر الجندي جلعاد شاليط.
وقد جاء خطاب أبي عبيدة بعد أيام من المقطع المُصوَّر الذي أبكى العَرَب للطفلة هدى التي أخذت تجري بين جثث عائلتها تنادي يا بابا يا بابا على إثر المجزرة التي ارتكبها جيش الاحتلال في شاطئ منطقة بيت لاهيا، واستشهد جرّاءها الأب عيسى غالية وزوجته رئيسة وأبناؤهم الخمسة.
أتى صوت أبو عبيدة الحازم مُعلِنا عن نجاح عملية المقاومة أشبه بعناق مواساة للأمة العربية والإسلامية وإعلان صريح عن أن الكرامة لم تمت، وكأن خطابه يقول للبيت رب وللطفل أب، وتتابعت الأحداث حتى وصلنا إلى حرب السابع من أكتوبرتشرين الثاني 2023 التي تحوَّل معها إلى بطل الجماهير العربية، التي شعرت بأن هذا زعيمها الملهم الحقيقي الذي أرادته ولم تجده منذ سنوات بعيدة.
بمعنى آخر، فإن رمزية أبي عبيدة لا تكمن في أنه متحدث بارع يمتلك ناصية التواصل الإعلامي بقدر ما تكمن في أنه كان تجسيدا في العقل العربي للمقاومين على الأرض ولسانا فصيحا لهم. إن ما جعل أبا عبيدة يكسب كل تلك الشعبية التي لم تكتسبها بالقدر نفسه بعض الكوادر السياسية للمقاومة، هو أن الشعب العربي استشعر في خطابه أنه ليس سياسيا بقدر ما رأى فيه شاعرا يعبر بموسيقى الكلمات عن الملحمة التي يخطها المقاومون في المعارك.
وربما تظهر هنا البراعة الإدارية للمقاومة، فسرعان ما تفهمت المقاومة أن أبا عبيدة قد تحوّل إلى رمز بحد ذاته وليس ناطقا عسكريا فحسب، وقد ارتبطت به الشعوب العربية كما لم ترتبط بأحد من قبل.
ولذا احترمت المقاومة هذه المشاعر العربية فأجادت التعامل مع أيقونة أبي عبيدة، إذ حرصت من جهة على حياته حرصا كبيرا، ومن جهة أخرى حرصت على ألا يتم استهلاكه تماما حتى لا يفقد حضوره معناه، فأصبحت المقاومة تتخير اللحظة المناسبة لظهوره، بحيث يكون ظهوره نادرا فتزيد فاعليته، خاصة أن الكثير من العرب أصبحوا يعتبرونه دواءً قادرا على إشعال الأمل مهما بدت الليالي حالكة.
أصبح أبو عبيدة رمزا مؤثرا إلى حد أبعد بكثير من مجرد كونه الناطق العسكري. فهو أحد أهم المطلوبين في قوائم الاغتيالات لدى جيش الاحتلال، ورغم أن إعلان وزارة الخزانة الأمريكية أثناء هذه الحرب عن إصدار عقوبات بحقه قد أثار سخرية واسعة لأن العقوبات تكون متعلقة عادة بمصادرة وحظر ممتلكات الشخص أو مصالحه داخل الولايات المتحدة، وأبو عبيدة في النهاية رجل اختار أن يعيش وسط الحرب والتضحيات؛ فإن اهتمام واشنطن بإدراجه في قائمة العقوبات يعني انتباهها لأهميته.
جدير بالذكر أن الولايات المتحدة الأمريكية لم تهتم على الإطلاق بإدراج محمد سعيد الصحاف، على سبيل المثال، الذي أدار الحرب من ناحية نظام صدام حسين على المستوى الإعلامي وقت الغزو الأمريكي للعراق، في قائمة المطلوبين لديها ولم تهتم به كشخص ينبغي الانتقام منه أو تعقبه، ووفق روايته الشخصية فقد سلم نفسه للجيش الأمريكي ثم سُمح له بالمغادرة. لكن يبدو أن الأمر مع أبو عبيدة مختلفًا فهو أكثر من مجرد ناطق باسم نظام أو فصيل، وإنما بات رمزا شعبيا للمقاومة.
لا يعرف أحد معلومات وافرة دقيقة عن شخصية أبي عبيدة، فحتى القائد العام لكتائب القسام محمد ضيف، المطلوب الأول لجيش الاحتلال، نعرف بعض تاريخه، ويعرفه الاحتلال الذي اعتقله، وله صور قديمة نادرة. أما أبو عبيدة، فلا تتوفر حتى صور قديمة موثوقة للرجل في بداية حياته. فحين ظهر في البداية وبدأت شعبيته تتسع، تجاهلته إسرائيل، لكنه أصبح مع مرور السنوات من أهم المواضيع التي تتناولها البرامج التلفزيونية الإسرائيلية، وصارت كل خطاباته تُترجَم سريعا في وسائل إعلام الاحتلال.
ومع تزايد اهتمام حكومة الاحتلال بشخصية أبي عبيدة واعتباره أحد أهم المطلوبين في قوائم الاغتيالات لديها بسبب الحرب الإعلامية والنفسية التي يقودها، بدأت تل أبيب تنسج روايتها عنه وادَّعت أنها تعرف اسمه وصورته، كما زعمت أكثر من مرة في أعوام 2008 و2012 و2014 إنها قَصَفت منزله.
تذكر الرواية الإسرائيلية أيضا أن أبا عبيدة ينحدر من قرية نعليا التي احتلها الصهاينة عام 1948، وأن أسرته نزحت بعد النكبة إلى منطقة جباليا شمال شرقي غزة. وقالت الصحافة العبرية عام 2014 إن الرجل إلى جانب عمله القيادي في القسام يستكمل دراساته الأكاديمية في جامعة غزة، إذ يكتب رسالة الدكتوراه بعد أن ناقش رسالة الماجستير في كلية أصول الدين بالجامعة الإسلامية تحت عنوان الأرض المقدسة بين اليهودية والمسيحية والإسلام.
وهي كلها تفاصيل لم تثبت صحتها من أي جهة فلسطينية موثوق بها، وربما تكون جانبا من محاولة إعلام الاحتلال نسج روايات لقدرتها النافذة على الوصول إلى معلومات عن رجال المقاومة، من دون أن يكون ذلك صحيحا فعلا. وسواء صحت المعلومات المتناثرة عن أبي عبيدة أو لا، فلن يتغير تعلُّق الجماهير به، النابع من كونه صوت المقاومة الذي امتزج بوجدانهم وأحيا آمالهم في الحرية والكرامة.
وقد عوَّدناكم عبر تاريخنا أننا الأكثر مصداقية ووضوحا من حكوماتكم.
أبو عبيدة مخاطبا الإسرائيليين.
أولت المقاومة الفلسطينية منذ عام 2005 أهمية متزايدة للدور الإعلامي. وقد اهتمت كتائب القسام منذ وقت مبكر بإنشاء دائرة الإعلام العسكري وقطعت أشواطا كبيرة في هذا الصدد، سواء بتطوير المحتوى وصياغته، أو بالتطوير التقني وتصوير العمليات العسكرية وغير ذلك. فقد خصصت القسام ميزانيات للإعلام، وقامت بتدريب كوادر إعلامية في معاهد تدريب محلية ودولية، كما شدَّدت على أهمية الإعلام في ميثاقها التأسيسي، وقالت إن الإعلام والفن أداتان شديدتا الأهمية للتوعية بالقضية الفلسطينية.
وقد اختار إعلام القسام العسكري منذ بداية طوفان الأقصى أن تكون سمته هي الدقة والمباشرة والإيجاز، وهذا ما جعل ظهور الناطق العسكري أبي عبيدة أمرا منتظرا، لأن ظهوره يعني أن الحاجة قد اقتضت ذلك.
ولعل من الأسباب التي منحت أبا عبيدة كل هذه الشعبية، أنه لم يظهر بصفة سياسية على الإطلاق، وكان هذا خيارا ذكيا من المقاومة. فبينما تُجبِر الضرورة القادة السياسيين أحيانا على إعطاء رسائل متضاربة، أو حتى تغيير نبرات أصواتهم، اختارت المقاومة أن يكون أبو عبيدة دائما صوتا عسكريا فقط، لا يذكر ما قد يُفرِّق صفوف الشعب أو الأمة، بحيث يكون حديثه دائما حماسيا مرجعيته الإسلام والعروبة والكرامة الإنسانية، بلا خضوع أو تغيير.
ولا يمثل أبو عبيدة في حديثه مصالح سياسية تتغير، وإنما يمثل صوتا أقرب إلى البندقية، صوت المقاومين الفلسطينيين منذ عام 1948 وحتى الآن.
رغم صعوبة الموقف تحت نيران الاحتلال، فإن أبا عبيدة يأخذ في الاعتبار دائما كيفية التعامل النفسي بكلماته مع المستمعين العرب، مازجا بين الشحنة العاطفية واللغة الرصينة، بل والفكاهة والسخرية في بعض الأحيان. ولعل ذلك أحد المفاتيح المهمة لفهم العلاقة الاستثنائية التي تشكلت بين الملثم والشارع، إنه الاحترام المكوَّن من شِقيْن، أولهما الحرص على المشاعر، وثانيهما الصدق.
لطالما اعتاد العرب في العقود الماضية خطابات الزعماء المطولة، التي لا تخلو من دعاية لا تدعمها الحقائق. أما أبو عبيدة، فله طريقة أخرى فهو واقعي تماما في حديثه ولا يميل إلى المبالغة.
على سبيل المثال، تحدث أبو عبيدة في حوار له عام 2012 بوضوح عن ضعف قدرات المقاومة العسكرية مقارنة بقدرات جيش الاحتلال، وتحدث كذلك عن الصعوبة الكبيرة التي تفرضها طبيعة البيئة الجغرافية لغزة على المقاومة، فهي بيئة غير مساعدة على الدفاع العسكري. ومن جهة أخرى إضافة إلى الحرص على المصداقية والإنصاف في المعلومات، فإن خطابات أبي عبيدة موجزة ولا تتعدَّى في الغالب 15 دقيقة.
عادة ما تشتمل خطابات الرجل، الذي يُوصف بأنه رأس حربة الحرب النفسية على جيش الاحتلال، على تثقيف موضوعي بمجريات المعركة، ورسائل بلاغية دقيقة الصياغة للأطراف المختلفة، ولا تخلو كلماته أيضا من الرسائل ذات الطابع الساخر، وأشهرها حين قال إلى زعماء وحكام أمتنا العربية، نقول لكم من قلب المعركة التي تشاهدون ولا شك تفاصيلها عبر شاشاتكم، إننا لا نطالبكم بالتحرُّك لتدافعوا عن أطفال العروبة والإسلام في غزة من خلال تحريك جيوشكم ودباباتكم لا سمح الله.
وقد انتشرت لفظة لا سمح الله حينها بطول العالم العربي وعرضه مضربًا للمثل في سياقات التخاذل على مواقع التواصل.
لا يكذب أبو عبيدة على المواطن العربي كما اعتاد في خطابات زعمائه طوال عقود، فعلى مدار مسيرته في التحدُّث باسم القسام قبل طوفان الأقصى، نادرا ما ذكر أبو عبيدة معلومة تفتقر للدقة. واستطاع الملثم أن يصبح وسيط العالم لمعرفة مواقف المقاومة في غزة ومجريات المعركة، سواء في إسرائيل أو العالم العربي، عبر خطاباته المتلفزة التي تُنشر عادة على قناة الأقصى، أو عبر قناته على تطبيق تلغرام، كما أن خطاباته لا تلبث أن تُبَث سريعا على القنوات الفضائية المختلفة فور نشرها.
وقد بدت الرغبة في الحفاظ على المصداقية سمة جلية في أبي عبيدة منذ بداية ظهوره حين عُيِّن المتحدث باسم كتائب القسام في أعقاب الانسحاب الإسرائيلي من قطاع غزة عام 2005. فقد ظهر أبو عبيدة حينها في فيلم قديم صوَّرته قناة الجزيرة في العام نفسه بعنوان في ضيافة البندقية، فأطلَّ بقناعه وهو في بداية مسيرته قبل أن يصبح علما معروفا لكل الجماهير العربية.
وحين سأله صحفي الجزيرة عن عدد الذين شاركوا في عمليات بناء الأنفاق، توقف أبو عبيدة للحظات ثم قال دعني لا أحصي عددا، وحين أعاد الصحفي التساؤل عما إن كانوا عشرات أم مئات، أجاب أبو عبيدة بأنهم عشرات، مُفضلا الدقة على المبالغة في تضخيم عدد المشاركين.
لقد كان التدقيق واحترام المشاهد العربي مفتاح تواصل أبي عبيدة مع الجماهير العربية منذ البداية، فحرصه على احترام الجمهور وتقديم المعلومات الدقيقة الموجزة قدر الإمكان، أصبح له بالغ الأثر في بناء المصداقية بينه وبين الشارع العربي، وقد وصل هذا الأمر إلى ذروته في الحرب الأخيرة. وقد اتخذت حماس في هذه المعركة بشكل عام خطا إعلاميا ذكيا يمزج بين المصداقية وعدم الانخراط في الدعاية، وفي الوقت ذاته الحفاظ على الروح المعنوية للجبهة الداخلية.
ومن ثم فإن خطابها الإعلامي عبر أبي عبيدة يتمتع بالمصداقية حتى وإن آثر ألا يتحدث عن خسائر شعبه وقواته يوميا، إذ ليس مطلوبا من المقاومة أن تقدم لعدوها معلومات عن خسائرها في حرب ضد أحد أقوى الكيانات العسكرية في العالم.
وقد جاء في تقرير لجريدة الأهرام أونلاين المصرية باللغة الإنجليزية في نوفمبرتشرين الثاني الماضي بينما يستخف أبو عبيدة بالعدو ويقوضه، فإن كلماته مدعومة بلقطات وأدلة موثقة من الأرض. وفي حين لم يكن لدى إسرائيل أي صور أو لقطات فيديو لتبثها عن الانتصارات العسكرية ضد حماس وجناحها المسلح، فإن كتائب القسام تبث المحتوى مباشرة من ساحة المعركة لهجماتها على القوات الإسرائيلية في غزة.
إن عائلات أسرى الاحتلال ستدرك، ولكن ربما بعد فوات الأوان، أن حكومتهم الفاشية قد ارتكبت بحقهم كارثة سيعانون هم منها كعائلات بعد أن يكون نتنياهو قد أنهى مناوراته السياسية، فالكُرة في ملعب من يعنيه الأمر من جمهور العدو.
أبو عبيدة مخاطبا الإسرائيليين.
أخيرا، وليس آخرا، تمتع الملثم بميزة في خطابه قرَّبته من الجماهير العربية، خاصة طبقاتها الوسطى المُتعلِّمة. فعلى عكس ما اعتدناه لدى معظم العسكريين في العالم العربي، يُظهِر الرجل الكثير من الاحترام للثقافة والمثقفين، ويتجلَّى ذلك في استشهاده بأبيات شعر قديمة وحديثة، والاحتفاظ بلغة عربية رائقة تخلو من أي لحن أو خلل. ويظهر ذلك أيضا في إشارته إلى أفكار نظرية طوَّرها مفكرون كبار في العالم العربي، مثل المفكر المصري الراحل الدكتور عبد الوهاب المسيري، الذي كرَّس جزءا كبيرا من حياته لدراسة اليهودية والصهيونية، فضلا عن متابعته أولا بأول لما يُنشَر من كتابات وترجمات حول العدو ليستخدمها في خطاباته.
يعطي هذا صورة جديدة لعسكري لا يحتقر المثقفين، بل يحرص على التواصل معهم بلغتهم. ولعل المفارقة التي تجعل أبا عبيدة تجربة فريدة في التواصل الجماهيري هي أنه في الوقت نفسه الذي يتحدث فيه بالأساس إلى جمهوره العربي بطريقة تمتلئ بالشحنات المعنوية، يستطيع أن يرسل رسائل خاصة إلى جيش الاحتلال وشعبه على نحو يجعله يسير على حبل اللغة والتواصل ببراعة مع الصديق والعدو في آن واحد، دون أن يفقد اتزانه. | https://www.aljazeera.net/politics/2024/7/7/%d8%a7%d9%84%d8%a8%d9%84%d8%a7%d8%ba%d8%a9-%d9%85%d9%86-%d9%81%d9%88%d9%87%d8%a9-%d8%a7%d9%84%d8%a8%d9%86%d8%af%d9%82%d9%8a%d8%a9-%d9%84%d9%85%d8%a7%d8%b0%d8%a7-%d8%b5%d9%86%d9%81%d8%aa | 2024-07-07T15:22:34 | 2025-01-20T20:14:02 | أبعاد |
|
20 | ماذا يقول برجك اليوم؟ وهل تؤثر الأبراج على الحب والزواج؟ إليك رأي علماء النفس | هل تخبرنا الأبراج عن نجاح الزواج والعلاقات العاطفية؟ ما هي الأساسات النظرية لما يُدعى بعلم التنجيم والأبراج؟ ولماذا يؤمن الكثير من الناس به؟ وماذا تقول دراسات علم النفس الحديث حيالَ هذا الأمر؟ | أنت تحتاج إلى حب الآخرين ونيل إعجابهم، أو على الأقل فأنت مهتمٌّ بتحصيله، لكنّك في الوقت نفسه كثير التشكيك بنفسك، تؤمن بأنّ الآخرين لا يفهمونك بما يكفي، وبالرغم من أنّ هناك بعض نقاط الضعف في شخصيتك، فإنّك قادرٌ على تعويضها بشكل ما. لديك قدرات لم تظهر بعد ولم تستطع أن تستغلّها لمصلحتك. لقد اتّخذتَ قرارًا مهمًّا في حياتك في الآونة الأخيرة، لكنّك تشعر بالحيرة وتتملكّك شكوك جادّة فيما إذا كنتَ قد اتخذت القرار الصحيح أم لا.
في حال شعرت أن الجمل السابقة تنطبق على حالك وشخصيتك، فأنت لست وحدك، ربّما تجد الغالبية العظمى من القرّاء أن هذه العبارات تصف أحوالهم بدقّة. إنّ هذا مجرّد مثال بسيط على الجمل التي تستطيع أن تجدها في أي صحيفة أو موقع إلكتروني يحتوي على توقعات وصفات الأبراج. لا بدّ أنّك سمعتَ بالأبراج من قبل، ولا بد أنّك شعرتَ ببعض الفضول أحيانًا لقراءة ما يُخبّئه لك برجك من التوقعات لليوم والشهر والسنة، وأن تعرف المزيد عن شخصيتك من خلال برجك، بل ربّما مررتَ بمرحلة التساؤل عن مدى ملاءمة علاقتك بشخص آخر بناءً على برجك وبرجها، فبعض الأبراج لا تتلاءم مع بعض، أليس كذلك؟
ما زالت للأبراج Horoscopes وعلم التنجيم Astrology شعبيةٌ واسعةٌ حول العالم غربًا وشرقًا، فقد أظهرَ استطلاعٌ للرأي نُشر عام 2018 أن 29 من الأميركيين يؤمنون بصحّة علم التنجيم والأبراج1. لم تنخفض شعبية هذا المجال كثيرًا حتى مع تقدّم المجالات العلمية المختلفة، بما فيها علم النفس ودراساته التي تفنّد وتفسّر الأسباب التي تجذب الناس لهذه المجالات.
هل بإمكان هذه العلوم أن تخبرك إذا ما كانت شخصيتك تتوافق مع شخصية الطرف الآخر؟ هل تخبرنا الأبراج عن نجاح الزواج والعلاقات العاطفية؟ ما هي الأساسات النظرية لما يُدعى بعلم التنجيم والأبراج؟ وما الفرق بينه وبين علم الفضاء؟ ولماذا يؤمن الكثير من الناس به؟ وماذا تقول دراسات علم النفس الحديث حيالَ هذا الأمر؟ في هذا المقال، نحاول الإجابة عن هذه الأسئلة تحديدًا بناءً على أسس علم النفس والعلم الحديث.
الأبراج هي مجموعات نجمية يمكنك رؤيتها في السماء ليلًا بحسب موقعك على الأرض. وقد سُمّيت بأسماء مختلفة منها أسماء حيوانات أو أشخاص أو أشكال معينة من قبل حضارات مختلفة عبر الزمن، بحسب الشكل الذي يصنعه خيال الإنسان عند إيصال خطوط وهمية بين هذه النجوم في السماء. وهناك حوالي 88 مجموعة نجمية معروفة حتى الآن. ويختلف شكل السماء والمجموعات النجمية التي يمكن رؤيتها في كل يوم بحسب موقع الأرض وموقع المشاهد على الأرض أيضا.
علم الفضاء أو الفلك Astronomy هو العلم الذي يدرس كل شيء في الفضاء الخارجي، بما في ذلك جميع الأجرام السماوية والمجرّات وكل ما يتعلق بها عبر المنهجية العلمية القائمة على جمع البيانات والدليل والبرهان، واستخدام تقنيات ومبادئ علوم أخرى مثل الفيزياء والكيمياء والرياضيات. أما ما يدعى بعلم التنجيم Astrology فهو ليس علمًا؛ لأنه لا يعتمد المنهج العلمي الحديث في أيّ من أساساته أو طرقه، بل يتلخّص في الاعتقاد بأنّ مواقع المجموعات النجمية أو الأجرام السماوية أو الأحداث والظواهر الفضائيةالفلكية يمكن أن تساعدنا في تنبّؤ المستقبل أو الإخبار عن شخصيات البشر وسلوكاتهم وصفاتهم، وليس هناك مصدر أو مصادر محددة يمكن الرجوع إليها لمعرفة أساسات أو منطق هذا المجال. يستخدم علماء الفضاء المجموعات النجمية بوصفها معالم مهمة في السماء للدلالة على المواقع والاتجاهات في المِلاحة الفضائية والحركة، وهي أهداف استخدم القدماء من أجلها هذه النجوم كذلك، ولكنها لا تعني شيئًا أكثر من ذلك بالنسبة إليهم، وأثرها على البشر الذين على الأرض ليس من مجال دراستهم ولم يثبت أصلًا لكي يهتمّوا به أكثر من ذلك23.
من الشائع لدى الكثيرين أن يفرّقوا بين متابعة الأبراج لمعرفة صفات الشخصيات ومتابعتها من أجل تنبؤات المستقبل، والقول بأنهم يتابعونها للأمر الأول لا أكثر. فهل حقًّا يمكن التفريق بينهما؟ وهل الأبراج أكثر دقة في توقع الشخصيات مما هي في توقع الغيب؟
في حقيقة الأمر، ليس هناك أي دليل علمي مُعتبرٍ على صحّة قدرة التنجيم على توقع صفات الشخصية أو التنبؤ بالمستقبل، فكلاهما سيّان في نتائج الأبحاث.
وعند النظر فيما لدينا من دراسات، نجد أن معظم الأبحاث ركزت على دراسة التنجيم والأبراج تحديدًا من حيث علاقتها بصفات الشخصية، وقد شملت هذه الدراسات عشرات آلاف البشر ومن ثقافات مختلفة وبمناهج إحصائية متنوعة ورصينة، بل إنّ بعضها استعان بالمتخصصين في علم التنجيم لكي يبلغ أقصى درجة ممكنة من الموضوعية وعدم التحيز في دراسة الظاهرة. إلّا أنّ الخلاصة الواضحة منها كلها كانت أن الأبراج والتنجيم مجالات لا يمكن أن تتفوق على مجرد احتمال الصّدفة في تنبؤاتها بنمط شخصية الإنسان، وأنه من غير الممكن مقارنتها بالمجالات العلمية الأخرى التي خضعت للمنهجية العلمية الحديثة وأثبتت علميتها، فقد ثبت مرارًا وتكرارًا فشلُها في تحقيق ما تدّعيه. وقد بدأت هذه الدراسات منذ أربعينات القرن الماضي، واستمرت حتى الألفية الجديدة567.
ولأنّ التنجيم لا يكتفي بادّعاء الكشف عن نمط الشخصية فقط، بل بالتنبّؤ بتوافق الشخصيات من عدمها أيضًا، فقد تناولت أبحاثٌ أخرى هذا الجانب وفنّدته أيضًا. في دراسة كبيرة وحديثة نُشرت عام 2020 في السويد، استنتج الباحثون أن أبراج الأشخاص لم تؤثّر على أنماط ارتباطهم بشركاء الحياة، وكذلك لم تؤثر على احتمالات الطلاق أو الانفصال لدى الشركاء8.
من الجدير بالذكر هنا التنويه بأنّ عددًا قليلًا من الدراسات وجد علاقةً ما بين تاريخ الميلاد وظواهر معينة، لكنها لم تُرجِع ذلك للأبراج والتنجيم. على سبيل المثال، وجدت دراسة أنّ معظم لاعبي الهوكي المحترفين في أميركا الشمالية هم من مواليد الأشهر الأولى من السنة 1-3، وأنّ نسبة اللاعبين الذين وُلدوا في الأشهر الأخيرة من السنة 10-12 لا تتجاوز 109. مثال آخر جاء عبر الدراسات التي وجدت أنّ معظم مرضى الفصام كانوا قد وُلدوا في الأشهر الباردة من السنة. لكن هذه الدراسات تبقى متركّزةً على ظواهر معيّنة أصغر من التنبّؤ بالشخصية بشكل عام، كما أنها وعِوضًا عن الإتيان بتفسيرات فضائية تتعلق بمواقع النجوم والظواهر الفلكية، ينوّه الباحثون في كلٍّ منها لأهمية تأثير العوامل المصاحبة للظاهرة من داخل الأرض لا من خارجها، كتغير الفصول وتغير الظروف الاجتماعية والبيئية والسياسية في تلك الفترة الزمنية والتي تلعب دورًا محوريًّا في نشوئها.
من المهم إذن القولُ إن العلاقة بين تاريخ الولادة وبعض الظواهر الإنسانية ليست صفريّةً بالضرورة، وإن عدم وجود أساس علمي للتنجيم والأبراج لا يعني بالضرورة عدم وجود أثر للأجرام السماوية أو الفلك على البشر من نواحٍ مختلفة، فإن عددًا من العلماء أشاروا إلى إمكانية ذلك وضرورة دراسته1112. ولكن المقصود هنا أنّ إدراك هذه الآثار -في حال وجودها- لا بُد أن يأتي من مدخل الدراسات العلمية والأبحاث التجريبية المنهجية، لا ادّعاء سرديات كاملة فشلت الأبحاث في إثباتها أو حتى تبريرها بشكل منطقي.
يمكن تلخيص العوامل الرئيسية التي تدفع الناس لتصديق الأبراج ومتابعتها إلى 5 تفسيرات رئيسية، وهي
عام 1949، أجرى عالم النفس الأميركي بيرترام فورر دراسةً أصبحت من أهم الدراسات الكلاسيكية التي يُستند إليها لتفسير اهتمام الناس بالأبراج وبغيرها من الظواهر مثل قراءة الفنجان وقراءة الكفّ... إلخ، فقد جمع عددًا من طلبته وأخبرهم بأنّه سيعطي كلًّا منهم وصفًا عن شخصيتها بناءً على نتائجهم في اختبار نفسي ابتكره هو، إلّا أنّ ما فعله حقًّا هو أنّه أعطى جميع الطلبة نفس وصف الشخصية تمامًا، ثم طلب من كل واحد منهم تقييم إلى أي مدى يعتقدتعتقد أن هذا الوصف ينطبق على شخصيتها. وما لاحظه فورر هو أنّ الطلّاب اعتقدوا أنّ الوصف كان دقيقًا لدرجة كبيرة في وصف شخصياتهم، فقد كان المعدل العام لصحّة الجُمل برأيهم 4.3 من 5.0، على اعتبار أن كل جملة في الوصف يمكن إعطاؤها رقمًا من 0 غير دقيق أبدًا إلى 5 دقيق جدًّا13.
وتاليًا تجدون بعض الجمل الأصلية التي يبلغ عددها الكلي 13 جملة والتي استخدمها فورر في بحثه لوصف شخصيات الطلاب
وربّما -وبشكل طبيعي- ستجد نفسك موصوفًا في هذه الجمل أيضًا
نتائج هذا البحث استثارت فورر، كما جذبت العديد من العلماء الآخرين لكي يظهر لدينا مفهوم مغالطة التأكيد الذاتي Fallacy of Personal Validation، والذي عُرف لاحقًا بأثر بارنوم أو أثر بارنوم-فورر Barnum-Forer Effect أيضًا، وهو ظاهرة شائعة جدًّا يقوم فيها الأفراد بإعطاء تقييمات مرتفعة لدقة الأوصاف التي تصف شخصياتهم وتصديقها رغم أنّ السبب في ذلك أنّ هذه الأوصاف مُبهَمة وعامّة جدًّا إلى درجة أنها تنطبق على عدد كبير جدًّا من الناس، فَمَن منّا لا يمتلك بعض القلق والشكوك الداخلية حيال نفسه؟ ومن منّا ليست لديه طموحات قد تبدو غير عقلانية أحيانًا؟ ومن منّا يحبّ الانكشاف الذاتي على الآخرين بشكل كبير؟
وبمعنى آخر، فإنّ هذه الأوصاف والتنبّؤات التي تُستخدَم في الأبراج وفي العديد من المجالات الأخرى، هي تجارب إنسانية يمرّ بها معظم الناس وتنطبق على حيواتهم. ورغم أنّ التنجيم يدّعي بقوة أن توقعاته وأوصافه محدّدة كما سنفصّل في النقطة التالية، فإن الأفكار والجُمل التي يستخدمها تفتقر إلى حدّ كبير من الخصوصية الفردية، وتستخدم في سبيل ذلك العديد من الحيل اللغوية والعملية لتمرّ أيضًا. فقد وجدت الأبحاث اللاحقة أن أثر بارنوم هذا يزداد حضورًا كلّما أضيفت كلمات تقلّل من وضوح الجملةالوصف، مثل كلمات أحيانًا. كما استنتجت أنّ عملية قراءة الشخصية والطالع لا تحدث في فراغ، فهُويّة من يعطي هذه الأوصاف والتنبؤات ومن يستقبلها تلعب دورًا مهمًّا. على سبيل المثال، كلّما كان الخبير شخصًا أكثر شهرةً أو مكانةً وحضورًا اجتماعيًّا، ازداد اقتناع الناس بصحة ما يقول. وهذا يفسّر الكثير مما نراه من مظاهر على شاشات التلفزيون والسوشيال ميديا عند اقتراب السنة الجديدة وغيرها من المواسم، ويفسّر لماذا يمكن للأشخاص أن يدفعوا من حرّ مالهم لكي يستمعوا إلى شخصٍ مشهورٍ لكنه غير مؤهّلٍ أكاديميًّا ولا علميًّا ليصف لهم شخصياتهم ويقرأ طالعهم. وكلّما كان الشخص أكثر قلقًا مع ذاته، ازداد احتمال لجوئه للأبراج والتنجيم وغيرها من العلوم الزائفة.
وتتابعت الأبحاث بعد ذلك لتؤكّد فكرة أن البشر يميلون لتصديق الأوصاف العامّة عن الشخصية، سواء كان ذلك من اختبارات شخصية غير علمية أو مجرد تنجيم وأبراج14. وهذا الميل لا يعني بالضرورة صدق الأداة المستخدمة للقياس بطبيعة الحال. ولعلّ في هذا كلّه تصديقًا لجملة كذب المنجمون ولو صدقوا، بمعنى أنّهم بطبيعة الحال سيَصدُقون، إلا أن هذا الصدق ليس لصدق المنهج بقدر ما هو بسبب عمومية كلامهم وانطباقه على معظم البشر. فنحن البشر غالبًا ما ننقسم في كل شيء بما في ذلك شخصياتنا وما يحدث معنا من أحداث إلى منحنيات التوزيع الطبيعي Normal Distribution، والتي تجعل التشابهات بيننا كثيرة. وعلى ذلك، فهي حيلةٌ لتجاوز هشاشة المنهج واستغلال تحيزات البشر النفسية وإمالتهم لتصديق الخرافة والتسليم لمجالٍ ليس له أي أساس علمي أو حتى منطقي.
كانت الأبحاث السابقة تركّز على ما ذكرناه آنفًا في النقطة الأولى كتفسير أهم وشبه وحيد لمدى شيوع الأبراج وتصديقها من قبل الناس، لكن الأبحاث اللاحقة أشارت إلى عوامل محورية أخرى، ومن أهمها، امتلاك تنبّؤات الأبراج قدرةً على إشعار الناس بأنّها خاصة بهم جدًّا. وهنا تظهر بجلاءٍ المفارقة التي يصنعها التنجيم وعالم الأبراج، إنه يقول لنا عموميات وجملًا ضبابية لا تنطبق علينا إلا لأنّنا بشرٌ كغيرنا كما ذكرنا في النقطة الأولى، لكنه يجعلنا وبطرق كثيرة نعتقد أن هذه العموميات تخصّنا نحن بالذات، فيغلّفها نظريًّا ولغويًّا بغطاء الخصوصية والفردية، إنهم يقولون لك إن هذا التنبّؤ مبنيٌّ على موعد ميلادك بالشهر والسنة وأحيانًا باليوم والساعة والدقيقة، فكيف لا يكون خاصًّا بك؟
إذن، وبحسب نتائج أبحاث كثيرة لاحقة، فالموضوع لا يتعلق فقط بعمومية التنبؤات والأوصاف، بل بالطريقة التي يتفاعل ويدرك بها الشخص هذه الأفكار. إنها أوصاف عامّة، لكن الإنسان يدركها على أنها خاصّة به هو فقط.
في دراسةٍ انقسم فيها المشاركون إلى 3 مجموعات الأولى أُخبِروا فيها أن الأوصاف المذكورة تنطبق عليهم لأنها مبنية على يوم وشهر وسنة ميلادهم، والثانية لأنها مبنية على شهر وسنة ميلادهم فقط دون اليوم، والثالثة أُخبروا أن الأوصاف تنطبق عليهم لأنها تنطبق على البشر بشكل عام. وكما كان متوقّعًا، رغم أن الأوصاف واحدة لدى جميع المشاركين في كل المجموعات، وصفها مشاركو المجموعة الأولى بالدقة أكثر من مشاركي الثانية، وأكّدها هؤلاء أكثر من مشاركي المجموعة الثالثة. كما وُجد في دراسة أخرى مشابهة أنّ مجرد إخبار المشاركين أن أوصاف الشخصية هذه مستقاةٌ من اختبارات نفسية أجروها سابقًا، جعلتهم يؤكدون صدقها أكثر بكثير مقارنة بمجموعة أخرى قيل لهم إنها أوصاف عامة تنطبق عليهم لأنها تنطبق على الناس بشكل عام1516.
ويُذكر أن دراسةً حديثة جدًّا وجدت أن النرجسية كانت من أقوى العوامل المرتبطة بالإيمان بالأبراج ومتابعتها، وهذا يؤكد أهمية الشعور بالخصوصية الذي نتحدث عنه هنا17.
خلاصة الأمر أن الأبراج والتنجيم لا تنجح فقط لعموميتها وضبابيتها، بل لجعلها الناس يؤمنون أنها خاصة بهم رغم ذلك.
الخطأ، يا عزيزي بروتوس، ليس في نجومنا، بل في أنفسنا، لأننا أشخاص ضئيلو الشأن
مسرحية يوليوس قيصر وليم شكسبير
من الأسباب المهمة الأخرى التي تدفع الناس للاهتمام بالأبراج هو أن طابعها العام عادةً ما يكون لطيفًا وإيجابيًّا في حديثه مع الشخص. ولكي نكون أكثر دقّةً، لنأخذ مثالًا مضادًّا من اختبار السّمات الخمس للشخصية والذي يُعدّ الاختبار الأدق والأقوى في علم نفس الشخصية.
إن اختبارات الشخصية العلمية قد تُخبر الإنسان بعيوب حقيقية فيه، وقد تجعله يشعر بشكل واضح بأنّ هناك إشكالًا جوهريًّا تنطوي عليه شخصيته، وينبغي عليه الحذر منها. ربّما مثلًا يخبرك اختبار الشخصية أنّك قليل الانضباطية، وهذا يجعلك أكثر عُرضة للفشل في حياتك المهنية إذا لم تتّخذ إجراءات وقائية وتغير من سلوكك. أما الأبراج، فإنّها عادةً ما تركّز على إيجابيات شخصيتك المفترضة وما ينبغي أن تقوم به لتجنّب الأقدار السيئة التي تأتي من الخارج، لكنها لا تغوص عميقًا لتواجه شرور ذاتك وممكناتها السلبية.
وإذا ما عرفنا أن البشر يميلون لقبول التوصيفات الإيجابية أكثر من السلبية حتى لو كان كلاهما غير دقيق أو كان التوصيف السلبي أدق، بحسب ما تقول دراسات بحثية، فهذا يعيننا على فهم سبب آخر من الأسباب التي تدفع الناس نحو الأبراج والتنجيم18.
إنّ من المثير والشاعري جدًّا أن يخبرك أحدهم بأنّ شخصيتك وأحداث حياتك تتأثر أو تسير وفق حركات أجرام سماوية وقوانين كونية معقدة. بالتأكيد إنّ ذلك أكثر جاذبية وملحمية من أن تكون نتيجة جينات ورثتها من والديك وديناميكيات تشكل شخصيتك وعوامل اجتماعية-سياسية-اقتصادية تؤثر على طريقة تفكيرك وسلوكك، مع مساحة حرية إنسانية تحمّلك مسؤولية أفعالك. وهذا يتوافق مع الدراسة التي وجدت أن النرجسية مرتبطة بالإيمان بالأبراج، والتي ذكرناها سابقًا19.
لا يمكن للبشر أن يتعاملوا بسلاسة مع الانكشاف الهائل الذي أحدثه المنهج العلمي التجريبي على العوالم الغامضة؛ ما أزالَ الطابع السحري عن العالم الذي نعيشه في كثير من الجوانب. هناك حاجةٌ ملحّةٌ للإيمان بشيء ما لدى الكثير منهم، فمن الصعوبة بمكان أن تعيش حياةً ماديّةً بحتة دون إيمانٍ بشيء مفارق وسرديات كبرى. وهذا يفسّر عدم انخفاض شعبية الأبراج والتنجيم، بل ربما زيادتها في السنوات الأخيرة في السياقات الغربية، بعد تراجع دور الدين والأيديولوجيات الفعّالة في المجتمع20.
إنّ من الصعب جدًّا على الإنسان أن يتحمّل اللايقين دون طقوسٍ ومعتقدات ما ورائية تساعده على إبقاء معنًى مفارقٍ للعالم الطبيعي الذي يعيشه حتى وإن كان وهمًا. وهذا مشابهٌ كذلك لفكرة نظريات المؤامرة، التي تساعد الإنسان على إبقاء تصوّراته عن العالم تحت السيطرة، وتجنّب المواجهات الحقيقية والمريرة مع الذات والعالم.
إنّ هذه الأسباب التي ذكرناها، والتي تعتمد على دراسات علم النفس الحديث، يمكن أن تفسّر لنا بشكل كبيرٍ ومفهوم الشعبية الواسعة التي تحظى بها الأبراج وعلم التنجيم. وهي جميعها تتضافر لتجعل إيمان الشخص بهذا المجال نبوءةً ذاتية التحقق. فظنّهم أنّها تنطبق عليهم يجعلهم يبحثون عن شواهد ويخلقونها أيضا لتثبت صحّتها فعلًا، هذا يمكن تحقيقه من خلال فلترة الحقائق والأحداث من قبلهم لكي يظهر وكأنّ توصيفات وتنبؤات البرج تنطبق عليهم فعلًا، وكذلك من خلال التصرّف بطريقة تثبت تنبؤات وأوصاف الأبراج. وعند وجود وخلق هذه الشواهد، سيصدقون المجال ككلّ، في ظاهرة مشابهة لـأثر البلاسيبو في الطبّ، والذي يُستخدم لتوصيف حالة استجابة المريض لدواء وهمي لمجرّد اقتناعه بأنّه دواء ومفيد.
حتى لو أثبتت آلاف الأبحاث عدم صدق ودقة هذا المجال، فسيظلّ الكثيرون يؤمنون به ويتابعون تكهّناته وأخباره، فالإشكالُ لا ينتهي عند إثبات خطأ التكهّنات والتوصيفات. إذا كان الإنسان منحازًا لنتيجة معينة قبل طرح سؤال البحث أصلًا، فإنّه بالضرورة يفقد القدرة على تقييمها موضوعيًّا.
إنّ المأساة الحقيقية لعالم التنجيم والأبراج تكمن في الدور الذي تلعبه في سياقاتنا الاجتماعية، فهي كغيرها من العلوم الزائفة تطمس عن الإنسان التفكير المنطقي والعقلاني تمامًا، وتدفعه لتصديق خرافات والتعامل على أساسها مع النفس والآخرين والعالم. وفي سياقات يغيب فيها التفكير العلمي ودور العلم في المجتمع، سواء كمؤسسات أو كأفراد علماء، تأخذ هذه المجالات الصدارةَ ويصبح الدّجَلُ أعلى سلطةٍ يمكن الركون إليها في البحث عن اليقين ومعرفة الذات.
وفي هذه العملية، تُهدَر الكثير من جهود الناس وأموالهم وأوقاتهم وهم مخدوعون بمعسول القول والجمل الجميلة الضبابية التي يظنّونها قَدرَهم. بل إنّ للأبراج آثارًا سلبيةً محتملة على التواصل الإنساني، فهي تشجّع الصور النمطية، وتدفع الإنسان للتعامل مع الآخرين واختيار علاقاتهم وأصدقائهم أحيانًا بناءً على تواريخ ميلادهم.
وعلى أيّ حال، من الجيد دائمًا أن يُبقي الإنسان حسّه النقدي متوقّدًا، حتى في أكثر السياقات علميّةً وتجريبيّةً، فليس الإنسان مجرد آلة للتنفيذ دون إرادة حرة تستطيع الاختيار والتغيير والتحكم بالمصير، فما بالك حين يكون ما نتحدث عنه مجرّد تنجيم؟
__________________________________________
المصادر | https://www.aljazeera.net/sukoon/2022/6/27/%d9%85%d8%a7%d8%b0%d8%a7-%d9%8a%d9%82%d9%88%d9%84-%d8%a8%d9%8f%d8%b1%d8%ac%d9%83-%d8%a7%d9%84%d9%8a%d9%88%d9%85%d8%9f-%d9%88%d9%87%d9%84-%d8%aa%d9%88%d8%a7%d9%81%d9%82 | 2022-06-27T12:22:07 | 2024-06-06T11:52:42 | أبعاد |
|
21 | قتل أكثر من 100 ألف بعام واحد فما قصة المخدر الخطير الذي ينتشر بأميركا؟ | تتوالى الاتهامات الأميركية للصين بضلوعها وراء أزمة المخدرات في أميركا، بينما تنفي بكين تلك المزاعم جملة وتفصيلا، وتضعها في إطار الدعاية الأميركية التي تصنع من كل ما هو صيني عدوا، فما القصة؟ | في مسلسل ذا ووكينغ ديد The walking dead الشهير، يستيقظ البطل ريك غرامز وسط المستشفى الذي يبدو مهجورا باحثا بصعوبة عن أي شيء يساعده على فهم ما يحدث حوله. بعد معاناة وجهد جهيد، يتمكن ريك من الخروج إلى الشارع ليكتشف أن الجنس البشري بات قاب قوسين أو أدنى من الانقراض، وأن الجنس الجديد الذي ظهر هم أموات يمشون، يبحثون عن نشر الموت في كل مكان.
تُظهر لنا الكاميرا في الشوارع عددا من الهائمين على أنفسهم وحشة وظلمة وأشخاص يصعب التعرف على ملامحهم. صحيح أن المسلسل يندرج ضمن مسلسلات الخيال العلمي، إلا أن المشاهد التي قدمها المسلسل باتت لا تبتعد كثيرا عما يدور حقيقة في شوارع كثير من الولايات الأميركية التي باتت تنتشر فيها المخدرات، وعلى رأسها مخدر الفاينتنال، كما تذكر إدارة مكافحة المخدرات الأميركية.
واليوم صارت أميركا تعاني من المخدرات التي تهدد زهرة شبابها، وقد رصدت الحكومة الفدرالية على إثر ذلك عشرات الملايين من الدولارات لمحاربة هذا الواقع. لكن، يبدو أن الأمر لا يقتصر على انتشار المخدرات في مجتمع يعاني من هذه الظاهرة منذ سنوات، لكن الأمر أصبح كأنه حرب كيميائية، على الأقل هكذا تراها واشنطن، وبهذا تتهم الطرف الثاني في هذه الحرب بكين.
ففي أبريلنيسان من العام الحالي، خلصت لجنة تتبع للكونغرس الأميركي إلى نتيجة مفادها أن الصين تعمل على ما وصفته بتأجيج أزمة المواد الأفيونية في الولايات المتحدة. في حين ردت السفارة الصينية في واشنطن على هذه الادعاءات وقالت إن محاولات واشنطن لاتهام بكين بأزمة الأفيون لن يعالج المشكلة، لأن الصين ليست سببها.
يعتبر استعمال المخدرات كسلاح لتدمير المجتمعات من الأسلحة القديمة. إذ يعد الأمر مغريا فوق العادة، فبجانب المنافع الاقتصادية التي توفرها تجارة المخدرات للطرف المُصدّر، تعمل هذه الأخيرة على خلق مجتمع رخو مفكك غير قادر على الإنتاج أو المواجهة أو خلق بيئة صحية لأي مشروع كان عند الطرف المستهلك.
وهذه الآلية قديمة، فاستعمال المخدرات ضد الأعداء هو أمر متعارف عليه، وسيقودنا إلى أحد الأمثلة القذرة المعروفة كما يصفها المؤرخون، وهي حرب الأفيون أو حروب الأفيون التي عاشتها الصين ضد خصومها الغربيين.
مع بداية القرن 19م كانت الصين تواجه أزمة أخلاقية واقتصادية كبيرة بسبب انتشار تجارة الأفيون غير المشروعة والتي كان يمارسها الإنجليز عبر شركة الهند الشرقية أداتهم الاستعمارية الأبرز التي أتاحت لهم الانتشار في آسيا.
كانت تجارة الأفيون قد استفحلت منذ بداية القرن 18م، إذ ليس هناك سبيل أفضل من إدمان المخدرات لفك أواصر المجتمع ونشر المشاكل الصحية والإجهاز على القوى العاملة، مما يجعل الدولة نفسها في مهب الريح.
في العام 1839 بدأت الحكومة الصينية التحرك لمواجهة هذه الكارثة الكبيرة، فأقدمت على إحراق مخزون ضخم من الأفيون الذي كان مملوكا لتجار إنجليز بإقليم غوانغزو، كما صادرت 1400 طن من مادة الأفيون. وهي خطوات لم تعجب بريطانيا بالتأكيد.
تسبب كل هذا الاحتقان في زرع لغم قادر على الانفجار في أية لحظة. حينها رفضت الصين، السماح بتجارة الأفيون إلا بشروط على رأسها الالتزام بالقانون الصيني، وطبعا، التوقف فورا عن تهريب هذه المادة المخدرة بطريقة غير قانونية.
رفض تشارلز إليوت الذي كان يعمل كمراقب بريطاني للتجارة مع الصين جميع هذه الشروط. وصل الاحتقان مداه، فكان كل شيء جاهزا للانفجار، وكل ما كان ينقص هو عود الكبريت، أما حامل ذلك العود كان يدعى رويال ساكسون.
في العام 1839 تحدى ساكسون، الذي كان تاجرا بريطانيا الحظر الصيني المفروض، وأصر على كسره، مما جعل السفن البحرية الصينية تخرج لمنعه وإرغامه على العودة من حيث أتى. اتخذت بريطانيا من هذه الحادثة ذريعة لإعلان الحرب على الصين بحجة التعدي على أحد مواطنيها.
وقتها، خرج أسطول بريطانيا العظمى لحماية السيد ساكسون وهاجم بطريقة مدمرة السفن الصينية التي تحركت. وفي العام 1840 أرسلت بريطانيا قوة عسكرية أخرى إلى الصين حاملة معها أسلحة متطورة بمقياس ذلك العصر، وبانتصاف العام 1841 كانت الإمبراطورية البريطانية قد أجهزت على نظيرتها الصينية.
وفي أواخر أغسطسآب 1842 استولي البريطانيون على عاصمة الصين آنذاك نانجينغ، وهو ما دفع الإمبراطور لإعلان القبول بالأمر الواقع، والاستسلام، بل وتوقيع وثيقة معاهدة سلام قبل ضمنها عددا من الشروط من قبيل فتح 5 موانئ صينية للتجارة الأجنبية، ودفع تعويضات كبيرة لبريطانيا، إضافة لتنازل الصين عن جزيرة هونغ كونغ لصالح بريطانيا.
شروط كهذه، مذعنة في إذلال أمة ذات تاريخ عريق كالصين لم تكن لتمر مرور الكرام، فقد حاول الصينيون حكومة وشعبا التكيف مع شروط معاهدة نانجينغ لكنهم فشلوا في ذلك. ليس هذا فحسب، بل كان على الصين أيضا التكيف مع معاهدات أخرى فرضت عليها من طرف فرنسا والولايات المتحدة الأميركية.
في العام 1854 تجددت المطالب البريطانية للصين بفتح جميع موانئها أمام التجار الأجانب وإلغاء التعريفة المفروضة على جميع المنتجات البريطانية. لن تتوقف المطالب هنا، فهناك ذلك الطلب الذي سيُفيض كأس الغضب، وهو منح الشرعية لتجارة الأفيون الذي تقوم باستيراده من الهند وبورما إلى الصين، هنا رفضت الحكومة الصينية الخضوع لبريطانيا مرة جديدة.
ولأن السيد الأبيض لا يقبل أن يُقال له لا، شنت بريطانيا ومعها فرنسا هذه المرة حربا ثانية على الصين حملت اسم حرب الأفيون الثانية، حرب دامية أكثر من الأولى، دماء وأشلاء وأسلحة متطورة لم تجد لها الصين من بأس ولا قوة، فانتهت الحرب كما الأولى في مايوأيار 1858.
أما معاهدة إنهاء الحرب فكانت تحمل شروطا مجحفة أكثر فأكثر، يمكن اختصارها في منح البريطانيين حقوقا أكبر في كل شيء، وخصوصا الحق في نشر الإدمان بقوة السلاح، الأفيون الذي تغذى على صحة عشرات الملايين من الصينيين.
لم يكن ذكرنا لهذه القصة مجرد استشهاد بقصة شبيهة في واقع حالي، بل لهذه القصة ارتباط مباشر بما يحدث اليوم.
لم ينس الصينيون أبدا حروب الأفيون، وما زال الشعب حتى اليوم ينظر إلى المخدرات نظرة ازدراء كبير، كما أن نسبة من الشعب تجد صعوبة في التعامل مع المهدئات تماما، حتى ولو كانت هذه المهدئات بأمر طبي.
لكن، ورغم هذا الماضي المعقد، فإن الصين الآن تعتبر المصنّع رقم 1 عالميا للمنتجات الصيدلانية، وهو وضع لم يكن هكذا سابقا. حدثت الطفرة في منتصف ثمانينيات القرن الفائت في عهد دينغ شياو بينغ، ففي العام 1985 بدأت الصين في فتح أبوابها في وجه رؤوس الأموال الأجنبية، وأحد أوائل من دخلوا هذا الباب كان بول جانسن صاحب المختبر البلجيكي الشهير جانسن.
كان جانسن يحب الصين جدا، لكن ليس هذا ما يهمنا حاليا، بل أن هذا الكيميائي الشهير كان قد توصل في العام 1959 لتركيبة الفاينتنال، أحد أهم مسكنات الآلام الأفيونية التي تم التوصل إليها عالميا.
لا يمكن وصف اختراع الفاينتنال إلا بالعظيم، فالمادة المسكنة هي أقوى بمائة مرة من المورفين؛ لذلك دخلت للاستعمال البشري سريعا مع حلول العام 1960، بيد أنه تحول بسرعة إلى مطلب لمستهلكي المسكنات كمخدرات، خصوصا مع قابلية إدمانه السريع للشخص الذي يستعمله.
في العام 2000 بدأت أجراس الخطر تدق في الولايات المتحدة الأميركية وكندا بسبب سيطرة الإدمان على عدد من مواطني الدولتين عبر الوصفات الطبية التي تخرج من الأطباء أنفسهم.
بعد سنوات قليلة، سيتحول هذا المخدر المسكن إلى مصيبة بالمعنى الحرفي للكلمة، حيث سيصبح سبب الوفاة الأول للأميركيين ما بين 18 و45 سنة.
في العام 2022 مثلا، قتل الفاينتنال 110 آلاف شخص في الولايات المتحدة الأميركية، ضحايا من جميع طبقات المجتمع، بدءا من المجهولين المنبوذين حتى المشاهير كالمغني كوليو أو المغني برينس اللذين رحلا عن العالم بسبب جرعة زائدة.
تجاوزت أزمة الفاينتنال كونها أزمة صحية، بل وصلت إلى أن تكون أزمة دبلوماسية بين الولايات المتحدة الأميركية، الضحية في هذه الحالة، وبين المتهم الأول الذي توجه إليه أصابع اتهامها.. الصين.
في العام 2022، وعلى هامش قمة العشرين سيلتقي الرئيس الأميركي جو بايدن نظيره الصيني شي جين بينغ لمناقشة عدد من القضايا من أهمها قضية مخدر الفاينتنال. ستذكر بعض المصادر الأميركية بعد ذلك أن بكين قالت إنها بدأت بالفعل في أخذ بعض الخطوات الفعلية للحد من وصول هذا المخدر القاتل إلى الولايات المتحدة الأميركية.
وبعد يومين من لقاء الرئيس الصيني، سيلتقي بايدن نظيره المكسيكي أندريس مانويل لوبيس أوبرادور من أجل التنسيق في الموضوع نفسه.
يعتقد المسؤولون الأميركيون أن السيطرة الصينية على صناعة المواد الكيميائية تجعل من بكين متهما منطقيا في هذا الملف. حينما سافر وفد من الكونغرس يضم 3 نواب من الديمقراطيين ومثلهم من الجمهوريين لبكين، لم يكن الهم الأول لهذا الوفد هو مناقشة التنسيق العسكري أو التحديات الاقتصادية أو التغير المناخي، كان الموضوع رقم 1 هو الفاينتنال الذي يحصد أرواح مئات الآلاف من الأميركيين.
في تصريحه لصحيفة نيويورك تايمز، سيقول السيناتور الديمقراطي تشاك شومر إن الموت عبر هذا المخدر أصبح قصة للجميع في الولايات المتحدة الأميركية، يقول هناك الكثير من القصص الشخصية، أصدقاؤنا وعائلاتنا ومقربون منا توفوا بسبب الفاينتنال، هذا يفسر لماذا يهمنا الأمر جميعا.
هناك جزء ظاهر من القصة، هي أن الولايات المتحدة الأميركية تفقد سنويا عشرات الآلاف من المواطنين، لكن لماذا يتهم الأميركيون الصين بالوقوف خلف كل هذه الوفيات؟
هناك العديد من النقاط التي يذكرها الأميركيون حول هذا الأمر، فبجانب أن المواد المتخذة في صناعة هذا المخدر هي قادمة أساسا من الصين، هناك معطى مهم جدا، هو أن المسؤولين الأميركيين يرون أن نظراءهم الصينيين لا يقومون بالواجب لمنع الكميات الكبيرة التي تصل للأسواق الأميركية.
في أبريلنيسان الماضي، كشف محققون أميركيون النقاب عن تقرير يتناول تورط الصين بوصول مخدر الفاينتنال إلى الولايات المتحدة الأميركية. يقول التقرير الذي تم إرساله للمسؤولين عن الملف الصيني في مجلس النواب الأميركي إن الحكومة الصينية تمول بطرق مباشرة وغير مباشرة الشركات المحلية التي تعمل في مجال صناعة الفاينتنال.
ويقول المحققون إن الشركات الصينية التي تنشط في تصنيع المواد المكونة لهذا المخدر تستفيد من دعم الدولة الصينية عبر التخفيضات الضريبية أو مساعدات مالية أخرى مختلفة، وهو أمر سبق وأن تم ذكره في العام 2019 من طرف صحفي التحقيقات الأميركي بين ويستوف في كتابه الذي يحمل عنوان الفاينتنال.
خصصت الولايات المتحدة الأميركية موارد مالية كبيرة من أجل إيجاد حلول لمحاربة انتشار هذا المخدر القاتل، كما أنها جندت ترسانتها القانونية لخنق الشركات الصينية التي تعمل في صنع المواد المشكلة للفاينتنال، فقد قررت وزارة العدل الأميركية متابعة 4 مختبرات صينية بتهمة إدخال عدد من المواد المحظورة إلى التراب الأميركي.
في السياق نفسه، سيصدر ميريك غارلاند النائب العام في الولايات المتحدة الأميركية مذكرة بحث في حق 8 صينيين يعملون في هذه المختبرات، اثنان منهم تم توقيفهما في هاواي الأميركية وتم وضعهما تحت الحراسة النظرية. أحد هذه المختبرات التي تتابعها واشنطن هو مختبر أمارفيل بيوتيك بمدينة ووهان والذي تتهمه الحكومة الأميركية بإدخاله هو وحده أكثر من 200 كيلوغرام من المواد الكيميائية التي يمكن من خلالها صنع 50 كيلوغراما من الفاينتنال، وإن كانت تبدو هذه الكمية ليست بالكبيرة، فإنه من الضروري الإشارة إلى أنها قادرة على قتل 25 مليون أميركي حسب النيويورك تايمز.
وحسب التهم التي قدمتها وزارة العدل الأميركية فإن هذه المختبرات والشركات الصينية للأدوية كانت تمد العصابات المكسيكية الناشطة في مجال المخدرات وعلى رأسها عصابتا سينالو وجاليسكو بالمواد الكيميائية اللازمة من أجل تصنيع مخدر الفاينتنال ثم بيعه بعد ذلك في الأسواق الأميركية حسب تأكيد المعلومات التي أكدتها إدارة مكافحة المخدرات الأميركية.
وبينما تتوالى الاتهامات الأميركية للصين بضلوعها وراء هذه الأزمة التي تعصف بمجتمعها، تنفي الصين تلك المزاعم جملة وتفصيلا، وتضعها في إطار الدعاية الأميركية التي تصنع من كل ما هو صيني عدوا، نظرا للصعود الصيني وما تمثله من خطر مستقبلي على الهيمنة الأميركية العالمية.
في تقرير لها حول تطور الوضع الداخلي في الولايات المتحدة الأميركية، قالت صحيفة نيويورك تايمز، إن المجهودات الكبيرة التي قامت بها الحكومة الأميركية من أجل خفض الوفيات وسط الأميركيين بدأت تعطي بعض المؤشرات الإيجابية.
الصحيفة الأميركية قالت إن ما بين أبريلنيسان 2023 وأبريلنيسان 2024 قلّت نسبة الوفيات الناتجة عن جرعات زائدة من المخدرات بحوالي 10 لتصل إلى 101 ألف حالة وفاة، وهو ما يشكل أكثر نسبة انخفاض عرفتها السنوات الأخيرة، كما عرفت نسبة الجرعات الزائدة غير القاتلة انخفاضا بنسبة 10.
تقول بعض المعطيات إن عددا من الأدوية التي تم استعمالها أظهرت نوعا من التجاوب الإيجابي، لكن الحقيقة تقول إن الأطباء والمحققين الفدراليين لا يعلمون أبدا ماذا يحدث بالضبط، وما الذي يفسر هذا الانخفاض.
تعاني أميركا منذ العام 1970 من ارتفاع في عدد الوفيات بسبب الجرعات الزائدة بشكل سنوي حتى وصل العدد لـ111 ألف وفاة في عام 2022. ورغم الانخفاض في عدد الوفيات هذا العام، فإن المراقبين الأميركيين لم يتوصلوا حتى الآن لسبب موضوعي لهذا الانخفاض، وبالتالي لا يمكن الجزم بفرضية واضحة حول تواصل النزول في هذه المعدلات، أو اعتبار أرقام هذه السنة مجرد مسكّن قد يُكتشف زيفه في الأعوام المقبلة.
تشكل هذه الوفيات صُداعا كبيرا في رأس الولايات المتحدة الأميركية، ويبدو أن هذا الملف يزيد من تعقيد علاقاتها مع الصين ضمن ملفات أخرى كثيرة.
فهذا الموضوع لم يعد مجرد لقطة خادشة لصورة الحلم الأميركي والمجتمع الفاضل، لكنه بات يمس جوهر الأمن القومي الأميركي، ويقلق البيت الأبيض والكونغرس ومؤسسات الحكم في البلاد، وسيكون أحد أهم الملفات التي سيتعاقب رؤساء أميركا المقبلين سعيا لحلها. | https://www.aljazeera.net/culture/2024/11/12/%d8%a7%d9%84%d9%81%d8%a7%d9%8a%d9%86%d8%aa%d9%86%d8%a7%d9%84-%d9%82%d8%b5%d8%a9-%d8%a7%d9%84%d9%85%d8%ae%d8%af%d8%b1-%d8%a7%d9%84%d8%ae%d8%b7%d9%8a%d8%b1-%d8%a7%d9%84%d8%b0%d9%8a | 2024-11-12T01:08:47 | 2024-11-12T09:30:24 | أبعاد |
|
22 | لماذا يزداد انتشار النرجسية في أيامنا أكثر من أي وقت مضى؟ | هل هناك دور لثقافة التربية الحديثة في خلق النرجسية؟ وكيف اكتسب هذا المصطلح كل هذا الزخم وتزايد الاهتمام به أكثر فأكثر مع مضي الوقت؟ | ربّما تكون النرجسيّة إحدى أكثر الكلمات المتعلِّقة بالجانب النفسي تداولًا في السنوات الأخيرة، سواء كان ذلك على الصعيد العالمي أو حتى العربي، واللافت للانتباه أن مصطلح النرجسية يُستخدَم في مجالات مختلفة من السياسة حتى العلاقات الشخصية والحميمية. فكيف اكتسب هذا المصطلح كل هذا الزخم وتزايد الاهتمام به أكثر فأكثر مع مضي الوقت؟
في هذا المقال التحليلي، نتناول التطور التاريخي للاهتمام العلمي بمصطلح النرجسية، ونعرض ونناقش أهم الأبحاث العلمية التي أُجريت لدراسة هذه الظاهرة على اختلاف مقارباتها، بدءًا بدراسات الأجيال، ومرورًا بالدراسات التي تناولت دور الثقافات وأنماط التربية الحديثة، ثم نعرّج على الحديث بتفصيل أكثر عن دور ترامب والسوشيال ميديا في تزايد الحديث عن النرجسية، ونتطرّق أخيرًا لتأثير الظروف التي فرضتها جائحة فيروس كورونا على هذه الظاهرة وجوانبها المختلفة.
من الواضح أن مصطلح النرجسية أصبح أكثر تداولًا في عالم اليوم، ويمكن التدليل على ذلك مثلًا من خلال إحصائيات غوغل لتريندز الكلمات التي يبحث عنها الناس في جميع أنحاء العالم.
تختلف المقاربات في تفسير هذا الاهتمام الكبير بمفهوم النرجسية، إلّا أن أحد أكثر التفسيرات رواجًا هو التغيّر الكبير في الظروف السياسية والاجتماعية، وتأثيراته المتعددة.
في عام 1979، كتب كريستوفر لاش، أستاذ التاريخ في جامعة روتشستر، كتاب ثقافة النرجسية، وقد كان من أوائل مَن بدأ الحديث عن النرجسية بوصفها مشكلة رئيسية في السياق الأميركي تحديدًا. ومنذ ذلك الوقت، بدأ الاهتمام بها يتضاعف مع تقدم الزمن.
ولأن علم النفس ليس بمعزل عن حياة المجتمعات وثقافتها ونظمها السياسية والاقتصادية القائمة، ازداد حضور النرجسية في الأبحاث النفسية والممارسة الطبية بشكل كبير تمّ إضافة اضطراب الشخصية النرجسية في الدليل التشخيصي للاضطرابات النفسية عام 1980.
بعد ذلك، اقترح بعض الباحثين دراسة الفروقات في نسب النرجسية بين الأجيال المختلفة. ومن أهمّ ما أكسب النرجسية زخمًا كبيرًا وأثار حولها المزيد من الجدل في الأوساط العلمية هو الكتاب الذي ألّفاه جين توينغي وكيث كامبل عالما النفس الأميركيان من جامعة سان دييجو وجامعة جورجيا عام 2009، وكان تحت عنوان وباء النرجسية.
في هذا الكتاب، جادل المؤلفان بقوة بأنّ النرجسية في تصاعد مستمر وكبير مع تقدم الأجيال، إلى الدرجة التي يجب علينا التفكير فيها باعتبارها وباءً عامًّا. وكان ذلك اعتمادًا على تحليل إحصائي لنتائج مقياس الشخصية النرجسية Narcissistic Personality Index، وهو استبيان أُجري سنويًّا على طلبة الجامعات منذ عام 1980 وحتى سنة تأليف الكتاب ونُشرت نتائج التحليل كبحث مستقلّ كذلك عام 2008. ويُظهر البحث أن معدلات النرجسية التي قِيست عن طريق هذا المقياس في تصاعد مستمر منذ البداية وإلى وقت نشر الكتاب، وعادةً ما يُوصف جيل الميلينيالز الذين وُلدوا في الفترة ما بين 1980-1996 بأنه الأكثر نرجسية بناء على هذه النتائج. بالإضافة إلى ذلك، اعتمد الكتاب على بيانات أخرى مثل تحليل الكلمات والضمائر المستخدمة في أكثر الكتب والأغاني شيوعًا ونجاحًا في السنوات الأخيرة ما قبل نشر الكتاب، وكانت النتيجة واضحة بتراجع الضمائر الجماعية مقابل صعود الضمائر الفردية.
بالإضافة إلى ذلك، أسهمت نتائج أبحاث أخرى أُجريت في الفترة نفسها تقريبًا في زيادة الاهتمام بظاهرة النرجسية المتزايدة. على سبيل المثال، وجد بحثٌ تتبّعي أنّ نسبة الذين وافقوا على جملة أنا شخص مهمّ زادت من 12 من المشاركين عام 1963 إلى 77 1991.
تعرّضت الأبحاث التي تقول بتزايد النرجسية مع الأجيال الحديثة إلى نقدٍ قاسٍ من قبل باحثين آخرين رأَوا أن هناك مبالغة كبيرة في هذه الخلاصة، وتركّزت الانتقادات على أنّ التحليل الإحصائي لم يُجرَ بالشكل اللازم، كما أنّ نسب الزيادة ليست كبيرة، ولذلك من الصعب القول بأن الجيل أصبح نرجسيًّا بسبب زيادة طفيفة كهذه. وشكّك البعض بأنّ عدد الطلاب الذين تم استبيانهم ليس كافيًا ولا ممثّلًا Representative للخروج بأوصاف حسّاسة من هذا النوع على أجيال كاملة.
من جهة أخرى، شكّك البعض بأداة القياس التي استُخدمت نفسها NPI وهي الأداة الأشهر في الدراسات المسحية العامة للنرجسية، حيث قالوا بأنّها تختلف في تصوّرها عن النرجسية عن التوصيفات الطبية الرسمية، كما تساءلوا عن مدى صحّة أسلوب السؤال وعرض الخيارات فيها.
رغم هذا النقد الكبير، بقيت جين توينغي مصرّة على آرائها وأبحاثها، ونشرت أكثر من مقال تدافع فيه عن النتائج، وتعرض المراجع التي اعتمدتها للخروج بهذه الخلاصات.
وهكذا بقيت مسألة اختلاف نرجسية الأجيال موضوعًا خلافيًّا حتى في سياق علم النفس وبين العلماء أنفسهم. من الجدير بالذكر طبعًا أن جميع هذه الدراسات أجريت في مجتمعات غير عربية، إلّا أنه يمكن تلمّس العديد من التشابهات بينها وبين السياقات العربية.
على صعيد آخر، يلعب الجانب الثقافي والاجتماعي دورًا محوريًّا في تحديد الهويّات الفردية وأنماط السلوك للأشخاص في المجتمع. ويحظى هذا الجانب باهتمام الكثير من الباحثين الذين يَرَون أن تقسيمات الأجيال ليست المقاربة الأفضل لمسألة النرجسية، بل ينطلقون من فرضيّة أن نمط الحياة الفرداني والحديث في جميع أنحاء العالم وتحديدًا في دول الغرب قد يكون السبب الرئيسي في زيادة نسب النرجسية. مثلًا، استحياء شخص ما عند تلقّيه مجاملة أو مديحًا قد يُعتبر ضعفًا في الشخصية أو عدم ثقة بالنفس في الكثير من المجتمعات الغربية، إلا أنّ هذا الأمر يُستقبَلُ بإيجابية أكبر في ثقافة المجتمعات الشرقية ومنها المسلمة والعربية، حيث الحياء ووضع النفس تحت المراقبة الدائمة من الصفات الحميدة والسلوكات الأخلاقية بشكل عام.
إذن، بعد أن أدّى صعود الحياة الفردانية وازدياد قيمة المسيرة المهنية للفرد إلى خفوت القيم الجماعية بشكل عام وصعود القيم الفردية، ظهرت نتائج هذا الأمر في دراسات علم النفس على شكل اختلاف تعريف النجاح الفردي ما بين المجتمعات الفردانية Individualistic والمجتمعات الجماعية Collective، ففي الأولى يركّز معظم الأفراد على قيمة النجاح المهني للفرد، بينما في الثانية يتحدد النجاح أكثر بقيمة إسهام الفرد في الدوائر والمجتمعات المحيطة به.
أما على صعيد النرجسية تحديدًا، فقد وجدت الدراسات فعلًا اختلافات بين المجتمعات الفردانية والجماعية، حيث سجّلت مناطق أميركا وأوروبا وكندا أعلى معدلات على مقياس الشخصية النرجسية 15.3 و15.0 و14.8 على التوالي، بينما سجلت منطقة الشرق الأوسط أكثر المعدلات انخفاضًا 13.9. كما أكدت دراسات أخرى هذه النتائج أيضًا، بالمقارنة تحديدًا بين المجتمعات الشرق آسيوية والمجتمعات الغربية أميركا وأوروبا.
ومن أحدث الأبحاث وأكثرها إثارة للاهتمام في هذا السياق دراسةٌ أجريت في ألمانيا ونُشرت قبل 3 سنوات 2018، وخَلُصت إلى أنّ نسب النرجسية كانت أعلى بشكل دالّ إحصائيًّا لدى الأشخاص الذين نشؤوا في ألمانيا الغربية قبل سقوط جدار برلين، بينما كانت أقل لدى أولئك الذين نشؤوا في ألمانيا الشرقية. ولم يجد الباحثون أيّ فروقات لدى الأجيال اللاحقة التي نشأت في ألمانيا الموحّدة. ومن المعروف أن ألمانيا الشرقية كانت ذات طابع اشتراكي قبل سقوط الجدار وتوحيد ألمانيا، فاعتُبر هذا البحث دليلاً تجريبيًّا مباشرًا على قدرة العوامل الثقافية والاجتماعية على التأثير على نسب النرجسية في أفراد المجتمع.
من المهمّ هنا القول بأن ثقافة المجتمعات ليست صلبة تمامًا، بل في تغير مستمر، فحتى المجتمعات الجماعية قد تبدأ بالتحول إلى الطابع الفرداني شيئًا فشيئًا، والعكس صحيح كذلك. ويدلّل على ذلك دراسة أُجريت في الصين عام 2012، ووجدت أن نسب النرجسية في تزايد بسبب تغير الثقافة، رغم أنّ الصين تعتبر مثالًا مهمًّا جدًّا على البلد ذي الثقافة الجماعية. وهكذا، يبدو أن تغير الثقافات وانزياحها نحو النمط الفرداني أصبح أمرًا عالميًّا رغم اختلاف نسب هذا التغير وتسارعه في المجتمعات المختلفة. ومن الصعب على البلدان العربية والمسلمة أن تكون استثناءً في ظلّ هذه التغيرات التي أصبحت واقعًا على الجميع.
لقد انحسر دور الدين في المجال العام في مجتمعاتنا، وأصبحت خطابات التدين الفرديّ أكثر شيوعًا، وإذا عرفنا أنّ تهذيب الإنسان وتطويع شهواته ورغباته وطغيانه هو أحد المقوّمات الرئيسية لخطابات الأديان بشكل عام والإسلام بشكل خاصّ، فمن السهولة بمكانٍ فهمُ أبعادِ هذا الانحسار مقارنة بتمدّد القيم الليبرالية والثقافة الفردانية وأنماط الحياة الحديثة.
في سياق مشابه، يشير بعض علماء نفس التربية إلى أنّ ثقافة تربية الأولاد تغيّرت في السنوات الأخيرة، تحديدًا في الدول الغربية. فقد أصبحت أكثر تركيزًا على بناء الإحساس بالتميّز والتفرّد في الطفل، وزراعة الشعور بالاستحقاق منذ الصّغر، ومحاولة بناء شخصية لا تقبل إلّا الكمال Perfectionism، لكي يكون له قيمة تنافسية في الحياة الأكاديمية وسوق العمل الرأسمالي بعد ذلك.
ومن الأدلة التي تُساق على ذلك مثلًا أنماط تسمية الأولاد وتغيرها عبر الزمن، فقد سُمّي أقل من 10 من المواليد الجدد عام 2011 بالعشرة أسماء الأكثر استخدامًا، بينما سُمّي أكثر من 40 من المواليد الجدد بالأسماء العشرة الأكثر استخدامًا في فترات نهاية القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين.
يطرح بعض علماء النفس أيضًا نظريةً مثيرة للاهتمام ومدعومة ببعض الأدلة الإحصائية، وهي أنّ ازدياد النرجسية ظاهرة زمنيّة تتعلق بمراحل حياة الإنسان أكثر من كونها متعلّقة باختلاف الأجيال، فهي تزداد بشكل طبيعي في جميع الأجيال وجميع المجتمعات لدى مرحلة الشباب، لكنها سرعان ما تنخفض مع تقدّم الإنسان في العمر. وتبعًا لأنّ مرحلة الشباب أصبحت أطول زمنًا لأسباب اقتصادية واجتماعية، كان من الطبيعي أن تبدو نسب النرجسية مرتفعة بشكل أكبر في الأجيال الحالية. وحتى في حال سلّمنا بوجود ارتفاع في نسب النرجسية لدى الأجيال الحديثة، فهو ارتفاع طفيف لا يُقارن بالانخفاض الكبير في نسب النرجسية مع تقدّم العمر .
في حياتي، أعظم أمرين امتلكتهما هما ثباتي النفسي وذكائي الكبير. لقد تحوّلتُ من رجل أعمال ناجح جدًّا إلى نجم تلفزيون على مستوى القمّة، ثم إلى رئيس الولايات المتحدة الأميركية في أول مرة ترشحتُ فيها. أعتقد أن هذا يؤهّلني لأكون ليس ذكيًّا فقط، بل عبقريًّا... وعبقريًّا ثابتًا ومتوازنًا في عبقريته
دونالد ترامب، تغريدة على حسابه الرسمي في 6 كانون الثاني 2018
من غير المعقول الحديث عن النرجسية في هذا الزمان دون التعريج على الشخصية الأهم والأكثر ارتباطًا بسياق هذه الكلمة، دونالد ترامب
يُلحَظ أن الاهتمام بالنرجسية أخذ منحىً أكثر حِدّةً في السياق الأميركي بعد انتخاب دونالد ترامب رئيسًا للولايات المتحدة الأميركية، فقد زادت نسب البحث عن كلمة نرجسية على محركات البحث الرئيسية خلال فترته. كما أنّ العديد من المتخصصين النفسيين الأميركيين أنفسهم أسهموا في زيادة ربط المفهوم بظاهرة ترامب عن طريق إدخال التشخيصات الطبية المتخصصة إلى السياق السياسي والمجال العام، إلى درجة أن 27 طبيبًا ومعالجًا نفسيًّا ألّفوا كتابًا يحللّون فيه ترامب نفسيًّا ويصفونه وأفعاله بشكل واضح وصريح بالنرجسية.
أحد المعالجين النفسيين الأميركيين الأكثر شهرةً على منصّة يوتيوب تود جراندي، تحدّث في أكثر من مناسبة عن الجانب النفسي من شخصية الرئيس، وتحدّث عن دوره في أحداث الكابيتول كذلك. وغيره من المعالجين والمتخصصين أدلى برأيه في وسائل الإعلام، في مخالفة للتقليد السائد تاريخيًّا من عدم تدخل المتخصصين في المجال السياسي العام إجمالًا، تبعًا لأن استخدام المصطلحات والمفاهيم العلمية التخصصية فيه الكثير من المحاذير على جميع المستويات.
لا يمكن إنكار أن ترامب أسهم في زيادة حضور مفهوم النرجسية في المجال العام والاهتمام بها، فهو تمثيل جيد جدًّا لها تحديدًا في صياغته لشخصيته العامّة بحيله وتصويره الكاذب لنجاحاته المُفترضة المتتالية وذكائه منقطع النظير على حد تعبيره، لكن البعض لا يوافق على تحميل ترامب مسؤولية كبيرة في ازدياد النرجسية، ويرى بأنّ ترامب كان نتيجة لثقافة مترسخة من النرجسية، وليس سببًا وحيدًا أو حتى رئيسيًّا لها، أي أنّه كان مُسرّعًا لظهورها وتجلّيًا لها.
هذا كله مرتبط أيضًا بصعود الحركات الشعبوية حول العالم كذلك، فالشعبوية Populism تعتمد على الخطاب العاطفي الذي يُساق عادةً للناس عبر قيادات تدّعي تمثيل الشعب النّقي مقابل النخب والمؤسسات الفاسدة، وتمتلك قدرًا جيدًا من الجاذبية الشخصية التي تؤهلهم للحديث بثقة والتأثير بالناس. ويمكن فهم خطاب الشعبويين عمومًا على أنّه خطاب نرجسية جماعية، لأنه يفترض الحقيقة المطلقة، ويسفّه من جميع أطروحات الخصوم السياسيين بل وانتماءاتهم، حتى في المساحات التي تبدو ضبابية ومن الطبيعي أن تختلف الآراء فيها. وهذا يتقاطع مع ما تم وصفه سابقًا من صفات النرجسية النفسية، من حيث إنها اعتداد بالنفس بما يشمله ذلك من آراء وأفكار وأفعال وغيرها، واعتبارها أرفع قدرًا وأعلى مكانة من الآخرين.
درست بعض الأبحاث العلاقة بين الظروف الاقتصادية ونسب النرجسية كذلك، ووجدت علاقة قوية بين نسب النرجسية المتدنّية وحالات سوء الاقتصاد العامة، مثل الكساد أو الأزمات الخانقة، ويفسر العلماء ذلك على أنّ النرجسية لا تكون ممكنة إلا في حال شعر الشخص بأنه غير معتمد على غيره لتأمين حاجاته اليومية، وإلّا فسيكون من الصعب أن يحافظ على شعوره بالتميز والاختلاف في ظل ظروف كهذه.
تخيّل أن العالم تحوّل إلى حَلبةٍ كبيرة للمسابقات، ما بين عروض مختلفة للجمال والقوة والشهرة والثروة. كم يشبه هذا الخيال عالمَ السوشيال ميديا الذي نعايشه ونعيشه يوميًّا في حياتنا؟
تبدو العلاقة بين وسائل التواصل الاجتماعي السوشيال ميديا والنرجسية بديهية بعض الشيء، فهي مكانٌ يوفّر مساحةً مستقلّة للإنسان لكي يقول أي شيء في أي وقت، ولكي يعرض ما لديه حتى نفسه كسلعة في سوق المتابعين واللايكات. كما أنّها مكان يسمح لك أن تُظهر ما تريد وأن تخفي ما تريد، على عكس الحياة الواقعية التي لا يستطيع الشخص فيها دائمًا الاختباء وراء الأقنعة أو خلق شخصية افتراضية واستدامتها.
إضافةً إلى ذلك، تعطينا منصات التواصل الاجتماعيّ فُرصة وإمكانية التواصل الافتراضي مع عدد كبير من الناس دون أن يكون هذا التواصل ذا عمقٍ أو قيمة بالضرورة. معظمنا لديه الكثير من الأصدقاء، لكنه يتواصل بشكل دوريّ مع نسبة محدودة منهم، ناهيك بأنّ خوارزميات هذه المنصّات تتعمّد أن تُظهر للمستخدم ما يحبّ من المنشورات والصور والإعلانات، جاعلةً منها أداة لتعزيز ما نحن عليه من تصورات عن كل شيء بما فيه أنفسنا، وهذا تمامًا ما يسميه الناشط والكاتب إلي باريزر فقاعة الفلتر Filter Bubble. لكن الفرق بين هذه الفقاعة والفقاعات الأخرى أنّها لا تنفجر بسهولة، فالتّعزيز الكثيف والمستمرّ من المتابعين والغرباء والمعجبين يجعل منها عوالمَ بحد ذاتها لا يكترث الكثيرون فيها لحقيقة أنّها افتراضية، بل تأخذ منهم ويعيشون معها وفيها بقدر العالم الحقيقي إذا لم يكن أكثر.
ولا يمكن تجاهل ثقافة السيلفيز التي انتشرت كثيرًا بعد السوشيال ميديا، وتعتبر تمظهرًا واضحًا للتمركز حول الذات، ورمزية مهمّة حتى في فعل بسيط كالتقاط الصور.
تناولت كثير من الأبحاث النفسية العلاقة بين النرجسية ومنصّات التواصل الاجتماعيّ تحديدًا في السنوات الخمس الأخيرة. أحدها كان مسحًا شاملًا أُجري عام 2017 على أكثر من 23 ألف شخص في النرويج، ووجد أنّ النرجسية مرتبطة بنسب استخدام أعلى للسوشيال ميديا وإدمانها، نتيجة يفسرها الباحثون بأنّ هذه المنصّات تشكّل مساحة ممتازة لتعزيز فردانية الشخص وتغذية نرجسيته.
وتدعم أبحاث مشابهة في بلدان أخرى نتيجة هذا البحث، أحدها كان تحليلًا إحصائيًّا ممنهجًا وجد أن النوع الأول من النرجسية تحديدًا الواضحة، Overt مرتبط بشكل أكبر بالاستخدام المفرط للسوشيال ميديا، وهو أمر منطقي إذا ما أخذنا بعين الاعتبار أن النوع الثاني الخفيّ، Covert يكون أكثر قلقًا وخجلًا، بينما أضاف تحليل إحصائي ممنهج آخر أنّ منصات السوشيال ميديا ليست سواء في آثارها على النرجسية، فـتويتر مثلًا يعتبر أقل تأثيرًا وارتباطًا بالنرجسية من فيسبوك أو إنستغرام .
وبالحديث عن السيلفيز، وجد باحثون نتيجة مثيرة جدًّا للاهتمام، وهي أن النرجسية ليست فقط مرتبطة بالمزيد من سلوك التقاط السيلفيز ونشرها، بل أيضًا أن هذا السلوك التقاط الصور والنشر على منصات السوشيال ميديا يعزز النرجسية نفسها. بمعنى آخر، ارتفعت معدلات النرجسية لدى النرجسيين أنفسهم بسبب وجود منصات ينشرون عليها صورهم، وكأن هذه المنصّات لعبت دور المُسارع والمحفّز.
وتشير الأبحاث إلى أنّ المشاهير عمومًا يسجّلون معدّلات أعلى من النرجسية مقارنة بغير المشاهير؛ ما قد يُستخدَم للتدليل على دور السوشيال ميديا بوصفها مُسارعًا للنرجسية، إذا أخذنا بعين الاعتبار أنها أسهمت في تحقيق شهرة واسعة لدى العديد من الأشخاص، وتحديدًا في أعمار الشباب، ممّن أصبحوا يُدعَون بـالمؤثّرين أو الإنفلونسرز.
ما زالت البشرية تعيش آثار جائحة كورونا التي ضربت البشر عام 2020 والتي ستمتدّ آثارها غير المباشرة على مدى سنوات وربما عقود، أصبح التواصلُ البشري غير المباشر أكثر حضورًا بكثيرٍ من المباشر. هذا، وإن كان له الكثير من المبرّرات الصحّية بطبيعة الحال، إلّا أنه ولّد الكثير من المشكلات النفسية والاجتماعية، فالاعتماد الكبير على العمل من البيت والاجتماعات الإلكترونية جعلنا نحن البشر مُجبَرين على أن نكون تحت مجهر تكنولوجيا التواصل بأشكالها المختلفة، واختزل وجودنا نوعًا ما بصورة متحركة على مربّع في شاشة زوم، ولم تَعُد هذه الأشياء خيارًا، بل ضرورة وسط ظروف قاهرة.
المزيد من العوالم الافتراضية والتواصل غير الواقعي يعني مزيدًا من الاهتمام بالصّورة أكثر، ولا أدلَّ على ذلك من ازدياد الإقبال على عمليات التجميل والاستشارات والشكاوي النفسية الخاصة بصورة الجسد، Body Image بشكل كبير بعد الشّروع بالإغلاقات وإجراءات الحظر حول العالم، وشيوع التواصل عبر برامج التواصل الإلكتروني بشكل رئيسي. فهل من الممكن أن يُسهم ذلك كله في تعزيز السلوك النرجسي أو زيادة ظهوره؟ يظلّ هذا السؤال يرسم الإجابة في ظلّ عدم وجود إجابات بحثية واضحة عليه.
وقد تناولت بعض الدراسات الحديثة جدًّا نُشرت في 2020 و2021 اختلاف بعض أنماط السلوك لدى النرجسيّين في التعامل مع الجائحة ومعتقداتهم تجاهها، خصوصًا في مَعرض الحديث عن نظريات المؤامرة وخطابات النرجسية الجماعية التي ترفض الإغلاقات والتحفّظات الطبّية والإجراءات الصحية بخصوص الفيروس، إلّا أن الكثير من الأسئلة حول النرجسية في زمن الجائحة وما سبّبته من ظروف تبقى مفتوحةً، حيث إن الفرضيات المطروحة كثيرة والعوامل المتغيرة أكثر.
___________________________________________________________________
المصادر والمراجع | https://www.aljazeera.net/sukoon/2022/8/3/%d9%88%d9%8e%d8%a8%d8%a7%d8%a1-%d8%a7%d9%84%d9%86%d9%8e%d9%91%d8%b1%d8%ac%d8%b3%d9%8a%d8%a9-%d9%85%d9%86-%d9%85%d9%86%d8%b5%d9%91%d8%a7%d8%aa-%d8%a7%d9%84%d8%aa%d9%88%d8%a7%d8%b5%d9%84 | 2022-08-03T09:01:18 | 2024-05-30T10:02:16 | أبعاد |
|
23 | التمرد الكبير.. غزة تغير حياة الطلاب في بريطانيا | بعد احتجاجات الجامعات الأمريكية وانتفاضتها على ما يحدث في غزة، خاصة جامعتي كولومبيا وهارفارد، بدأ طلاب الجامعات البريطانية، ومن بينهم طلاب جامعة إدنبرة، الاحتجاج بطريقتهم. | استيقظت آرلو الفتاة العشرينية الشقراء بعد أن تسللت أضواء الصباح إلى خيمتها المنصوبة في باحة الكلية القديمة بجامعة إدنبرة في قلب العاصمة الأسكتلندية. لم تكن الساعة قد تجاوزت الرابعة والنصف صباحًا، لكن الآن هو موعد شروق الشمس التي لم يختف ضوؤها في اليوم السابق إلا بعد العاشرة مساءً في هذا الجزء من شمال الكرة الأرضية. لم تكن الشمس فحسب هي التي أيقظت آرلو، بل الجوع أيضًا. فالطالبة التي تدرس الفلسفة وعلم اللاهوت لم تأكل منذ ثلاثة أيام، فهي تخيم أمام كلية القانون منذ ثلاثة أسابيع، وتضرب عن الطعام للمرة الثانية احتجاجًا على حرب الإبادة الإسرائيلية على قطاع غزة.
تمثل آرلو جيلًا كاملًا من الطلاب في الجامعات البريطانية وحول العالم، فاجأه الصمت الدولي على المجازر الإسرائيلية في فلسطين، وشكل له معضلة حقيقية في الجمع بين المبادئ التي يدرسونها في أقسام القانون والفلسفة والأخلاق، وبين ما يرونه رأي العين من ممارسات الساسة وصناع القرار في بلدانهم، وحتى الكثير من الأكاديميين الذين يحاضرون أمامهم.
لم يكن الإضراب عن الطعام أول السبل التي سلكتها آرلو وزملاؤها للاعتراض على ما سمّوه التواطؤ في المذبحة الجارية في غزة. فقد قام الطلاب بتجربة كل شيء كما تقول. فبعد أن رأوا الجامعات الأمريكية تنتفض، خاصة جامعتي كولومبيا وهارفارد، بدأ طلاب الجامعات البريطانية، ومن بينهم طلاب جامعة إدنبرة ذات التصنيف المتقدم بين جامعات العالم، الاحتجاج بطريقتهم. في البداية تحدثوا مع إدارة الجامعة، ومع ممثلي الطلاب، وتظاهروا، وسيطروا على مبان جامعية، قبل أن ينخرطوا في أنشطة ويرسلوا برسائل ضمت هيئة التدريس وموظفي الجامعة أيضًا، كل ذلك لأجل هدف رئيسي هو مقاطعة الجامعة للمؤسسات الأكاديمية الإسرائيلية وسحب الاستثمارات من الشركات والمؤسسات الداعمة للإبادة الجماعية في غزة.
ترى آرلو، الفتاة القادمة من لندن للدراسة في الشمال، أن لديها مسؤولية كبيرة لإقناع جامعتها بالانتصار للمظلومين، وإن لم تستطع فعل ذلك، فستحاول إقناع الطلاب الجدد بألا ينفقوا أموالهم للدراسة في جامعة إدنبرة. تنفق عائلة آرلو سنويًّا 9000 جنيه إسترليني 11500 دولار تقريبًا لتكاليف الدراسة في جامعة إدنبرة، في حين تبلغ التكاليف للطلاب الأجانب أكثر من ضعفي هذا الرقم، لتصل إلى 23 ألف جنيه إسترليني 30 ألف دولار تقريبًا. وفي المقابل، تستثمر الجامعة أكثر من 56 مليون جنيه إسترليني أكثر من 71 مليون دولار في شركات مثل بلاك روك، التي تستثمر في شركات تصنع أسلحة لجيش الاحتلال الإسرائيلي، أو شركة أمازون التي تقدم خدمات الحوسبة للقطاع العام الإسرائيلي بما في ذلك جيش الاحتلال، وكذلك موقع بوكينغ الذي يسمح باستئجار المساكن والفنادق في المستوطنات غير القانونية في الضفة الغربية.
يتفاوض الطلاب مع إدارة الجامعة بطرق مختلفة من موقعهم في باحة الكلية، التي يطل عليها مكتب رئيس الجامعة، وهو المكتب الذي شغله يومًا ما وزير الخارجية البريطاني آرثر بلفور صاحب الإعلان الشهير الذي منح أرض فلسطين للحركة الصهيونية من أجل إقامة إسرائيل. ويصدرون العديد من المنشورات، التي يعمل عليها أساتذة وأكاديميون مختصون في القانون الدولي والاقتصاد وباحثون ممن تخرجوا في الجامعة، مرورًا بالخطابات المفتوحة للتوقيع، التي يُتاح للمقيمين في إدنبرة التوقيع عليها، فضلًا عن اللقاءات التي تُنسق بين الطلاب المعتصمين ونائب رئيسة الجامعة الأميرة آن، ابنة الملكة الراحلة إليزابيث الثانية، وشقيقة الملك تشارلز الثالث. لكن استجابة جامعة إدنبرة لم تكن جادة ولا تقترب من طموحات المعتصمين، بحسب الطلاب بحسب قول آرلو رغم إضراب 20 طالبًا عن الطعام على مدار الشهر الماضي، لا تزال إدارة الجامعة ترفض التعاطي مع مطالبنا أو التفاوض كما يجب.
ما تتحدث عنه آرلو ظهر بوضوح في نقاشات صُوِّرت بين نائب رئيسة الجامعة والمعتصمين، حاول فيها النائب التقليل من شأن تجمعهم، والإيهام بأن قرارات محكمة العدل الدولية مسيّسة أو ليست نهائية، وهو ما أدى إلى المزيد من الاحتقان بين الطلاب وإدارة الجامعة.
ما فعلته إدارة الجامعة لا يعدو كونه استفزازًا في صورة تسويف، وتأجيلًا للتعامل مع مطالب المعتصمين. فقد اقترحت الجامعة فضّ الاعتصام وإنهاء الطلاب إضرابهم عن الطعام مقابل تكوين مجموعة عمل لدراسة مطالب المعتصمين، والرد عليها خلال أشهر، وهو ما يصفه الطلاب بأنه أمر هزلي. كذلك صرح أحد الطلاب للجزيرة نت بأن كل الرسائل التي أرسلتها إدارة الجامعة إلى المعتصمين كانت مبهمة، وغير منتظمة، ومثيرة للشفقة.
لا يقف الطلاب وحدهم في هذه المعركة. فقد ألهم حراكهم قطاعات أخرى، سواء في الساحة الأكاديمية أو على مستويات أخرى. فمثلًا، قام 600 من أساتذة وموظفي جامعة إدنبرة بإرسال خطاب مفتوح لإدارة الجامعة لمطالبتها بمقاطعة الشركات الداعمة للاحتلال وسحب الاستثمارات منها، وهي المطالبات التي ينادي بها الطلاب. كذلك فإن اتحاد الطلاب في جامعة إدنبرة، وهو هيئة منتخبة تمثل الطلاب وتعترف بها إدارة الجامعة، أجرى استطلاعًا للرأي بين طلاب الجامعة، فوجد أن غالبية ساحقة تتعدى 97٪ من الطلاب يؤيدون مطالب المعتصمين بسحب الاستثمارات والمقاطعة.
من ناحية أخرى، يعتمد طلاب جامعة إدنبرة في نضالهم على مجتمع تغيره المشاهد القادمة من غزة، سواء كانت صور المذابح، أو صور صمود المقاومة. تقول إحدى الطالبات الأجنبيات في أقسام الدراسات العليا إنها لا تستطيع المشاركة بشكل مستمر في الاعتصام، لكنها تجتهد في دعم الطلاب المعتصمين من خلال تزويدهم باحتياجاتهم، وتوفير الطعام وغير ذلك. وتقول آرلو إن المجتمع المحلي في أسكتلندا أثبت دعمه لقضية الطلاب المعتصمين بسخاء شديد. وفضلًا عن ذلك هناك جانب آخر يتمثل في وحدة القضايا، إذ وجد مناصرو القضايا العادلة في اعتصام الطلاب المؤيدين لفلسطين ملاذًا لإعادة الاعتبار لقضاياهم كذلك.
ينظم الطلاب المعتصمون حلقات نقاشية ومحاضرات وعروض أفلام وندوات لتغطية طيف واسع من الاهتمامات. أما المحاضرون، فإن تنوعهم يعطي لمحة عن الأثر الذي تركته الحرب في غزة على المجتمع في أسكتلندا. فمثلًا، جاء مايكل أورغل، وهو طبيب أمريكي متقاعد تجاوز السبعين من عمره، ومعه أستاذة الاجتماع بالجامعة والناشطة لين جيمسون إلى الاعتصام للحديث مع الطلاب عن قضية حظر السلاح النووي على دول العالم، وإسرائيل على رأسها.
في محاضرته، تحدث أورغل عن كيف تتشابه الأسلحة النووية مع ما يفعله الاحتلال الإسرائيلي خلال قصفه على غزة هذه أسلحة لا تفرق بين مدني وغيره، وهذا وحده انتهاك للقوانين الدولية لحقوق الإنسان والقانون الدولي الإنساني. كذلك تحدث أورغل عن السلاح النووي البريطاني الذي تستضيفه أسكتلندا.
أما أستاذة علم الاجتماع لين جيمسون، فأخبرت الطلاب بما يمكن أن يحدث إذا أُعلن استقلال أسكتلندا، وكيف سيؤثر ذلك في حرمان بريطانيا من استخدام سلاحها النووي وتخزينه بالشكل الأمثل، وهو ما يمثل دافعًا لأصحاب قضية الاستقلال، من أجل التعاون مع أصحاب قضية حظر الأسلحة النووية. وكذلك لم ينس المتحدثان أن يربطا بين التهديدات الوجودية التي تواجه البشر، مثل خطر تغير المناخ والحرب النووية، وكيف أن مطالبات الطلاب يجب أن تمتد إلى طلب سحب استثمارات الجامعة ومقاطعة الشركات التي تعمل في مجال الأسلحة النووية.
فضلًا عن ذلك، ذكر المتحدثان قضية السكان الأصليين في دول مختلفة، مثل أستراليا والجزائر، الذين تضرروا بشكل هائل من التجارب النووية التي قامت بها الدول النووية الاستعمارية مثل بريطانيا وفرنسا. جدير بالذكر أن خيام المعتصمين تتوسطها خيمة على شكل الخيام التي عاش فيها السكان الأصليون في الولايات المتحدة، المعروفون بالهنود الحمر.
وبمجرد أن انتهت هذه المحاضرة التي حضرها عدد من الطلاب المعتصمين، ولم تفوتها آرلو، بدأت محاضرة أخرى في باحة الاعتصام عن تاريخ الفنون في سياق الاستعمار.
في يوم واحد، ناقش الطلاب قضايا استقلال أسكتلندا عن بريطانيا، وحظر السلاح النووي، وقضايا السكان الأصليين، والتغير المناخي، وكيف استُخدم الفن تاريخيًّا في مواجهة الحركات الاستعمارية والاستيطانية. هذا ما تفعله غزة
ورغم استياء إدارة جامعة إدنبرة الواضح من مطالب الطلاب واعتصامهم المستمر، تبقى الجامعة ملتزمة بالحفاظ إلى حد كبير على حقهم في حرية التعبير. تقول آرلو إن إدارة الجامعة لا تزال تؤمن بصدق بأهمية النقاش ووجود الأفكار المختلفة وتدافع الآراء المتناقضة في المساحة الأكاديمية. لأول وهلة مع دخولك إلى مقر الاعتصام، لن تخطئ عينك أفراد الأمن الموجودين في المكان. لكن يقول الطلاب إن أفراد الأمن ليسوا معنيين بحمايتهم، بل بحماية منشآت الجامعة منهم، والدليل على ذلك أن عددًا من الأفراد من خارج الجامعة من المؤيدين لإسرائيل قاموا بالتعدي على مكان الاعتصام أكثر من مرة، بلا رد من أفراد الأمن الموجودين في المكان.
الأمر ذاته حصل في اعتصامات مختلفة وجامعات بريطانية أخرى. لكن مع ذلك، تبقى السمة السائدة هي السماح -على مضض- للطلاب بالاعتصام، مع إظهار قدر من الاستياء من وجودهم.
تكرر الأمر في جامعات إنجليزية أخرى حيث يعتصم الطلاب، من غير موافقة إدارات الجامعات. لكن مجرد وجود الطلاب يبدو مكسبًا مهمًّا، حتى وإن لم تستجب الإدارات لمطالبهم بالمقاطعة وسحب الاستثمارات.
ففي مؤتمر دولي عقدته الجمعية البريطانية للدراسات الإسلامية في شهر مايوأيار، بجامعة ليدز، هيمن نشاط الطلاب ومطالبهم وردّ الجامعات على حوارات المؤتمر. فمثلًا تحدث سلمان سيد، أستاذ النظرية الاجتماعية في جامعة ليدز عن تفسيره لردّ الجامعات على مطالب الطلاب باعتبار أن الجامعة هي أحد منتجات المرحلة الاستعمارية الأوروبية، وأنها كانت تهدف لترسيخ وجود الاستعمار، لا محاربته. وتحدثت مريم قاشاني، الأستاذة الأميركية في جامعة إلينوي عن نضالات الطلاب، وكيف صُمّمت بعض البرامج الجامعية للحفاظ على هيمنة المؤسسات الغربية، بلا فرصة للشعوب الأصلية وأصحاب القضايا في الفكاك. كذلك تحدث آخرون عن تحول سردية المقاومة إلى خطاب رأي عام، وعن المقاربات المختلفة بين الروايتين القرآنية والتوراتية في تفسير بعض الأحداث التاريخية التي قد يكون لها انعكاسات حتى الآن في الحرب الدائرة في غزة وممارسات الاحتلال الإسرائيلي. هذا كله رغم أن جامعة ليدز لم تتجاوب حتى الآن مع مطالب سحب الاستثمارات.
هذا التأثير يمكن ملاحظته بشكل أعم، إذ قالت لوتشيا أردوفيني، الأستاذة بجامعة لانكستر، إنها فوجئت بالتحول الهائل الذي حدث لطلابها في أعقاب هجوم السابع من أكتوبر والحرب الإسرائيلية على قطاع غزة. وأوضحت ذلك قائلة يمكنني القول إن هذا الجيل هو الجيل الأقل تسييسًا الذي رأيته على الإطلاق.. لكن كان هذا قبل الحرب على غزة. وأكدت أن الطلاب الآن يُظهرون اهتمامًا فائقًا بالشأن العام، ويظهرون استعدادًا كبيرًا لتحديد تفضيلاتهم في التصويت في الانتخابات على سبيل المثال، اعتمادًا على مواقف الساسة والمشرعين من الحرب على غزة ودعم الاحتلال.
تتحول اعتصامات الجامعات إلى حالة لا مثيل لها. فرغم انتفاضات الجامعات والشعوب في حوادث مختلفة، مثل الحرب الأميركية على العراق، أو في العقود التي سبقت ذلك مثل الاعتراض على نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا، أو حركة الحقوق المدنية وحرب فيتنام والثورة الثقافية في نهاية الستينيات، تبدو اللحظة الحالية مختلفة إلى حد بعيد.
فمن ناحية، لم تعد القضية الفلسطينية أمام هؤلاء الطلاب ومناصريهم قضية إغاثية، تتناول اللاجئين أو إدخال المساعدات أو إخراج المصابين للعلاج، بل أصبحت قضية ثورية تجمع المؤمنين بالحق والعدل. فبمشاركة ذوي خلفيات متعددة في اعتصام جامعة إدنبرة على سبيل المثال، من البوذيين والمسلمين واليهود وحتى الإسرائيليين المؤيدين للسلام، يتحول الاعتصام شيئًا فشيئًا ليصبح دعوة للتحرر بأقوى العبارات والوسائل. فمثلًا، في مظاهرة يوم السبت الأول من يونيوحزيران، التي نُظِّمت في مقر الاعتصام، تحدث بعض الطلاب عن خسائر جيش الاحتلال في غزة، ليهتف عدد من المتظاهرين مطلقين صافرات الاحتفال بمقتل جنديين إسرائيليين في غزة. أما التغيير الأبرز، من ناحية أخرى، فهو التحول التدريجي من استخدام الهتافات الإنجليزية الأقرب إلى الحياد، إلى الهتافات العربية المؤيدة للمقاومة بشكل واضح، التي يترجمها الطلاب العرب لرفاقهم الأجانب، ويهتفون بها جميعًا.
لا يطالب المعتصمون بالكثير، إذ تقول آرلو إنها لا تطمح إلى أن ترى جامعة إدنبرة تفعل أكثر مما فعلته جامعات أخرى مثل جامعة غولدسميث في لندن، أو كلية ترينتي التابعة لجامعة كامبردج، وكلتاهما قررتا سحب الاستثمارات والاستجابة لمطالب الطلاب.
آرلو، وزملاؤها، يملكون أملًا كبيرًا في المستقبل، ورؤية مشرقة لما يمكن أن يكون عليه العالم، ولعل هذا هو ما عناه الطالب الفلسطيني القادم من الخليل الذي أطلق على نفسه اسم حنظلة في حديثه مع المعتصمين حين قال لهم في تفاؤل ظاهر إن الناس الذين يسمعون اليوم أخبار إبادتنا، سيسمعون غدًا أخبار انتصارنا؛ لتضج الباحة بالتصفيق الذي سمعته حتمًا إدارة الجامعة من الشرفة المقابلة. | https://www.aljazeera.net/politics/2024/6/3/%d9%81%d9%84%d8%b3%d8%b7%d9%8a%d9%86-%d8%aa%d8%ad%d8%b1%d8%b1%d9%86%d8%a7-%d9%83%d9%8a%d9%81-%d8%aa%d8%ba%d9%8a%d8%b1-%d8%ba%d8%b2%d8%a9-%d8%ad%d9%8a%d8%a7%d8%a9-%d8%a7%d9%84%d8%b7%d9%84%d8%a7%d8%a8 | 2024-06-03T07:31:14 | 2024-06-25T08:46:41 | أبعاد |
|
24 | توبوليف باك دا.. هل تهدد القاذفة الشبحية الروسية التفوق الجوي الأميركي؟ | تعد القاذفة “باك دا” أخطر سلاح روسي قيد التطوير، إذ صُممت لتكون المنافس للقاذفة الشبحية “بي-21 رايدر” والتي ستكون القاذفة الرئيسة للقوات الجوية الأميركية خلال العقود الثلاثة المقبلة. | حتى نهاية عام 2022 تقريبا، اعتقد المسؤولون في وزارة الدفاع الأميركية البنتاغون أن روسيا لا تمتلك الخبرة الكافية أو الموارد اللازمة لإنتاج قاذفة شبحية إستراتيجية في وقت قريب، رغم إعلانها أنها تمتلك مشروعا متطورا لإنتاج واحدة. والقاذفات هي نوع خاص من الطائرات المقاتلة ليس مصمما للاشتباكات الجوية بقدر ما هو مجهز لاختراق دفاعات العدو وتدمير الأهداف الإستراتيجية، ويشير وصف القاذفات بالشبحية إلى قدرتها على التخفّي من الدفاعات الجوية المتقدمة، في حين يُلمح وصف إستراتيجية غالبا إلى قابلية هذه القاذفات لحمل أسلحة نووية.
رغم ذلك لا يمكن أخذ توقعات الأميركيين بشأن قدرات الروس بأنها مسلّمة، إذ غالبا ما تقع في فخ التحيز والإحساس الدائم بالتفوق، وهو ما تسبب في إخفاق واشنطن غير مرة في توقع قدرة موسكو على تحديث قدراتها العسكرية. فمع تصاعد حدة التوترات في الحرب الروسية على أوكرانيا، بثت مواقع عسكرية في مطلع أغسطسآب الفائت معلومات تفصيلية عن القدرات التكنولوجية لأحدث قاذفات الجيل السادس الروسية، التابعة لبرنامج باك دا، والتي من المتوقع أن تحل محل اثنين من قاذفات موسكو الرئيسة، هما تو-160 Tu-160 الملقبة بالبجعة البيضاء White Swan، وتو-95 إم إس Tu-95MS الأقدم التي دخلت الخدمة العسكرية عام 1956.
قبل ذلك كشفت وكالة الأنباء الروسية تاس في ديسمبركانون الأول 2023 أن موسكو شرعت فعليا في إنشاء قاعدة لاختبار القاذفة باك دا التي من المقرر أن تخوض أولى رحلاتها عام 2025، على أن يبدأ الإنتاج التسلسلي للقاذفة عام 2027، وذلك ما يدفعنا إلى التساؤل عن إمكانات القاذفة الروسية الجديدة ومدى قدرتها على منافسة القاذفات الأميركية المتطورة، وفي مقدمتها قاذفة بي-2 سبيريت التي يعتمد عليها الجيش الأميركي حاليا، والقاذفة بي-21 رايدر المقرر أن تدخل الخدمة في غضون سنوات، وكلتاهما من إنتاج عملاق الصناعات العسكرية الأميركي نورثروب غرومان.
تعد القاذفة باك دا أخطر سلاح روسي قيد التطوير حقيقة لا مجازا، إذ صُممت لتكون المنافس للقاذفة الشبحية بي-21 رايدر B-21 Raider المُنتظر أن تصبح القاذفة الرئيسة للقوات الجوية الأميركية خلال العقود الثلاثة المقبلة. وعلى الرغم من حداثة التطورات الجدية حول باك دا، فإن تاريخ المشروع يعود إلى تسعينيات القرن الماضي عندما سعى الكرملين أول مرة لتطوير قاذفة شبحية إستراتيجية، غير أن تمويل البرنامج لم يبدأ فعليا إلا في عام 2008، بينما لم يُعلَن عن القاذفة باك دا على مستوى رسمي إلا في عام 2019، عندما أعلن نائب وزير الدفاع الروسي آنذاك أليكسي كريفوروتشكو الموافقة على مشروع تصميم قاذفة شبحية إستراتيجية من الجيل السادس، مزودة بأسلحة فرط صوتية.
بدأ العمل على إنتاج النموذج التجريبي الأول للقاذفة في العام التالي مباشرة 2020، وحملت الاسم الرمزي المنتج رقم 80 أو Poslanik، الذي يعني بالروسية المبعوث أو الرسول، وأُسندت مهمة تصميم القاذفة وإنتاجها إلى شركة توبوليف Tupolevالروسية التي أُسّست قبل أكثر من قرن عام 1922 وصممت أسطول روسيا التاريخي من القاذفات الثقيلة بأكمله.
وقد استوحي الروس تصميم باك دا من منافستها الأميركية الأقدم بي-2 سبيريت B-2 Spirit، خاصة في شكل الجناح المدمج مع جسم الطائرة، كما يميز القاذفة الروسية غياب وجود تكوينات بارزة وهو ما جعل التصميم شبحيًّا بامتياز. كذلك، زودت موسكو القاذفة باك دا بأجهزة كمبيوتر متقدمة قادرة على التحكم في الطيران ومراقبة تحركات العدو، مع تجهيزها بأنماط الطيران من دون طيار، وأحدث أنظمة الاتصالات والحرب الإلكترونية، وذلك ما يمنحها القدرة على شن هجمات إلكترونية.
يبلغ وزن القاذفة عند الإقلاع 145 طنًّا، ويشمل ذلك حمولة تزن 30 طنًّا من الذخائر النووية والتقليدية، وقد صممت لتكون قاذفة إستراتيجية بعيدة المدى، إذ يصل مداها إلى 12 ألف كيلومتر، كما أنها قادرة على البقاء في الجو 30 ساعة. أما في ما يتعلق بسرعة باك دا، فمن المرجح أن تطير بسرعة تحت صوتية أقل من سرعة الصوت، وذلك لأن القاذفات ذات المدى البعيد تركز على ميزات التخفي أكثر من السرعة، وهو ما يمنحها أيضا القدرة على حمل وزن أكبر من الذخائر.
تشير التقديرات أيضا إلى أن القاذفة الروسية بإمكانها حمل ما يصل إلى 12 صاروخا، على رأسها صواريخ كروز من طراز Kh-BD قيد التطوير، والتي يبلغ مداها الأقصى 6500 كيلومتر، بالإضافة إلى صواريخ كينجال Kinzhal الباليستية الفرط صوتية المعروفة باسم الخنجر نظرًا لقدرتها على إصابة الأهداف بدقة عالية. وتمتاز صواريخ كينجال بمدى يصل إلى 3 آلاف كيلومتر، وقابلية حمل رؤوس نووية أو تقليدية، وتبلغ سرعتها 14 ألفا و800 كيلومتر في الساعة. ومن المقرر أن تتمتع باك دا أيضا بخاصية تخفيض المقطع العرضي للرادار RCS، إلى جانب استخدامها لمواد ممتصة لترددات الرادارات، وذلك مما يعزز قدراتها في التخفي ويجعلها قادرة على اختراق المجال الجوي دون أن تكتشفها رادارات العدو.
إبان الحرب الباردة، أدى ظهور القاذفة الأميركية بي-2 سبيريت B-2 Spirit إلى تغيير قواعد اللعبة، إذ قُدّمت إلى العالم بوصفها أول قاذفة إستراتيجية شبحية قادرة على حمل أسلحة نووية، ولا يمكن لأجهزة الرادار الكشف عنها، وهو ما أسهم في تكريس هيمنة الولايات المتحدة على المجال الجوي، بعدما أصبحت الدولة الوحيدة في العالم التي تمتلك هذا النوع من القاذفات القادرة على التخفي.
لكن المفارقة الأبرز في هذا الصدد تكمن في أن الفضل في اكتشاف خصائص التخفي التي استخدمت في الأسلحة الأميركية طوال عقود يعود بالأساس إلى علماء روس. فقد كانت أبحاث العالم الفيزيائي الروسي بيتر أوفيمتسيف، التي ترجمت إلى الإنجليزية، هي حجر الأساس الذي بنى عليه مهندسو شركة لوكهيد Lockheed الأميركية نظرياتهم المتعلقة بانكسار الموجات الكهرومغناطيسية الخاصة بالرادار، وهو ما أسهم بالنهاية في تفوق الولايات المتحدة على مستوى العالم في تقنيات التخفي. وكانت طائرة إف-117 نايت هوك F-117 Nighthawkالتي دخلت الخدمة في منتصف ثمانينيات القرن الماضي نتاج هذا الجهد كأول طائرة شبحية مقاتلة.
يدعونا ذلك إلى الإشارة سريعا إلى الفوارق الرئيسة بين الطائرات المقاتلة والقاذفات الإستراتيجية، فعلى الرغم من أن كلا النوعين ينتمي إلى مصاف الطائرات العسكرية، فإن كلا منهما يلعب دورًا مختلفًا في الحروب والصراعات. وغالبا ما تتسم المقاتلات بسرعة أكبر ومدى أقل، وهي مصممة بالأساس لخوض معارك جوية مع طائرات العدو، ولهذا تتمايز المقاتلات عن بعضها من خلال الأداء العالي والسرعة والقدرة على المناورة. أما القاذفات فهي مصممة للقيام بمهام الاختراق العميق للمجال الجوي للعدو وتدمير الأهداف العالية القيمة، وتستخدم لإضعاف القوة القتالية للخصوم، إلا أنها أقل قدرة على القيام بالمناورات الجوية.
كما أن مصطلح القاذفات الإستراتيجية عادةً ما يشير إلى القدرات النووية كما ذكرنا آنفا، ولهذا تشكل القاذفات الإستراتيجية جزءًا من الثالوث النووي بجانب الصواريخ الباليستية البرية والبحرية. وهكذا، تتسلح القاذفات غالبا بمدى أطول حتى لو جاء ذلك على حساب السرعة، كما تمنحها تكنولوجيا التخفي ميزة إضافية تمكنها من الهيمنة على المجال الجوي دون التعرض لمخاطر الكشف عبر الرادارات المتطورة.
لا تزال القاذفة بي-2 سبيريت التي يمتلك الجيش الأميركي 21 قطعة عاملة منها هي القاذفة الرئيسة لسلاح الجو الأميركي ومن المقرر أن تظل في الخدمة حتى عام 2040، لكن واشنطن تخطط بنشاط لاستبدالها لمصلحة نسخة أكثر تطورا. وفي عام 2021، أعلنت الولايات المتحدة عن القاذفة الإستراتيجية الجديدة من الجيل السادس بي-21 رايدر والتي من المرجح أن تدخل الخدمة في غضون سنوات قليلة، وهو ما جعل موسكو تسابق الزمن لتطوير القاذفة توبوليف-باك دا لتجنب اتساع الهوة الجوية مع المنافس الأميركي، رغم الصعوبات والتكاليف الكبيرة التي ينطوي عليها المشروع.
وعند مقارنة القاذفة الروسية بنظيرتها الأميركية، نجد أن باك دا تتفوق بحمولة أثقل من الذخائر، إذ تقلع بي-21 بحمولة أخف تصل إلى 15 طنًّا، وهو ما يعد ميزة لمصلحة الروس وعيبا في الوقت ذاته، لأن الحمولة الأثقل تعيق أداء القاذفة وتقلل من فاعليتها الشبحية وتجعلها أكثر عرضة للتهديدات من الدفاعات الجوية الحديثة، فضلا عن أن ثقل الوزن يطيل من زمن المهمة. أما في ما يتعلق بالمدى، فتتمتع القاذفتان بمدى متقارب مع أفضلية نسبية للقاذفة الروسية، كما تتقارب القاذفتان أيضا في قدراتهما التسليحية النظرية مع القدرة على حمل الأسلحة النووية والتقليدية وإطلاقها.
لكن الفارق الرئيسي بين القاذفتين الأميركية والروسية يكمن ببساطة في حجم الدعم الذي يتلقاه كلا المشروعين، إذ تعدّ القاذفة الأميركية مشروعا قيد التنفيذ الفعلي، وتعمل الشركة المنتجة نورثروب غرومان على إخراج 6 وحدات بالفعل بتكلفة 700 مليون دولار للواحدة، بينما تخطط القوات الجوية الأميركية لشراء 100 قاذفة من هذا النوع خلال العقود الثلاثة المقبلة.
في المقابل، لا تزال هناك العديد من الشكوك التي ترافق القاذفة باك دا، ويرجح خبراء أن روسيا لن تكون قادرة على إنتاج أكثر من نموذج أولي بسبب الصعوبات المالية واللوجستية، وعدم واقعية التكلفة المبدئية المقدرة بـ160 مليون دولار فقط للطائرة الواحدة. وتذهب التقديرات المتشائمة إلى أن باك دا لن تكون أكثر من نمر على ورق وأنها لن تحلق في السماء في أي وقت قريبا، حتى إن الموقع الأوكراني المتخصص في الصناعات العسكرية Defence Express أطلق عليها مصطلح Wunderwaffe الذي يعني بالألمانية السلاح العجيب، وهو اصطلاح كان شائعا إبان الحرب العالمية الثانية لوصف الأسلحة الخارقة التي كانت تعلن عنها وزارة الدعاية النازية دون أن يكون لها أي وجود فعلي.
تجعل الحرب الروسية الأوكرانية وتركيز روسيا على المجهود الحربي الميداني، واستنزاف مواردها الاقتصادية في ساحة المعركة، فضلًا عن العقوبات الاقتصادية المفروضة على الكرملين التي تحد من قدرة موسكو في الحصول على المواد والمعدات اللازمة؛ هذه العوامل تجعل من بناء قاذفة شبحية مشروعا أكثر صعوبة. وكل هذا قد يؤدي في أفضل الأحوال إلى تأخير مرحلة الإنتاج المتسلسل، والتي من المحتمل أن تتخطى الخطة الزمنية المُعلن عنها لعام 2027، وذلك يمنح الولايات المتحدة الأميركية ميزة إستراتيجية كبيرة، في حالة دخول القاذفة بي-21 إلى الخدمة، ويجعل لواشنطن الهيمنة الجوية في المرحلة المقبلة.
أكثر من ذلك، في الوقت الذي يتوق فيه الروس إلى تخفيف الفارق الواضح في القدرات الجوية مع واشنطن، دخلت الصين إلى المعادلة بإعلانها عام 2016 تطوير القاذفة الشبحية المتقدمة إتش-20 H-20، والتي يفترض أن تدخل الخدمة في غضون السنوات القادمة. تطير القاذفة الصينية التي تعرف باسم العاصفة بسرعات تحت صوتية، مع مدى يصل إلى 8500 كيلومتر، وحمولة تزن 45 طنًّا من الذخائر عند الإقلاع، وهو ما يجعلها منافسا قويا لكلا القاذفتين الروسية والأميركية. وتنتظر الصين أن تحقق لها إتش-20 قدرا من التوازن الإستراتيجي مع الولايات المتحدة في منطقة المحيط الهادي.
هذا التطور يضع روسيا في موقف صعب، خاصة إذا تمكنت القاذفة الشبحية الصينية من التحليق في السماء، وذلك يعني أن موسكو ستكون متأخرة عن بكين أيضا وليس عن واشنطن فقط، وهو ما يجعل مشروع القاذفة الروسية أولوية إستراتيجية رغم كل التحديات المحيطة به. يؤكد هذه الحقيقية جون فينابل، زميل السياسة الدفاعية في مؤسسة التراث الأميركية، قائلا إن الاعتقاد بعدم قدرة شركة توبوليف الروسية على تطوير قاذفة شبحية هو نوع من الغطرسة، وإن السؤال الحقيقي ليس عما إذا كانت روسيا ستنتج قاذفتها الشبحية الخاصة أم لا، ولكن متى ستفعل ذلك، وما القدرات التي ستقدمها بحلول ذلك الوقت. | https://www.aljazeera.net/politics/2024/9/2/%d8%aa%d9%88%d8%a8%d9%88%d9%84%d9%8a%d9%81-%d8%a8%d8%a7%d9%83-%d8%af%d8%a7-%d9%87%d9%84-%d8%aa%d9%87%d8%af%d8%af-%d8%a7%d9%84%d9%82%d8%a7%d8%b0%d9%81%d8%a9 | 2024-09-02T14:29:39 | 2024-10-15T02:05:51 | أبعاد |
|
25 | محمد سعيد رسلان.. قصة شيخ المدخلية من سُبْك الأحد إلى مرسيليا | أضحى سعيد رسلان رقما دينيا صعبا يمتد تأثيره خارج حدود مصر، بل خارج حدود العالم العربي بأسره، حاملا أيديولوجيا خاصة به ترى الصواب تحت أقدام الحكام حصرا، وترى أي معارضة لهم خروجا على الشرع. | تقع مدينة لانغون في جنوب غرب فرنسا، وهي مدينة صغيرة تقطنها جالية مسلمة غالبيتها من المغاربة، وقد تمكَّنت هذه الجالية بعد عناء طويل من بناء مسجد صغير يستقبل صفا أو اثنين من المُصلِّين في الصلوات اليومية، والعشرات على أقصى تقدير في صلوات الجمعة والأعياد.
أمام هذا المسجد الصغير، وبعد إحدى صلوات الجمعة، اجتمع عدد من الشباب، وأغلبهم حديث العهد بالإسلام، للدردشة حول بعض القضايا الدينية والاجتماعية التي تشغلهم مثل بقية مسلمي البلاد، وأبرزها غياب التأطير الديني ونقص العلماء والدعاة في فرنسا. ثم هبَّ أحدهم وكأنه وجد كنزا ثمينا لم يصادفه غيره من قبل قائلا إن الدعاة والعلماء الربانيين موجودون، ولا أتحدث هنا عن العلماء المشاهير ممن يظهرون في التلفاز، بل عن بعض المجهولين الذين لم يصلنا صيتُهم. لقد تعرفت خلال زيارتي الأخيرة للمغرب على عالم كبير لم أكن قد سمعت به من قبل، رجل رباني نوراني مصري اسمه محمد سعيد رسلان.
بعيدا عن لانغون وفرنسا، وفي قلب المنطقة العربية، نبدأ رحلتنا من محافظة المنوفية الواقعة في شمال العاصمة القاهرة، وفي القلب منها مركز أشمون حيث تقع قرية صغيرة تُدعَى سُبْك الأَحَد. في هذه القرية دارت فصول قصة إحدى أهم الشخصيات الدينية في العالم العربي اليوم، وهو الشيخ المَدخلي محمد سعيد رسلان. وُلِد رسلان بسُبْك الأحد وترعرع فيها، وحصل على الثانوية من مدرسة أمين الخولي الثانوية بنين بمجموع لم يكن كافيا للالتحاق بكلية طب القصر العيني، الكلية الأبرز للعلوم الطبية في البلاد، بعد أن أمضى معظم وقته في الاطلاع على كتب الأدب والشعر غير آبهٍ بالتخصصات العلمية ولا راغب في دخول الامتحانات.
في النهاية، التحق رسلان بكلية طب جامعة الأزهر تحت إلحاح أبيه كان النظام ساعتها يسمح بالتحاق طلاب التعليم النظامي بالكليات الخاصة بالسلك الأزهري، ولم تكن سنواته الدراسية سهلة، إذ تعثَّر مرارا حتى حصل على بكالوريوس الطب مُتخصِّصا بالجراحة بعد 12 سنة أمضاها في الكلية حتى عام 1986. وفي هذه الفترة الطويلة التي قضاها في الطب، زاد ولع سعيد رسلان بالشعر والأدب بأنواعه المختلفة، وانعكس ذلك بشكل كبير على ملكته الأدبية ولغته العربية. 1
أتت نقطة التحوُّل في حياة رسلان أثناء إحدى زياراته لسور الأزبكية من أجل شراء كتاب أدبي، حيث التقى هناك الشيخ عبد العظيم حمزة، والد العلامة الدكتور أسامة عبد العظيم رئيس قسم الشريعة الأسبق وأستاذ أصول الفقه المتفرغ بكلية الدراسات الإسلامية بجامعة الأزهر، الذي وافته المنية مؤخرا، فنصحه الشيخ بالانصراف لطلب العلم الشرعي بدلا من الأدب، ومن ثمَّ بدأت رحلة رسلان في طرق أبواب العلوم الدينية.
لم تكن الدعوة السلفية التي سيلتحق بها رسلان حينئذ بالقوة ذاتها التي تمتلكها اليوم في قرية سُبْك الأحد، إذ انقسمت الساحة الإسلامية في مصر عموما بين الأزهر والصوفية والإخوان المسلمين والتبليغ والدعوة. وفي قرية رسلان، نشطت بعض الطرق الصوفية مثل الطريقتين الرفاعية والخَلْوَتية، وفي سنوات تديُّنه الأولى، حضر رسلان حلقات ذكر الطريقة الرفاعية الصوفية رفقة الشيخ عليوة عبد الفتاح الباز، قبل أن يترك الصوفية ويدعو شيخه إلى ترك التصوف الطُّرُقي، وهو ما حدث فعلا. 2
إلى جانب الصوفيين، نشط دعاة جماعة التبليغ والدعوة نشاطا ملحوظا في مركز أشمون، وتزعَّمهم الطبيب شكري عرفة، الذي قال عنه رسلان إنه شيخه في الطب، فكان يخرج معهم أحيانا لدعوة الناس إلى الله. وقد واصل رسلان انصرافه عن العناية بدروسه في الطب، ليس للأدب هذه المرة ولكن لطلب العلوم الشرعية، مُفضِّلا الالتحاق بإحدى كليات اللغة أو علوم الشريعة، لكنه استجاب لرغبة والده في الأخير وأكمل دراسة الطب. وفي أثناء دراسته العلمية، عاشت مصر حادث اغتيال الرئيس السابق محمد أنور السادات، واتجهت أصابع الاتهام نحو الإسلاميين بكل ألوانهم، فزُجَّ ببعضهم في السجون والمعتقلات، فيما اختار البعض الآخر السفر. وقد مكث رسلان في بيته حتى اعتُقِل، رغم أنه أذعن لطلب أسرته بحلق لحيته تجنُّبا للمشكلات. 3 ومن الطريف أن رسلان نظم قصيدة حينها ندَّد فيها بالظلم الذي عاشه الإسلاميون، وبأحكام القضاء، واصفا القضاة بالطواغيت، فأنشد قائلا
وقف القضاةُ على المنابرِ مثلما.. وقفَ الغرابُ على الخرائبِ ينعقُ
حَكَموا بشرعٍ ما عَلِمتُ وزيَّفوا.. حكما قديما والمُصدِّق أحمقُ
بعد رحلة الطب، التحق رسلان بكلية الآداب جامعة المنوفية قسم اللغة العربية، وهناك وجد ضالته وبزغ نجمه بسبب قوته اللغوية وتفوُّقه الواضح على أقرانه، كما منحته الكلية فرصة لقاء أحد أهم فقهاء اللغة حينها وهو الدكتور رمضان عبد التواب. أما في مجال الشريعة الذي سار فيه أيضا، فلم يكن لرسلان مشايخ معروفون، بل اقتصر تعلُّمه على حضور بعض حلقات العلم أثناء مواسم الحج فقط. ولهذا السبب، وحتى على موقعه الرسمي، لم يُسَمِّ شيخ المَدخلية في مصر مشايخَ له، بل اقتصر على ذِكر تأثره بشيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القَيِّم.
بعد تخرُّجه في كلية الآداب ضمن أوائل دفعته، كان من المنتظر أن يُعيَّن رسلان معيدا في الجامعة، لكن الأمن عرقل تعيينه وفقا لما أكَّده بنفسه بعد ذلك. ويحكي عمرو شوقي عبد العظيم، المُقرَّب في فترة سابقة من الشيخ رسلان، في مجموعة تدوينات حملت عنوان لله ثم للتاريخ.. بيني وبين الدكتور محمد سعيد رسلان، أن السبب المحتمل لعدم تعيين رسلان كان حادثة وقعت في سُبْك الأحد أثناء دراسته في كلية الآداب، حين اعتنقت إحدى الفتيات المسلمات الديانة المسيحية، فدخل رسلان في القضية التي تحوَّلت حينئذ إلى قضية رأي عام في القرية. وقد تدخَّل الأمن للقبض على رسلان الذي مكث مدة في السجن، حتى خرج قاصدا كنيسة سُبْك الأحد، وألقى فيها كلمة في وجود بعض الشخصيات الأمنية لإنهاء الفتنة التي كادت تتسبَّب في هَدْم الكنيسة من طرف بعض الأهالي. 4
ربما كانت هذه الحادثة الأولى من نوعها التي وضعت رسلان في مواجهة مباشرة مع الأمن. وقد تفرَّغ بعدها للتصنيف والكتابة، فكتب فضل العلم وآداب طلبته وطرق تحصيله وجمعه، وذم الجهل، وفضل العربية ووجوب تعلمها، والترهيب من الربا، ومجنون ليلى حقيقة أم خيال، وغيرها. لكن هذه العلاقة المتوترة تبدَّلت تماما مع مرور الوقت، حتى إن جهاز الدولة المصري، المعروف بعدائه العنيف للتيارات الإسلامية، أوقف أحد مرافقي رسلان بعد خلاف علمي معه، بل وعرض على الموقوف أن يتوسَّط الأمن له عند الشيخ حتى يحل الخلاف بينهما. وقد تكرَّرت تلك القصة بتفاصيل مختلفة مع إعلامي اليوتيوب عبد الله الشريف، الذي أكد تلقيه رسائل من تلاميذ للشيخ رسلان يطالبونه فيها بالاعتذار عن حلقة ذكر فيها شيخهم، مقابل التوسُّط له عند الأمن المصري للعفو عنه، على حد قوله. 5
تضعنا هذه الحوادث -رغم ما قد تنطوي عليه من مبالغة ورغم عدم قدرتنا على التأكد من صحتها بشكل مستقل- أمام سؤال مهم حول علاقة الرجل بالأنظمة السياسية المصرية، التي جعلت خصومه يتهمونه بالعمالة لجهاز أمن الدولة المصري سيئ السمعة. ومع ذلك، فإن التوجه الديني الذي تبنَّاه محمد سعيد رسلان بعد سجنه وفترة عزلته الاختيارية ما انفك يخدم النظام السياسي، فقد تبنّى الشيخ رسلان نسخة خاصة من المنهج السلفي، الذي اكتسب شعبية كبيرة جدا في الأوساط العربية بفضل الانفتاح الإعلامي في سنوات ما قبل الثورات العربية.
تُعرف هذه النسخة باسم السلفية المَدخلية، وهي تيار مختلف عن التيارات السلفية الأخرى، الكلاسيكية منها أو الجهادية. وقد ظهرت الخلافات بين هذه الفِرَق في المملكة العربية السعودية، قبل أن تنتقل في وقت لاحق إلى مصر، إذ أُعلِن هذا الخلاف عن طريق الشيخ المَدخلي المعروف أسامة القوصي في مواجهة عدد من رموز السلفية الحركية مثل محمد عبد المقصود وفوزي السعيد وسيد العربي وآخرين. وبقيت المعركة مشتعلة بين الطرفين حتى تدخَّل الأمن المصري لإنهائها بوقف نشاط السلفية الحركية قبل أن يعتقل رموزها. 6 لم يبقَ أسامة القوصي على رأس السلفية المَدخلية طويلا، فسرعان ما ابتعد عنها وعن التيار الإسلامي كله، ولم يجد التيار المَدخلي قائدا حقيقيا حينها لسببَيْن أوردهما الكاتب أحمد سالم في كتابه اختلاف الإسلاميين الضعف العِلمي، ونقص كاريزما القيادة.
تغيَّر الوضع ابتداء من عام 2006، حين ظهر اسم محمد سعيد رسلان إبَّان معركة شهيرة خاضها مع الدعوة السلفية بمدينة الإسكندرية التيار السلفي الكلاسيكي الذي أسس حزب النور بُعَيد إسقاط نظام مبارك عام 2011 حول قضية مشروعية العمل الجماعي والتنظيمي. وقد التفَّ شباب التيار المَدخلي حول رسلان بسبب قدراته الخطابية ورصيده العلمي المعقول، حيث وصف رسلان طرح السلفية السكندرية آنذاك بـالبغاء الفكري في تصعيد خطابي واضح. ومن جهتها، ردَّت قيادات الدعوة السلفية بنوع من الهدوء على هذا الكلام دون رغبة حقيقية في خوض مناقشات وخلافات حادة، إذ أبدى عبد المنعم الشحات، القيادي السلفي الشهير، أسفه على ما صدر من رسلان، مُعربا عن حزنه أن يصل الخلاف إلى هذا الحد بدلا من أن تتكاتف الجهود السلفية للوقوف في وجه التيار التغريبي والعلماني. 7
بعد اندلاع ثورة 25 يناير في مصر، ظهر التوجه الواضح للشيخ رسلان والتيار المَدخلي عموما. فقد رفض الرجل تماما الثورة بوصفها وسيلة للتغيير، وقال إنه لا يمكن الدعوة إلى الله بوسائل أهل الشرك والكفر من مظاهرات واعتصامات وعصيان مدني وانتخابات وتحزُّب، وأطلق الشيخ المَدخلي خطابا تشابه إلى درجة كبيرة مع خطاب مؤيدي نظام مبارك، قائلا إن الثورة المصرية كانت من صنع اليهود والماسونيين، مُعِيبا على الشيوخ الذين ادعوا أنهم أهل الدعوة والعلم عدم مواجهتهم لهذا المد الثوري الماسوني، إذ ليس في الإسلام ثورة على حد قوله. 8
وقد اعتبر رسلان أن الثورة التي أرادت الإطاحة بمبارك لم تكن في الحقيقة إلا صراعا بين حضارتين، الحضارة الإسلامية بأصولها الشرعية من التوحيد وسنة النبي، وبين الحضارة الغربية بأصولها الوثنية التوراتية الصليبية، مضيفا في خطبته التي ألقاها أثناء الأحداث الذي يجري في مصر يُراد منه التغيير، التغيير الذي يعني الخروج من الأطر القديمة عَقدية وشرعية واجتماعية وأخلاقية وحياتية، التغيير الذي يعني أن نلبس الجينز بدل القميص، وأن نأكل باليُسرى بدل اليُمنى، وأن تُعدِّد المرأة بدلا من أن يُعدِّد الرجل، وأن نقبل البغاء ونرفض الزواج. انتهت الثورة بسقوط مبارك الذي عدَّه المَداخِلةُ الحاكمَ الشرعي للبلاد، ثم جاء موعد الانتخابات الرئاسية الأولى بعد الثورة، التي وصل إلى جولتها الأخيرة الدكتور محمد مرسي، مرشح الإخوان المسلمين والأقرب لصف الثوار، والفريق أحمد شفيق، أحد رجالات المؤسسة العسكرية والمحسوب على النظام المباركي البائد.
أبدى رسلان شراسة كبيرة في مهاجمة الإخوان، الذين عدَّهم التيارُ المَدخلي خصمَه الأيديولوجي الأول. فقبل الانتخابات الرئاسية، خرج رسلان إلى مريديه في خطبة جمعة حملت عنوان ماذا لو حكم الإخوان مصر؟، وقال رسلان إن الاجابة المختصرة عن هذا السؤال هي أن مصر ستغير اسمها إلى جمهورية مصر الإخوانية بدلا من جمهورية مصر العربية. 9 وفصَّل الرجل إجابته في 17 نقطة، منها أن المرشد سيصير الحاكم الفعلي لمصر، وأن البلاد ستُدار من داخل مكتب الإرشاد لا قصر الرئاسة، وأن التقية ستصير قاعدة سياسية داخلية وخارجية، وأن فهمَنا للإسلام سيصبح من خلال أصول حسن البنا لا حسب مضامين القرآن والسنة، علاوة على إمكانية تصاعد المد الشيعي في البلاد، حسب زعمه. شيطن رسلان الإخوان، وصدَّ الناس عن اختيار مرشحها في الانتخابات، ولكن بعد نجاح مرسي في الوصول إلى كرسي الرئاسة، خفَّ الظهور السياسي للشيخ رسلان، الذي أكد ضرورة طاعة الرئيس لا الجماعة التي لا طاعة لها ولا بيعة. 10
بعد عودة المؤسسة العسكرية إلى حُكم مصر عام 2013، عادت ميكروفونات مسجد سُبْك الأحد تُهلِّل للنظام، إذ أبدى رسلان دعما قويا للنظام الجديد، وانتشر له مقطع هاجم فيه مبدأ الانتخابات، قائلا إن ولي الأمر في نظره لا يُنازَع في مقامه الذي بوَّأه الله إياه، بل هو باقٍ في منصبه إلا إذا وقع عارض من موانع الأهلية. 11 ومن جهة أخرى، شبَّه الشيخ المَدخلي إحياء معارضي النظام لذكرى فض اعتصامي رابعة والنهضة الذي راح ضحيته عدد كبير من المعتصمين بذكرى المحرقة التي يحييها اليهود، حيث استدعاء المظلومية والمتاجرة بالآلام، فقال هؤلاء الذين اعتصموا في هذا المكان هم من خوارج هذا العصر. هؤلاء قيل لهم مرات على مدار 45 يوما لا تعتصموا في هذا المكان، واعلموا أنكم ستتجنبون الملاحقة، ولن يمسكم أحد بسوء. ولكن قادتهم هربوا جميعا، وتركوا مَن غُرِّر بهم يحملون السلاح ويحاربون الأمن. 12
لكن كل هذه المواقف لم تكن كافية لبقاء رسلان على منبره دون منازعة على ما يبدو. ففي سبتمبرأيلول 2018، أصدرت وزارة الأوقاف المصرية قرارا بمنع سعيد رسلان من الخطابة، في خطوة فاجأت الرأي العام الديني والإعلامي في مصر، وبرَّرها وزير الأوقاف المصري محمد مختار جمعة برغبة وزارته في عدم السماح لأحد بالتجاوز في حق المنبر أو مخالفة تعليمات الوزارة أو الخروج على المنهج الوسطي أو استخدام المسجد لنشر أفكار لا تتفق وصحيح الإسلام ومنهجه السمح الرشيد، على حد وصفه. 13 لم يُبدِ رسلان أي اعتراض على القرار، بل حضر وسط مريديه في الجمعة التي خطب فيها الشيخ أحمد عبد المؤمن، وكيل الوزارة بالمنوفية، ثم أخذ رسلان الكلمة شاكرا الوزارة على هذا المعروف الكبير، بعد أن أرسلوا إلى سُبْك الأحد عالِما يخطب مكانه، وهو رجل لا يعدو كونه طُوَيلِب علم، حسب قوله. 14
لم يستمر هذا المنع طويلا، وبالأخص بعد أن أبدى عدد من الإعلاميين التابعين للنظام رغبتهم في إعادة رسلان إلى أتباعه، فاستجابت وزارة الأوقاف، وخرج جابر طايع، رئيس القطاع الديني في وزارة الأوقاف وقتها، ليؤكد عودة رسلان إلى منبره، بعد أن حضر إلى مكتبه بالوزارة وأكد ما أعلنه سابقا من وجوب طاعة ولي الأمر، وتعهد بالالتزام بجميع تعليمات وزارة الأوقات فيما يخص الخطابة وإدارة شؤون المساجد. 15 ولم يكن من المستغرب أن تثير هذه الأحداث بشأن رسلان الكثير من الاهتمام، وذلك لأن السلفية الرسلانية إن صح القول باتت ذات انتشار واسع، ليس خارج محافظة المنوفية فحسب، بل وخارج مصر والعالم العربي كله. وقد ظهر هذا التأثير مثلا في الجارة الغربية ليبيا، التي عرفت هي الأخرى ثورة ضد القذافي، سرعان ما أفرزت لاعبين سياسيين مهمين منهم خليفة حفتر، الذي يتمتع بدعم كبير من طرف التيار المَدخلي في البلاد.
لعبت مصر دورا مهما في ليبيا، وحاولت توجيه قيادات التيار السلفي التابع لها لبسط نفوذه على السلفية في الشرق الليبي، ومن ثمَّ أصبح الشيخ رسلان مفتيا غير رسمي لبعض الجماعات السلفية شرق ليبيا، وصار مَرجِعا دينيا يزعم الاستناد إليه في عمليات القتل والتصفية واعتقال الفقهاء والمشايخ المعارضين، كما حدث في عملية اغتيال الشيخ نادر العمراني عضو هيئة دار الإفتاء في طرابلس، حيث ورد اسم رسلان على لسان هيثم عمران الزنتاني، أحد المتورطين في الحادث، الذي قال إن أحد زملائه في تنفيذ الجريمة درس العلوم الشرعية على يد الشيخ رسلان، وإنه أتى بفتوى من الأخير تُجيز له قتل العمراني لأنه يعمل على تضليل الليبيين. ولم يتأخر رسلان في الخروج ببيان ينفي فيه هذا الكلام جملة وتفصيلا، مُعلنا ترحُّمه على الشيخ العمراني ورفضه منهج الخوارج والتكفيريين في استباحة دماء المسلمين. 16 17
لن تتسع السطور للحديث عن عدد الدول التي ينتشر فيها التيار المَدخلي، ولكن لفهم انتشار أفكار الرجل يمكننا النظر إلى ما هو أبعد من ليبيا، إلى بلد في قارة أوروبا هو فرنسا، المعادية للأديان وللإسلام خاصة، إذ يُعَدُّ التيار المَدخلي أحد التيارات المنتشرة بقوة في البلاد، وباتت مساجد بعض المدن مثل روبيه وتالانس ومرسيليا وشاتورو ومونبِلييه ومدن أخرى تميل إلى المَدخلية، كما أن عددا من المواقع الإلكترونية المهمة التي تُعَدُّ مرجعا للجالية المسلمة الفرنكوفونية في فرنسا صارت مواقع مَدخلية، مثل موقع إسلام شرعي وموقع ميراث الأنبياء وموقع إسلام السنة، فيزورها الباحثون عن الفتوى دون علم بمسألة اختلاف التيارات الدينية أو فهم لطبيعة التيار المَدخلي. 18 19 20
ينشط فكر رسلان في فرنسا بقوة بواسطة الكتب المترجمة عبر دار الفرقان في نسختها الفرنسية، إذ تقول دار النشر على موقعها إن اختيار الكتب وترجمتها يتم فقط عبر الحصول على موافقة شخصية مباشرة من رسلان نفسه. 21 وليس هذا فحسب، بل وتستقبل قرية سُبْك الأحد عددا كبيرا من الأجانب الذين يأتون إما طلبا للهجرة الشرعية إلى بلد مُسلم، وإما لطلب العلم والعودة لتبليغ الدعوة داخل البلدان الأوروبية التي أتوا منها. ويشرف عبد الله محمد رسلان، نجل شيخ المدخلية، على التنسيق مع المراكز العلمية والدعوية التي تنشر الفكر المَدخلي في فرنسا، وتترجم الدورات التكوينية إلى الفرنسية. 22
بحضوره داخل مصر وخارجها، أضحى محمد سعيد رسلان رقما دينيا صعبا في العالم العربي، حاملا أيديولوجيا خاصة به ترى الصواب تحت أقدام الحكام حَصرا، وترى أيَّ احتجاج، ولو كان نصرة لمظلوم، خروجا على عقد البيعة، وخرقا لقواعد الإسلام التي تُوجب -بحسب المدرسة المَدخلية- نبذ المظلوم وتابعيه، بل وتسليمهم لبطش الأجهزة الأمنية، دون تردد، إذا لزم الأمر.
كاتب التقرير كان شاهدا على هذه المحادثة
1 لله ثم للتاريخ.. بيني وبين الدكتور محمد سعيد رسلان. مجموعة تدوينات لعمرو شوقي عبد العظيم
2 المصدر السابق.
3 المصدر السابق.
4 المصدر السابق.
5 عبدالله الشريف حلقة 14 الشيخ حمادة الموسم الثاني
6 اختلاف الإسلاميين، أحمد سالم، مركز نماء
7 المصدر السابق
8 الْخُطْبَةُ الْأُولَى موقع رسلان.
9 ماذا لو حكم الإخوان مصر للشيخ محمد رسلان
10 رسلان السمع والطاعة لد.مرسي وليست لمرشد أوحزب أو جماعة
11 الشرع يقول إن وليّ الأمر لا يُنازع في مقامه ولا في منصبه ولا يُنافس عليه.. الشيخ السلفي محمد سعيد
12 الشيخ رسلان يكشف حقيقة فض اعتصام رابعة العدويـة وكذب الإخوان
13 الأوقاف المصرية تسيطر على المساجد الموجودة تحت قبضة المداخلة
14 تعليق فضيلة الشيخ محمد سعيد رسلان حفظه الله على قرار توقيفه وبكاء الخطيب وكيل وزارة الأوقاف
15 جابر طايع سعيد رسلان تعهد بالالتزام بالتعليمات وأكد أن طاعة ولى الأمر واجبة
16 الدول الداعمة لخليفة حفتر المعلن والخفي
17 حقيقة تورط داعية مصري في اغتيال الأمين العام لهيئة علماء ليبيا
18 La science légiférée العلم الشرعي
19 Débogage de WordPress
20 islam sounnah
21 Dar Al Furqan
22 Sheikh Raslaan حفظه الله | https://www.aljazeera.net/culture/2023/2/14/%d9%85%d8%ad%d9%85%d8%af-%d8%b3%d8%b9%d9%8a%d8%af-%d8%b1%d8%b3%d9%84%d8%a7%d9%86-%d9%82%d8%b5%d8%a9-%d8%b4%d9%8a%d8%ae-%d8%a7%d9%84%d9%85%d8%af%d8%ae%d9%84%d9%8a%d8%a9-%d9%85%d9%86 | 2023-02-14T09:33:01 | 2024-05-06T12:45:27 | أبعاد |
|
26 | العملية راؤول.. لماذا راقبت الاستخبارات الروسية لاعبي الشطرنج؟ | ازدهار الشطرنج الروسي وأفوله خلال القرن الماضي كان بمثابة محاكاة للمواجهة السياسية والعسكرية بين الاتحاد السوفياتي والغرب. | الأفضلية للأبيض والفوز في متناول يده. وزيره يتحرك إلى مربع C6 مُعلنًا كش ملك؛ يا الله هذه النقلة أفقدته التفوق وأعادت الدور إلى التساوي. نقْل الوزير إلى E8 كان كفيلا بإبقاء الأفضلية له وتشكيل تهديدات متنوعة، مع فرصة أخذ بيدق الأسود القابع في مربع H2 الذي يستعد للترقية.
حيازة الأبيض للأفضلية ثم فقدانها، كانت السمة الرئيسية للمباراة التي جمعت بين الأستاذين الكبيرين، الأميركي فابيانو كاروانا والروسي إيان نيبومنياتشي، في الجولة الختامية من بطولة المرشحين التي جرت في مدينة تورنتو الكندية في شهر أبريلنيسان الماضي. حيث امتلك كاروانا الذي لعب باللون الأبيض أفضلية مؤثرة في 3 مواقف خلال المباراة، لكنه أهدرها واحدة تلو الأخرى لتنتهي المباراة بالتعادل، ويفقد كاروانا فرصته الأخيرة في المنافسة على البطولة، مكتفيا بتسجيله 8.5 نقاط وإحراز المركز الثاني، الذي شاركه فيه كل من نيبومنياتشي ومواطنه الأميركي هيكارو ناكامورا.
من جانبه لم يمتلك نيبومنياتشي أية أفضلية مؤثرة طوال المباراة، رغم أنه أيضًا كان في حاجة إلى الفوز على الأميركي من أجل الإبقاء على حظوظه في المنافسة؛ مما منح لقب البطولة في الأخير للأستاذ الهندي الكبير دومراجو جوكيش، البالغ من العمر 17 عاما، الذي أصبح أصغر لاعب يحصد بطولة المرشحين بعد تسجيله 9 نقاط، كما ينتظره لقاء مصيري مع بطل العالم الحالي، الأستاذ الصيني الكبير دينغ ليرن، لتحديد بطل اللعبة الجديد.
إخفاق نيبومنياتشي في التأهل لملاقاة بطل العالم يعدّ حلقة جديدة في سلسلة إخفاق الشطرنج الروسي، الممتدة منذ مطلع القرن الحالي، رغم أن روسيا في تجسيداتها العديدة، في عهدَي الإمبراطورية والاتحاد السوفياتي، أفرزت عددًا من الأساتذة والأبطال أكثر من أي دولة أخرى، إلى أن أصبحت تقريبا مرادفة للشطرنج، واحتكر لاعبوها عرش اللعبة منذ أربعينيات القرن الماضي، ولم ينازعهم في ذلك سوى الأستاذ الأميركي الكبير بوبي فيشر، الذي انتزع بطولة العالم مرة وحيدة من الأستاذ الروسي بوريس سباسكي عام 1972.
تضاؤل مكانة روسيا في اللعبة يقابله صعود مضطرد من جانب الهند، حيث يحتوي التصنيف الحالي على 4 لاعبين هنود ضمن قائمة أعلى 20 لاعبا مصنفا في مقابل وجود روسيَّين فقط. أما النقطة الجديرة أيضا بالملاحظة التي تعطي انطباعا عن مستقبل اللعبة، فهي انخفاض أعمار أبطال الهند، إذ تتراوح أعمارهم بين 17 و20 عاما ما عدا الأستاذ الكبير فيسواناثان أناند الذي يبلغ حاليا 54 عاما، في حين أن البطلين الروسيَّين في العقد الرابع من عمريهما.
تفوق الهند الحالي في اللعبة نتاج الاهتمام الذي أولته إياها الدولة، لقد نما الشطرنج في الهند على المستوى الشعبي، خاصة بعد حصول فيسواناثان أناند على بطولة العالم في مطلع القرن الحالي، كما صارت اللعبة مدرجة في المناهج الدراسية في ولايات عدة، وانتشرت أندية الشطرنج وبطولاته في أرجاء البلاد. ويلعب حاليا قرابة مليون شخص في البطولات المحلية التي تجري في الهند، بما في ذلك سائقو العربات وعمال البناء. إضافة إلى ذلك، فإن ثمة تصورا عاما بين الهنود مفاده أن ممارسة الشطرنج تساعد على التحصيل الدراسي. وفي هذا السياق يقول أحد مديري أندية الشطرنج في مومباي إننا نتلقى يوميا 50 مكالمة من أولياء أمور مهتمين بتلقين أبنائهم أصول اللعبة.
يعكس ذلك رغبة دلهي في تصدير صورة الدولة التي تمتلك مقوماتٍ بشرية على مستوى عالٍ من الذكاء، بما يخدمها في الحصول على استثمارات أجنبية لمشاريعها المتنوعة في مجالات الصناعة التقنية والثقيلة، وكذلك الصناعات الدفاعية والبرمجيات وريادة الأعمال وغيرها من الصناعات المرتبطة بالابتكار؛ مما يعني أن أحد جوانب إصرار دلهي على انتشار اللعبة يتعلق بكونها وسيلة دعائية للعقل الهندي، ومن ثم للصناعة الهندية ومنتجاتها.
وكذلك، ارتبط صعود الشطرنج الروسي في القرن العشرين بسياسات الدولة، حيث تكوّنت شعبية اللعبة وقاعدتها الواسعة في روسيا عبر 3 مراحل، اقترن كل منها برؤى سياسية محددة، بدءا من مرحلة الشطرنج للعسكريين، حين اعتمدت موسكو اللعبة باعتبارها أحد أشكال التدريب العقلي للمجندين العسكريين وكوادر الحزب الشيوعي في أعقاب الثورة البلشفية، وساد التصور بأن الشطرنج يغذي السمات المطلوبة في الجندي الجيد، مثل الجرأة والقدرة على الابتكار وقوة الإرادة والقدرة الإستراتيجية.
تلت ذلك مرحلة الشطرنج للعمّال، وخلالها استثمرت الدولة في اللعبة على نطاق واسع وتمكّنت من دمجها في ثقافة البلاد، حيث اعتُقد أنها قد تمثل فائدة كبيرة في رفع المستوى الثقافي للجماهير.
أشرف على هذه المرحلة نيقولاي كريلينكو الذي خدم في مناصب متنوعة في النظام القانوني السوفياتي، بما في ذلك منصب مفوض العدالة، إذ تولى كريلينكو مهمة تحويل الشطرنج إلى لعبة وطنية للاتحاد السوفياتي عام 1924. وبوصفه -آنذاك- رئيسا لقسم الشطرنج في المجلس الأعلى للثقافة البدنية، أقنع كريلينكو أعضاء الكرملين بتنظيم أول بطولة دولية في موسكو عام 1925، ثم بطولتين أخريين في عامي 19351936. وقد كتب في تصدير كتاب البطولة في بلدنا حيث المستوى الثقافي منخفض نسبيا، والهواية النموذجية للجماهير هي الشجار والسُّكر، تعتبر الشطرنج وسيلة قوية لرفع المستوى الثقافي العام.
المرحلة الأخيرة في دعم موسكو للعبة واهتمامها بها هي مرحلة شطرنج الحرب الباردة، وكان الغرض منها إثبات تفوق العقل الشيوعي على نظيره الرأسمالي الغربي خلال تلك الحقبة، ومثّل الشطرنج آنذاك وسيلة دعائية مناسبة لترويج تفوق الثقافة السوفياتية وقدرتها على إنتاج مفكرين.
الشطرنج ناسب الأذواق الصارمة لقادة الحزب الشيوعي، نظرا إلى أنه لعبة تخلو من الصدفة وتعتمد على الحسابات العقلية، كما رأى النظام السوفياتي في اللعبة امتدادا للفلسفة المادية الجدلية، التي تعد الأفكار والتجريدات انعكاسا للمادة، وترى في الصراع محرضا على التطور، وهو ما اعتُبر متحققا في الشطرنج نظرا إلى طبيعته الجدلية، وتطوّر مدارسه وأفكاره عبر عدد غير معلوم من المباريات بين الخصوم.
على جانب آخر، كانت اللعبة متنفسا وتعويضا للشعب السوفياتي عن أشياء مفقودة في ظل الحكم الشيوعي، حيث أصبحت وسيلة للتعبير عن الجدارة الفردية من خلال منافسة شريفة، لا تتحدد نتيجتها مسبقا من خلال عضوية الحزب أو المكانة داخله، كما مثّلت مصدرا لكسب العيش لكثيرين، وأتاحت للموهوبين منهم فرصة السفر إلى الخارج لتمثيل بلادهم في المسابقات الدولية، وهي الجائزة التي طالما طمح إليها أولئك المعزولون عن العالم بسبب الستار الحديدي، الذي فرضته روسيا آنذاك على مواطنيها.
تتباين الآراء بشأن أسباب تراجع مكانة الشطرنج الروسي، وثمة رأي قائل بأن توافر المعرفة الذي رافق انتشار شبكة الإنترنت مع مطلع القرن الحالي، أدى إلى إنهاء احتكار المعرفة الروسية وتيسير التدريب ودراسة اللعبة والاطّلاع على الأساليب الحديثة خارج روسيا، ومن ثم ظهور منافسين قادرين على المنافسة بعدما أصبحت الساحة متساوية. في الوقت ذاته، فقدت روسيا الكثير من مواهبها عبر موجات الهجرة التي ازدادت بعد انهيار الاتحاد السوفياتي؛ مما أدى إلى فقدان موسكو أبرز نقاط قوتها في اللعبة، وهي توارث المعرفة من جيل إلى آخر.
دانييل جونسون، الصحفي والكاتب البريطاني، يعلق على ازدهار الشطرنج الروسي وأفوله خلال القرن الماضي، بقوله إن اللعبة كانت بمثابة محاكاة للمواجهة السياسية والعسكرية بين الاتحاد السوفياتي والغرب، ولكنها مثل أفلام التجسس المثيرة التي اكتسبت مكانة مميزة أثناء حقبة الحرب الباردة ثم فقدت الكثير من بريقها بعد ذلك، مما يعني أن زوال أجواء التهديد الخاصة بتلك الحقبة هو ما أدى في النهاية إلى فقدان الاهتمام بها.
التفسيرات تتعدد ومنها ما يربط ذلك بتفكك جمهوريات الاتحاد السوفياتي السابق، نظرًا إلى أن أصول الكثيرين من الأبطال الروس تعود إلى تلك البلدان، ومن ثم فإن زوال سيطرة روسيا عليها أفقدها مناجم مواهب الشطرنج. على سبيل المثال، فإن غاري كاسباروف من مواليد باكو في أذربيجان، وميخائيل تال من لاتفيا، أما أصول بيدروسيان فتعود إلى أرمينيا، كما كان يفيم بغولوبوف من أوكرانيا وأكيبا روبنشتاين من بولندا.
لكن هذا التفسير يبدو متحاملا، كما يطبع على روسيا دور المستعمر، إذ يحكم بأن العبقرية الروسية في اللعبة ولدت في الأساس خارج أراضيها، وأن تلك الجمهوريات كانت مستعمرات أحكمت روسيا عليها السيطرة ونهبت مواردها، بما في ذلك الموارد البشرية، وبذلك يتناسى أن إفراز هؤلاء الأبطال، كان نتيجة الاهتمام الموحد الذي أولته الدولة للعبة في تلك الجمهوريات.
أضف إلى ذلك أن روسيا نفسها تمتعت ببنية تحتية هائلة من اللاعبين، بغض النظر عن لاعبي الجمهوريات، كما أن العديد من الأبطال الغربيين تعود أصولهم إلى روسيا، وبفضل هؤلاء تمكن الغرب من المنافسة وانتزاع البطولات أحيانا، كما انتشرت على أيديهم اللعبة هناك وساهموا في نقل الخبرة الروسية وتنشئة جيل جديد.
أبرز هؤلاء بطل العالم ألكسندر أليخين، الذي تجنس بالفرنسية عام 1920 ثم حصل على 4 ألقاب عالمية خلال تمثيله فرنسا، وكذلك فيكتور كورتشنوي، الذي ترشح لبطولة العالم في 10 مناسبات وتجنس بالسويسرية بعد فراره من الاتحاد السوفياتي عام 1976. أما أرون نيمزوفيتش، وهو أحد أبرز منظري الشطرنج، فقد غادر الإمبراطورية الروسية في أعقاب 1917 واستقر في الدانمارك، وكتب هناك مؤلفه الشهير ممارسة الشطرنج Chess Praxis، الذي عُدّ الكتاب الأهم للاعبي الشطرنج في القرن الماضي. وتكفي الإشارة إلى بطولة العالم في عام 1948، التي تنافس عليها 5 أبطال من بينهم 4 تعود أصولهم إلى روسيا، حيث إن الأستاذ الكبير سامويل ريشفسكي الذي مثّل الولايات المتحدة في هذه البطولة، من مواليد بولندا، التي كانت جزءا من الإمبراطورية الروسية إلى عام 1915.
ميخائيل بوتفينيك أول روسي يتوّج بلقب العالم. ورغم أن ظهوره الأول على الساحة العالمية في بطولة هاستينغز السنوية عام 1934 كان مخيبا، حيث حلّ في المركز السادس بمجموع 5 نقاط من 9 مباريات، فإنه عمل على نقاط ضعفه بشكل رائع وعندما عاد إلى الساحة الدولية في بطولة نوتنغهام بعد عامين، تمكّن من انتزاع المركز الأول متساويا مع كابابلانكا، ومتفوقًا على إيوي وأليخين ولاسكر.
بوتفينيك تسلطن على عرش اللعبة قرابة 15 عاما، حيث انتزع لقبه الأول من مواطنه فاسيلي سميسلوف عام 1948، ثم دافع عنه أمام مواطنه الآخر ديفيد برونشتاين عام 1951. ورغم أن بوتفينيك خسر اللقب في 1957 أمام سميسلوف فإنه استعاده في العام التالي، الأمر الذي تكرر مع مواطنه ميخائيل تال في عامي 1960 و1961، قبل أن يخسر اللقب للمرة الثالثة والأخيرة عام 1963 لصالح ديكران بدروسيان، ويتقاعد بعدها بوتفينيك مكرسا نفسه لتطوير برامج الشطرنج الحاسوبية وتدريب اللاعبين الشباب، ومن أبرز تلاميذه أناتولي كاربوف وغاري كاسباروف وفلاديمير كرامنيك، الذين صاروا أبطالا للعالم فيما بعد.
إستراتيجية بوتفينيك في اللعب اعتمدت على قدرته العالية على التمركز ثم محاولة إحداث اختلالات في توازن الخصم، ولم يكن بوتفينيك يخشى المجازفة في ذلك. كان يتمتع بفهم عميق لهياكل البيادق ويتمركز بأسلوب معقد وصبور ولم يكن الفوز هو هدفه الفوري، بل تكوين موقف متوتر مُحمّل بالفرص، قبل أن يتحين اللحظة ليباغت خصمه بمناورة تضرب على نقاط الضعف في هيكل بيادقه. وكثيرًا ما استخدم في ذلك التضحيات الموضعية لعزل بيادق الخصم أو لجعلها مزدوجة، ثم يعمل بعد ذلك على استغلال هذه الثغرات بألعاب دقيقة وحازمة.
ذخيرة بوتفينيك من الافتتاحيات كانت ضئيلة، وتشير الإحصائيات إلى أن دفاع نمزو الهندي كان مفضلا لديه، كما انصب تركيزه على فهم المواقف المعقدة بدلًا من اللجوء إلى الحيل التكتيكية التي لا يمكن استخدامها إلا مرة واحدة. إلى جانب هذا، كان بوتفينيك صارما بشأن التدريب ويعيد تحليل ودراسة كافة مبارياته حتى تلك التي فاز بها، كما مارس الرياضة بانتظام، وهو الأمر الذي يفعله كبار اللاعبين في الوقت الحالي.
وعُرف عنه محاكاة أجواء البطولة في جلساته الخاصة، على سبيل المثال، حين أتى أداؤه أقل من التوقعات في بطولة اتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفياتية عام 1940، قرر التدرب في غرفة مليئة بالضوضاء ودخان التبغ استعدادا لبطولته القادمة، لأنه وفق قوله، لم يتمكن من التركيز في هذه البطولة بسبب أجواء الضوضاء والدخان التي ملأت الغرفة.
هيمنة السوفيات على اللعبة تأسست مع تتويج بوتفينيك بطلا للعالم، ومع ذلك، يشير دانييل جونسون إلى أن نتائج الأستاذ الإستوني بول كيريس كانت متساوية تماما مع نتائج بوتفينيك، وقد لعب كيريس بشكل جيد أمام منافسيه في بطولة 1948، إلا أنه انهار أمام بوتفينيك في 4 مباريات؛ مما أظهر الأخير بطلًا للعالم. ويذكر جونسون أن كيريس تعرض أثناء البطولة لضغوط من الحكومة السوفياتية نتيجة تعاونه السابق مع النازيين أثناء الحرب العالمية
جونسون يشير أيضا إلى أن اللجنة المركزية للحزب الشيوعي استدعت بوتفينيك في منتصف البطولة، بعد خسارته لمباراة أمام البطل الأميركي سامويل ريشفسكي، لكن بوتفينيك طمأنهم بإمكانية الفوز في المباريات التالية.
الواقعة ذاتها يذكرها لاعب الشطرنج السوفياتي الأميركي بوريس جولكو ولكن بأحداث مختلفة، إذ يروي أن بوتفينيك استُدعي إلى اجتماع سكرتارية اللجنة المركزية للحزب الشيوعي أثناء البطولة، وهناك التقى أندريه جدانوف، أحد أقرب معاوني ستالين، الذي أبلغه بقلق الحزب من احتمال فوز الأميركي ريشفسكي، وسأله كيف سيكون شعورك إذا خسر المشاركون السوفيات أمامك في البطولة عن قصد؟. كانت البطولة تضم اثنين آخرين من اللاعبين السوفيات، هما فاسيلي سميسلوف وبول كيريس.
جولكو يذكر أن بوتفينيك رفض العرض وأحس بالإهانة، لكن هذا الاضطراب لم يمر دون تأثير، إذ أدى إلى خسارة الروسي أمام ريشفسكي في مباراته التالية، وكانت هي المباراة الوحيدة التي خسرها أمامه في هذه البطولة.
إشراف 25 من أجهزة الأمن الروسية على اللعبة كان جزءا من تشديد السيطرة الذي شهدته مجالات الثقافة السوفياتية عموما خلال القرن الماضي، وكان الشطرنج الروسي، بدءا من حقبة كيريلينكو، في طليعة تلك المجالات التي شهدت قمعا بغرض إخضاع ممارسيها ودفعهم إلى تبني أجندة الدولة السياسية. إلى جانب ذلك، كان لدى الروس هاجس متزايد اتجاه فرار أبرز لاعبيهم إلى الغرب. هذا الهاجس ولد منذ نهائي بطولة العالم عام 1929 الذي جمع بين الفرنسي أليخين والألماني بغولوبوف، اللذين تعود أصولهما إلى الاتحاد السوفياتي الذي اكتفى بمشاهدة دولة أوروبية أخرى تحصد البطولة عبر أحد أبنائه.
المديرية الخامسة في جهاز الاستخبارات الروسي كانت هي المسؤولة عن رصد أنشطة الرياضيين ولاعبي الشطرنج ورفع تقارير عن أفكارهم وتحركاتهم. وتشير إحدى الوثائق المنشورة إلى أن المخابرات السوفياتية ظلت تتجسس على البطل الروسي بوريس سباسكي بعد مرور سنوات من اعتزاله اللعب، إثر هزيمته من الأميركي فيشر عام 1972. وتشير الوثيقة إلى أن تقرير جهاز الاستخبارات السوفياتي كان يوثق تحركات سباسكي في أثناء زيارته سنغافورة عام 1976.
من جانبه يؤكد جولكو أن المخابرات الروسية أشرفت باستمرار على لاعبي الشطرنج السوفيات البارزين، وبسبب طبيعة أنشطتها السرية، فإن الروايات عن عملها مع كبار اللاعبين السوفيات كانت قليلة ومتباعدة وتأتي بشكل رئيسي من لاعبين مروا بالتجربة، وبينما آذى جهازُ المخابرات بعضَهم، استفاد آخرون بشكل كبير من التعاون معه. ويشير جولكو إلى أن مواطنه أناتولي كاربوف كان أبرز المستفيدين من التعاون مع الجهاز الروسي.
يُذكر أن مجلة أوغنيوك الروسية، نشرت تحقيقا حول المساعدات التي قدمتها المخابرات الروسية لـ كاربوف، ومن ضمن ذلك محاولة صد زحف مواطنه وغريمه غاري كاسباروف نحو لقب العالم في ثمانينيات القرن الماضي. ومن بين الأسلحة التي سخرها جهاز المخابرات الروسية لهذا الغرض حقيبةٌ مليئة بالنقود، عُرضت في مقابل الحصول عن معلومات حول مناورات كاسباروف الافتتاحية.
العقيد السابق في الاستخبارات السوفياتية فيكتور ليتفينوف، أخبر المجلة أن السبب وراء ذلك هو القومية البحتة، نظرا إلى أن كاربوف روسي الأصل وكاسباروف من أذربيجان، التي كانت في ذلك الوقت إحدى دول الاتحاد السوفياتي لكنها دولة حدودية مكروهة. كما صرّح ليتفينوف بأن موسكو لا تثق بالشاب الجنوبي وتعتقد أنه قد ينشق. أحد جنرالات الجهاز الاستخباري أخبر ليتفينوف عام 1983، أن بطل العالم هو شخصية سياسية، والدولة تعتبر أن كاسباروف لم ينضج بما يكفي ليحمل اللقب.
ميخائيل بوبوف، المستشار السابق في مركز العلاقات العامة التابع لجهاز المخابرات الروسي، الذي عمل أيضا في المديرية الخامسة في جهاز الاستخبارات خلال الثمانينيات، يروي أن المخابرات الروسية جندت كاربوف تحت الاسم الحركي راؤول. ويشير بوبوف إلى أن رئيس الجهاز لم يكن يثق في المعلومات التي يتلقاها من مرؤوسيه العاملين في المديرية الخامسة، ولذلك كان يعقد اجتماعات منتظمة مع كاربوف لكي يبقى على اطّلاع كامل بمشاكله ورغباته. إضافة إلى ذلك، كان كاربوف مفضلًا لدى الأمين العام للجنة المركزية، ليونيد بريجنيف؛ ولذلك تلقى رئيس المديرية الخامسة، الفريق فيليب بوبكوف، تعليمات كان فحواها أن كاربوف يجب أن يظل بطلا للعالم في الشطرنج.
جولكو يصف كاربوف بأنه ذكي بارع ومناور عظيم، ويشير إلى أنه استغل الفرصة التي أتيحت له بالتعاون مع جهاز الاستخبارات استغلالا رائعا، حيث أجبر أهم لاعبي الشطرنج الروس على أن يصبحوا مدربين ومساعدين له. من ضمن هؤلاء الساحر ميخائيل تال، بطل العالم الثامن، الذي رفض التعاون مع الجهاز ولم يكن مسيسا؛ مما أدى إلى تلقيه مضايقات كثيرة من الحكومة والحزب. وقد أُبلغ أن عليه أن يصبح مدربا لـكاربوف إذا ما أراد الاستمرار في اللعب. وعموما فقد تطوع العديد من اللاعبين البارزين لتدريب محبوب الحزب المدلل، وفق تعبير جولكو، نظرا إلى أنه كان في وضع يسمح له بتحديد من يسافر إلى الخارج للمشاركة في البطولات الدولية. | https://www.aljazeera.net/politics/2024/8/13/%d8%a7%d9%84%d8%a7%d8%b3%d9%85-%d8%b1%d8%a7%d8%a4%d9%88%d9%84-%d9%83%d9%8a%d9%81-%d8%b3%d8%a7%d9%87%d9%85%d8%aa-%d8%a7%d9%84%d8%a7%d8%b3%d8%aa%d8%ae%d8%a8%d8%a7%d8%b1%d8%a7%d8%aa | 2024-08-13T03:17:54 | 2024-10-15T02:20:03 | أبعاد |
|
27 | مجموعة السوائل.. طريقك إلى نظرية باومان في علم الاجتماع | تعرف في هذا التقرير على ثمانية كتب عن عصر الاستهلاك لعالم الاجتماع “زيجمونت باومان”.. يتناول فيها مفهومي الحداثة وما بعد الحداثة وما طالته السيولة من “الحياة، والحب، والأخلاق، والأزمنة، والشر”. | أما في سلسلة السيولة، يتناول باومان، بترجمة للدكتورحجاج أبو جبر وتقديم للدكتورة هبة رؤوف عزت، مفهومي الحداثة وما بعد الحداثة بنظرته الخاصة، ليحولهما إلى مصطلحين جديدين على القارئ العربي، فيبدل الحداثة وهي مرحلة سيادة العقل على كل شيء بتعبير الحداثة الصلبة، ويعبّر عن مرحلة ما بعد الحداثة وهي مرحلة تفكك المفاهيم الصلبة والتحرر من كل الحقائق والمفاهيم والمقدسات بتعبير الحداثة السائلة، ليخرج لنا بسلسلة السيولة التي كونتها كُتبه الثمانية عن هذه الظاهرة، فمن كتابه الأول الحداثة السائلة ينطلق باومان إلى ما طالته السيولة من الحياة، والحب، والأخلاق، والأزمنة، والخوف، والمراقبة، والشر.
وفي تعريفه لمصطلح السيولة الذي يعنيه، يشرح لنا باومان في أول هذه الكتب الحداثة السائلة مفهوم السيولة بأنه انفصال القدرة ما نستطيع فعله عن السياسة ما يتوجب علينا القيام به، أو بكلمات أبسط، فإننا إذا اعتبرنا مرحلة الحداثة الصلبة هي مرحلة الإنتاج والتطور الذي تتحكم به الدولة وتكبح جماح الأفراد لصالح المجموع، فإن مرحلة السيولة هي مرحلة تخلي الدولة عن هذا الدور وفتح السوق أمام الرأسمال الحر والاستهلاك والتحديث المستمر الذي لا غاية ولا هدف له إلا المزيد من الاستهلاك والإشباع الفوري والمؤقت للرغبات.
وفي زمننا هذا، يرى باومان أن الاستهلاك قد تجاوز فكرة السلعة المادية إلى استهلاك العواطف والعلاقات الإنسانية وتكنولوجيا التواصل، بالصورة التي أثرت كثيرا على معاني الحياة والحب والأخلاق، وبالطريقة التي جعلتنا مراقبين باستمرار بسبب استهلاكنا النهِم للتكنولوجيا الحديثة، مما أدى إلى سيولة الخوف تحت وطأة الاستهلاك والقلق مما يخبئه الغد، وأنتج لنا اضطرابا أخلاقيا أصبح معه الشر مُبررا حتى من جانب الدولة، فكيف رأى باومان في سلسلته كل ذاك؟
بتعبير آخر، فـباومان يرى أن المركز اليوم تحول نحو الاستهلاك بمعناه العميق للمكان والقيم والأشياء والعلاقات في ظل العولمة3، وأصبح التحديث المستمر لكل شيء، دون وجود أي غاية من هذا التحديث، هو الغرض في حد ذاته، فإن ما تتميز به طريقة الحياة الحديثة عن أنماط الحياة السابقة السائدة يكمن في التحديث الوسواسي القهري الإدمانيّ.
هذا التحول، من الصلابة إلى السيولة، ألقى بظلاله -حسب باومان- على قيمتي طول البقاء وسرعة الزوال، ففي تحوّل عظيم صار المجتمع يعظّم، أيّما تعظيم، المرونة في قلب الأشياء رأسا على عقب، والتخلص منها، والتخلي عنها، فضلا عن الروابط الإنسانية التي يسهل حلها والفكاك منها، والواجبات التي يسهل الرجوع عنها، وقواعد اللعب التي لا تدوم أطول من زمن اللعبة، فقد ألقي بنا جميعا في سباق نلهث فيه وراء كل جديد. ففي ظل السيولة كل شيء ممكن أن يحدث، لكن لا شيء يمكن أن نفعله في ثقة واطمئنان
هذا التحديث المتتالي وذلك الاستهلاك المستمر قد تسببا في حالة من الفردية طغت على أهمية الجماعة، فأصبح كل فرد يواجه الحياة بمفرده، فأضحى المجتمع عبارة عن جماعة تواجه مشاكلها بشكل فردي، كل فرد على حدا، فأصبحت التجمعات البشرية، في الحفلات والمعارض والمنتجعات السياسية والمراكز الرياضية، تجمعات صاخبة تخلو من أي علاقات إنسانية، بل هي علاقات سطحية تقوم على ممارسة اللحظة الحاضرة واستهلاكها دون الاهتمام بتكوين روابط حقيقية.
ففي غياب الأمن طويل الأمد، يبدو الإشباع الفوري استراتيجية مغرية معقولة، فأي شيء ربما يقع في يد المرء، عليه أن ينعم به على الفور، فمن يعلم ماذا يمكن أن يحدث في المستقبل؟. إنه عصر القلق، والخوف المتزامن مع كل ثانية يحياها المرء، ولن تتمكن التكنولوجيا ولا تقدمها من أن يزيدا فرصة الحياة المستقرة؛ بل على العكس تماما، سيسلبان من الفرد كل إمكانية بتطوير الذات، فالسيولة التي تطرح أمامنا الخيارات اللامتناهية تضيق علينا أكثر، فلا سكينة، ولا هدوء روحي، بسبب امتزاج كل شيء وغياب الشيء الواضح والمفهوم والثابت.
فالحياة السائلة -وفق باومان- حياة استهلاكية تجعل من العالم، بكل أحيائه وجماداته، موضوعات للاستهلاك، تفقد نفعها بمجرد استخدامها، فتفقد سحرها وجاذبيتها وإغراءها، وتتشكل معايير تقييم الأفراد وفق قدرتهم على الاستهلاك، أي أنك كلما استهلكت ارتفعت قيمتك، وهكذا، ففي عالم حديث سائل، فإن الفرد يقبع تحت الحصار من قِبل كل الأحوال التي تمنيه بالحرية، ولكنها في الحقيقة تحاصره بخلق الاحتياج.
ويقسم باومان كتابه إلى سبعة فصول هي الفرد تحت الحصار، من الشهداء إلى الأبطال ومن الأبطال إلى المشاهير، الثقافة خارج السيطرة والإدارة، البحث عن مأوى لى في صندوق باندورا أو الخوف والأمن والمدينة، المستهلكون في مجتمع حديث سائل، تعلم السير على الرمال المتحركة، التفكير في أزمنة مظلمة.
ويشير في مقدمة كتابه إلى أن ثمة علاقة وطيدة بين الحداثة السائلة والحياة السائلة، أي أن حياة الناس في مجتمع حديث سائل لا يمكن أن تحتفظ بشكلها ولا أن تظل على حالها لوقت طويل، فهي حياة محفوفة بالمخاطر يحياها الإنسان في حالة من الترقب والحذر الدائمين، فهو كتاب عن عالم حديث سائل.
ولعل أخوف ما يواجهه الإنسان في حياة كتلك هو احتمال الفشل من اللحاق بالمستجدات المتسارعة، فالحياة في مجتمع كهذا أشبه بلعبة الكراسي الموسيقية، حيث يكمن الرهان الحقيقي في النجاة من الاستبعاد المؤقت4، فالفرد أضحى تحت الحصار الذي يبسطه الاستهلاك، وأصبح التوجس الحقيقي هو أن يغفل المرء اللحظة المناسبة التي ينبغي عليه فيها تبديل أشيائهعلاقاته بماركة تجارية جديدة غير التي معه.
ويظهر معنى الشهادة كتجلّ آخر للحياة السائلة، حيث يتحول الشهيد في الماضي الذي يموت من أجل قيمة معنوية، إلى البطل الذي يضحي من أجل المكاسب المادية للدولة، وأن قيمة البطل تتناسب مع الحياة السائلة وتجد التقدير أكثر من قيمة الشهيد. فالإنجاز في حياة كتلك لم يعد يُنظر إليه باعتباره إنجازا واحدا مقطوعا، بل بوصفه صراعا يوميا متواصلا، لا يحقق انتصارا نهائيا كاملا، ولا يرجى أن يصل إلى خطّ النهاية، بل يدفعه على الدوام الأمل في الانتصار والاستهلاك.
وتخرج الترجمة العربية للكتاب بملحوظة افتتاحية للدكتورة هبة رؤوف التي ترى رحلة باومان في كتابه هذا عبارة عن ترحال يبدأ من الفلسفة ويدخل في صلب الاجتماع ثم ينتهي إلى السياسة، ويقع هذا الإصدار في أربعة فصول هي الوقوع في الحب والخروج منه، دخول العلاقات الاجتماعية والخروج منها، أحبب جارك كما تحب نفسك، تفكيك الاجتماع البشري.
ويرى باومان أن ما يحكم العلاقات في مجتمع الاستهلاك هو التعامل مع العاطفة بالتعامل نفسه الذي نتعامل به مع السلعة، فهو عالم من الصلات العابرة التي يمكن الاستغناء عنها كأي منتج تم استهلاكه، وهي الصلات، أو العلاقات، التي يطلق عليها علاقات الجيب العلوي، كناية عن سهولة الاستغناء عنها بعد إشباع الاستهلاك، ويتناول باومان الحياة العاطفية، فيدخل إلى عالم الصلات العابرة حيث كل الصلات يمكن الاستغناء عنها مثل منتج تم استهلاكه فالعين تمتد دوما إلى ما وراء اللحظة، وتتطلع إلى ما يتم تزيينه أنه الأفضل، غير راضية بما هو متاح.
كما يتطرق باومان لسيطرة العوالم الافتراضية على عالمنا الحقيقي، وكيف أن العلاقات في الواقع أصبحت تُقاس بمقاييس الواقع الافتراضي، أي أن ضغطة زر واحدة على حذف أصبحت تُستعمل في الحياة الحقيقية كتعبير عن سرعة إنهاء العلاقات وكأنها لا شيء، وكذا سرعة تسرب الملل إلى الحياة الزوجية -عما مضى- بسبب استشراء معاني الاستهلاك داخل النفوس بالبحث الدائم عن اللذة الفورية قصيرة الأجل، ففي ظل تنامي السيولة في كل شيء، وتحوّل المجتمع إلى مجرد تجمّع بشري، تحوّل هذا الإنسان من وضوح العلاقات الاجتماعية إلى غموض الصلات العابرة.
لا شيء جديد من حيث المبدأ، ولكن التناول هذه المرة يختلف، فـباومان سيتحدث هنا عن الاستهلاك وما أنتجه من سيوله، ولكنه سيضع ذلك على ميزان الأخلاق في كتابه الأخلاق في عصر الحداثة السائلة، والصادر عن هيئة أبو ظبي للسياحة والثقافة، بترجمة مشتركة بين سعيد البازعي وبثينة الإبراهيم.
ويقع في فصول ستة، هي على الترتيب أي فرصة للأخلاق في عالم استهلاكي معولم، القتل الباتر وإرث القرن العشرين وكيف نتذكره، الحرية في حقبة الحداثة السائلة، حياة عجولة تحديات الحداثة السائلة للتعليم، بين الرمضاء والنار أو الفنون بين الإدارة والأسواق، جعل الكوكب مضيافا لأوربا.
والكتاب يقدم، كسابقيه، رؤية نقدية للظواهر في عصر السيولة، بتركيز حول الأخلاق والتعاملات الأخلاقية وأثر الاستهلاك عليها، وما تسببت فيه العولمة بخصوصها. فالعولمة -حسب باومان- تنتج سيولة البشر بتدفقهم من مكان إلى آخر، وسيولة المال وإلغائه للحدود التقليدية التي أقامتها الحداثة الصلبة، وسيولة الهويات بتغيرها المستمر، وسيولة القيم الأخلاقية من خلال النزعة الاستهلاكية وما عنته من تمظهرات في السلوك وفي المعتقدات.
فالكتاب في أصله تنظير لمصطلحي الصلابة والسيولة كبديلين للمصطلحين الدارجين الحداثة وما بعد الحداثة، حيث يذهب باومان، من خلال ذلك، إلى السؤال الرئيس داخل صفحات الكتاب وهو هل للأخلاق فرصة في عالم استهلاكي؟ ليجيب عن ذلك بأن الأخلاق في عالم الاستهلاك أصبحت، هي الأخرى، سائلة وفاقدة للثبات والصلابة اللذين كانا حاضرين في الفترات السابقة.
ففي عالم السيولة تتغير القيم والهويات وتسيل الحدود السياسية وتفقد الحواجز التقليدية تأثيرها وأهميتها بسبب حركة رأس المال والهجرة المستمرة من أجل البحث عن الربح السريع، وهو ما يؤثر بدوره على ثبات القيم وصلابة الأخلاق التي قد تواجه منفعة الكسب والاستهلاك فتكون معرضة للهزيمة والتطويع من أجل ألا تتوقف عجلة الاستعمال السريع.
والأزمنة السائلة في تفسير باومان هي حياتنا المعاصرة التي تعاني من تحول في هياكل المجتمعات من الصلابة إلى السيولة -كما هو معتاد- وهي التحولات التي يرى باومان بدايتها من تفكك الأبنية المجتمعية والمؤسسات التي تضمن العادات المجتمعية وأنماط السلوك، والتي لم تعد قادرة على الحفاظ على عادات المجتمع وسلوكه لفترات طويلة كما السابق، وهو ما أدى إلى ارتفاع رصيد المخاوف نتيجة غياب التوقع وتآكل العرف ومنظومة الأخلاق الاجتماعية.
ثم ينتقل باومان إلى الانفصال الحادث بين السلطة ما نستطيع فعله والسياسة ما ينبغي أن نفعله بما يفصل أهداف أفعالنا عن أفعالنا ذاتها وهو النتاج الفعلي للاستهلاك بلا غرض نهائي، وهو الأمر الذي يتوافق مع انسحاب الدولة من دورها الاجتماعي في العالم الغربي وتقليص وظيفتها في كفالة أفراد المجتمع غير القادرين بما يفكك مفهوم المجتمع، لنرى النهاية أن السمة الكبرى للأزمنة السائلة هي أنها أصبحت تفتقد للتفكير بعيد المدى والتخطيط الطويل؛ لأن الأشياء أضحت ذات عمر استهلاكي قصير.
كنتيجة متوقعة، من هذا العصر السائل والعلاقات الإنسانية العابرة في زمن اللايقين، يخرج باومان بنقد آخر للحداثة في مرحلتها السائلة بخصوص الخوف الذي يحياه إنسان العصر الحديث، فيعرض لنا كتابه الخوف السائل، الذي يخبرنا بأن العهد الذي قطعته الحداثة على نفسها بتحرير الإنسان من الخوف، لم يتم فقط نقضه، وإنما تم توزيع هذا الخوف نفسه على الأفراد، بدلا من الدولة.
فهؤلاء الأفراد الذين سقطوا في سجن الخوف، بعد أن وعدتهم الحداثة بتحريرهم منه، صاروا يشعرون بالتهديد الدائم من المستقبل والخوف المستمر من مصيرهم المجهول لما أدّت له السيولة من سرعة في الاستهلاك والاستبدال. ويفصّل الكتاب تلك الأطروحة من خلال ستة فصول، هي على النحو التالي الخوف من الموت، الخوف والشر، الهلع مما لا يمكن إدارته، أهوال العولمة، إطلاق عنان الخوف، والتفكير في مقابل الخوف خلاصة غير نهائية للحيارى.
وفي شرح هذا التحول، يذهب باومان إلى أن الدولة -في عصر الحداثة الصلبة خاصة في العالم الغربي- قد وعدت مواطنيها بالتخلص من الخوف الذي ساد في عصور ما قبل التنوير، وهو الخوف الذي قام على ثلاثة أركان هي الخوف من الطبيعة، والخوف من المرض والموت، والخوف الإنساني بين البشر وبعضهم وفقا لمقولة هوبز أن الإنسان ذئب لأخيه الإنسان.
لكن، وعلى الرغم من محاولات الدولة الحداثية في تحييد هذه المخاوف عبر التقدم الطبي والردع القانوني للأفراد، فإننا أصبحنا -وفق رؤية باومان- أمام دولة جديدة في الغرب تنسحب من أدوارها الاجتماعية والاقتصادية والثقافية، لتترك الفرد في مواجهة عولمة الاقتصاد والرأسمالية، خادما لأغراضمها وخاضعا لسلطتهما عليه، وهو ما يصنع القلق الدائم من المستقبل المتغير، والخوف المتصل من فقدان الوظيفة أو السلعة أو المكانة، ليصبح الهلع التي تسببه هذه السيولة، ووفق الفصل الثالث من الكتاب، هلعا لا يمكن إدراته.
في حوار أجراه مع عالم الاجتماع ديفيد ليون، يعرض لنا باومان في كتابه الجديد رؤيته هو وليون حول مفهومهما للمراقبة في عصر الحداثة السائلة، وما آلت إليه أساليب المراقبة التي سالت وتسربت في أدق تفاصيلنا اليومية، من خلال سبعة فصول، هي على الترتيب الطائرات من دون طيار ووسائل التواصل الاجتماعي، المراقبة السائلة ومرحلة ما بعد البانوبتيكون، البعد والإبعاد والتحكم الإلكتروني، اللاأمن والمراقبة، النزعة الاستهلاكية والمواقع الإلكترونية والفوز الاجتماعي، المراقبة من منظور أخلاقي، وأخيرا القدرة والأمل.
وتعلق الدكتورة هبة رؤوف على الكتاب بوصفه كتابا في علم اجتماع الآلة وأثرها في الوعي بالذات، وفي تطوير وتوظيف التكنولوجيا لخدمة أجندات سياسية تتعدى على الحريات وتنتهك الحدود الشخصية عبر الأجهزة الرقمية الحديثة ومواقع التواصل التي تفاجئك بإعلان عن سلعة كنت قد تحدثت عنها مع صديق، أو تقترح عليك صداقة شخص قابلته في مناسبة ما، دون أن تعي أنت صلاحياتها، التي تضغط عليها موافق عند تثبيتها، وأنها أضحت تتضمن هذا النمط السائل من المراقبة.
وينطلق كتاب المراقبة السائلة من نظرية سجن البانوبتيكون عند ميشيل فوكوه والذي يجلس فيه المراقب خلف زجاج معتم، داخل برج يتوسط مجموعة دائرية من الزنازين المغلقة، لا يرى فيها أي من المساجين زملاءه ولا يرى بالطبع من يراقبه، وهو النموذج الصلب من المراقبة الذي سال داخل سجون الرأسمالية الحديثة التي نسكنها كمستهلكين، ولكننا لا ندخلها كسجناء تحت القمع، وإنما كمترفين ومتمتعين، أو مضطرين لحاجة التواصل مع العالم دون قهر مادي علينا.
فتكون الخصوصية غموضا يحاول المرء دفعه عن نفسه بعرض حياته على شبكات التواصل بتفاصيلها، وأصبح غياب المرء وحضوره يتحددان بعدد الساعات التي يتوفر فيها على تلك المواقع، فيعرض المرء نفسه للمراقبة بالصورة التي أعطت لأصحاب الأجندات السياسية دفقا غزيرا من المعلومات لم تكن تحلم في الماضي أن تحصل عليه، لذا فالكتاب هو نقاش حول السؤال الناتج من هذه السيولة، وهو كيف تؤثر هذه المراقبة السائلة في تصوراتنا عن الذات وسلوكنا المجتمعي وعلاقتنا بالعالم؟
كعمل مشترك آخر، يُخرج لنا باومان والفيلسوف الليتواني ليونيداس دونسكيس كتابهما الخاتم لسلسة السيولة حول مفهوم الشر السائل الذي تديره الدولة الحداثية، والذي أفرد له الكتاب فصوله الأربعة التاليات الاحتفاء بالنزعة غير الشخصية، من عالم كافكا إلى عالم أوريل الحرب هي السلام والسلام هو الحرب، أين وفاء الحداثة بالعهود الكبرى التي قطعتها على نفسها؟ وأخيرا أشباح الأسلاف المنسيين مراجعة للنزعة المانوية.
ويقوم الكتاب بالأساس على فكرة مفادها أن الشر قد أصبح، في الرؤية السياسية للدولة، شيئا طبيعيا يمكن تبريره وتسويغه، وليس مضادا للخير على الدوام؛ لذا يرى الكاتبان أنه من السهل تبرير الخيانة في نموذج نفعي كهذا، فإذا انتهت أعمال الخيانة والقتل إلى الاحتفاظ بالسلطة أو توسيع نفوذها، فمن السهل تصنيفها على أنها تضحية مؤلمة في سبيل غاية وطنية.
فإذا نجحت المؤامرة أو الانقلاب فإن المتآمرين يصبحون أبطالا ورموزا للدولة، وإذا حدث العكس فإن الخيانة ستكون التوصيف الأمثل لفعلهم، بل وسينساهم التاريخ بأي ذكر حسن حتى لو كانوا في الأصل ينقلبون على سلطة غاشمة، كما هو الحال مع محاولات التآمر على هتلر إبان الحرب العالمية الثانية، إذ أضحى المتآمرون خونة؛ لأن هتلر كان هو من ينتصر.
ذلك الشر لا يسيل على يد الدولة فقط، وإنما يرى الكتاب، والسلسلة بأكملها، أن المواطنين يساهمون في ذلك بصورة ما، حيث أصبح الشر، حسب هبة رؤوف كامنا في التفاصيل اليومية، بما يبلغ حد الاعتياد، عند هؤلاء الذي يفرحون بالشر -تحت مسمى خدمة الدولة- بسبب ما أنتجته السيولة من تمييع للقيم الأخلاقية وتغييب الحقائق الصلبة في نفوس الكثيرين، ليصدقوا الأكذوبة التي سردها جورج أورويل في روايته الشهيرة 1984 بأن الحرب هي السلام، وأن الإكراه هو الرعاية الحنون.
بهذا الكتاب كان باومان يختتم رحلته مع ظاهرة السيولة التي قامت الشبكة العربية للأبحاث والنشر، ونظرا لأهمية هذا الطرح، بترجمة سبعة كتب منها، وأضافتها لسلسة الفقه الاستراتيجي، التي يتقارب هدفها مع أعمال باومان حسب تعليق الدكتورة هبة رؤوف في عرضها لكتابه الأول الحداثة السائلة؛ إذ رأت في ما أصدره الرجل عمقا في الطرح، ونظرة لم تكن تشاؤمية على الرغم من صعوبة الواقع الذي تحلله، إلا أنها أثارت العديد من الأسئلة المحورية والهامة في كل قضية فتحها على حدا، وتلك هي الأهمية الحقيقية لسلسلة باومان. | https://www.aljazeera.net/sukoon/2018/1/22/%d9%85%d8%ac%d9%85%d9%88%d8%b9%d8%a9-%d8%a7%d9%84%d8%b3%d9%88%d8%a7%d8%a6%d9%84-%d8%b7%d8%b1%d9%8a%d9%82%d9%83-%d8%a5%d9%84%d9%89-%d9%86%d8%b8%d8%b1%d9%8a%d8%a9-%d8%a8%d8%a7%d9%88%d9%85%d8%a7%d9%86 | 2018-01-22T11:09:51 | 2025-01-23T15:39:49 | أبعاد |
|
28 | هندسة الانتصار وتخطيط حماس المُحكم لمشاهد تسليم الأسيرات | من الواضح أن حركة حماس والمقاومة الفلسطينية تعمدت إظهار المشهد بتلك الصورة لتمرير رسائل مبطنة إلى العالم وبشكل أكثر تحديدا إلى الإسرائيليين. | لطالما ملأت هوليود رؤوسنا بحكاياتها عن أبطال الغرب؛ فترى أحدهم منقذا للعالم من غَزو فضائي في إحدى الحكايات، وفي أخرى، نشاهد بسالة البطل وقدراته الخارقة في مواجهة هجمات الأشرار من الشيوعيين أو النازيين أو غيرهم، التي كادت تُهلك العالم لولا حضور المنقذ الأبيض. ودائمًا ما يواجه هذا البطل صراعًا مريرًا، يتأرجح خلاله بين النصر والانكسار، ويكون الصمود مفتاحا لغلبته في الأخير، بما يأذن بمشهد ختامي مؤثر تتقن هوليود إخراجه.
يحدث ذلك في الأفلام وفق سيناريو محسوب ومحدد مسبقًا على الورق، وليس مقبولًا بأي حال أن يحيد طاقم العمل عن خطوطه الأساسية، فمن شأن ذلك أن يفسد ذروة الختام. ولكن في مقابل تلك الصورة السينمائية المحبوكة والمغلفة بالبروباغندا، غالبا ما تكون مشاهد البطولة الحقيقية على الأرض أكثر بساطة وواقعية.
أحد تلك المشاهد بلا شك هو ما رأيناه في قطاع غزة، في الساعات الأولى لسريان وقف النار من جانب المقاومة الفلسطينية وشعبها في غزة، وهو مشهد على واقعيته لم يخل من ملحمية واضحة. خرج مقاتلو كتائب القسام بكامل عتادهم العسكري مرتدين زيهم الأخضر الشهير، نظيفا ومرتبا وزاهيا، وكأنهم متوجهون إلى مهرجان أو احتفالية، وسرعان ما انتشر هؤلاء المقاتلون في جميع أنحاء غزة ببراعة ودقة وتنظيم فائقَين، وظهرت معهم سيارات الدفع الرباعي البيضاء ناصعة.
بالنظر إلى أن ذلك كله حدث مباشرة بعد 470 يوما من حرب الإبادة التي لم تتورع فيها إسرائيل عن استخدام طريقة مهما كانت لإخضاع شعب غزة ومقاومتها، يبدو ذلك المشهد سينمائيا بامتياز. وللحقيقة، من الواضح أن حركة حماس والمقاومة الفلسطينية تعمدت إظهاره بتلك الصورة لتمرير رسائل مبطنة إلى العالم وبشكل أكثر تحديدا إلى الإسرائيليين، رسائل حول قوة وصلابة مقاتليها بعد هذه الجولة من القتال المطول، وحول حجم التفاف الشعب الغزي حولها رغم إمعان إسرائيل في التنكيل به لدفعه لنبذ المقاومة، وأخيرا حول حيوية وكفاءة تنظيمها الذي أدار المشهد بحرفية بالغة، وعناية مثيرة للانتباه بأدق التفاصيل وأصغرها.
في الحقيقة كان الاهتمام بالتفاصيل دائما أحد السمات المميزة لحركة حماس، وفي القلب منها جناحها العسكري، كتائب عز الدين القسام. ويرجع ذلك إلى إدراكها أن الصراع مع الاحتلال الإسرائيلي، وكما أنه صراع حول الأهداف والقضايا الكبرى، فهو أيضا صراع حول السردية والرواية وحتى التفاصيل الصغيرة. تلك التفاصيل، التي تظهر في الصور ومقاطع الفيديو والرسائل الموجهة وغيرها، غالبا ما تكون قادرة على مخاطبة مخاوف الإسرائيليين وغرائزهم واللعب على أوتار انقساماتهم، مما يعكس فهما مزعجا من قبل الفلسطينيين لطبيعة خصمهم ودوافعه ومحركاته الأساسية.
وإذا ما عدنا زمنيا إلى الوراء، بإمكاننا أن نعثر على شواهد عدة على ذلك الاهتمام بالتفاصيل ليس فقط في المشاهد والرسائل الإعلامية ولكن في تنظيم الفعل المقاوم نفسه. من ذلك على سبيل المثال، اللمسات النهائية التي وضعتها المقاومة على عملية طوفان الأقصى في 7 أكتوبرتشرين الأول 2023، في وقت كانت فيه إسرائيل تتخبط داخليا على خلفية توترات وانقسامات سياسية طويلة، بسبب مجموعة التشريعات التي دفع بها رئيس الوزراء، بنيامين نتنياهو ضمن خطته للإصلاح القضائي التي قابلت رفضا واسعا من قبل الكثير من الإسرائيليين.
وكان من شأن هذه الاضطرابات الداخلية أن توفر ما يشبه الضوضاء الخلفية، التي عملت على تشتيت انتباه الاستخبارات وأجهزة الأمن الإسرائيلية عن نية حماس وتحركاتها.
سبق ذلك استثمار حماس في البنية التحتية للأنفاق عبر إنشاء شبكة واسعة من الممرات تحت الأرض، تمكّنها من شنّ هجمات مفاجئة، ومن المؤكد أن هذه المرافق ساهمت في إخفاء الاستعدادات وتعزيز عنصر المباغتة، سواء خلال هجوم طوفان الأقصى أو فيما تلاه من المعارك الحضرية داخل القطاع.
كما اتضحت قدرة المقاومة، خلال شهور الحرب، على استغلال بيئة المعركة وتعقيداتها على النحو الأمثل، رغم فارق القدرات بين الطرفين، وهو أمر لا يتأتى إلا من خلال الاستعداد الدقيق بعيد المدى، وفق ما يشرح زميل معهد واشنطن، مايكل نايتس، مشيرا أن حماس أعدت على مدار 15 عاما دفاعا عميقا يدمج التحصينات تحت الأرض وفوقها، فضلًا عن تجهيز حقول الألغام المحتملة والعبوات الناسفة المرتجلة والألغام المضادة للدروع والمباني المفخخة، كما نجحت في تعقيد بيئة العمليات بصورة أكبر بعد احتجازها لأسرى إسرائيليين، مما دفع الداخل الإسرائيلي إلى حالة انقسام بشأن مصير هؤلاء الأسرى طوال مدة الحرب.
وعلاوة على الشق العملياتي، أدركت المقاومة الفلسطينية منذ اليوم الأول أن الاحتلال سوف يرد بشراسة على هجوم طوفان الأقصى، وتجهزت للصمود أمامه دون نسيان تحقيق أكبر استفادة سياسية ممكنة لقضيتها حتى وهي تخوض الحرب الأكثر شراسة في تاريخها.
وفي هذا الصدد، تمكنت المقاومة والمتعاطفون معها في الخارج من تحقيق إنجازات على محاور عدة، منها النجاح في ضرب سياج من العزلة الدولية حول إسرائيل، واكتساب التعاطف الشعبي خاصة بين الفئات الأصغر عمرا في الغرب، والتي سوف تشكّل الكتلة الانتخابية الأكبر في بلدانها في غضون السنوات القادمة، ومن المرجح أن يكون لها دور في الحد من الدعم الغربي غير المشروط لدولة الاحتلال في المستقبل في حال تحول هذا التعاطف الشعبي إلى قرار انتخابي يوجّه قرار الناخب.
كما يمكن ملاحظة أثر الطوفان في إعادة القضية الفلسطينية إلى صدارة المناقشات العربية والدولية.
لقد كان كل يوم، بل كل ساعة، من الصمود للمقاومة وشعبها في غزة يسقط المزيد من الأصباغ عن وجه إسرائيل ويكشف المزيد من الحقائق على معاناة الفلسطينيين وعدالة قضيتهم. وهو ما يشير إليه جون ألترمان، مدير برنامج الشرق الأوسط في مركز الدراسات الإستراتيجية والدولية في واشنطن، منوهًا أن حماس لا ترى النصر في عام واحد أو 5 أعوام، بل من خلال الانخراط في عقود من النضال، الذي يزيد من التضامن الفلسطيني ويزيد من عزلة إسرائيل.
وبتعبير آخر، يمكن القول إن ما قامت به المقاومة، يتقاطع مع مفاهيم المنظّر البروسي الشهير كلاوزفيتز، الذي رأى في الحرب وجها آخر للسياسة أو شكلا من أشكال العمل السياسي ونعني هنا العمل السياسي بمفهومه الشامل وليس بمفهومه الحزبي الضيق، وتمكنت بذلك من إعادة توجيه القوة المفرطة التي يوجهها الاحتلال ضد قطاع غزة كي تعمل ضده، مستغلة تخبط القيادات الإسرائيلية وافتقارها إلى الرؤية بشأن هدفها من الحرب، وافتقادها القدرة على تحقيق ما تريد.
ورغم امتلاك إسرائيل اليد العليا من حيث التقنيات والأسلحة والدعم الغربي غير المشروط، فإنها كانت تتحرك في الأخير على الرقعة التي صنعتها المقاومة الفلسطينية وصممتها بنفسها. وكأن ما دار هو لعبة شطرنج بين خصمين، تمكّن خلالها أحدهما من توجيه الآخر نحو نقلات إجبارية ودفعه إلى التحرك وفق ما يريد.
وكان الختام لذلك، هو قبول إسرائيل بوقف الحرب وتبادل الأسرى مرغمة لا طائعة بعد أشهر من رفضها الصفقة نفسها، تلك الصفقة التي وُصفت بـصفقة الاستسلام من قبل بعض وزراء الحكومة الإسرائيلية وقادتها الذين اعتبروها إعلان هزيمة لإسرائيل، فاستقال على أثرها الوزير اليميني المتطرف إيتمار بن غفير وحزبه من الحكومة والكنيست الإسرائيلي، فيما اعتبرها وزير المالية اليميني بتسلئيل سموتريتش صفقة كارثية.
نخلص من ذلك إلى أن قوة حماس تمثلت بشكل أساسي في تقديرها وحسابها لكل خطوة، واعتبارها أن ما هو فرعي يقع على الدرجة نفسها من الأهمية التي يحظى بها الرئيسي، وكان ذلك سبيلها لتحقيق التوازن بل والتفوق النسبي بشكلٍ ما أمام فارق القوة بينها وبين الاحتلال الإسرائيلي، مما يدفعنا بالضرورة إلى إعادة النظر في المشاهد التي أعقبت وقف إطلاق النار في غزة، واعتبارها أيضًا جزءًا ضمن أهداف حماس وإستراتيجيتها طويلة النفس لمجابهة دولة الاحتلال.
وفيما يبدو، أرادت المقاومة -في المقام الأول- أن تثبت لإسرائيل، أن ما أعلنه نتنياهو في وقت سابق، حول القضاء على حماس وتدمير قدراتها العسكرية، باعتباره هدفا لحربه الضارية على القطاع ومسوغا لتدميره، هو أمر لم يتحقق، والدليل، تمكّن أفراد حماس من استعادة السيطرة على القطاع في غضون دقائق من إعلان وقف إطلاق النار، وظهورهم بالزي الموحد البرّاق والمركبات العسكرية والنشاط الجمّ، وكأنهم لم يتأثروا بخوض هذه الحرب الطويلة بتاتا، وفي ذلك رسالة إلى عدوهم بأنهم على استعداد لتحمل حرب أطول إذا ما اقتضت الظروف.
كما حملت هذه المشاهد نوعا من استعراض القوة، الذي يحطم أي ادعاء نصر يزعمه نتنياهو أمام شعبه، كما يساهم في تدني الروح المعنوية لعدوهم الإسرائيلي، الذي استُهلك ماديا وبشريا ونفسيا على مدار هذه الشهور، دون تحقيق أي من أهدافه الرئيسية. وفي السياق ذاته، ينفي ظهور أفراد القسام في وسط غزة واستقبالهم بهذه الحفاوة من قبل الأهالي، الشائعات التي تداولتها بعض وسائل الإعلام الغربية، والتي زعمت خلالها أن أهالي القطاع يحمّلون المقاومة وزر تعرضهم للقصف الإسرائيلي على مدار هذه الشهور، كما يُبطل ذلك أي محاولات للوقيعة بين القسام وبين حاضنتها الشعبية في غزة.
أكثر من ذلك ينطوي مشهد غزة الموحدة -على ذلك النحو- على رسالة أخرى للاحتلال، مفادها أن قوة القسام البشرية قابلة للتجدد والتعويض بل وللزيادة مما يبدد اعتقاد الاحتلال في إمكانية القضاء على المقاومة، عبر إسقاطه أكبر عدد من الشهداء وسط صفوفها. وأكثر من ذلك تُظهر الترتيبات والتحركات المنظمة من أفراد الحركة داخل القطاع، أن المقاومة الفلسطينية نجحت ولو نسبيا في تجديد هيكلها القيادي بعد اغتيال الاحتلال لعدد من قادتها البارزين وعلى رأسهم إسماعيل هنية ويحيى السنوار، وهو ما يهدم نظرية تقويض الحركة من خلال استهداف قادتها.
وفي الختام، جاء تسليم الأسرى، ليتوج رسائل حماس السياسية في مشهد النصر. ظهرت الأسيرات الإسرائيليات الثلاث في أفضل هيئة ممكنة، بثياب نظيفة وضفائر معقودة بعناية ووجوه مطمئنة لا توحي إطلاقا بقضائهن 15 شهرا كاملة في الأسر تحت وطأة القصف والحصار والتجويع. ناهيك بالهدايا التي وزعّها عليهن رجالُ القسّام وشملت خريطة لقطاع غزة وشهادة إفراج وصورا تذكارية من فترة الأسر.
يشير ذلك المشهد أن الأسيرات حظين بأفضل معاملة ممكنة وفق الظروف المتاحة، تماما كما تأمر الشريعة الإسلامية الغراء. تتناقض تلك الصورة تماما مع صورة الأسيرة الفلسطينية المفرج عنها من سجون الاحتلال خالدة جرار، إذ بدت مذهولة ومنهكة بشكل واضح وبحاجة إلى من يتناول يدها ويسندها خلال سيرها. وتكفي هذه المقارنة كي تبرهن للعالم على الفارق الإنساني والأخلاقي بين الطرفين، لمن أراد أن ينتبه أو يعتبر. | https://www.aljazeera.net/politics/2025/1/20/%d9%87%d9%86%d8%af%d8%b3%d8%a9-%d8%a7%d9%84%d8%a7%d9%86%d8%aa%d8%b5%d8%a7%d8%b1-%d9%83%d9%8a%d9%81-%d8%ae%d8%b7%d8%b7%d8%aa-%d8%ad%d9%85%d8%a7%d8%b3-%d9%84%d9%85%d8%b4%d8%a7%d9%87%d8%af | 2025-01-20T20:12:27 | 2025-01-24T12:42:25 | أبعاد |
|
29 | مجزرة النصيرات.. فشل إستراتيجي يتدثر بالتهويل الإعلامي | لن تكون عملية النصيرات الأخيرة، وقد تدفع نتنياهو إلى المزيد من العمليات العسكرية والأمنية التي سيمني نفسه فيها بالوصول إلى المزيد من الأسرى أو قتل بعضهم. فهل تعد هذه العملية إنجازا عسكريا حقيقيا؟ | في الثامن من يونيوحزيران الجاري، نفذت وحدات خاصة إسرائيلية تتبع لجيش الاحتلال، ووحدة مكافحة الإرهاب يمام وجهاز الأمن الداخلي شين بيت عملية لـتحرير أربعة أسرى في مخيم النصيرات وسط قطاع غزة. في العملية التي أطلقت عليها الصحافة الغربية، تبعًا لتوصيف جيش الاحتلال، عملية إنقاذ، قتلت القوات الإسرائيلية 274 فلسطينيًّا على الأقل، في إحدى أكبر المجازر التي ترتكبها إسرائيل منذ انطلاق عملية طوفان الأقصى في السابع من أكتوبرتشرين الأول الماضي. كما أدت العملية إلى مقتل ثلاثة أسرى لدى المقاومة الفلسطينية، أحدهم يحمل الجنسية الأميركية. وقد سقط قتيلًا في المعركة بأيدي المقاومة قائدُ القوات المهاجِمة الضابط أرنون زامورا، وهو ما حدا بالإسرائيليين إلى إطلاق اسمه على العملية التي صارت تُعرف بعملية أرنون.
كان توقيت العملية حرجًا لجميع الأطراف. فعلى الرغم من أنها تصب في مصلحة حكومة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، الذي ما فتئ يؤكد أن الضغط العسكري على المقاومة الفلسطينية هو الكفيل باسترجاع الأسرى، فإن العملية جاءت متزامنة مع مقترح قدمته إسرائيل إلى الرئيس الأميركي جو بايدن لوقف القتال والذهاب إلى صفقة لتبادل الأسرى عبر ثلاث مراحل. كما أن العملية جاءت في ظروف كانت تنذر بانهيار الحكومة الإسرائيلية، خاصة عبر وزيري الحرب بيني غانتس وغادي أيزنكوت اللذين هددا بالانسحاب من مجلس الحرب، وهو ما فعلاه في اليوم التالي لتنفيذ العملية التي لم تسعف نتنياهو لإنقاذ حكومته.
وأخيرًا، يضاف قلق آخر من فتح جبهات جديدة للمواجهة، خاصة مع التصعيد الكبير الواقع على الجبهة الشمالية مع حزب الله، ولا سيما مع استمرار القتال في مدينة رفح وسط نقص كبير في القوة القتالية الإسرائيلية بعد أن طلب رئيس الأركان هرتسي هاليفي إضافة خمس عشر ة كتيبة مقاتلة؛ لتحقيق أهداف الحرب.
وتأتي هذه التطورات مع متغيرات دولية وإقليمية فارقة، مثل وضع الجيش الإسرائيلي على القائمة السوداء للدول التي تنتهك حقوق الأطفال، إضافة إلى طلب المدعي العام لمحكمة العدل الدولية كريم خان إصدار مذكرتَي اعتقال لرئيس الوزراء الإسرائيلي ووزير دفاعه يوآف غالانت؛ بسبب جرائم الحرب والإبادة الجماعية المستمرة في قطاع غزة. ورغم ذلك، أو بسببه كله، وظفت حكومة نتنياهو العملية سياسيًّا وعسكريًّا لوقف الاستنزاف الكبير في المعنويات والقدرات باعتبارها إنجازًا عسكريًّا وأمنيًّا كبيرًا يمكنه أن يغطي على الإخفاقات الميدانية.
كانت مشاركة الولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا في الحرب على قطاع غزة واضحة وفاعلة منذ بداية القتال. فقد قدمت الدولتان كل ما تستطيعانه من دعم سياسي وعسكري، واقتصادي، ومعلومات استخبارية واستشارات عسكرية ميدانية، ودعمًا لوجستيًّا استمر حتى لحظة كتابة هذه السطور.
لا تستطيع إسرائيل جمع هذه المعلومات بمفردها على الرغم من وجود قاعدة أوريم التابعة لوحدة 8200، في جهار الاستخبارات الإسرائيلي الذي فشل في السابع من أكتوبر في معرفة نيات فصائل المقاومة الفلسطينية فضلًا عن إيقافها أو ردعها. وهذا كله يرفع قيمة المعلومات التي تقدمها الدولتان.
فمثلًا، مثلما فصل تحقيق من المصادر المفتوحة على صفحة أبعاد التابعة للجزيرة نت، تقوم طائرات التجسس البريطانية التي تنطلق من قاعدة راف أكروتيري التابعة لسلاح الجو الملكي في جزيرة قبرص بجمع معلومات استخبارية عن قطاع غزة بصورة تفصيلية ويومية لتزويد الجيش الإسرائيلي بها. وفي ذلك يقول موقع ديكلاسيفايد البريطاني المختص بالسياسة البريطانية إن الجيش البريطاني نفذ من 3 ديسمبركانون الأول الماضي أكثر من 200 مهمة تجسس جوية فوق قطاع غزة دعمًا لإسرائيل، بمعدل طلعة جوية واحدة يوميًّا مدة ست ساعات. زادت هذه الطلعات الجوية في شهر مارسآذار الماضي إلى أكثر من 44 طلعة جوية تجسسية، بحيث جُمع ما يقارب 1000 ساعة جوية من اللقطات فوق قطاع غزة وهذا يعني أن بريطانيا لها مشاركة فعلية في هذه الحرب بصورة عامة وخاصة العملية العسكرية المتعلقة بتخليص الرهائن.
أما الولايات المتحدة الأميركية فقد كانت أكثر حضورًا في عملية النصيرات حيث قدمت معلومات استخبارية ودعمًا لوجستيًّا كبيرًا في تخليص الأسرى، إذ قام فريق من مسؤولي استعادة الرهائن الأميركيين المتمركزين في إسرائيل، بالمساعدة عبر المشاركة بـخلية المختطفين الأميركية في إسرائيل حسب موقع أكسيوس نقلًا عن مسؤول بالإدارة الأميركية. كما أكدت شبكة سي إن إن مساهمة الخلية الأميركية في هذه العملية، إضافة إلى الدعم اللوجستي بما فيه عملية نقل الأسرى بعد تخليصهم عن طريق الرصيف العائم، فضلًا عن إدخال شاحنة مساعدات يختبئ داخلها عناصر من أجهزة أمنية إسرائيلية، ولا سيما أن واشنطن تركز على مساعدة تل أبيب على الوصول إلى الأسرى وإلى القيادات العليا لحماس لاعتقالهم أو قتلهم.
إن من يراقب حركة الفرقة 98 بعد معركة جباليا يجد أنها كانت مكلفة بمهامّ تتعلق بالوصول إلى الأسرى بعد معركة خان يونس، بعد أن تم تكليفها بواجب أمني في مخيم جباليا حيث استطاعت الوصول إلى جثث سبعة أسرى، وبعد انسحابها كانت القيادة الإسرائيلية أمام ثلاثة خيارات رئيسية وهي الذهاب إلى تعزيز معركة رفح، أو الذهاب إلى القاطع الأوسط لتفكيك كتيبتين للمقاومة لم يتم الوصول إليها، أو التحرك نحو جبهة الشمال مع لبنان لكونها جبهة توتر متصاعد.
ولكن الفرقة تحركت، بعد أيام قليلة، نحو المناطق الشرقية من مخيم البريج، ودير البلح، بقوة لواءين هما اللواء السابع من الفرقة 36، ولواء كفير 900 من الفرقة 340 التي تسمى فرقة عيدان، للتقدم بمحورين. وقد كانت هذه العملية جزءًا من عملية التمويه والمخادعة لإشغال فصائل المقاومة وجرها إلى مواجهات عنيفة وضارية بعيدة عن الهدف الأهم والأكبر وهو الوصول إلى مخيم النصيرات.
جعلت هذه المواجهات والمعارك الضارية الطريق الذي ستسلكه القوة المقتحمة مفتوحًا أمام القوات المكلفة بتنفيذ العملية الخاصة بتخليص الأسرى، كما أن استخدام شاحنة لنقل المساعدات الغذائية جاءت من الرصيف العائم لنقل قوات إسرائيلية خاصة يرتدي أفرادها ملابس مدنيين نازحين يشير إلى نحو ما إلى تورط الولايات المتحدة الأميركية بشكل مباشر في هذه العملية، حتى مع الإنكار الأميركي الرسمي.
وهذا التدخل الأميركي يثير الكثير من التساؤلات بشأن الرصيف العائم ودوره المريب في الحرب على قطاع غزة، وحول الأهداف التي أنشئ من أجلها، رغم نفي استخدام الرصيف في هذه العملية عدا ما ظهر من عملية نقل الأسرى بطائرة مروحية من المنطقة القريبة من الرصيف العائم. ولكنّ الفلسطينيين القاطنين في المنطقة أثبتوا عكس ذلك من خلال شهاداتهم بشأن المعركة، فضلًا عن قيام سلاح الجو الإسرائيلي بقصف وحشي للمدنيين لإخافتهم وترويعهم، وتجاهُل قوات الاحتلال حجم الخسائر البشرية الهائلة بسبب القصف الجوي والمدفعي والبحري.
لا شك في أن مثل هذه العمليات الخاصة لا يمكن أن تجري وتنفذ بدون معلومات استخبارية دقيقة قد تكون إسرائيل استطاعت الحصول عليها من خرق أمني ساعد على جمع المعلومات عن الأسرى في هذه المنطقة. وهنا لا بد أن نتصور أن عمليات النزوح من جميع مناطق القطاع ربما ساعدت على حدوث هذا الاختراق بشكل كبير، وجعلت من الصعوبة بمكان أن تتأكد المقاومة الفلسطينية من هوية كل الأشخاص النازحين إلى المنطقة؛ مما يسهل عملية الاختراق بدخول بعض العناصر المتعاونة من المستعربين والبدو ممن يمكنهم التخفي وسط الجموع. وهؤلاء مدربون على جمع المعلومات، ومراقبة الأهداف، ولديهم إمكانية كبيرة على معرفة تلك المناطق؛ مما يمكنهم من جمع المعلومات وتخطيط مسرح العملية. إضافة إلى امتلاك الجيش الإسرائيلي لوحدات تنصت ومراقبة عالية المستوى يمكن الاعتماد عليها في عملية المراقبة والرصد.
كذلك تعددت القوات المشاركة في هذه العملية من قوات برية، وجوية، وبحرية، وقوات خاصة تابعة لجهاز الشاباك، وقوة من وحدات الشرطة الخاصة اليمام، كما شاركت فيها طائرات مسيّرة، وطائرات أباتشي، وقوة من خلية المختطفين الأميركية، علمًا بأن الولايات المتحدة الأميركية أرسلت 2000 جندي من قوات دلتا فورس، وهي وحدة عمليات تركز في عملياتها على تنفيذ العمليات السرية ومنها تحرير الرهائن، ومكافحة الإرهاب، وأفرادها موجودون لمساعدة جيش الاحتلال منذ بداية الحرب.
غني عن الذكر أن هذه القوات مدربة على العمل في ظروف قاسية ومعقدة، بما فيها العمل على استعادة الرهائن، والقيام بمهام استطلاعية، والعمل خلف خطوط العدو.
يمكن القول بلا مبالغة أو تهويل، بأن عملية النصيرات، وتحرير الأسرى الأربعة من قبضة المقاومة، تمثل إنجازًا تكتيكيًّا محدودًا لا يرقى إلى أن يكون إنجازًا إستراتيجيًّا. فتخليص أربعة أسرى، وقتل ثلاثة آخرين، من مجموع أسرى يصل عددهم إلى 120 أسيرًا لدى المقاومة أمر لا يعني اختراقًا كبيرًا، خصوصًا مع استنفاد الجيش الإسرائيلي قدر استطاعته من قدرات نارية وتدميرية، بالتزامن مع إطلاق نار مباشر وعشوائي مدمر باستخدام أحزمة وسدود نارية كثيفة أدت إلى تسطيح الأرض على جانبي القوة المتقدمة لدفع الفلسطينيين وإبعادهم عن المنطقة التي تجري فيها العملية الخاصة.
سمح هذا التدمير للقوة المتوغلة بالتقدم إلى أماكن الاحتجاز، مع التأكيد على أن القوات دخلت من محورين أحدهما من الشرق باتجاه منطقة السوق في المخيم، وقوة أخرى اندفعت من محور نتساريم باتجاه شارع الرشيد ثم إلى مخيم النصيرات، حيث يوجد الأسرى في موقعين منفصلين. فضلا عن أن الدعم الذي حصلت عليه إسرائيل من حلفائها في الولايات المتحدة وبريطانيا يقلل حجم الإنجاز الذي تدّعيه حكومة الاحتلال، ويعظم إنجاز المقاومة في الاحتفاظ بالأسرى رغم الإمكانيات الهائلة لدى أعدائها.
كذلك يمكن وصف هذه العملية بأنها استثنائية ومحدودة، ولا يمكن البناء عليها في تنفيذ عمليات مشابهة أخرى؛ وذلك لأسباب كثيرة منها أن فصائل المقاومة ستشدد إجراءاتها، كما هو متوقع، بعد هذه العملية. وستعمل قوى المقاومة كذلك على سد الثغرات، ومعالجة نقاط الضعف التي ظهرت خلال هجوم النصيرات، بما فيها الاختراق الاستخباري إن ثبت وجوده، وقد تعمل على تطوير آليات دفاعية للتعامل مع الأساليب والوسائل التي استخدمها الجيش الإسرائيلي في عملية التوغل وتخليص الأسرى، هكذا ينبئنا مسار المعارك العملياتية بين المقاومة وجيش الاحتلال.
ويجعل مقتل ثلاثة أسرى وقائد القوة المتوغلة الاحتلال أيضًا أمام معادلة صعبة؛ مما يعني أن هناك مشكلة كبيرة في الإستراتيجية المتبعة لتخليص الأسرى التي تعتمد على الضغط العسكري كما يقول نتنياهو؛ لما لها من تبعات سلبية وكارثية على القوة المتوغلة وعلى بقية الأسرى. خصوصًا إذا كانت القوات التي نفذت هذه العملية العسكرية الأمنية الخاصة قد مُنيت بخسائر تكتم عليها جيش الاحتلال؛ لأن سير المعارك وجميع المؤشرات تقول بضعف احتمالية أن تمر عملية توغل بهذا الحجم الكبير من القوات المتوغلة بلا خسائر.
لقد حاول نتنياهو أن يوظف هذه العملية الأمنية العسكرية الخاصة سياسيًّا وعسكريًّا للمضي في حربه المحمومة لاستعادة الأسرى، وقدمها على أنها نصر كبير وإنجاز تاريخي يداري خسائره الكبيرة. ولأن نتنياهو يعرف قبل غيره أن العملية لا تتعدى النجاح التكتيكي المحدود النتائج، ولن يكون لها تأثير على مسار الحرب، حاول عبر التهويل منها أن يغطي على إخفاقاته العسكرية والأمنية الإستراتيجية. يمكن القول إذن إن هذه العملية أثبتت أن فاتورة الخسائر ستكون حاضرة ومضاعفة عند أي عملية تحرير تقدم عليها إسرائيل.
كذلك حاول نتنياهو توظيف العملية إعلاميًّا للإبقاء على تماسك حكومته بعد أن وصلت إلى حالة متقدمة من التفكك. ولا يمكن تحديد موازين الربح والخسارة في تنفيذ مثل هذه العمليات التي يحتمل أن تكون نتائجها كارثية. وهنا لا أنفي تأثير مثل هذه العمليات في رفع معنويات الجيش الإسرائيلي، ولكن تأثيرها سيبقى محدودًا ولا يمكن اعتباره نموذجًا يمكن أن يتكرر خلال الفترة القادمة. ومن الأدلة على ذلك استمرار السجال داخل قوات الاحتلال حول رفض الجنود والضباط للعودة إلى القتال من جديد، إلى حد انتحار عدد منهم بُعيد علمهم بأخبار عودتهم الوشيكة إلى غزة. كذلك لا يمكن التعويل على نجاح واحد من بين حالات عديدة للفشل، لأن لكل عملية أمنية ظروفها ومعطياتها، خصوصًا أن هناك عددًا من العمليات السابقة باءت بالفشل ومنها عملية مخيم جباليا.
لقد أثبتت المقاومة قدرتها، بإمكانيات بسيطة، على الصمود والثبات، باقتدار عال ضد القوى والدول الكبرى المساندة لدولة الاحتلال في هذه الحرب. كما أثبتت أنها قادرة على مواجهة التحديات بتخطيط دقيق وقيادة واعية لمواجهة المخططات التي تريد تهجير وقتل الشعب الفلسطيني.
جدير بالذكر أن الأسرى الأربعة الذين خلصتهم العملية، كان يُنظر إليهم من قيادة المقاومة باعتبارهم مدنيين؛ لذلك لم يتم التشديد في ظروف احتجازهم بشكل كبير كما يجري مع الضباط والجنود في الجيش الإسرائيلي. كما أن اختيار أماكن احتجاز هؤلاء يختلف من نواح متعددة منها المواقع التي يحتجزون فيها، وكذلك الحراسة التي تُقام عليهم، مع التأكيد على أن فشل الاحتلال في الوصول إليهم طوال مدة 246 يومًا من الحرب هو إنجاز كبير للمقاومة مقارنة بالفارق الكبير في موازين القوى بين الطرفين.
يمكن التكهن بثقة بأن هذا الإنجاز الوهمي المؤقت سوف يزول بعد أيام قليلة لأن الطريق لا يزال طويلًا أمام نتنياهو وجيشه لاسترداد بقية الأسرى من الناحية العددية والزمنية، هذا إذا تم التوصل إلى معرفة أماكنهم ويجب علينا أن نأخذ بنظر الاعتبار مقدار العجز الذي وصلت إليه الأجهزة الأمنية والاستخبارية والعسكرية في معرفة الأماكن التي يوجد فيها الأسرى بعد ثمانية أشهر من الحرب الضارية.
كما أن نتنياهو حاول أن يضغط على فصائل المقاومة لتقديم تنازلات في ملف الأسرى فضلًا عن ضغط بعض الجهات الوسيطة، مثل الوسيط الأميركي على وجه الخصوص. بالنظر إلى نتائج العملية من الربح والخسارة، يمكن القول إنها كانت مهمة قذرة جاءت لتحقيق مصالح سياسية تتعلق بمستقبل حكومة نتنياهو، خصوصًا أنها لم تأخذ في حساباتها تداعيات العمل العسكري الذي لم يكن محسوبًا بدقة بالنظر إلى خسائره الكبيرة.
لن تكون عملية النصيرات الأخيرة، وقد تدفع رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو إلى المزيد من العمليات العسكرية والأمنية التي سيمني نفسه فيها بالوصول إلى المزيد من الأسرى أو قتل بعضهم بعد أن أثبت مرارًا أنه لا يأبه بمصير جنوده وأسراه، فضلًا عن لامبالاته الشديدة بقتل الأبرياء، رغم حديثه في ذات الوقت عن كون جيش الاحتلال الجيش الأكثر أخلاقية وإنسانية في العالم.
لقد حقق نتنياهو إنجازًا تكتيكيًّا محدودًا، من خلال عملية قذرة، ولم يستطع أن يصل بذلك إلى أي نجاح إستراتيجي من شأنه أن يؤثر في مسار الحرب. وهذا يعني أن المفاوضين الإسرائيليين، وجيش الاحتلال، وحكومة نتنياهو سيكونون أمام خيارات صعبة ومعقدة سياسيًّا وعسكريًّا خاصة مع نفاد الوقت وتسارع المتغيرات الداخلية والإقليمية والدولية التي تضغط على تل أبيب. | https://www.aljazeera.net/politics/2024/6/19/%d9%85%d8%ac%d8%b2%d8%b1%d8%a9-%d8%a7%d9%84%d9%86%d8%b5%d9%8a%d8%b1%d8%a7%d8%aa-%d9%81%d8%b4%d9%84-%d8%a5%d8%b3%d8%aa%d8%b1%d8%a7%d8%aa%d9%8a%d8%ac%d9%8a-%d9%8a%d8%aa%d8%af%d8%ab%d8%b1 | 2024-06-19T14:17:46 | 2024-07-24T12:00:12 | أبعاد |
|
30 | كيف سربت المقاومة ٢٠٠ صفحة من بيانات جنود الاحتلال الإسرائيلي؟ | الهجمات السيبرانية المتكررة على إسرائيل، وتلك الملفات التي نُشرت مؤخرا بتفصيل دقيق جاءت نتيجة لتطور مستمر في القدرات السيبرانية للمقاومة، ويقوده جهاز يتبع لكتائب القسام باسم “سلاح السايبر”. | انتقامًا من قتلة أطفال غزة
جملة قصيرة، كانت عنوانا لملفات تحوي بيانات تفصيلية لأكثر من ألفي جندي في القوات الجوية الإسرائيلية، سرّبتها حركة المقاومة الإسلامية حماس بحسب ما أوردت صحيفة هآرتس الإسرائيلية، في شهر يوليوتموز الحالي.
هذا التسريب وصفته هآرتس بأنه كابوس سيبراني، إذ تم إعداد تلك الملفات المُفصَّلة عن الجنود الإسرائيليين ضمن عمليات سيبرانية لجمع المعلومات الاستخبارية، كما أشارت إليه الصحيفة.
يصل طول الملفات إلى أكثر من 200 صفحة، وهي التي كانت متاحة على منصات القرصنة منذ شهر ديسمبركانون الأول الماضي على الأقل، وأعيد الآن نشرها ومشاركتها مع مجموعة من الصحفيين الاستقصائيين الدوليين. تضمّن كل ملف معلومات مفصلة عن كلّ من أولئك الجنود، تشمل اسمه الكامل، وقاعدة عمله أو وحدته، ورقم هويته، ورقم هاتفه المحمول، وعنوان بريده الإلكتروني، بجانب حساباته على وسائل التواصل الاجتماعي، وأسماء أفراد عائلته، وأحيانا كلمات المرور، وأرقام لوحات السيارات، وأرقام بطاقات الائتمان، وبيانات الحسابات المصرفية.
هذه الهجمة السيبرانية، وتلك الملفات التي صيغت ونُشرت بهذا التفصيل الدقيق، لم تأت من فراغ، بل جاءت نتيجة لمسار التطور في الحرب السيبرانية الذي بدأ واستمر منذ مدة طويلة. ففي مايوأيار من عام 2021، كشفت حركة حماس في تجمع تأبيني لأحد قياداتها، واسمه جمعة الطلحة، الذي استشهد في حرب سيف القدس عام 2021، عن جهاز تم تأسيسه باسم سلاح السايبر ويتبع لكتائب القسام، الجناح العسكري لحركة حماس.
وكان الطلحة هو من أشرف على تأسيس وهيكلة جهاز الحرب الإلكترونية سلاح السايبر الذي أُطلق عام 2014، بعد معركة العصف المأكول، كما ذكرت حركة حماس أن الطلحة قاد بنفسه هجمات سيبرانية استهدفت منشآت حيوية وعسكرية إسرائيلية، سواء لجمع البيانات أو للإضرار بالبُنى التحتية لدولة الاحتلال.
تلك الملفات المُفصَّلة أعدّت ونشرت بعد السابع من أكتوبرتشرين الأول في سياق الحرب وظروفها وفي إطار الحرب المعلوماتية والنفسية الأوسع، لكن المعلومات الأصلية -التي جُمعت- أقدم من ذلك. إذ تكونت الملفات من مجموعة المعلومات التي سُرّبت أو جرى استخراجها من عملية أو عمليات اختراق سيبراني سابقة، يُرجَّح أنها أصابت خوادم موقع إلكتروني لا يتبع الجيش الإسرائيلي، مع معلومات أخرى جُمعت من شبكات التواصل الاجتماعي وقواعد البيانات العامة ومن تسريبات سابقة.
ومع الترجيحات التي تشير إلى أن فصائل المقاومة وعلى رأسها حركة حماس هي التي تقف وراء تلك الهجمات دون نفي رسمي أو تأكيد من الحركة، فإن جمع الملفات والبيانات قد تم عبر برمجية آلية تُعرف باسم بروفايلر، وهي تتيح جمع ومقارنة ودمج المعلومات الاستخبارية من المصادر المفتوحة لإعداد ملف بروفايل مُفصّل عن الأهداف الاستخبارية. وبهذا أمكنهم تجميع معلومات شخصية دقيقة عن آلاف الأفراد الذين يخدمون أو خدموا في شتَّى قواعد القوات الجوية الإسرائيلية.
أما النتيجة، تشكيل قواعد بيانات بإمكانها رسم صورة كاملة للخصم إذا جُمعت معًا بصورة صحيحة، وبتوليفة مناسبة، وفقًا لدانا تورين رئيسة إدارة العمليات في الهيئة الإسرائيلية للأمن السيبراني.
يُصنِّف الخبراء هذه العملية على أنها اختراق ثم تسريب hack and leak، وهي عملية من خطوتين لاختراق الضحية المحتملة، ثم نشر البيانات المُستخلَصة بهدف التأثير في معنويات ونفسية العدو.
تكمن خطورة مثل هذه التسريبات في تسهيلها لعمليات اختراق قادمة لهؤلاء الجنود، فمثلا تتيح هذه الملفات إمكانية تنفيذ هجمات احتيال موجهة spear-phishing نحو جنود محددين، وفقًا لأهمية الدور الذي يضطلع به الجندي في الجيش الإسرائيلي، وهو ما ورد في بعض هذه الملفات، وهنا يسهل استهداف ضباط من رتب أعلى تحديدًا. وفي مثال واحد على الأقل، أكد الموقع الإلكتروني للقوات الجوية الإسرائيلية هوية أحد الضباط الذين أعدت عنهم حماس ملفات مُفصَّلة، وربط بينه وبين العمليات العدوانية على قطاع غزة. الأمر الذي قد يجعله هدفًا لعملية رصد استخباري، أو قد يعرضه للملاحقة القانونية في دول أخرى، كما أشارت إليه صحيفة هآرتس.
كذلك يتيح الملف التعريفي الشامل لكل جندي إمكانية تنفيذ هجمات الهندسة الاجتماعية social engineering، بمعنى مطابقة كل هدف بما يناسبه من محتوى مخصص؛ مما يزيد احتمال نجاح الهجمة المستهدفة. تُعرِّف جامعة كارنيغي ميلون الهندسة الاجتماعية بأنها تكتيك يُستخدم للتلاعب بالضحية أو التأثير فيها أو خداعها بغرض التحكم في نظام تشغيل الحاسب أو سرقة المعلومات الشخصية والمالية. يشمل التكتيك استخدام التلاعب النفسي لخداع المستخدم ليرتكب أخطاء أمنية أو يكشف عن معلوماته الحساسة. ويمكننا اعتبارها مجموعة من الإستراتيجيات والخطط المرتبطة غالبا بإدراك السلوك البشري وكيفية عمل العالم الرقمي.
فمثلا، إن عُرف عن جنديّ محدد أنه يحب كرة القدم، فيمكن أن تُرسَل إليه رسالة ظاهرها بريء عن أحد تطبيقات متابعة نتائج المباريات، لكنّ بها رابطًا يحمل برمجية خبيثة لتحميل برنامج تجسس على الجهاز.
تُركَّز فصائل المقاومة الفلسطينية على جمع المعلومات الاستخبارية عبر عمليات التجسس السيبراني على دولة الاحتلال منذ مدة. وما نعلمه وفق ما يتوارد من معلومات، هو أن فصائل المقاومة أجرت في السابق عدّة تطبيقات بهدف جمع المعلومات أو حتى اختراق الجنود الإسرائيليين، لانتزاع معلومات منهم، أو لجمع معلومات استخبارية من أجهزتهم المحمولة مباشرة.
مثلا في عام 2018، أخفت الوحدة السيبرانية لحماس برمجيات التجسس داخل تطبيق قد يبدو عاديا، يشارك نتائج مباريات كأس العالم 2018، لكنه منح المقاومة إمكانية جمع معلومات مهمة وحساسة عن مجموعة مختلفة من المنشآت والمعدات العسكرية التابعة للجيش الإسرائيلي، بما فيها معلومات مهمة عن المركبات المدرعة في هذه المنشآت، كما ذكرت صحيفة هآرتس الإسرائيلية وقتها.
وفي أبريلنيسان عام 2022، يُعتقد أن المقاومة نفذت أكثر عمليات التجسس السيبرانية تعقيدا ضد الاحتلال الإسرائيلي، وهو ما ذكرته شركة سايبريسون Cybereason، وهي شركة إسرائيلية متخصصة في استخبارات التهديدات السيبرانية، التي أشارت إلى أن هذا الهجوم يوضح مستوى جديدا من التعقيد في عمليات حماس السيبرانية.
اكتشفت الشركة الإسرائيلية حينها حملة تجسس متقنة استهدفت أفرادا إسرائيليين، من بينهم مجموعة أهداف بارزة رفيعة المستوى تعمل في مؤسسات حساسة للدفاع وإنفاذ القانون وخدمات الطوارئ داخل إسرائيل. مرة أخرى، استخدم المقاومون أساليب الهندسة الاجتماعية من خلال منصة فيسبوك، لكنها كانت تحمل أساليب متطورة بهدف الحصول على أبواب خلفية داخل أجهزة الضحايا التي تعمل بنظام ويندوز، والهواتف التي تعمل بنظام أندرويد. وكان الهدف الأساسي وراء هذا الهجوم هو استخراج معلومات حساسة من داخل أجهزة الضحايا.
بمجرد تحميل تلك البرمجيات الخبيثة على الأجهزة، يمكن لجنود الوحدة السيبرانية الوصول إلى مجموعة كبيرة من المعلومات عليها، مثل مستندات الجهاز والكاميرا والميكروفون، وبهذا يمكنهم الحصول على بيانات ضخمة حول مكان وجود الهدف وتفاعلاته مع محيطه وغيرها من المعلومات الحساسة والمهمة للغاية.
كما كشف التحقيق أن الوحدة السيبرانية لحماس حدّثت ترسانتها من تلك البرمجيات بفعالية عبر استخدام أدوات جديدة، وهي برمجيات مجهزة بمزايا تَخفٍّ متقدمة يصعب اكتشافها، وأشار أيضا إلى أنها استخدمت بنية تحتية جديدة ومخصصة منفصلة تماما عن البنية التحتية المعروفة التي تملكها وتستخدمها بالفعل في العمليات السابقة.
أما ما يتصل بما كان يوم السابع من أكتوبر وما تلاه، فقد أشار تقرير في موقع ذي كونفرسيشن إلى حملة تجسس سيبرانية نفذتها إحدى الوحدات التابعة لحماس ضد إسرائيل، بحثًا عن معلومات سرية وحساسة حول المنشآت العسكرية الإسرائيلية، وكانت المعلومات التي جمعتها مفيدة وتم توظيفها في عملية طوفان الأقصى، إذ أشار أكثر من تقرير مختص بمعرفة مقاتلي المقاومة لتفاصيل المناطق والمنشآت التي توغلوا إليها وسيطروا عليها في عملية عسكرية وصفت بالمعقدّة.
كذلك أشار تقرير لصحيفة نيويورك تايمز الأميركية إلى أن حماس امتلكت معلومات دقيقة عن أسرار الجيش الإسرائيلي بصورة تثير الدهشة عند جمعها للمعلومات الاستخباراتية، ويبدو أن مجهودات البحث والتخطيط التفصيلي، الذي شاركت فيه الوحدة السيبرانية، ساهم بمعرفة أماكن خوادم الاتصالات في عدة قواعد عسكرية بدقة، وهو ما ساعد الجنود على الأرض في استهداف تلك الخوادم وإيقافها عن العمل أثناء عملية طوفان الأقصى. كما أشار التقرير إلى أن كتائب القسام امتلكت فهما ومعرفة متطورة، على نحو مفاجئ، لكيفية إدارة الجيش الإسرائيلي، وأين تتمركز وحدات بعينها، والوقت الذي يستغرقه وصول التعزيزات.
واستمرت عمليات وحدات المقاومة السيبرانية بعد عملية طوفان الأقصى وخلال الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة. وبجانب جمع المعلومات الاستخبارية، نفذت المقاومة عمليات سيبرانية هجومية متنوعة، ومنها الهجوم ببرمجية من نوع وايبر Wiper التي تصيب الحاسوب وتمسح بياناته بالكامل، وهي برمجية تهدف فقط إلى تدمير كل شيء في طريقها.
بعد أحداث السابع من أكتوبر، اخترقت مجموعة سيبرانية تابعة لحركة حماس شركات إسرائيلية واستخدمت هذه البرمجية لتدمير بنية تلك الشركات التحتية، ووضعت المجموعة اسم رئيس الوزراء الإسرائيلي كوصف لهذه البرمجية الخبيثة وأطلقت عليها بي بي وايبر BiBi Wiper، كما أشارت إحدى شركات الأمن السيبراني الإسرائيلية.
وفي وقت سابق من نوفمبرتشرين الثاني العام الماضي، أعلنت مجموعة هاكرز تطلق على نفسها اسم سايبر طوفان الأقصى Cyber Toufan Operations مسؤوليتها عن اختراق عدد من المواقع الإلكترونية الإسرائيلية وسرقة عدة ملفات من شركة استضافة الويب سيغنتشر آي تي Signature-IT التي من بين عملائها شركات تجارية مثل آيس Ace وشِفا أونلاين Shefa Online وهوم سنتر Home Center وأوتو ديبوت Auto Depot وإيكيا IKEA.
كما ظهر فيديو على قناة تلغرام للمجموعة ذكر فيه الهاكرز أنهم تمكنوا من اختراق وزارة الدفاع الإسرائيلية وحصلوا على ملايين البيانات عن جنود الاحتياط والجيش الإسرائيلي، خاصة عن فرقة شمال غزة العسكرية الإسرائيلية.
في تقريرها الصادر في نوفمبرتشرين الثاني من عام 2022، سلطت مؤسسة المجلس الأطلسي، وهي مؤسسة بحثية أميركية في مجال الشؤون والعلاقات الدولية، الضوء على تطور إستراتيجية حماس السيبرانية، وكيف أعادت تنظيم عملياتها الإلكترونية واستفادت من العمليات السيبرانية الهجومية بشكل جديد لتخترق دفاعات جيش الاحتلال، وتحصد أكبر قدر من المعلومات الاستخبارية المهمة.
أطلق التقرير على الوحدة السيبرانية لحماس هاكر القبعة الخضراء، وهو مصطلح معروف في أوساط الأمن السيبراني يصف شخصا متخصصا حديثا نسبيا في عالم الاختراق الإلكتروني، وقد يفتقد هذا الشخص إلى الخبرة، ولكنه ملتزم التزاما تاما بإحداث وصنع تأثير في المجال، ويحرص على التعلم المستمر من كل ما يحدث في أثناء رحلته، وهذا تحديدا ما أظهرته المقاومة على مدار السنوات الماضية، خاصة في جانب التجسس وجمع المعلومات الاستخبارية.
المثير للإعجاب هو مدى تطور قدرات الوحدة السيبرانية، رغم عدم امتلاكها أدوات متطورة قد تملكها مجموعات اختراق في أماكن أخرى، لدرجة أن بعض خبراء الأمن السيبراني يُفاجأ بامتلاك المقاومة قدرات سيبرانية أصلًا، بالنظر إلى الحصار الخانق المفروض على قطاع غزة، الذي يعاني أصلا من انقطاع في الكهرباء بصورة مزمنة، إضافة إلى سيطرة دولة الاحتلال على ترددات الاتصالات والبنية التحتية في القطاع.
اعتمدت العناصر السيبرانية التابعة لحماس عادةً على أساليب تكتيكية بسيطة وفعالة في نفس الوقت لشن هجماتها. إذ يستخدمون عمليات الاحتيال الإلكتروني والبرمجيات الخبيثة، واستغلال الأبواب الخلفية الأساسية، وأدوات الدخول عن بُعد المتاحة والمتوفرة على نحو شائع، وأدوات حجب البرمجيات الخبيثة التي يمكن شراؤها من منتديات الإنترنت السرية كما أشار لذلك تقرير نشرته شركة غوغل، في فبرايرشباط الماضي، يستند إلى تحليلات من مجموعة تحليل التهديدات التابعة للشركة بالتعاون مع فرق أخرى للأمن السيبراني.
وفي بدايات عام 2017، استخدمت الوحدة السيبرانية لحماس تقنيات الهندسة الاجتماعية لاستهداف أفراد داخل جيش الاحتلال الإسرائيلي ببرمجيات خبيثة عبر محادثتهم من حسابات مزيفة على منصة فيسبوك. استخدمت الوحدة ملفات وهمية لفتيات إسرائيليات لإقناع جنود جيش الاحتلال بتحميل تطبيق للمراسلة الفورية، وهو ما جعل هواتفهم أدوات للتجسس.
كما تُستخدم برمجيات التجسس على الهواتف المحمولة، ومنها برمجيات تجسس مخصصة ومفتوحة المصدر على نظام أندرويد تُرسَل إلى الضحية عبر عمليات الاحتيال الإلكتروني، ولكن ما لاحظه فريق تحليل التهديدات في غوغل أنه مؤخرًا بدأت جهة واحدة على الأقل -تابعة لحماس- تُظهر مؤشرات على امتلاكها إمكانات متطورة أكثر، يطلق عليها فريق غوغل اسم مجموعة بلاك أتوم BLACKATOM، تضمنت تلك الإمكانات تقنيات الهندسة الاجتماعية المعقدة والمصممة خصيصًا لأهداف عالية القيمة، مثل مهندسي البرمجيات، بجانب تطوير البرمجيات الخبيثة المخصصة لأنظمة التشغيل المختلفة ويندوز وماك ولينكس.
وفي شهر سبتمبرأيلول عام 2023، استهدفت مجموعة بلاك أتوم مهندسي برمجيات إسرائيليين عبر حيل متقنة في الهندسة الاجتماعية، أدت في محصلتها إلى تثبيت برمجيات خبيثة وسرقة ملفات الكوكيز من الحواسيب.
وقد تظاهر منفذو الهجوم بصفة موظفين في شركات حقيقية، وتواصلوا عبر منصة لينكدإن لدعوة المستهدَفين إلى التقديم لفرص للعمل الحر في مجال تطوير البرمجيات. شملت قائمة الأهداف مهندسي برمجيات في الجيش الإسرائيلي وفي صناعة الطيران والدفاع في دولة الاحتلال.
بعد التواصل المبدئي، يرسل منفذ الهجوم إلى المستهدَفين ملف استدراج يتضمن تعليمات للمشاركة في اختبار لتقييم مهارات المتقدم في البرمجة. وجهت التعليمات في الملف الأفراد المستهدفين إلى تحميل مشروع ببرنامج فيجوال ستوديو من صفحة على منصة جيت هاب Github، أو صفحة على خدمة غوغل درايف، يتحكم فيها المهاجم. المطلوب من المهندس هو إضافة بعض المميزات البرمجية إلى هذا المشروع لإثبات مهاراته وقدراته في البرمجة، ثم إرسال الملف مرة أخرى لتقييمه.
كان المشروع يبدو تطبيقًا عاديًّا لإدارة عمليات الموارد البشرية، لكنه تضمّن خاصية لتنزيل برمجية خبيثة مضغوطة، ثم استخراجها وتنفيذ عمل البرمجية داخل نظام تشغيل جهاز الشخص المستهدف.
أشار فريق غوغل لتحليل التهديدات إلى أن هذه الهجمة السيبرانية أظهرت استهدافًا تفصيليًّا دقيقًا أكثر مما ظهر سابقًا من المجموعات السيبرانية التابعة لحركة حماس.
في النهاية، استنتج الفريق أن مثل تلك التطورات ظهرت لدى مجموعات سيبرانية أخرى في مراحل نضجها وتطورها، لذا يُرجح أننا نشهد الآن مراحل نضج وتطور المجموعات السيبرانية التابعة لحركة حماس. ليؤكد فريق غوغل أنه في الوقت الذي لا يتضح فيه مستقبل العمليات السيبرانية لحماس، فإن المؤشرات الأخيرة على تطور قدراتها السيبرانية جديرة بالاهتمام وتستحق الرصد مستقبلًا. | https://www.aljazeera.net/politics/2024/7/30/%d9%83%d8%a7%d8%a8%d9%88%d8%b3-%d8%a5%d8%b3%d8%b1%d8%a7%d8%a6%d9%8a%d9%84-%d9%83%d9%8a%d9%81-%d8%aa%d8%b7%d9%88%d8%b1%d8%aa-%d9%87%d8%ac%d9%85%d8%a7%d8%aa-%d9%83%d8%aa%d8%a7%d8%a6%d8%a8 | 2024-07-30T08:41:36 | 2024-10-16T00:49:11 | أبعاد |
|
31 | هذه تفاصيل اختراق ملايين الحسابات الشخصية على فيسبوك | اختراق لأكثر من 50 مليون حساب بفيسبوك كاد أن يضاف إلى ملف كوارثها السابقة، إلا أن سيطرتها على الموقف جنبها الوقوع بفضيحة ثالثة كانت كفيلة بتحطيم ما تبقى من كرامتها. | دافع دافيد ماركوس David Marcus، المسؤول عن تطبيق مسنجر وعن تقنيات بلوك تشين BlockChain في فيسبوك، عن الرئيس التنفيذي للشبكة الاجتماعية -مارك زوكربيرغ- بعد الهجوم عليه من قبل أحد مؤسّسي تطبيق واتس آب1، حيث أكّد ماركوس أن الهدف من بناء الشبكة الاجتماعية ليس جمع المال أبدًا، بل تقديم مُنتج يستفيد منه الجميع. ساعات قليلة بعد تلك التصريحات كانت كفيلة بفضح فيسبوك مرّة أُخرى بعدما اكُتشف بيعها لأرقام هواتف المُستخدمين من جهة، وبعد اختراق أكثر من 50 مليون حساب من جهة أُخرى.
تفاجئ مجموعة كبيرة من مُستخدمي فيسبوك من تسجيل خروجهم بشكل آلي من الشبكة، وهو شيء قد يحدث في أي وقت لأسباب مُختلفة منها حذف الملفّات المؤقّتة من الحاسب أو الهاتف الذكي- فعند زيارة الموقع أو تشغيل التطبيق، طُلب منهم تسجيل الدخول من جديد دون معرفة السبب وراء ذلك. وبطيب نيّة، أدخل المُستخدمون بيانات تسجيل الدخول للعودة من جديد وكأن شيء لم يكن، لتبدأ أخبار الاختراقات بالظهور، الأمر الذي طرح مزيدًا من علامات الاستفهام2.
كُبرى وسائل الإعلام المحليّة والعالمية عنونت أخبارها باختراق أكثر من 50 مليون حساب في فيسبوك، لتبدأ حالة من الهلع قبل أن تخرج فيسبوك بذاتها وتؤكّد الأمر لكن بواقعية أكبر، فما حدث هو اختراق أمني للشبكة ذاتها وليس لحسابات المُستخدمين، على الأقل في الوقت الراهن بانتظار نتائج التحقيقات النهائية3.
If youve been logged out of your account and asked to sign back in, its because weve discovered a security issue and are taking immediate action to protect people on Facebook. Learn more httpst.coXLcHGYFBu2
Facebook facebook September 28, 2018
وباختصار، فإن مجموعة من المُخترفين تمكّنوا من استغلال خاصيّة مُشاهدة الصفحة الشخصية View As التي تُتيح للمستخدم رؤية كيف ستبدو صفحته عند مُشاهدتها من قبل مُستخدم ما، أو كيف ستظهر للعموم، وهي ميّزة قديمة جدًا، إلا أن التغييرات التي قامت بها فيسبوك في يوليوتموز 2017 لخاصيّة تحميل مقاطع الفيديو فتحت ثغرة أمنية يُمكن استغلالها بالشكل الآتي
وتجدر الإشارة هنا إلى أن المفتاح السرّي يُخزّن على جهاز المُستخدم لتجنّب طلب كلمة المرور طوال الوقت، ولهذا السبب لاحظ أكثر من 90 مليون مُستخدم تسجيل خروجهم بشكل آلي من حساباتهم لأن فيسبوك قامت بإبطال مفعول تلك المفاتيح السرّية بحيث لم تعد موجودة داخل قواعد بياناتها. بحسب أرقام فيسبوك، فإن 50 مليون حساب تعرّضوا لذلك الاختراق، أي الوصول لمفاتيحهم السرّية. إلا أنها وكإجراء وقائي قامت بإبطال مفعول أكثر من 90 مليون حساب لأن أصحاب تلك الحسابات قاموا باستخدام خاصيّة مُشاهدة الحساب على هيئة مُستخدم آخر منذ يوليوتموز 20174.
فيسبوك تعرّض حسابات 50 مليون مستخدم لاختراق أمنيhttpst.cogkhtPBHssA pic.twitter.comCR80jSZo0k
يني شفق العربية YeniSafakArabic September 29, 2018
وفي النهاية، لم يصل المُخترقون إلى كلمات المرور الخاصّة بالمُستخدم، لكن فقط إلى حسابه، وعملية تسجيل خروج الإجباري التي قامت بها الشبكة كافية للحماية خصوصًا بعدما قامت بتعطيل خاصيّة مُشاهدة الحساب بشكل مؤقّت. أما ولرفع مستوى الأمان، فيُمكن للمُستخدم تغيير كلمة مروره وتفعيل خاصيّة التحقّق بخطوتين 2-Step Verification التي تستغّلها فيسبوك أيضًا لأغراض أُخرى تجمع منها مزيدًا من الأموال
ما حدث مع فيسبوك أمر عادي وطبيعي جدًا. كما تُحترم ردّة فعلها أيضًا، فهي لم تُخفي أي شيء وشاركت ما حدث مع الجميع، فالثغرات الأمنية جزء من أي مُنتج حتى لو كان بحجم فيسبوك التي تستوعب أكثر من 2 مليار مُستخدم حول العالم. لكن مُمارسات الشبكة وإصرارها على التلاعب بالكلام يجعل تلك الثغرات الأمنية تبدو كالكوارث، والشامتين أكثر من المُتعاطفين جراء ذلك.
وبالنسبة لمُستخدمي فيسبوك، أصبح من البديهي جدًا معرفة مصير بياناتهم، فهم على دراية كاملة بإن الشبكة توفّرها للمُعلنين لاستهداف شرائح مُحدّدة. وهو أمر تؤكّد الشبكة أن المُستخدم يمتلك تحكّمًا كاملًا به، فهو قادر على ضبط خصوصية البيانات في أي وقت. لكن ما اكتشفه الباحثون الأمنييون مؤخّرًا يفضح وجهًا جديدًا لفيسبوك، ويفضح كذلك جشعها وعدم اكتراثها بخصوصية المُستخدمين5.
لرفع مستوى حماية الحساب، يُمكن للمُستخدمين تفعيل خاصيّة التحقّق بخطوتين التي تطلب من المُستخدم إدخال رقم هاتفه لاستلام رسالة نصيّة تحتوي على رمز سرّي. كما يُمكن استخدام رقم الهاتف للتبليغ الفوري عن وجود حالات تسجيل دخول من مواقع جغرافية غير معروفة. أي أن المُستخدم يقوم بإدخال رقم هاتفه فقط لأغراض الحماية الأمنية، وليس كمعلومة شخصية. إلا أن تجربة قام بها الباحث الأمني آلان ميسلوف Alan Mislove، تؤكّد أن حتى هذه المعلومات لا تسلم6.
قام المُشاركون في التجربة بإدخال أرقام هواتفهم لتفعيل خاصيّة التحقّق بخطوتين فقط، أي لغرض الحماية. كما قام المُشرف على التجربة بإنشاء حملة إعلانية استهدفت المُستخدمين عبر أرقام هواتفهم، وهذا أمر تسمح به فيسبوك، إذ يحتاج المُعلن إلى رفع قائمة بأرقام الهواتف لتظهر الإعلانات للحسابات التي تستخدم تلك الأرقام. المُفاجئة كانت بأن الإعلانات ظهرت للمُشاركين في التجربة على الرغم من أن بياناتهم الشخصية لا تحتوي على رقم هاتفهم الذي أُدخل فقط داخل خاصيّة التحقّق بخطوتين، والذي أكّدت فيسبوك في وقت سابق أنه يبقى سرّي ولا يتم اعتباره كمعلومة شخصية، أي أنه لا يصل للمُعلنين. لكنه بشكل أو بآخر وصل وتم الاستفادة منه7.
ولا تنتهي مأساة فيسبوك هنا، فالشبكة لا تكترث أبدًا بخصوصية بيانات المُستخدم وتقوم بربط كل شيء وبتخزينه داخل قاعدة البيانات للاستفادة منه في الشبكة الإعلانية التي تدر المليارات في كل ربع مالي، وهو ما سمح بهجمات استهداف الظل Shadow Targeting التي تحدث عندما يقوم المُستخدم أ بمُشاركة قائمة الأسماء الموجودة في هاتفه للعثور على أصدقاء جُدد، والتي تتوفّر فيما بعد للمُعلنين أيضًا. المُستخدم ب يقوم مثلًا بتفعيل خاصيّة التحقّق بخطوتين عبر رقم هاتفه، أو يقوم بإدخاله كمعلومة شخصيّة مع التشديد على أنه خاص لا يظهر لأحد. المُفاجئة كانت عندما نجح المُعلن في استهداف المُستخدم ب على الرغم من أنه أكّد أن بياناته يجب أن تبقى سرّية، إلا أن خوارزميات فيسبوك لا تعمل بهذا الشكل، وستقوم بحصد أي معلومة أيًا كانت خيارات الخصوصية6.
كوارث فيسبوك السابقة كادت أن تزداد سوءًا لولا سيطرتها على أحد المُخترقين التايوانيين الذي نشر قبل تلك الأحداث بفترة قليلة مُشاركة يقول فيها أنه سيخترق حساب زوكربيرغ ببثّ حي ومُباشر، إلا أن الشبكة تواصلت معه مُباشرةً وطلبت منه مشاركة تفاصيل الثغرة الأمنية التي تسمح له بذلك لقاء الحصول على مبلغ مادّي، الأمر الذي جنّبها فضيحة ثالثة خلال أسبوع واحد كانت كفيلة بتحطيم ما تبقّى من كرامتها8. | https://www.aljazeera.net/tech/2018/9/30/%d9%87%d8%b0%d9%87-%d8%aa%d9%81%d8%a7%d8%b5%d9%8a%d9%84-%d8%a7%d8%ae%d8%aa%d8%b1%d8%a7%d9%82-%d9%85%d9%84%d8%a7%d9%8a%d9%8a%d9%86-%d8%a7%d9%84%d8%ad%d8%b3%d8%a7%d8%a8%d8%a7%d8%aa | 2018-09-30T11:39:36 | 2024-07-02T09:02:04 | أبعاد |
|
32 | من الشنتوية إلى إلحاد 86.. كيف أعادت أميركا تشكيل الشعب الياباني؟ | الولايات المتحدة لم تعتذر عن مذبحتي هيروشيما وناغازاكي النوويتين، ولا عن تدمير ست مدن كبرى في اليابان أثناء الحرب، ومع ذلك تحظى أميركا اليوم بشعبية استثنائية في اليابان، فكيف حدث التحول الكبير؟ | شهدت اليابان خلال تاريخها العريق موجات تغيير هائلة في بنيتها الاجتماعية وأنظمتها السياسية، وبعدما اختارت العزلة لدرء خطر الاستعمار الأوروبي أطلقت في منتصف القرن التاسع عشر حملة ميجي الإصلاحية للانفتاح على الغرب واللحاق به، وسرعان ما أصبحت دولة استعمارية تشاطر النازية والفاشية طموحهما لاحتلال العالم، فكانت هزيمة هذا المحور في الحرب العالمية الثانية نقطة تحول أخرى نحو النقيض.
أعادت إصلاحات الإمبراطور ميجي بين عامي 1868 و1912 إحياء الديانة الشنتوية التي تعتبر الإمبراطور سليل إلهة الشمس، بهدف استعادة سلطة الأباطرة بعد ستة قرون من تهميشها بأيدي القادة العسكريين في النظام الشوغوني، وعندما تولى الإمبراطور هيروهيتو -حفيد الإمبراطور ميجي- السلطة عام 1926 كانت اليابان قد بنت جيشًا حديثًا ينافس الجيوش الأوروبية، وكبار ضباطه يستعيدون سلطة العسكر ويرسمون ملامح الوجه الاستعماري الجديد للبلاد.
وفي ثلاثينيات القرن العشرين، انطلق الجيش الياباني لاحتلال مناطق واسعة من أراضي الصين وروسيا ومنغوليا وكوريا، ثم دخل الحرب العالمية إلى جانب ألمانيا وإيطاليا ليسيطر على دول إضافية في شرق آسيا والمحيط الهادئ.
ومع بلوغه ذروة الطموح الإمبراطوري، تجرأ الجيش الياباني في أواخر عام 1941 على استهداف الأسطول الأميركي القابع في ميناء بيرل هاربر بجزر هاواي، ودفع بذلك الولايات المتحدة إلى التخلي عن حيادها والنزول بكل ثقلها إلى جانب الحلفاء في الميدان، لتميل كفّة الحرب تدريجيًّا لصالحهم.
وفي أبريلنيسان 1945، قُتل الزعيم الإيطالي بينيتو موسوليني، وانتحر الزعيم الألماني أدولف هتلر، أمّا هيروهيتو فقد أصرّ على مواصلة القتال حتى آخر رجل، لكن إسقاط الولايات المتحدة قنبلتين نوويتين على هيروشيما وناغازاكي وإعلان الاتحاد السوفيتي الحرب على اليابان في أغسطسآب كانا كفيلين بإقناع الإمبراطور بإعلان الاستسلام. وقد سلّطنا الضوء على قصة هذه التحولات وموقع الإمبراطور منها في مقال سابق، وسنخصص هذا المقال للبحث في الخطة التي طبقتها واشنطن لاحتلال اليابان وإعادة تشكيل ثقافة شعبها ونظامها السياسي، وكيف نجحت في غضون سنوات قليلة في تحويل عدوّها اللدود إلى حليف إستراتيجي، وهو أمر يصعب العثور على مثيل له في التاريخ.
خلال عامي 1943 و1944، كانت معظم المؤشرات تؤكد أن دول المحور ستخسر الحرب. وعندما بقيت اليابان وحيدة في الميدان في أبريلنيسان 1945، كانت الصحف الأميركية تناقش مصير الإمبراطور واحتمالات التعامل معه، وكأن استسلامه كان أمرًا حتميًّا. ففي 21 مايوأيار 1945، نشرت مجلة تايم الأميركية مقالًا جاء فيه أن الحلفاء لم يصلوا إلى إجماع بعد في هذا الملف، فالصين تطالب بإعدام الإمبراطور انتقامًا من جرائم الحرب التي ارتكبها جيشه في الصين، كما كانت هناك مطالب بمحاكمته من قبل الاتحاد السوفياتي وبريطانيا، لكن واشنطن كانت تميل -بحسب المقال- إلى الحفاظ على مكانة الإمبراطور كي لا يتفكك المجتمع الياباني الذي يراه إلهًا بالفعل، وأنه لا بد من استخدام مؤسسة الإمبراطورية نفسها لتحويل هذا البلد بهدوء إلى دولة مسالمة وغير شمولية.
لم يكن هناك إجماع أميركي على تبرئة الإمبراطور وإعفائه من المسؤولية، بل ترددت في واشنطن مطالب انتقامية جامحة لإذلال الشعب الياباني كله. ففي كتاب الاحتلال الأميركي لليابان الصادر عام 1985، أشار المؤرخ الأميركي مايكل شالر إلى أن بعض صقور واشنطن كانوا يفكرون في طرق انتقامية عنصرية وغير واقعية، منها مطالبة السيناتور ثيودور بيلبو بتعقيم جميع اليابانيين لقطع سلالتهم التي تميل فطريًّا إلى العنف، ثم إطلاق مشروع لتزويجهم بشعوب جزر المحيط الهادئ -الأكثر ميلًا إلى السلام- لإنتاج سلالة جديدة. لكن الحكومة الأميركية اعتمدت في النهاية سياسة أكثر ذكاء، ونجحت في إنشاء أجيال لا تكتفي بتفضيل السلام على العنف بل تنظر إلى الولايات المتحدة نفسها نظرة إيجابية.
في 15 أغسطسآب 1945، وجّه الإمبراطور هيروهيتو خطابا إذاعيا إلى شعبه يعلن فيه قبوله بشروط الحلفاء، وكانت هذه المرة الأولى التي يسمع فيها الشعب صوت الإمبراطور الذي حرص بلاطه على تنزيهه عن الاختلاط بشعبه للحفاظ على قداسته. وعلى الفور قرر الرئيس الأميركي آنذاك هاري ترومان تعيين قائد قوات الحلفاء في جنوب غرب المحيط الهادئ الجنرال دوغلاس ماك آرثر حاكمًا لليابان.
ومن داخل مبنى داي إيتشي للتأمين في طوكيو أدار ماك آرثر البلاد خلال السنوات الست التالية، ويمكننا تقسيم فترة احتلال اليابان إلى المراحل الثلاث التالية
المرحلة الأولى المحاكمات والإصلاح السياسي
امتدت هذه المرحلة من نهاية الحرب عام 1945 حتى أواخر عام 1947، وكان أهم أهدافها نزع مخالب وأنياب الطبقة العسكرية اليابانية، واستبدال ثقافة السلم بثقافة الحرب والتوسع والغزو. ففكك ماك آرثر الجيش الياباني، ومنع الضباط العسكريين السابقين من تولي أدوار القيادة السياسية في الحكومة الجديدة.
ومن جانب آخر، انطلقت سلسلة المحاكمات مع إنشاء محكمة جرائم الحرب بطوكيو في أبريلنيسان 1946، التي واصلت عملها حتى أواخر 1948، وحُكم فيها بإعدام سبعة من كبار قادة الجيش والمخابرات ورئيس وزراء سابق، كما حُكم على 16 متهمًا معظمهم من كبار الضباط بالسجن مدى الحياة، إلى جانب أحكام أخرى متفاوتة بالسجن، كما وُجهت اتهامات إلى أكثر من 5700 من ذوي الرتب الدنيا بالجيش خلال محاكمات أخرى في دول الحلفاء والصين. وقد تعرّضت هذه المحاكمات للكثير من الانتقادات بشأن نزاهتها وتبرئة العائلة الإمبراطورية، كما لم يُحاكم مجرمو الحرب اليابانيين على انتهاكاتهم بحق مواطنيهم أثناء الحرب.
وبالتوازي مع المحاكمات، شكّل ماك آرثر لجنة لمراجعة ملفات ما يقرب من 750 ألف موظف ومسؤول ياباني متهمين بالمشاركة في الحرب أو تأييدها، وذلك لمنعهم من ممارسة السياسة أو شَغل أي وظيفة عامة، لكن هذه الخطة الضخمة لم يكتمل تنفيذها وتوقفت بعد منع 200 ألف مسؤول فقط من العمل، إذ أدرك ماك آرثر أن توقيف هذا العدد الضخم سيؤدي إلى حرمان الدولة من كفاءاتها وسيؤدي إلى استعدائهم وربما تحريضهم على التمرد.
على الصعيد الثقافي، حرصت سياسة الاحتلال على فك ارتباط الأمة اليابانية بعقيدة الشنتوية التي كانت تؤلّه الأباطرة وتؤمّن لهم انضباط الشعب، فقد وصف رئيس قسم المعلومات والتعليم في إدارة الاحتلال العميد كين دايك الشنتوية بأنها دين اخترعه القوميون المتطرفون لتحقيق أطماعهم في السيطرة على العالم. ولم تجد سلطات الاحتلال صعوبة كبيرة في هذه المهمة، إذ تخلى ثلث اليابانيين تقريبًا عن إيمانهم بعدما أعلن الإمبراطور الاستسلام وأصدر ما سمي إعلان الإنسانية، الذي جاء فيه أنه من الخطأ اعتبار الإمبراطور سليل الآلهة والاعتقاد بأن الشعب الياباني متفوق على الأجناس الأخرى ومقدّر له أن يحكم العالم.
ركّزت سلطات الاحتلال أيضا على إصلاح التعليم، ففي مقال نشره الصحفي الصيني هيو لين في مجلة فورين أفيرز الأميركية مطلع عام 1946، شدد على أن إصلاح التعليم الياباني هو المشكلة الأساسية، معتبرا أن الشعب الياباني يفتقد الأخلاق الحميدة والشجاعة والإبداع الفكري، وطالب الأميركيين بزرع القيم الصحيحة التي يتبناها العالم الحديث في العقل الياباني عن طريق التعليم الليبرالي، كما طالبهم بفرض رقابة صارمة على الكتب المدرسية والأفلام والإذاعات والصحف حتى لا يسيطر العسكر مجددا على عقول الشعب. ومع أن السياسة الأميركية لم تكن تتبنى تلك الأوصاف العنصرية الفجة التي عبّر عنها الكاتب الصيني فإنها طبّقت بالفعل خطة طموحة لتعديل المقررات التعليمية، بهدف زرع مفاهيم الديمقراطية ونزع قيم الحرب والتطرف القومي من عقول الأجيال الصغيرة.
وفي المجال الاقتصادي، قدّمت سلطات الاحتلال مشروعًا للإصلاح الزراعي، صُمم لانتزاع ملكية الأراضي من الطبقة الإقطاعية التي كانت تشكل تاريخيًّا مموّلي الحروب والغزوات، وأُعيد تأهيل وتمويل المزارعين بتمليكهم الأراضي في خطة تشبه سياسة التأميم لدى الدول الشيوعية والاشتراكية.
وفي هذه الأثناء، حاول ماك آرثر تفكيك تكتلات الأعمال الكبيرة التي عرفت باسم زايباتسو وكان عددها يفوق ثلاثمئة، بهدف تحويل الاقتصاد إلى نظام رأسمالي قائم على السوق الحرة، ولإعادة تشكيل القطاع الصناعي بعيدًا عن الصناعات العسكرية، إلا أن ماك آرثر لم يفتّت سوى قليل من الشبكات الصناعية، بل تراجع عن هذه الخطة كي يضمن ولاء الأوليغارشية الاقتصادية لسلطته ولا يتيح للسوفيات والصينيين استقطاب الأثرياء.
تضمنت الإصلاحات أيضًا إقرار حق العمال في الإضراب وتعديل القوانين لتحسين ظروف العمل، والإفراج عن المعتقلين السياسيين الذين كان معظمهم من الشيوعيين.
وفي مطلع فبرايرشباط عام 1947، أملى مستشارو الحلفاء على زعماء اليابان مسودة لدستور جديد، وأدرك اليابانيون أنهم إذا لم يقبلوا به فلن يضمن لهم ماك آرثر مصير الإمبراطور لأن العديد من دول الحلفاء كانت تطالب بمحاكمته، وهو الأمر الذي كانت ترى فيه واشنطن تفكيكًا للمجتمع الياباني وسقوطًا في الفوضى. وسرعان ما طُرحت المسودة للتداول في البرلمان واعتمدها الإمبراطور.
كان من أهم التغييرات التي أحدثها الدستور في مستقبل البلاد تخفيضُ مكانة الإمبراطور إلى شخصية رمزية لا تتمتع بأي سلطة سياسية، ليقتصر دوره على كونه رمزًا للدولة ووحدة الشعب الياباني، واعتمادُ النظام الديمقراطي البرلماني الذي يمثل فيه رئيس الوزراء السلطة التنفيذية، وتعزيز امتيازات النساء ومنحهن حق التصويت. ولم يمنح الدستور أيَّ امتياز للشنتوية كما كانت في السابق، بل نصّ على الحياد العلماني الرسمي وامتناع الحكومة عن إدخال الدين في المناهج الدراسية أو القيام بأي نشاطٍ ديني آخر، مع إتاحة المجال للمشاركة في المراسم أو الاحتفالات الدينية.
أما أكثر مواد الدستور إثارة للجدل فهي المادة التاسعة، وهذا نصّها
يتطلع الشعب الياباني بصدق وإخلاص إلى السلام العالمي القائم على أسس من العدل والنظام، ويتخلى إلى الأبد عن الحرب كحق سيادي للدولة وعن القيام بأية أعمال عدوان أو تهديد بواسطة العنف كوسيلة لحل النزاعات الدولية. ولتحقيق هذه الغاية لن تمتلك اليابان إلى الأبد قوات هجومية برية أو بحرية أو جوية أو غيرها من القوات العسكرية، ولا تعترف الدولة بحقها في العدوان الهجومي.
واللافت أن الذي اقترح هذا البند هو توشيو شيراتوري الذي كان سفيرًا لليابان لدى إيطاليا أثناء الحرب، فبينما كان ينتظر محاكمته في سجن سوغامو أرسل في أواخر 1945 رسالة إلى وزير الخارجية الياباني يوشيدا شيغيرو يقترح فيها اعتماد دستور جديد يتضمن وعدًا من الإمبراطور بعدم السماح لرعاياه بخوض الحرب، وحق الشعب في رفض الخدمة العسكرية. وكان توشيو قبل ذلك من أكثر الصقور اندفاعًا نحو التوسع العسكري، بل كان يصرح بأن الإمبراطور هو الإله الوحيد على الأرض، وأن على حليفيه هتلر وموسوليني الإقرار بأن سيادة العالم حق إلهي لليابان. وربما كانت دعوته إلى السلام الأبدي من داخل السجن محاولة للتكفير عن مواقفه تلك، إلا أنها لم تفلح في تبرئته، إذ حُكم عليه في نوفمبرتشرين الثاني 1948 بالسجن مدى الحياة، ثم توفي في السجن بسبب سرطان الحنجرة في العام التالي.
من ناحية أخرى، أكد الدستور الجديد حلّ طبقة النبلاء نهائيًّا، فتضمن مادة تنص على
عدم وجود طبقة النبلاء إلا مَن بقي منهم على قيد الحياة باستثناء الأسرة الإمبراطورية التي ستمتد إلى الأجيال القادمة، وإلغاء جميع امتيازات النبلاء وعزلهم عن أي سلطة وطنية أو مدنية في الحكومة.
وفي 10 أبريلنيسان 1946، عُقدت أول انتخابات تحت الاحتلال الأميركي، وحظيت بمشاركة كبيرة وخصوصا من النساء اللاتي مُنحن حق التصويت للمرة الأولى، وأسفرت الانتخابات عن تعيين شيغيرو يوشيدا أول رئيس وزراء لليابان الجديدة، وتتضارب الآراء بشأن إرثه السياسي بين الثناء على جهوده في قيادة البلاد خلال فترة إعادة الإعمار وبين إذعانه لمطالب الاحتلال الأميركي.
المرحلة الثانية المسار العكسي لإصلاح الاقتصاد
في أواخر 1945، اعتمدت الولايات المتحدة خطة لإغاثة اليابان بهدف منع المجاعة واحتواء الأوبئة ومنع وقوع اضطرابات مدنية كي لا تعيق الأهداف النهائية للاحتلال. ومع كل المحاولات المبذولة لإنعاش اقتصاد اليابان المدمر فقد شهدت البلاد في أواخر عام 1947 أزمة اقتصادية خانقة، وسط دعوات إلى اعتماد سياسات إصلاحية شيوعية، لا سيما مع تزايد احتمالات انتصار الشيوعيين في الحرب الأهلية في الصين؛ مما دفع قادة الاحتلال الأميركي إلى بدء مرحلة جديدة سمّيت المسار العكسي، وضعوا فيها إنعاش الاقتصاد الياباني على رأس أولوياتهم.
تراوحت سياسات هذه المرحلة بين الإصلاحات الضريبية وتدابير السيطرة على التضخم، واستيراد المواد الخام المطلوبة للقطاع الصناعي. وفي نوفمبرتشرين الثاني 1948 أشار تقرير عسكري أميركي إلى أن الهدف الاقتصادي الأسمى للاحتلال هو مساعدة اليابان على تحقيق حالة من الاكتفاء الذاتي في أقرب وقت ممكن.
ومع اندلاع الحرب الكورية عام 1950، أصبحت اليابان مستودع الإمدادات الرئيسي لقوات الأمم المتحدة، الأمر الذي ساهم كثيرًا في إنعاش الاقتصاد. كما وضعت هذه الحرب اليابان داخل حدود منطقة الدفاع الأميركية في آسيا؛ مما أكد للقيادة اليابانية أن أراضيها ستكون في مأمن من أي تهديد شيوعي، وأن الأولوية ينبغي أن تكون لتوجيه كل طاقاتها نحو التصنيع وإعادة الإعمار.
المرحلة الثالثة الانسحاب والاتفاقية الأمنية
بالتوازي مع استمرار الخطة الأميركية لضخ الأموال في الاقتصاد الياباني، اقتنع الأميركيون عام 1949 بأن اليابان الجديدة لم تعد تثير القلق، وأن التهديد الحقيقي أصبح متمثلًا في الاتحاد السوفياتي وطموحه لنشر الشيوعية في آسيا ومناطق أخرى من العالم؛ لذا عمل ماك آرثر على تنحية قوات التحالف وزيادة سيطرة اليابانيين على مؤسسات الدولة تدريجيًّا.
وفي 8 سبتمبرأيلول 1951، تم توقيع اتفاقية السلام مع اليابان معاهدة سان فرانسيسكو بحضور 52 دولة، ودخلت حيز التنفيذ في 28 أبريلنيسان 1952، معلنة بذلك النهاية الرسمية للاحتلال واعتبار اليابان دولة مستقلة، مع السماح للولايات المتحدة بالاحتفاظ بجزيرتي إيوجيما وأوكيناوا والإبقاء على ربع مليون جندي أميركي في 2824 موقعًا عسكريًّا بأنحاء اليابان، كما تضمنت الاتفاقية منع اليابان من السماح لدول أخرى بالحصول على حقوق عسكرية على أراضيها من دون موافقة الأميركيين، في حين أتاحت للأميركيين استخدام قواتهم المتمركزة في اليابان لمهاجمة أي دولة من دون استشارة السلطات اليابانية. وعلاوة على ذلك، لم تتضمن الاتفاقية إلزامًا للأميركيين بالدفاع عن اليابان في حال تعرضهم لهجوم.
ومع أن الاستقلال حظي بترحيب اليابانيين فإن بنود الاتفاقية أثارت استياء المحافظين الذين رأوا فيها إذعانًا وتكريسًا لاحتلال دائم، وتسبب ذلك في خروج عشرات من المظاهرات الضخمة ضد الولايات المتحدة طوال فترة الخمسينيات.
وفي مطلع عام 1960، تم تعديل الاتفاقية السابقة وتوقيع اتفاقية وضع القوات الأميركية اليابانية في واشنطن، بهدف تقليص عدد الجنود الأميركيين والجلاء عن بقية الأراضي المحتلة وإلزام الولايات المتحدة بالدفاع عن اليابان، لكن إعادة إيوجيما لليابانيين تأخرت إلى عام 1968، كما تأخرت إعادة أوكيناوا إلى عام 1972، مع الإبقاء على احتلال 19 من مساحتها. وظلت بعض بنود الاتفاقية محل جدل سياسي طويل مع تنصل الجنود الأميركيين من المحاسبة على انتهاكاتهم، فمع أن القضاء الياباني يتمتع بسلطة محاكمتهم على الجرائم التي يرتكبونها في اليابان فإن الاتفاقية تنص على بعض الاستثناءات. ونتيجة لذلك شهدت البلاد في سبتمبرأيلول 1995 أزمة سياسية وموجة غضب شعبي عارمة عندما شاع خبر اغتصاب ثلاثة جنود أميركيين فتاة يابانية في أوكيناوا، وتم احتواء الأزمة بسجنهم عشر سنوات مع تغريمهم بتعويض مالي للضحية، إلى جانب توقيع اتفاقية جديدة في العام التالي لخفض مساحة أراضي الجزيرة التي تغطيها القواعد الأميركية بنسبة 21.
ومع أن القواعد الأميركية على أراضي اليابان ما زالت تؤوي حتى اليوم حوالي 47 ألف جندي أميركي فإن هذه القوات لا تعدّ قانونيًّا قوة احتلال، بل هي قوات مدعوّة رسميًّا من الحكومة اليابانية تحت بنود اتفاقية التعاون الأمني المشترك.
لعل أهم سؤال في هذه السياق هو هل نجح الاحتلال الأميركي في تحقيق أهدافه في اليابان؟ والجواب متعدد الأوجه؛ لأن تحقيق الأهداف قد يخضع لتفسيرات متفاوتة، لا يمكن الجزم بأي منها. فإذا قلنا إن الهدف الأساسي هو إحلال نظام ديمقراطي ورأسمالي على الطريقة الغربية، فقد تحقق هذا الهدف بالفعل، لكن الصحفي الأميركي باتريك سميث يرى في كتابه الذي تُرجم إلى العربية بعنوان اليابان رؤية جديدة -الصادر عام 1998- أن الديمقراطية التي صنعها الاحتلال في اليابان غير مكتملة، إذ أوجد الاحتلال نظامًا عسكريا وسياسيا اتّكاليا منقوص السيادة باعتماده الفعلي على الولايات المتحدة.
كما يرى سميث أن سياسة ماك آرثر رسّخت ارتباط المحافظين بالسلطة، ومنحت الأوليغارشية الاقتصادية القدرة على تثبيت هيمنتها على الاقتصاد؛ مما يجعل الديمقراطية اليابانية بناءً هشًّا يقوم على تحالفات بين كبرى العائلات السياسية والرأسمالية، ولا يتيح قدرًا كافيًا من التنافس الحر. ويستشهد المؤلف بمقولة للروائي الياباني سوسيكي ناتسومي، الذي عاصر فترة ميجي الإصلاحية في أوائل القرن العشرين، عندما قال إن اليابان لا تستطيع التقدم بدون أن تقتبس الأشياء من الغرب، ثم تتظاهر بأنها دولة من الدرجة الأولى.
من ناحية أخرى، نجح الاحتلال في انتزاع ثقافة الغزو والتوسع من الأجيال اليابانية، حتى أصبحت من أكثر الشعوب ميلًا إلى السلم، وبعدما كانت الدعاية الرسمية البروباغندا أثناء الحرب تدفع الشباب إلى التضحية بأنفسهم في هجمات انتحارية ضد الأميركيين وحلفائهم، أصبح الجيل الحالي من اليابانيين يُعدّ من أكثر شعوب العالم إعجابًا بالأميركيين. إذ ينظر 67 من اليابانيين إلى الولايات المتحدة بشكل إيجابي وفقًا لاستطلاع أجراه مركز بيو عام 2018، كما يثق 75 منهم في سياسة الولايات المتحدة مقابل ثقة 7 منهم فقط في الحكومة الصينية.
واللافت أن الولايات المتحدة لم تعتذر عن مذبحتي هيروشيما وناغازاكي النوويتين، ولا عن تدمير ست مدن كبرى في اليابان قبل ذلك أثناء الحرب، وما زالت الحكومات اليابانية المتعاقبة حتى اليوم تحيي في 6 أغسطسآب من كل عام ذكرى مأساة هيروشيما، ومع ذلك تحظى الولايات المتحدة بشعبية استثنائية في اليابان بعد نجاحها في إقناع الشعب الياباني بأن إسقاط القنبلتين وما سبقهما من مجازر كان نتيجة حتمية لا مفر منها لقرار حكومتهم آنذاك الدخول في الحرب ورفض الاستسلام، وأن المسؤول عن مقتل نحو 2.5 مليون ياباني خلال الحرب، أي ما يعادل حوالي 4 من إجمالي السكان، هو القوميون المتطرفون الذين ورّطوا الشعب في هذه الحرب.
وبالمقارنة، نجد أن الصينيين لم يغفروا لليابان مجازرها أثناء الاحتلال الياباني لبلادهم، لا سيما أنها لم تعتذر عنها أيضًا حتى الآن، ففي استطلاع للرأي أجري عام 2022 من قبل مؤسسة غيرنون اليابانية Genron NPO ومجموعة النشر الدولية الصينية قال 63 من الصينيين إن لديهم انطباعا سيئا عن اليابان.
ولعل أهم عنصر أدى إلى نجاح الخطة الأميركية هو ربط مصير اليابان وأمنها ورفاهية شعبها بالولايات المتحدة، فاليابان محاطة بثلاث قوى نووية هي روسيا والصين وكوريا الشمالية، وثمة تاريخ طويل من التوتر مع كل منها، فمظلة الردع النووي الأميركية هي التي فرّغت الشعب الياباني للالتفات إلى إعادة الإعمار -وبتمويل أميركي أيضا- ثم للتصنيع والتكنولوجيا، حتى سبق الاقتصاد الياباني كل الدول الأوروبية منذ الستينيات وأصبح الاقتصاد الثاني عالميا بعد الولايات المتحدة، في حين تضطر الدول المنافسة لها إلى تخصيص الكثير من أموالها وطاقتها التصنيعية للقطاع العسكري والدفاعي.
ومن خلال المناهج التعليمية التي تدخّلت الولايات المتحدة في إعدادها أثناء الاحتلال، اقتنعت الأجيال الجديدة بأن التطلع إلى المستقبل والتنعّم برفاهية المجتمع الرأسمالي الاستهلاكي -وهو أمر لم يكن متاحا للشعوب التي ترزح تحت الحكم الشيوعي في الدول المحيطة بعد الحرب- يقتضي نسيان الماضي، وتجاهل السؤال عن مسؤولية الولايات المتحدة وحلفائها عن ما لحق باليابان من دمار وما خسرته من أرواح، وأن الإمبراطور والشعب كانا مُختطَفَين من قبل الطبقة العسكرية والقوميين المهووسين بالغزو، وقد تمت محاكمتهم والتخلص منهم، كما أن الأساطير الشنتوية قد ثبت تهافتُها بعد تراجع الإمبراطور عما منحته إياه من قداسة؛ فليس ثمة أمر يستدعي الحقد على الأميركيين الذين يمدّون يد المساعدة ويتعهدون بالحماية، ولا جدوى للندم على ما فات ولا لهدر الوقت في التفكير فيما مضى.
أما عرش الأقحوان الإمبراطوري فما زال قائما حتى اليوم، وما زال دور الإمبراطور مقتصرا على تمثيل الصورة الرمزية للأمة اليابانية، مع القيام بالأعمال الخيرية وإلقاء الخطابات وتأدية المراسم في المناسبات الرسمية. وكان الإمبراطور إكيهيتو -الذي خلف والده الإمبراطور هيروهيتو مطلع عام 1989- قد تنازل عن العرش في 2019 بسبب تقدمه في السن، وتولى ابنه الإمبراطور ناروهيتو المنصب الرمزي في حفل رسمي ضخم وفق طقوس الشنتوية. ومع أن الاستطلاعات تؤكد احتفاظ العائلة الإمبراطورية بشعبيتها حتى الآن، فقد أثارت مراسم تنصيب الإمبراطور حفيظة كثير من المواطنين الملحدين والمسيحيين، حتى اشتكى بعضهم إلى القضاء الياباني باعتبار أن المراسم -التي كلفت الحكومة نحو 25 مليون دولار- تنتهك الدستور العلماني.
من ناحية أخرى، ثمة تساؤلات ملحّة بشأن التغييرات الاجتماعية العميقة التي أحدثتها الإصلاحات، فالفراغ الروحي الناشئ عن تبدّد البوذية والشنتوية لم يُملأ بعد، إذ يصرّح 86 من اليابانيين بأنهم ملحدون؛ مما يضع بلادهم في المرتبة الثانية عالميا على قائمة الإلحاد، ولا يخفى ارتباط الإلحاد بالمادية وما ينشأ عنها من اضطراب في الأسئلة الوجودية ومعنى الحياة.
ولعل هذا يفسر -جزئيا- انغماس الأجيال الجديدة في قيم مجتمعات اللذة، وارتفاع نسب الاكتئاب والعزلة والانتحار، والعزوف عن الزواج والإنجاب. ويبدو أن المعجزة الاقتصادية التي حققها جيل إعادة الإعمار أصبحت الآن أمام تحديات وجودية كبيرة مع تزايد أزمات الشباب وانهيار المنظومة الأسرية. وقد يرى البعض أن أزمات التفسخ الاجتماعي لا يُصلحها تاريخيا سوى شحن الأجيال الجديدة بقيم الحرب من جديد، لا سيما بعد تبدّل العدو من دول الحلفاء في الغرب إلى الشيوعية الصينية.
مع أن اليابان بلد ديمقراطي يتبنى الليبرالية العلمانية والحداثة الغربية، فإن النموذج الياباني للحداثة له طابع خاص، فهو لم ينشأ داخليا ونتيجة لحراك اجتماعي أو صراع بين الطبقات، بل فُرض من الأعلى بِيد الإمبراطور ميجي الذي استورد إصلاحاته من أوروبا مستفيدا من ثورة شعبية ساخطة على النظام العسكري الشوغوني، ثم فُرضت نسخته الحديثة بِيد الاحتلال الأميركي بعد هزيمة عسكرية مؤلمة، فكانت النتيجة خليطًا من الأفكار الليبرالية والنزعة القومية المحافظة.
ولعل الحزب الديمقراطي الليبرالي LDP خير ممثّل لهذا الخليط الفكري والسياسي، فهو من أبرز الأحزاب المتصدرة للمشهد السياسي منذ تأسيسه بعد انتهاء الاحتلال، ويُصنف حزبا يمينيا معتدلا، وما زال على رأس الحكومة منذ عام 2012.
كان البرنامج الانتخابي للحزب الديمقراطي الليبرالي يتضمن وعودا طموحة قبل صعوده الأخير إلى الحكم، وهي وعود غير مسبوقة في مرحلة ما بعد الاحتلال، فإلى جانب الوعود بدفع الاقتصاد إلى تجاوز الركود، شدد الحزب على مراجعة دور قوات الدفاع وتعزيز المكانة الدولية لليابان، ورفَع الكثير من الشعارات القومية لتعزيز الفخر الوطني.
ترافقت الحملة الانتخابية للحزب عام 2012 مع احتدام النزاع البحري بين اليابان والصين، وبالتوازي مع تزايد الحملات الدعائية التي ينظمها الحزب الشيوعي الصيني لربط مشروعه الاقتصادي الطموح بالقومية الصينية؛ مما دفع اليابانيين في المقابل إلى استعادة أمجادهم القومية والتشبث بها.
وفي خطوة تاريخية، أقر البرلمان عام 2015 قانونا يعيد تفسير المادة التاسعة من الدستور التي تحظر على اليابان استخدام القوة لحل النزاعات إلا في حالات الدفاع عن النفس، بحيث أصبح من المسموح به الدفاع الجماعي عن النفس أي استخدام القوة للدفاع عن حلفاء يتعرضون لهجوم، وهذا يعني السماح للقوات اليابانية بالقتال خارج حدود البلاد لأول مرة منذ الحرب العالمية الثانية. وهو أمر نددت به الصين حينئذ، وقالت إن اليابان تخلت عن سياستها السلمية.
وفي عام 2022، شنت روسيا حربا واسعة على وكرانيا، وأطلقت كوريا الشمالية عدة صواريخ باليستية في المجال الجوي الياباني، كما توالت التقارير الاستخبارية عن خطة صينية لغزو جزيرة تايوان في السنوات القليلة المقبلة. وإزاء هذه التطورات الخطيرة، أصدرت الحكومة اليابانية ثلاث وثائق إستراتيجية جديدة في أواخر العام نفسه، وهي إستراتيجية الأمن القومي NSS وإستراتيجية الدفاع الوطني NDS وبرنامج تعزيز الدفاع DBP، وتنص هذه الوثائق على أن اليابان تواجه الوضع الأمني الأكثر خطورة منذ الحرب العالمية الثانية، مشددة على ضرورة تطوير القدرات الدفاعية وتعزيز الردع، بالتوازي مع تعميق التحالف الأمني مع الولايات المتحدة.
ومن أهم ملامح الإستراتيجية اليابانية الجديدة سعيُها لتجاوز المادة التاسعة من دستورها التي تحصر دور جيشها في الدفاع، وعزمها على امتلاك قدرات الهجوم المضاد التي تمكّنها من ضرب الصين وكوريا الشمالية في عمق أراضيهما في حال تعرضها لهجوم.
ومنذ الإعلان عن الإستراتيجية الجديدة، رفعت اليابان إنفاقها الدفاعي بنسبة 50، تمهيدا لمضاعفة نسبة الإنفاق الدفاعي السنوي إلى الناتج المحلي الإجمالي من 1 إلى 2 بحلول عام 2027، في محاولة للحاق بالصين التي يتجاوز إنفاقها الدفاعي نظيره الياباني بأكثر من أربعة أضعاف، وذلك بعدما كان إنفاق اليابان الدفاعي ضعف نظيره الصيني في مطلع الألفية.
واللافت أن توجهات اليابان الجديدة لا تلقى الترحيب الكافي من اليابانيين، فقبل إقرار قانون الدفاع الجماعي عن النفس في 2015 كان الآلاف يحتشدون في الشوارع وأمام البرلمان طوال أسابيع لرفض القانون والمطالبة بإسقاط الحكومة، كما كشفت استطلاعات للرأي آنذاك أن أكثر من نصف الشعب يرفضون تخلي بلادهم عن سلميتها، وأنهم يعتبرون القراءة الجديدة للدستور محاولة لدفع البلاد إلى القتال إلى جانب الأميركيين في مناطق أخرى من العالم، مع أن الدستور السلمي قد فُرض من قبل الأميركيين أنفسهم قبل نحو سبعة عقود، قبل أن تتحول الولاءات والعداوات إلى النقيض.
وعندما أقرت الحكومة إستراتيجيتها الدفاعية الجديدة خرجت مظاهرات حاشدة للاحتجاج عليها، وكشف استطلاع للرأي أجري في ربيع 2023 أن 19 فقط من اليابانيين يؤيدون خطة زيادة الإنفاق الدفاعي، وقال 48 من الرافضين للخطة إن سبب رفضهم هو عدم قدرة الجمهور على تحمل الأعباء الضريبية لتمويلها، لا سيما مع ارتفاع حجم الدَّين الوطني المستحق على بلادهم.
ومع ذلك، تواصل الحكومة اليابانية سعيها الحثيث لاستدراك ما فاتها من تسليح، كما تبذل جهودا إضافية لتعزيز تحالفها الأمني مع الولايات المتحدة. ففي أبريلنيسان الماضي استضافت واشنطن قمة أميركية يابانية استثنائية، قال فيها رئيس الوزراء الياباني فوميو كيشيدا مخاطبا الكونغرس الأميركي إن العلاقات بين البلدين لم تكن يومًا أوثق مما هي عليه الآن، وإن رؤى وتوجهات البلدين أصبحت أكثر اتحادا. كما جاء في البيان المشترك للقمة أن العلاقة بين البلدين لا حدود لها.
وبدوره، أكد الرئيس الأميركي جو بايدن أن التحالف مع اليابان ليس موجها ضد دولة معينة ولا يُشكّل تهديدا للمنطقة، وشدد في الوقت نفسه على التزام بلاده بالدفاع عن اليابان وفقا لاتفاقية التعاون المشترك. لكن كيشيدا كان أكثر وضوحا في خطابه أمام الكونغرس، وقال إن الصين تُشكّل أكبر تحدٍّ لأمن بلاده، ولأمن واستقرار المجتمع الدولي أيضًا.
وفي ظل هذا الواقع الجديد، وبعدما نجحت الولايات المتحدة في نقل اليابان من خانة العدو إلى رأس قائمة الحلفاء، ومع تمايز الصفوف واتفاق البلدين على مواجهة الصين وروسيا، لم تعد القومية اليابانية مصدر قلق في واشنطن وحلف شمال الأطلسي الناتو كما كانت في الماضي، بل أصبحت محل ترحيب لدفع الشباب الياباني إلى حمل السلاح مجددا، ليس للدفاع عن الإمبراطور سليل إلهة الشمس، ولا للانتحار فداءً لأرض الآلهة، بل للحفاظ على خريطة القطب الواحد للعالم الذي تتصدره الولايات المتحدة. | https://www.aljazeera.net/politics/2024/8/21/%d9%85%d9%86-%d8%a7%d9%84%d8%b4%d9%86%d8%aa%d9%88%d9%8a%d8%a9-%d8%a5%d9%84%d9%89-%d8%a5%d9%84%d8%ad%d8%a7%d8%af-86-%d9%83%d9%8a%d9%81-%d8%a3%d8%b9%d8%a7%d8%af%d8%aa | 2024-08-21T02:33:41 | 2024-10-15T02:16:23 | أبعاد |
|
33 | أثرياء الدم.. شبكة شركات السلاح المستفيدة من حرب غزة | في نفس لحظات حرب الإبادة التي يشنها جيش الاحتلال الإسرائيلي، تتفاخر شركات السلاح بتحقيقها مكاسب هائلة، وتتوقع زيادات فلكية بأرباحها، بفضل تلك الحرب التي تُستخدم فيها الأسلحة لقتل المدنيين. | ما الذي تراه حين تنظر إلى شاشة الأخبار التي تعرض مشاهد الحرب في غزة؟ ربما ترى أمًّا تحتضن صغيرها في كفنه الأبيض، أو جدًّا يقبّل عيني حفيدته قبل وداعها الأخير، أو مقاتلا من أصحاب الأرض يحمل عبوة متفجرة يلصقها على آلية عسكرية، أو فتى ينحدر من أصول أوروبية يطلق النار على عُزّل يتجمعون حول شاحنة مساعدات توزع طحينا على الجائعين. هذا في الغالب ما يراه المشاهد المنتمي لهذه المنطقة، لكنه بالتأكيد ليس ما يراه الجميع.
بالنسبة لمصرفيّ في بنك مورغان ستانلي في نيويورك، أو موظف في شركة لوكهيد مارتن في ولاية ميريلاند، فإنه يرى مشهدا مختلفا؛ مسدسا ثمنه 500 دولار للقطعة في السوق السوداء، وخوذة تُقدّر 600 دولار، ودرعا واقيا من الرصاص بـ 1500 دولار، ورشاشا يبلغ ثمنه 7000 دولار، وصاروخا يبلغ ثمنه أضعاف أضعاف ذلك، ومروحية أباتشي بخمسين مليون دولار، وطائرة إف-16 بعشرات الملايين. إنه يرى صناعة قائمة واقتصادا كاملا يحتاج إلى الحرب أكثر مما تحتاج الحرب إليه.
في السابع عشر من ينايركانون الأول عام 1961، ألقى الرئيس الأميركي الأسبق دوايت أيزنهاور خطاب رحيله عن الرئاسة، وقال فيه إن على الأميركيين أن يأخذوا حذرهم من المجمع العسكري الصناعي الذي يزداد نفوذه في أعقاب الحرب العالمية الثانية باطراد في كل مناحي الحياة، ويؤثر في القرارات المصيرية للأميركيين والعالم. لكن مخاوف أيزنهاور كانت أقل كثيرا مما صار إليه الأمر. فإذا كان الرئيس الأسبق تحدث بداية الستينيات عن مجمع صناعي عسكري يمكن أن يقود بلادا بأكملها إلى حروب كي يحافظ على مكاسبه، فما الذي يمكن أن يُقال الآن؟ في الحرب العالمية الثانية، كان العتاد للجندي المقاتل يكلّف تقريبا 170 دولارا، وزاد الرقم إلى خمسة أمثاله تقريبا خلال حرب فيتنام، وزاد أكثر قليلا خلال حرب أفغانستان، ووصلت تكلفة العتاد العسكري للجندي الأميركي إلى 17500 دولارا إبان حرب العراق، وتوقع الخبراء أن يتضاعف هذا الرقم إلى قرابة ستين ألف دولار في السنوات اللاحقة.
بعد ثلاثة وستين عاما من خطابه، يبدو أن على الأميركيين والعالم استدعاء تحذير أيزنهاور أكثر من أي وقت مضى. ففي أكتوبرتشرين الأول 2023، خاطب الرئيس الأميركي جو بايدن شعبه متحدثا عن الحرب الروسية الأوكرانية والحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، مشيدا بصناعة السلاح الأميركية التي تقود هذه الصراعات، ومستحضرا مشهد ترسانة الأسلحة التي تحمي الديمقراطية ممهدة السبيل للحرية حد وصفه، تماما كما كان ممثلو المجمع العسكري الصناعي يقولون أثناء الحرب العالمية الثانية، ومشيدا بدور العمال الأميركيين المخلصين في مسعاهم من أجل الحرية والديمقراطية
كان المقصود من هذا الطرح السياسي تحوير السردية عن حقيقتها بوصفها شبكة معقدة لشركات أسلحة كبرى، تجني أرباحا طائلة جرّاء الحروب والصراعات العالمية، إلى التركيز على تفاني الموظفين والعمال القائمين على تصنيع تلك الأسلحة. لكن الأمر دائما لم يكن بهذه البساطة. ففي نيويورك، كان محللو بورصة وول ستريت يتوقعون حدوث انفجار من نوع مختلف انفجار في أرباح شركات الأسلحة الأميركية وغيرها من شركات السلاح العالمية، التي تستفيد مباشرة من كل هذا الدمار. ففي نفس لحظات التدمير التي يرتكبها الجيش الإسرائيلي، تتفاخر إدارات هذه الشركات بتحقيقها مكاسب هائلة، وتتوقع زيادات فلكية في أرباحها، بفضل تلك الإبادة الجماعية التي تُستخدم فيها الأسلحة لقتل عشرات الآلاف من الأبرياء، على حد وصف عدد من الخبراء.
إن الهدف الأساسي لتلك الشركات هو إنتاج مزيد من الأسلحة وإرسالها إلى حلفاء الولايات المتحدة في كل بؤر الحروب الجارية، للحفاظ على تفوقهم النوعي، سواء كانت أوكرانيا أو دولة الاحتلال؛ اقتصاد كامل قائم على الحروب حول العالم، كلما اندلعت الحروب تضخمت المكاسب. فغالبا ما يؤدي الطلب المتزايد على العتاد العسكري، بسبب هذه الحروب، إلى زيادة هائلة في إيرادات تلك الشركات. فحتى المساعدات المالية الأميركية التي يقرها السياسيون لإسرائيل تُترجم غالبا إلى عقود لصالح شركات السلاح الأميركية بصورة مباشرة، ويترافق معها تزايد في الطلب على هذه الأسلحة. وعند هذه المرحلة، تعمل آلة اقتصاد الحرب بأقصى قدراتها، مما يعكس حالة من التماهي بين المكاسب الاقتصادية والمصالح الجيوسياسية والإمكانات التقنية والصناعية لتلك الشركات.
مثلا، وأثناء جلسات مناقشة أرباح الربع الثالث من العام الماضي في أكتوبرتشرين الأول، أشار محللون من أشهر البنوك عالميا، مثل بنك مورغان ستانلي وبنك تي دي، إلى تحقيق أرباح من الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، وطرحوا تساؤلات مباشرة وقاسية حول الفوائد المالية التي تأتيهم من شركات الأسلحة التي يساهمون فيها، كما ذكرت صحيفة الغارديان حينها. هذا البعد المالي هو أحد الجوانب الأساسية لاقتصاد الحرب، إذ إن دواعي النزاعات هي التي تدفع ديناميات السوق داخل صناعة التسليح، ومعها تبرز تقاطعات دوافع تحقيق الأرباح بالنسبة للشركات، مع الاحتياجات العسكرية للدول المستفيدة، مثل دولة الاحتلال في هذه الحالة.
من المهم إدراك أن خمسًا من أكبر ست شركات أسلحة عالميا تقع في الولايات المتحدة، وفقا لتصنيف موقع ديفِنس نيوز الذي يرتبها حسب حجم المكاسب السنوية، وهي شركات لوكهيد مارتن Lockheed Martin، وآر تي إكس RTX المعروفة باسم رايثيون Raytheon، ونورثروب جرومَّان Northrop Grumman، وبوينغ Boeing، وجنرال دايناميكس General Dynamics. وتبيع تلك الشركات منذ سنين عدة أسلحتها لجيش الاحتلال لتستخدمها ضد الفلسطينيين، ولكن منذ طوفان الأقصى وما تبعه من أحداث، زادت مبيعاتها بصورة هائلة لإسرائيل؛ مما أدى إلى ارتفاع متزايد في أسعار أسهمها.
وحتى قبل اندلاع حرب الإبادة الجارية على قطاع غزة، كان الغزو الروسي لأوكرانيا يحفز مكاسب هذه الشركات من بيع وإنتاج الأسلحة. وهذا ما أكدته بيانات وزارة الخارجية الأميركية، في نهاية ينايركانون الثاني الماضي، بارتفاع مبيعات المعدات العسكرية الأميركية للحكومات الأخرى عالميا في عام 2023 بنسبة 16، مقارنة بالعام السابق، لتصل إلى مستويات قياسية بلغت 238 مليار دولار.
هنا، يجب ملاحظة أن مبيعات الأسلحة الأميركية لحلفاء واشنطن تتم عبر طريقين أساسيَّيْن إما عمليات البيع التجارية المباشرة التي تتفاوض فيها حكومات تلك الدول مع الشركة المصنّعة للسلاح، أو عبر المبيعات التي تتواصل فيها حكومة الدولة عادة مع مسؤول وزارة الدفاع في السفارة الأميركية في عاصمتها، وكلاهما يتطلب موافقة الحكومة الأميركية بطبيعة الحال.
زادت مبيعات الشركات الأميركية المباشرة إلى 157.5 مليار دولار بنهاية عام 2023 مقارنة بنحو 153.6 مليار دولار في السنة السابقة 2022، وارتفعت المبيعات التي تديرها الحكومة الأميركية إلى 80.9 مليار دولار في عام 2023 مقارنة بنحو 51.9 مليار دولار في عام 2022. وقد ارتفع هذا الرقم على الأرجح بفضل المساعدات الهائلة التي تمنحها الولايات المتحدة لجيش الاحتلال الإسرائيلي منذ بداية حربه على قطاع غزة، وكان آخرها حزمة مساعدات وصلت إلى 14.3 مليار دولار طلبتها إدارة بايدن لدعم دولة الاحتلال عسكريا.
وفي السياق ذاته، أعلنت شركة بي إيه إي سيستمز BAE Systems البريطانية، وهي أكبر شركة لتصنيع الأسلحة في بريطانيا، وتأتي في المركز السابع في القائمة السابقة، عن تسجيل أرباح مالية ضخمة نتيجة ارتفاع الإنفاق العسكري الناجم عن الحرب الروسية على أوكرانيا والحرب الإسرائيلية على قطاع غزة. إذ حققت الشركة أرباحا قياسية بلغت 2.7 مليار جنيه إسترليني قبل خصم الضرائب، وبلغ حجم مبيعاتها الإجمالي رقما قياسيا وصل إلى 25.3 مليار جنيه إسترليني خلال العام الماضي.
ينعكس هذا النجاح المالي على سوق السلاح العالمي بوجه عام، إذ شهدت تلك الشركات زيادة كبيرة في قيمة أسهمها عقب ارتفاع الإنفاق العسكري عالميا. كما تؤكد تلك الأرقام صحة التوقعات بارتفاع مبيعات أكبر شركات الأسلحة الأميركية، مثل لوكهيد مارتن وجنرال دايناميكس ونورثروب جرومّان، التي من المتوقع أن تشهد أسهمها ارتفاعا أكبر وسط تزايد حالة الاضطرابات والحروب عالميا، خاصة مع استمرار حرب دولة الاحتلال على قطاع غزة، واستهلاكه كميات هائلة من الأسلحة والذخائر التي تصنّعها وتنتجها تلك الشركات الأميركية.
بالطبع، بجانب الدوافع الاقتصادية، لم يكن لحجم الدمار وجرائم الحرب في غزة أن يكون ممكنا ومرعبا لولا هذا السيل المتواصل من الأسلحة التي تقدمها الولايات المتحدة وحلفاؤها لإسرائيل، عبر شبكة عالمية معقدة من شركات الأسلحة تتشابك خيوطها معا لتمنح جيش الاحتلال الإسرائيلي تلك القوة التدميرية الهائلة. ولربما كشفت لنا هذه الحرب الجارية لمحة بسيطة عن تلك العلاقات والشبكات، التي ترسم مشهد الصراعات العسكرية عالميا. وهُنا يصبح دور صناعة الأسلحة في الحروب نموذجا مصغرا للعلاقات والتفاعلات الأشمل والأوسع نطاقا التي تشكل المشهد الجيوسياسي للحروب والتحالفات العالمية. وهذا ما نحاول فهمه عبر تتبع مسار بعض أهم الأسلحة التي تتعاون تلك الشبكة العالمية على إنتاجها وتقدمها للكيان المحتل في حربه على قطاع غزة.
تؤدي شركة لوكهيد مارتن الأميركية دورا محوريا في عمليات الجيش الإسرائيلي في حربه الجارية على قطاع غزة. إذ تزود الشركة الأميركية العملاقة دولة الاحتلال بمختلف أنواع الأسلحة، وربما أشهرها الطائرات القتالية من طراز إف-35 وإف-16، المعروفة بتقنياتها الحديثة وقدراتها القتالية المتطورة، التي يستخدمها جيش الاحتلال بكثافة في شن غارات جوية على قطاع غزة. وتشكل تلك الطائرات أساس التفوق الجوي لدى الجانب الإسرائيلي.
مثلا، تتميز طائرة إف-35 بأنها طائرة مقاتلة ذات مهام متعددة، وتملك قدرة هائلة على التخفي بحيث لا تستطيع الرادارات رصدها، ولذا تسمى المقاتلة الشبح. وبإمكانها التحليق لمسافات بعيدة دون الحاجة إلى التزود بالوقود، حيث يصل مدى التحليق إلى 2200 كيلومتر، كما تصل سرعتها إلى نحو ألفي كيلومتر في الساعة، وثمن النسخة الواحدة منها يصل إلى 109 ملايين دولار، وفقًا لآخر التقديرات. وتزود شركة إل 3 هاريس تكنولوجيز طائرة إف-35 ببعض التقنيات المهمة مثل وسائل الاتصالات في مقصورة القيادة، وتقنيات معالجة البيانات، وإلكترونيات الملاحة المتطورة، وتقنيات الحرب الإلكترونية.
أما مقاتلات إف-16، وتسمى الصقر المقاتل، فهي طائرة صغيرة الحجم نسبيا لها قدرة عالية على المناورة في القتال والهجوم في الجو وعلى الأرض، وتوفر أداء عاليا مقابل تكلفتها المنخفضة نسبيا، وتستطيع الطيران على ارتفاعات منخفضة لتفادي الرادارات الأرضية، ويمكنها التحليق بسرعة تبلغ 2400 كيلومتر في الساعة، كما أنها مزودة بنظام تسليح جيد إذ يمكنها حمل 6 صواريخ، بجانب منظومة إلكترونية للدفاع، وتعد من أكثر المقاتلات طلبا في العالم، وقد يصل سعر النسخة منها إلى 70 مليون دولار. وتدعم شركة أر تي إكس RTX الأميركية، أكبر منتج للصواريخ الموجهة في العالم، القوات الجوية الإسرائيلية بصواريخ جو-أرض مُعدَّة للإطلاق من الطائرات المقاتلة إف-16 التي تملكها دولة الاحتلال.
يمتد تعاون شركة لوكهيد مارتن مع إسرائيل ليشمل أيضا أنظمة الصواريخ، ومن الأمثلة البارزة لذلك صواريخ جو أرض أي جي أم-114 هيلفاير الموجهة بالليزر، حيث جرى تسليم قرابة 2000 صاروخ من طراز هيلفاير إلى الجيش الإسرائيلي فيما بين 7 أكتوبرتشرين الأول و14 نوفمبرتشرين الثاني من العام الماضي، وفقا لصحيفة بلومبيرغ. وتُستخدم تلك الصواريخ في مروحيات أباتشي إي إتش-64، وهي مروحيات هجومية من تصنيع شركة بوينغ الأميركية، التي تعد خامس أكبر شركة تصنيع أسلحة عالميا، وتعمل بمحركات تي 700 التوربينية من تصنيع شركة جنرال إلكتريك الأميركية وتكلف النسخة منها نحو 52 مليون دولار وفقا لأحدث التقديرات المتاحة.
كما تتعاون شركة نورثروب جرومّان الأميركية، وهي ثالث أكبر شركة أسلحة عالميا، مع شركة لوكهيد مارتن في صنع وتطوير نظام رادار لونج بو LONGBOW للتحكم في إطلاق النيران في مروحية الأباتشي الهجومية. وتشارك بوينغ أيضا في حرب غزة بطائرتها المقاتلة المعروفة إف-15، وهي طائرة متعددة المهام تعمل في جميع الأحوال الجوية، وتُصنَّف طائرةَ تفوق جوي، وبإمكانها حمل صواريخ وقذائف متعددة، منها صواريخ آي إي آم 7 أف سبارو وصواريخ آي أم 120، وتصل سرعتها إلى نحو 3017 كيلومترا في الساعة، ويتجاوز سعر النسخة الواحدة منها نحو 90 مليون دولار. وتتولى شركة برات آند ويتني Pratt Whitney، إحدى الشركات التابعة لشركة أر تي إكس، تصنيع محركات طائرات إف-15 وإف-16 المقاتلة، وتتولى شركة بي إيه إي سيستمز البريطانية تصنيع مجموعات إطلاق الصواريخ الإلكترونية ومكونات أخرى للطائرات الثلاث طراز إف-15 وإف-16 وإف-35.
تشتهر شركة بي إيه إي سيستمز أيضا بإنتاج مدفع الهاوتزر إم 109 M109 الذاتي الحركة، وهو سلاح مدفعية متنقل يستخدم قذائف عيار 155 ملم. ويستخدم جيش الاحتلال هذا السلاح بكثافة في إطلاق آلاف القذائف على قطاع غزة، بما فيها قنابل الفوسفور الأبيض التي تعدّ أداة مفضلة تستخدمها قوات الاحتلال في معاركها ضد سكان القطاع، وهي أسلحة حارقة تحتوي على الفسفور الأبيض حمولة أساسية، صُمِّمت لتوليد حرارة شديدة تبلغ قرابة ألف درجة مئوية إلى جانب قوتها التدميرية. ولا تكتفي شركة أر تي إكس بتزويد سلاح الجو الإسرائيلي بالصواريخ المُعدّة للطائرات المقاتلة فحسب، بل تزود جيش الاحتلال أيضا بالقذائف المخترقة للتحصينات، كما تنتج الشركة الأميركية، عبر التعاون مع شركة رافائيل الإسرائيلية، صواريخ اعتراضية لمنظومة القبة الحديدية الدفاعية الإسرائيلية.
وتصنّع شركة جنرال دايناميكس الأميركية، وهي سادس أكبر شركة سلاح عالميا، قذائف مدفعية من عيار 155 ملم، يستخدمها جيش الاحتلال في قصف قطاع غزة، وقد تتجاوز تكلفة القذيفة منها 15 ألف دولار. ووفقا لما ذكره أحد القادة لصحيفة جيروزاليم بوست الإسرائيلية، فقد أطلق أحد الألوية الإسرائيلية نحو 10 آلاف قذيفة من هذا النوع باستخدام مدفع الهاوتزر إم 109 الذي تنتجه شركة بي إيه إي سيستمز البريطانية. كما أن الشركة الأميركية تصنّع الهياكل المعدنية لسلسلة قنابل إم كيه-80 MK-80، وهو السلاح الأساسي الذي يستخدمه جيش الاحتلال الإسرائيلي لقصف غزة.
ومن أهم القنابل في تلك السلسلة القنبلة إم كيه-84 MK-84، التي يطلق عليها اسم المطرقة بسبب الضرر الشديد الذي تلحقه إثر انفجارها، وقد تتجاوز تكلفة القنبلة الواحدة 18 ألف دولار. وقد صُممت لتكون قنبلة ذات سقوط حرّ وغير موجه، ضمن ما يسمى بالقنابل الغبية، وتعد أكبر نسخة من سلسلة قنابل إم كيه-80، وتطورت بشكل يسمح لها بإبطاء سرعتها لضمان ابتعاد الطائرة الحربية عنها قدر الإمكان. وتزن القنبلة نحو 900 كيلوغرام تقريبا، وتشكل الذخيرة المتفجرة نسبة 45 من الوزن الإجمالي للقنبلة، وبإمكانها أن تحدث حفرة بعرض نحو 15 مترا وعمق يتجاوز 10 أمتار، كما يمكنها اختراق المعدن بعمق 38 سم تقريبا، واختراق نحو 3 أمتار من الخرسانة اعتمادا على الارتفاع الذي أسقطت ووجهت منه، وتتسبب في أضرار مميتة لما حولها في دائرة يتجاوز قطرها 73 مترا تقريبا.
يرجح الخبراء العسكريون أنها القنبلة التي ألقتها إسرائيل على المدنيين في مجزرتي مستشفى المعمداني ومخيم جباليا في حربها الجارية على قطاع غزة؛ فبعد تحليل تأثير الغارات الإسرائيلية وضررها في تلك الأماكن وجدوا أنها تتطابق مع الآثار التي تحدثها قنبلة المطرقة المجهزة بنظام جدام JDAM. ونظام جدام هو حزمة من أجهزة توجيه متعددة تثبت على القنابل غير الموجهة، أو القنابل الغبية، وتحولها إلى قنابل موجهة، مع وحدة تحكم تجمع بين نظام التوجيه بالقصور الذاتي ونظام تحديد المواقع جي بي إس، الذي تنتجه وتبيعه شركة بوينغ الأميركية.
تشتهر شركات الأسلحة في دولة الاحتلال بإنتاج وتطوير المسيّرات التي يستخدمها جيش الاحتلال الإسرائيلي في عملياته المختلفة داخل قطاع غزة منذ سنين كثيرة، وأهم تلك الاستخدامات تنفيذ عمليات الاغتيال، وعمليات الاستطلاع وجمع المعلومات الاستخبارية، وتصوير الطرق والأماكن المختلفة لتستفيد منها فرق جنود المشاة في عمليات السيطرة على الأهداف وتقييم أضرار المعارك، وبالطبع في هجمات قاتلة على الأهداف المختلفة. ومن أشهر تلك الشركات الإسرائيلية التي توفر المسيّرات شركة إلبيت سيستمز بإنتاجها لمسيّرات هجومية من طراز هِرميس، ومسيّرات سكاي لارك التي يستخدمها جيش الاحتلال في عمليات الاستطلاع والاستخبارات والتجسس، إضافة إلى شركة رافائيل التي تنتج مسيّرات انتحارية من طراز سبايك فايرفلاي.
لكن كل هذا لا يكفي دولة الاحتلال في هذه الحرب؛ فبعد ساعات من طوفان الأقصى، سارع جيش الاحتلال الإسرائيلي إلى مراسلة شركة سكايديو Skydio، وهي شركة تقنية أميركية تعمل في إنتاج المسيّرات، وطلب منها توريد طائرات استطلاع قصيرة المدى تعتمد في تحركها على الذكاء الاصطناعي دون الحاجة إلى توجيه بشري، وتُستخدم في إجراء مسح ثلاثي الأبعاد للهياكل الهندسية المعقدة مثل المباني بمختلف أنواعها، وفقا لتقرير في موقع بوليتيكو الصحافي.
على مدار الأسابيع الثلاثة الأولى بعد طوفان الأقصى، أرسلت الشركة الأميركية أكثر من 100 مسيرة جديدة من هذا النوع إلى جيش الاحتلال، مع وعد بإرسال المزيد في المستقبل وفقا للمدير التنفيذي المسؤول عن التعاقدات الحكومية في الشركة. بيد أن سكايديو لم تكن الشركة الأميركية الوحيدة التي تتلقى طلبات من جيش الاحتلال لإرسال هذا النوع من الطائرات، فوفقا لبوليتيكو، أوجدت حرب غزة طلبا متزايدا لتلك التقنيات العسكرية المتطورة.
وقد أشارت تقارير أخرى إلى أن إسرائيل طلبت من الولايات المتحدة شراء 200 مسيّرة انتحارية من طراز سويتش بليد 600 Switchblade 600، وهي المسيّرات التي تصنّعها شركة أيروفيرونمينت AeroVironment الأميركية. وتمتلك مسيّرة سويتش بيلد 600 كاميرا متطورة ويمكنها حمل كمية من المواد المتفجرة، ولديها القدرة على استقبال المعلومات من الطائرات المسيّرة القريبة منها، وتُستخدم في الأساس لمهاجمة الأهداف القريبة، ويصل مداها إلى 40 كيلومترا، مع قدرة على الطيران لمدة 40 دقيقة، وهي الطائرات نفسها التي وفّرها الجيش الأميركي لأوكرانيا العام الماضي في حربها ضد روسيا. لم تعلن الشركة سعر هذا الطراز، ولكن تشير بعض الوثائق إلى أن الطراز الأصغر حجما سويتش بليد 300 قد يكلف نحو 80,000 دولار أميركي.
كما استخدم الجيش الإسرائيلي مروحيات رباعية مسيّرة يتحكم فيها عن بعد، ومزودة ببنادق للقنص، في دوريات داخل محيط مستشفيات غزة، كما ذكره عدد من الأطباء لصحيفة تليغراف البريطانية. وهي نوع من المسيّرات مشابهة لتلك الأنواع التجارية المتاحة في الأسواق، ولكنها أكبر حجما ومزودة ببندقية مثبتة أسفلها تُستخدم في اغتيال الأهداف بالقنص، وهي مسيّرات تنتجها شركة دي جيه أي DJI الصينية الخاصة.
في النهاية، يجب تأكيد أن كل تلك الأمثلة السابقة مجرد لمحة بسيطة عن تعقيدات سوق السلاح العالمي، ومدى ضخامة تشابكاته، التي تتحكم فيها بالأساس الولايات المتحدة عبر الشركات الكبرى المسيطرة على صناعة وإنتاج السلاح عالميا. | https://www.aljazeera.net/politics/2024/6/24/%d8%a5%d8%a8%d8%a7%d8%af%d8%a9-%d9%82%d9%88%d9%85-%d8%b9%d9%86%d8%af-%d9%82%d9%88%d9%85-%d9%85%d9%83%d8%a7%d8%b3%d8%a8-%d8%b4%d8%a8%d9%83%d8%a9-%d8%b4%d8%b1%d9%83%d8%a7%d8%aa | 2024-06-24T10:59:45 | 2024-06-24T14:01:19 | أبعاد |
|
34 | جوردان بيترسون.. مثقف اليمين الأشهر الذي يُعادي فلسطين | جاءت حرب الإبادة التي شنتها دولة الاحتلال على غزة، لترسم ملامح جديدة للعلاقة بين الجمهور العربي الذي لعب دورا كبيرا بصعود بيترسون عالميا، وبين الرجل الذي أظهر كراهية أيديولوجية مفرطة لفلسطين وشعبها. | ذات يوم في عام 1986، خطَّ الشاب جوردان بيترسون، الذي كان لا يزال يخطو خطواته الأولى في مسيرته الأكاديمية، خطابا إلى والده يحمل في طيّاته حزنا ووجعا، قال فيه أبي العزيز، استحوذت عليّ فكرة الحرب مدة ثلاث أو أربع سنوات، وغالبا ما راودتني أحلام شديدة العنف في منامي تتمحور حول موضوع الدمار. أعتقد أن مخاوفي بخصوص الموت الجماعي كانت مرتبطة ارتباطا وثيقا بحياتي الشخصية 1.
بحلول يوم السابع من أكتوبرتشرين الأول 2023، كان جوردان، الذي أصبح في السنوات الأخيرة أحد أكثر مثقفي اليمين تأثيرا في العالم الغربي، قد فقد تلك الحساسية المرهفة تجاه الحرب والدمار، غالبا لأن الضحايا هذه المرة لم يكونوا من ذوي البشرة البيضاء ولم ينتموا إلى حضارته أو لم يشبهوه في مأكلهم وملبسهم. بل إن بيترسون في ذلك اليوم دعا إلى الحرب والدمار بنفسه ونظَّر لهما، فبعد عملية طوفان الأقصى التي نفَّذتها المقاومة الفلسطينية ضد الاحتلال الإسرائيلي، وجّه المفكر والمعالج النفسي الشهير رسالته إلى رئيس وزراء دولة الاحتلال بنيامين نتنياهو عبر منصة إكس طالبا منه أن يذيق أهل فلسطين الجحيم بعد أن تجرَّأوا وتمرَّدوا على دولة الاحتلال التي استولت على وطنهم وشرَّدت شعبهم. وقد كتب بيترسون العبارة التالية أذِقهم الجحيم.. لقد طفح الكيل، كما وصف في الأحداث نفسها أعضاء حزب الاشتراكيين الفيكتوريين الأسترالي بأنهم جرذان قتلة معادون للسامية، لأنهم تجرأوا على التضامن مع الفلسطينيين 2.
Give em hellnetanyahu
Enough is enough
Dr Jordan B Peterson jordanbpeterson October 7, 2023
بحسب عدد غير قليل من المفكرين العالميين في مختلف المجالات، فإن جوردان في السنوات الأخيرة هو أكثر مثقف تأثيرا في العالم الغربي 3، ويضعه بعضهم في مرتبة النبي العلماني الذي سيعيد الغرب إلى رشده، وقد وصفت مجلة التايمز أفكاره بأن رسالته ضرورية بشكل كبير. وفي السنوات الأخيرة، بدا أن هناك إجماعا حتى بين العديد من رموز اليسار الذين لا يحبون بيترسون على أن الرجل يمثل ظاهرة جديرة أن تؤخذ بجدية ودون مواقف مُسبقة 4.
لم يكن بيترسون اسما مجهولا للجمهور العربي قبل طوفان الأقصى، فالرجل الذي تتصدر كتبه قائمة الأكثر مبيعا في الولايات المتحدة وأستراليا وكندا، ويحتل كتابه 12 قاعدة للحياة المركز الأول بين الكتب الأكثر قراءة على موقع أمازون 5، كان قد حاز شعبية كبيرة في بعض الأوساط العربية، وكانت مقاطعه على الإنترنت تُترجم إلى جمهوره من العرب وتحظى بمشاهدات كبيرة. وقد قال بنفسه في أكثر من مرة إنه مسرور من حجم متابعيه في العالم العربي، وليس هذا فحسب، بل إن بعض متابعيه المسلمين كانوا يكتبون تعليقات على مقاطعه عن انتظارهم خبر إسلامه وقناعتهم بأن هذا سيأتي عن قريب. في الواقع كانت علاقة بيترسون بالجمهور العربي الذي يعرفه من الشباب الذكور بالأخص قبل عامين من الآن علاقة جيدة، حتى جاء الطوفان وأحدث انقلابا كبيرا في شعبيته لعل بيترسون نفسه لم يتوقعه.
يسهل دائما على التناولات النسوية وبعض التغطيات الصحفية أن تُفسِّر سبب شعبية بيترسون قبل الطوفان بين العرب تفسيرا نقديا، قائلة إنه يقدم خطابا أبويا ذكوريا محافظا يدافع عن امتيازات الذكور، وإن آراءه المحافظة من الطبيعي أن تجد لها آذانا مُصغية في المجتمعات العربية الأبوية. ورغم حقيقة أن أفكار بيترسون المحافظة المؤيدة للأسرة والأبوة والأمومة والالتزام بأدوار الجنسين المعهودة، وخطابه المضاد للنسوية، قد لعبت دورا مهما في تشكيل شعبيته في العالم العربي، فإن هذا ليس السبب الأساسي لشعبيته. فعلى مدار السنوات السابقة كان هناك الكثير من المؤثرين الغربيين المحافظين الذين لم يجنوا نصفَ الشعبية التي حصدها بيترسون عربيا أو عالميا 6 7.
أما أحد الأسباب الرئيسية فكانَ توجيه خطابه مباشرة للرجال ومشكلاتهم. ففي سياق أوسع، كان العالم يتحول في العقود الأخيرة من اقتصاد التصنيع إلى اقتصاد الخدمات، ومن ثم أخذ الرجال يفقدون وظائفهم وقيمتهم المادية، ولم يعد أحد يهتم بمشكلاتهم التي تكثفت في العقد الأخير. تُشير الإحصاءات إلى أن الذكور منذ عام 2000 أصبحوا أقل حظا في التخرج في المدارس والجامعات مقارنة بنظرائهم من الإناث، كما تقلَّصت حصتهم من القوى العاملة، وصاروا يُشكِّلون نحو ثلثي نِسَب المنتحرين نتيجة اليأس.
وفي خضم تلك التحولات ظهرت حملات تستهدف المساس بحقوق الرجال الأساسية، على رأسها حملة Me Too التي شكَّلت علامة اجتماعية فارقة خلال العقد الماضي، وتركزت على بوح ملايين النساء على مواقع التواصل الاجتماعي بحوادث تعرُّضهن للتحرش أو الاعتداء من طرف الرجال، ثمَّ أخذ الأمر بعد ذلك مسارا أكثر جذرية وتطرُّفا 8. ففي وسط مباركة ما يُعرف باليسار الجديد والحركات النسوية، ظهرت أيديولوجيا جديدة اقتضت ضمنيا سحب حق من حقوق الإنسان بالنسبة للذكور، وهو الحق في ألا تُنتهك سُمعة الإنسان ويُشهَّر به دون محاكمة عادلة، والحق في أن يظل الإنسان بريئا حتى تثبت إدانته، وأصبح مجرد اتهام رجل بالتحرش من طرف سيدة دون انتظار الدليل سببا في فقدانه حصانته الإنسانية واغتياله المعنوي، إضافة إلى الخسائر المادية 9.
في ظل هذه التحولات نشأت تغيرات عميقة على مستوى الخطاب في العالم كله، فقد باتت مصطلحات أيديولوجية متحيزة جنسيا مثل الذكورة السامة تُستخدم وكأنها مصطلحات علمية، وبدأت قولبة الذكور في خانة المعتدين المحتملين وأصحاب الامتيازات. ومع ذلك، كانت أوضاع النسبة الأكبر من الذكور في العالم تتدهور نفسيا واقتصاديا على نحو تكشفه الإحصاءات، بينما ركزت الأيديولوجيا الجديدة على وضع الرجال في خانة أصحاب الامتيازات مقارنة بنظرائهم من النساء في طبقات بعينها، حيث ركزت النسويات على الرجال من أصحاب الامتيازات الذين لا يُشكِّلون أكثر من 20 من تعداد الرجال، وعمَّموا تجربتهم على كل الذكور.
لهذه الأسباب حين جاء جوردان بيترسون بخطابه الجديد وتوجه به إلى الشباب من الذكور، وعلى رأسه فكرة أنه يفهم معاناتهم الحديثة، فضلا عن انتصاراته المتكررة في المناظرات مع ممثلي التيار النسوي، صار يُلقَّب بـقاهر الصوابية السياسية، نظرا لجرأته على مواجهة الأيديولوجيا التقدمية السائدة إعلاميا رغم ما تعرَّض له من حملات تشهير وإقصاء. وقد استطاع الرجل أن يكسب الشعبية لدى أعداد غفيرة من الذكور الذين شعروا أنه قد ظهر مَن يُدرك أزمتهم الحالية، ومَن يقول لهم بوضوح وبالإحصاءات العلمية إن حياة الذكر في العالم الحديث باتت أمرا شديد الصعوبة. ومثلما كانت تلك هي بوابة جوردان لكسب جماهيره في العالم، فقد كانت جزءا من شعبيته بين الشباب من الذكور في العالم العربي.
الأمر الآخر هو أن خطاب جوردان المتعلق بالتنمية البشرية كان فريدا من نوعه. فعلى عكس مُروِّجي التنمية البشرية في العقود الماضية، كانت خلفية بيترسون بوصفه عالمَ نفس وأستاذا جامعيا قد منحته القدرة على تقديم محتوى مختلف لمتابعيه. وبخلاف مَن اشتهروا في هذا المجال، كان بيترسون يخبر مستمعيه بأن الحياة شديدة القسوة، وأنهم سيمرون بلحظات يتمنون فيها الموت. لا يَعِد جوردان مستمعيه بالسعادة، ولا يقول لهم انظروا في المرآة وقولوا لأنفسكم أنتم أقوياء، بل يُخبرهم بأن يحدّقوا كثيرا في أحزانهم وأفكارهم السلبية، وأن نهاية هذا التحديق ستكون نورا لا ظلاما 10. لقد استطاع جوردان أن يُشكِّل سمعة عند متابعيه مفادها أنه ذلك الرجل صاحب الهموم الذي يقول الحقيقة، ولا يقول ما يُرضي النخبة المثقفة أو المستمعين.
إن العالم في خطاب جوردان الخاص بالتنمية البشرية هو مكان شديد التعاسة، والخلاص الوحيد من ذلك هو تحمُّل المسؤولية. بخلاف رواد التنمية البشرية المعتادين الذين يبتسمون دائما ويقولون عبارات متفائلة عن النجاح وكيف يمكن لأي إنسان في العالم أن يحققه، وألا تلقي فشلك على شماعة الظروف، مثَّل جوردان نموذجا مختلفا في هذا المجال. إنه عالِم النفس والمفكر الذي عانى من الاكتئاب الحاد في شبابه وفي هرمه، وله تاريخ طويل مع تعاطي مضادات الاكتئاب، وعانى لسنوات من مشكلات الجهاز الهضمي والصدفية والشخير ورائحة الفم الكريهة على حد وصفه، ومع ذلك استطاع أن يحفر اسمه في عالم تنافسي للغاية ليصبح من الأكثر نجاحا بين رواد مهنته 11.
قد تبدو هذه الأشياء منفِّرة إذا ما التصقت برجل يتحدث عن التنمية البشرية، لكن ما حدث كان العكس تماما، وقد رأى العديد من الشباب صغار السن في بيترسون نموذجا طبيعيا يمكن الاحتذاء به، فهو يكتئب ويحزن، وتظل أحزان شبابه راسمة ظلالها على تقاسيم وجهه حتى الآن رغم كل ما حققه من نجاح. بخلاف أنه يتحدث عن كل شيء مع الشباب في مقاطعه بلغة فصيحة لا تخلو من تواصل مع المفردات والتعبيرات الجديدة، بداية من كيف تنظم جدول يومك التالي، وما الذي ينبغي إعداده على الإفطار من أجل يوم منتج وصحي، وصولا إلى القضايا الفلسفية المتعلقة بالإيمان وأصل الخير والشر والعدالة والطغيان.
في زيارتها للعالم العربي عام 2018، تفاجأت ليديا ويلسون، كاتبة وأكاديمية ناقدة لأفكار جوردان، من شعبيته في المنطقة، فقد وجدت حتى السائق الذي نقلها من مطار بيروت يحدثها عن الرجل وأفكاره، ووجدت كتابه 12 قاعدة للحياة قد نفد من مكتبات بيروت بسبب كثرة الطلب عليه 12. لكن في عام 2019 حدث أمر زعزع علاقة بيترسون بجمهوره العربي، إذ سحبت جامعة كامبريدج البريطانية زمالة جوردان بسبب صورة أخذها مع رجل يلبس قميصا كُتب عليه أنا فخور أنني مصاب بالإسلاموفوبيا، ومن ثم رأت الجامعة أن سلوك جوردان يتنافى مع التسامح بين الأديان ونبذ الكراهية 13. لكن الغريب هو أن جوردان سرعان ما زاد شعبيته بين العرب في أعقاب الحادثة بعد أن انخرط في حوارات مع شخصيات مسلمة، ولعل أكثرها تأثيرا كان حواره مع الداعية الإسلامي الشاب محمد حجاب عام 2021 بعنوان الإسلام وإمكانية السلام.
كان هذا الحوار نقطة فاصلة في علاقة جوردان مع جمهوره المسلم، حيث بدا جوردان فيه رجلا يسعى بجدية وراء الحقيقة ويريد إجابات عن أسئلة موضوعية، وقادرا على صناعة حوار فلسفي مُثمِر مع داعية مسلم كثيرا ما وُصِف بأنه أصولي. وفي التعليقات على الحوار حدث شيء نادر من نوعه، فقد تفاعل بعض جمهور جوردان من أقصى اليمين المسيحي مع بعض السلفيين من جمهور محمد حجاب على نحو مسالم للغاية وتبادلوا الكلمات الطيبة 14. ظهر جوردان إذن بعد هذا الحوار أمام جمهوره في العالم العربي والإسلامي بوصفه رجلا يستطيع الانفتاح على الدين الإسلامي ويريد فعلا مناقشته بصدق وموضوعية.
بقيَ الأمر على هذه الحال، وأخذ جوردان يربح المزيد من الشعبية بين العرب والمسلمين، حتى إنه زار محمد حجاب في مسجد ببريطانيا وسجَّل معه حلقة جديدة 15. وهكذا اقترب جوردان أكثر فأكثر من جماهير العالم العربي، وتُرجمت مقاطعه إلى اللغة العربية، وقد تابع الرجل تلك الشعبية المتنامية باستمرار، لكن على ما يبدو أنه تابعها مقتنعا بإمكانية أن يصبح رسول الحضارة الغربية لهؤلاء المسلمين كي يُخرجهم من الصورة السيئة التي يفكرون بها كما نسجها خياله الاستشراقي عنهم.
فجأة، أظهر جوردان وجهه الاستشراقي واضحا حين وجَّه رسالة للعالم الإسلامي أوحت بأن معرفته عنه مُتشكِّلة وفقا للسردية الغربية السائدة التي تفتقر إلى المعرفة الدقيقة. وفي هذه الرسالة، التي سبقت زيارة جوردان لمحمد حجاب في المسجد، تعامل جوردان مع جمهوره المسلم وكأنهم أطفال، وبدأ يقول لهم أيها الشيعة والسنة.. الشيعة ابحثوا عن صديق سني وراسلوه. السنة قوموا بالشيء نفسه، كما دعا المسلمين إلى التوقف عن اعتبار اليهود والمسيحيين أعداءهم.
رأى قطاع عريض من المسلمين في رسالة جوردان تعاليا واستشراقا. ولم يتوقف جوردان عند هذا الحد، بل بدأ في الحديث عن أمور سياسية في الشرق الأوسط، وبدا حينها أن الرجل لا يعرف تفاصيل المنطقة جيدا، فبينما ذكر اندهاشه من مشاهدة المسلمين لحلقاته التي يشرح فيها التوراة، وكيف أسعدته تعليقاتهم الإيجابية عليها، قال بعدها إن هذا هو المناخ الذي شكَّلته اتفاقات أبراهام للتطبيع التي أرست السلام على نحو غير مسبوق كما وصفها 16.
إن ما لا يفهمه جوردان هو أن أغلبية هؤلاء المعلقين المسلمين الذين يشاهدون حلقاته عن شرح التوراة معادون تماما لدولة الاحتلال وما تسميه بعض الأنظمة العربية بـاتفاقات السلام مع إسرائيل، لكن عقل جوردان المليء بالصور النمطية لم يُمكِّنه من فهم القضية الفلسطينية، وأنها لا تتضمن بأي حال كراهية اليهود، وأن العداء مع الدولة الصهيونية لا يعني بحال معاداة السامية.
ظهر جوردان أيضا غير متفهم للفرق الجوهري بين الأنظمة والشعوب في العالم العربي. ورغم أن تلك الرسالة تسببت في تآكل شعبيته العربية والإسلامية، فإن مقاطعه في الفلسفة وعلم النفس والتنمية الذاتية ظلت تحظى بمتابعات كبيرة في العالم العربي، كما أن زيارته لمحمد حجاب بعد ذلك أظهرت تواضعا ولهجة اعتذار عن رسالته السابقة باعتبار أنها محاولة غبية كان الهدف منها بدء الحوار فحسب 17. ثم جاء طوفان الأقصى وحرب الإبادة التي شنتها دولة الاحتلال على أهل غزة، ليرسم ملامح جديدة مختلفة كليا للعلاقة بين الجمهور المسلم الذي لعب دورا كبيرا في صعود بيترسون عالميا، وبين الرجل الذي أظهر كراهية أيديولوجية مفرطة لفلسطين وشعبها.
الحقيقة تحرق، تحرق المعتقدات البالية، والناس لا يحبون تبديد معتقداتهم البالية.
جوردان بيترسون في حوار إذاعي معه قبل سنوات
في رسالته للمسلمين عام 2022، التي وصفها العديد من متابعيه بالاستشراقية، قال بيترسون إن أفضل مكان للعثور على الشيطان هو بداخلك. إذا كنت تعتقد أن العدو الحقيقي هو قلب شخص آخر، فإنك لم تفكر طويلا بما فيه الكفاية. للمفارقة، بدا بيترسون مع انطلاق عملية طوفان الأقصى وكأنه هو الذي يحتاج إلى تلك النصيحة. لقد كان جوهر خطاب بيترسون عن رجال المقاومة أنهم الشيطان البربري الذي يهاجم الحضارة الأوروبية، وأن الفلسطينيين هم البرابرة الذين انتخبوا الشياطين. جسَّد جوردان في تلك اللحظة باختصار ما دعا المسلمين من قبل في رسالته الاستشراقية ألا يفعلوه.
في الفيلم الوثائقي صعود جوردان بيترسون الذي صدر عام 2019، تظهر لقطات وراء الكواليس لعالِم النفس في حياته، وقد رصدت تلك اللقطات لحظات لجوردان بدا فيها شخصا يعاني بشدة من نوبات عصبية يجتهد على نحو ملحوظ لكبتها، مثل اللحظات التي يصطدم فيها مع طلاب الجامعة المناوئين له فيظهر فيها بركان من الغضب المكتوم أسفل قشرة ضاغطة من محاولة التحكم في الذات أمام الكاميرات. في أحد تلك المشاهد ينطلق جوردان باتجاه فتاة تصدر أصواتا مزعجة لتمنعه من الحديث، ويكاد يترك العنان لغضبه المتصاعد، لكنه يتمالك نفسه في اللحظة الأخيرة مع حركات جسدية تظهر التوتر والانفعال الشديدين.
إن علاقة بيترسون بالإسلام وفلسطين لا تختلف كثيرا. هناك غضب بركاني واضح لدى جوردان تجاه الأمرين، وهو غضب أيديولوجي أكثر منه علمي، ويمنعه من التفكير النقدي في الروايات الاستشراقية السائدة عن الإسلام وشعوبه وعن فلسطين تحديدا، فقضايا المسلمين قضايا يسارية في نظره لا يتضامن معها إلا كارهو الحضارة المسيحية، وقد أوقع هذا جوردان في تناقضات جعلته يعاكس ذاته.
على سبيل المثال، في حواره مع نتنياهو عام 2022 18، وقف جوردان للمرة الأولى وكأنه تلميذ، فالرجل الذي اشتهر دائما بمعارضة الروايات السائدة والفحص النقدي للرؤى الأيديولوجية المعروضة عليه، ظل يستمع لأحاديث نتنياهو عن أن الإسرائيليين هم السكان الأصليون لفلسطين دون أن يعارضه ولو حتى بمحاولة استيضاح أو عرض رواية الطرف الآخر بجدية كما يفعل في بقية حواراته. إن جوردان الذي استبطن في رسالته الاستشراقية للمسلمين عام 2022 أن الصراع حول فلسطين ناتج عن تبعات الصراعات المتعصبة بين الأديان، هو ذاته الذي زار دولة الاحتلال ورافق جماعات يهودية إلى المسجد الأقصى في القدس الشرقية المحتلة في العام نفسه 19.
في هذه الزيارة، جلس بيترسون في مؤتمر أُقيم في الأرض المحتلة وألقى كلمة لشعب دولة الاحتلال لعله يلخص من خلالها السبب الحقيقي وراء كراهية الرجل لفلسطين أعتقد أن من الصحيح القول إن مصير العالم يعتمد على شعب إسرائيل. إنك تجذب الناس هنا بسبب ما تستطيع القيام به. إسرائيل تُبين لنا كيف تبدو المدينة المقدسة؛ لأننا نحتاج إليها. وحين جلس بيترسون، الذي كان يدعو المسلمين قبل ذلك إلى التخلي عن التعصب الديني، مع السفير الأميركي السابق لدى إسرائيل ديفيد فريدمان، الذي ساهم في نقل سفارة بلاده إلى القدس المحتلة وفي الاعتراف الأميركي بسيادة إسرائيل على الجولان السوري المحتل، كان نقاشهما دينيا للغاية حول الروايات التوراتية ودور إسرائيل بوصفها دولة قومية يهودية 20.
بخلاف أن جوردان يحتاج إلى دعم اللوبي الصهيوني في الغرب في ظل معاركه المشتعلة مع العديد من التيارات الثقافية، فإن موقفه من فلسطين موقف ديني بالأساس. إن إسرائيل المتطورة بالنسبة لبيترسون تُمثِّل النظام، والنظام بدوره يُمثِّل الذكورة في مفهوم الرجل الذي تحدث عنه كثيرا في كتبه، في حين يبدو أن المقاومة العربية تُمثِّل له الفوضى المدمرة، والفوضى بدورها مرتبطة بالأنوثة في كتاباته. إذا استخدمنا مفردات جوردان، فإسرائيل بالنسبة له على ما يبدو هي المقاعد المنظمة في المدارس، والقطارات التي ترحل في موعدها، والترسانة العسكرية المنضبطة المتطورة، في حين يُمثِّل المسلمون المقاومون في خياله أعداء فكرة النظام، والنظام كما شرحه من قبل في كتبه هو الذي يجعل كل شيء يسير وفق مراد الله، ومن ثم فالحرب هنا هي الحرب بين مراد الله ومراد الشيطان ولا يعرف بيترسون أن المقاومة الفلسطينية تحتوي على أديان وتوجهات مختلفة.
في أحد كتبه قال بيترسون عندما يتحدث الرجال مع بعضهم بأسلوب جاد، يظل ذلك التهديد المبطن بالاشتباك البدني حاضرا. وإذا كنت تتحدث مع رجل تظن أنه لن يعاركك تحت أي ظرف مهما كان، فإنك لن تُكِن له أدنى قدر من الاحترام 21. وهذا هو ما أفزع بيترسون من عملية طوفان الأقصى، أن هؤلاء الذين يصنفهم بيترسون في مرتبة أقل من البشر تجرَّأوا على أن يقفوا ويحاولوا انتزاع حقوقهم واحترامهم بالقوة. ما أراده بيترسون لهم هو أن يظلوا في خانة الأشخاص المهادنين الخاضعين الذين لا يناضلون من أجل الاحترام والحقوق.
لعل حقيقة مواقف بيترسون تجاه فلسطين والإسلام عموما، وتشكُّلها وفق الأيديولوجيا ومشاعر الكراهية لا وفق موقف علمي، تظهر من حواره الأخير الذي أشرنا إليه سابقا مع محمد حجاب. في هذا الحوار سأل حجاب بيترسون هل لو أثبت له أن الإسلام صحيح بالبراهين العقلية سيدخل فيه؟ وكانت إجابة بيترسون قبل حتى أن يُنهي حجاب سؤاله هي لا، وحاول بعدها أن ينسج مسوغا فلسفيا لموقفه العاطفي 22. إن القضية في هذه العبارة ليست رفض بيترسون للإسلام، وإنما أن رده لا يختلف عن رد أي عضو في جماعة دينية متطرفة، فهو فيلسوف وعالِم نفس ومع ذلك يعلن عن تعصبه الأعمى. فحتى لو تبين أمامه أن الفكرة الأخرى صحيحة بالدليل العقلي فسيرفضها، لأن الأمر له علاقة بمشاعره العميقة ضد الفكرة، وهي مشاعر غير قابلة للنقاش العقلي.
إن هذا هو عين ما كان ينتقده بيترسون عادة في خصومه، أنهم يستسلمون لسطوة الأيديولوجيا بدلا من التفكير العلمي والنقدي فيها. ولهذا السبب الذي أوضحه جوردان نفسه، فحتى لو أُقنِع عقليا في أي مناظرة حول فلسطين بحق المقاومة الفلسطينية في النضال لتحرير أراضيها، فسيظل موقفه ثابتا لا يتغير، لأن تلك المسائل بالنسبة له مسائل مشاعر وإيمان وهوية. وللمفارقة فإن جوردان كثيرا ما كال النقد العنيف للجماعات الثقافية المناهضة له باعتبارها تستند إلى فلسفة تقدم الهوية على الفرد وحرية تفكيره، وكان هو نفسه يقول إن هذا النوع من الفلسفات قاد إلى أبشع المذابح في التاريخ.
الآن، ودون أن يشعر، يشارك بيترسون في تبرير مذبحة مشابهة فاق عدد ضحاياها حتى الآن 33 ألف شهيد و75 ألف جريح؛ مذبحة ضد شعب يناضل منذ عقود من أجل تحرير نفسه من ربقة الاحتلال. ولعل أحدهم بحاجة إلى سؤال جوردان هذا السؤال لو أعلن العرب المهاجرون في كندا تشكيل دولة عربية إسلامية على الأراضي الكندية وطرد المواطنين الكنديين، هل في تلك الحالة سيُسمِّي مَن يرفعون عليهم السلاح مقاومين مدافعين عن الحضارة الغربية أم إرهابيين؟.
- | https://www.aljazeera.net/culture/2024/1/17/%d8%ac%d9%88%d8%b1%d8%af%d8%a7%d9%86-%d8%a8%d9%8a%d8%aa%d8%b1%d8%b3%d9%88%d9%86-%d9%85%d8%ab%d9%82%d9%81-%d8%a7%d9%84%d9%8a%d9%85%d9%8a%d9%86 | 2024-01-17T11:18:01 | 2024-05-06T10:36:34 | أبعاد |
|
35 | خسائر إسرائيل في جبهة لبنان.. من يصرخ أولا؟ | دخلت إسرائيل الحرب مع حزب الله بسقف تصريحات عالٍ، لكن الأهداف تراجعت تدريجيا، فما الذي خسرته إسرائيل جراء الحرب على جبهة لبنان قد يدفعها فعلا إلى هذا التراجع النسبي؟ | في الثامن من أكتوبرتشرين الأول 2023، انطلقت أولى صواريخ حزب الله تجاه إسرائيل، في إطار ما أطلق عليه الحزب معركة الإسناد لجبهة غزة التي اشتعلت فيها الحرب صباح السابع من أكتوبرتشرين الثاني 2023.
لكنّ جبهة الإسناد التي دخلت الحرب ضمن نطاق حذر ومتريث ووفق تصعيد منضبط من الطرفين، تحولت بعد عام كامل إلى مواجهة شبه مفتوحة برا وجوا، ولا تزال الحرب فيها عالقة تبحث عن أفق سياسي لا يبدو قريبا.
ولم يستعد سكان شمال إسرائيل حتى الآن ثقتهم في قدرة جيش الاحتلال على توفير الأمن، ولم يتمكنوا من العودة إلى مستوطناتهم. وفي استطلاع رأي أجراه مؤخرا معهد مأجار موحوت الإسرائيلي، عبّر 70 ممن تم إجلاؤهم من مستوطنات الشمال عن عدم رغبتهم في العودة إلى منازلهم، حتى إن توقفت الحرب الآن.
دخلت إسرائيل الحرب مع حزب الله بسقف تصريحات عالٍ، يصل إلى حد تدمير مقدّرات الحزب العسكرية وفرض منطقة خالية من السكان شمال الحدود الإسرائيلية، وتراجعت الأهداف تدريجيا حتى صرّح رئيس الأركان هرتسي هاليفي منذ أسبوع بأن اغتيال القيادات العليا للحزب يُعدّ كافيا لوقف الحرب.
فما الذي خسرته إسرائيل جراء الحرب على جبهة لبنان قد يدفعها فعلا إلى هذا التراجع النسبي؟
خلال عام من الحرب، تحولت منطقة الجليل -شمال إسرائيل- ذات الأهمية الإستراتيجية والأمنية إلى منطقة مهددة ورخوة أمنيا، بينما كانت تتمتع طوال ما يقرب من عقدين باستقرار أمني مقارنة بمنطقة غلاف غزة جنوبا.
تتميز الجليل بكونها منطقة مرتفعات وجبال عالية تعطي أفضلية في السيطرة الميدانية والتكتيكية، وتسمح بإنشاء قواعد عسكرية ومراكز اتصالات ومراقبة آمنة في قمم المرتفعات، كما تمثل أهمية خاصة للتراث الصهيوني والوعي القومي الإسرائيلي، وتتميز مستوطناتها بمكانة رمزية خاصة في مشوار تأسيس إسرائيل، باعتبارها موطن قدامى المحاربين والكيبوتسات البؤر الاستيطانية التي كانت تستقبل يهود الشام المهاجرين من لبنان وسوريا.
بيد أن الجليل الآن باتت منطقة مكشوفة أمنيا وطاردة للسكان، فقد اضطرت حكومة الاحتلال لتفريغ حوالي 28 مستوطنة من سكانها، وتعرّضت كافة المنشآت العسكرية والاستخباراتية فيها لنيران حزب الله بصورة أهدرت سمعتها الأمنية بشكل بالغ، مثل استهداف مقرّ الاستخبارات الإسرائيلية الرئيسي للمنطقة الشمالية في صفد، واستهداف مقر لواء غولاني -أهم ألوية النخبة الإسرائيلية العاملة في الشمال والذي يعرف بلواء رقم 1- في عملية دقيقة للغاية استهدفت تجمعا للجنود أثناء تناول الطعام.
ويذكر أن لواء غولاني تتبع له الفرقة 36 التي تقود محور الجهد الرئيسي للعملية البرية جنوب لبنان من بلدة راميا إلى عيترون.
فضلا عن ذلك؛ تسهم الحرب على جبهة لبنان، التي يطول مداها دون تحقيق أهدافها، في تعميق الشرخ الذي أحدثه طوفان الأقصى في العقيدة القتالية الإسرائيلية.
فقد تجنبت إسرائيل منذ تأسيسها الحروب الطويلة، واعتمدت مبدأ الحروب الخاطفة لتحقيق أهداف سريعة اعتمادا على التفوق التقني والاستخباري الذي بات يتعرض الآن لتساؤلات جوهرية عن مدى جدواه.
كما فشلت إستراتيجية الدفاع السلبي والقائمة على ثلاثية المساحات الآمنة، وقدرة اعتراض عالية للنيران، وقدرة المستوطنين على التحمل. فتعرضت الارتكازات الثلاثة لتحديات تضرب في صميمها.
خلال شهر واحد، منذ بدء العملية البرية على جنوب لبنان في 30 سبتمبرأيلول 2024، فقدت إسرائيل حوالي 95 جنديا قتلوا في مسرح العمليات، وأصيب أكثر من 750 ضابطا وجنديا، كما أُعطبت 38 دبابة ميركافا وأُسقطت 4 مسيرات إسرائيلية عالية التقنية من طراز هيرميس 450 وهيرميس 900.
لا تشمل هذه الأرقام خسائر الجبهة الداخلية نتيجة عمليات القصف المستمرة والتي تخضع للرقابة العسكرية ولا تظهر أرقامها الحقيقية، وهذا فضلا عن 12 ألف عسكري استقبلوا في المستشفيات منذ بدء الحرب، منهم 1500 أصيبوا مرتين بحسب بيانات مركز إعادة التأهيل.
وبالرغم من هذه الخسائر التي تعد قياسية بالنسبة لما اعتاده الجيش الإسرائيلي، فلم يتمكن في المقابل من التقدم بصورة كافية على الحدود، ولم يستطع السيطرة على قرية واحدة كاملة، وأيا ما يكن من نتائج مستقبلية قد تجعل الاحتلال في وضع ميداني أكثر تقدما، فهي لن تلغي حقيقة أن الخسائر في هذا الطريق كانت أكثر من المتوقع وأكبر مما تحتمله قدرات إسرائيل على المدى البعيد.
قالت صحيفة يديعوت أحرونوت الإسرائيلية إن تكلفة توسيع الحرب في الجبهة اللبنانية خلال شهري سبتمبرأيلول وأكتوبرتشرين الأول الماضيين قد بلغت نحو 9 مليارات دولار، وإن هذه النفقات الكبرى ستتطلب إعادة النظر في ميزانية إسرائيل مرة أخرى.
وتضم منطقة الشمال عدة مراكز اقتصادية وحيوية لإسرائيل، وبالأخص مدينة حيفا التي باتت في مرمى نيران حزب الله. وتمثل حيفا مركز ثقل تجاري وطاقوي بالغ الأهمية لإسرائيل، وإدخال حيفا وما حولها ضمن نطاق العمليات العسكرية يتسبب في خسارة ما يقرب من 150 مليون دولار يوميا، علما بأن منشآت الطاقة ومستوعبات الأمونيا والرصيف البحري في حيفا لم تدخل في بنك أهداف الحزب إلى اليوم.
كما قالت دراسة لمعهد أهارون للسياسة الاقتصادية إنه مع استمرار السيناريو العسكري الحالي على الجبهة الشمالية، فإن نفقات الحرب قد تزيد بقيمة 111 مليار شيكل حتى نهاية عام 2024 فضلا عن عجز بنسبة 6.8، لتكون نسبة الدين حوالي 71.6 في نهاية 2024.
كما بلغت خسائر قطاع السياحة في الشمال نحو 3.5 مليارات دولار إلى الآن، علما بأن للجليل -خصوصا الجليل الأعلى- أهمية سياحية كبيرة، إذ يقصده سنويا حوالي 1.5 مليون سائح.
وكلّف إخلاء مستوطنات الشمال البالغ عددها 28 مستوطنة -حتى فبرايرشباط الماضي- حوالي 613 مليون دولار بتكلفة توازي 163 ألف دولار يوميا، فيما خُصص نحو 1.7 مليار دولار لمواصلة تمويل إخلاء السكان حتى يوليوتموز 2024.
وقالت القناة 14 الإسرائيلية إن 6 آلاف طلب قُدمت للتعويض عن منازل تضررت بفعل قصف حزب الله للمستوطنات الشمالية بمعدل حوالي 150 صاروخا يوميا، مشيرة إلى أن طلبات التعويض كلفت خزينة الدولة نحو 4 مليارات دولار. وقدر بنك إسرائيل أن غياب 57 ألفا و600 شخص من طاقة العمل في مستوطنات الشمال يكلّف الاقتصاد الإسرائيلي نحو 63.2 مليون دولار أسبوعيا.
الجليل بات منطقة مكشوفة أمنيا وطاردة للسكان الجزيرةزراعيا؛ تعرّضت منطقة الجليل لخسائر فادحة، حيث قالت صحيفة يديعوت أحرونوت إنّ الخوف من نيران حزب الله يتسبب بتعطيل قدرة مزارعي الشمال على الوصول لبساتينهم، وقد بلغت الأضرار الناتجة عن ذلك نحو 500 مليون دولار.
في حين كانت محاصيل زراعية بقيمة 20 مليون شيكل 5.4 ملايين دولار لا تزال على الأشجار في الجليل الأعلى، لكنها تضررت كليا بسبب نقص الأيدي العاملة الذي بلغ نحو 90، كما تضررت صناعة الدواجن، وأغلق 24 مرعى حيوانيا كبيرا لأسباب أمنية.
وأضرار القطاع الزراعي تحديدا، لا تحتسب فقط في الميزان المالي، لكن ثمة أبعاد أكثر عمقا تتمثل في ضرب علاقة المزارع بالأرض وارتباطه بها، إذ ينظر إلى مزارعي الشمال تحديدا في إسرائيل باعتبارهم مثالا في الوعي القومي، وبأنهم وقاموا بدور هائل في حماية حدود الدولة وتمكين الاستيطان.
كذلك، فإن الطبيعة التضامنية لسكان الكيبوتس والمستوطنات الزراعية تجعل أية خسائر تلحق ببستان أو مزرعة خسارة جماعية يتحملها كافة السكان، لذلك فإن الخسائر الاقتصادية المتراكمة قد تؤدي على مدى زمني طويل إلى صعوبة في استعادة ترابط المستوطنين بالأرض وإعادة تماسك مستوطنات الجليل مرة أخرى.
ويضاف إلى ذلك الأعباء الاقتصادية التي يتحملها هؤلاء المستوطنون بعد نقلهم خارج الشمال، فعلى الرغم من محاولة الحكومة تعويضهم، فإن ثمة أضرارا أكبر من قدرة الحكومة على التعويض.
وفي استطلاع رأي أجرته شركة مايند بول خلال سبتمبرأيلول الماضي على 500 شخص ممن جرى إجلاؤهم من الشمال، قال 68 منهم إنهم لم يتلقوا أي مساعدة توظيف منذ بداية الحرب، وأفاد 32 بأنهم لا يجدون عملا حاليا ومهاراتهم المهنية تتآكل، وعبر 31 عن كونهم مستعدين نفسيا للعمل بفرض إتاحته.
ويبدو أن هذه الخسائر العميقة التي سيكون لبعضها تأثير طويل المدى، تركت آثارا واضحة على التصور السياسي الإسرائيلي بشأن الأهداف التي يمكن تحقيقها على جبهة الشمال، فبعد الرفض الإسرائيلي لأية تفاهمات بمرجعية القرار 1701 والحديث عن عدم صلاحيته للتطبيق، عادت الأمور مجددا للقبول بنفس القرار مما يعني تخفيضا لسقف التوقعات.
وعلى الرغم من تعمد الاحتلال الإبقاء على قدر كبير من الغموض بشأن أهداف العملية البرية، فإن شهرا كاملا من عملية واسعة تقودها خمس فرق من الجيش الإسرائيلي لا يبدو أن ما حققته حتى الآن من اختراقات محدودة يكافئ ما كان مُتوقعا عندما صرّح قائد المنطقة الشمالية أوري غوردين قائلا نحن مصممون على تدمير كل البنية التحتية، وإبعاد حزب الله من هنا، ومنعهم من شن أي هجوم ضدنا.
وبطبيعة الحرب وباعتبار فارق ميزان القوى، فإن الخسائر ليست فقط في جانب إسرائيل بكل تأكيد، إذ تضررت البنية التحتية لحزب الله ضررا بالغا منذ دخول الحرب مرحلة التصعيد الواسع بدءا من 17 سبتمبرأيلول الماضي. وأظهرت إسرائيل مقدرة استخباراتية عالية في لبنان، مقارنة بنظيرتها في غزة، واستطاعت توجيه ضربات قوية لمستودعات الصواريخ ومنصات إطلاقها.
وتدّعي إسرائيل أنها استطاعت تدمير ثلثي البنية الصاروخية لحزب الله، لكن من المرجح أن هذا يحمل قدرا كبيرا من المبالغة، غير أنها بالتأكيد أصابت جزءا مؤثرا من قدراته. هذا كله فضلا عن تصفية قيادات الصف الأول، وضرب منظومة الاتصال الداخلية لحزب الله في عمليات أظهرت احتمالية عالية لوجود اختراق داخل الحزب أو في محيطه القيادي يعمل لصالح إسرائيل.
ولعل الأهم والأعمق هو تهجير قرابة 100 ألف من سكان الجنوب، ويظهر أن عمليات التهجير ليست عشوائية، بل تستهدف إسرائيل بصورة أساسية مناطق تجمع الحاضنة الشعبية للحزب، مما يشكل ضغطا معنويا على مقاتليه، فضلا عن إعادة هندسة ديمغرافية لسكان لبنان قد تؤثر على قاعدة الحزب الاجتماعية بشكل مستدام إذا استمرت الأوضاع الأمنية على ما هي عليه لمدى طويل.
في الثامن من أكتوبرتشرين الأول الماضي، قال الأمين العام الحالي لحزب الله نعيم قاسم إن الحرب هي حرب من يصرخ، ونحن لن نصرخ، وستسمعون صراخ العدو، لكن المؤكد فقط هو أن الحرب في جبهة لبنان لم تصل نهايتها بعد، ولم تقترب منها، وكما هو معلوم أن خسائرها في لبنان هائلة، مدنيا وعسكريا، فإن خسائرها في إسرائيل أيضا كذلك. | https://www.aljazeera.net/politics/2024/11/4/%d8%ae%d8%b3%d8%a7%d8%a6%d8%b1-%d8%a5%d8%b3%d8%b1%d8%a7%d8%a6%d9%8a%d9%84-%d9%81%d9%8a-%d8%ac%d8%a8%d9%87%d8%a9-%d9%84%d8%a8%d9%86%d8%a7%d9%86-%d9%85%d9%86-%d9%8a%d8%b5%d8%b1%d8%ae | 2024-11-04T10:31:58 | 2024-11-05T13:49:46 | أبعاد |
|
36 | كيف أساعد شخصا يكره نفسه؟ | مَن منا لا ينتقد نفسه من حين إلى حين؟ بل أحيانا تكون العين النقادة مهمة للغاية في رحلة تطورنا. لكن أن يستمر الأمر ويطول، هذه هي المشكلة. فكيف تمد يد المساعدة لصديقك حين تجده عالقا في هذا الموقف؟ | قد يلجأ إليك صديقك بشكل متكرر بشكوى واحدة. أكره نفسي، قد تكون هذه خلاصة ما سيحكيه، سواء كان موقفا سيئا في العمل لم يتصرف فيه بحكمة، أو ملابس جديدة لم تناسبه وشعر بعدها بكراهية شديدة نحو ذاته. في حالات كثيرة يكون شعورا عابرا، مَن منا لا ينتقد نفسه من حين إلى حين؟ بل أحيانا تكون العين النقادة مهمة للغاية في رحلة تطورنا. لكن أن يستمر الأمر ويطول، فتجد أن حديث صديقك عن نفسه لا يدور سوى حول فشله وقبحه وشكله وضعف مهاراته، وأنه ببساطة يكره نفسه، كيف تمد يد المساعدة لصديقك حين تجده عالقا في هذا الموقف، يعرقل سير حياته ويؤثر على نفسيته ونفسيتك سلبا؟ في هذا المقال نقدم لك دليلا إرشاديا لمساعدتك ومساعدته.
من أجل التغلب على مشاعر كراهية الذات، من المهم بداية الإلمام بعلاماتها وفهم أسبابها ومحفزاتها، وإدراك أبعاد تأثيراتها العميقة التي تُحدثها في حياة المرء قبل وضع خطة للتغلب عليها وتطوير مهارات صحية لمواكبة الصعوبات التي تواجهنا. قد تلاحظ بعضا من العلامات التالية على صديقك أو أيا كان الشخص الذي تقلق حياله، تظهر في سلوكيات بسيطة أو كلام عادي يقوله بلا غاية 12.
في حال بدت هذه العلامات مألوفة على سلوكيات صديقك، أو حتى أغلبها، فربما تتساءل عن أسبابها، كيف انتهى المطاف بصديقك الذي تراه ذكيا وطموحا وخفيف الدم بأن يكره طبيعته وعالمه؟ لكنه سؤالٌ -على بساطته- صعب ومعقد. تتعدد الأسباب، وقد لا تكون مُلِّما بكل ما تعرَّض له خلال حياته وفي طفولته، لذا نستعرض سريعا بعضا من الأسباب المحتملة التي قد تؤدي بالمرء إلى كراهيته لذاته.
من المحتمل أن في رأسه صوتا ناقدا يلومه على كل فعل وحركة؛ ليس هذا الصوت علامة على الجنون، بل هو صوته الداخلي ومرشده. تخيل أن هذا المرشد درَّبه على مدار حياته -بما في ذلك تجاربه والأشخاص المحيطون به- على أن يحبطه دائما، ويقارن بينه وبين الآخرين، ويُملي عليه بأنه منبوذ ووحيد وليس كافيا، وأنه سيئ لدرجة أنه يخدع كل من حوله بقناع مزيف.
رغم أنه صوت داخلي، لكنه عدو لدود يعيق كل خطوة يتقدمها أو يتفِّه من شأنها. هذا الصوت يسوِّئ صورته عن نفسه، يخترعُ مبررات تدفعه إلى كرهها ولومها على الدوام. أحيانا يكون الصوت على النقيض من هذا؛ قد يكرر على البعض أفكارا عن عظمتهم وحقارة الآخرين، أو أنه مراقب وعليه دوما توخي الحذر من كل شيء وأي شخص. بما أنك لاحظت كراهية صديقك لذاته، فعلى الأرجح أنه يصغي ويطيع هذا الصوت دون مساءلته أو التشكيك فيه، ويسمح له بالتأثير على قرارته ونظرته لنفسه.
ما الذي يا تُرى يقوله له صوته؟ أشياء مثل مَن تظن نفسك؟، لن تنجح مهما حاولت، فاشل، وستظل فاشل، لماذا قد يحبك شخص مثل هذا؟ لا شك أن لحبه دافعا خفيا، لا تثق في أي شخص، الكل سيخيّب ظنك، أنت سمين بالفعل، لا بأس إن أكلت المزيد، أنت شديد القبح، هذه الملابس لن تجعلك أجمل.
مع تكرار هذه العبارات وما يُشبهها، تتحول الصور السلبية إلى حقائق لا يمكن تحليلها أو إعادة التفكير فيها فيصدِّقها في النهاية، ومع هذا التصديق تأتي الاعتقادات بأن المرء لا يستحق الحب أو النجاح، بل لا يستحق الطموح أو الأحلام، أو حتى مسامحة نفسه على زلَّاتها. كلما أنصت المرء إلى صوت الجلّاد داخله، تزيد قوته وتأثيره، ولا يتوقف عند الفشل أو الحب، بل قد يمتد الأمر إلى الأفكار الانتحارية، أو جنون الريبة والخشية من أي شعور لطيف وتجنبه والتشكيك فيه بعد الإنصات له فترات طويلة1.
العيش مع أبوين ناقدين، حتى وإن كان بغرض النصح والتقويم، يخلق شعورا مستمرا بضرورة تصحيح شيء ما، حتى بعد التقدم في العمر يظل أثر نقدهما حاضرا. كذلك في حال إن كان أحد الأبوين متوترا أو غاضبا أو عصبيا معظم الوقت حدَّ أن يضطر الطفل إلى الحذر دائما حوله كأنه يسير على قشر بيض. يعلِّمه هذا الوضع التلاشي في خلفية الأحداث، التهميش وإغفال مشاعره على حساب ما يشعر به الآخرون.
لا تتطور كراهية الذات من تلقاء نفسها، قد تنشأ من خوض تجارب صعبة أو أحداث صادمة مثل التحرش أو الاغتصاب، أو هجوم جسدي، أو حتى الخسارات الفادحة تترك في المرء انطباعا سيئا عن ذاته، وتقنعه بأنه مخطئ ومذنب. قد يبدأ في سؤال نفسه لماذا أنا بالتحديد؟، أو يشعر بالخجل من نفسك، أو الندم خاصة إذا شعر أن الخطأ خطؤه بطريقة ما. كذلك قد يتشكل من مصادر أقل وطأة، مثل التعرض للتنمر المستمر، أو نتيجة علاقة عاطفية سيئة عانى فيها من التلاعب والخداع من الطرف الآخر، قد تبدو لنا أحداثا عابرة بلا أهمية، لكن لها أثرا طويل الأمد على وعينا ونظرتنا إلى ذواتنا.
قد تنبع كراهية الذات من اضطرابات نفسية مثل الاكتئاب أو القلق. الاكتئاب، على سبيل المثال، قد يكون مصحوبا بأعراض مثل اليأس والشعور بالذنب والخجل؛ ما قد يدفع المرء إلى الشعور بضآلة نفسه ودونيتها دون سبب واقعي. لسوء الحظ، تمنع طبيعة الاكتئاب القدرة على استيعاب التحيز الذي تجريه الدماغ، بمعنى أن المرء لا يُدرك أن اكتئابه هو ما يدفعه للتفكير على هذا النحو. كلما أثرت حالة الاضطراب على الأفكار، تمتد النظرة السلبية عن الذات وتبسط نفسها لتتحول إلى واقع يؤدي إلى الوحدة والشعور بالغرابة وسط الآخرين.
انفوجراف
نحن لسنا أصواتنا، نحن لسنا الصور التي نتصورها عن ذواتنا. تغيب عنا هذه الحقيقة كثيرا، وننساق خلف الجلّاد بداخلنا. تحدّث مع صديقك أو شريكك حيال تصوراته عن ذاته، ذكِّره بأنه ليس عليه الثقة بتلك الأفكار لأنها فقط تنبع من داخله، على العكس. نظرتنا عن نفسنا منحازة تماما بسبب تجاربنا وخبراتنا، لذا عليه أن يستقبل صوته الناقد بصفته صوتا غريبا عنه، صوتا غير مرحَّب بوجوده لأنه تكوَّن من خلال أقسى تجاربه، لذا من الطبيعي أن يكرهه ويعيقه، ذكِّره بأن هذا الصوت ليس صديقه، بل عدوه اللدود، يتلاعب به ويعزله عن العالم، أو يضخِّم له أمورا غاية في البساطة، ويسلط الضوء على السلبيات التي تغذى بها طيلة حياته، لذا يفتفر إلى التوازن الذي يسعى إليه.
بالطبع كلنا عيوب، كلنا ارتكبنا أخطاء حمقاء، لكن رفض الانقياد مع الكلام السلبي الذي يأتي من داخلنا هو أولى خطوات تقبل الذات ومحاولة تحسينها وتطويرها قدر المستطاع. التعاطف مع الذات مهارة تُكتسب. أخبره بأن يرى نفسه كصديق، كيف سيُجيب صديقه إن أخبره بأنه فاشل؟ هل سيوافقه أم سيُثبت له بشتى الطرق أن الخطأ ليس فشلا وأن عليه ألا يصم حياته كلها بسبب يوم سيئ أو تجربة سلبية. التعاطف مع الذات وتعلُّم مسامحتها ضروري لتحقيق أهدافنا وعيش حياة راضية متحررة من قيود الماضي، أن ندخل التجارب بروح جديدة غير ملوثة بتصوراتنا عن ذاتنا التي نُغالي فيها. إن فكَّر في ذاته كصديق، وفَهِم مصدر كلامه السلبي عن نفسه، فسيتمكن من فصل وجهة نظره عن ذاته وواقعه23.
الامتنان وسيلة لنقدِّر ما بين أيدينا بدلا من إمعان النظر في ما فاتنا أو ما لم نحققه. الامتنان سلوك بسيط، لا يستغرق وقتا، مع ذلك فهو عميق الأثر على المدى البعيد. أظهرت تجربة أجراها الباحثون في جامعة ميامي أن تسجيل قوائم الامتنان بشكل أسبوعي أو يومي قد يغير حياتك، بعد 10 أسابيع من التجربة، شعر المشاركون بالرضا عن حياتهم، وبدؤوا في اتخاذ قرارات بسيطة لكن مؤجلة، مثل ممارسة أي رياضة خفيفة يوميا، أو اتباع حميات صحية، أو حظوا بتواصلٍ أعمق مع شركاء حياتهم.
ممارسة الامتنان ليست سحرا، بل هو بناء صغير تشيده لتستند إليه وقتَ أن يهاجمك اليأس والقنوط، وقت أن تظن أن حياتك سلسلة من الأحداث التعيسة، وقت أن تظن أن الرضا والسعادة لا يأتيان سوى في شكل تلبية الرغبات المادية وتحقيق الأهداف العظيمة. الامتنان هو وسيلة تفكك رغبتك في أن تكون إنسانا استثنائيا خارقا، أو أن نجاحك يتوقف على منصب ما أو السفر حول العالم. إنه رصدُ التفاصيل الصغيرة التي تدخل البهجة على قلبك، رصد حظك السعيد وتقديره حق قدره لأنه لا يحدث دائما. إن نصحت صديقك بممارسة الامتنان، قد يبدو لكما معا في البداية نشاطا مفتعلا ومبتذلا، لكننا ننسى الأوقات التي غمرتنا فيها السعادة، ولا نتذكر سوى تلك التي ترك فيها الألم بصمته علينا، لذا فإن الامتنان هو أداةٌ تستخدمها لتحسين نظرتك لذاتك وحياتك باطراد، إنه -كأي ممارسة أخرى- يظهر أثره بالاستمرار والتدريج4.
قد تغمرك المشاعر حين تسمع حديث صديقك عن نفسه، أو حين يشاركك ألمه، قد تشعر بالعجز وقلة الحيلة أمام كراهية صديقك لذاته، وتحتار كيف تساعده في مشكلة متجذرة لهذا الحد. لكن اقلب الموقف لحظة؛ ما الذي تحتاج إليه حين تكون في موقف شبيه بهذا؟ حين تمر بيوم سيئ، أو تشعر أنك بلا أهمية، أو أخطأت خطأ فادحا، أو رسبت في اختبار. تذكَّر التفاصيل الصغيرة التي أسعدتك، ربما سيخفف عنك إن تناول معك شخصٌ تحبه الآيس كريم، أو أرسل إليك أحدهم رسالة لطيفة مفاجئة، أو ربما لم يحدث أي شيء سوى أن صديقك المفضل أتى وجلس بجانبك في صمت.
لن تحلّ هذه المناورات مشكلة كراهية النفس، لكنها ستخفف من حدتها في تلك اللحظة. ذكر صديقك بأهميته لديك، والإنجازات الصغيرة التي نجح فيها، والظروف الصعبة التي مرّ بها وأعاقته ذات يوم لكنه -مع ذلك- تخطاها. إن كنت تعرفه حق المعرفة وخمّنت مصدر مشاعره، فذكّره بها وحللها معه. ربما لن يستجيب فورا لمنطق حديثك، لكنه على الأقل سيتذكر مكونات شخصيته، وأن الظروف شكلته رغما عنه. ربما سيستمر في الإنصات لصوته الداخلي، إلا أن المشتتات المؤقتة تمنحه السكينة برهة من الوقت، تحرره من فزع أن كل شيء يسير على نحوٍ مروع. فاجئه بهديةٍ صغيرة، أو أحضر له شيئا مفضلا له، ذكّره بالأوقات التي تصَرَّف فيها بحكمة، وأن زلة واحدة لا تُحدد قيمة حياته أو ذاته.
لن تتمكن سوى من لفت انتباهه إلى عاداته السلبية، مثل عجزه عن تصديق أي إطراء يتلقاه، دورك هو تنبيهه إلى أن تقبُّل المديح مهارةٌ يمكن إتقانها، وأنه لا يصدق أي ثناءٍ على شخصه بسبب كراهيته لذاته، لا لأن الثناء ليس صادقا. يتطلب تقبُّله تدريبا عمليا يتمثل في طريقة الرد عليها. ليس عليه أن يصدقها من كل قلبه، لكن انصحه بتجنب نفي الإطراء عن نفسه وتبريره، مثلا في حال أن مديره أخبره بأن عمله اليوم كان ممتازا، عليه أن يمنع نفسه من تحليل العبارة على ضوء نظرته لذاته، وأنه ليس جيدا في عمله بل كانت ضربة حظ، ما عليه قوله هو شكر مديره بلطف. مع الوقت، ومقاومة الرغبة في الرد برأي ناقد أو سلبي، سيُصدق المديح الذي يتلقاه.
إحدى العادات الإيجابية المهمة هي التوقعات المنطقية. نحن لا نولد وننتظر من أنفسنا أن نكون خارقين ومجيدين لكل المهارات ومشهورين، بل هي توقعات نبنيها خلال تجارب حياتنا. حين نُثقل كاهلنا بتوقعات عالية وشبه مستحيلة، قد نلوم أنفسنا حين لا تتحقق. قد يمر صديقك بهذا طوال الوقت، إما أن يحصل على كل شيء وينجز كل أعماله ويحقق كل أهدافه، وإما هو فاشل؛ قد يكون هذا العجز هو ما يُعيقه عن تقبل طبيعة الحياة، بأن يوما لك ويوما عليك، انصح صديقك بتكسير أهدافه إلى مهام صغيرة، وأن المشكلة ليست فيه، بل في التوقعات الثقيلة التي يفرضها على نفسه، والتي في الأغلب تُبنى على مقارنة نفسه بالآخرين على نحوٍ غير عادل25.
المشاعر معدية، لذا من المهم أن تتذكر -في حال لم تنجح في مساعدته، أو شعرت بالإرهاق- أن صحة صديقك النفسية ليست مشكلتك. عليك دعمه ومحبته ومساعدته قدر المستطاع، لكن لا تدع هذا الدعم يستهلك وقتك ومشاعرك. التعامل مع شخص يكره ذاته مرهقٌ للغاية، لذا لا تشعر بالذنب إن أردت توجيهه إلى مختص محترف مدرَّب على التعامل مع هذا النوع من المشكلات والأفكار السلبية، ربما تكون مبادرة لطيفة أن تحضر له قائمة من المعالجين النفسيين القريبين من منطقة سكنه، أو أن تتكفل بدفع ثمن أول جلسة تشجيعا له. لن يجعلك هذا صديقا سيئا أو غير داعم، على العكس، عليك أن تعتني بنفسك لأنك لن تكون الصديق الذي تريده إن كنت مرهقا أو إن تسلل كلامه إلى عقلك وبدأت تُشكك في أهميتك واحترامك لذاتك1.
| https://www.aljazeera.net/sukoon/2022/8/29/%d9%83%d9%8a%d9%81-%d8%a3%d8%b3%d8%a7%d8%b9%d8%af-%d8%b4%d8%ae%d8%b5%d8%a7-%d9%8a%d9%83%d8%b1%d9%87-%d9%86%d9%81%d8%b3%d9%87%d8%9f | 2022-08-29T07:03:47 | 2024-06-06T11:51:40 | أبعاد |
|
37 | التجنيد والجيش الإسرائيلي.. شرخ وسعه الطوفان | من المتوقع أن يتسبب إعادة فتح ملف تجنيد الحريديم وتحقيق مبدأ “جيش الشعب” في زيادة الشرخ المجتمعي، وارتفاع حدة الاستقطاب بين شرائح المجتمع الإسرائيلي. | ما زالت آثار طوفان الأقصى تحفر في بنية النظام الإسرائيلي وتوسع شرخه، وواحدة من هذه الشروخ الأساسية متعلقة بمسألة التجنيد، قد يبدو للناظر من بعيد أن الجيش الذي قاتل على أربع جبهات هو بكامل عافيته، لكن منطق الشروخ يعمل ببطء.
لقد بنيت النظرية الأمنية الإسرائيلية على مبدأين أساسيين، وهما الثالوث الأمني الإنذار المبكر، الحسم، الردع، وكذلك جيش الشعب، والذي يمكن تجسيده من خلال فرض التجنيد الإجباري على جميع الإسرائيليين، فيما ذهب قادة الجيش الإسرائيلي في العقدين الأخيرين إلى الاعتماد على التكنولوجيا الحديثة وتبني مفهوم جيش صغير وذكي، لكن أحداث حرب طوفان الأقصى وما أفرزته من تحديات أعادت من جديد الجدل الداخلي الإسرائيلي حول المفاهيم الأمنية السائدة وفي مقدمتها جيش الشعب وجيش صغير وذكي.
مع امتداد الحرب لأكثر من سنة وتراكم الخسائر البشرية في الجيش الإسرائيلي، برزت الحاجة إلى تجنيد جميع فئات المجتمع الإسرائيلي، بمن فيهم الحريديم المُعفَون من التجنيد بذريعة عملُه توراتُه، ليصبح الجيش الإسرائيلي فعلا هو جيش الشعب، جميع شرائح الشعب وليس فقط شريحة العلمانيين. وفي الوقت ذاته تجدد الجدل حول ضرورة زيادة عدد الجيش وعدم الركون بشكل كامل للتكنولوجيا. من هنا برز السؤال الرئيس لهذه المقالة وهو ما تأثيرات حرب طوفان الأقصى على المفاهيم الأمنية الإسرائيلية السائدة؟ وما تبعات السعي إلى زيادة عدد أفراد الجيش بواسطة تجنيد الحريديم؟
مرّ موضوع تجنيد اليهود المتدينين الحريديم في الجيش الإسرائيلي بعدة مراحل منذ نشأة الكيان الصهيوني وحتى ما بعد حرب طوفان الأقصى، فمن القوائم المعتمدة مرورا بقرارات المحكمة العليا وقانون طال وصولا إلى السابع من أكتوبر، ففي عام 1948 وقبل الإعلان عن إنشاء الكيان الصهيوني وافق رئيس الوزراء الإسرائيلي دافيد بن غوريون على طلب الحزب الممثل للحريديم أغودات يسرائيل، والمتمثل بعدم تجنيد أعضاء المدرسة الدينية المدرجين في القوائم المعتمدة والمقدر عددهم بـ400 شخص، المتفرغين لدراسة التوراة تحت شعار عمله توراته. في عام 1958 تضمنت ترتيبات الإعفاء تأجيل الخدمة العسكرية بحيث يتم تجنيد طلاب المدارس الدينية الذين يتركونها وهم تحت سن 25، بينما يتم تجنيد الذين يتركونها بين سن 25-29 لمدة ثلاثة أشهر، والطالب الذي يترك المدرسة الدينية فوق سن الـ29 يعفى من الخدمة.
أسهم هذا الترتيب في ارتفاع أعداد طلاب المدارس الدينية المعفين من الخدمة العسكرية، ما أثار حفيظة منظمات المجتمع المدني التي دعت إلى المساواة بالعبء لجميع أفراد المجتمع الإسرائيلي، وتطبيق مبدأ جيش الشعب ليشمل جميع شرائح المجتمع، فتم تقديم عدة التماسات للمحكمة العليا الإسرائيلية، من بينها استئناف تم تقديمه عام 1988، فحكمت العليا بأن وزير الدفاع الإسرائيلي يُمنح هامشا واسعا من السلطة التقديرية لمنح الإعفاء لأسباب أمنية، ما دام لا يوجد ضرر فعلي للأمن.
أنشأ وزير الدفاع الإسرائيلي إيهود باراك عام 1999 لجنة برئاسة القاضي تسفي طال لفحص الترتيب القانوني المناسب في مسألة تجنيد طلاب المدارس الدينية. أوصت اللجنة بمنح طالب المدرسة الدينية من سن 23 عاما فصاعدا سنة اتخاذ القرار، حيث يمكنه، في نفس الوقت الذي يدرس فيه بالمدرسة الدينية، الدراسة والبحث عن عمل دون فقدان مكانته بوصفه شخصا عمله توراته، وبعد ذلك يمكنه أن يختار ما إذا كان سيواصل الدراسة في المدرسة الدينية، أو الالتحاق بالجيش للخدمة النظامية، أو الاختيار في أحد الطريقين المخصصين له الخدمة العسكرية المختصرة أو الخدمة المدنية.
في أعقاب تقرير اللجنة، تم إقرار قانون طال عام 2002، قانون تأجيل الخدمة لطلاب المدارس الدينية الذين ينطبق عليهم عمله توراته، نفذ القانون فكرة سنة القرار بين سن 22 و23، وإنشاء بديل الخدمة المدنية كبديل للخدمة العسكرية النظامية والاحتياطية لخريجي المدارس الدينية الذين تم إعفاؤهم من التجنيد لمدة أربع سنوات متتالية على الأقل. حاول القانون خلق توازنات من شأنها تخفيف الضرر الذي يلحق بقيمة المساواة من خلال تعزيز الإشراف والفحص الدوري لموضوع الإعفاء، ومن خلال تقديم حوافز للخروج من المدارس الدينية وتوزيع أكبر لعبء الخدمة.
ومع ذلك، فشل القانون عمليا في عكس اتجاه الزيادة في عدد المستفيدين من الإعفاء. كما تبين أن إطار الخدمة المدنية الذي تم تطبيقه غير فعال، وبقي الشعور بعدم المساواة على حاله، ما عزز من موقف الأحزاب العلمانية الداعية لـالمساواة بالعبء مثل شينوي ويش عتيد، وزاد من عدد مقاعدها في انتخابات 2003 وكذلك 2013. علاوة على ذلك، فإن المعركة القانونية حول الإعفاء من التجنيد لم تنتهِ بعد، وتلخصت إلى حد كبير في الجهود المبذولة للهجوم على دستورية قانون طال، وبالفعل قُدِّمت عدة التماسات ضد قانون طال بواسطة حركات مثل حركة جودة الحكم، لكن العليا لم تتجاوب مع هذه الالتماسات ومددت العمل بالقانون.
يُعتبر قانون طال بمثابة تغيير لأول مرة في الاتجاه، وكان يهدف، من ناحية، إلى تثبيت الإعفاء من الخدمة، ومن ناحية أخرى زيادة عدد المجندين من المجتمع الحريدي. تجنب القانون إلغاء ترتيبات الخدمة المؤجلة، لكنه أنشأ طرق تجنيد وأهداف تجنيد مصممة لتحقيق معدل أعلى من تجنيد الحريديم في الجيش، ومع ذلك بقيت معدلات التجنيد بين الحريديم منخفضة.
مع مرور الوقت زاد اعتماد الجيش على التكنولوجيا، ما قاد إلى ازدياد الاعتماد على الجيش النظامي وقلّت الحاجة إلى الاحتياط، هذا انعكس على أرض الواقع بانخفاض نسبة التجنيد، ففي عام 2006 انخفضت نسبة الملتحقين بالتجنيد ممن أعمارهم 18 عاما إلى 50 من الذكور والإناث، وكان من المتوقع زيادة هذه النسبة في السنوات اللاحقة مع ازدياد نسبة العرب والحريديم.
أسهمت عدة عوامل في انخفاض النسبة، من بينها ما هو اجتماعي واقتصادي وسياسي، فقد تراجعت الدافعية للقتال نتيجة تراجع الإحساس بوجود خطر وجودي على إسرائيل، لكن من ناحية أخرى ارتفعت نسبة المتجندين للجيش بـ16 منذ بداية التسعينات إلى عام 2011، فقد حصل تزايد في أعداد الجنود المفترض تجندهم نتيجة زيادة أعداد السكان، وذلك بسبب الهجرة في التسعينات وخصوصا من الاتحاد السوفييتي أغلبهم علمانيون وكذلك زيادة نسبة المواليد.
قبلت العليا عام 2007 أحد الالتماسات المقدمة لإبطال القانون باعتباره غير دستوري، حيث أشارت المحكمة إلى إخفاقات عديدة في آلية الخدمة المدنية، وفشل آلية السنة الحاسمة في أن تؤدي إلى زيادة فعلية في عدد الحريديم العاملين في الخدمة العسكرية أو في الخدمة المدنية. إلا أن المحكمة أوقفت نفاذ بطلان قانون طال لإتاحة الفرصة للمشرع للاستعداد للواقع القانوني الجديد، وهذا ما دفع النظام السياسي إلى صياغة قانون بديل، فتم سن قانون جديد عام 2014 يمنح الحريديم بموجبه الاختيار بين الخدمة العسكرية 24 شهرا أو الخدمة المدنية 18 شهرا أو طلب الإعفاء على أن يتم تحديد عدد من يتم إعفاؤهم، وسيتم فرض عقوبات فردية على الحريديم الذين لا يتناسبون مع أحد هذه المسارات، بما في ذلك الغرامة والعقوبة الجنائية وإلغاء المزايا الاجتماعية.
لكن حكومة بنيامين نتنياهو المتحالفة مع الحريديم قامت عام 2015 بتغيير الترتيب الذي تم تأسيسه في عام 2014، ومن وقتها يتم تمديد العمل بالقانون الذي يمنح وزير الدفاع صلاحية تأجيل الخدمة للحريديم، إلى أن تقدمت حركة جودة الحكم عام 2017 بالتماس للعليا التي قبلته لتطبيق مبدأ المساواة في منح الإعفاء، ومنذ ذلك التاريخ والحكومات الإسرائيلية المتعاقبة تحاول سن قانون يتضمن المساواة بالعبء، لكن التحالفات السياسية التي عقدتها أحزاب الحريديم بالكنيست تحول دون ذلك.
دار النقاش داخل المجتمع الإسرائيلي حول مفهومَي جيش الشعب في مقابل جيش مهني، بمعنى أن يكون هناك جيش يتجند فيه كل فئات الشعب، في مقابل من دعا إلى تشكيل جيش مهني صغير وذكي، للتغلب على عدم تجنيد الحريديم. بشكل عام، صحيح أن عدد المتجندين للجيش كان يزيد من سنة لأخرى بسبب زيادة عدد السكان.
لكن فعليا كانت نسبة المتجندين بالمقارنة مع عدد السكان قد تقلصت، وهذا ما دفع للتفكير في بدائل لنظام التجنيد القائم في إسرائيل، والذي يصلح أن يطلق عليه نظام هجين يجمع ما بين الخدمة الإلزامية والانتقائية من خلال إعفاء الحريديم، فدعا البعض إلى تبني نموذج التجنيد الإلزامي الانتقائي الرسمي بحيث يتم انتقاء المنتسبين، فيما دعا آخرون إلى نموذج تجنيد المتطوعين all-volunteer force، لكن بقي التيار السائد الداعي للحفاظ على النموذج القائم للتجنيد الإلزامي مع تعديله من أجل الوصول إلى صيغة المساواة بالعبء.
ونتيجة للإحساس بعدم وجود خطر وجودي على إسرائيل، تم تقصير مدة التجنيد في الجيش عام 2015 من 36 شهرا إلى 32، وخلال عام 2016 اتخذ الكنيست قرارا بتقصير المدة بحلول عام 2020 لتصبح 30 شهرا، لكن في عام 2022 تم تأجيل التقصير إلى عام 2024، وبقيت مدة التجنيد من يوليو 2020 كما كانت سابقا 32 شهرا. فقد أعلن الجيش أن تقصير المدة إلى 30 شهرا سيقود إلى نقص في عدد الجنود بمقدار 2000 جندي. يمكننا القول إن الحافز الأساسي للتفكير بتبني نماذج بديلة للتجنيد وتقليص مدة الخدمة جاء للتغلب على عدم تجنيد الحريديم، لكن جاء السابع من أكتوبر ليفرض على الجميع الحاجة إلى تجنيد الحريديم.
حسب القانون الإسرائيلي، يُلزم كل من وصل إلى سن 18 عاما بالخدمة العسكرية، توجد إحصائيات رسمية لمن وصلوا لسن 18، لكن لا توجد إحصائيات رسمية لتوزيع السكان بحسب الانتماء حريديمعلمانيين، لذلك توجد إحصائيات تقديرية لظاهرة عدم تجند الحريديم.
بلغت نسبة الذين لا يتجندون بالجيش المتهربين من الخدمة تحت ذريعة عمله توراته عام 1980 حوالي 3.7، ارتفعت إلى 4.6 عام 1990، واستمرت بالارتفاع عام 1996 إلى 6.7، وزادت في عام 1999 إلى 7.8، و9 عام 2000، لتصل في عام 2007 إلى 11. كما نلاحظ التزايد في نسبة المتهربين من الخدمة على مر السنين بصرف النظر عن سبب التهرب، ففي عام 1980 كانت النسبة 12.1 ممن يجب عليهم التجنيد، ارتفعت عام 1990 إلى 16.6، وفي عام 2002 إلى 23.9. 4 منهم تم إعفاؤهم بسبب السكن خارج البلاد، و3 بسبب وجود ملف جنائي له، و2.5 بسبب الإعفاء الطبي.
وفقا لبيانات الجيش الإسرائيلي، تم تجنيد 898 خريجا من التعليم الحريدي في عام 2010، وفي عام 2013 تم تجنيد 1,972 خريجا حوالي 12.5 وحوالي 24 من الحريديم، وفي عامي 2017 و2019 لوحظ انخفاض في عدد المجندين إلى 1,374 و1,222 فقط على التوالي نقص بحوالي 11، وهو معدل استمر في الانخفاض على مر السنين 2020-2021 مع حوالي 1,200 مجند حريدي حوالي 10. ولا يزال تجنيد الحريديم لا يحقق أهداف التجنيد المحددة على مر السنين.
نجد أن حوالي نصف المعفين من الخدمة كانوا على أساس توراته عمله. حسب إحصائية العام 2022 يوجد حوالي 150 ألفا ينطبق عليهم قانون التجنيد ممن بلغوا سن 18، منهم 76,800 ذكور منهم 52,600 يهودي و73,300 إناث منهن 50,400 يهوديات. متوسط نسبة التجنيد في أوساط الإناث يصل إلى 55، ونسبة اللواتي يتم إعفاؤهن يصل إلى 45. متوسط نسبة التجنيد في أوساط الذكور 68، ومن يتلقون إعفاء من التجنيد نسبتهم 32. أسباب الإعفاء تتراوح ما بين توراته عمله، ووضع نفسي، ومدان جنائي، ووضع طبي، ومسافر للخارج.
أكبر نسبة من الإعفاء تذهب إلى توراته عمله، في عام 2020 بلغت النسبة 16.4، وفي عام 2021 بلغت 16.5، لترتفع في عام 2022 وتصل إلى 18.4. المعفون على أساس الحالة النفسية عام 2020 بلغت نسبتهم 8.5، انخفضت عام 2021 إلى 7.5، واستمرت في الانخفاض عام 2021 إلى نسبة 6.5. أصحاب السجل الجنائي بلغت نسبتهم عام 2020 ما يقارب 3.5، انخفضت عام 2021 إلى 2.8، وفي عام 2022 إلى نسبة 2.4. أما المعفون على أساس الملف الطبي فبلغت نسبتهم عام 2020 حوالي 2.2، انخفضت في العام 2021 إلى 1.9، ونفس النسبة عام 2022. المسافرون للخارج بلغت نسبتهم عام 2020 حوالي 2.4، وعام 2021 حوالي 2.5، وعام 2022 نفس النسبة.
عام 2019 بلغ عدد المتجندين من الحريديم1,402، وعام 2020 بلغ عددهم 1,663، وعام 2021 كان عددهم 1,721، فيما تقدم للتجنيد من الحريديم بعد السابع من أكتوبر وحتى نهاية شهر فبراير 2024 حوالي 4 آلاف حريدي أعمارهم فوق 26 سنة، قرر الجيش أن 3,120 منهم غير صالحين للتجنيد لأسباب عدة في مقدمتها الوضع الصحي، ومن الـ880 الذين وجد أنهم صالحون للتجنيد خدم منهم فعليا 600 حريدي. ومن بداية الحرب وحتى أبريل 2024 تجند ممن هم تحت سن 26 فقط 540، وفي نفس الفترة أعفي من التجنيد 66 ألف تحت بند توراته عمله.
يوجد تصور سائد أن الحريديم بشكل عام لا يخدمون بالجيش لأسباب دينية، وهذا التصور بحاجة لتدقيق من ناحيتين، أولهما أن التيار الحريدي عبارة عن تيار واسع يضم عدة أحزاب ومدارس فكرية، منها ما هو مُعادٍ للحركة الصهيونية ومناقض لدولة إسرائيل لأنها لا تحكم بالشريعة التوراتية، كحركتَي ناطوري كارتا وساتمار، وهؤلاء جميعهم لا يخدمون بالجيش من منطلقات دينية بحتة، فمن وجهة نظرهم هذا جيش علماني لا تجوز الخدمة به. الناحية الثانية التي يجب أخذها بالاعتبار أن هناك أحزابا حريدية صهيونية مثل أغودات يسرائيل أسهمت في بناء دولة إسرائيل، وتشارك في إدارة مؤسسات الدولة والنظام السياسي، كما شاركت في المجهود الحربي قبل قيام دولة إسرائيل، حيث انتمى معظم أفرادها للميليشيات الصهيونية كمنظمة ليحي، وعندما أقيم الكيان الصهيوني كانوا يخدمون بالجيش، لكن تم استثناء 400 فقط منهم في البداية للتفرغ لدراسة التوراة. هذا التيار لا يخدم معظمه بالجيش توجد نسبة بسيطة تخدم لأسباب سياسية واقتصادية واجتماعية.
أجرى بعض الباحثين الإسرائيليين دراسة مسحية تهدف للبحث في دوافع امتناع الحريديم عن الخدمة بالجيش. تتضمن الدراسة بيانات تم جمعها من نهاية عام 2020 حتى نهاية عام 2021، تُبيّن الدراسة أن حوالي ربع الشباب الحريدي 25 يريدون التجنيد في الجيش الإسرائيلي، اكتشفت الدراسة وجود فجوة كبيرة بين الرغبة في التجنيد وبين الاستعداد العملي للتجنيد، فعلى أرض الواقع كان حوالي 10 فقط يتجندون بالجيش.
رصدت الدراسة وجود عدة محفزات ودوافع يستخدمها الجيش لحث الحريديم على الخدمة العسكرية، من بينها دافع قيمة الخدمة الرغبة في المساهمة في البلد، والشخصية الفردية الرغبة في اكتساب مهنة أو التقدم في الحياة، والدافع المدني تصور الخدمة كواجب مدني. وقد استنتجت الدراسة أن الحريديم الذين لا يرغبون في التجنيد هم أقل استجابة لهذا التحفيز ولهذه الدوافع، فقد سادت الدوافع السلبية التي تمنع الشباب الحريديم من التجنيد، وفي مقدمتها الدافع الديني السلطوي الخوف من ردة فعل الحاخامات الرافضين للخدمة، والاجتماعي الخوف من النبذ الاجتماعي في المجتمع الحريدي، والدافع الشخصي الخوف من التكيف مع البيئة الجديدة والانهيار.
طوّر الجيش الإسرائيلي على مر السنين برامج تتكيف مع المجندين الحريديم أثناء محاولته تسخير عدد من الدوافع الرئيسية لتشجيعهم على الخدمة، ميزت البرامج بين مسارين رئيسيين للتجنيد، مسار قتالي حيث تم التركيز على خدمة أمن الدولة، والمسار المهني التكنولوجي، الذي تم التركيز فيه على الدوافع الاقتصادية المهنية واكتساب مهنة للمواطنة.
ومن أجل تهدئة الخوف من التجنيد الإجباري، أكد كلا المسارين على الحفاظ على أسلوب الحياة الحريدي، مع ضمان بيئة مناسبة للجنود الحريديم، ودون التخلي عن دراسة التوراة ومراعاة ممارساتهم الدينية. لذلك نجد بعض الوحدات العسكرية المخصصة للحريديم ويشرف عليها الحاخامات تحرص على اتباع تعاليم التوراة، ككتيبة نيتسح يهودا.
كمؤشر على أهمية خوف الحريديم على الهوية الذاتية والذوبان في المجتمع العلماني نتيجة للخدمة بالجيش، يمكننا الاستشهاد بما توصلت له إحدى الدراسات الإسرائيلية التي تشير إلى أن من بين الشباب المتدينين الذين تطوعوا للخدمة بالجيش حوالي 70 منهم لم يعودوا يعرّفون أنفسهم على أنهم حريديم في وقت التجنيد، بمعنى أنهم تخلوا عن نمط الحياة الحريدي، وأصبحت الخدمة بالجيش أداة لبعض الشباب الحريدي للتهرب من نمط الحياة المتزمت الذي تفرضه عليهم التعاليم الحريدية. لذلك، وحتى يُهدّئ الجيش مخاوف المجتمع الحريدي وكذلك الحاخامات، قام بالإعلان عن البدء بإنشاء لواء الحشمونائيم المخصص للحريديم، حيث يجري بناء بنية تحتية وتشكيل إدارات تتلاءم مع نمط حياة الحريديم.
برز النقص في القوة البشرية بالجيش الإسرائيلي عقب طوفان الأقصى، فبحسب تقرير صادر عن الجيش الإسرائيلي تسببت الحرب بسقوط العديد من القتلى والجرحى الإسرائيليين، فقد سقط 794 جنديا منذ 7 أكتوبر 2023، منهم 370 فقط خلال الحرب في قطاع غزة، وأصيب 5,346 جنديا 4,605 في غزة، في حين انتهى الأمر بـ11,944 جنديا في غرف الطوارئ بالمستشفيات.
اهتز مفهوم جيش الشعب بشدة عقب طوفان الأقصى، حيث تقتصر التضحية على شريحة من المجتمع الإسرائيلي دون غيرها. فعليا، يعاني الجيش من نقص في العدد لا يقل عن 7,500 مقاتل وفي بعض التقديرات 10 آلاف بعدما تم تمديد خدمة جنود الاحتياط إلى الحد الأقصى، فالجنود منهكون ولا يحصلون على تغطية حكومية اقتصادية مناسبة، فقد أكمل معظم الجنود بالفعل 150 يوما احتياطيا، ومن ثم هناك نقص ظاهر وتغيب من شريحة من جنود الاحتياط عن الالتحاق بوحداتهم، حيث تشير بيانات الجيش لانخفاض يصل إلى 25.
بناء على ذلك، يطالب الجيش الإسرائيلي وللتغلب على النقص في القوة البشرية بتغيير القوانين من أجل تكييف الوضع مع احتياجاته، وذلك من خلال تمديد الخدمة الإلزامية من 32 شهرا إلى 36 شهرا، ومن ثم زيادة عدد الجنود، وأيضا لتوفير أيام الاحتياط المكلفة والمرهقة للنظام، ومن جهة أخرى لا بد من رفع سن الإعفاء من الاحتياط بمقدار خمس سنوات من 40 إلى 45، ومن هنا برزت الحاجة إلى تجنيد الحريديم، الهدف السنوي الذي تم قياسه بواسطة الجيش اعتبارا من أغسطس 2024 والذي تم تحديده هو 4,800 جندي حريدي، ومن المشكوك فيه جدا أن يتم تحقيقه، في الربع الأول تم تجنيد 900 حريدي من أصل 1,300 هدف. وتم إصدار 1,000 أمر إضافي من أصل 7,000 أمر بها وزير الدفاع السابق يوآف غالانت.
طلب الجيش تغيير قانون الخدمة العسكرية من أجل تمديد الخدمة الإلزامية وكذلك قانون الخدمة الاحتياطية للسماح بمذكرات قانون التجنيد على نطاق واسع، فقد طلب التمديد من 32 إلى 36 شهرا، وهذا يعني مضاعفة العبء الواقع على الجنود بمقدار 2.3 ضعف الوضع القانوني اليوم يسمح باستدعائهم لمدة 54 يوما احتياطيا على مدى 3 سنوات، أي 18 يوما في المتوسط سنويا، ومضاعفة العبء على الضباط يمكن استدعاؤهم لمدة تصل إلى 70 و84 يوما في السنة، على التوالي، لمدة 3 سنوات، أي بمتوسط 23 و28 يوما في السنة، على التوالي.
اعترض بعض السياسيين الإسرائيليين على الرقم المستهدف 4,800 لأنه لا يلبي احتياجات الجيش، فقد أعلن رئيس لجنة الخارجية والأمن بالكنيست يولي أدلشتين بأنه قد أبلغ وزير الدفاع كاتس بأن هذا الرقم غير مقبول، وذلك بعدما أصدر كاتس أمرا بتجنيد 3 آلاف حريدي، في هذا السياق ونتيجة لامتناع الحريديم عن الالتحاق بالخدمة تم إصدار 1,126 مذكرة اعتقال بحق الحريديم. اضطر كاتس للالتزام بأمر المحكمة العليا الصادر في 25 يونيوحزيران 2024، والذي ينص بشكل صريح على أنه يجب على الجيش ممارسة سلطته فيما يتعلق بالتجنيد على ضوء مبدأ المساواة، بما يتوافق مع التحديات الأمنية واحتياجات الجيش الإسرائيلي من القوى البشرية وقواعد القانون الإداري. لكن بين أوامر الحضور لحوالي 900 حريدي من أصل 3 آلاف تم توجيهها في 5 و6 أغسطس 2024، حضر 48 شخصا فقط كلهم من الذكور وغابت النساء الحريديات تماما.
تطمح دولة إسرائيل إلى دمج الحريديم في الجيش، بضغط من الواقع القائم نتيجة الحرب، وطمعا في تحقيق منافع اقتصادية، ففي حالة تجنيد الحريديم بأعداد مماثلة لباقي السكان من المتوقع في عام 2045 ألا تكون هناك حاجة للجيش لأيام احتياطية تشغيلية، باستثناء السعي للحفاظ على الكفاءة لأفراد الاحتياط، وسيكون معدل التوفير للاقتصاد ما بين 77 و100 من نفقات ميزانية عام 2050، والأرقام بين 8 و10 مليار شيكل سنويا.
تدحرجت ظاهرة إعفاء الحريديم من الخدمة العسكرية تحت ذريعة توراته عمله من ظاهرة محدودة بقوائم معتمدة إلى ظاهرة عامة متفشية، أثرت بدورها على مفهوم المواطنة والمساواة، ففي حين تقوم شريحة من السكان ذوي التوجه العلماني بدفع الضرائب والخدمة بالجيش، ما يعني تأثر مصالحها الاقتصادية نتيجة غيابهم عن أعمالهم ومصالحهم، علاوة على تأثرهم اجتماعيا نتيجة غيابهم الطويل عن بيوتهم كما حصل في حرب طوفان الأقصى، في المقابل نجد شريحة الحريديم تتمتع بكافة المزايا، إذ تُعفى من الخدمة العسكرية وتحصل على دعم مالي حكومي يتيح لها التفرغ لدراسة التوراة.
تمحور الدافع الرئيسي لمطالبة حركات المجتمع المدني وبعض الأحزاب الإسرائيلية بتجنيد الحريديم في حرصهم على تحقيق مبدأ جيش الشعب، ورغم صدور بعض قرارات المحاكم لتحقيق المساواة بالعبء وسعي بعض الأحزاب لسن قوانين تراعي ذلك، فإن المسألة بقيت عالقة نتيجة عدم وجود حاجة ملحّة لتغيير القوانين أولا، وبسبب عقد أحزاب الحريديم في الكنيست تحالفات سياسية أثناء تشكيل الائتلافات الحكومية، تحمي امتيازاتهم وتهرب أفرادهم من التجنيد، إلى أن جاءت حرب طوفان الأقصى والخسائر التي مني بها الجيش، ما خلق الحاجة للقوة البشرية، ودفع الجميع إلى تغيير الاتجاه، وتناول من جديد مفهوم جيش الشعب وضرورة الأخذ به، وعدم الإبقاء على الحالة السابقة من تمييز لشريحة الحريديم دون غيرهم.
من المتوقع أن يتسبب إعادة فتح ملف تجنيد الحريديم وتحقيق مبدأ جيش الشعب في زيادة الشرخ المجتمعي، وارتفاع حدة الاستقطاب بين شرائح المجتمع الإسرائيلي، لكن الشيء الأكيد بعد الحرب أن الحاجة أصبحت ملحة أكثر من أي وقت مضى لمعالجة هذه المعضلة، والخروج من دائرة الصفقات السياسية بين الأحزاب الإسرائيلية إلى تبني نموذج في التجنيد يحقق المساواة بالعبء.
| https://www.aljazeera.net/politics/2024/12/30/%d8%a7%d9%84%d8%aa%d8%ac%d9%86%d9%8a%d8%af-%d9%88%d8%a7%d9%84%d8%ac%d9%8a%d8%b4-%d8%a7%d9%84%d8%a5%d8%b3%d8%b1%d8%a7%d8%a6%d9%8a%d9%84%d9%8a-%d8%b4%d8%b1%d8%ae-%d9%88%d8%b3%d8%b9%d9%87 | 2024-12-29T21:20:12 | 2025-01-06T12:01:08 | أبعاد |
|
38 | قبرص والدور الخفي في الحرب على غزة ولبنان | بغض النظر عن حجم الدور الذي تلعبه قبرص في الحرب الإقليمية الحالية، فما هو مؤكد أنه أكبر بكثير مما تعترف به نيقوسيا، الأمر الذي يشير لتنامي تعاون قبرص مع إسرائيل في السنوات الأخيرة. | في يونيوحزيران الماضي، وقبل ثلاثة أشهر من اغتياله بغارة إسرائيلية على الضاحية الجنوبية لبيروت، ظهر الأمين العام لحزب الله حسن نصر الله في خطاب توجه خلاله بتحذير غير تقليدي، ليس إلى إسرائيل أو إلى الولايات المتحدة كما هو معتاد، ولكن إلى قبرص، الدولة الجزرية في قلب المتوسط، وقال نصر الله في خطابه إن فتح المطارات والقواعد القبرصية للعدو الإسرائيلي لاستهداف لبنان يعني أن الحكومة القبرصية أصبحت جزءا من الحرب، وستتعاطى معها المقاومة على أنها جزء من الحرب.
سريعا نفى الرئيس القبرصي، نيكوس خريستودوليديس، تورط بلاده في الحرب، واصفا اتهامات حزب الله بأنها غير لطيفة، ومشيرا إلى أن جمهورية قبرص جزء من الحل وليست جزءا من المشكلة، حيث إنها أدّت دورا اعترف به العالم العربي والمجتمع الدولي بأسره في فتح ممر بحري يسمح بإيصال المساعدات الإنسانية إلى غزة، في محاولة لتضخيم الدور الإنساني لبلاده في الصراع، والالتفاف على الاتهامات التي وجهها حسن نصر الله.
وبغض النظر عن هذا السجال الكلامي، تُعبِّر تلك الاتهامات عن تحول كبير في النظرة إلى قبرص، من خصم تاريخي لإسرائيل إلى حليف لها. يشير جوزيف مسعد، أستاذ السياسة العربية الحديثة في جامعة كولومبيا الأميركية، إلى وجود أطماع تاريخية للحركة الصهيونية في قبرص، حيث أشاروا طويلا إلى المستعمرات العبرانية في الجزيرة المعروفة باسم كَفْريسيم بوصفها نموذجا للاستيطان المستقبلي. وكانت جماعة البريطانيين-الإسرائيليين، وهي جماعة بروتستانتية بريطانية تأسست عام 1874، من بين أكثر الجماعات حماسا لفكرة الاستيطان اليهودي في شرق المتوسط.
لتحقيق هذا الغرض، أنشأت الجماعة صندوق الاستعمار السوري أو جمعية إغاثة اليهود المضطهدين في أوروبا الشرقية، الذي نجح في شراء أراضٍ قريبة من فلسطين، وبدأت عملية إرسال المهاجرين اليهود إلى المستوطنات الجديدة. وبحلول عام 1883، أُنشئت أول مستعمرة يهودية في مدينة اللاذقية السورية، لكنها استمرت لمدة عام واحد فقط، حيث نُقِلَ المستوطنون اليهود في اللاذقية، إضافة إلى مجموعة جديدة من اليهود القادمين من روسيا، إلى قبرص لإنشاء مستعمرة في جنوب غرب الجزيرة التي استولت بريطانيا عليها، لكنَّ هؤلاء المستعمرين لم يتمكنوا من مواكبة متطلبات العمل الزراعي هناك، فقرّروا المغادرة سريعا.
لم تكن تلك التجربة القصيرة نهاية أحلام الصهيونية في قبرص، التي كانت موضع اهتمام ناشط يهودي ألماني يُدعى ديفيس تريتش، من رأى في الجزيرة فرصة لمستعمرة مستقبلية لليهود. وفي عام 1897، سافر تريتش لحضور المؤتمر الصهيوني الأول في مدينة بازل السويسرية، حيث التقى هناك ثيودور هرتزل مؤسس الحركة الصهيونية وعرض عليه فكرته، وبحلول المؤتمر الصهيوني الثالث عام 1899، ألقى تريتش خطابا دافع خلاله عن فكرة فلسطين الكبرى، معلنا أن استعمار قبرص سوف يكون جزءا من المشروع الصهيوني لاستيطان فلسطين وليس بديلا عنه.
وفق ذلك، أنشأت جمعية الاستعمار اليهودي مستعمرة في قبرص لليهود الروس على بُعد 14 كيلومترا من نيقوسيا، وكان عدد سكانها أقل من 200 شخص، لكنها تفككت بحلول عام 1927، حين اختار سكانها استعمار فلسطين بدلا من قبرص. وقبل ذلك، كانت قبرص أحد المقترحات التي قدمها وزير المستعمرات البريطاني جوزيف تشامبرلين للحركة الصهيونية، قبل أن يستقر بهم الحال على فلسطين.
نتيجة لهذا التاريخ المضطرب مع الحركة الصهيونية، والغرب ممثلا في الاستعمار البريطاني، انحاز القبارصة نسبيا إلى الفلسطينيين بوصفهم ضحايا لمشروع إحلالي كان يستهدف قبرص نفسها في مرحلة من تاريخه، رغم أن ذلك لم يمنع نيقوسيا من الاعتراف بإسرائيل دون فتح سفارة في الأراضي المحتلة عام 1960.
وقد انضمت نيقوسيا إلى حركة عدم الانحياز خلال مؤتمر القمة الأول للحركة في بلغراد عام 1961، وطوَّرت علاقاتها مع مصر في عهد جمال عبد الناصر، وصوَّتت ضد إسرائيل في قضية اللاجئين الفلسطينيين، ودافعت عن حق عودة الفلسطينيين أمام الأمم المتحدة.
وبشكل أكثر أهمية، افتتحت قبرص مكتبا تمثيليا لمنظمة التحرير الفلسطينية منذ عام 1975، واستقبلت ممثلي الحركة على أرضها، وكان من الطبيعي أن تتوج هذه المواقف بالاعتراف بالدولة الفلسطينية بمجرد الإعلان عنها عام 1988. وقد أثارت هذه المواقف غضب إسرائيل في غير ما مناسبة، لدرجة أنها اعتبرت السيدة الأولى أندرولا فاسيليو، زوجة الرئيس القبرصي السابق جورج فاسيليو، شخصا غير مرغوب فيه في إسرائيل، عندما حاول وفد برئاستها مقابلة ياسر عرفات، رئيس السلطة الفلسطينية آنذاك، الذي وضعه الإسرائيليون قيد الإقامة الجبرية في رام الله عام 1993.
لكنَّ مياها كثيرة جرت في أنهار السياسة في المنطقة تسببت في تحول الموقف القبرصي تجاه إسرائيل من الخصومة إلى الصداقة. في البداية، وضع انضمام قبرص إلى الاتحاد الأوروبي عام 2004 نيقوسيا رسميا في خانة التحالف الغربي المنحاز ضمنا وعلنا إلى إسرائيل، ما أجبر البلاد على تحويل بوصلتها، كما تسببت خلافات الطرفين نيقوسيا وتل أبيب مع تركيا في دفعهما إلى أحضان بعضهما بعضا. والأهم، ساهمت اكتشافات الغاز في البحر المتوسط في خلق مصلحة مشتركة حقيقية بينهما، ما دفعهما للاتفاق على ترسيم حدودهما الاقتصادية الخالصة، لتتحول قبرص تدريجيا إلى فناء خلفي لإسرائيل، بحسب وصف أحد الدبلوماسيين السابقين في نيقوسيا.
أبعد من التقارب السياسي، والمنافع الاقتصادية المشتركة، انخرطت قبرص في علاقات عسكرية وثيقة مع إسرائيل تجاوز عمرها عقدا كاملا، وهذه العلاقات تحديدا هي ما دفعت نصر الله لتحذير قبرص علنا بشكل لا يقبل اللبس، حيث يُجري الجيش الإسرائيلي مناورات عسكرية منتظمة في الجزيرة منذ عام 2014، بعض هذه التدريبات يقتصر على عناصر من الجيش الإسرائيلي فقط، دون مشاركة القوات القبرصية، بمعنى أن نيقوسيا مجرد مُضيفة لهذه التدريبات.
الأهم من المناورات هو مضمون تلك المناورات التي تجريها إسرائيل في قبرص، وتحمل رسائل عدائية لا يمكن تجاهلها لأطراف إقليمية، مثلما كان الحال في مناورة عربات النار التي أقيمت في يونيوحزيران 2022، وقام جيش الإسرائيلي خلالها بمحاكاة هجوم بريّ محتمل على معاقل حزب الله اللبناني، والتدريبات التي أجراها سلاح الجو الإسرائيلي في إبريلنيسان الماضي 2024 بغرض محاكاة توجيه ضربة للأراضي الإيرانية وتنفيذ هجمات بعيدة المدى، وذلك في إطار استعداده لهجوم محتمل من إيران، ردًّا على الغارة الجوية التي شنها الاحتلال على سفارة إيران في دمشق في مطلع الشهر ذاته.
يطرح ذلك تساؤلا عن الفائدة المرجوة من أداء تلك المناورات المثيرة في قبرص، مع العلم بأن نيقوسيا لا تتمتع بمقومات أو خبرة عسكرية كبيرة، فهي لا تمتلك طائرات مقاتلة، وتقتصر قوتها الجوية على 20 مروحية، أغلبها مصمم لمهام البحث والإنقاذ البحري، إضافة إلى عدد محدود من بطاريات الدفاع الجوي والوحدات المضادة للطائرات، كما لا يزيد عدد العاملين في الجيش القبرصي على 16 ألف فرد فقط، ما يجعلها قوة عسكرية هامشية في أفضل الأحوال.
فسَّرت مصادر في الجيش الإسرائيلي ذلك بقولها إن اختيار الجزيرة وقع نظرا إلى أن تضاريسها الجبلية الممتدة على طول سهل ساحلي تشابه تضاريس لبنان، وهي حجة يمكن دحضها بسهولة، تاركة المجال لتفسيرات أكثر جدية، منها ما تناولته وسائل إعلام قبرصية عام 2012 حول رغبة إسرائيل في امتلاك قاعدة عسكرية في قبرص ونشر مقاتلاتها في الجزيرة، ما يشير إلى أن التمرينات الإسرائيلية في قبرص ربما تكون أكبر من مجرد تدريبات عادية، وترقى لتكون شكلا من أشكال الوجود العسكري في الجزيرة الإستراتيجية.
وعموما، يبدو أن قبرص ليس لديها مشكلات كبيرة مع تلك النِّيات، إذ لن تكون إسرائيل أول قوة تمتلك وجودا عسكريا على الجزيرة، حيث تمتلك بريطانيا قاعدتين عسكريتين بقبرص في أراضي ديكيليا بالشرق وأكروتيري في الجنوب، وهي مناطق سيادية خاضعة للسيطرة البريطانية الكاملة، وقد احتفظت بها بريطانيا بعد استقلال قبرص عنها بموجب اتفاقية لندن 1959، وتُمثِّل هذه القواعد نحو 3 من المساحة الكلية للجزيرة.
وهناك أيضا معسكر كاسل، وهو قاعدة تابعة للبحرية الألمانية في ميناء ليماسول تستخدمها قوة الأمم المتحدة المؤقتة في لبنان اليونيفيل، ناهيك بالرسو المتكرر للسفن والقطع العسكرية الأميركية الذي حوَّل الجزيرة إلى قاعدة للجيوش الأجنبية، بحسب تعبير المعارضة في قبرص نفسها.
ومن نافلة القول التأكيد أن التعاون القبرصي الإسرائيلي يحظى بالمباركة الأميركية، ففي مارسآذار 2019، أكد مايك بومبيو، وزير الخارجية الأميركي آنذاك، دعم بلاده جهود التعاون بين قبرص وإسرائيل، في حين أقر الكونغرس الأميركي قانون شراكة الأمن والطاقة في سبتمبرأيلول من العام ذاته، وهو القانون الذي سمح لواشنطن بدعم الشراكة بين إسرائيل وقبرص واليونان بشكل كامل في مجالات الطاقة والدفاع، كما أثمر إلغاء القيود المفروضة على مبيعات الأسلحة الأميركية للجزيرة، وهي القيود التي أقرَّتها واشنطن عام 1987 بهدف احتواء النزاع بين القبارصة اليونانيين والأتراك.
مصداقا للقانون، رفعت إدارة الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب حظر التسليح جزئيا عن قبرص عام 2020، قبل أن ترفعه إدارة بايدن الحالية بشكل كامل عام 2022، في خطوة وُصفت بأنها رغبة من واشنطن في اجتذاب الجزيرة بعيدا عن النفوذ الروسي، وذلك بعد اتفاق نيقوسيا وموسكو عام 2015 على إتاحة موانئ الأولى للسفن العسكرية الروسية.
مهَّدت هذه الإجراءات لتحويل قبرص إلى ما يشبه قاعدة عسكرية للمصالح الغربية، وعلى رأسها دعم إسرائيل، وهو ما ظهر بوضوح في أعقاب طوفان الأقصى في أكتوبرتشرين الأول 2023، حيث تجاوز دور الجزيرة الإتاحة الكلاسيكية لمجالها الجوي وأراضيها وموانئها للمجهود العسكري الغربي الداعم لإسرائيل والمناورات والتدريبات المشتركة، أو حتى مجرد منع القطع البحرية الروسية من الوصول إلى موانئ الجزيرة الجنوبية، وفقا لرغبة واشنطن.
تشير تقارير متواترة إلى أن الجزيرة كانت بمنزلة المركز العسكري الدولي الداعم لعمليات قصف غزة، حيث أجرت الولايات المتحدة عمليات نقل أسلحة إلى إسرائيل بانتظام عن طريق القواعد الجوية البريطانية في قبرص منذ الثامن من أكتوبرتشرين الأول 2023، كما انطلقت منها غارات استهدفت اليمن في ينايركانون الثاني 2024 على خلفية مساندة الحوثيين للمقاومة في غزة.
فوفقا لصحيفة هآرتس الإسرائيلية، قامت الولايات المتحدة وحلفاؤها بنقل أسلحة من قواعدها الضخمة في أوروبا إلى إسرائيل باستخدام قواعد في قبرص في أعقاب طوفان الأقصى. وخلال شهر واحد، هو شهر نوفمبرتشرين الثاني 2023، توجهت أكثر من 40 طائرة نقل أميركية، و20 طائرة نقل بريطانية، إضافة إلى سبع مروحيات نقل ثقيلة إلى قاعدة أكروتيري الجوية في قبرص، وكانت هذه الطائرات تحمل الأسلحة والقوات من مستودعات إستراتيجية تابعة للولايات المتحدة وحلف الناتو.
هبطت العديد من هذه الطائرات في الختام في قاعدة نيفاتيم الجوية الواقعة في جنوب إسرائيل قرب صحراء النقب، كما هبط بعضها في مطار بن غوريون في تل أبيب، وقد حملت هذه الطائرات مركبات مدرعة من ضمن الأسلحة الأميركية المنقولة إلى الجيش الإسرائيلي. يُذكر أن المسافة بين قاعدة أكروتيري في قبرص وإسرائيل تناهز 400 كيلومتر، مما يعني أن الرحلة الجوية بينهما تستغرق قرابة 30 دقيقة فقط.
وفيما يبدو فإن عمليات النقل بدأت قبل ذلك بفترة، حيث أعلنت وزارة الدفاع الإسرائيلية في 19 أكتوبرتشرين الأول 2023، وقبل بدء الغزو البري الشامل لقطاع غزة بأكثر من أسبوع، عن تسلمها شحنة أولى من مركبات أميركية مدرعة بقيمة تزيد على 400 مليون دولار، ضمن حزمة المساعدات العسكرية المخصصة من واشنطن لتل أبيب.
وتزامن ذلك مع إرسال واشنطن طائرتي نقل عسكري من طراز سي 17 غلوب ماستر المعروفة بقدرتها على نقل المعدات الثقيلة إلى أكروتيري بقبرص، بعد إقلاعهما من قاعدة روتا الأميركية بجنوب إسبانيا في يوم 18 أكتوبرتشرين الأول 2023 أي قبل يوم واحد من إعلان وزارة الدفاع الإسرائيلية تسلم المدرعات. كما تؤكد المصادر إرسال واشنطن طائرة غلوب ماستر أخرى إلى قبرص في الـ25 من الشهر ذاته من قاعدة رامشتاين الجوية في ألمانيا، مقر القيادة الجوية لحلف شمال الأطلسي.
في سياق مشابه، أبرزت صحيفة نيويورك تايمز إرسال الجيش الأميركي مُسيّرات من طراز MQ-9 Reaper أو الحصادة إلى غزة في أعقاب طوفان الأقصى. وقد اعترف مسؤولون أميركيون بإرسال هذه المسيّرات، لكنهم أكدوا أنها غير مسلحة، وأنها مزوّدة بأجهزة استشعار الغرض منها البحث عن الرهائن. وذكرت الصحيفة أنها اكتشفت تحليق تلك الطائرات من خلال موقع إلكتروني لتتبع الرحلات الجوية، وأن مسار الرحلة يشير إلى احتمال انطلاقها من قاعدة أكروتيري في قبرص.
بدورها، كشفت صحيفة ديكلاسيفايد البريطانية، المختصة في شؤون الدفاع والاستخبارات، عن قيام طائرات نقل عسكري بريطانية بـ33 رحلة بين قواعدها في قبرص ومطار بن غوريون في إسرائيل على مدار أسبوعين فور بدء عمليات قصف غزة، وفي حين أكدت وزارة الدفاع البريطانية قيام قواتها بـ17 رحلة من هذه الرحلات، رفضت إعطاء تفاصيل بخصوص المعدات أو الأفراد الذين نُقِلوا على متنها.
أبعد من ذلك، أشارت صحيفة ديلي إكسبريس، نقلا عن مصادر رفيعة المستوى، إلى أن طائرات إف 35 الإسرائيلية استخدمت قاعدة أكروتيري مباشرة خلال الأشهر الأولى من قصف غزة، وأن امتناع بريطانيا عن إتاحة القاعدة لسلاح الجو الإسرائيلي في وقت لاحق كان بسبب خشية وزراء المملكة المتحدة من التورط في جرائم ضد الإنسانية، بعدما قضت محكمة العدل الدولية في ينايركانون الثاني الماضي بأن من المرجح أن إسرائيل ترتكب أعمال إبادة جماعية في غزة.
ومع انتقال الحرب إلى الجبهة اللبنانية، أصبح الدور القبرصي في خدمة المصالح الغربية والإسرائيلية مرشحا للزيادة، حيث يمكن للطائرات المقاتلة قطع المسافة من قبرص إلى سواحل لبنان في غضون عشر دقائق فقط. وقد رصدت مواقع مخصصة بالفعل توجه 7 طائرات أميركية من طراز غلوب ماستر إلى قواعد في قبرص، تزامنا مع تصعيد جيش الاحتلال عملياته في جنوب لبنان، منها 4 طائرات انطلقت من قاعدة رامشتاين في ألمانيا، في حين أقلعت اثنتان من قاعدة ماكجواير الجوية في ولاية نيوجيرسي الأميركية، وكانت الأخيرة قادمة من قاعدة روتا الواقعة في جنوب إسبانيا.
إجمالا، عززت هذه القواعد القبرصية، المُدارة بواسطة أميركا وبريطانيا، من قدرة إسرائيل على جمع المعلومات الاستخبارية والمراقبة، إضافة إلى إمكانية السيطرة على الطرق البحرية في المنطقة، كما استطاعت من خلالها الحصول على الدعم العسكري خلال الفترات الحرجة، ويُعد ذلك امتدادا للمزايا الاستخبارية والمعلوماتية طويلة الأمد التي وفرتها جغرافيا قبرص لواشنطن وحلفائها منذ سبعينيات القرن الماضي. ففي ذلك الوقت، أنشأت واشنطن في قبرص رادارا فوق الأفق يُسمّى حذاء الكوبرا، وذلك لمراقبة عمليات الطيران واختبارات الصواريخ في جنوب روسيا.
في غضون ذلك، استفادت واشنطن من متطلبات تخفيض الميزانية التي لاحقت بريطانيا واضطرارها للاستعانة بالموارد الأميركية للحفاظ على قواعدها في قبرص وتحديثها من أجل توسيع أنشطتها ووجودها في هذه القواعد، بما في ذلك السماح لوكالة الأمن القومي الأميركية باستغلال مركز اتصالات آيوس نيكولاوس الواقع في ديكيليا، وذلك لاعتراض الاتصالات وجمع المعلومات من المنطقة.
يُعد مركز آيوس نيكولاوس واحدا من أربع منشآت تجسس تابعة لوكالة الأمن القومي الأميركية في قبرص، وفقا لتسريبات إدوارد سنودن عام 2013، ويُعتقد أنها تقوم بتجميع المكالمات والرسائل النصية ورسائل البريد الإلكتروني من مختلف أنحاء الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وعادة ما تستهدف هذه العمليات الزعماء الحكوميين في البلدان المحيطة وغيرهم من كبار القادة والعسكريين، إضافة إلى وكالات الأمم المتحدة والمنظمات التجارية والشركات الخاصة وقوات الشرطة والجيش والجماعات السياسية.
وتشير جراي ديناميكس Grey Dynamics، وهي شركة استخبارات خاصة مقرها لندن، إلى أن التعاون الوثيق بين واشنطن وإسرائيل أدى إلى إمداد الأخيرة بالكثير من البيانات الصادرة عن مركز نيكولاوس، وكان بعض هذه البيانات متعلقا بالقادة الفلسطينيين، بما يشمل أماكنهم وأنشطتهم، مما مكّن الموساد الإسرائيلي من تنفيذ حملة اغتيالات ناجحة ضد أعضاء منظمة التحرير الفلسطينية في فترة السبعينيات.
أبعد عن ذلك، ثمة تقارير غير رسمية تؤكد وجود قاعدة للموساد الإسرائيلي في جزيرة قبرص، وهو ما أبرزه الصحفي الفرنسي والخبير في شؤون الشرق الأوسط، جورج مالبرونو، الذي يشير إلى تاريخ التعاون الأمني بين قبرص وإسرائيل، بما في ذلك استخدام المجال الجوي القبرصي من قِبَل المقاتلات الإسرائيلية. ويستشهد مالبرونو في ذلك بأقوال مصدر عسكري فرنسي، يقول إن مقاتلات إسرائيل دائما ما تقوم بدوران واسع في المجال الجوي القبرصي بعد إقلاعها من قواعدها، وذلك لتجنب رصدها بواسطة أي أنظمة دفاع جوي.
تتوافق هذه الحقائق البنيوية مع المعلومات المتفرقة التي تداولتها صفحات متخصصة على مواقع التواصل ومواقع الاستخبارات مفتوحة المصدر مؤخرا حول رصد طائرتي إنذار واستطلاع مبكر أميركيتين من طراز سينتري أواكس E-3B Sentry أمام السواحل اللبنانية، قبيل الهجوم الإسرائيلي على مقر حزب الله اللبناني، الذي أدى إلى اغتيال الأمين العام للحزب حسن نصر الله وعدد من قيادات الحزب البارزين.
رُصِدَ مسار هذه الطائرات من خلال موقع بيانات الملاحة الجوية Flightradar 24، ورُبط بينها وبين الهجمة الإسرائيلية على ضاحية بيروت الجنوبية. وقد انطلقت إحدى الطائرتين من خانيا في جزيرة كريت اليونانية باتجاه سواحل لبنان، وهي الطائرة التي تحمل الرقم التسجيلي 780578، أما نقطة انطلاق الطائرة الأخرى التي تحمل الرقم التسجيلي 750556 فكانت مجهولة. ومع ذلك، تشير البيانات الملاحية إلى أن هذه الطائرة رُصدت في المسار بين خانيا في جزيرة كريت وقبرص قبل قرابة 20 يوما من اغتيال نصر الله، وتحديدا في السادس من سبتمبرأيلول الماضي.
في الختام، بغض النظر عن حجم الدور الذي تلعبه قبرص في الحرب الإقليمية الحالية، فما هو مؤكد أنه أكبر بكثير مما تعترف به نيقوسيا، الأمر الذي يشير لتنامي تعاون قبرص مع إسرائيل في السنوات الأخيرة، سواء في المجالات العسكرية أو الاقتصادية، وانتقاله إلى تعاون إستراتيجي ملحوظ في سياسة الجزيرة. فقبرص التي كانت قد اعترفت بالدولة الفلسطينية بمجرد الإعلان عنها، ودافعت عبر قنواتها الدبلوماسية عن حقوق الفلسطينيين في فترات مختلفة، تعيد تعريف موقعها وانحيازاتها. ومع استمرار الحرب الإسرائيلية وإعادة رسم خطوط التماس وتشكيل التحالفات، فإن الدور الذي تؤديه قبرص سيظل محط اهتمام، وستتعاظم أهميته للقوى الإقليمية والدولية على حدٍّ سواء. | https://www.aljazeera.net/politics/2024/10/19/%d9%82%d8%a8%d8%b1%d8%b5-%d9%88%d8%a7%d9%84%d8%af%d9%88%d8%b1-%d8%a7%d9%84%d8%ae%d9%81%d9%8a-%d9%81%d9%8a-%d8%a7%d9%84%d8%ad%d8%b1%d8%a8-%d8%b9%d9%84%d9%89-%d8%ba%d8%b2%d8%a9 | 2024-10-19T18:21:16 | 2024-10-19T18:21:16 | أبعاد |
|
39 | أسود البشرة لا يكتئب.. كيف استخدم الرجل الأبيض الطب النفسي ضد المستضعفين؟ | عمدت العديد من التجارب والدراسات النفسية في تاريخ الطب النفسي لتشويه وقهر ذوي البشرة السوداء، وتورط كثير من رواد علم النفس بهذه الممارسات العنصرية وأبحاثها، هنا نحكي عن التاريخ العنصري لعلم النفس | العنابر العامة كانت بالغة السوء، ولم يكن هناك سوى خمسة أطباء، أربعة منهم أجانب، لم يكن مرخصا لهم للعمل في الولايات المتحدة، وليس لديهم أوراق اعتماد كأطباء نفسيين في بلدهم الأصلي. كان الطبيب النفسي الخامس هو المسؤول، ومن الواضح أنه لم يكن على دراية بالطب النفسي الحديث، ويبدو وكأنه يدير مزرعة في إحدى الولايات الجنوبية.
كان هذا جزءًا من التقرير الذي كتبته المفتشة مارلين روز، حينما شاركت عام 1967 في لجنة لتفتيش مرافق مستشفيات الطب النفسي، خاصة في ولايتي ألاباما وميسيسيبي، التي يتلقى الرعاية فيها ذوو البشرة السوداء الذين يُعانون من مشكلات في الصحة العقلية أو ما أصبح يُعرَف اليوم باسم الاضطرابات النفسية.
نعم، كانوا يعالجون بشكل منفصل، وفي مؤسسات لا تسمح بالاختلاط بينهم وبين السكان البيض، وذلك ضمن سياق الفصل العنصري واضطهاد السود الذي عرفته الولايات المتحدة الأميركية منذ تأسيسها، حتى عهد قريب، وقد كان وجه الطب النفسي قبيحا في تلك المسألة، وفي ذلك التوقيت.
في تاريخ تأسيس الطب النفسي عمدت العديد من التجارب والدراسات النفسية إلى تشويه وقهر ذوي البشرة السوداء، بل تورط العديد من رواد علم النفس الذين لهم إسهامات بالغة الأهمية في المجال النفسي، في دعم هذه العنصرية وتعزيز سيطرتها على عملهم العلمي والبحثي.
ومن مرافق مستشفيات الطب النفسي في ولايتي ألاباما وميسيسيبي، ننتقل إلى كلية التربية بجامعة ستانفورد، وتحديدًا في أوائل القرن العشرين، حيث يعمل لويس ماديسون تيرمان، وهو أحد أبرز علماء النفس الأميركيين، وقد اشتهر لاحقًا بأنه من رواد علم النفس التربوي، ومن إنجازاته تطوير اختبار خاص لقياس مستوى ذكاء الشخص أُطلق عليه اسم اختبار ستانفورد بينيه للذكاء.
كان تيرمان من العلماء البارزين الذين يدعمون فكرة تحسين النسل، وكان عضوًا في مؤسسة معروفة في تلك الآونة تسمى تحسين الإنسان، إضافة إلى شغله لمنصب رئيس جمعية علم النفس الأميركية.
في إطار عمله على اختبار قياس ذكاء الفرد، أطلق تيرمان العديد من المقولات، التي اعتُبرت لاحقًا، في غاية العنصرية في حق الأشخاص الملونين، من هذه المقولات قوله عن الأشخاص ذوي البشرة السوداء إن بلادتهم فطرية وإنه يجب فصل أطفال هذه المجموعات البشرية الملونة في فصول خاصة وإعطاؤهم تعليمات ملموسة وعملية.. فهم لا يستطيعون التعامل مع الأمور المجردة. قال تيرمان أيضًا من منظور تحسين النسل يُشكل السود مشكلة خطيرة بسبب تكاثرهم الغزير بشكل غير عادي.
اعتقدت هذه المدرسة النفسية العنصرية، أن ذو البشرة السوداء، محصن ضد المرض النفسي، وأنه لا يسقط في براثن الاكتئاب أو غيره من الأعراض العصابية، ومردّ ذلك كله هو التكوين النفسي والعقلي الخاص به، أو بتعبير تيرمان بسبب بلادته الفطرية، على حد زعمه.
الدكتورة أوشينا أومه، طبيبة سابقة في سان أنطونيو بولاية تكساس، وهي امرأة من أصل نيجيري تعيش في الولايات المتحدة، قررت أن تترك وظيفتها عام 2018 للتركيز على المحاضرات العامة، بهدف نشر وزيادة الوعي حول الاضطرابات النفسية بين الأشخاص ذوي الأصول الأفريقية في الولايات المتحدة.
توضح الدكتورة أوشينا أنه طوال سنوات كثيرة صدّق العديد من الأشخاص السود أنه يُفترض أن لا يُعانوا من مشكلات الصحة النفسية، استنادا على ما قاله جون جالت الطبيب والمدير الطبي لمصحة الأمراض النفسية في ويليامزبرغ بفيرجينيا، وفكرته العجيبة التي نشرها عام 1848، وأوضح فيها أن الأشخاص السود يمتلكون مناعة طبيعية ضد الأمراض النفسية.
بنى جالت رأيه السابق على افتراض أن الأفارقة مستعبَدون، والعبيد لا يملكون شيئا، وليس لهم دور في الأعمال الحرة التي تقوم على المغامرة، ولا يشاركون في الشؤون المدنية والانخراط في أنشطة سياسية مثل التصويت أو شغل المناصب. وبناء على هذه الفرضية سيكون خطر الإصابة بالمشكلات النفسية أعلى لدى السكان البيض الذين يتعرضون بشكل يومي لمفاعيل الأنشطة السياسية، ومنافسات الطموح والترقي داخل مجتمعات ريادة الأعمال والتجارة، وما ينجم عن ذلك من ضغوط تصاحب المكاسب أو أزمات تعقب الخسارة.
كان صموئيل كارترايت أحد هؤلاء الأطباء الذين جادلوا بأن العبودية كانت هي الحالة الطبيعية، للأميركيين ذوي الأصول الأفريقية، مُضيفًا أنهم استفادوا من العمل الشاق وأنهم غير قادرين على الاعتناء بأنفسهم خارج هذا النظام. ادعى كارترايت أيضًا أن الأشخاص الملونين أظهروا بساطة طفولية في مشاعرهم وافتقارًا إلى العمليات العاطفية المعقدة، ورأى أن هذا الأمر هو من سمات عرقهم بأكمله.
بناء على رأي كارترايت الذي يذهب إلى أن العبودية هي الحالة الطبيعية للأشخاص السود، فإن الخروج عن هذه الحالة الطبيعية هو اضطراب عقلي. هذا بالضبط ما أوضحه كارترايت عام 1851، حيث نشر تقريرًا اخترع فيه اثنين من الاضطرابات النفسية، التي تتضمن أعراضها ميل العبيد إلى الهروب أو مقاومة العمل الشاق، وتم تصنيف هذه الاضطرابات على أنها مرض عقلي، وأطلق عليها هوس الفرار draeptomania وعسر الحس الإثيوبي dysaesthesia aethiopica.
استخدم مشرفو المستشفيات أفكار كارترايت لتبرير آرائهم الطبية حول عدم وجود أي علاجات طبية نفسية حقيقية للمرضى الأمريكيين ذوي الأصول الأفريقية، وأنهم لا يشعرون بنفس الطريقة التي يشعر بها البيض، أو أنهم غير مناسبين لأشياء مثل التحليل النفسي أو العلاج الجماعي. وهذا هو سبب فصل المرضى السود في مرافق منفصلة بالمستشفيات تتسم بكونها دون المستوى المطلوب، هذا إضافة إلى أنه كان يتم تشغيلهم في مغسلة المستشفى والمطبخ والحقول.
تقول الطبيبة الأميركية النيجيرية الأصل أوشينا أومه أنا وأفراد عائلتي وأصدقائي ومعارفي ومرضاي وآباؤهم وأجدادهم، جميعنا من السود، لذا فمن المفترض أننا لا ينبغي أبدًا أن نخوض صراعًا مع مشكلات الصحة النفسية. لسوء الحظ، نحن، أنفسنا، اعتنقنا هذه الرواية رواية جالت وأمثاله، واعتقدنا أن مشكلات الصحة النفسية غير موجودة في عرقنا، ونشرنا هذا الأمر دون وعي وهو ما أضر بنا كثيرًا.
خلال عملها، لاحظت الدكتورة أوشينا زيادة كبيرة في الاكتئاب والتفكير في الانتحار لدى مرضاها. حيث تقول زادت معدلات الانتحار بين الأطفال الأميركيين ذوي الأصول الأفريقية الذين تتراوح أعمارهم بين 5 و11 سنة بشكل مطرد منذ الثمانينيات، وهي الآن ضعف مثيلتها لدى نظرائهم من القوقاز. وشكل الرجال السود 80 من محاولات الانتحار بين الأميركيين ذوي الأصول الأفريقية عام 2015. وهذه الأرقام آخذة في الارتفاع.
وحتى نتمكّن من استيعاب ممارسة العنصرية وحضورها في الطبّ النفسي بشكل تاريخي ومتسلسل، دعنا نقص عليك جذور الأمر من البداية. تحديدا فيما بين عامي 1861 و1865 وهي الحقبة الزمنية التي دارت فيها الحرب الأهلية بين ولايات الشمال الأميركي وولايات الجنوب، وتم فيها إضفاء الطابع المؤسسي الرسمي على مجال علم النفس الأميركي، حيث تم تأسيس وإنشاء البرامج والأقسام والدرجات العلمية والمجتمعات والمدارس المختصة بدراسة مجال علم النفس.
وتُعدّ هذه الحرب من أسوأ الأحداث الدموية التي تعرّض لها الاتحاد الفيدرالي الأميركي، وكان من أسبابها الرئيسية نظام الرِّق العبودية. ففي الوقت الذي أرادت فيه ولايات الشمال تضييق نطاق العبودية ووضع القوانين التي من شأنها تحقيق ذلك، كانت ولايات الجنوب تتوسع في العبودية، بل وتعتمد بشكل أساسي في نظامها الاقتصادي القائم على الزراعة بشكل كلي على سُخرَة العبيد.
حررت الحرب الأهلية ما يقرب من أربعة ملايين شخص من العبيد في جميع أنحاء الجنوب، ولم يؤد ذلك إلى مواقف طبية أكثر استنارة بشأن معاملة الأميركيين ذوي الأصول الأفريقية، بل العكس تماما حيث استمر الطب النفسي في غيه العنصري.
ففي عام 1895، لاحظ الدكتور باول، وهو المشرف على مصحة جورجيا للأمراض العقلية كما كانت تُسمّى، زيادة مثيرة للقلق في إصابات الصحة العقلية بين السود في ولايته، وعلل الدكتور باول تلك الزيادة بأنها ناتجة عن ثلاثة عقود ماضية من الحرية، بعد تحرير العبيد من نير الاستعباد، حيث لم يستطع قطاع كبير منهم التكيف مع الانفتاح والنتائج التي تسببت فيها الحرب الأهلية. باول يرى فيما يبدو أن العبودية والحرية هما من أمور الفطرة والحتمية البيولوجية.
جادل باول بأنه عندما حصل العبيد السابقون على حريتهم، فقد تسبب ذلك في عدم قدرتهم على السيطرة على شهواتهم وعواطفهم، وبالتالي أدى هذا إلى حدوث بعض التجاوزات قادت بدورها إلى ارتفاع معدلات الإصابة والتشخيص بمشكلات الصحة النفسية.
بالطبع لم ير باول الحقيقة وكانت على مرمى حجر منه، لكن عنصريته حجزته عن الذهاب إلى أصل المشكلة، حيث إن سبب تزايد مشكلات الصحة النفسية بين السود يعود إلى تاريخ طويل عاشوه في ظل ظروف اجتماعية واقتصادية بالغة السوء بما في ذلك الفقر والتمييز العنصري وشبح العنف الذي رُبما كان يصل إلى حد الإعدام، لكنه اختار أيسر الطرق؛ فقال إن حصول ذوي البشرة السوداء على الحرية هو أصل مشاكلهم العقلية والنفسية.
حينما تأسست الجمعية الأميركية لعلم النفس عام 1892 كانت برئاسة غرانفيل ستانلي هول وتم انتخاب 31 عضوًا من الذكور البيض لعضويتها، في ذلك الوقت كان علم النفس الرسمي يقوده في المقام الأول البيض ويعتمد بشدة على نظرية التطور الذائعة الصيت حينها، وقدّم المجال النفسي الغربي دعمه الكامل لفكرة تفوق الرجل الأبيض، كنتاج من نتائجها، وسلّط كامل تركيزه على إظهار الفروق الفردية بين المجموعات العرقية المختلفة.
وفي عام 1904 قام ج. ستانلي هول، الرئيس المؤسس لجمعية علم النفس الأميركية، بنشر نظريته التي تحمل اسم المراهقة. وخلالها، وصف الشعوب الأولى، وهم السكان الأصليون للأميركتين قبل عصر كريستوفر كولومبس، بأنهم يعيشون في طور من الطفولة البشرية، وأن البالغين من أبناء هذه الشعوب أكثر شبهًا بمرحلة المراهقة لدى الأطفال أو المراهقين البيض.
طور هول برامج حضارية استعمارية مصممة خصيصًا لما اعتبره تلبية احتياجات الشعوب الأولى. وفرت هذه البرامج الإطار الأخلاقي الداعم للاستعمار، وكانت نتيجة ذلك التورط في إبادة ثقافية للشعوب المختلفة، وكان الهدف البراق نحن نفعل ذلك من أجل تمدينهم وإلحاقهم بالنموذج الغربي، تحت سيادة الرجل الأبيض.
لكن بعد الحرب العالمية الأولى، حدثت حركة عكسية حيث اندفع بعض أبناء الشعوب الفقيرة إلى الولايات المتحدة وغيرها من دول الشمال الغنية، ووفدت أعداد غير مسبوقة من المهاجرين، واكبها تزايد في فيض المشاعر المناهضة للهجرة، وهنا ظهرت نظرية تحسين النسل، باستخدام مبادئ الوراثة. هنا واجه الأميركيون ذوو الأصول الأفريقية، الذين قيل إنهم يعانون من قصور عقلي، تهديدًا جديدًا أكثر خطورة على سلامتهم.
يقوم علم تحسين النسل على مبدأين متوازيين هما تشجيع الولادات بين الأشخاص الذين يملكون مخزونًا وراثيًّا جيدًا، وتعقيم الأشخاص غير الصالحين للإنجاب بما في ذلك الأفراد الذين يعانون من مرض عقلي، وكذلك الفقراء والمتهمون بالانتهاكات الجنسية. كان التركيز على تعقيم الأميركيين ذوي الأصول الأفريقية. وفي كاليفورنيا وحدها في ثلاثينيات القرن العشرين، كان الأميركيون ذوو الأصول الأفريقية الذين يمثلون 1 من السكان، قد شكلوا 4 من ضحايا التعقيم القانوني.
العديد من رواد علم النفس دافعوا عن أجندة اجتماعية ترغب في الحدّ من عدد الأطفال الذين يلدهم أشخاص مصنفون بأنهم أقل لياقة، وقد كان الأشخاص الملونون المصنفون بأنهم أقل لياقة يعتبرون أقل شأنا في المجتمع الغربي من حيث المعرفة والقانون العام.
السير فرانسيس جالتون، أحد قادة علم النفس الأوائل، وهو أول من صاغ مصطلح تحسين النسل. يعتبر جالتون من رموز علم الأعراق، وهو فرع من العلوم يبحث في أصول الشعوب المختلفة وخصائصها، وقد أدّت نظرية تحسين النسل، دورا كبيرا في دعم فكرة تمايز الأعراق، في قدراتهم الشخصية والنفسية.
اعتبر كتابه العبقرية الوراثية، الذي نُشر عام 1869، أول محاولة علمية لدراسة العبقرية والعظمة، ونظر إليه على أنه من الأدبيات المبكرة التي ساهمت في دراسة الفروق الفردية والقياسات النفسية في علم النفس الأوروبي والأمريكي، وتوصل إلى أن متوسط المستوى الفكري لـ العرق الزنجي هو أقل بدرجتين من الرجل الأبيض.
كان كتاب فرانسيس أحد المراجع الهامة التي تم الاستشهاد بها واستخدامها بشكل كبير من قبل الجيل الأول من علماء النفس الذين أسسوا الجمعية الأميركية لعلم النفس، وأول مجلات علم النفس المعترف بها، وبرامج البحث الأكثر تأثيرًا، فتورط العديد من الأكاديميين البارزين في إشاعة مفاهيم تتحدث عن تفوق الرجل الأبيض ليس على مستوى الذكاء فقط، بل على المستوى الأخلاقي والثقافي والنفسي.
في مجلة المراجعة النفسية، وبعد عام واحد فقط من إصدار المجلة النفسية الأميركية لأول نسخة لها، نُشرت دراسة كانت نتائجها توضح أن العينات المفحوصة مما يسمى الشعوب الأولى والسود، لديهم أحيانًا، رد فعل أسرع من البيض، وهو ما فسروه حينها بأنه يُشير بدرجة كبيرة إلى التسرع وتحكم الانفعال في ردودهم، بسبب ميولهم نحو العنف. جادل مؤلف الدراسة بأن الرد السريع كان مرجعه البدائية، وأن الذكاء الأكثر تطورًا للمشاركين البيض أدى بهم إلى تفكير أعمق ورد أبطأ.
واصل العديد من علماء النفس دعم فكرة التفوق الأبيض في كافة المنافذ العامة والأكاديمية. مثلًا في عام 1922، ألقى عالم النفس جيمس رولاند أنجيل، رئيس جامعة ييل، سلسلة من المحاضرات تصف التسلسل الهرمي للأجناس، وتتبنى تفوق الرجل الأبيض، وتناقش انخفاض مستوى الذكاء لدى ذوي البشرة السوداء.
وكذلك نشرت مجلة علم النفس المقارن، عام 1922، بحثًا يربط بين درجة الدم الأبيض لدى الشعوب الأولى ودرجات اختبار الذكاء الأعلى. وفي عام 1933، تم نشر المزيد من الدراسات التي تجادل بأن أطفال الشعوب الأولى يُظهرون عدم أمانة أكثر من الأطفال البيض.
رُبما يكون السؤال المنطقي هنا هو هل تم تزييف البحوث أو النتائج التي أُجريت وقتها بهدف إثبات تفوق الرجل الأبيض على نظيره الملون؟ الإجابة رُبما لا، لكن الدراسة ذاتها والنتائج المستخلصة منها كانت تتم من خلال عقلية تسيطر عليها فكرة تطور وتفوق الرجل الأبيض، فحتى لو جاءت البحوث والدراسات بنتائج عكسية تُفيد بأن ذوي البشرة المُلوّنة أكثر تفوقًا في جانبٍ ما، فإنه سيتم النظر إلى هذه النتيجة وصياغتها في إطار تفسيري من موقعية ومرجعية تفوّق الرجل الأبيض.
هذا ما حدث عام 1897، إذ توصلت دراسة أُجريت على الأطفال السود والبيض، إلى أن الأطفال الملونين ذاكرتهم أقوى، وأنهم يتفوقون على الأطفال البيض بشكل عام في مهمة الذاكرة.
هنا، ورغم أن نتائج الدراسة إيجابية في حق الأشخاص ذوي البشرة السوداء، فإنه قد تم صياغتها بطريقة سلبية تمامًا، فقد عزا المؤلف قوة ذاكرة الأطفال السود إلى قدرة أدمغتهم البدائية على التذكر أكثر من غيرهم، ووصف الأطفال السود بأنهم ناقصون في التفكير.
أدّت انحيازات الأطباء النفسيين المسبقة ضد الملونين، إلى صدور تشخيصات غير علمية ولا تلتزم المعايير المهنية المنضبطة، فقد أوضحت دراسة نُشرت عام 2023، أن هناك تباينا ملحوظا في انتشار اضطرابات طيف الفصام رؤية شخصيات وهمية وسماع أصوات غير حقيقية بين الأشخاص الملونين في الولايات المتحدة وكندا والأفراد البيض في هذه البلدان ذاتها. حيث يتم تشخيص السود بهذه الاضطرابات بمعدلات أعلى من المجموعات الأخرى.
العواقب المترتبة على هذا التشخيص غير الدقيق علميا، تفاقم الآثار المجتمعية العقابية مدى الحياة، بما في ذلك زيادة الوصمة الاجتماعية وانخفاض الفرص، وتدنّي الرعاية، وزيادة احتمال التجريم والتوقيف القانوني، حيث إن الصور النمطية المقترنة بالأعراض الذهانية قد تُعرض هؤلاء المرضى لخطر عنف الشرطة والوفيات المبكرة.
الجانب المؤسف هنا، أنه وفقًا لما تُظهره البيانات الجديدة فإن اختلافات معدلات التشخيص، ليس من المرجح أن تكون وراثية، بل مجتمعية في الأصل. فالإفراط في تشخيص طيف الفصام يعود بشكل كبير إلى التحيزات العنصرية لدى الأطباء.
وأوضحت الدراسة كيف أن سوء فهم العرق يربك محاولات تشخيص وعلاج اضطرابات طيف الفصام لدى الأفراد السود، إضافة إلى أن التحيزات الضمنية تمنع المرضى السود من تلقي العلاج المناسب من مُقدّمي الرعاية الصحّية النفسية من العرق الأبيض بشكل رئيسي، وهو ما وصفته الدراسة بأنه نقص في التعاطف لدى الأطباء مع مرضاهم.
في السياق ذاته، شككت الدكتورة أوشينا أومه، من خلال مقالها المنشور عبر موقع blackpast، في صحة تشخيص الأطفال المحتجزين في مرافق مستشفيات الطب النفسي واضطرابات الصحة العقلية، إذ أوضحت أنه في كثير من الأحيان، كانت سلطات اللجوء تُشيد بقدرات ومهارات هؤلاء الأطفال، وهو أمر يُثير الكثير من التساؤلات حول مدى صحة تشخيص مرضهم العقلي أصلًا.
هنا تقول أوشينا إذا كان هؤلاء الأشخاص من ذوي البشرة السوداء قد فقدوا رشدهم حقًّا، فكيف كانوا قادرين على القيام بأعمال شاقة متواصلة تتطلب مهارات خاصة، في حين كان المرضى البيض في كثير من الأحيان أضعف عقولًا بدرجة لا تُمكّنهم من العمل؟.
يوضح التحالف الوطني للأمراض النفسية NAMI أن هناك تاريخًا طويلًا من التمييز والعنصرية في تاريخ الرعاية الصحية النفسية، فقد تعرض الأشخاص المصابون بمرض عقلي دائمًا للتمييز، وحرموا من المشاركة الكاملة في المجتمع، ووُصفوا بأنهم خطرون ومجرمون، وتم احتجاز العديد منهم في مؤسسات كانت أكثر شبهًا بالسجون المصممة للعقاب منها بالمستشفيات المصممة للعلاج.
وكان هذا التمييز سيئًا بالنسبة لأي شخص يعاني من مرض أو اضطراب نفسي، لكنه كان أكثر سوءًا بالنسبة للأشخاص الأكثر تهميشًا، ومنهم الرجال والنساء والأطفال الأميركيون ذوو الأصول الأفريقية، فقد كانت بعض المراكز في بعض الولايات، مثل ألاباما وميسيسيبي، تقوم بفصل المرضى على أساس عنصري، بل زعمت أنه من الضروري طبيًّا فصل المرضى على أسس عنصرية.
في الستينيات، حاولت سلسلة من التشريعات الفيدرالية والدعاوى القضائية إنهاء هذا التمييز. فتم إقرار قانون بناء مراكز الصحة النفسية المجتمعية CMHA لتحسين عملية تقديم العلاج والرعاية للأشخاص المصابين بأمراض عقلية أو ما يُعرَف اليوم بالاضطرابات النفسية. وفي عام 1964، تم إقرار قانون الحقوق المدنية الذي يتضمن بندًا مفاده أنه من غير القانوني لأي منشأة أو خدمة تتلقى أموالًا فيدرالية أن تقوم بالتمييز على أساس العرق.
حينها، كانت بعض الولايات لا تزال تنتهج سياسات الفصل العنصري في تقديم العلاج، الأمر الذي جعلها عُرضة لخطر فقدان التمويل وعدم تلقي أي دعم مادي يُمكنها من تقديم الرعاية الطبية. بدلاً من قبول هذه الأحكام وإيجاد طرق لإنهاء التمييز والفصل العنصري، اختارت ولايات منها ألاباما وميسيسيبي محاربة الحكومة الفيدرالية وإقامة دعاوى قضائية ضدها في المحكمة. وزعمت أن من حقها إدارة خدمات الدولة دون تدخل فيدرالي، وأنه من الضروري طبيًّا فصل المرضى على أسس عنصرية.
كما في الأبحاث والتجارب والإحصائيات، بنى الأطباء رؤيتهم لضرورة الفصل العنصري في تقديم العلاج على تاريخ طويل من الأفكار العنصرية في الطب النفسي. ولم يكن الدكتور جون جالت -صاحب الادّعاء المُجحِف بأنّه ليس من المفترض أن يُعاني ذوو البشرة السوداء من مشكلات الصحة العقلية أصلًا- وحده الذي تحكمت العنصرية في رأيه الطبي. فمنذ أوائل القرن التاسع عشر، جادل بعض الأطباء النفسيين بأن الأميركيين ذوي الأصول الأفريقية كانوا أدنى درجة من الناحية البيولوجية مقارنة بباقي البشر وأعراقهم.
توضح هنا الدكتورة أوشينا ظروف العلاج الذي كان يتلقاه الأشخاص المُصابون بمشكلات الصحة النفسية من ذوي البشرة السوداء قائلة معظم مرافق الصحة النفسية قبل الحرب الأهلية في الجنوب عادة ما كانت تمنع المستعبَدين من العلاج.
بدا من الواضح أن خبراء الصحة النفسية كانوا يعتقدون أن إيواء السود والبيض في نفس المرافق من شأنه أن يؤثر سلبًا في شفاء البيض. كانت ظروف السكن في المصحات الجنوبية بالنسبة للقلة التي قبلت علاج المستعبَدين سيئة للغاية مقارنةً بالمرضى البيض. وغالبًا ما كان يتم إيواء السود في الهواء الطلق بالقرب من هذه المؤسسات أو في السجون المحلية. وكانت هناك روايات عن إيواء بعض الأطفال السود في ساحات المصحات.
أخيرًا، وبعد كل هذا التاريخ الطويل من الظلم والقهر، في مؤسّسات الرعاية النفسية والطب النفسي، لذوي البشرة السوداء، اعترفت الجمعية الأميركية للطب النفسي عام 2021، بكل ما سبق واعتذرت عنه. ففي ينايركانون الثاني أصدرت الجمعية التي تأسست قبل 176 عامًا، أول اعتذار على الإطلاق عن ماضيها العنصري. واعترفت بما أسمته الأفعال الماضية المروعة من جانب المهنة، وألزمت مجلس إدارتها بتحديد وفهم وتصحيح المظالم الماضية لذوي البشرة السوداء، وتعهدت باعتماد ممارسات جديدة مناهضة للعنصرية تهدف إلى إنهاء هذا التاريخ الطويل من التمييز.
لكن، بعض النقاد رأوا أن خطوة الاعتذار هذه لم تكن كافية، وشككوا في حدوث أي خطوة إيجابية فعلية، مشيرين إلى أن الجمعية الطبية الأميركية أصدرت اعتذارًا مماثلًا عام 2008 عن تاريخها العنصري الممتد لأكثر من 100 عام في تعزيز أو قبول عدم المساواة العرقية سلبيًّا، واستبعاد الأطباء الأميركيين ذوي الأصول الأفريقية، دون تقديم أي شيء فعلي أو واقعي بعد هذا الاعتذار.
وأوضح النقاد الذين يعملون داخل وخارج جمعية الطب النفسي الأميركية، أن الجمعية بحاجة إلى التغلب على عقبات كبيرة لإصلاح مشكلاتها ومعالجة قضاياها المتعلقة بالمساواة العرقية بشكل فعلي وواقعي، وأضافوا أنه من هذه العقبات تحيزات الجمعية التشخيصية، والنقص المستمر في الأطباء النفسيين ذوي البشرة السوداء، والهيكل المادي الذي يميل إلى استبعاد الأشخاص الذين لا يستطيعون الدفع من جيوبهم مقابل الحصول على الخدمات. وهو أمر رُبما يجعل أزمة العنصرية في الطب النفسي أكثر تجذرًا وعمقًا من أن يكون حلها مُجرد اعتذار و وعد بالإصلاح.
يؤكد هذا ما حدث في صيف عام 2020، إذ غادرت الدكتورة روث شيم، مديرة الطب النفسي الثقافي وأستاذة الطب النفسي السريري بجامعة كاليفورنيا في ديفيس، جمعية الطب النفسي الأميركية، موضحة سبب مغادرتها بلهجة تعبّر عن استيائها وإحباطها وبتصريحها الهامّ بأنّ العنصرية المؤسساتية تمثل أزمة وجودية في الطب النفسي. | https://www.aljazeera.net/sukoon/2024/7/17/%d8%a7%d9%84%d8%aa%d8%a7%d8%b1%d9%8a%d8%ae-%d8%a7%d9%84%d8%b9%d9%86%d8%b5%d8%b1%d9%8a-%d9%84%d9%84%d8%b7%d8%a8-%d8%a7%d9%84%d9%86%d9%81%d8%b3%d9%8a-%d9%83%d9%8a%d9%81-%d8%aa%d9%85 | 2024-07-17T13:13:41 | 2024-07-17T15:13:42 | أبعاد |
|
40 | اغتيال قادة حزب الله ستزيده شراسة وهذه هي الأسباب | لربما تنجح إسرائيل في إضعاف الحزب مؤقتا، لكنه من المرجح أن يعيد توحيد صفوفه، والأهم أن القادة الجدد سوف يسعون للانتقام من إسرائيل من أجل إثبات جدارتهم، وإظهار أن الحزب لا يزال فاعلا مُهِمّا. | ما هو التأثير طويل الأمد لسياسة الاغتيالات الإسرائيلية على نفوذ وقوة حزب الله؟ في مقالهما المنشور بمجلة فورين أفيرز، يجادل كل من سارة إي. باركنسون، الأستاذة المشاركة للعلوم السياسية والدراسات الدولية بجامعة جونز هوبكنز، وجوناه شولهوفر-فول، أستاذ العلوم السياسية بجامعة لايدن والأستاذ الزائر في مركز أبحاث تحولات العنف السياسي بجامعة غوته فرانكفورت ومعهد فرانكفورت لأبحاث السلام؛ أن تلك السياسة من المرجح أن تزيد من نفوذ حزب الله على المدى الطويل، مستشهدين بتاريخ لبنان القريب حين أدى الاحتلال الإسرائيلي للبلاد إلى ظهور وتقوية المنظمات المناهضة لإسرائيل وفي مقدمتها حزب الله نفسه.
وخلال مسيرة حزب الله، كانت قوة الحزب وشراسته تتزايد مع استهداف إسرائيل لقياداته، تماما كما حدث بعد اغتيال الأمين العام الأسبق عباس الموسوي حين بدأ الحزب باستهداف المصالح الإسرائيلية حول العالم لأول مرة.
وبعيدا عن لبنان، يجادل الكاتبان أن سياسة القتل المستهدف نادرا ما نجحت في تحقيق أهدافها بإضعاف المنظمات المسلحة وتقويضها، في المقابل فإنها تورط مرتكبيها، وفي مقدمتهم إسرائيل والولايات المتحدة، في انتهاكات واضحة للقانون الدولي وقوانين الصراعات المسلحة.
في 27 سبتمبرأيلول، اغتالت إسرائيل حسن نصر الله، الأمين العام لحزب الله، بإسقاط ما بين 60 إلى 80 قنبلة خارقة للتحصينات على حي مكتظ بالسكان في الضاحية الجنوبية لبيروت، وأسفرت الضربة عن مقتل العديد من قادة حزب الله، وجنرال في الحرس الثوري الإسلامي الإيراني، وما لا يقل عن 33 مدنيا، فضلا عن إصابة 195 آخرين.
يمثل هذا الهجوم، والهجمات الأخرى التي أعقبته، والغزو البري الإسرائيلي للبنان، ختاما لحالة من التصعيد المستمر منذ عام ضد قيادات حزب الله.
وخلال ذلك الوقت، قتل الجيش الإسرائيلي مئات المسلحين وآلاف المدنيين، من بينهم ما لا يقل عن 20 قائدا عسكريا ومسؤولا رفيع المستوى في الحزب اللبناني، بما في ذلك خليفة نصر الله المتوقع، هاشم صفي الدين. وفي الثامن من أكتوبرتشرين الأول، أعلن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو أن الحملة الإسرائيلية كانت ناجحة، حيث قال لقد قضينا على آلاف الإرهابيين، بما في ذلك نصر الله نفسه، ورديف نصر الله، ورديف رديفه.
وفقا لمنطق نتنياهو والعديد من المسؤولين الإسرائيليين الآخرين، فإن هذه الاغتيالات أو عمليات القتل المستهدف سوف تساعد على تدمير حزب الله إلى الأبد، لكن الواقع هو أنها من غير المرجح أن تحقق هدفها، فحزب الله هو جماعة راسخة عمرها 40 عاما تتمتع بقاعدة اجتماعية كبيرة، وهو أيضا حزب سياسي ممثل في البرلمان والحكومة في لبنان ويحظى بدعم كبير من إيران؛ ما يمكّنه من التكيف والصمود.
لذلك، لربما تنجح إسرائيل في إضعاف الحزب مؤقتا، لكنه من المرجح أن يعيد توحيد صفوفه، والأهم أن القادة الجدد سوف يسعون للانتقام من إسرائيل من أجل إثبات جدارتهم، وإظهار أن الحزب لا يزال فاعلا مُهِمّا وقادرا على التأثير.
وحتى لو نجحت حملة الاغتيالات الإسرائيلية في إضعاف حزب الله بصورة دائمة، فمن المحتمل أن تظهر مجموعة أخرى لملء الفراغ، فعلى مر التاريخ، عندما تسببت الاغتيالات المستهدفة في إلحاق أضرار لا يمكن إصلاحها بالجماعات المسلحة، سرعان ما ظهرت مجموعات جديدة لتحل محلها. ويرجع هذا إلى كون تلك الاغتيالات تكتيكا وليست حلا سياسيا؛ ما يعني أنها لا تكاد تفعل شيئا لحل القضايا الأساسية التي تحرك الصراع.
في غضون ذلك، تُخلّف الاغتيالات عمدا أو خطأ قتلى في صفوف المدنيين ودمارا للبنية التحتية، كما تعمل على تضخيم المظالم الشعبية وتغذي منابع تجنيد المسلحين، فضلا عن كونها تعطل المفاوضات. وبعبارة أخرى، تعمل الاغتيالات في نهاية المطاف على إطالة أمد العنف بدلا من إنهائه كما تهدف للوهلة الأولى.
على مدار أكثر من نصف قرن، اغتالت إسرائيل قادة الجماعات المسلحة بوسائل متنوعة، مستخدمة غارات فرق الكوماندوز والسيارات المفخخة والضربات الجوية. وقد سلطت هذه الهجمات الضوء على ما يطلق عليه بعض الباحثين والإستراتيجيين العسكريين جز الرؤوس، وتعني قتل أو أسر زعماء الجماعات المسلحة على أمل إضعاف قدرة هذه الجماعات وتحفيز انهيارها.
لكن القتل المستهدف أو جز الرؤوس ليست مصطلحات رسمية في القانون الدولي، ويراها الكثير من الخبراء مجرد تعبيرات ملطفة عن الإعدام خارج نطاق القضاء الذي تحظره قوانين الصراع المسلح.
لكن أنصار هذه التكتيكات، وخاصة إسرائيل والولايات المتحدة، يزعمون أنها وسيلة فعالة عسكريا ومبررة أخلاقيا لإضعاف الجماعات المسلحة المنظمة وهزيمتها، ويدّعي منطقهم أن مثل هذه الضربات يمكن أن تقضي على أفراد ضروريين لعمل منظمة مسلحة مع تقليل الضرر الذي يلحق بالمدنيين إلى أدنى حد.
ولكن عمليات القتل المستهدفة، حتى في ظل التفسيرات الأميركية والإسرائيلية، يجب أن تحترم مبدأ التناسب، والذي يعني أن المكسب العسكري للعملية يجب أن يبرر الخسائر المدنية الناجمة عنها. وقد كتب قاضي المحكمة العليا الإسرائيلية أهارون باراك رأيه في هذه القضية عام 2006 قائلا خذ الحالة المعتادة لمقاتل أو قناص يطلق النار على جنود أو مدنيين من شرفته. إن إطلاق النار عليه يكون متناسبا حتى لو أدى ذلك إلى إيذاء جار مدني بريء أو أحد المارة، ولكن هذا ليس هو الحال إذا تم قصف المبنى من الجو وتضرر العشرات من سكانه والمارين إلى جواره.
بموجب أغلب تفسيرات قوانين الصراع المسلح، بما في ذلك تفسير اللجنة الدولية للصليب الأحمر، فإن العديد من الأشخاص الذين تقتلهم إسرائيل يتمتعون بـوضع محمي. ووفقا لهذه القراءات أيضا، فإن الأشخاص العاملين أو المتطوعين في الخدمات الاجتماعية والأجنحة السياسية لحزب الله يعتبرون غير مقاتلين، ما لم يشاركوا بشكل مباشر في الأعمال العدائية.
ولكن إسرائيل والولايات المتحدة لديهما تفسير أكثر تساهلا لما يشكل مشاركة مباشرة في الأعمال العدائية. على سبيل المثال، في هجوم شنته إسرائيل في 16 أكتوبرتشرين الأول على مبنى البلدية في مدينة النبطية اللبنانية، قُتل رئيس البلدية المنتخب كان مرشحا على قائمة مشتركة لحزب الله وحركة أمل وعدد من المسؤولين الآخرين في لجنة الأزمة التابعة لخدمات الطوارئ في المدينة.
وحتى لو لم تقتل الضربات الإسرائيلية سوى المقاتلين، فإن عمليات القتل المستهدف أو الاغتيالات تواجه مشكلة أخرى، وهي أنها ترتد بنتائج عكسية. ورغم أن الأبحاث حول هذا التكتيك أسفرت عن مجموعة من النتائج المتناقضة، ويرجع هذا جزئيا إلى المعايير المتباينة لحالة النجاح، فإنها تشير عموما إلى أن مثل هذه الهجمات تفشل في تحقيق أهدافها بعيدة الأمد.
على سبيل المثال، لم تنجح الحملات الأميركية في أفغانستان والعراق وباكستان والصومال وسوريا واليمن في تحقيق مبتغاها، وتقدم أفغانستان تحديدا مثالا واضحا على ذلك، فوفقا لـديبالي موخوبادياي، الأستاذة في جامعة جونز هوبكنز، والخبيرة الرائدة في الحرب الأميركية في أفغانستان؛ وقعت الولايات المتحدة في فخ عادة ما يحدث في مثل هذه العمليات، وهو التركيز على الانتقام والمكاسب السياسية القصيرة الأجل بدلا من إيجاد حلول دائمة.
يزعم أنصار عمليات القتل المستهدف أن الهجمات ضد الأفراد المشاركين بنشاط في التخطيط للعنف وتنفيذه تقلل من قدرة المنظمة وتؤدي إلى انهيار الروح المعنوية لأفرادها، وتدعي الحكومة الإسرائيلية أن عملياتها الحالية في لبنان تحقق هذه الأهداف بالضبط.
ولكن حزب الله أثبت قدرته على الصمود في مواجهة هذه التهديدات، ويرجع ذلك إلى حد كبير إلى كونه راسخا مؤسسيا وبيروقراطيا. وعادة ما تمتلك الجماعات مثل حزب الله إجراءات وخططا للخلافة في حال ترقية قياداتها أو وفاتهم أو تركهم لمناصبهم لأي سبب، ناهيك بكون وحداتها عادة ما تُنظم مثل الخلايا بحيث لا يؤثر مقتل كبار القادة على قدرات الجماعة بشكل دائم.
في أعقاب اغتيال كبير، من المؤكد أن الجماعات المستهدفة ربما تعاني من انقطاع الاتصالات والارتباك والحزن والارتياب، ومع ذلك، حتى لو قُتل قائد متوسط المستوى أو شخصية عسكرية مهمة أو قائد كبير، فإن النواب يكونون منتظرين في الكواليس مستعدين لتولي مهامهم بينما يمكن للمقاتلين مواصلة الهجمات. الدليل على ذلك أنه منذ وفاة حسن نصر الله -على سبيل المثال- أطلق حزب الله مئات الصواريخ والقذائف والطائرات بدون طيار على القواعد العسكرية الإسرائيلية والمدن الكبرى مثل حيفا وصولا إلى مقر إقامة نتنياهو نفسه.
في الواقع، قد تكون الجماعة التي فقدت شخصيات رئيسية أكثر تصميما على إثبات قدراتها وإعادة بناء قوتها. لقد أطلق حزب الله نيرانه عبر الحدود اللبنانية-الإسرائيلية لأول مرة في أعقاب جنازة الأمين العام لحزب الله عباس الموسوي، الذي اغتالته إسرائيل عام 1992، وفيما يبدو دفع موت الموسوي قادة حزب الله إلى الرد وتدشين عمليات متطورة ضد الجيش الإسرائيلي في جنوب لبنان المحتل، بل وعلى المستوى الدولي.
وقد ربط أوري ساغي، رئيس الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية بين عامي 1991 و1995، اغتيال الموسوي بشكل مباشر بتصعيد حزب الله لهجماته الدولية، بما في ذلك تفجير السفارة الإسرائيلية والمركز الثقافي اليهودي في الأرجنتين عامي 1992 و1994.
وبعد مرور أكثر من عقد على اغتيال الموسوي، أصبح حزب الله أكثر قوة وأعظم قدرة، فيما قادت سنوات الجمود الدموي في الجنوب اللبناني إلى انسحاب إسرائيل من لبنان في نهاية المطاف عام 2000. ورغم استمرار إسرائيل في سياسة الاغتيالات أو القتل المستهدف منذ ذلك الحين، فإنها لم تثمر شيئا سوى زيادة نفوذ حزب الله. وفي 12 يوليوتموز عام 2006، شن الحزب غارة عبر الحدود نجح خلالها في قتل وأسر عدد من الجنود الإسرائيليين؛ ما تسبب في نشوب حرب واسعة في وقت لاحق من الشهر نفسه.
يمكن أن تؤدي الاغتيالات أيضا إلى ترقّي قادة أكثر تشددا أو أكثر فاعلية، وقد أدى اغتيال الموسوي إلى صعود نصر الله الأكثر كاريزمية من سلفه، وباعتباره أمينا عاما، يُنسب إلى نصر الله -إلى جانب كبير الإستراتيجيين العسكريين في حزب الله عماد مغنية- الفضل في تحويل الجماعة من ميليشيا محلية إلى جيش غير حكومي أقوى من القوات المسلحة اللبنانية.
وعلى نحو مماثل، قد تؤدي الاغتيالات إلى دعوة جهات خارجية إلى تقديم الدعم المالي والفني، فعندما قتلت إسرائيل عماد مغنية عام 2008، أصبح مستشارو الحرس الثوري الإيراني أكثر انخراطا في العمليات اليومية لحزب الله.
المفارقة هي أنه حتى عندما تنجح الاغتيالات في إلحاق أضرار مؤقتة بالهيكل القيادي للجماعات المستهدفة، فإن ذلك يقود إلى المزيد من العنف. ففي المجموعات التي تستخدم التقسيمات والهياكل الخلوية، ربما تنشأ فصائل ذات مصالح وأجندات مستقلة، وعادة ما يستخدم القادة الصاعدون العنف في التنافس على الاهتمام والموارد والمكانة، وهي الممارسة التي يطلق عليها علماء السياسة اسم المزايدة. والنتيجة هي أن هجمات المجموعة المستهدفة غالبا ما تصبح أقل قابلية للتنبؤ وأكثر حساسية.
لقد حدث ذلك بالفعل من قبل في لبنان. ففي عام 1982، غزت إسرائيل لبنان بهدف استئصال منظمة التحرير الفلسطينية والفصائل المسلحة الفلسطينية، التي كانت تطلق الصواريخ وتشن الغارات العسكرية من جنوب لبنان على شمال إسرائيل، وقتلت إسرائيل وسجنت القادة الفلسطينيين، إلى جانب آلاف المدنيين، تاركة الوحدات العملياتية الفلسطينية بلا قائد وبدون تنسيق، ومع احتلال إسرائيل لجنوب لبنان حتى مدينة صيدا الساحلية، نشأت فصائل فلسطينية محلية غير مرتبطة بهياكل القيادة والسيطرة التقليدية، وقد عملت هذه الفصائل مع نظيرتها اللبنانية، محدثة دمارا هائلا في صفوف القوات الإسرائيلية والمتعاونين معها.
ونتيجة لذلك، اضطرت إسرائيل عام 1985 إلى الانسحاب إلى المنطقة الحدودية، والتي استمرت في احتلالها حتى عام 2000. رغم ذلك، لا يزال لبنان يعيش إرث تلك الحرب إلى اليوم. وقد برز أحد القادة الفلسطينيين، الذين استهدفتهم إسرائيل في غارة في أكتوبرتشرين الأول على مخيم عين الحلوة في صيدا، في خضم فراغ السلطة الذي ساد في الثمانينيات.
وتوضح عواقب غزو إسرائيل للبنان في عام 1982 حقيقة صارخة أخرى، وهي أن إضعاف جماعة ما أو حتى هزيمتها بشكل دائم من شأنه أن يؤدي إلى ظهور جماعات جديدة. وقد وفرت هزيمة الفلسطينيين والاحتلال الإسرائيلي سببا لوجود حزب الله، ففي أغسطسآب 1982، أُجلي أكثر من 14 ألف مقاتل فلسطيني من بيروت، في أعقاب وقف إطلاق النار الذي توسطت فيه الولايات المتحدة، بصحبة الزعماء السياسيين الفلسطينيين إلى دمشق وتونس؛ ما ترك فراغا واضحا قام لملئه حزب الله.
واحد من المبررات الرئيسية لعمليات القتل المستهدف هو الادعاء بأنها تقلل من أعداد القتلى المدنيين، لكن الحقيقة أن هذه العمليات سببت دمارا وإصابات واسعة في صفوف المدنيين. فقد أدت الغارة الجوية التي قتلت نصر الله إلى تدمير مبنى كامل في أحد أكثر الأحياء اكتظاظا بالسكان في لبنان، كما أدى الهجوم الإسرائيلي في العاشر من أكتوبرتشرين الأول الذي استهدف وفيق صفا، ضابط الاتصال بين حزب الله وأجهزة الأمن اللبنانية، إلى انهيار مبنى سكني من 8 طوابق في وسط بيروت؛ ما أسفر عن مقتل 22 شخصا وإصابة 117 آخرين.
وتزعم الحكومة الإسرائيلية أنها كثيرا ما تستخدم المكالمات الهاتفية والرسائل النصية والمنشورات التي تُلقيها من الجو لحث السكان على إخلاء المناطق المستهدفة قبل مهاجمتها، لكن منظمة العفو الدولية أفادت في أكتوبرتشرين الأول أن إشعارات الإخلاء حتى إنْ وصلت فإنها غالبا ما تكون غير واضحة أو لا تمنح المدنيين الوقت الكافي لمغادرة المنطقة.
وحتى تلك العمليات التي يشيد بها المحللون العسكريون لتطورها التقني تفتقر إلى الدقة اللازمة لتجنب إلحاق الضرر بالمدنيين على نطاق واسع. وقد اندهش العديد من المراقبين، على سبيل المثال، عندما فجرت إسرائيل في سبتمبرأيلول في وقت واحد آلاف أجهزة النداء البيجر واللاسلكي التي يستخدمها حزب الله، ولكن هذه الهجمات قتلت وأصابت العشرات من الناس الذين لا ينتمون إلى الحزب. ووصف مدير وكالة الاستخبارات المركزية ووزير الدفاع الأميركي الأسبق ليون بانيتا هذه الهجمات بأنها شكل من أشكال الإرهاب.
وفي كثير من الحالات، لا يستطيع المدنيون الذين يريدون الفرار أن يفعلوا ذلك، وقد لا يكون كبار السن أو المرضى أو المعاقون قادرين على الفرار. وفي بلد يعيش فيه ما يقرب من نصف السكان في حالة من الفقر، فإن العديد من الناس لا يمتلكون القدرة المالية اللازمة لإخلاء منازلهم والفرار.
وبالنظر إلى هذه الحقائق، تصبح هذه الهجمات بمثابة عقاب جماعي للمدنيين. والمفاجأة هي أن الحكومة الإسرائيلية تعي ذلك تماما، وهي تأمل أن تؤدي تلك المصاعب إلى تأليب المدنيين على حزب الله. ففي أكتوبرتشرين الأول، هدد نتنياهو لبنان بـالدمار والمعاناة تماما مثل غزة ما لم يَثُر الناس ضد حزب الله. ووفق رؤية نتنياهو، إذا ألقى الناس باللوم على حزب الله في تدمير بلدهم، فإنهم سوف يساعدون إسرائيل على استهداف أعضاء الجماعة وتفكيك نفوذها.
ولكن هذا التحول من غير المرجح أن يحدث، بل إن العكس تماما هو الصحيح، فإسرائيل قوة أجنبية غزت لبنان 3 مرات بالفعل، وشنت العديد من العمليات العسكرية المدمرة الأصغر حجما. وخلال الاحتلال الذي دام من عام 1982 إلى عام 2000 فرضت إسرائيل سياسة وحشية على جميع سكان الجنوب اللبناني، وسجنت الآلاف من اللبنانيين والفلسطينيين، وأذكت التوترات الطائفية من خلال الاستعانة بجيش جنوب لبنان ذي الأغلبية المسيحية. وقد أدى الاحتلال، إلى جانب القمع والصعوبات التي رافقته، إلى حشد مجندين جدد لصفوف حزب الله وغيره من الأحزاب والجماعات السياسية المسلحة في لبنان.
إن تجربة المدنيين للضربات الإسرائيلية العشوائية في كل مكان تقريبا، تؤثر أكثر من أي شيء آخر على وعيهم وقراراتهم، وتعمل هذه الهجمات على ترسيخ قناعات أنصار حزب الله المدنيين، بل إن بعض الذين لم يقاتلوا من قبل ربما يصبحون على استعداد للانضمام للقتال، ويقررون أن الوصول إلى الأسلحة والرواتب والمعلومات هو أفضل طريق لديهم، وخاصة عندما قد يتم قتلهم عشوائيا رغم محاولتهم تجنب الأعمال العدائية المتصاعدة، تماما كما حدث بين عامي 1982 و2000، حينما احتشدت قطاعات أكبر من السكان اللبنانيين ضد إسرائيل.
بشكل عام، يشير السجل المتعلق بالقتل المستهدف أو الاغتيالات إلى أن هجمات إسرائيل على حزب الله من غير المرجح أن تدمره، فبعد كل شي استخدمت إسرائيل هذا التكتيك ضد الحزب لعقود من الزمن، وبدلا من الانهيار، أثبت حزب الله قدرته على الصمود والتكيف. وقد أدت محاولات قطع رأس القيادة إلى المزيد من العنف والتوسع التنظيمي وزيادة النفوذ الإيراني.
لا أحد يعرف هذا أفضل من الشعب اللبناني نفسه، ففي أكتوبرتشرين الأول قال رامي مرتضى، سفير لبنان لدى المملكة المتحدة، ردا على تهديد نتنياهو بتحويل لبنان إلى غزة إن الهجمات الإسرائيلية سوف تعمل على ترسيخ مكانة حزب الله، وسوف تزيد من الإحباط بين السكان. والأهم أنها سترسخ ما يردده حزب الله منذ أربعين عاما وهو أن إسرائيل لا تفهم إلا لغة القوة.
هامش
استُخدمت لفظتَا الاغتيالات والقتل المستهدف بمعنى واحد في هذا المقال، وهما ترجمة لمصطلح Targeted killings. | https://www.aljazeera.net/politics/2024/11/16/%d8%a7%d8%ba%d8%aa%d9%8a%d8%a7%d9%84-%d9%82%d8%a7%d8%af%d8%a9-%d8%ad%d8%b2%d8%a8-%d8%a7%d9%84%d9%84%d9%87-%d8%b3%d8%aa%d8%b2%d9%8a%d8%af%d9%87-%d8%b4%d8%b1%d8%a7%d8%b3%d8%a9-%d9%88%d9%87%d8%b0%d9%87 | 2024-11-15T22:30:22 | 2024-11-16T00:09:01 | أبعاد |
|
41 | لماذا تخاف أميركا من كلب الصين الروبوتي القاتل؟ | خلال مناقشة في الكونغرس الأميركي في يونيو/حزيران 2024، تحدث النواب عن تهديد جديد قال بعضهم إنه يمثل مستوى مختلفا من القتال، وهو الكلاب الروبوتية التي تحمل بنادق آلية وتستخدمها الصين. | خلال مناقشة في الكونغرس الأميركي في يونيوحزيران 2024، تحدث النواب أثناء استعراض مشروع قانون التفويض الدفاعي السنوي عن تهديد جديد قال بعضهم إنه يمثل مستوى مختلفا من القتال، وهو الكلاب الروبوتية التي تحمل بنادق آلية وتستخدمها الصين في التدريبات حاليا، وربما في الصراعات المستقبلية المحتملة.
حظيت الكلاب الصينية باهتمام الرأي العام العالمي بعد أن عرضت هيئة الإذاعة والتلفزيون الصينية مقطعا مصورا لروبوتات مسلحة رباعية الأرجل خلال التدريبات العسكرية الأخيرة مع كمبوديا. في المقطع، يظهر روبوت يشبه الكلب، يبلغ وزنه 15 كلغ تقريبا، وهو يحمل بندقية آلية ويطلق النار. وفي ذات المقطع، قال متحدث باسم الجيش الصيني إن الروبوت، الذي يمكنه أداء العديد من المهام بشكل مستقل، يمكن أن يكون بمثابة عضو جديد في عملياتنا القتالية الحضرية.
يوضح المقطع أن الكلب الروبوتي يتشارك مع مجموعة من الجنود مهمةَ اقتحام مكان ما في بيئة تدريبية، وذلك في سياق مناورات التنين الذهبي المشتركة مع كمبوديا في خليج تايلند، التي يشارك فيها أكثر من 2000 جندي، إلى جانب عشرات السفن الحربية.
لا نعرف الكثير عن المحددات التكنولوجية للروبوت الصيني المقاتل، لكنه يشبه روبوتا آخر من طراز يسمى جو2، أصدرته شركة يونيتري الصينية ومقرها مدينة هانغتشو غربي البلاد، وهي متخصصة في الروبوتات رباعية الأرجل الموجهة، وتبيعها عبر الإنترنت بأسعار تبدأ من 1000 دولار. في عام 2021، أصدرت الشركة نموذج جو1، وكان مزودا باثني عشر محركًا، ويتنقل على أسطح مختلفة، بما فيها الرمال والصخور والتراب.
أما النسخة الأحدث جو2 فيمكنها التعرف على كل محيطها تقريبا أثناء المضي قدما، مع نقطة عمياء صغيرة جدًا، ومسافة اكتشاف للتضاريس لا تقل عن 0.05 متر عبر تقنية الليدار المتقدمة التي تحدد المدى عن طريق الليزر، مما يجعل جو2 قادرا على التعرف على جميع أشكال التضاريس وبدقة شديدة. ومن خلال تدريب محاكاة بالذكاء الاصطناعي، تعلّم الروبوت حركات متقدمة، مثل المشي رأسًا على عقب، والانقلاب، وتسلق العوائق، مع مرونة واستقرار ممتازين في نفس الوقت.
وفق ما سبق يُطرح تساؤل هل الروبوت الصيني المقاتل الجديد هو جو2؟ الهيكل الخارجي للروبوت يُظهر ذلك، لكن الشركة أعلنت في بيان صحفي أنها لا تبيع أجهزتها للجيش الصيني، وهو ما يضعنا مجددا في خانة التكهنات، لكنْ يمكن التأكيد أنه حتى وإن كان هذا الروبوت لا ينتمي إلى يونيتري، فإنه أولًا ماهر بالقدر نفسه، وثانيًا يمتلك ميزة إضافية وهي بندقية آلية على ظهره من نوع كيو بي زد-95، وهذه وحدها كارثة.
هذه البندقية من فئة البنادق ذات الفتحة الأمامية، حيث يقع مخزن السلاح خلف مجموعة المقبض والزناد، وهي بندقية هجومية تم تصنيعها بواسطة شركة نورينكو لقوات الجيش ووكالات إنفاذ القانون الصينية، وتستخدم رصاصة يبلغ مداها حوالي 800 متر، ويمكنها اختراق صفائح فولاذية لعمق 3 مم.
هذه ليست المرةَ الأولى التي تعرض فيها الصين كلبًا آليًا مسلحًا، ففي أكتوبر 2022، نشرت شركة الدفاع الصينية كيستريل ديفانس مقطع فيديو يظهر طائرة مسيرة وهي تسقط مركبة شبيهة أرضية رباعية الأرجل، وقد ثُبّتت عليها بندقية آلية خفيفة من طراز كيو بي بي97. وُصفت المركبة بأنها يمكنها الدخول مباشرة خلف خطوط العدو لشن هجوم مفاجئ، أو يمكن وضعها على سطح العدو لاحتلال المرتفعات صاحبة نقاط القوة العسكرية لقمع القوة النارية. كما يمكن للقوات البرية أن تشن هجومًا على العدو في المبنى من الأسفل، فتصنع الكلاب والجنود كماشة على العدو.
Blood-Wing, a Chinese defense contractor, demonstrates drone-deploying an armed robodog.
The Future is Now. pic.twitter.comtRKnKa8xvp
Lia Wong LiaWong__ October 4, 2022
في الواقع، لدى الولايات المتحدة أيضا تجارب في هذا النطاق، ففي 2023 أجرى البنتاغون تجارب على روبوتات أرضية رباعية الأرجل باستخدام بنادق من نوع إم-4 القصيرة عيار 5.56 45 ملم، وبنادق أخرى من طراز إكس أم7، بل وحتى السلاح المضاد للدبابات إم 72 الذي كان في الخدمة مع القوات الأميركية منذ حرب فيتنام.
وقبل أسابيع قليلة من لقطات الكلاب الروبوتية الصينية المسلحة، كشفت قيادة العمليات الخاصة في مشاة البحرية الأميركية أنها جربت إضافة أنظمة أسلحة محمولة مدعومة بالذكاء الاصطناعي على الكلاب الآلية الخاصة بها. ونتحدث هنا عن سينتري، نظام الأسلحة عن بعد، الذي يعمل على كشف الهدف والتعرف عليه بشكل مستقل، ثم يمرر المعلومات إلى مشغل بشري يتخذ القرار بالاستهداف من عدمه. ببساطة، نتحدث عن بندقية آلية ضخمة، لكن بدون مُشغل يمسك بها.
وتتميز منظومة سينتري بالقدرة على العمل في بيئات مختلفة، ويمكنها التوافق مع الإعدادات الأرضية والجوية والبحرية، وهي مزودة بأجهزة استشعار ذكية للنهار والليل، بما في ذلك التصوير الحراري، كما أنها خفيفة الوزن وسهلة التعبئة ويمكن تركيبها على منصات مختلفة. لكن الأهم من كل ذلك، أن هذه المنظومة تمثل تقدما كبيرا في منظومات الأسلحة عن بعد، حيث توفر وعيا محسّنا بالموقف وتضاعف القوة، مع الحفاظ على الأمان البشري.
إلى جانب كل هذا، هناك مشروعات مثل سبوت من شركة بوسطن ديناميكس، وفيجن 60 من شركة غوست روبوتيكس، ويجري العمل على قدم وساق لتأهيل تلك الكلاب الروبوتية بأسلحة تعمل بدورها بشكل مستقل، وهو ما سيوفر في مرحلة ما أداة قتل دقيقة. لكن، إن كان رجال الكونغرس وجنرالات الجيش في الولايات المتحدة يمتلكون كلابا شبيهة، فما الذي يدفع للقلق تجاه فيديو الكلب الروبوتي الصيني؟
يفعل الكثير في الحقيقة، ويبدو أن ما أقلق الكونغرس الأميركي لم يكن -تحديدًا- الكلب وبندقيته، بل شكل المعركة التي أدمج بها عسكريا، وهو الأخطر على الإطلاق، فالروبوت يتصرف بشكل يتكامل خلاله مع فرقة من الجنود في تأدية مهمة اقتحام، وربما يقوم الروبوت بعمل مسح أولي للمكان ثم تتبعه فرقة من الجنود البشريين، بشكل يفترض أن يقلل من حجم الخسائر البشرية في المعارك.. هذا التكامل يعني أن الكلب الروبوتي يمتلك درجة من التواصل مع الفريق وفهم أوامره وتنفيذها لحظة بلحظة.
منذ اللحظة الأولى التي ظهرت فيها الكلاب الروبوتية، كان مؤكدا أنها ستمتلك يومًا ما مكانًا في أرض المعركة. ومثل كل مُسيّر، كانت الوظائف الأولى محددة مسبقًا، حيث يمكن تجهيز الكلاب الروبوتية بكاميرات وأجهزة استشعار ومعدات مراقبة أخرى لجمع المعلومات الاستخبارية في الوقت الفعلي إلى جانب دوره في الحرب الإلكترونية بتعطيل اتصالات العدو، مع خاصية التنقل عبر التضاريس الوعرة ودخول المباني والعمل في بيئات خطرة دون المخاطرة بأرواح البشر.
ستلعب الكلاب الروبوتية وفق هذا السياق دورا مهما، حيث يمكنها نشر رسومات الخرائط واستكشاف التضاريس غير المألوفة أو الخطرة. ويمكن لأجهزة الاستشعار والكاميرات الخاصة بالكلب الروبوتي توفير مقاطع مصورة وبيانات في الوقت الفعلي لوحدات القيادة. كما يمكن استخدامه لمهام الاستطلاع الخفي لجمع المعلومات الاستخبارية عن مواقع العدو وتحركاته، أو المشاركة في دوريات لتأمين المحيط، وتنبيه المشغلين البشريين إلى أي اقتحامات أو نشاط غير اعتيادي.
إضافة لذلك، يمكن استخدام هذه الروبوتات للكشف عن الأجهزة المتفجرة ومن ثم تحييدها، كما يمكنها حمل الإمدادات والذخيرة والمعدات الطبية عبر ساحة المعركة. وفي المناطق التي تعاني من ضعف البنية التحتية للاتصالات، يمكن للكلاب الروبوتية أن تعمل كمرحّلات اتصالات متنقلة، مما يوسع نطاق وموثوقية شبكات الاتصالات العسكرية.
أما مسألة العمل جنبًا إلى جنب مع جنود بشريين، فتلك قصة أخرى، حيث يمكن استخدام هذه الكلاب الروبوتية لإنشاء حالة من التشتيت، عبر جذب نيران العدو أو انتباهه بعيدًا عن القوة العسكرية التي تتسلل إلى مكان ما، ويمكن أن يكون هذا مفيدًا بشكل خاص في سيناريوهات الكمائن. وفي هذا النطاق تُجهَّز الكلاب الروبوتية بآليات الصوت والحركة لمحاكاة الوجود البشري، وبالتالي إرباك العدو بشأن مواقع القوات، كما يمكن لهذه الكلاب المسلحة الاشتباك مع الأهداف مباشرة في السيناريو ذاته.
وفي فرقة ذات مهام متكاملة، يمكن للكلاب الروبوتية أن تتولى زمام المبادرة، وتتحرك أمام الجنود البشريين لكشف التهديدات وتطهير المسارات، كما حصل في حالة الكلاب الصينية، أو أن تلعب دور الحرس الخلفي، فيتم نشرها لمراقبة وحماية مؤخرة الوحدات القتالية المتقدمة؛ من الهجمات المفاجئة. كما يمكن استخدام الكلاب الروبوتية لتنفيذ مناورات التطويق، ومهاجمة العدو من الجانبين، فبينما يقاتل الجنود البشريون من الأمام، تقاتل الكلاب الروبوتية من الخلف، وهذا قد يؤدي إلى خلق حالة من الارتباك لدى العدو وتعطيل تشكيلاته.
وفقًا للاتحاد الدولي للروبوتات، تم تركيب عدد قياسي بلغ 553 ألف روبوت صناعي خلال عام 2022، وارتفع المخزون التشغيلي العالمي إلى 3.9 ملايين قطعة بحلول نهاية العام نفسه. ومرة أخرى، كانت آسيا المحرك الأكبر لهذا النمو، حيث تم تركيب 73 من الروبوتات خلال العام المذكور؛ في دول القارة، بل وشكلت الصين وحدها أكثر من نصف التركيبات الجديدة، مما يجعلها أكبر سوق للروبوتات في العالم.
بالطبع، فإن ما سبق لا يتعلق بالصناعات العسكرية تحديدا، لكنه مؤشر مهم على خطة الصين لتحويل كل شيء تقريبًا إلى أيادي الروبوتات، وفي هذا السياق تعمل إدارة البلاد على تطوير قواعد ابتكار وإنتاج وصيانة الروبوتات بشكل مدهش. وليس مستغربا أن يأمل الصينيون السيطرةَ على العرض العالمي للمكونات الأساسية لصناعة الروبوتات بحلول عام 2025، وتحقيق الهيمنة العالمية في تصنيع الروبوتات الشبيهة بالبشر بحلول عام 2027.
في الصين أيضا يتم تشجيع الكيانات العسكرية والتجارية والأكاديمية على تطوير وتبادل الاختراقات في التكنولوجيات بشكل مشترك، وتعد الروبوتات استخداما مثاليا لهذا الاندماج، حيث تتفوق الشركات التجارية على نظيراتها العسكرية في تقنياتٍ مثل التشغيل والملاحة المستقلة والذكاء الاصطناعي والمكونات المتقدمة.
وفي هذا السياق، دعا الرئيس الصيني شي جين بينغ، إلى أن تصبح البلاد رائدة عالمية في مجال الذكاء الاصطناعي، الذي يعد الجانب المكمل للصناعات الروبوتية، بحلول عام 2030، كما وضعَ الابتكارَ العسكري في قلب البرنامج، وشجّع جيش البلاد على العمل مع الشركات الناشئة في القطاع الخاص، ومع الجامعات.
وفي خطاب من المجلد الأول من سلسلة كتب حوكمة الصين بعنوان الانتقال إلى النمو المدفوع بالابتكار، يقول الرئيس شي إن الثورة الصناعية الحالية ستكون ثورة روبوتية، وإنها ستعيد تعريف التصنيع العالمي والأمن الأوسع. وعلى هذا النحو، يرى الرئيس شي أنه من الضروري أن تصبح الصين أكبر مصنع في العالم للتكنولوجيا من هذا النوع، ويمضي قائلا إن التكامل بين تكنولوجيا الروبوت والجيل الجديد من تكنولوجيا المعلومات هدف رئيسي في هذا السياق.
تدخل الصين حاليًا كمنافس قوي للولايات المتحدة في تصنيع الروبوتات للأغراض العسكرية، وبناء أفضل تقنيات الذكاء الاصطناعي، لأنها ببساطة تمتلك ما يكفي من البنية التحتية للخروج من هذا النوع من المنافسات منتصرة، خاصة في سياق أن الأجهزة الروبوتية العسكرية لا تختلف كثيرا عن الروبوتات المدنية، وهذا ما لاحظناه مثلا في حالة شبيه جو2 الذي استخدمه الجيش الصيني.
يضاف ذلك كله إلى مخاوف الكونغرس الأميركي. ورغم أن الولايات المتحدة والصين تلتزمان حتى الآن بعدم إدخال الروبوتات المقاتلة، لدرجة أن بكين أعطت بعض الأمل للناشطين الذين يطالبون بحظر مثل هذه الأسلحة؛ عبر إيضاح أنها ضد استخدامها في ساحة المعركة. ورغم تلك التصريحات، فإن ذلك لم يمنع الدولتين من المضي قدمًا في تطويرها أو إنتاجها، بل وتجريبها.
وكان ثمرة هذا المضيّ المتسارع نحو تطوير سوق الأسلحة الروبوتية تحديدًا، هو تضاعف حجم هذه الصناعات من حيث القيمة السوقية عامًا بعد عام، بحيث بات من المتوقع أن يصل إلى نحو 33 مليار دولار بحلول عام 2030، وهذا لا يشمل إلا المعلن عنه فقط. وتجدر الإشارة هنا إلى أن الروبوتات العسكرية مستخدمة في أرض المعركة بالفعل، لكن لغير أغراض الاشتباك أو القتال المباشر، فمثلا تستخدم الكلاب الروبوتية أو أية تقنيات شبيهة في مسح منطقة القتال، وتفكيك المتفجرات، وإيصال الدعم إلى الجنود في ساحة المعركة، وأغراض الاستخبارات، وغيرها من الاستخدامات.
كل ما سبق يصب بشكل خاص في مصلحة دول مثل الصين وروسيا والهند، فهي لا تتمكن بسهولة من منافسة الولايات المتحدة في سوق قائم بالفعل كانت لها سيادة عليه طوال عقود مضت، لتصنيع مختلف أنواع الأسلحة التقليدية البحرية والبرية والجوية، لكن هذه الدول بدأت مع الولايات المتحدة في سوق الصناعات العسكرية الناشئة، ومن المحتمل أن تتقدم عليها خلال السباق ناحية أي من تلك الصناعات.
ولا يقف ذلك عند الروبوتات العسكرية فحسب، بل يمتد إلى الأسلحة المضادة للأقمار الصناعية، وحرب المسيّرات، والحرب السيبرانية، والصواريخ الفرط صوتية.. إلخ. إن استخدام هذه النوعية من الأسلحة قد يتم خلال حرب غير متكافئة، حيث يستخدم أحد الجانبين التكنولوجيا المتقدمة للتعويض عن المزايا العددية أو العسكرية أو الجغرافية للجانب الآخر.
إلى ذلك، يعتبر مخططو الدفاع والاستراتيجيون في الصين أن الروبوتات والأنظمة غير المأهولة بشكل عام تمثل جزءا من اتجاه أوسع في طبيعة الحرب لتصبح ذات ثلاث سمات رئيسية؛ أكثر دقة، وبعيدة المدى، وشبكية.
وبحسب دراسة أصدرتها لجنة مراجعة العلاقات الاقتصادية والأمنية بين الولايات المتحدة والصين التابعة للكونغرس، فإن المقالات المنشورة على موقع وزارة الدفاع الصينية والإصدارات الموثوقة مثل مجلة علم الاستراتيجية العسكرية، تؤكد على الأهمية المتزايدة لمنصات الأسلحة بعيدة المدى والدقيقة والذكية والخفية وغير المأهولة، وهي القاعدة التي يتفق معها الكتاب الأبيض الدفاعي الصيني لعام 2015.
وبينما كانت الميزة التكنولوجية محركًا أساسيًا للقوة العسكرية الأميركية، يهدف الجيش الصيني إلى تحدي هذه الهيمنة عبر تشغيل تقنيات المقاتلين الروبوتيين المدعومين بالذكاء الاصطناعي في الحرب المستقبلية، من أجل التعويض عن تفوق الولايات المتحدة في التقنيات العسكرية الأخرى.
بل ودفعت قدرة الصين على منافسة الولايات المتحدة أو تجاوزها في مجال الذكاء الاصطناعي؛ الجيشَ الأميركي إلى إعادة النظر في ظهور الجيش الصيني كمنافس هائل في منطقة المحيطين الهندي والهادئ، وإعادة النظر في آفاق المنافسة التكنولوجية بين البلدين.
في الواقع، يبدو أن واشنطن تواجه بالفعل مشكلة كبيرة في هذا النطاق، ففي مقالة بحثية صدرت بمجلة فورين أفيرز، يقول الجنرال الأميركي مارك مايلي، والبروفيسور إيرك شميدت، إن الولايات المتحدة كما يبدو ليست مستعدة لمستقبل تحكمه مثلُ هذه الأسلحة التي تجعل من حروب المستقبل أقل اعتمادا على الحشد، وأكثر اعتمادا على الأسلحة ذاتية التحكم والخوارزميات القوية.
وعلى الرغم من أن الحروب كانت دائما تحفز الابتكار، فإن الأمر هذه المرة مختلف، وكما يرى مايلي وشميدت، فإنه متسارع بشكل كبير، مقارنة بما سبق من تاريخ التقنيات العسكرية كله، وهو ما يضع الولايات المتحدة، التي تتخلف عن دول أخرى في هذا النطاق، في أزمة تهدد بفقدان مركزها الأول، كأقوى جيش في العالم.
وقبل عدة سنوات أصدرت لجنة الأمن القومي الأميركي للذكاء الاصطناعي تقريرها للحكومة، وأوضحت فيه أن استخدام الذكاء الاصطناعي في الحرب -الأمر الذي بدأ بالفعل- سيُشكّل ثورة تقنية تتخطى في أثرها اكتشاف كلٍّ من البارود والسلاح النووي. وأوصت اللجنة بمضاعفة الاستثمار في البحث العلمي الخاص بهذا النطاق عاما بعد عام.
في مقال نشرته صحيفة فايسكال تايمز عام 2013، يستشهد ديفيد فرانسيس بأرقام وزارة الدفاع الأميركية، التي تظهر أن كل جندي في أفغانستان يكلف البنتاغون قرابة 850 ألف دولار سنويا، بينما تبلغ تكلفة أحد الروبوتات الصغيرة المسمى تالون وتجهيزه بالأسلحة 230 ألف دولار فقط. وعليه، اقترح القائد السابق لقيادة التدريب والعقيدة بالجيش الأميركي، الجنرال روبرت كون، في ندوة طيران الجيش لعام 2014 أن يتم الاعتماد بشكل أكبر على الروبوتات الداعمة، وأنه بذلك يمكن للجيش في النهاية تقليل حجم اللواء من 4000 إلى 3000 جندي، دون أن يصاحب ذلك انخفاض في الفعالية.
يرى المحللون الصينيون أن هذا الكلام ليس مجرد رأي فردي، بل هو عقيدة معاصرة للجيش الأميركي، حيث يعتقدون أنه ينوي تبني الأنظمة غير المأهولة مثل المسيّرات والروبوتات الأرضية مع انتقاله من أفغانستان والعراق وحاجته الماسة إلى التكيف مع التخفيضات في الإنفاق العسكري. وتؤكد بعض التقارير الصينية أنه بحلول عام 2040، قد يفوق عدد الروبوتات عدد البشر في الجيش الأميركي، وفي عصر ما بعد أفغانستان، ستكون هناك ثلاثة اتجاهات سائدة، أهمها تكاملٌ أكبر للتكنولوجيا والقوى العاملة، بحسب دراسة نشرتها دورية كورنيل إنترناشيونال أفيرز.
إذن، تعمل الصين والولايات المتحدة في طريق تنافسي صدامي واضح، مبني على أن الطرف الآخر لا يتوقف في تطويره للمنصات من هذا النوع، وهنا نتجه لتوسيع الحديث بعيدًا عن الروبوتات المقاتلة على الأرض لنضم المسيّرات الجوية والمسيرات المائية الغواصات غير المأهولة، وصولًا إلى تشغيل الأسلحة الحالية بأدوات الذكاء الاصطناعي، مثل طائرات الجيل السادس على سبيل المثال، التي يعتقد أن نسخا أساسية منها ستكون غير مأهولة.
ومع التسارع الشديد في تطوير الكلاب الروبوتية والذكاء الاصطناعي، يعرف الخبراء أنه في مرحلة ما سينطلق هذا السباق في الاتجاه الذي تريده كل التكنولوجيا العسكرية تقريبا، وهو الاستقلالية.
يبحث العميل، وهو هنا عادةً دولة ما ترغب في تطوير جيشها، أو ربما قوة غير نظامية تبتغي زيادة قدراتها، عن أسلحة تتمكَّن من السفر نحو الهدف، وتحليل الموقف بأعلى القدرات الحسابية، ثم اتخاذ القرار الأدق والأنسب، وتنفيذه فورا لتحصيل أكبر خسائر ممكنة للعدو، وأن تكون أسلحة قادرة على التعلُّم وزيادة خبراتها ودقتها مع الوقت.
إلى جانب ذلك، يمكن لهذه المنظومات أن تعمل معا في سياق سياسة القطعان، أي أن تتبادل المعلومات والبيانات فيما بينها وتنسق القرارات أيضا بحيث تُعظم الأثر العسكري تلقائيا بحسب الخوارزميات التي تحركها، وهو شكل يشبه ضربات الأسلحة المشتركة التي تنسقها الجيوش النظامية التقليدية، ولكن بصورة أكثر دقة وتأثيرا بفارق كبير.
أحد المخاوف الأساسية هو أن أنظمة الأسلحة المستقلة تفتقر إلى الحكم البشري والمنظور الأخلاقي، وهما أمران حاسمان في اتخاذ القرارات بشأن استخدام القوة المميتة، فهناك احتمال قائم بألا تتمكن الأنظمة المستقلة من التمييز بين المقاتلين وغير المقاتلين بشكل فعال، كما أن اتخاذ قرارات دقيقة في ساحات المعارك المعقدة والفوضوية أمر شبه مستحيل.
فإذا ارتكب سلاح مستقل خطأ، مثل استهداف المدنيين، فلن يكون واضحا مَن الذي سيتحمل المسؤولية، وهذا يتناقض مع أحد الشروط الأساسية للقانون الإنساني الدولي الذي يتطلب تحميل شخص ما المسؤولية عن الوفيات بين المدنيين في الحروب. إن أي سلاح يستحيل معه تحديد المسؤولية عن الإصابات أو الوفيات التي يسببها؛ لا يفي بمتطلبات قانون الحرب، وبالتالي لا ينبغي استخدامه في الحرب، وهذا أحد الانتقادات الأساسية تجاه عسكرة التكنولوجيا المستقلة.
من جانب آخر، قد تتصرف الأنظمة المستقلة التي تعتمد على الذكاء الاصطناعي والتعلم الآلي؛ بشكل غير متوقع في مواقف تختبر لأول مرة، وما المعركة إلا موقف يحدث لأول مرة، لأن كل معركة لها متغيراتها الخاصة جدا، مما يؤدي إلى عواقب غير مقصودة.
كل هذا ولم نتحدث عن إمكانية تعرض تلك القطع العسكرية للاختراق والهجمات السيبرانية، مما قد يؤدي إلى التلاعب بها بشكل يمكن أن يكون مميتًا، الأمر الذي يمكن بدوره أن يؤدي إلى تصعيدات عرضية أو مهاجمة أهداف غير مقصودة، وهنا تتأجج المعركة ويصبح الجانب السياسي أضعف إلى حد كبير، ومن ثم يخشى الخبراء أن تساعد الأسلحة المستقلة في إضعاف يد العمليات التفاوضية بأخطاء من هذا النوع.
كمثال افتراضي، يمكن أن تستهدف إحدى المسيرات الجوية مواقع نووية للأعداء في معركة ما بناءً على بيانات حديثة واردة للتو لم تُعرض على مشغل بشري. وفي الأجواء الفوضوية للمعركة ودقة عامل الوقت، قد تتعامل دولة مثل روسيا أو الولايات المتحدة مع هذا كتهديد ذي طبيعة نووية، وتبدأ سلسلة الدومينو النووي في التساقط.
يشير مفهوم لحظة أوبنهايمر إلى لحظة من الإدراك العميق يتمكن فيها شخص ما أو إدارة سياسية أو فريق من العلماء من إدراك العواقب الكارثية المحتملة لأفعال أو أفكار ينوي المضي قدمًا فيها، وخاصة في سياق التقدم العلمي أو التكنولوجي أو العسكري، في إشارة إلى تلك اللحظة التي قرر فيها الفيزيائي الأميركي روبرت أوبنهايمر، المضيَ قدما وإجراء أول اختبار ناجح للقنبلة الذرية في يوليو 1945. واستذكر أوبنهايمر، بعدما شهد على القوة التفجيرية الهائلة للقنبلة، بنص من البهاغافاد غيتا الكتاب المقدس في الهندوسية يقول الآن أصبحت الموت، مدمر العوالم.
كانت لحظة أوبنهايمر هي النقطة التي أدرك فيها تمامًا الإمكانات الهائلة للدمار العالمي المتوقع الذي تمثله الأسلحة النووية.
نجح مشروع مانهاتن فعلا، لكنه فتح الباب لسباق تسليح نووي ما زلنا نعاني منه إلى الآن، فما إن اشتعلت الأجواء بين الروس وحلف الناتو على خلفية دخول أوكرانيا، وبين الصين والولايات المتحدة على خلفية دخول محتمل إلى تايوان، حتى تحسس الجميع سلاحه. وفي عام 2023 شهد العالم ارتفاعا جديدا في الإنفاق على السلاح النووي، وفقا لتقرير نشرته مؤخرا الحملة الدولية لإلغاء الأسلحة النووية، ليصل إلى 91.4 مليار دولار.
نحن الآن نمر بلحظة شبيهة بالنسبة للأسلحة المستقلة، حيث يعرف العلماء المختصون في هذا النطاق أنها ذات تأثير سلبي على السلام العالمي، وأنها ستفتح الباب لسباق استثنائي يراكم الأسلحة، وبالتالي يؤثر على الاقتصاد كله. كما يعرفون أن هذه الأسلحة يمكن أن تتسبب في تصعيد الصراع العالمي وصولا إلى حرب عالمية ثالثة، وأنها تمثل لحظة شبيهة بتلك التي بدأ معها الصراع النووي في الأربعينيات من القرن الفائت.
هل يمكننا تجاوز مثل تلك اللحظة هذه المرة؟ يبدو للأسف أن البعض لا يتعلم، وبنظرة بسيطة على ما تفعله الصين والولايات المتحدة في هذا النطاق، ومعهما العديد من الدول، فإن تلك اللحظة التي ستغمر فيها الروبوتات الحرب قادمةٌ بشكل بات مؤكدا. | https://www.aljazeera.net/politics/2024/9/1/%d9%83%d9%84%d8%a8-%d8%a7%d9%84%d8%b5%d9%8a%d9%86-%d8%a7%d9%84%d8%b1%d9%88%d8%a8%d9%88%d8%aa%d9%8a-%d8%a7%d9%84%d9%85%d9%82%d8%a7%d8%aa%d9%84-%d9%84%d9%85%d8%a7%d8%b0%d8%a7 | 2024-09-01T15:37:40 | 2024-10-15T02:06:12 | أبعاد |
|
42 | غزة قبل الطوفان سيرة مجتمع | بهذا المشهد الاجتماعي والسياسي والاقتصادي والعسكري، دخلت غزة حرب طوفان الأقصى التي تعد نقطة تحول مفصلية في تاريخ القطاع | حصار شامل على غزة لا ماء، لا كهرباء، لا وقود، لا طعام هكذا أمر يؤاف غالانت وزير الدفاع الإسرائيلي يوم التاسع من أكتوبر، لتكون الإبادة ذروة السياسات الإسرائيلية تجاه قطاع غزة، قبل ذلك بيومين وفي السابع من أكتوبر 2023، كانت سرايا نخبة القسام تقتحم كامل مناطق غلاف غزة ليكون الانفجار، ذروة العمل المقاوم الفلسطيني في غزة.
قبل ذلك بسنوات، وفي الثلث الأخير من الليل، وقبيل فجر يوم صيفي من أيام شهر حزيران 2006، أنهت عصبة من المقاتلين الفلسطينيين تجهيزاتها الأخيرة قبل الانطلاق شرقاً، وعلى ضوء الشفق أغارت على موقع عسكري قرب معبر كرم أبو سالم، ونجحت باختطاف العريف غلعاد شاليط، ردت إسرائيل بـأمطار الصيف والحصار.
أسست لحظة شاليط لمسارين حكما الحياة في غزة وعاش المجتمع بينهما، الحصار ومساعي الانعتاق منه المقاومة، كانت لحظة قصف إسرائيل لمحطة الكهرباء بعد ثلاثة أيام من اختطاف شاليط، وقبلها فوز حركة حماس بالانتخابات التشريعية ولاحقاً سيطرتها على غزة، واتصال القطاع بعد انسحاب الاحتلال منه، بدايات تأسيسية لهذا الواقع الذي عاشت فيه أجيال من المحاصرين المقاومين. يحاول هذا المقال رسم صورة عن القطاع ومجتمعه وحكامه خلال السنوات 20 الماضية، عبر قراءة تفاعل سياسات الجهات الحاكمة -خلال السنوات 100 الماضية حَكمت غزة 6 جهات مختلفة- والمواجهة مع الاحتلال وسياساته، وأثر كل هذا على غزة ومجتمعها.
النكبة، هي الحدث المؤسس الذي شكل مجتمع غزة وجغرافيته، وظهرت كضرورة عسكرية أنتجها تراجع الجيش المصري أمام قوات الحركة الصهيونية خلال حرب عام 1948. في هذه الحرب حُرمت غزة من امتدادها الحيوي بعد أن فقدت أراضيها التي تشكل منها قضاء غزة، الذي وصلت مساحته إلى ما يقرب من 11 كيلومترا مربعا، وانقطع اتصالها مع المدن العربية والفلسطينية التي شكلت عمقها الاقتصادي والثقافي، والأهم تضاعف عدد سكانها بعدما استقبلت الجزء الأكبر من اللاجئين القادمين من قرى قضاء غزة وخارجها.
عدد السكان الكبير مقارنة بالمساحة التي تشكلت على وقع الاضطرار، أدى إلى فقر في الموارد والإمكانيات الاقتصادية، كما لعبت المواجهة الدائمة مع الاحتلال الإسرائيلي الدور الأهم في تشكيل الواقع السياسي والاقتصادي في قطاع غزة، الذي سعى سكانه ونخبه إلى الانعتاق من هذا الواقع بمواجهة الاحتلال أو بمحاولة التكيّف والبناء.
لم يمض وقت طويل على النكبة قبل أن يعود قطاع غزة إلى واجهة الصراع من جديد، فطيلة سنوات الخمسينيات لم تهدأ حدوده مع دولة الاحتلال، بدءا من حركة المتسللين الذين عاد جزء منهم إلى بيوتهم بغرض استرداد ما تركوه، وجزء آخر بغرض الانتقام. هذه الحركة أسست لخلايا الفدائيين المنظمة من الإخوان المسلمين وغيرهم، وصولاً إلى رعاية الإدارة المصرية لتشكيلات فلسطينية عسكرية، وجاء العدوان الثلاثي عام 1956 ليشكل ذروة المواجهة بين الاحتلال الإسرائيلي وبين مصر والفلسطينيين في غزة.
غير أن نكسة 1967 قطعت مع المرحلة المصرية، فخلال السنوات التي تلت احتلال غزة، وعلى مدار ما يقرب من 20 عاماً، دخل القطاع في حالة هدوء نسبي، باستثناء بعض جولات المواجهة مع الاحتلال الإسرائيلي.
حاول المجتمع الغزي خلال سنوات السبعينيات والثمانينيات تجاوز آثار النكبة والنكسة، فبدأت المؤسسات الفلسطينية بالنشاط والظهور بقوة، وامتدت إلى مختلف القطاعات التعليمية والصحية والمجتمعية والنقابية، كما نشطت الفصائل الفلسطينية في ترتيب صفوفها وبناء قوتها، واتخذت من مواجهة مشاريع الاحتلال المختلفة، كروابط القرى والتوطين وخلق النخب المتعاونة، هدفاً لها. وساهمت إجراءات الاحتلال بفتح سوق العمل الإسرائيلي أمام القوى العاملة من غزة؛ في التخفيف من وطأة البطالة وتحسين الوضع الاقتصادي.
تجاوز الجيل الثاني من أبناء المخيمات الفلسطينية -ولو نسبياً- الأوضاع الكارثية التي خلفتها النكبة من بوابة التعليم أو الهجرة أو لاحقاً بعد الاحتلال بالعمل في إسرائيل، مما أدى إلى إيجاد طبقة جديدة من نشطاء وكوادر الفصائل الفلسطينية من أبناء المخيمات وتجمعات اللاجئين، نجحت لاحقاً في السيطرة على المشهد السياسي. خلال الإدارة المصرية والعقود الأولى من الاحتلال الاسرائيلي لغزة، كان المشهد السياسي مرتكزاً على العائلات الغزية التقليدية إداريا وسياسيا.
كان لخميرة العمل التنظيمي والمؤسساتي والتحسن الاقتصادي النسبي التي تكونت في ظل استمرار الاحتلال وسياساته في منع أي أفق سياسي فلسطيني، موعدٌ للانفجار في الانتفاضة الأولى عام 1987 التي شكلت المواجهة الأكبر والأوسع بين الاحتلال والفلسطينيين منذ عقود.
تكمن أهمية الانتفاضة الأولى فيما أنتجته سياسياً ومجتمعياً في غزة، فالاحتلال بدأ خطواته في عملية حصار القطاع وفصله -وفصل تأثيره- عن محيطه الفلسطيني. كما أظهرت الانتفاضة أن القدرة على حكم غزة بصورة منفردة يكاد يكون مستحيلا.
على صعيد المجتمع الفلسطيني، عززت الانتفاضة من نفوذ الفصائل الفلسطينية وكوادرها الذين تحولوا إلى الطبقة السياسية التي سوف يرتكز عليها لاحقاً مشروعُ السلطة الفلسطينية في الأراضي المحتلة، وتحديداً قطاع غزة، الذي شهد تنافساً سياسياً بين كوادرها المحليين بعضهم مع بعض من جهة، وبين أهل الداخل والقادمين من الخارج الذين أطلق عليهم لقب العائدين، من جهة أخرى.
وظف ياسر عرفات هذا التنافس لصالح بسط نفوذه على المشهد في غزة، وأدخل عليه أطرافاً أخرى، كالعائلات التي استخدمها في مواجهة نفوذ كوادر حركة فتح داخل القطاع، فأسس عرفات في الأشهر الأولى من نشأة السلطة الفلسطينية هيئة للتعامل مع العائلات الغزية التي استمال الجزءَ الأكبر منها بالوظائف وتوزيع النفوذ. ومن المهم ملاحظةُ أن المجتمع الغزي يتكون في غالبيته من اللاجئين الذين تضعف لديهم التشكيلات العائلية والعشائرية كما هي الحال عند عائلات المواطنين، هذا الأمر مهمٌ في تقييم قدرة العائلات والعشائر الفلسطينية التي ظلت قادرة على أن تكون عاملا مؤثراً دون أن تكون فاعلا حاكما في قطاع غزة، خاصة بعد أن فقدت موقعها السياسي لصالح الفصائل الفلسطينية.
دخلت غزة سنوات التسعينيات بآمال مرتفعة، فالسلطة الفلسطينية التي اتخذت من القطاع مركزاً لها قامت بعمليات توظيف واسعة استوعبها جهازها المدني والأمني، مما ساهم في توطين المشروع الجديد اجتماعياً وسياسياً. وسيطرت كوادر حركة فتح على المستويات العليا والوسطى لجسم السلطة الذي تضخم بشكل قياسي، عدديا ونوعياً، واستُثنيت بقية المكونات الفلسطينية من عملية التوزيع هذه إلا في إطار المساومة أو الحصص المحدودة التي خصصت لبعض الفصائل طمعاً في كسب رضاها لمسار أوسلو الجديد.
فالأجهزة الأمنية بُنيت ووزعت بين مراكز القوة في حركة فتح، وامتدت عملية التوزيع والسيطرة هذه إلى الموارد المالية والاقتصادية التي بدأت تتدفق إلى قطاع غزة على شكل مساعدات دولية أو أموال مخصصة لبناء جهاز السلطة الفلسطينية، وتأثرت بعض القطاعات بالوافد الجديد، كقطاع الترفيه والسياحة، فظهرت المشاريع السياحية على شاطئ بحر غزة وتحولت إلى رمز للسلطة الجديدة ووعودها بجعل القطاع مركزاً سياحياً واقتصادياً في فلسطين وتحويلها إلى سنغافورة، خاصة أن غزة تحولت إلى مقر السلطة الفلسطينية الأساسي، ورجال تنظيم غزة في حركة فتح هم الأكثر نفوذاً.
ورغم رفض عدد كبير من الفصائل الفلسطينية، وتحديداً حركتي حماس والجهاد الإسلامي والفصائل اليسارية، لمشروع السلطة الفلسطينية، فإنها لم تصطدم مع الوافد الجديد الذي بادر بإرسال الرسائل إلى خصومه السياسيين بقدرته على البطش، فالسلطة التي دخلت قطاع غزة في مايوأيار 1994 شنت أول حملة اعتقالات بحق نشطاء من حركة حماس في أغسطسآب من العام نفسه، وارتكبت بعد ذلك مجزرة مسجد فلسطين في نوفمبرتشرين الثاني.
هذا المسار سوف يبلغ ذروته مع حملة اعتقالات عام 1996 التي استهدفت عناصر حركتي حماس والجهاد الإسلامي، في حين لم تبادر حماس إلى مواجهة السلطة وأجهزتها الأمنية، ولم تمانع أن يلتحق عناصرها بالعمل في أجهزتها المدنية دون الأمنية، وهو الأمر الذي أصبح أكثر صعوبة لاحقاً مع هيمنة حركة فتح على الجزء الأكبر من الوظائف. وفضلت الحركة مواجهة المسار القائم بالتركيز على مواجهة الاحتلال الإسرائيلي نفسه، فكان على كوادرها العمل في ظل ملاحقة الأجهزة الأمنية للسلطة الفلسطينية وقوات الاحتلال.
أخرت اتفاقية أوسلو وعودة السلطة الفلسطينية المواجهة بين الفصائل الفلسطينية والاحتلال الإسرائيلي، ففي غزة لم يتنازل الاحتلال إلا عن السيطرة على مراكز المدن بعد إعادة الانتشار التي قام بها مع عودة السلطة الفلسطينية، وظل محتفظا بمستوطناته التي انتشرت على شكل أصابع خمسة قطعت محافظات القطاع ومنعت تواصلها. ولم يمض وقت طويل قبل أن تصطدم السلطة الفلسطينية الجديدة وحركة فتح بهذه الحقيقة، وتنفجر الانتفاضة الثانية على شكل مواجهة شعبية في البداية، تطورت لاحقاً إلى مواجهة مسلحة أنتجت نواة العمل المسلح الحالي لفصائل المقاومة في غزة.
أسست الانتفاضة الثانية لواقع جديد في قطاع غزة، فعلى صعيد العلاقة مع الاحتلال، تطورت المقاومة الفلسطينية بصورة تجاوزت محاولات إسرائيل الحثيثة لاحتوائها، مما أدى في النهاية إلى تشكل واقع جديد صعّب على الاحتلال البقاء والاستمرار في القطاع، لكنه في المقابل شدد من حصاره وعزله عن الضفة الغربية.
امتدت آثار الانتفاضة كذلك إلى السلطة الفلسطينية، الجسم الذي يحكم قطاع غزة، فلم تصمد السلطة كثيراً في مواجهة التحدي الجديد، وبدأت معالم التفكك والضعف تظهر عليها، عززها غياب الانسجام بين أجهزتها الأمنية وأجنحة الحكم فيها، وشكل الانفلات الأمني لاحقاً أهم مظهر لضعف وتراجع السلطة الفلسطينية.
على الصعيد الاجتماعي، أدخلت الانتفاضة شرائح أوسع من المجتمع الفلسطيني في طور المواجهة مع الاحتلال الإسرائيلي، بما يتضمنه ذلك من زيادة في مظاهر الحداد مع ارتفاع عدد الشهداء، وانتهاء كل مشاريع التعايش مع الاحتلال، وانتهت في هذه الفترة كافة مشاريع الترفيه والسياحة الداخلية التي حاولت السلطة تطويرها في القطاع، كما أدت حالات الإغلاق ومنع العمال الفلسطينيين من العمل في الداخل إلى تفاقم الوضع الاقتصادي.
وبحلول سبتمبرأيلول 2005، خرج آخر جنود الاحتلال من غزة.. فككت إسرائيل أصابعها الخمسة، ليعود للقطاع اتصاله الجغرافي بعد عقود من الفصل والاحتلال، فأصبح بإمكان سكان الجنوب ومحافظات الوسطى الوصول إلى مدينة غزة بكل أريحية، بعدما كان عليهم اجتياز عدد من الحواجز والمستوطنات للوصول إلى المدينة التي تشكل مركز القطاع. كما أن انسحاب الاحتلال من معبر رفح، عزز اتصال غزة مع العالم والعكس، خاصة أن فئات كبيرة كانت محرومة من السفر لاعتبارات أمنية. اتصال أجزاء القطاع بعضها ببعض، قابله تصاعد في إجراءات حصاره إسرائيلياً، وهو ما منع عشرات الآلاف من العمال الفلسطينيين من العمل داخل إسرائيل، وأدى إلى ارتفاع كبير في مستويات البطالة.
فك الارتباط الإسرائيلي عن قطاع غزة، ومنعُ عشرات آلاف العمال من دخول إسرائيل، أدى إلى تراجع الهيمنة الإسرائيلية على المجتمع الفلسطيني في غزة. وامتداداً للوضع الذي كان قائماً خلال انتفاضة الأقصى، تضاعفت عمليات التجنيد داخل الأجهزة العسكرية للفصائل الفلسطينية التي بدورها انتقلت من مرحلة عمل الخلايا إلى الشكل المؤسسي، بما أهلها لاستيعاب المجندين الجدد. وبعد انسحاب الاحتلال مباشرة، أنشأت الفصائل مواقعها العسكرية فيما أصبح يعرف بمناطق المحررات التي كانت مستوطناتٍ إسرائيلية فيما سبق.
حتى خسارة السلطة الفلسطينية للقطاع، كانت غزة مركزاً لها وأجهزتها، إذ حوّل ياسر عرفات السلطة إلى وعاء احتضن حركة فتح بأجنحتها وتبايناتها، مما جعل الأجهزة الأمنية أدوات في الصراع الداخلي الذي ظهرت معالمه في مرحلة مبكرة من تأسيس السلطة. فقد انخرطت أجهزة الأمن الوقائي والاستخبارات العسكرية والأمن الوطني وحتى جهاز الشرطة المدنية، ومن خلفهم تنظيم حركة فتح بمناطقه المختلفة؛ في صراع غذاه واستفاد منه رئيس السلطة آنذاك عرفات، وترافق معه ارتفاع في معدلات الفساد الحكومي التي أصبحت محط حديث وتندّر المجتمع الفلسطيني في غزة.
بهذه البنية المختلة، دخلت السلطة الفلسطينية الانتفاضة الثانية التي فاقمت هذه الخلافات بدلاً من إنهائها، خاصة أن أجهزة السلطة في بدايات الانتفاضة كانت محط استهداف إسرائيلي، مما أدى في المحصلة إلى تراجع قدرتها على ضبط المشهد في غزة، وظهور ما بات يعرف بالانفلات الأمني الذي دخل فيه -إلى جوار الأجهزة الأمنية- لاعبون جدد، كأبناء العائلات الكبرى، وعناصر تنظيم فتح، خاصة الجناح المسلح، وعصابات إجرامية مختلفة.
في مقابل هذه الحالة المفككة، بدأت حالة المقاومة -الأكثر تماسكاً على المستوى التنظيمي، والأعلى شرعية على مستوى نظرة المجتمع لها- بالنمو والتوسع، مستفيدة من تجند المجتمع الفلسطيني لمواجهة الاحتلال، وتراجع قبضة السلطة الأمنية. ولاحقاً مع الانسحاب الإسرائيلي من غزة، عززت المقاومة من هيكلها التنظيمي والعسكري ووجودها الشرعي المعلن في غزة، لذلك ليس غريبا أنّ من أوائل ما صنعته المقاومة بعد الانسحاب تنظيم عروض عسكرية عامة في مختلف محافظات القطاع، وظهور عدد من قياداتها بدون لثام.
ومع الانسحاب الإسرائيلي من قطاع غزة عام 2005، بعد عام من رحيل ياسر عرفات، دخلت الحالة الفلسطينية في مرحلة ما بعد الانتفاضة، وشكلت الانتخابات أهم عناوينها، إذ جرت انتخابات رئاسية في العام نفسه فاز فيها محمود عباس برئاسة السلطة، وانتخاباتٌ بلدية شاركت فيها حركة حماس، واستطاعت الفوز والتقدم في غالبية البلديات، بينما بدأت المرحلة الأخيرة بالانتخابات التشريعية في صيف 2006.
دخلت حركة حماس مرحلة الانتخابات بجسم تنظيمي متين قادر على الوصول إلى مختلف شرائح المجتمع عبر مجالات عمل متنوعة كالعمل الدعوي والاجتماعي والإغاثي، وشعبية مرتفعة عززها أداء الحركة في الانتفاضة الثانية، وقيادات سياسية واجتماعية محلية تحظى بثقة شعبية. في المقابل نهش الانفلات الأمني والفساد الحكومي، والتنظيم المتصارع؛ من حظوظ حركة فتح، وهذا ما ظهر في الانتخابات التشريعية عام 2006 التي خسرتها أمام حماس.
جذور المواجهة بين حركة حماس وفتح ترجع إلى بدايات ظهور الأخيرة في ثمانينيات القرن الماضي، ومرت بمراحل عدة تصاعدت مع نهاية الانتفاضة الثانية، وشكّل فوز حركة حماس بالانتخابات التشريعية عام 2006 ذروتها التي انتهت بسيطرة الحركة على قطاع غزة صيف 2007. شغل الانفلات الأمني المتصاعد المجتمعَ الفلسطيني أكثر من أي قضية أخرى، ورأى فيه الفلسطينيون في غزة أهم القضايا التي تهدد معاشهم، فكان القضاء عليه أهم الوعود الانتخابية التي قدمتها الفصائل الفلسطينية خلال الانتخابات التشريعية والرئاسية.
لم يمتد التصارع ولاحقاً الاشتباك السياسي والعسكري بين حركتي فتح وحماس إلى الحيز المجتمعي، إلا في حالات استثنائية، كمحاولات حركة فتح توظيف بعض العائلات الكبرى في مواجهة حركة حماس. وسبق أن ظهر في قطاع غزة ما يعرف بالمربعات الأمنية، التي بدأت مع أجهزة السلطة التي فرضت إجراءات أمنية خاصة حول أهم مواقعها الأمنية والإدارية، قامت بعض العائلات الكبرى بمحاولة تطبيقها، واستمدت هذه العائلات نفوذها من وجود جزء من أبنائها في أجهزة السلطة الأمنية، وتسلحها الذاتي، والأهم عدد أفرادها الكبير.
حاولت حركة فتح بعد عام 2006، وتحديداً تحت قيادة محمد دحلان، توريط هذه العائلات في المواجهة مع حركة حماس، لكنها حققت نتائج محدودة لاعتبارات عدة، منها أن جزءا من هذه العائلات أو قياداتها لديها خلافات تاريخية مع دحلان، كما هو الحال مع عائلة حلس، التي لم يكن القيادي فيها أحمد حلس أبو ماهر على توافق معه.
كما أن حركة حماس، ومن خلال عناصرها في هذه العائلات، أثنتها عن الانخراط في مواجهة معها، فضلا عن خشية هذه العائلات من مواجهة الحركة. هذا بالإضافة إلى أن الخلافات السياسية بين الحركتين لم تنعكس على المستوى الاجتماعي، فالمجتمع ظل يراقب صراعهما دون أن ينحاز أيٌ من مكوناته إلى أحد الطرفين، في حين كان المطلب الوحيد هو إنهاء الانفلات الأمني ووقف عمليات القتل، التي كانت عناصر فتح تشكل رموزه الأساسية فرقة الموت، ومربعات الأجهزة الأمنية، والسلوك غير المنضبط لمسلحي الحركة.
وهذا ما يفسر جزءا من الطريقة التي استقبل بها قطاع غزة سيطرة حركة حماس على المشهد، إذ رأوا فيها نهاية لحالة الانفلات الأمني وما حملته من مآسٍ، وهو ما أدركته حماس بدورها، فلم تسمح بامتداد المواجهة، ومنعت أيَّ أعمال انتقام أو تنكيل بحق ضباط الأجهزة الأمنية وقيادات حركة فتح، وجعلت من ضبط الحالة الأمنية في غزة على رأس أولوياتها. لذا، من غير العجيب أن يكون الأمن والأمان أحد أهم شعارات حركة حماس الدعائية في تلك الفترة التي تحولت فيها القوة التنفيذية -وهي الجهاز الأمني الذي أسسه وزير الداخلية الشهيد سعيد صيام- إلى رمز الضبط الأمني الأول في غزة.
لم تكن أجهزة فتح الأمنية هي التحدي الوحيد الذي واجه حركة حماس، بل كان على الأخيرة التعامل مع تركة الانفلات الأمني بكافة مكوناته التي عانى منها القطاع لسنوات، فاعتمدت مجموعة من السياسات التي هدفت إلى ضبط استخدام الأسلحة الفردية، الشخصية أو الفصائلية. وجاء التحدي الثاني للحركة من العائلات الكبرى في غزة، التي حاولت مساومة الحكومة الحمساوية الجديدة بنفس الطريقة التي تعاملت بها مع حكومات السلطة الفلسطينية التي فضلت بموجبها مهادنة هذه العائلات بدلا من مواجهتها. ولا يمكن إهمال الجانب المتعلق بالتباين السياسي بين هذه العائلات الأقرب إلى حركة فتح وبين الحكومة الجديدة.
ولم يمض صيف واحد على سيطرة حركة حماس على القطاع حتى داهمت القوة التنفيذية التابعة لوزارة الداخلية في غزة المربع الأمني لعائلة حلس في أغسطسآب 2008، بعد أن رفضت العائلة تسليم القيادي في كتائب شهداء الأقصى زكي السكني، الذي اتهم بالوقوف خلف تفجير البحر الذي أدى إلى مقتل وإصابة عدد من عناصر القسام. لم يستغرق الأمر وقتا طويلا قبل أن تحسم التنفيذية المربع الأمني للعائلة وتعتقل المطلوبين. نفس المشهد سوف يتكرر في سبتمبرأيلول من العام ذاته، لكن هذه المرة مع المربع الأمني لعائلة دغمش شرقي مدينة غزة.
حملت الضربة الموجهة لعائلتي حلس ودغمش أبعادا رمزية كبيرة، فهذه العائلات من كبرى العائلات الغزية ومن أكثرها بطشاً ورهبة، وحسمها بهذه الطريقة شكّل رسالة لكافة العائلات الأخرى تنذر بعهد جديد تحكمه سلطة فتية تسعى لضبط الوضع الأمني والقطع مع كل مظاهر الفترة الماضية، وهذا ما فهمته العائلات التي تراجعت خطواتٍ إلى الخلف وبدأت تتأقلم مع زمن حماس الجديد.
وما إن انتهت حماس من العائلات وحركة فتح، حتى ظهر تحدٍّ جديد من بيئة الحركة الإسلامية، تَمثل في السلفية الجهادية. ومع أن الخلاف بين جماعة الإخوان المسلمين التي تنمي إليها حركة حماس، والتنظيمات السلفية الجهادية خلاف تاريخي، فإنه كان ضامراً في غزة بفعل عوامل عدة، على رأسها حالة الاشتباك والمواجهة مع الاحتلال الإسرائيلي. ولاحقاً بعد مشاركة حماس في الانتخابات التشريعية وتوليها الحكم في القطاع، بدأت معالم الخلاف بالظهور، وشكلت حادثة مسجد ابن تيمية عام 2009 نقطة الكسر في العلاقة بين الطرفين، بعدما هاجمت القوة التنفيذية ووحدات من كتائب القسام المسجد الذي تحصن فيه الطبيب والشيخ عبد اللطيف موسى وعناصره. انتهت المواجهة بمقتل الشيخ وأهم قياداته، وسيطرة حماس على المشهد الأمني في محافظة رفح التي وقعت بها الأحداث، لكنه أسس لمسار من المواجهة بين الحركة وتنظيمات السلفية الجهادية.
وبخلاف الأجهزة الأمنية للسلطة الفلسطينية، والعائلات المسلحة التي تمكنت حماس من إنهاء خطرها بضربات قاضية، ظلت السلفية الجهادية تمثل مشكلة أمنية مزمنة نجحت الحركة في احتوائها بالمراوحة بين الاحتواء والتفاهم أحياناً، والقمع والملاحقة أحياناً أخرى.
سعت حركة حماس مباشرة بعد فوزها بالانتخابات التشريعية عام 2006 لبناء أدوات الحكم التي ستتحرك بها، لإدراكها طبيعة السلطة الفلسطينية والشكل الذي بنيت عليه. وبسبب الوضع الأمني الذي عاشته الساحة الفلسطينية، ومركزية الأجهزة الأمنية في بنية السلطة، كانت القوة التنفيذية أول أجهزة الحكم التي أسستها حركة حماس، وتكونت من مجموعة من العناصر القادمة من الأجنحة العسكرية للمقاومة الفلسطينية، والجزء الأكبر منهم من كتائب القسام.
شارك هؤلاء المقاتلون في فعاليات الانتفاضة الثانية، وكانت القوة التنفيذية بوابة دخولهم إلى جسم الحكم الرسمي الفلسطيني، ومن خلالها أصبح هؤلاء جزءا من القوة الضابطة للمجال العام. وفي الوضع الطبيعي كان يصعب على هؤلاء أن يكونوا في بنية السلطة الفلسطينية وتحديداً الأمنية منها، وهذا الأمر فتح المجال أمام فئات جديدة من المجتمع الفلسطيني لتدخل ضمن عملية التوظيف، لكن من بوابة حماس، فربطت هذه الفئة مصيرها بالحركة معنوياً ومادياً كذلك، ولاحقاً كان لهذه القوة دور هام في عملية بسط الحركة سيطرتها الأمنية على قطاع غزة إلى جوار كتائب القسام.
بعد سيطرة حماس على القطاع في صيف 2007، طلبت الحكومة الفلسطينية في رام الله من جميع الموظفين الحكوميين الامتناع عن العمل في الجهاز الأمني والمدني مع استمرار صرف رواتبهم المستنكفين.. هذا الفراغ الإداري شكّل تحديا آخر للحركة، لكنها استطاعت بسرعة تعبئة الشواغر الجديدة عبر عملية توظيف واسعة في مختلف الوزارات والإدارات الحكومية. غير أن هذه العملية واجهت تحديات كبيرة، على رأسها الدعم المادي اللازم لإنجاح التوظيفات. وعلى عكس السلطة الفلسطينية في رام الله التي اعتمدت على التمويل الدولي المستقر، لم تحظ حركة حماس بهذه الخاصية.
اعتمدت حماس في بناء الجهاز الإداري الجديد، بصورة كبيرة، على عناصر الحركة من خريجي الجامعات، فطوال سنوات الانتفاضة نجحت الحركة في التغلغل في الجامعات الفلسطينية وتكوين قاعدة طلابية قوية، شكلت النواة التي استندت إليها الحركة في حكمها وفي عملية بناء تنظيمها الذي شهد طفرة في العدد والبنى.
وإلى جوار الموظفين الجدد، استفادت الحركة من الموظفين السابقين في السلطة الفلسطينية، خاصة الذين قُطعت رواتبهم لانتماءاتهم التنظيمية. ولم تواجه عملية التوظيف نقصاً في الكوادر البشرية، بعد أن تجند تنظيم حركة حماس المدني لإتمام هذه المهمة، فسيطر أبناء الحركة على الإدارات العليا المختلفة في الجهاز الحكومي، ومفاصل العمل المركزية، كما اعتمدت الحركة على كوادرها الأمنية التنظيمية في بناء الأجهزة الأمنية الحكومية الثلاثة الشرطة المدنية، والأمن الداخلي، والأمن الوطني.
فتحت الوظيفة العامة في حكومة غزة الباب أمام فئة جديدة من المجتمع للانضمام إلى طبقة الموظفين الحكوميين، والدخول إلى الطبقة الوسطى في المجتمع الغزي، مما ساهم في استيعاب أجيال جديدة من خريجي الجامعات، خاصة أن التوظيف في السلطة الفلسطينية توقف بعد طردها من قطاع غزة. هذه الطبقة من الموظفين الحكوميين الجدد بلغ عددها قرابة 40 ألف موظف حكومي مدني وعسكري، ارتبطوا عضوياً وسياسياً بحركة حماس، وخلال جولات المصالحة المختلفة أظهرت حركة فتح موقفاً رافضا لاستيعاب هذه الفئة الجديدة أو الاعتراف بشرعية وجودها.
لم تكن حماس منقطعة عن العمل العام، فإلى جوار عملها التنظيمي والعسكري امتلكت الحركة مجموعة من المؤسسات الاجتماعية والخدماتية التي احتكت وعملت في صفوف المجتمع الفلسطيني، لكن ذلك لا يقارن مع عملية تشكيل الحكومة التي نقلت كتلة تنظيمية كبيرة من أبناء الحركة إلى العمل الحكومي، مما أدى إلى فراغ تنظيمي سرّع من عملية تصعيد الكوادر التنظيمية في المستويات الدنيا إلى المستويات الوسطى في الجهاز المدني والعسكري.
على نقيض تجربة حركة فتح في الحكم التي تنافست فيها أجهزة السلطة الفلسطينية وتنظيم الحركة على النفوذ، واستطاعت السلطة لاحقاً احتواء التنظيم ونفوذه، فصلت حركة حماس الأجهزة التنظيمية والعسكرية عن الجهاز الحكومي، وظلت القيادة السياسية للحركة في غزة، والتي أصبحت تعرف باسم المكتب السياسي لإقليم غزة، هي المرجعية السياسية للجهاز الحكومي، الذي تحول إلى أداة من أدوات الحركة في حكم القطاع مثل الجهاز العسكري والأجهزة الدعوية والتنظيمية الأخرى. وعلى صعيد المستويات الأدنى، جرى ما يشبه تقسيما للعمل بين أجهزة حماس والجهاز الحكومي، نجحت به الحركة في تحقيق نوع من الانسجام والتكامل.
داخلياً، لم تواجه حركة حماس أي تحدٍ في شرعيتها لحكم القطاع، واستندت في ذلك إلى عدد من المقولات، مثل الشرعية الانتخابية التي وفرت إطاراً شرعياً خلال السنوات الأولى من الحكم بعد فوزها في الانتخابات التشريعية عام 2006. كما استندت الحركة إلى تاريخها ودورها المقاوم في عملية الحكم، فوظيفة الأجهزة الأمنية هي حماية ظهر المقاومة ومواجهة الاحتلال في حربه على الجبهة الداخلية. ولم تقتصر حماس على هذه المقولات لتعميق شرعية الجهاز الحكومي، بل عززته بطبقة الموظفين وأبناء التنظيم وحواضن الحركة الذين وفروا الغطاء الشعبي للحكم في غزة.
دخلت حماس الحكم محملة بمجموعة من الطموحات والآمال التي فرضتها هويتها الإسلامية المقاوِمة والظرفُ الذي جاءت فيه، والأهم منافِستُها السياسية والاجتماعية حركةُ فتح، في حين استقبل المجتمع الفلسطيني حكم حماس ولديه مجموعة من المطالب والاحتياجات.
التفاعل بين الحمولة التي دخلت بها حماس الحكم وتوقعاتِ المجتمع الفلسطيني، هي التي أنتجت ما يشبه العقد الاجتماعي الجديد الذي حكم قطاع غزة طيلة السنوات الماضية. فسياسياً حكمَ مفهوم المقاومة أجندة الحركة السياسية، خاصة بعدما أصبحت مادة تناقضٍ مع حركة فتح التي تبنت العملية السلمية، لكن بالمقابل عزز انخراط الحركة في العمل المقاوم من قدراتها البراغماتية، وقدرتها على التكيف. وأيديولوجياً، دخلت الحركة بحمولة مبنية على الفكر الإخواني الذي حظيت فيه مقولات مثل الإصلاح بصوره المختلفة، وشمولية الإسلام، موقعاً مركزياً في تشكيل النموذج المثالي لشكل الحكم الذي حدد المخزن القيمي للحركة.
في المقابل، تصدرت حركة حماس الحكم في لحظة عانى فيها المجتمع الفلسطيني في غزة من انفلات أمني وفساد مستشرٍ في السلطة الفلسطينية، وطموحات بتحسين الوضع الاقتصادي الذي تردى خلال سنوات الانتفاضة الثانية.
نجحت الحركة خلال فترة قصيرة في بسط الأمن والقضاء على مظاهر الانفلات الأمني، وانعكست محدودية الموارد وشحها على ممكنات الفساد في الجهاز الحكومي، أما الاقتصاد والوضع المعيشي فقد تراجع بشكل كبير، مما جعله مصدرا للاحتجاج والسخط الشعبي الذي تطور في بعض الأحيان إلى مظاهرات احتجاجية.
لم تتخل حماس عن أهدافها في تعزيز القيم الإسلامية المحافظة، وتغيير المجتمع الفلسطيني بما يتفق مع هذه القيم، فهذا الأمر في صميم وجودها ومعيار اتساقها مع ذاتها. وفي بداية حكمها للقطاع، أدركت الحركة تعقيدات الحكم والمجتمع الفلسطيني، ورغم بعض الحملات الحكومية التي مست حياة الناس وظهرت في السنوات الأولى من حكم الحركة، فإنها لم توظف الإكراه في عمليات التغيير هذه، واعتمدت بصورة أكبر على مؤسساتٍ مثل المساجد والمعاهد الشرعية والجمعيات التي تعنى بالقرآن الكريم والعلوم الشرعية والدعوية، بالاضافة طبعاً إلى جهازها التنظيمي والدعوي.
تجنبُ الجهاز الحكومي لاستخدام الإكراه في عملية التغيير لا يعني وقوفه على الحياد، بل كان له دور انصب على الحفاظ على الوضع الأخلاقي القائم الذي تشكل خلال سنوات الانتفاضة الثانية، كمنع عمليات بيع المشروبات الكحولية، وملاحقة أي شكل من أشكال إنتاجها أو استهلاكها، ومنع الفعاليات الترفيهية المختلطة وغير ذلك. وباستثناءات قليلة، لم يصطدم المجتمع مع أجندة حركة حماس الدعوية، ولم تشهد غزة صداما سياسياً أو اجتماعياً على خلفية الحريات الاجتماعية، بعكس الحريات السياسية التي اصطدمت بها الحكومة الفلسطينية في غزة مع فصائل سياسية كحركة فتح وبعض منظمات المجتمع المدني ونشطائه.
الجانب الثاني والأهم الذي تفاعلت فيه حماس مع المجتمع؛ كان المقاومة، فالجهاز العسكري القسام توسع منذ الانسحاب الإسرائيلي من قطاع غزة عام 2005، وتضاعف بعد سيطرة الحركة، وبدأ شكل العمل فيه يأخذ طابعاً مؤسسياً بالاستفادة من الغطاء الأمني والمدني الذي وفره وجود حماس في الحكم. وفي ظل الصعوبات والإشكاليات التي واجهت العمل الحكومي وتحوله إلى ملف استنزف شعبية الحركة، عوضت سردية المقاومة والقسام هذا الاستنزاف، فصار من الطبيعي أن تتم عملية التمييز بين حماس كجهة حكم وحماس كجهة مقاومة.
واجهت دولة الاحتلال الإسرائيلي التطورات الجديدة في غزة عبر سياستي الحصار والحرب، في حين أفقر الحصار اقتصاد القطاع وعزله عن محيطه الفلسطيني والعربي، ودمرت الحروب الإسرائيلية بنيته التحتية والصناعية، وحدّت من أي نمو اقتصادي حقيقي.
السياسات الإسرائيلية تجاه غزة كان لها الأثر الأكبر في تشكيل الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والسياسية في القطاع، إذ يمكن التحقيب للسنوات 20 الماضية من تاريخ غزة بناء على شكل سياسات الاحتلال، التي يلاحَظ أن كل حقبة منها ضمت طوراً من الحصار وحربا من الحروب الخمس التي شنتها إسرائيل على غزة، والتي هدفت في محصلتها إلى إفشال أي نموذج للحكم يحمل توجهات معادية للاحتلال الإسرائيلي، من بوابة فرض عقاب جماعي على سكان القطاع، وإكمال أهدافه في تفتيت أي كيانية فلسطينية تمتد على قطاع غزة والضفة الغربية.
ولطالما كان الاقتصاد إحدى أدوات الاحتلال في التعرض لحياة الفلسطينيين، لانكشاف الاقتصاد الفلسطيني أمام السياسات الإسرائيلية، وفي هذا الإطار طورت أستاذة الاقتصاد السياسي سارة روي مصطلح الإفقار التنموي للإشارة إلى الأهداف النهائية لهذه السياسات، التي تصب في النهاية باتجاه تدمير البنية الاقتصادية للفلسطينيين. وعلى خلاف المناطق الأخرى في فلسطين التي ألحقت فيها دولة الاحتلال القطاعات الاقتصادية الفلسطينية بالاقتصاد الإسرائيلي، فإنها في غزة قامت فقط بتدميرها وتركها بلا أي خيار، فالعاملون في القطاعين الصناعي والزراعي المدمرَين لم يجرِ استيعابهم لاحقاً كأيادٍ عاملة في الداخل المحتل، كما أن القطاعات الصناعية التي حُرمت من أسواقها لم يتم استيعابها لاحقاً في سلسلة الإنتاج بدولة المحتل، إنما دُمرت فقط.
ويمكن اعتبار قرار الاحتلال في سبتمبرأيلول 2007 باعتبار قطاع غزة كياناً معادياً، بداية التشديد الأول للحصار الإسرائيلي على القطاع والذي امتد حتى صيف 2010، فبعد فترة قصيرة من سيطرة حركة حماس على غزة، أغلقت سلطات الاحتلال جميع المعابر، سواء المخصصة للبضائع أو للأفراد، وسبق ذلك قصفها محطة توليد الكهرباء صيف العام 2006، ليشكل هذا التاريخ بداية أزمة الكهرباء في القطاع، التي ظلت ملازمة له طيلة السنوات الماضية.
أدى الحصار الإسرائيلي إلى شلل كامل في كافة قطاعات الاقتصاد الفلسطيني بغزة، وصل إلى سلة غذاء المواطن الأساسية، وافتقرت الأسواق للكثير من السلع والمنتجات، وشكلت أزمة الطاقة العنوان الأهم لهذه الفترة، من الكهرباء وغاز الطهي وصولاً إلى المحروقات الأخرى.
حاول المجتمع الفلسطيني التكيف مع الأزمة الجديدة، وساعده في ذلك عوامل عدة، أهمها أن مدخرات العائلات الفلسطينية ما زالت قائمة، كما أن عمليات التوظيف التي قامت بها الحكومة في غزة ساعدت في احتواء جزء من البطالة التي بدأت تتصاعد في غزة بعد انهيار قطاعات التوظيف التقليدية، بدءا من العمالة في الداخل المحتل التي تركت عشرات الآلاف من العمال، وصولاً إلى تدمير القطاع الخاص في غزة، خاصة الصناعي منه الذي وجد نفسه بلا مواد خام ولا طاقة كافية للقيام بأي عملية تصنيع، والأهم من ذلك، بلا أسواقه التقليدية بعد أن حرمه الحصار من التصدير لأسواق الضفة الغربية والداخل المحتل، فانهارت صناعة النسيج والأثاث، ولم يعد بإمكان مزارعي الفراولة والزهور والبندورة تصدير منتجاتهم. ووجّه منع دخول الإسمنت وملحقاته، وانعدام المساعدات والمنح الدولية، ضربة قاصمة لصناعة الإنشاءات التي تستوعب عادة جزءا معتبراً من القوى العاملة.
وفي ظل اشتداد حالة الحصار ومساعي حركة حماس لترسيخ سلطتها في غزة، شن الاحتلال نهاية العام 2008، حرباً كانت الأكبر على القطاع منذ اندلاع الانتفاضة الثانية. اتساع نطاق العمليات وحجم النيران المستخدمة، بالإضافة إلى المدى الزمني للحرب، جعلا منها حدثاً فاصلاً في شكل حملات الاحتلال على قطاع غزة. وأدى الدمار الكبير الذي تعرضت له المنشآت الحكومية والمدنية والسكنية إلى مفاقمة آثار الحصار الإسرائيلي على غزة، فالاحتلال ركز في عمليات قصفه على تدمير المراكز الحيوية من مقرات الحكم إلى مواقع الأجهزة الأمنية، وصولاً إلى عمليات التجريف الواسعة التي تعرضت لها مناطق مختلفة من القطاع، خاصة تلك التي توغل الاحتلال فيها برياً.
اختبر الغزيون في هذه الحرب العدد الكبير من حالات الفقد بعد استشهاد قرابة 1400 فلسطيني وإصابة الآلاف، ولأول مرة يعيش سكان القطاع النزوح من مناطق سكناهم، وتجربة العيش في مراكز الإيواء.
عززت الحرب من الحراك التضامني مع غزة، وسلطت الضوء أكثر على الحصار الإسرائيلي على القطاع، بما شكل ضغطاً على دولة الاحتلال ومصر. وفي ظل هذا الوضع بدأت تزدهر الأنفاق التجارية بين مدينتي رفح المصرية والفلسطينية، بعد أن كانت تمثل ممرات هامشية للقيام بعمليات التهريب أو نقل الأسلحة إلى المقاومة الفلسطينية، كما هو الحال في فترة التسعينيات والانتفاضة الثانية.
تضاعف عدد الأنفاق التجارية وبدأت تتحول إلى الشريان الرئيسي للاقتصاد الغزي المتعطش للمواد بمختلف أنواعها، فخلال شهور عدة امتلأت الأسواق الغزية بالبضائع المصرية، من الإسمنت إلى الوقود، وليس انتهاءً بالمواد الغذائية، ومواد البناء التي ازداد الطلب عليها بعد توقفٍ لسنوات وازدياد حجم الدمار الذي تعرضت له مساكن المواطنين في حرب 2008، بالإضافة إلى قيمة المنازل في وعي المواطن الفلسطيني كمخزن للقيمة والمدخرات.
شغّلت الأنفاق ما يقرب من 12 ألف غزي في عملية حفرها وتشغيلها لاحقاً، وتركت الحكومة الفلسطينية في غزة عملية بناء الأنفاق وتشغيلها للقطاع الخاص، واكتفت بفرض الرسوم والضرائب، وشكلت هيئة الأنفاق الحكومية لهذا الغرض.
انشغال القطاع الخاص بالأنفاق أنتج طبقة جديدة من رجال الأعمال الذين ساعدتهم عوامل مثل وجود النفق في أرض تعود لهم في مدينة رفح، أو قدرتها على نسج علاقات مع الطرف الآخر في مصر، أو حتى مبادرتهم للتعامل مع هذا النمط الجديد من الاقتصاد بشكل مبكر، ولم تتأخر طبقة التجار ورجال الأعمال التقليدية في التعامل مع الفرصة الجديدة، وضخت جزءا من استثماراتها في اقتصاد الأنفاق. وعلى الرغم من الدور الهام الذي لعبته الأنفاق في كسر الحصار الإسرائيلي على قطاع غزة، فإن حركة البضائع ظلت باتجاه واحد، ولم تتمكن الصناعات وقطاع الزراعة الغزي من الوصول إلى الأسواق، فظلت الصادرات محدودة، بما يعني أن اقتصاد الأنفاق ساهم في حل الإشكالية الاستهلاكية للسوق الغزي بينما ظلت إمكانيات التصدير محدودة. هذا الأمر كذلك يمكن ملاحظته في الظواهر التي ازدهرت إلى جوار اقتصاد الأنفاق، وخاصة تجارة العقارات والأراضي وحتى السيارات الحديثة التي دخل جزء منها عبر الأنفاق، وجزء آخر من خلال المعابر مع الاحتلال.
وفرت إيرادات الأنفاق للحكومة الفلسطينية موردا ماليا مكّنها من التوسع في عمليات التوظيف، مما أدى في المحصلة إلى زيادة القاعدة الاجتماعية للجهاز الحكومي في غزة، وزيادة تكاليف تشغيله مع زيادة فاتورة الرواتب. كما شهدت هذه الفترة زيادة في عمليات المأسسة للفصائل الفلسطينية، وتحديداً حركتي حماس والجهاد الإسلامي، فبدأ عدد المفرغين الذين يتلقون رواتب ومخصصات دورية ويعملون في المجالات الإعلامية والسياسية والعسكرية والأمنية في التزايد.. هذه البيروقراطية الفصائلية ساعدت في بناء الفصائل الفلسطينية وزيادة تأثيرها في المجال السياسي والإعلامي، خاصة وسائل التواصل الاجتماعي الجديدة، التي خصصت لها الحركة موارد مادية وبشرية للتعامل معها والاستفادة منها.
وشكل الهجوم الإسرائيلي على سفينة مافي مرمرة عام 2010، ضمن أسطول الحرية البحري الذي انطلق لفك الحصار الإسرائيلي على غزة؛ نقطة فاصلة في الحصار المفروض على القطاع، والذي بدأت حلقاته تتراخى، وتحديداً معبر رفح الذي زادت أيام فتحه أمام حركة المسافرين من وإلى غزة، وهو ما مكن أجيالا من الشباب الفلسطيني من إعادة اتصالهم بالعالم الخارجي والعكس، فكثرت في هذه الفترة الوفود التضامنية الأجنبية التي زارت القطاع من دول مختلفة، وساهم هذا الأمر في تعزيز مكانة غزة كقضية تضامنية من جماهير الحركات الإسلامية والعالمية، كما أتاح لقيادات تنظيم غزة الاتصال بقيادات هذه الحركات.
بحلول العام 2011، كانت غزة أكثر اتصالاً وتأثراً بمحيطها العربي، بعدما أصبحت أيام فتح معبر رفح أكثر من الفترة السابقة، والأهم زيادة استخدام شبكة الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي التي بدأت بالظهور في هذه الفترة.
تفاعل الشارع الغزي مع أحداث الربيع العربي التي بدأت في تونس ولاحقاً في مصر، وفي مارسآذار 2011 بدأت مجموعة من الشباب مظاهرات في مركز مدينة غزة، وعلى خلاف الحراكات في الدول العربية التي غلبت عليها المطالب الاجتماعية والاقتصادية، طالب هؤلاء الشباب بمطالب سياسية تمثلت في إنهاء الانقسام وتحقيق الوحدة الوطنية بين حركتي حماس وفتح. فشل الحراك لاحقاً بعد أن نجحت حماس في احتوائه والحيلولة دون تحوله إلى تهديد شعبي أو سياسي، بينما لم يتمكن هؤلاء الشباب من تجاوز مجال مؤسسات المجتمع المدني التي نشط فيها الجزء الأكبر من نشطاء الحراك، والذهاب نحو تأسيس عمق سياسي واجتماعي. في المقابل تحركت حركة حماس بفعالية وقوة في المجال الشبابي والطلابي والإعلامي سعياً منها لمواجهة التحدي الجديد.
في خريف 2012، اندلعت مواجهة جديدة بين المقاومة الفلسطينية والاحتلال الإسرائيلي عُرفت باسم حرب حجارة السجيل، بدأتها قوات الاحتلال باغتيال القيادي في كتائب القسام أحمد الجعبري، وردت عليها المقاومة الفلسطينية بقصف مدينة تل أبيب الإسرائيلية. لم تدم المعركة طويلاً ولم تتجاوز حدود المواجهة الجوية الصاروخية بين الاحتلال والمقاومة، لكن الحرب قلصت المنطقة العازلة بين غزة ودولة الاحتلال، والتي أنشئت بعد الانسحاب الإسرائيلي من القطاع ووصلت بحلول العام 2012 إلى قرابة 300 متر في عمق الأراضي الفلسطينية، منع فيها جيش الاحتلال أي عملية تطوير أو زراعة لهذه المساحات. وكان من ضمن شروط انتهاء هذه الحرب، تقليص مساحة المنطقة العازلة التي وصلت إلى ما بين 50 و100 متر.
بالاضافة إلى عودة النشاط الزراعي لهذه المناطق، بدأت فصائل المقاومة الفلسطينية بعد الحرب مباشرة في بناء مجموعة من المواقع العسكرية قرب الحدود مع الاحتلال، كموقعي عسقلان، وفلسطين شمال مدينة غزة، كما نصبت عدداً من أبراج مراقبة الحدود وضبطها. بالتزامن مع هذا التطور، ظهر جهاز جديد في بنية كتائب القسام عرف باسم الضبط الميداني أو حماة الثغور، الذي تخصص في حراسة وضبط الحدود مع الاحتلال الإسرائيلي.
انعكس التغير في شكل النظام المصري سريعاً على الأوضاع في قطاع غزة، فالنظام الجديد الذي حمل أجندة معارضة للإسلاميين في مصر، وجد في حكم حماس امتدادا لهم، وجاء ظهور تنظيم الدولة داعش في سيناء ليزيد من توتر العلاقة بين النظام المصري الجديد وحركة حماس، نتج عن ذلك حملة أمنية شنتها القاهرة على شبكة الأنفاق بين غزة وسيناء وزيادة مدة إغلاق معبر رفح، وهو ما أدخل القطاع في طور جديد من الحصار الخانق، تراجعت فيه إيرادات الحكومة الفلسطينية في غزة بما انعكس على قدرتها على صرف رواتب موظفيها، مما أدى إلى مزيد من سياسات الجباية، كالتوسع في فرض الضرائب على البضائع الواردة والرسوم الإدارية، بالإضافة إلى التوسع في المخالفات المالية التي ولّدت بالضرورة اعتراضات شعبية، مع تصاعد معدلات البطالة وتراجع المؤشرات الاقتصادية.
وبحلول صيف 2014، كانت الأوضاع الاقتصادية والعلاقة بين حركة حماس والنظام المصري في أسوأ حالاتها، وفي هذه الأجواء دخلت غزة حربا مع الاحتلال سمتها المقاومة الفلسطينية العصف المأكول، اختبر فيها المجتمع الغزي مستويات جديدة من العنف والتدمير الإسرائيلي، بعد أن تجاوز عدد الشهداء 2400 شهيد وعشرات الآلاف من الإصابات، بالإضافة إلى آلاف المنازل المدمرة، بعدما انتهجت إسرائيل سياسة جديدة قائمة على القصف الواسع لمنازل كوادر ونشطاء المقاومة الفلسطينية على المستويات العليا والوسطى، مما فاقم من آثار الحرب وزاد من تكلفة عملية إعادة الإعمار التي تحولت إلى ملف ابتزاز جديد.
ومع استمرار إغلاق معبر رفح، وتصاعد معدلات البطالة، دخلت أجيال جديدة من مواليد التسعينيات بين عامي 1990 و1995، إلى سوق العمل وساحة التأثير السياسي.. لم تواكب هذه الأجيال عمليات التوظيف الواسعة التي قامت بها السلطة الفلسطينية، وكذلك الأمر مع حكومة حركة حماس. وفي ظل محدودية قدرة القطاع الخاص على التشغيل في غزة، وجد الجزء الأكبر من هذه الفئة نفسه في حالة من البطالة تترافق مع مستوى عال من التسيس والحضور على شبكة الإنترنت والتفاعل مع القضايا العامة.
وفي داخل الفصائل الفلسطينية، شكل هؤلاء القاعدة الصلبة التي ارتكزت عليها الفصائل في عملها الميداني السياسي والأمني والعسكري، خاصة في ظل قدراتهم على التعامل مع الأدوات والمنصات الحديثة. كما أن أبناء هذا الجيل ظهروا في وقت ارتفاع قدرة الفصائل الفلسطينية على التجنيد واستيعاب الكوادر في صفوفها. وخلال صيف 2013، بدأت كتائب القسام مشروعاً جديداً لبناء سرايا النخبة، وكان لأبناء جيل التسعينيات دور هام في بناء هذه القوة.
مع بداية عام 2017، تولى يحيى السنوار، الأسير المحرر في صفقة وفاء الأحرار عام 2011، قيادة حركة حماس في غزة، وواجه واقعاً معقداً، فالعلاقات مع مصر في أسوأ أحوالها، والحصار الإسرائيلي على القطاع في أشد مراحله، والاقتصاد الغزي في حالة من العطالة، والأهم تصاعد الاحتجاج داخل المجتمع الغزي ضد الإدارة الحكومية التي عانت من ضائقة مالية خانقة بعد تدمير شبكة الأنفاق على الحدود مع مصر، مما حرمها من أهم مواردها المالية التي اعتمدت عليها في تمويل نفقاتها.
تحرك السنوار في أكثر من اتجاه، مع مصر دخل في مسار سياسي انتهى إلى تحسين العلاقات مع النظام الجديد في القاهرة، وبالتالي حدوث انزياح في ملف فتح معبر رفح أمام حركة الغزيين إلى الخارج. وعلى المستوى الداخلي، قاد السنوار جولة جديدة للمصالحة مع حركة فتح انتهت باتفاق الشاطئ الذي بموجبه تخلت الحركة عن الحكم في غزة وتسليمه إلى حركة فتح، وهي الخطوة التي لم يكتب لها النجاح، لكنها استطاعت تحقيق اختراق حقيقي في العلاقة مع الفصائل الفلسطينية في غزة.
وبموازاة ذلك قام السنوار بمجموعة من الخطوات التي عززت من الأداء التنظيمي لحركة حماس وشفافية الجهاز الحكومي، كما قاد حملة علاقات عامة مع المجتمع الغزي، تضمنت حملات تواصل مع المكونات الاجتماعية المختلفة من العائلات والنشطاء وكوادر التنظيمات الفلسطينية، تركت في مجملها انطباعاً إيجابياً، فأصبح مكتب السنوار قبلة الشكوى أو طلب الحاجة من قبل عامة الناس.
فبعد انتهاء الخطر الأمني الذي شكلته العائلات في السنوات التي سبقت العام 2010، تحولت إلى وعاء للنشاط السياسي، بعد أن لجأ إليها كوادر حركة فتح كغطاء للنشاط السياسي في ظل المنع والتضييق الذي تعرضت له الحركة بعد سيطرة حماس على غزة وحظر أنشطة التنظيم ومنع كوادره من أي نشاط سياسي. كما اتخذت حماس نفسها مجموعة من الخطوات لتجاوز مرحلة المواجهة والتأثير على توجهات هذه العائلات عبر زيادة استقطاب أبنائها وضمهم إلى صفوف الحركة، مما أدى في النهاية إلى احتواء العائلات وتحويلها إلى عامل استقرار في غزة.
انهيار مشروع المصالحة تلاه قيام السلطة الفلسطينية في رام الله بفرض سلسلة من العقوبات على غزة، تضمنت تقليص مدفوعات رواتب موظفي السلطة في القطاع، فالاقتصاد الغزي تجرفت قطاعاته المختلفة وأصبحت دورته الاقتصادية تعتمد على رواتب موظفي السلطة في رام الله، ورواتب موظفي حكومة غزة، بالإضافة إلى رواتب موظفي وكالة الأونروا والمؤسسات الدولية الأخرى، فأي خلل في هذه الرواتب من المؤكد أن يؤدي إلى أزمة اقتصادية، وهذا ما جرى عند فرض العقوبات على قطاع غزة.
في ظل اشتداد الحصار الإسرائيلي والمصري، والأزمة الاقتصادية المتفاقمة وتصاعد حالة الاحتجاج والتململ داخل المجتمع في غزة، جاءت مسيرات العودة في مارسآذار 2018، لتدشن مساراً جديداً في أوضاع القطاع اقتصادياً واجتماعياً وسياسياً، بعد أن تقاطعت المسيرات بدماء الشهداء ومعاناة الأسرى مع الموت البطيء الذي تتعرض له غزة، وشقت مساراً جديداً في التخفيف من الحصار الإسرائيلي على القطاع عبر التفاهمات التي توصلت إليها الفصائل الفلسطينية مع الاحتلال، وبموجبها جرى إجراء تحسينات على عدد من الملفات كالكهرباء والسلع الواردة والمصدرة من غزة، والسماح بإدخال العمال الغزيين إلى الداخل المحتل، والموافقة على توزيع منحة قطرية بنحو 30 مليون دولار شهرياً لصالح عائلات غزة. أما الخطوة الأهم فكانت فتح معبر رفح، الذي سمح لاحقاً لظاهرة الهجرة من قطاع غزة واللجوء إلى الدول الأوروبية؛ بالتشكل.
عززت مسيرات العودة من حالة التوافق بين الفصائل الفلسطينية، بعدما اختبر كوادرها في المستويات المتوسطة والدنيا العمل الميداني المشترك. ومن رحم تجربة المسيرات، ظهرت فكرة الغرفة المشتركة للأجنحة العسكرية للفصائل التي حاولت من خلالها حركة حماس تطوير حالة العمل العسكري في غزة وتنسيقها، فالحركة التي سيطرت على غزة عام 2007، دعمت وسمحت بتطور العمل العسكري لدى الفصائل الأخرى ولم تحاول دمجها في إطار واحد، واكتفت بالتنسيق معها. ومع تعقد حالة الاشتباك مع الاحتلال، وظهور التباينات بين حركتي حماس والجهاد الإسلامي حول الطريقة الأنسب للمواجهة، كان من اللازم التوجه لإيجاد إطار من التنسيق المشترك.
وفي ظل الهجمة التي تعرضت لها الحركات الإسلامية بعد تصاعد مد الثورات العربية المضادة، تصاعد اعتماد حماس على مقولة المقاومة في وجودها السياسي، هذه المقولة سمحت بإيجاد حالة من الالتفاف حول الحركة ومشروعها شملت فصائل وشخصيات ونشطاء فلسطينيين من مختلف التيارات الفلسطينية. كما ساعدت هذه المقولة في تعزيز عمليات التجنيد في صفوف حماس، فبات مُلاحظاً الحيزُ الكبير الذي تتخذه المواد العسكرية من مواد الحركة الإعلامية الموجهة للجمهور الفلسطيني، مما أدى في المحصلة إلى استمرار التوسع التنظيمي أفقياً وعمودياً.
وأكملت مسيرات العودة عملية تعرّف الغزيين على المناطق الحدودية، فحتى العام 2012، ظلت الحدود في وعي الغزيين مناطق خطرة من الأفضل عدم الاقتراب منها. وبعد إنهاء المنطقة العازلة، بدأت العلاقة بالتغير تدريجياً مع إنشاء مواقع للمقاومة الفلسطينية على طول الحدود مع الاحتلال. وبحلول العام 2015، شقت المقاومة الفلسطينية طريقاً عرف باسم جكر على طول الحدود، استخدمته في عمليات التأمين الحدودي. وجاءت مسيرات العودة لتعطي عملية التعرف على الحدود بعداً شعبياً بعد أن كسر الغزيون حاجز التعرف عليها، واختبروا التسلل داخل الأراضي المحتلة نفسها، فقد شهدت فترة المسيرات عددا من عمليات التسلل التي انتهى بعضها بالاشتباك مع قوات الاحتلال الإسرائيلي.
ورغم محورية الحدث والنتائج التي أسفر عنها، فإن ثمنه كان مرتفعاً مع آلاف المصابين، خاصة المعاقين حركياً، وهو ما دفع أصواتا عدة للمطالبة بإعادة النظر في المسيرات وجدواها. وبقدر ما بنى هذا الحدث من خطوات ثقة وتعاون سياسي بين مكونات الفصائل الفلسطينية، بقدر ما أظهر من إشكاليات العمل المشترك؛ من غياب التواصل الفاعل والإشراك الحقيقي في التنفيذ والترتيب، والأهم أزمة الثقة التي ظلت قائمة خلال مسيرات العودة وبعدها.
ومع انتظام فتح معبر رفح، بدأت ظاهرة اللجوء والهجرة في قطاع غزة بالظهور. والحقيقة أن هذه الظاهرة لم تكن وليدة هذه الفترة، بل هي صفة ملازمة لواقع غزة منذ تشكله بعد النكبة، فالموجات الأولى من الهجرة الواسعة خرجت من القطاع منذ خمسينيات القرن الماضي باتجاه الخليج العربي للعمل في المهن المختلفة، وخاصة لدى المتعلمين منهم، واستمر هذا الاتجاه وإن بمستويات تنخفض تارة وتتصاعد تارة أخرى. ومع حلول العام 2016 وبعد انتظام فتح معبر رفح، تحولت إلى ظاهرة اجتماعية مع هجرة وخروج عشرات الآلاف من فئة الشباب الذين سلكوا طرقاً مختلفة للوصول إلى دول أوروبا الغربية.
شكلت هذه الظاهرة تحدياً معنوياً لحكم حركة حماس، فصعوبة رحلة اللجوء وموت العشرات من أبناء غزة خلالها، وفكرة اضطرار شباب البلد لتركها، وضعت الحركة في موقف حرج، زاد من ذلك تحول هذه القضية إلى مادة للتراشق الإعلامي والسياسي من قبل خصومها في حركة فتح.
بدأ الغزيون تشكيل مجتمعات جديدة في بلدان اللجوء، وتحديداً في دول مثل تركيا وبلجيكا والدول الإسكندنافية. ورغم الوجود التاريخي للفلسطينيين في الدول الأوروبية المختلفة، فإن اتصال القادمين الجدد من غزة مع هذه المجتمعات ظل في حده الأدنى، وهو ما أخر عملية اندماجهم في هذه البلدان، ومع ذلك حافظوا على اتصالهم مع المجتمع الغزي؛ معنوياً عبر تحوّل حياتهم ومعاشهم إلى نموذج محفز على الهجرة أو محاولة استنساخه لاحقاً في قطاع غزة نفسه، وسياسياً من خلال اتخاذ عدد من معارضي حماس من هذه الدول منبراً لمعارضة الحركة، عززته الاحتجاجات التي اندلعت في مارسآذار 2019 وسميت بحراك بدنا نعيش، بعد أن سعت هذه الفئات معتمدة على وسائل التواصل الاجتماعي؛ في تحريض الشارع الغزي ودفعه إلى الاحتجاج.
وبدأت غزة تشهد في هذه الفترة دخول أجيال جديدة من مواليد الألفية الذين تخرجوا من الجامعات وبدؤوا ينشطون اجتماعياً وسياسياً. امتلك هؤلاء مجموعة من الخصائص والميزات، على رأسها الحضور القوي لوسائل التواصل الاجتماعي في حياتهم، وتأثيرها في تفضيلاتهم الحياتية، فظهرت مجموعة من المؤثرين إنفلونسرز الذين تحولوا إلى رموز مؤثرة في الجوانب الاستهلاكية وقناة وصلٍ بين أبناء غزة وأساليب حياة مختلفة، ترافق ذلك مع ازدهار في المشاريع الترفيهية كالمنتجعات والمطاعم والمقاهي ومراكز التسوق المتوسطة والكبيرة التي بدأت بالظهور في مراكز محافظات قطاع غزة. كما ساهمت شبكة الإنترنت في خلق مسارات عمل وتوظيف تتجاوز الحصار الإسرائيلي عبر العمل عن بعد فريلانسر في مجالات البرمجة والترجمة والصوتيات وغيرها، وهذه ساهمت كذلك في دعم الوضع الاقتصادي.
كما أدى مسار التفاهمات بين حركة حماس والاحتلال إلى دخول قرابة 20 ألف عامل إلى الداخل المحتل والعمل هناك، بما عزز من الحالة الاقتصادية التي بدأت تتحسن جزئيا مدفوعة بالإجراءات الإسرائيلية والمصرية التي خففت من حدة الحصار، بالإضافة إلى ظهور نوع من الجو المشجع على فتح المشاريع الصغرى والمتوسطة، بعد ظهور عدد من المؤشرات السياسية والميدانية على رغبة حركة حماس في إرساء الهدوء وتجنب أي مواجهة كبرى مع الاحتلال. هذا التحسن الجزئي ظل أقل من تركة الحصار وأزماته التي احتفظت بموقعها المركزي كمؤثر في حياة الغزيين، فمعدلات البطالة ظلت مرتفعة، وحالة إفقار واستنزاف جيوب الغزيين ظلت قائمة ومستمرة.
استجابت غزة في مايوأيار 2021 لنداء القدس وخاضت حربها الرابعة في أقل من 13 عاما. هذه الحرب منحت غزة ومقاومتها رصيداً معنوياً وسياسياً، إذ لم تؤسس لحظة سيف القدس لقرار الطوفان العملياتي فقط، وإنما أسست للحظته السياسية كذلك، كمعركة تتخذ من القدس شعاراً لها، وتسعى للتأثير في ساحات فلسطين الأخرى، وتراهن على حراكها لخلق واقع جديد تستطيع فيه الحركة إعادة رسم وتشكيل النظام السياسي الفلسطيني. كان لهذه المعركة وما خلقته من خيال وأفق؛ أثرها الهام في مستقبل القطاع الذي انتظر عامين قبل أن يختبر المعركة مجدداً، لكن على شكل طوفان.
قطاع غزة في ليلة 6 أكتوبرتشرين الأول 2023، ضم مجتمعا نحتته سنوات الحصار والحرب، لكنه نجح رغم ذلك في الحفاظ على تماسكه وصموده، فلم تتصاعد مظاهر التفكك الاجتماعي والانهيار الأخلاقي، إذ ظلت معدلات الجريمة والعنف في حدودها الطبيعية، ولم تؤدِّ سنوات الحصار والحرب للعودة إلى سنوات الانفلات الأمني السابقة.
المناعة الاجتماعية كذلك ظهرت في استعصاء المجتمع الغزي على عمليات التجنيد الأمني للعدو والتي ظلت في حدودها الدنيا، وفقاً لما كشفته تحقيقات إسرائيلية لاحقاً، إذ أظهرت ضعف عمليات التجنيد البشري في المجتمع الغزي، كما ظهر في عدم انجرار المجتمع الفلسطيني بمكوناته المختلفة إلى مواجهة مع حركة حماس خدمة لأي أجندة سياسية.
في المقابل، تعرض المجتمع الغزي لعملية إفقار أدت إلى إنهاك وتقليص الطبقة الوسطى، وإرهاق الطبقات الأدنى، واستفحال البطالة لدى أجيال الشباب الجديدة التي وجدت في الهجرة خارج البلاد وتحمل تكلفة اللجوء التي وصلت إلى فقدان الحياة والسجن والضرب؛ مخرجاً من أزمات القطاع الاقتصادية.
لم يواجه المجتمع الفلسطيني حكم حركة حماس في غزة، لكنه لم يكن راضياً عما أنتجه من أزمة اقتصادية دفعته إلى مراكمة سلوك احتجاجي ظهر في تعبيراته البسيطة وحديثه اليومي وفي المظاهرات الاحتجاجية كذلك.
نجحت إسرائيل بآليات الحصار ودمار الحروب في إلحاق أضرار بالغة الأثر في النظام الاقتصادي الغزي الذي خسر جزءا كبيرا من قدراته الإنتاجية، وأصبح مكشوفاً عاجزاً عن توفير الغطاء اللازم لمجتمع يخوض مواجهة مفتوحة مع الاحتلال الإسرائيلي. وفاقم ضعف التجربة الحكومية في غزة وعجزها عن بناء نموذج اقتصادي مقاوم؛ من آثار الحصار الإسرائيلي، فعلى خلاف المساحات العسكرية والأمنية والاجتماعية، عجزت حماس عن بناء أي نموذج حقيقي في العمل الحكومي، باستثناء قدرته على الصمود والحكم بالحد الأدنى للموارد، فأحد أكبر إنجازات الجهاز الحكومي هو قدرته على إدارة قطاع غزة ومنع انهيار الأوضاع فيه بهذا الفقر من الموارد.
وعلى مدار العقدين الماضيين، ظهرت في غزة أجيال جديدة من الشباب، عاشت الجزء الأكبر من حياتها في ظل الحصار الإسرائيلي وما أنتجه من أزمات اقتصادية وحياتية، حاولت هذه الأجيال الحد من آثارها عبر وسائل التواصل الاجتماعي وشبكة الإنترنت، فلم تزر هذه الأجيال مدن الضفة، ولم يصلِّ الجزء الأكبر منها في المسجد الأقصى، لكنها حققت نوعا من الاتصال مع هذه الأجزاء من فلسطين عبر شبكات التواصل، ولاحقاً في بلدان اللجوء والغربة التي التقى فيها الفلسطينيون من غزة لأول مرة مع الفلسطينيين الآخرين من الضفة والداخل والشتات.
استطاع الجزء الأكبر من هذه الأجيال إنهاء التعليم الجامعي والاتصال وظيفياً ومعرفياً مع العالم الخارجي، وعززت حركة الهجرة خارج غزة من هذا التوجه. وتمكنت حماس من تحقيق اختراق وحجز حصتها من هذه الأجيال من خلال مقولة المقاومة التي استطاعت التأثير أو استقطاب جزء من هؤلاء الذين شكلوا مادة كتائب القسام وجنودها. ومع ذلك جاء الاحتجاج الأهم على أداء الحركة السياسي والحكومي من هذه الأجيال، سواء على وسائل التواصل الاجتماعي أو في الشارع.
سياسياً، نجحت حركة حماس في العبور من الأزمات التي ظهرت بعد فوزها بالانتخابات التشريعية عام 2006، واستطاعت تأسيس حكم في قطاع غزة، ارتكزت فيه على جهاز حكومي، وتنظيم مدني يعمل بمجموعة واسعة من المؤسسات التي احتلت موقعاً مهماً في المجتمع الفلسطيني وعلى رأسها المسجد، وجهاز عسكري حقق مستويات متقدمة في الاحتراف والمهنية ويحميه جهاز أمني.
وخلال رحلتها في السيطرة على حكم غزة، احتوت حركة حماس الأصوات المعارضة الفصائلية والشعبية، واستطاعت بناء إجماع وطني فصائلي وسياسي داخل القطاع، ارتكز على المقاومة التي تحولت إلى أهم مكونات شرعية حكمها.
ومع ذلك وجدت حماس نفسها محاطة بمجموعة من المعضلات، فهي حركة مقاومة تقاتل الاحتلال، لكنها التنظيم الحاكم المجبر على إدارة شؤون أكثر من مليوني فلسطيني في ظل حصار إسرائيلي وعملية تدمير ممنهج لمقدرات بقاء قطاع غزة. وفي واقع سياسي مسدود مأزوم بمقولات الانقسام الفلسطيني، حاولت حماس الخروج من أزمتها بالتصالح مع حركة فتح تارة وبمواجهة الاحتلال الإسرائيلي تارة أخرى، لكنها ظلت عاجزة عن إحداث أثر جوهري وحقيقي. ووجدت الحركة في سيف القدس بوابة لمسار جديد حاولت فيه التقدم خطوة إلى الأمام وتصدّرَ قضايا الساحات الفلسطينية الأخرى، سعياً وراء تشكيل الواقع السياسي الفلسطيني بعيداً عن حالة الاستعصاء القائمة، فظهرت مشاريع مثل الجبهة الوطنية، وجرى العمل على تعزيز مشروع الغرفة المشتركة.
خلال حكم حماس، تمكنت المقاومة الفلسطينية من تحقيق قفزات نوعية في بناء ومراكمة القوة، زادت خلالها عمليات تجنيد المجتمع الفلسطيني، ومأسسة الجهاز العسكري وزيادة قدراته التسليحية. واحتفظت حماس بموقع مركزي في عملية صنع قرار السلم والحرب في غزة، لكنها أنشأت ديمقراطية البنادق التي احتفظت فيها الفصائل الفلسطينية بحرّية العمل العسكري والأمني، فاحتفظت بأجنحة عسكرية مسلحة نسقت مع القسام والأجهزة الأمنية المختلفة. وإلى جوار الأجهزة الأمنية والعسكرية، تمكنت حماس والفصائل الفلسطينية من بناء طبقة من الكوادر التنظيمية التي ارتبطت وظيفياً بها، لتصبح البيروقراطية التنظيمية المفرغة عماد العمل السياسي والتنظيمي والإعلامي في غزة، والأداة الأهم التي تحركت بها الفصائل الفلسطينية.
بهذا المشهد الاجتماعي والسياسي والاقتصادي والعسكري، دخلت غزة حرب طوفان الأقصى التي تعد نقطة تحول مفصلية في تاريخ المدينة، تضاف إلى لحظة دمارها في الحرب العالمية الأولى على يد الجيش الإنجليزي، ولحظة النكبة التي خسرت فيها الجزء الأكبر من أراضيها، ولحظة النكسة التي احتُلت فيها وتقلصت أراضيها لصالح الاستيطان اليهودي. | https://www.aljazeera.net/politics/2024/10/9/%d8%ba%d8%b2%d8%a9-%d9%82%d8%a8%d9%84-%d8%a7%d9%84%d8%b7%d9%88%d9%81%d8%a7%d9%86-%d8%b3%d9%8a%d8%b1%d8%a9-%d9%85%d8%ac%d8%aa%d9%85%d8%b9 | 2024-10-09T16:44:24 | 2024-10-15T00:05:28 | أبعاد |
|
43 | الجغرافيا الصعبة.. ماجد الزير وتجربة العمل الفلسطيني في أوروبا | هذا التقرير يحكي جانبا مختصرا من رحلة العمل لأجل فلسطين في أوروبا عبر جولة مع ماجد الزير، وهي رحلة لا تفيد حصرا العاملين لأجل فلسطين، بل تمتد لأصحاب الرؤى الحضارية للعمل في بلاد الشتات. | في صيف عام 1996، وتحديدا في شهر يوليوتموز، كان ثمة مفكّر مصري يحاضر في العاصمة البريطانية لندن أمام مجموعة من الحضور، غالبيتهم من العاملين والمهتمين بالقضية الفلسطينية. تحدث المفكّر حينها عن ما أسماه عقلية الترانسفير في الفكر الصهيوني وخطرها على القضية الفلسطينية. في ذلك الوقت، كانت هناك جهود موازية تصب في خدمة القضية الفلسطينية، لكنّ حدث أوسلو شكّل حالة من الصدمة والركود في العمل الفلسطيني بأوروبا.
فبعد 3 سنوات على اتفاقية أوسلو، التي كان يفترض أن تمنح الفلسطينيين دولة على ما تبقى من أرضهم، كان العاملون لفلسطين والمهتمون بقضيتها يستشعرون الخطر المحدق بعد خفوت الانتفاضة الأولى ودخول القضية الفلسطينية في مسار من النكوص السياسي والفكري الذي شكلته ما تُعرف بعملية السلام. فهذه الدولة التي أُعلن قيامها، كانت تعني بالمقابل إلغاء حق عودة الفلسطينيين المهجرين قسرا من أرضهم عامي 1948 و1967، عدا عن أمور أخرى لا يتسع المقام لذكرها. في ذلك الوقت الحرج تاريخيا، كان المفكر المصري الراحل عبد الوهاب المسيري يحاضر في المؤتمر الأول لمركز العودة الفلسطيني الذي تأسس في لندن ذلك العام. لم يكن المسيري حينها محاضرا فقط، بل كان عضوا استشاريا أساسيا للمركز الذي ما زال قائما حتى يومنا هذا. أما من نقل هذه القصة، فهو ماجد الزير، رئيس المجلس الأوروبي الفلسطيني للعلاقات السياسية، والرئيس السابق لمركز العودة منذ تأسيسه وحتى عام 2021.
لم يكن حديث المسيري في المؤتمر ضربا من الاستثناء في مسيرته الفكرية، فهو المعروف بكتابه الموسوعي حول الحركة الصهيونية، ومؤلفات فكرية أخرى تتصل بفلسطين. أما على الميدان، فكانت لإسهاماته آثار ما زالت حاضرةً خلال العمل لأجل فلسطين في أوروبا.
أثناء تلك المحاضرة، كان المسيري يقول إننا لا يمكن أن نُرجع اللاجئين الفلسطينيين وأفواجُ اليهود تتدفق إلى فلسطين. تحاول هذه الفكرة الإجابةَ عن أحد أكثر الأسئلة إشكالية في البيئة الغربية، وهي هل تريدون إبادة اليهود الموجودين اليوم على أرض فلسطين التاريخية لإقامة دولة فلسطينية؟ أما الإجابة فهي لا، لكنّ المطلوب أن يوضع حدٌّ لما يُعرف بقانون العودة الإسرائيلي الذي حذر المسيري منه كثيرا، في مقابل تطبيق حق العودة الفلسطيني الذي تكفله القوانين الدولية. يحصر هذا الجواب الحلول المطروحة لحل ما يُعرف بالصراع الفلسطيني الإسرائيلي كي تتجه نحو مسار واحد، وهو تأسيس دولة تحكم فيها الأغلبية. هذا الخيار سيرفضه الإسرائيليون بالتأكيد، على اعتبار أن أرقام السكان اليوم، دون عودة اللاجئين من الخارج، يتفوق فيها الفلسطينيون ديمغرافيا، فماذا لو عاد اللاجئون من الخارج؟ الأكيد أن الكفة ستميل بفارق واضح ناحية الفلسطينيين، وهو ما لا يمكن أن تقبل به إسرائيل، كما أن الدولة الإسرائيلية في جوهرها بُنيت على التوسع والإقصاء.
أحد الشخصيات أيضا التي كان لها إسهام هام في مركز العودة، والعمل الفلسطيني في أوروبا، هو المؤرخ والباحث الفلسطيني الدكتور سلمان أبو ستة، حيث أصّل لحقيقة التوزيع الديمغرافي في فلسطين التاريخية، وفي وصف حق العودة بأنه حق مقدس قانوني وممكن أيضا. كما كشف أبو ستة عورات منطلقات المشروع الصهيوني، خاصة في موضوع عدم اتساع الأرض وعدم اتساع اللاجئين على أرض فلسطين التاريخية.
كانت هذه الطروحات -للمسيري وأبو ستة- بالنسبة للعاملين للقضية الفلسطينية في الغرب، تشكيلا للمنطلقات الفكرية الإستراتيجية، والتي نقلت العاملين لفلسطين من موقع الدفاع إلى موقع الهجوم، كما يصف الزير. وأدى ذلك إلى اتجاه ومسار فكري يتبناه مركز العودة حتى اليوم، وهو إلغاء قانون العودة الإسرائيلي، وتطبيق حق العودة الفلسطيني كما أشرنا.
ودون استفاضة في إسهامات المفكرين والباحثين، التي لا يتسع المقام لحصرها ولا حصر أثرها، فإن مشاركة الكثير من المفكرين والسياسيين والناشطين الفلسطينيين وغير الفلسطينيين لنصرة هذه القضية، ساهمت بفاعلية في وضع الأسس لأجل نصرة القضية الفلسطينية في بلاد الشتات، الأوروبية تحديدا، واعتبارها قضيةً تتجاوز القُطر الضيّق، نحو مفهوم الأمة الأوسع.
وفي هذا التقرير سنحكي جانبا مختصرا من رحلة العمل لأجل فلسطين في أوروبا عبر جولة مع ماجد الزير، وهي رحلة لا تفيد حصرا العاملين لأجل فلسطين، بل تمتد إلى إفادة أصحاب الرؤى الحضارية من مختلف القضايا للعمل في المناطق الجغرافية البعيدة عن أوطانهم. ففي قلب الجغرافيا الصعبة، التي كانت موطنا لبزوغ الحركة الصهيونية وتلقي الدعم غير المحدود لإقامة دولة إسرائيل والحرص على استمراريتها، اشتغل الفلسطينيون والمؤمنون بهذه القضية العادلة للخوض في غمار ما يصفها البعض بالمهمة المستحيلة.
ومع أن هذه الرحلة بصحبة ماجد الزير، فإنه يؤكد باستمرار على جهود المئات من الشخصيات الوطنية الفلسطينية التي ساهمت بفاعلية، على المستوى التنظيمي والقانوني والسياسي والتأصيل الفكري، والتي ما زالت تعمل لأجل هذه القضية حتى اليوم.
توجد بيئات عمل صعبة، لكن لا توجد بيئات عمل مستحيلة
الساعة السادسة صباحا، وفي أحد فنادق الدوحة، التقيتُ بماجد الزير الذي جاء زائرا من مقر إقامته في ألمانيا. وقبل أن يبدأ ضجيج الدوامات وزحام الاجتماعات، التقينا على مائدة الإفطار التي لا أذكر منها سوى كأس القهوة، ربما لأن الانشغال بسماع التجربة التي امتدت لأكثر من 30 عاما، لم تكن تكفيها الساعات الثلاث، ولم يصلح معها الانشغال الجانبيّ.
إضافة إلى الحوار، أطلعني الزير على ثلاثة كتب لتوثيق هذه المسيرة الممتدة، أولها كتاب للعودة أقرب، وهي مجموعة من المقالات التي كتبها ماجد خلال أكثر من 30 عاما تفاعلا مع مستجدات الأحداث، ووصفا لآراء ومواقف في العمل الشعبي الفلسطيني. أما الكتاب الثاني الذي سيصدر قريبا، فهو كتاب العمل الشعبي الفلسطيني في أوروبا.. الإنجازات، التحديات، والآفاق، وقد كتبه بالاشتراك مع ماهر حجازي. والثالث كتابٌ قيد الإنجاز، يحمل عنوان عوامل بقاء القضية الفلسطينية حيّة، وهو تأليف مشترك بينه وبين إبراهيم العلي، وقد كُتب في إطار تجربة الكاتبيْن الميدانية وتأصيلهما الفكري ومعالجتهما لنقاط القوة لدى الشعب الفلسطيني في طور نضاله لاستعادة أرضه، والتي ساهمت بشكل متقدم في بقاء جذوة القضية مشتعلة، سواء الذاتية منها أو الخارجية، وذلك بهدف تغذيتها وتطويرها.
أثناء الحديث، برزت ثلاث ثيماتٍ أساسية شكلت مسارات النقاش، أولاها كانت واضحة، وهي التفاعل المستمر بين جغرافيا القارة الأوروبية والعمل الفلسطيني داخلها، وبين فلسطين، وعدم اعتبار العمل لأجل فلسطين منعزلا جغرافيا وفكريا عمّا يجري في الداخل الفلسطيني. فمركز العودة، بما تحمله رمزية الاسم من معانٍ، جاء بعد اتفاق أوسلو، مع استشعار الخطر الداهم على القضية الفلسطينية وحق الفلسطينيين في العودة إلى أراضيهم.
أما مؤتمر فلسطينيي أوروبا فقد تأسس عام 2003، بعد تسريب اتفاقية جنيف التي وُقعت في ديسمبركانون الأول من العام نفسه، والتي قرأ المنظمون فيها خطرا على حق العودة وقضية اللاجئين، وهو ما سوّقه الموقعون على تلك الاتفاقية بوصفه إنهاءً للصراع الفلسطيني الإسرائيلي. وقد جاء هذا المؤتمر تأكيدا على التمسك بقضيتهم وحقوقهم، وحملت نسخته الأولى شعار لن نتنازل عن حق العودة، وما زال يقام حتى يومنا هذا في عواصم أوروبية مختلفة. كما مُنح مركز العودة عضوية الأمم المتحدة عام 2015، وبات له انخراط في العملية السياسية، في بريطانيا أولا، ثم بعد ذلك في عواصم أوروبية أخرى.
إضافة إلى ذلك، ومع التحديات الثقافية، أقام المؤتمر فعالية سنوية تحت عنوان انتماء، تُقام في شهر مايوأيار من كل عام، وتهدف إلى الحفاظ على الهُوية الفلسطينية، وتعزيز الشعور الوطني، وإنعاش الذاكرة الجمعية، وتمسك الشعب الفلسطيني في الشتات بحقوقه الوطنية. كما أن المؤتمر يحرص على ترسيخ فكرة العودة واقعا، إذ أطلق ممارسة ثقافية تُدعى قوافل العودة، وفيها تدخل كل دولة على حدة إلى المؤتمر باعتبارها قافلة ستعود يوما ما، وتجسيدا لفكرة العودة الواقعية إلى أرض فلسطين. كما انبثق عن مركز العودة العديد من المشاريع الإستراتيجية لصالح الحفاظ على حق العودة. وبهذا تبرز أهمية المؤسسات، بوصفها الإطار القانوني والمؤسسي الذي يمكن أن تنتقل تجربته إلى شرائح أوسع وأجيال قادمة.
أما الثيمة الثانية التي يعكسها كذلك كتاب العمل الشعبي الفلسطيني في أوروبا، فهي أهمية مأسسة العمل وتوثيق التجارب وتبادل الخبرات ونقلها للأجيال الصاعدة، فكما يقول الزير من مسؤوليتنا أن نعرض على الأجيال اللاحقة أبرز ما قمنا به، حتى نختصر عليهم الطريق، ونتيح لهم المعارف التي يستطيعون البناء عليها. فانتشار الفلسطينيين في أكثر من 100 دولة، وانتشار المؤمنين بهذه القضية، يُحتّم أهمية العمل المنظم عبر تقييم التجارب ومأسستها، سواء على مستوى الهياكل، أو المنطلقات الفكرية، أو العرض الموضوعي للفرص والتحديات، بالإضافة إلى أهمية إنشاء مؤسسات عابرة للحدود، من أجل الإسهام في بناء عمل وطني موحد في القارة الأوروبية.
وكمثال على ذلك، ثمة فصل كامل في كتاب العمل الشعبي الفلسطيني في أوروبا، يحمل عنوان كيف يبدأ التحضير لعقد مؤتمر فلسطينيي أوروبا؟ وفي هذا الفصل، يعرض المؤلفان التفاصيل الدقيقة لإقامة المؤتمر، بدءا من اللجان ودورها، وصولا إلى تحديد اسم المؤتمر ومكان إقامته وضيوفه. ويؤكد الزير على الأهمية البالغة للتوثيق والأرشفة، والتي يخصص لها المؤتمر لجنة خاصة. كما يستعرض الكتاب أهمية دور المرأة المركزي، وأهمية استطلاعات الرأي السنوية لتقييم المؤتمر، وأخذها بعين العناية والاعتبار في تطوير ما هو قادم، إلى جانب كثير من التفاصيل الأخرى التي يحويها الكتاب.
أما اليوم، فقد عُقد أكثر من 20 مؤتمرا، وبات يشارك فيه الجيل الجديد المولود في أوروبا، مع استلامه لأدوار قيادية وتنظيمية. وكان هؤلاء ممن قادوا حراك الجامعات وحتى الشارع، نصرةً لفلسطين بعد الحرب الأخيرة التي شنها جيش الاحتلال على قطاع غزة.
وتحضر الثيمة الثالثة في النقاش عبر التطرق مرارا لأهمية انخراط جميع الطاقات من أجل هذه القضية، حيث يذكر الزير أهمية العمل بمجالاته المختلفة؛ السياسي والشعبي والإعلامي والقانوني والإنساني، وغيرها من المجالات المحتملة. يقول الزير من المهم جدا دوام التحرك حتى بجُهد المُقل، وهذا من شأنه أن يعظم النتائج لمصلحة القضية الفلسطينية أو أي قضية أخرى. فكثير من الثمار التي حققناها من خلال العمل الفلسطيني في أوروبا، جاءت من بذور بسيطة، لم نكن نتوقع أن تسهم في نتائج بهذا الحجم.
فقصة المسيري، وغيره من المفكرين والأكاديميين والناشطين الذين ساهموا، بقليل أو كثير من الجهد في هذا العمل، تُعد دليلا على أهمية الانخراط الفاعل. ورغم هذه الإنجازات التي نراها اليوم، يكرر الزير باستمرار أن حجم العمل لا يرقى بعدُ إلى المستوى المأمول، ولا يتلاءم مع حجم الحدث وأهمية القضية، ويقول إنّ على الفلسطينيين المهجّرين، وعرب المهجر، أن يستثمروا هذه التغيرات بصيغة أفضل، إذ ما زالت الشريحة الأكبر من المتظاهرين والفاعلين الداعمين للقضية الفلسطينية؛ من غير العرب والمسلمين.
منذ 7 أكتوبرتشرين الأول 2023، وما تلاه من شنِّ جيش الاحتلال الإسرائيلي حرب إبادة جماعية على غزة تجاوزت اليوم شهرَها العاشر دون أفق واضح لوقف نزيف الدماء، شهدت القارة الأوروبية زخما متصاعدا في المظاهرات المناصرة لفلسطين، والرافضة للحرب الإسرائيلية على القطاع.
زخم وثقه المركز الأوروبي الفلسطيني للإعلام إيبال بقيام ما يزيد عن 22 ألف مظاهرة وفعالية في أكثر من 600 مدينة تتوزع على نحو 20 دولة أوروبية، وذلك بعد مرور أكثر من 10 أشهر على بدء عملية طوفان الأقصى.
كان هذا الحضور الواسع لغير العرب والمسلمين في المظاهرات، دافعًا لحديث الزير حول أهمية ألا يتم التعاطي مع أوروبا بوصفها كتلة صمّاء منحازة إلى إسرائيل، بل مساحة يمكن التحرك والتأثير فيها، وذلك بالنظر إلى أن العمل السياسي هو في جوهره عمل لكسب النقاط في كافة المجالات لصالح القضية التي تعمل لأجلها، وأن الحراك الذي شهدته أوروبا يثبت أن ثمة أرضية يمكن الاشتغال والبناء عليها.
هذا على مستوى الحراك، أما على صعيد التغيرات، فيقول الزير إنّ ما بتنا نشهده اليوم في الغرب ليس بالأمر الهين، فهذا المشروع أي إقامة إسرائيل خُطط له وتمت تغذيته من الغرب، لذا فإن عامل العلاقة بين الغرب وهذا المشروع الاستيطاني هو عامل عضوي. ويقول إننا لا نتحدث هنا عن شأن خارجي بالنسبة لكثير من الدول الغربية، بل عن شأن محلي بامتياز، وهذا يفسر ما سماها الزير الهستيريا التي تعاطت بها الدول الغربية مع ما جرى يوم 7 أكتوبرتشرين الأول.
وفق هذه المعطيات، تبرز الأهمية البالغة لمواقع التواصل الاجتماعي، فقد كان لسيل المعلومات الهائل الذي كان يتدفق مباشرة إلى هواتف الناس، أثرٌ مهم في حجم المظاهرات التي ملأت الشوارع، فالمجتمع بكل تنوعه وخلفياته السياسية كان جزءا فاعلا من هذا الحراك، وجزءا فاعلا من انعكاس ذلك على مستوى اللغة التي بات يستخدمها بعض نُخب المجتمع لصالح إدانة جرائم الاحتلال.
لكن هذه المعطيات الإيجابية إن صح الوصف، لا تعني أن السياسة الرسمية الغربية ستتغير مباشرةً ناحية الحق الفلسطيني، لكنها تعني أن المشهد الذي كانت تسود فيه الرواية الإسرائيلية بات أمرا من الماضي، حيث أضحى هناك وعي متزايد بماهية القضية الفلسطينية، وماهية الاحتلال. وهنا يشدد الزير مرة أخرى على أهمية انخراط الجموع في العمل لصالح القضية في هذه اللحظة التاريخية.
قرب نهاية الجلسة، كنتُ مهتما بالتعرف على التحديات التي تحدق بالعمل الفلسطيني في أوروبا. استطرد الزير في إجابته لأهمية هذه المسألة وحساسيتها، وهو الاستطراد الذي انعكس أيضا في كتبه. أما التحدي الأبرز فهو اللوبي الإسرائيلي في الغرب، وهو ما وصفه بالتحدي الوجودي، فالساحة الأوروبية ذات قيمة وجودية بالنسبة لإسرائيل، ومنها يمكن فهم الهستيريا التي تصيب أي صعود للحراك المؤثر في هذه الجغرافيا، لذلك يحاربوننا أمنيا وماليا وإعلاميا وقانونيا.
في عام 2010، وضعت إسرائيل مركز العودة وأمناءه وطاقمه التنفيذي على قوائم الإرهاب، بقرار من وزير الدفاع آنذاك إيهود باراك، وهو ما قاد إلى توظيف اللوبيات الداعمة للاحتلال لهذا المعطى من أجل تشويه كافة العاملين، وتشويه المؤتمرات، ومحاولة منعها. كان لهذا التصنيف تبعات كثيرة، ليس أقلها التواصل مع أهلنا في أراضي 48، بالإضافة إلى التضييقات التي طالت أهالي العاملين، سواء في أوروبا، أو حين محاولتهم دخول الأراضي الفلسطينية.
لكن، ورغم تلك التضييقات، والتصنيف الإسرائيلي، فإنه بعد خمسة أعوام، وتحديدا في عام 2015، حاز المركز على عضوية الأمم المتحدة ضمن المنظمات غير الحكومية، مما عكس حالة من الاحترافية من حيث الشكل والمضمون وكافة المجالات التي تدحض الحجج الإسرائيلية في تصنيف المركز والعاملين فيه.
أما التحدي الثاني، فقد كان الدور السلبي لبعض سفراء السلطة الفلسطينية، وعملهم المضاد للعمل الفلسطيني، تشويها وتعويقا، مما يضر بالعمل، ويُضعف الحضور والتفاعل. ورغم الدور السلبي لبعض السفراء، فلا بد من الإشارة إلى دور إيجابي جدا أداه سفراء آخرون من السلطة الفلسطينية، كانوا يصبون تركيزهم على تعزيز الجهود الوطنية ودعمها.
ثالث تلك التحديات، هو كثرة المؤسسات دون مضمون، ورغم حديث الزير عن أهمية بناء المؤسسات وتوحيد الجهود، فإن بناء مؤسسات دون رؤية وإستراتيجية، يشتت الجهود ويزيد التنافس غير الإيجابي، ويضعف الجهود القائمة أكثر مما يقويها.
أما رابعها، فهو تحدي إيجاد من يحترف العمل للقضية في ظل القلق من الملاحقات الأمنية والقانونية والإمكانات الضعيفة، خاصة في ظل حاجة الأجيال الناشئة والجديدة في الغرب إلى بناء حياتهم المهنية، مما يقود في المحصلة إلى عدم توافر الكفاءات الشابة والمتفرغة للعمل من أجل فلسطين.
وخامس التحديات، تنوعُ الانتماءات والرؤى وانعكاس الأحداث السياسية في العالم العربي على انقسام العاملين للقضية الفلسطينية في أوروبا، ما بين مؤيد لموقف سياسي ومعارض له، وهو ما يحتاج من العاملين للقضية أن يقفوا على أرضية ومنهجية واضحة.
أما التحدي السادس والأخير الذي سنعرضه هنا، فهو تحدي التمويل في ظل التضييقات الأمنية، مما يترتب عليه عدم القدرة على تفريغ الطاقات والكوادر لتعزيز التخصصية والاستمرارية.
بالمقابل، فإن آفاق العمل الفلسطيني في أوروبا كثيرة، إن أُحسِن استثمارُها والتخطيط لها، وهنا يطرح الزير أربعة أبعاد لهذا العمل أولها؛ البعد الوطني الفلسطيني إنشاء تيار وطني يتبنى السردية الفلسطينية ويدافع عن حقوقه المشروعة، ويعمل على توعية الأجيال الناشئة والتأكد من تمسكها بهويتها. كما يبرز في هذا البعد أهمية نشوء تيار ديمقراطي يمثل الوجود الفلسطيني ويطوّر من أدائه، ويطور جانبا ديمقراطيا يعتمد الانتخابات في القلب منه، كل ذلك في ظل مرجعية فلسطينية تمثل جموع الفلسطينيين وتعبّر عن طموحاتهم وتطلعاتهم.
كما يؤمن الزير بالحاجة الوطنية الإستراتيجية إلى إعادة بناء منظمة التحرير الفلسطينية كممثل وحيد للشعب الفلسطيني، على أسس ديمقراطية ومرجعية فصائلية تعتمد الانتخابات الديمقراطية في الداخل والخارج حيث أمكن، لتفرز مجلسا وطنيا فلسطينيا جديدا يعبر عن إرادة الشعب الفلسطيني الحقيقية في دحر المحتل وتحرير الأرض وعودة اللاجئين وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة.
الثاني؛ هو البعد العربي والإسلامي، وأهمية الانفتاح على كافة الجهود والخبرات وانخراطها في تنظيم الفعاليات ودعمها، وهو ما يشمل مستوى الدول والمؤسسات، فوجود علاقات رسمية مع دول ومؤسسات يفتح آفاقا أوسع وأكثر تأثيرا.
وهناك البعد الأوروبي وامتداده الدولي، ويتم فيه تنظيم زيارات وفود للمخيمات الفلسطينية، وبناء علاقات فاعلة مع سياسيين وقانونيين وحقوقيين يمكن أن يسهموا في زيادة الضغط والزخم العالمي الرامي إلى نيل الشعب الفلسطيني حقوقه.
أما البعد الأخير والأهم، فيتصل بمواجهة الاحتلال وأذرعه الممتدة في أوروبا في كافة المناحي، وهذا يتطلب الخلاصة التالية التي أنهى بها الزير حديثه، وهي أنه لا بد من | https://www.aljazeera.net/culture/2024/8/24/%d8%a7%d9%84%d8%ac%d8%ba%d8%b1%d8%a7%d9%81%d9%8a%d8%a7-%d8%a7%d9%84%d8%b5%d8%b9%d8%a8%d8%a9-%d9%88%d8%a7%d9%84%d9%85%d9%87%d9%85%d8%a9-%d8%a7%d9%84%d9%85%d8%b3%d8%aa%d8%ad%d9%8a%d9%84%d8%a9 | 2024-08-23T22:50:07 | 2024-10-15T02:15:28 | أبعاد |
|
44 | أشهر قصص التجسس الإسرائيلية على العرب وأميركا | لأن إسرائيل تشكّلت باحتلال أرض عربية وفي واقع سياسي وديمغرافي مخالف ومعادٍ لها في التوجهات والأفكار واللغة والدين والعرق، فإنها صنعت لنفسها شبكات واسعة من الجواسيس وأطلقتهم حول العالم. | قبل أيام، صدر كتاب لرئيس الوزراء البريطاني السابق بوريس جونسون بعنوان Unleashed، وهي مذكرات يكشف فيها تفاصيل وخفايا رئاسته للحكومة البريطانية. أحد القصص اللافتة في تلك المذكرات، ما كشفه جونسون بأن فريقه الأمني عثر على معدات تنصت عندما استخدم رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو مرحاضه الشخصي في عام 2017. حدث ذلك خلال لقائهما في مكتبه القديم، حين استأذن نتنياهو للذهاب إلى الحمام الموجود داخل ملحق سري.
هذه قصة واحدة من عشرات أو مئات القصص، القديمة والحديثة التي تكشف مركزية التجسس في العقلية الأمنية والسياسية الإسرائيلية.
وثمّة وصف شهير لإسرائيل بأنها جيش له دولة، وهو تعبير يُستخدم للدلالة على مدى هيمنة الأمن والمؤسسة العسكرية على الدولة الإسرائيلية، وتأتي معهم أجهزة الاستخبارات في صنع السياسات الوطنية والأمنية والإستراتيجية في الداخل والخارج، ولهذا السبب حرصت إسرائيل منذ وقت مبكر على تفعيل الأنشطة الاستخباراتية لأفرادها وخلاياها منذ إنشائها، سواء في الدول العربية أو الأوروبية التي جاءت الهجرات اليهودية منها، فضلا عن بقية دول العالم.
ولأن إسرائيل تشكّلت في واقع سياسي وديمغرافي مخالف ومعادٍ لها في التوجهات والأفكار واللغة والدين والعرق، ويُنظر إليها على أنها مغتصبة للحقوق الفلسطينية خاصة والعربية عامة، فضلا عن دخولها في العديد من الحروب منذ إنشائها وحتى يومنا هذا؛ فإنها صنعت لنفسها شبكات واسعة من الجواسيس وأطلقتهم على المحيط العربي، ومن اللافت أنها تمكنت من اختراق أقوى وأهم حلفائها وهي الولايات المتحدة الأميركية كما سنرى.
ويأتي إيلي كوهين بصفته واحدا من أشهر وأخطر جواسيسها في ستينيات القرن العشرين على رأس القائمة، فقد وُلد كوهين في الإسكندرية عام 1924 لعائلة يهودية من أصل سوري، وخلال فترة شبابه في مصر انخرط في الأنشطة الصهيونية وانضم إلى منظمة الشباب اليهودي الصهيوني، حيث عَمل على تشجيع هجرة اليهود المصريين إلى فلسطين، كما بدأ في تلك الفترة بالتعاون مع شبكات تجسس صهيونية خصوصا مع منظمة يقودها الجاسوس جون دارلينغ، حيث قام بعدة عمليات تهدف إلى زعزعة استقرار مصر عبر استهداف المنشآت الأميركية.
وعقب حرب 1948، هاجرت عائلته إلى إسرائيل، بينما بقي إيلي في مصر مستمرا في أنشطته التي حاول فيها زعزعة الأمن، ولهذا السبب تعرض للاعتقال مرتين بسبب نشاطاته التجسسية، وبعد إطلاق سراحه عام 1956، هاجر أخيرا إلى إسرائيل عام 1957، وهناك بدأ تدريبه المكثف ليصبح جاسوسا محترفا؛ إذ تعلم اللهجة السورية وأتقن اللهجة المحلية لتوظيفها داخل البلاد، ودُرِّب على مهارات التجسس مثل استخدام الحبر السري والأجهزة اللاسلكية.
وفي عام 1961، غادر إيلي كوهين إلى الأرجنتين تحت هُوية جديدة باسم كامل أمين ثابت، وبوصفه رجل أعمال سوري. وبفضل جاذبية شخصيته وقدرته على بناء علاقات مع الجالية السورية في الأرجنتين، أصبح شخصية معروفة ومرموقة بينهم هناك، وبعد تكوين شبكة علاقات قوية قرر العودة إلى سوريا لتنفيذ مهمته التجسسية الرئيسية.
وصل كوهين إلى دمشق عام 1962، وعلى الفور شرع في بناء شبكة علاقات واسعة مع كبار المسؤولين السوريين وضباط الجيش وقيادات حزب البعث من الطبقة الأرستقراطية، وبفضل قدرته على إقناع الآخرين بصدقه، أصبح كوهين واحدا من المقربين للقيادة السورية العليا، وشارك في العديد من الاجتماعات الحساسة التي كانت تتعلق بالأمن القومي السوري، وتمكن من نقل معلومات مهمة إلى إسرائيل، بما في ذلك تفاصيل عن التحصينات العسكرية السورية في الجولان والخطط الدفاعية.
وخلال فترة عمله جاسوسا، أرسل كوهين رسائل مشفرة إلى الموساد بانتظام تحتوي على معلومات حسّاسة، مثل التحركات العسكرية السورية وصفقات الأسلحة التي أبرمتها سوريا مع الاتحاد السوفياتي، كما تمكّن كوهين من زيارة الجبهة السورية في الجولان وتصوير المواقع الدفاعية باستخدام كاميرا خفية في ساعة يده، وقد ساعدت هذه المعلومات إسرائيل لاحقا في حرب الأيام الستة عام 1967، حيث لعبت دورا مهما في تدمير الدفاعات السورية بسرعة بفضل بنك الأهداف والمعلومات المسبقة.
وبحلول عام 1965، بدأت السلطات السورية في الشك بنشاطات كوهين، وذلك بمساعدة من المخابرات السوفياتية والمخابرات المصرية التي كان لديها أرشيف وصور عن كوهين أثناء مقامه في مصر، وقد تعقّبت إشارات لاسلكية كان يرسلها كوهين إلى إسرائيل، مما أدَّى في النهاية إلى اكتشافه، وفي ينايركانون الثاني 1965، ألقَت السلطات السورية القبض عليه متلبّسا أثناء إرسال رسالة، وبعد محاكمة سريعة حُكم عليه بالإعدام شنقا، وبعد فشل عشرات المحاولات من الوساطات للإفراج عنه، نُفِّذ الحكم في ساحة المرجة بدمشق في 18 مايوأيار 1965، وعُلِّقت جثّته علنا تحذيرا وعبرة للآخرين.
يُعد إيهود باراك، رئيس الوزراء الإسرائيلي ووزير الدفاع الأسبق، واحدا من هؤلاء الساسة والعسكريين الإسرائيليين الذين شاركوا في عمليات تجسس خلف خطوط العرب، وخاصة سوريا ومصر، فقد كان قائدا لوحدة النخبة الإسرائيلية سييرت متكال، وواحدا من الشخصيات البارزة التي تركت بصمة في العمليات الاستخباراتية لإسرائيل في الستينيات والسبعينيات، ففي مذكراته بعنوان بلادي، حياتي القتال من أجل إسرائيل، البحث عن السلام، يروي باراك مغامراته الشخصية خلال تلك الفترة، بما في ذلك تسلله إلى عمق الأراضي السورية والمصرية لتنفيذ عمليات سرية تتعلق بالتنصت على اتصالات الجيشين السوري والمصري.
ووفقا لهذه المذكرات، في أغسطسآب 1963، تلقى باراك، الذي كان مُلازما شابا آنذاك، أمرا بقيادة عملية حساسة وخطيرة، كانت تقضي بتسلل فريق مكون من خمسة جنود إلى مرتفعات الجولان لزرع جهاز تنصّت على خط اتصالات سوري، ولم يكن الأمر بسيطا؛ لأن الفريق واجه ظروفا معقّدة في رحلته إلى الهدف. وبحلول الظلام، عبر باراك وفريقه الحدود إلى الشمال حاملين معهم رشاشات عوزي وقنابل يدوية، وقد مروا بجوار ثلاثة جنود سوريين نائمين دون أن يكتشفوا أمرهم، بحسب روايته.
تضمنت المهمة مجموعة من التحديات، لكنهم تمكنوا تجاوز هذه الصعوبات وربط جهاز التنصت على رأس عمود الهاتف بنجاح، وعندما تلقوا أمر العودة، قام باراك بإطفاء جهاز الاتصال لتجنب أي رصد غير متوقع، ثم عادوا إلى إسرائيل بعد ثلاث ساعات من الموعد المحدد.
وعقب نجاحه هذا، نفّذ باراك عمليات أخرى في الجولان، منها عمليات تنصت مشابهة، وقد لعبت المعلومات التي جُمعت من هذه الأجهزة دورا كبيرا خلال حرب عام 1967، حيث ساعدت القوات الإسرائيلية في استيلائها على مرتفعات الجولان في غضون 36 ساعة فقط.
ولم تكن الجبهة السورية هي التحدي الرئيسي لإسرائيل في تلك الفترة، فقد كان الجيش المصري هو الأكبر في العالم العربي، وكان يسعى لتوحيد العالم العربي ضد إسرائيل تحت قيادة عبد الناصر، وفي تلك الظروف كان التنصت على الجيش المصري في عمق سيناء أمرا ضروريا، ولكن الأمر تطلب أجهزة أكبر وأكثر تطورا، ولم يعد بإمكان إسرائيل وقتذاك الاعتماد على أجهزة يمكن حملها على ظهور جنود الكوماندوز، بل كان هناك حاجة إلى تكنولوجيا أكثر تقدما.
وفي تلك المرحلة كانت القوات الجوية الإسرائيلية قد تسلمت أول مروحيات نقل كبيرة من طراز سيكورسكي S-58، مما فتح بابا جديدا لتنفيذ عمليات أكثر تعقيدا. قاد باراك العملية الأولى التي استُخدمت فيها هذه المروحيات، وكانت مهمة حساسة للغاية بحسب روايته، ورغم أن معظم تفاصيل هذه العملية ظلت سرية، فإن باراك يشير إلى أنها كانت تعتمد على تشاور مع جيولوجيين لتحديد أفضل المواقع لإخفاء أجهزة التنصت في عمق سيناء.
في إحدى تلك العمليات، شارك باراك مع فريقه في توصيل جهاز تنصت بخط الاتصالات المصري في أوائل عام 1964. ورغم الضباب الكثيف الذي غطى الصحراء، وكاد أن يتسبب في تحطم المروحية، نجح الفريق في تنفيذ المهمة بنجاح، ولم تكن هذه المهمة الأولى أو الأخيرة التي قادها باراك، لكنها كانت بداية لعمليات أخرى مشابهة قدمت لإسرائيل معلومات استخباراتية حاسمة عن تحركات الجيش المصري في سيناء.
وفي أوائل السبعينيات، جاءت عملية جديدة بقيادة باراك لتركيب جهاز تنصت آخر، ولكن هذه المرة فوق قناة السويس انطلاقا من سيناء التي كانت إسرائيل قد احتلّتها سنة 1967، وبحسب باراك كانت العملية معقدة، حيث شملت هجمات على منشآت مصرية للتغطية على المهمة الرئيسية، كما هو الحال في مهام سابقة، وقد اكتشف الفريق أن تركيب الجهاز كان أصعب بكثير من المتوقع وكاد أن يلغي المهمة.
لكن توجيهات القيادة مكّنت المجموعة من إكمال المهمة بنجاح قبل شروق الشمس، وقد أتاحت هذه العملية لإسرائيل لأول مرة منذ احتلالها سيناء فرصة الحصول على اتصالات مباشرة من داخل الأراضي المصرية، مما ساعد في صياغة الإستراتيجيات العسكرية الإسرائيلية في تلك الفترة.
الأجهزة التي رُكِّبت خلال هذه العمليات أُطلق عليها اسم المصادر الخاصة، وأصبحت جزءا أساسيا من أدوات جمع المعلومات لدى إسرائيل، وعشية حرب أكتوبرتشرين الأول عام 1973، فُعِّلت هذه الأجهزة لفترة قصيرة، لكنها أثبتت أهميتها في توفير معلومات استخباراتية حيوية، ومع ذلك يرى باراك أن استخدامها بشكل أوسع كان من الممكن أن يمنح إسرائيل إنذارا مسبقا عن الهجوم المصري السوري المشترك الذي وقع في بداية الحرب.
يشير إيهود باراك إلى أن هذه العمليات رغم كونها محفوفة بالمخاطر، فإنها كانت ضرورية لضمان تفوق إسرائيل الاستخباراتي في تلك الفترة؛ لأن النجاحات التي تحقَّقت في الجبهتين السورية والمصرية لم تكن نتيجة العمليات العسكرية المباشرة فقط، بل كانت تعتمد بشكل كبير على المعلومات التي جُمعت من هذه الأجهزة السرية.
لاحقا، وبحسب إيهود باراك، استمرت وحدة سييرت متكال في تنفيذ عمليات مشابهة، وبفضل هذه الإنجازات استطاعت إسرائيل بناء شبكة استخباراتية ساعدتها على تقويض فاعلية جيرانها وتعزيز سيطرتها وتثبيت احتلال الأرض. وكان كل ذلك جزءا من إستراتيجية طويلة الأمد تهدف إلى جمع أكبر قدر ممكن من المعلومات عن العرب، وخاصة مصر وسوريا. ورغم تقنيات التجسس تلك والجهود الاستخبارية، فإن الدولة المصرية استطاعت في ذلك الوقت تضليل الجيش الإسرائيلي وضربه في مقتل.
واحدة من أشهر عمليات التجسس الإسرائيلية على الحليفة الكبرى الولايات المتحدة الأميركية، وهي القضية التي أثارها وقام فيها بدور البطولة جوناثان جاي بولارد، وهو الاسم الذي تردّد بقوة في تاريخ الجاسوسية بين الولايات المتحدة وإسرائيل، فقد وُلد جوناثان بولارد في 7 أغسطسآب 1954 في تكساس، وعمل محللَ استخباراتٍ مدنيا في البحرية الأميركية، لكنه استغل منصبه للتجسس لصالح إسرائيل، ما تسبب في أزمة كبرى بين الحليفين.
نشأ بولارد في عائلة أكاديمية؛ إذ كان والده أستاذا في جامعة نوتردام، أما هو فقد تخرَّجَ في جامعة ستانفورد عام 1976 بدرجة في العلاقات الدولية، ورغم محاولاته الانضمام إلى وكالة الاستخبارات المركزية CIA، فقد رُفض بعد اكتشاف تناوله للمخدرات، واتجاهه لرواية قصص خيالية. لاحقا، حصل بولارد على وظيفة في البحرية الأميركية بوصفه محللا استخباراتيا، وهو الأمر الذي أتاح له الوصول إلى معلومات حساسة، ثم قاده في النهاية إلى الاتصال بالسفارة الإسرائيلية والتجسس لصالحها، حيث اتصل بولارد بالسفارة الإسرائيلية وقدم خدماته عبر الكولونيل أفيم سيلا الذي كان يدرس في الولايات المتحدة حينئذ، وقد عمل تحت إشراف وحدة تُسمى لاكام LAKAM، وهي وحدة استخباراتية داخل وزارة الدفاع الإسرائيلية.
وفي عام تجنيده نفسه عام 1984، قام بولارد ببيع أسرار عسكرية إلى إسرائيل من خلال تزويدها بصور فضائية وأسرار مهمة حول الجيوش العربية، وقد استخدمت إسرائيل بعض هذه المعلومات في عمليات عسكرية، مثل قصف مقر منظمة التحرير الفلسطينية في تونس عام 1985. وبمرور الوقت، بدأت الشكوك تحوم حول بولارد في مكان عمله، خاصة بعد ملاحظات عن سلوكه غير المعتاد، ففي أكتوبرتشرين الأول 1985، رُصِد بولارد يحمل حزمة من الملفات السرية إلى سيارة زوجته، ما أدى إلى وضعه تحت المراقبة، وفي 21 نوفمبرتشرين الثاني 1985، قُبِض عليه خارج السفارة الإسرائيلية بعد محاولته طلب اللجوء، كما أُلقي القبضُ على زوجته آن هندرسون أيضا.
بعد اعتقاله، تعاون بولارد مع السلطات الأميركية واعترف بجريمته كاملة، ورغم هذا التعاون فقد حُكم عليه عام 1987 بالسجن مدى الحياة، بينما حُكم على زوجته بالسجن لمدة خمس سنوات. وخلال المحاكمة زعم بولارد أن دافعه الأساسي كان حماية إسرائيل من أعدائها، بيد أن الوثائق أشارت إلى أنه كان يتلقى مبالغ مالية من الإسرائيليين.
كانت هذه القضية بمنزلة فضيحة كبيرة في مسار العلاقات الأميركية الإسرائيلية، حيث كانت إسرائيل قد نفت في البداية أي تورط لها، لكنها اضطرت لاحقا للاعتراف بعلاقتها ببولارد، وأعلنت أنشطة التجسس بوصفها تصرفا فرديا، وقد اعتذر رئيس الوزراء آنذاك شيمون بيريز عن القضية، وأكد أهمية العلاقات بين البلدين، وتفكيك الخلية الاستخباراتية التي كان يعمل في إطارها بولارد داخل الولايات المتحدة.
أمضى جوناثان بولارد ما يقرب من 30 عاما في السجن، وبعد الإفراج المشروط عنه في نوفمبرتشرين الثاني 2015، مُنع من مغادرة الولايات المتحدة حتى عام 2020. وطوال هذه العقود الثلاثة التي أمضاها بولارد في محبسه، استمرت إسرائيل في محاولاتها لاستعادته أو تخفيف عقوبته، ولكن الأميركان أصروا على إمضائه ثلاثين عاما كاملة.
من أهم المعلومات التي سربها بولارد ما يتعلق بمنظومات الأسلحة الكيميائية في دول مثل العراق وسوريا، بالإضافة إلى صور الأقمار الصناعية التي ساعدت في التخطيط لعمليات عسكرية، وقد كانت هذه المعلومات ذات أهمية كبيرة لإسرائيل في ظل الظروف الأمنية المتوترة في الشرق الأوسط في ذلك الوقت، ورغم الإفراج عن بولارد، فإن قصته تبقى واحدة من أبرز حلقات التجسس بين الولايات المتحدة وإسرائيل.
الأمر اللافت أنه في مايوأيار 2014، نشرت صحيفة نيوزويك تقريرا بعنوان إسرائيل لن تتوقف عن التجسس على الولايات المتحدة يفيد بأن إسرائيل كانت تشن أنشطة تجسسية واسعة النطاق في الولايات المتحدة، ومع ذلك، تُكتِّم على هذا الأمر بسبب الضغوط السياسية من اللوبي المؤيد لإسرائيل، ووفقا للتقرير بدأت الأنشطة التجسسية الإسرائيلية في التسعينيات واستمرت بعد تعهد إسرائيل بالتوقف عن التجسس عقب فضيحة بولارد، ورغم التحذيرات المستمرة من مكتب التحقيقات الفيدرالي FBI، استمرت إسرائيل في أنشطتها دون عقوبات حقيقية بسبب العلاقات القوية والضغوط السياسية.
وقد أشار التقرير إلى أن الأنشطة التجسسية الإسرائيلية كانت تستهدف الحصول على معلومات حساسة في العديد من المجالات، بما في ذلك الصناعات الدفاعية والمؤتمرات العلمية، وقد استُخدمت وسائل مختلفة لجذب المسؤولين الأميركيين، مثل دعوات لزيارة إسرائيل، وتقديم الهدايا والامتيازات لهم، بما في ذلك المخدرات والنساء جزءا من جهود التجسس. ولفتت المقالة إلى أن المسؤولين الأميركيين كانوا على دراية تامة بهذا النشاط، لكن كان هناك تردد في اتخاذ إجراءات صارمة.
وقد أثار التقريرُ جدلا كبيرا، حيث واجه انتقادات من الداعمين لإسرائيل الذين اتهموا التقرير بمعاداة السامية. ورغم ذلك أكد مسؤولون سابقون في الاستخبارات الأميركية أن هذه الأنشطة التجسسية كانت حقيقية وتُشكِّل تهديدا كبيرا، مشيرين إلى أنه لو كانت دولة أخرى غير إسرائيل متورطة في مثل هذه الأنشطة، لكانت ردود الفعل الأميركية أشد.
أخيرا، أشار التقرير إلى أن هذه الأنشطة أثرت على مساعي إسرائيل للانضمام إلى برنامج الإعفاء من التأشيرات الأميركي، حيث أظهرت الأدلة التي جمعتها الوكالات الأمنية الأميركية أن الأنشطة التجسسية الإسرائيلية كانت عائقا كبيرا أمام تحقيق هذا الهدف.
تلك هي لمحة عن بعض العمليات التجسسية التي قامت بها إسرائيل على مصر وسوريا في ستينيات القرن العشرين، وعلى الحليفة الكبرى أميركا في ثمانينيات وتسعينيات القرن العشرين، وهي تكشف لنا أنها محور أساسي من محاور قيام هذه الدولة واستمرارها في الشرق الأوسط، وفي العالم أجمع، وكما نعلم، فإن ما خفي أعظم. | https://www.aljazeera.net/history/2024/10/12/%d9%87%d8%b0%d9%87-%d8%a3%d8%b4%d9%87%d8%b1-%d9%82%d8%b5%d8%b5-%d8%a7%d9%84%d8%aa%d8%ac%d8%b3%d8%b3-%d8%a7%d9%84%d8%a5%d8%b3%d8%b1%d8%a7%d8%a6%d9%8a%d9%84%d9%8a%d8%a9-%d8%b9%d9%84%d9%89 | 2024-10-12T16:28:02 | 2024-10-15T00:09:12 | أبعاد |
|
45 | نظرية الملك المجنون وسيناريو الحرب النووية العالمية القادمة | في عام 1517، جادل نيكولو مكيافيلي بأن “التظاهر بالجنون قد يكون في بعض الأحيان أمرا حكيما جدا”. فهل ينطبق ذات الأمر على رئيس كوريا الشمالية كيم جونغ أونغ؟ | يبدأ الأمر كله بهجوم مباغت لم يتوقعه أحد قنبلة نووية حرارية بقوة 1 ميغاطن فقط تستهدف مبنى البنتاغون الأميركي في قلب العاصمة واشنطن، مُخلِّفة دمارا هائلا غير مسبوق، ينبعث على إثر ذلك ضوء شديد الحِدَّة للإشعاع النووي قادر على إصابة كل مَن ينظر إليه بالعمى، وحرارة أعلى من تلك المنبعثة عن مركز الشمس تخلق كرة نارية ضخمة تتوسع بسرعة شديدة لتحصد كل ما يقف في طريقها، تذيب الأسطح الخرسانية والشوارع والأحجار وحتى المعادن، فيما يتحول في لمح البصر إلى بقايا كربون محترق. هكذا تصف الصحفية الأميركية آني جاكوبسن اللحظات الأولى للحرب النووية في كتابها الجديد سيناريو حرب نووية Nuclear war A scenario الصادر في شهر مارسآذار الماضي 2024.
وفقا لجاكوبسن، تتوالى الضربات النووية لتقود العالم إلى سيناريو هرمجدون، نسبة إلى إحدى نبوءات نهاية العالم، حيث تصبح هذه هي المعركة الأخيرة التي تفنى على إثرها الحضارة، ويرتد البشر المتبقون إلى حياة بدائية يعيشون فيها على الصيد والالتقاط. لكن المثير للانتباه في هذا السيناريو هو أن الضربة النووية الأولى لم تكن قادمة من أعداء الولايات المتحدة ومنافسيها التقليديين مثل روسيا أو الصين، ولكنها انطلقت من كوريا الشمالية التي أطلقت فعليا شرارة البداية لنهاية العالم.
في عالم يسوده الجنون، تُصبح الأفعال غير المُتوقَّعة هي القاعدة، وهذا يُضعف فاعلية سياسات الردع التقليدي المُتَّبعة دوليا ويفتح الباب أمام كوارث نووية.
في عالم اليوم، الذي يزداد فيه التوتر والاضطراب، تُعَدُّ فكرة جنون العالم أكثر وضوحا مما كانت عليه في أي وقت مضى. ففي كتابها التوحّش عودة البربرية، ترى الفيلسوفة الفرنسية تيريز ديلباش أن القرن العشرين كان قرنا مليئا بالاضطرابات غير المسبوقة والانعكاسات المفاجئة، وأن هذه الاضطرابات أثَّرت على أرواحنا وعقولنا، وخلقت فجوة متنامية بين الإنسان والتاريخ، مما أدّى إلى أزمة وجودية تُهدِّد العلاقة بين الوعي البشري ومفهوم الزمان.
وتعزو ديلباش هذا التشويش إلى عدة أسباب، منها العنف المتزايد، وتطور التكنولوجيا، وانفجار المعلومات، والأشكال الجديدة للعنف. وتشير إلى أن هذه الأحداث المفاجئة قد تكون بمنزلة تذكير بالمآسي التاريخية التي نودّ نسيانها، مثل الحربين العالميتين، والمحرقة، ومعسكرات الموت السوفياتية، وحقول القتل الكمبودية. وتؤكد أن مزيج العنف والفُجائية وعدم الاستقرار والفوضى يُؤثّر على أرواحنا وعقولنا، ويؤدي إلى ارتباك عقلي وأخلاقي، وفوضى في الأفكار والسلوك قد تكون أسوأ من فوضى الأحداث نفسها.
تخلق القيادة غير العقلانية، مثل التي قد تتّسم بها تصرفات كيم جونغ أون، حالة من الغموض التي تستثير الشك والريبة لدى الخصوم، مما يزيد من احتماليات التصعيد إلى مستوى النزاع النووي. تتناول ديلباش السيناريو الكوري الشمالي بوصفه مثالا واضحا على ذلك، حيث يلعب كيم جونغ أون بورقة الرجل المجنون ليُحقّق مكاسب سياسية وعسكرية، وذلك عبر بثّ الخوف والرهبة في نفوس خصومه. وهكذا تخلق الأفعال غير المتوقعة والمخاطرات العالية في السياسة الدولية بيئة خطرة يمكن أن يؤدي سوء التقدير فيها إلى كوارث لا يمكن تداركها.
في عام 1517، جادل نيكولو مكيافيلي في خطابات على ليفي بأن التظاهر بالجنون قد يكون في بعض الأحيان أمرا حكيما جدا. استخدم مكيافيلي هذا المفهوم للإشارة إلى أن القادة يمكن أن يستغلوا هذا النهج لإرباك خصومهم وتحقيق مكاسب إستراتيجية. يتماشى هذا المفهوم مع ما يُعرف اليوم بـنظرية الرجل المجنون، التي استخدمها بعض القادة لتصوير أنفسهم بوصفهم أفرادا غير مستقرين عقليا من أجل تحقيق أهداف سياسية معينة.
إحدى الأوراق البحثية التي نُشرت عام 2019 في المجلة البريطانية للعلوم السياسية والصادرة عن منشورات جامعة كامبردج، بعنوان مجنون كالثعلب؟ هل القادة الذين لديهم سُمعة بالجنون أكثر نجاحا في الإكراه الدولي؟، تناولت الورقة مدى فعالية القادة الذين يعتمدون على سُمعة الجنون في تحقيق نجاحات في الضغوط الدولية وإكراه الدول المنافسة على الرضوخ. وقد وجدت الدراسة أنّ الجنون المُتصوَّر قد يكون له تأثير إيجابي على نجاح الزعامة والقيادة بهذا الأسلوب في حالات معينة، لكن له آثار سلبية على المدى الطويل خاصة عندما يفشل في إقناع الخصوم بالتراجع.
في سياق كيم جونغ أون، يظهر أن الجنون المُتعمَّد قد يُحقّق مكاسب في المدى القصير من خلال تخويف الخصوم وإثارة الرعب في نفوسهم، ولكن هذا النهج محفوف بالمخاطر ويُمكن أن يُؤدي إلى زيادة التصعيد. هذا تحديدا ما يربط مفهوم مكيافيلي بالواقع المعاصر، حيث يُمكن أن يُصبح الجنون أداة إستراتيجية في يد القادة، ولكنّه سلاح ذو حدين قد يؤدي في النهاية إلى تدمير شامل.
في كتابه إستراتيجية الصراع The strategy of conflict الصادر عام 1960، أدخل توماس شيلينغ، الاقتصادي الأميركي الحائز على جائزة نوبل، نظرية اللعبة لأول مرة إلى عالم العلاقات الدولية والسياسية، وذلك إبان ذروة سباق التسلح النووي أواخر خمسينيات القرن الماضي. حتى ذلك الحين، كانت النظرية المعنية بتحليل عمليات المنافسة وتضارب المصالح وتحليل سلوك مختلف اللاعبين حكرا على عالم الاقتصاد منذ وُضعت أسسها على يد جون فون نيومان وأوسكار مورغان شتيرن قبل نحو عقدين، قبل أن يفترض شيلينغ أن إستراتيجيات النزاع بين الأطراف المتحاربة لا تختلف كثيرا عن إستراتيجيات المساومة والمنافسة في الأسواق الاقتصادية.
قرر شيلينغ أن يطبق النظرية على مسألة الردع النووي على وجه التحديد، مشيرا إلى أن التهديد باستخدام السلاح النووي بحاجة إلى مصداقية من أجل التأثير وتحقيق الردع، وهو ما يدفع القوى النووية لتحديث ترساناتها باستمرار للوصول إلى نوع معين من التوازن ضد بعضها بعضا، ولكي يبقى هذا التوازن في إطار الردع، فإنه يحتاج إلى وجود مصلحة مشتركة بين الأطراف المتنازعة، تردعها عن اتخاذ قرارات غير عقلانية تقود إلى التدمير العشوائي. وفي غياب هذه المصلحة تتخذ التعزيزات النووية والتهديدات طابعا انتقاميا وتزيد من فرصة شن هجمات أولية ترقى إلى مستوى الدمار الشامل.
يُعرف ذلك عند شيلينغ بـالسلوك غير العقلاني، وهو سلوك مُرتبك ومُدمِّر لأحد طرفَيْ النزاع ناجم في المقام الأول عن سوء تقديره لِنِيَّات الطرف الآخر، أو لامتلاكه نِيَّات تدميرية أصلية نتيجة غياب المصلحة المشتركة، وهو ما يدفع هذا الطرف غير العقلاني للتصرف باستبقاية لتعزيز فرص فوزه في المواجهة، وهو ما يُطلق عليه عادة منطق الملك المجنون، ويعتقد كثير من الباحثين اليوم أن شيلينغ كان أول مَن أشار إليه، وإنْ لم يذكره بالاصطلاح ذاته المتداول اليوم.
في كتابها السابق الإشارة إليه، حاولت آني جاكوبسن تطبيق منطق الملك المجنون على زعيم كوريا الشمالية، الذي ينوي -وفقا لهذا السيناريو الافتراضي- إرجاع الولايات المتحدة الأميركية إلى عصر ما قبل اختراع الكهرباء، مدفوعا برغبة انتقامية مضادة للهيمنة الأميركية على العالم، خاصة أن العداء بين كوريا الشمالية والولايات المتحدة يعود إلى فترة الحرب الكورية في خمسينيات القرن الماضي، عندما تدخلت الولايات المتحدة لدعم الكوريين الجنوبيين ضد الغزو الشمالي، في حرب كادت أن تتحول إلى صراع عالمي وأودت بحياة زهاء خمسة ملايين شخص.
ومنذ ذلك الحين، ترى كوريا الشمالية أن تحالف جارتها الجنوبية مع الولايات المتحدة، القوة العالمية المسلحة نوويا، يُمثِّل تهديدا وجوديا، ما دفعها لامتلاك ترسانة نووية تعتبرها اليوم الضمانة الوحيدة للبقاء في مواجهة أي عدوان أميركي.
غير أن منطق الملك المجنون لا يقتصر على كوريا الشمالية فقط التي تصِمها الصحافة الغربية باستمرار بأنها دولة غير عقلانية تقودها سلالة من القادة المهووسين. في الحقيقة، يمكن تطبيق هذا المنطق -في ظروف بعينها- على جميع قادة الدول التسع المسلحة النووية بلا استثناء تقريبا.
على سبيل المثال، منذ فبرايرشباط 2022، شككت العديد من التقارير الغربية في السلامة العقلية للرئيس الروسي فلاديمير بوتين ضمن الحملة الغربية المضادة للحرب الروسية في أوكرانيا، مستشهدة بالتهديدات الروسية عالية المستوى باستخدام السلاح النووي واستعراض الصواريخ القادرة على حمل رؤوس نووية، في المقابل جادلت ورقة بحثية نُشرت في المجلة الإستونية للدراسات العسكرية أن الرئيس بوتين ربما يستفيد عن عمد من الأفضلية التي يوفرها منطق الملك المجنون في نظرية الألعاب، وهو أمر سبق أن أشار إليه شيلينغ في كتابه، مفترضا أن الجنون المتصور يمكن أن يعزز المصداقية في المساومات القسرية، مما يعني أن أي طرف يمكنه استخدام منطق الملك المجنون جزءا من إستراتيجيته في الصراع بشكل واعٍ وعقلاني للتأثير في خصومه بفاعلية.
الأمر ذاته ينطبق للمفارقة على الولايات المتحدة نفسها، فقد عرضت قناة بي بي إس PBS الأميركية عام 2023 فيلما وثائقيا بعنوان الحراك والمجنون The Movement and the Madman، يتناول فترة أواخر الستينيات من القرن الماضي إبان ذروة الحرب بين فيتنام الجنوبية وحليفتها الولايات المتحدة وفيتنام الشمالية وحليفها الاتحاد السوفياتي.
يكشف الفيلم كيف تلاعب الرئيس الأميركي ريتشارد نيكسون بخصومه عن طريق تطبيق إستراتيجية الملك المجنون؛ إذ اتفق مع مستشار الأمن القومي آنذاك هنري كيسنجر على تسريب معلومات تزعم أنه شخص مجنون وبإمكانه الإقدام على أي فعل، بالتزامن مع توجيه تهديدات نووية مبطنة بهدف إخافة خصوم الولايات المتحدة وإنهاء الحرب بأفضل الشروط الممكنة لها في أقصر مدة زمنية. وفي السياق نفسه، لا يمكن قطعا تجاهل رئيس الولايات المتحدة السابق والمرشح الرئاسي الحالي دونالد ترامب، ففي عام 2016 أشار العديد من المحللين في الصحف الأميركية مثل واشنطن بوست وبوسطن غلوب إلى استفادته من إستراتيجية الملك المجنون في إدارة السياسة الخارجية للبلاد.
في عام 2018، تبادل زعيم كوريا الشمالية كيم جونغ أون والرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب التصريحات في مبارزة كلامية حول الأزرار النووية المدمرة التي يمتلكها كلٌّ منهما وسهولة استخدامها، حيث أعلن جونغ أون بمناسبة رأس السنة الميلادية أن بلاده أصبحت قوة نووية لا يُستهان بها، قائلا الزر النووي على مكتبي، والولايات المتحدة في مرمى أسلحتنا النووية، وهو ما رد عليه ترامب بتهديد مماثل قائلا إن الزر النووي الذي يمتلكه أكبر من ذلك الذي يحوزه نظيره في بيونغ يانغ.
بيد أن تهديدات كوريا الشمالية لم تتوقف عند هذا الحد، ففي مطلع العام الحالي 2024 هدد الزعيم الكوري بتدمير كلٍّ من كوريا الجنوبية والولايات المتحدة الأميركية في حالة التصعيد العسكري، جاء ذلك بعدما كثَّفت الولايات المتحدة تدريباتها العسكرية مع الجارة الجنوبية ونشرت أسلحة إستراتيجية من غواصات وحاملات طائرات قادرة على حمل أسلحة نووية، مما زاد حِدَّة التوتر على الصعيد الدولي.
ورغم أن بيونغ يانغ تمتلك واحدة من أصغر الترسانات لدى الدول المسلحة النووية بواقع 20-60 رأسا نوويا، وهي تبدو هزيلة جدا إذا ما قورنت بنظيرتها الأميركية أو الروسية، تحذر مراكز دراسات عالمية، ومنها مثلا المعهد الدولي للإستراتيجيات السياسية والاقتصادية في روسيا، من أن حربا نووية قد تبدأ من كوريا الشمالية نتيجة تعرضها للاستفزاز من الولايات المتحدة.
يؤكد ذلك مساعي بيونغ يانغ لتطوير منظومة الصواريخ الباليستية الخاصة بها، وهي الخيار المفضل إذا ما أراد الكوريون شن حرب نووية ضد الولايات المتحدة أو أحد حلفائها. كان صاروخ هواسونغ-14، الذي كُشف النقاب عنه عام 2017، هو أول صاروخ باليستي كوري بإمكانه ضرب أهداف غرب الولايات المتحدة الأميركية، بمدى وصل إلى 10 آلاف كيلومتر وحمولة 500 كيلوغرام من المواد المتفجرة.
في العام نفسه، أدخلت بيانغ يانغ إلى الخدمة صواريخ هواسونغ-15 بمدى أكبر بلغ 13 ألف كيلومتر. لكن العام 2020 كان نقطة تحول رئيسية، حيث كشفت كوريا الشمالية لأول مرة عن صاروخ يُعَدُّ الأكثر فتكا بين ترسانتها النووية وهو هواسونغ-17 بمدى يصل إلى 15 ألف كيلومتر، مما يتيح له استهداف الحواضر الرئيسية في الولايات المتحدة.
وفي مقابل هذا التطور النووي والصاروخي، تعاني كوريا الشمالية تأخرا لا يمكن تجاهله على مستوى التسلح التقليدي مقارنة بخصومها، وهو ما يجعل الحرب النووية بالنسبة إلى بيونغ يونغ خيارا أكثر من محتمل، بل وربما ضمانة وحيدة للبقاء. هذا وتزيد الأجواء العالمية الملبدة بالغيوم اليوم من معدلات التهديدات، وتزيد من احتمالية تقدير سوء نِيَّات الخصوم لدى القادة الكوريين الشماليين، وهو ما يرفع من احتمالات شن هجمات نووية انتقامية وفق منطق الملك المجنون، خاصة مع تغيير البلاد عقيدتها النووية الرسمية من الردع إلى تبرير الاستخدام الأول للأسلحة النووية، حيث يتيح قانون السياسات النووية الصادر في سبتمبرأيلول 2022 شن هجمات وقائية تقليدية أو نووية في حالات الأزمات والحرب مع قوى معادية.
تشير آني جاكوبسن إلى أنه منذ منتصف خمسينيات القرن الماضي، أنفقت الحكومة الأميركية تريليونات الدولارات من أجل التحضير للحرب النووية القادمة، وفي الوقت ذاته عملت على تحسين البروتوكولات التي تهدف إلى إبقاء الحكومة الأميركية في عملها حتى بعد أن تمحو المحرقة النووية عشرات الملايين من الأميركيين. لكن الخطط المعدة مسبقا لأجل بقاء الحكومات بعد الغزو لن تكون قادرة على إنقاذ البشر من مصيرهم المحتوم في عالم ما بعد الحرب، حيث يحسد الأحياء الأموات حقيقة لا مجازا.
قسَّمت الصحفية الأميركية سيناريو الحرب النووية إلى ثلاثة أجزاء، مدة كلٍّ منها 24 دقيقة، حيث تبدأ الحرب وتنتهي في غضون 72 دقيقة فقط، مُخلِّفة وراءها 5 مليارات قتيل، وهو ما يعادل 60 تقريبا من سكان العالم. وكان علماء من جامعة روتجرز الأميركية قد أصدروا تقديرات مشابهة عام 2022، وذلك بعد دراستهم لستة سيناريوهات محتملة للصراع النووي، مشيرين إلى أن حربا نووية حديثة من شأنها أن تقضي على أكثر من نصف البشرية، ومَن ينجو من الانفجارات النووية سيواجه الموت نتيجة المجاعة والتسمم الإشعاعي.
خلال الدقائق الـ24 الأولى، يكون الشعور المسيطر هو الذهول والرعدة. تلتقط الأقمار الصناعية الأميركية خلال ثوانٍ صاروخ هواسونغ-17 بحمولة ميغاطن من المواد المتفجرة. ساعتها، يكون أمام رئيس الولايات المتحدة ست دقائق فقط ليقرر أي ذراع سيستخدمه من الثالوث النووي الأميركي الصواريخ الباليستية البرية البحرية والقاذفات النووية الإستراتيجية لتوجيه ضربة نووية قاصمة لبيونغ يانغ، وبالفعل يقع اختياره على صواريخ مينتمان 3 الباليستية العابرة للقارات التي تمتاز بمدى يبلغ 13 ألف كيلومتر وبإمكانها حمل ثلاثة رؤوس نووية بحمولة تصل إلى 1.5 ميغاطن، مضيفا إليها مجموعة صواريخ أخرى من طراز ترايدنت 2 دي 5 التي تُطلَق من الغواصات ويصل مداها إلى 12 ألف كيلومتر، لكن الحرب النووية لن تتوقف عند تبادل إطلاق الصواريخ المحملة النووية بين واشنطن وبيونغ يانغ.
فخلال هذه الرحلة الصاروخية، سيتخذ أكثر من 50 صاروخا باليستيا عابرا للقارات مسارا يمر من فوق روسيا مباشرة، ومع انخفاض دقة التمييز لدى الأقمار الصناعية الروسية، قد تظن موسكو خطأ أنها تتعرض للهجوم من قِبَل الولايات المتحدة، ما سيرفع الحرب النووية إلى مستوى جديد، حيث ستضطر روسيا في الـ24 دقيقة التالية إلى توجيه ضربة نووية قادرة على تدمير الولايات المتحدة في غضون دقائق، وذلك باستخدام منظومة صواريخ سارمات الباليستية العابرة للقارات، المعروفة بلقب منظومة الشيطان، نظرا لإمكاناتها الفتاكة، مع مدى يبلغ 18 ألف كيلومتر، وحمولة تصل إلى 50 ميغاطن من المواد المتفجرة ما يعادل تقريبا ثلاثة آلاف ضِعْف القدرة التدميرية للقنبلة النووية التي أُلقيت فوق هيروشيما اليابانية. وخلال المرحلة الأخيرة من الحرب، سوف تكون هناك 3 دول مسلحة نوويا تتبادل إطلاق القنابل برا وبحرا، ما سيُنهي العالم الذي نعرفه خلال 72 دقيقة فقط.
للمفارقة، فإن هذه النتيجة المأساوية ليست مفاجئة أو جديدة تماما. ففي عام 1983، وبينما وصل سباق التسلح النووي ذروته، حيث تجاوز عدد الرؤوس النووية في الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي مجتمعين 60 ألف رأس، طلب الرئيس الأميركي رونالد ريغان من توماس شيلينغ تصميم لعبة محاكاة عسكرية عُرفت باسم براود بروفيت Proud Prophet، بهدف استكشاف السيناريوهات المختلفة والتعرف على النتائج والتأثيرات المحتملة للحرب النووية.
على مدار أسبوعين، اجتمع أكثر من 200 شخص في الكلية الحربية الوطنية في واشنطن للعب اللعبة سِرًّا لمنع التسريبات، وخلال هذه الفترة استكشفوا جميع الخطط المتاحة من الضربات النووية التكتيكية الخاصة بإستراتيجيات الحرب المحدودة، وصولا إلى سيناريوهات الحرب الشاملة. وفي كل مرة كانت اللعبة تنتهي بطريقة واحدة تدمير كامل للعالم في سيناريو يشبه هرمجدون.
هذا ما دفع أغلب الخبراء العسكريين إلى التصريح بأنه لا يوجد شيء اسمه حرب نووية صغيرة، فبمجرد أن يشتعل فتيل الحرب بضربة واحدة ستتبعها ضربات أكبر تؤدي إلى دمار شامل في غضون ساعات قليلة. في ضوء ذلك، أصدر الرئيس الأميركي رونالد ريغان وزعيم الاتحاد السوفياتي الأخير ميخائيل غورباتشوف بيانا مشتركا عام 1985 أكدا فيه أنه لا يمكن الفوز في حرب نووية، ولذلك يجب ألا تُخاض مثل هذه الحرب أبدا، وهي رسالة يبدو أنها تحتاج إلى مزيد من التأكيد في عالم اليوم المُلبَّد بالجنون. | https://www.aljazeera.net/politics/2024/9/8/%d9%86%d8%b8%d8%b1%d9%8a%d8%a9-%d8%a7%d9%84%d9%85%d9%84%d9%83-%d8%a7%d9%84%d9%85%d8%ac%d9%86%d9%88%d9%86-%d9%88%d8%b3%d9%8a%d9%86%d8%a7%d8%b1%d9%8a%d9%88-%d8%a7%d9%84%d8%ad%d8%b1%d8%a8 | 2024-09-08T04:32:49 | 2024-10-15T02:00:03 | أبعاد |
|
46 | أطفالي يدمنون مواقع التواصل.. ماذا أفعل؟ علماء النفس يجيبونك | يؤكد عالم النفس جوناثان هايدت أن الجيل “زد” وهم مواليد 1996 وما بعده، يُعانون بدرجة كبيرة من القلق والاكتئاب واحتمال إيذاء النفس والانتحار، بمستويات أعلى من أي جيل آخر، فكيف نتعامل مع هذا الواقع؟ | ماذا ستفعل إذا أخبرك طفلك الأول، الذي بلغ للتوّ التاسعة من عمره، أن هناك مليارديرًا، لم تقابله أنت من قبل، قد اختار طفلك للانضمام إلى أول مستوطنة بشرية دائمة على كوكب المريخ؟ أنت لم تطلع على مقدمات تعبئة هذا الطلب، فقد ملأ طفلك استمارة التقدم وتم اختياره، وأنت تسمع فقط عن كل هذا في المرحلة الأخيرة.
لا يدرك طفلك من الموقف إلا أن الأمر مغامرة مثيرة، وأن أصدقاءه يشاركون في هذه المغامرة؛ لذا فهو يلح باستمرار للحصول على موافقتك، ولا يرى أن هناك سببًا يدعو إلى رفضك؟
هل تجزم بأن إجابتك عن السؤال السابق ستكون لا بشكل قاطع وجازم، وأنك لن تقبل أبدًا بذهاب طفلك إلى المريخ؛ لأنك تُدرك مدى خطورة الأمر بالنسبة لصغير غير بالغ؟ مهلًا، قبل أن تتسرع في الجزم بأن هذه ستكون إجابتك اليقينية تابع قراءة السطور التالية ثم أعد طرح السؤال على نفسك مرة أخرى في النهاية.
قبل عام من الآن، أوضح سام ألتمان، المؤسس المشارك لشركة OpenAI، خلال مقابلة أُجريت معه، أنه لأول مرة منذ السبعينيات، لم يكن أي من رواد الأعمال البارزين في وادي السليكون تحت سن الثلاثين. قال ألتمان لقد حدث خطأ ما حقًّا.
الخطأ الذي حدث هنا، يُفسره عالم النفس الاجتماعي في كلية ستيرن للأعمال بجامعة نيويورك، جوناثان هايدت، الذي يبحث في علم النفس الأخلاقي والسياسي، بأن الجيل العشريني، أو الذي يُطلق عليه جيل زد Z، ليس منخرطًا في الحياة بشكل كامل، إنهم منشغلون بدفن رؤوسهم في هواتفهم الذكية.
الأشخاص الذين ولدوا بعد عام 1995، كانوا هم أول أشخاص في التاريخ يمرون بمرحلة البلوغ، وهم يحملون في جيوبهم بوابة تتمكن من نقلهم إلى عالم بديل. لم يكن هذا الأمر مفيدًا أو محمودًا على أي حال، بل إن الأثر الذي أحدثه ذلك على رفاهيتهم كان مدمرًا. كانت هذه هي الكلمات التي انتقاها جوناثان هايدت، لتعريف الآباء بمدى خطورة الأجهزة الذكية واستخدام الأطفال المكثف لها، وذلك خلال كتابه الأخير، الذي حمل اسم الجيل القلق The Anxious Generation، والذي احتل المرتبة الأولى في قائمة الكتب غير الخيالية الأكثر بيعًا وفقًا لصحيفة نيويورك تايمز.
ماذا تفعل عندما تمر بأزمة ما أو مشكلة؟ هناك طرق صحية لمواجهة الأزمات وطرق غير صحية قد تزيد الأمور سوءًا وتجعل المشكلات أكثر تعقيدًا، رُبما كان والدك ينصحك سابقًا، خلال مرحلة طفولتك وصباك، بعدم الهرب من وجه المشكلات، وعدم الاختباء في غرفتك والنوم لساعات ورُبما لأيام، لأن المشكلة لن تحل نفسها بنفسها. في لحظة ما ستستيقظ، وستجد نفسك، يا للمفاجأة، في وجه المشكلة ذاتها مرة أخرى، لأن شيئًا لم يتغير
في أيام سابقة، كان الهروب من المواجهة يتطلب الاختفاء في المكان أو الذهاب إلى مكان منعزل أو حتى السفر إلى مكان مختلف. لكن هذه الأيام، قد يكون كل ما يلزم للهرب هو أن تُخرج هاتفك الذكي من جيبك أو حقيبتك وتدفن رأسك فيه. حينها لن تواجه مللًا، ولن ترهق نفسك بالبحث عن كلمات تقولها لجليسك أو موضوعات تُشاركها مع زوجتك، وستفصل ذهنك عن المشكلات التي تتطلب التفكير العميق والتحليلي لأجل حلها. لست وحدك، أنت تمنح طفلك أيضًا هذه البوابة السحرية، التي تُمكّنه من الهرب من محيطه وواقعه، فقط بضغطة زر تسمح له بالولوج إلى عالم آخر مختلف عن عالمه.
يصف كتاب آخر لهايدت نُشر عام 2018 باسم تدليل العقل الأميركي كيف تعمل النيات الحسنة والأفكار السيئة على إعداد جيل مجهز للفشل -وشاركه في كتابته الناشط في مجال حرية التعبير جريج لوكيانوف- وسائل التواصل الاجتماعي، والخيار الذي توفره للأطفال للانسحاب من التفاعلات الاجتماعية وغيرها من الضغوط، بأنها عقبة رئيسية أمام النمو النفسي الصحي.
أوضح الكتاب أن المشاكل الجديدة في الحرم الجامعي ترجع أصولها إلى ثلاثة أفكار رئيسية شديدة السلبية أصبحت جزءًا لا ينفصل من نسيج الطفولة والتعليم الأميركي، هذه الأفكار هي ما لا يقتلك يجعلك أضعف، ثق دائمًا بمشاعرك، والحياة معركة مطلقة بين الأخيار والأشرار. تتناقض هذه المفاهيم الثلاث الكبرى مع المبادئ النفسية الأساسية للسعادة ومع الحكم التي تناقلتها سابقًا العديد من الثقافات. يُشير الكتاب إلى أن تبني هذه الأكاذيب يجعل من الصعب على الأشخاص أن ينشؤوا بشكل سوي أو أن يصبحوا بالغين مستقلين وقادرين على اجتياز طريق الحياة الوعر.
حقق لوكيانوف وهايدت في الاتجاهات الاجتماعية العديدة التي تعاضدت لتعزيز انتشار هذه الأكاذيب؛ فوجدا أن منها ظهور الأبوة والأمومة المترددة أو الخائفة، وتراجع اللعب الحر أثناء مرحلة الطفولة، وقضاء الوقت مع أطفال آخرين، والحياة الجديدة التي فرضتها وسائل التواصل الاجتماعي فاجتاحت عوالم المراهقين خلال العقد الماضي.
أثارت الأبحاث الحديثة في العلوم الاجتماعية قلق الآباء بشأن ما إذا كان الانغماس العميق في التقنيات الرقمية سيئًا لأطفالهم، وذلك وفقًا لمراجعة للأدبيات المفتوحة المصدر نشرها وأشرف عليها جوناثان هايدت، وجين توينج من جامعة ولاية سان دييغو، وزاك راوش من جامعة نيويورك ستيرن.
خلال المراجعة، فضّل الباحثون البدء بالمقالات المنشورة في عام 2014، حيث لاحظوا زيادة كبيرة في حالات الاكتئاب والقلق لدى المراهقين، لم تكن واضحة للعيان حتى عام 2013 تقريبًا، وقد ربط الباحثون هذه الزيادة بانتشار وسائل التواصل الاجتماعي.
يرى الباحثون أن وسائل التواصل الاجتماعي تغيرت بشكل جذري بين عامي 2009 و2012، وأصبحت أكثر قابلية للإدمان ورُبما أكثر سمية؛ لذا فإن الدراسات التي تستخدم البيانات من قبل عام 2013 ليست ذات صلة بتقييم ما إذا كانت وسائل التواصل الاجتماعي ضارة بالصحة العقلية للمراهقين اليوم أم لا.
هنا يصف هايدت ما حدث منذ عام 2012، خلال مقال نشره عبر صحيفة الغارديان، في شهر مارس من العام الجاري، بأنك حينما تسلم أطفالك هواتفهم الذكية وتتركهم ينشئون حساباتهم الخاصة عبر مواقع التواصل الاجتماعي، فإنك بذلك تتركهم تمامًا تحت رحمة الشركات التي رُبما لا تضع أصلًا مصلحتهم في اعتبارها بأي درجة.
قد تشعر بأن الأمر مُبالغ فيه بعض الشيء، لكن المثال الذي يسوقه هايدت عبر الغارديان، قد يُقرب لك الصورة أكثر، ويجعلها أكثر وضوحًا، المثال الذي يسوقه هايدت هو ببساطة السؤال الذي وُجِّه إليك في بداية هذه السطور، وهو ماذا ستفعل حينما يخبرك طفلك، الذي بلغ للتوّ التاسعة من عمره، برغبته في الذهاب إلى أول مستوطنة بشرية في المريخ؟
رغم إصرار طفلك على الذهاب وإلحاحه فإنك تتمكن من رؤية الصورة الكبرى أطفال يذهبون بمفردهم إلى المريخ، حيث الإشعاع الذي لا يمتلك المريخ وقاية منه، وحيث الجاذبية المنخفضة التي من شأنها أن تعرض الأطفال للإصابة بتشوهات في هياكلهم العظمية وقلوبهم وأعينهم وأدمغتهم. تسأل نفسك هل يعرف هذا الملياردير وشركته المنظمة للحدث كل هذا؟ رُبما لا يهتم بأن يعرف، ورُبما يعرف بالفعل لكنه لا يشغل باله بالأمر. الأسوأ من ذلك أن الشركة لم تطلب إثباتًا لإذن الوالدين.
منذ أواخر التسعينيات، بدأ المراهقون في حمل واقتناء الهواتف المحمولة، لكنها كانت هواتف بسيطة قابلة للطي ولم تكن مزودة بإمكانية الوصول إلى الإنترنت، وكانت مفيدة في الغالب للتواصل المباشر مع الأصدقاء والعائلة.
حينها، كان لدى بعض المراهقين إمكانية الوصول إلى الإنترنت عبر جهاز كمبيوتر منزلي أو كمبيوتر محمول، ولكن حتى هذا البعض لم يتمكن من الاتصال بالإنترنت بشكل مستمر وطوال الوقت إلا بعد حصولهم على الهواتف الذكية.
وفقا لدراسة استقصائية أجرتها مجموعة كومون سينس ميديا الأميركية غير الربحية، فبحلول عام 2016، كان 79٪ من المراهقين الأميركيين يمتلكون هواتف ذكية، وكذلك 28٪ من الأطفال الذين تتراوح أعمارهم بين الثامنة والثانية عشرة. عندما حصل المراهقون على الهواتف الذكية، بدؤوا في قضاء المزيد من الوقت في العالم الافتراضي.
ومثل الملياردير الذي لا يهتم بتأثير الذهاب إلى المريخ في الصحة العقلية والبدنية للأطفال، يوضح هايدت، أن الشركات التي تُطلق منصات التواصل الاجتماعي، لم تقم إلا بالقليل من الأبحاث حول تأثيرات منتجاتها في الصحة العقلية، أو لم تقم بأي أبحاث على الإطلاق. وعندما واجهوا أدلة متزايدة على أن منتجاتهم تلحق الضرر بالشباب، انخرطوا في الغالب في حملات الإنكار والتعتيم والعلاقات العامة التي تروج فقط لمنتجاتهم.
بل الأسوأ من عدم إجراء الأبحاث أو إنكار نتائج الأبحاث التي أُجريت بالفعل أن الشركات كانت تسعى جاهدة لتحقيق أقصى قدر من المشاركة عن طريق استخدام الحيل النفسية لإبقاء الشباب مستمتعين. يقول هايدت لقد قاموا بربط الأطفال، جسديًّا، أمام الشاشات خلال مراحل النمو الضعيفة، في الوقت الذي كانت أدمغتهم تتجدد بسرعة خلاله استجابة للتحفيز الوارد.
يقول هايدت، خلال مقابلة أجراها، مع موقع CNN كانت مرحلة الطفولة تقوم دائمًا وبشكل أساسي على اللعب، لكننا تركنا ذلك يتلاشى تدريجيًّا. وأصبحنا نملأ كل وقت الأطفال بـالتكنولوجيا. في التسعينيات، اعتقدنا أن الإنترنت سيجعل أطفالنا أكثر ذكاءً. ولأن معظمنا كان متفائلا بالتكنولوجيا، لم نأخذ حذرنا عندما بدأ أطفالنا يقضون أربع أو خمس أو ست ساعات يوميًّا على هواتفهم والشاشات الأخرى، والآن يصل استخدام الأطفال للشاشات من سبع إلى تسع ساعات يوميًّا.
من بين البيانات التي جمعها هايدت، لفت انتباهه بشدة اكتشاف أن أعلى معدلات كسور العظام كانت تقع بين الأولاد المراهقين، وذلك قبل عام 2010، حينها كان الأولاد المراهقون عرضة أكثر من أي مجموعة أخرى للذهاب إلى المستشفى بسبب إصابتهم بكسور في العظام. بمجرد أن وصلنا إلى أوائل عام 2010، انخفضت هذه المعدلات، وأصبح الأولاد المراهقون الآن أقل إصابة بكسور في العظام مقارنة بآبائهم وأجدادهم.
يقول هايدت إنهم يقضون معظم وقتهم خاملين أمام أجهزة الكمبيوتر وألعاب الفيديو، وبالتالي فهم آمنون جسديًّا. لكنني أزعم أن هذا يأتي على حساب النمو الصحي عقليًّا خلال مرحلة الطفولة.
خلال مقاله الذي نُشر عبر الغارديان، يوضح هايدت، أنه لم تكن هناك علامات تذكر على وجود أزمة مرض عقلي وشيكة بين المراهقين في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين. ثم، فجأة، في أوائل عام 2010، تغيرت الأمور. وفي خمس سنوات فقط بين عامي 2010 و2015، في جميع أنحاء المملكة المتحدة والولايات المتحدة وكندا وأستراليا وخارجها، بدأ عدد الشباب الذين يعانون من القلق والاكتئاب وحتى الميول الانتحارية في الارتفاع بشكل حاد.
أصبح المرض العقلي أكثر انتشارًا بنحو ضعفين ونصف. وكانت الزيادات متشابهة بالنسبة لكلا الجنسين، وحدثت في جميع الأجناس والطبقات الاجتماعية. ومن بين مجموعة متنوعة من تشخيصات الصحة العقلية، ارتفعت معدلات القلق بشكل أكبر.
وكذلك كان من البيانات الأكثر إزعاجًا، التي جمعها هايدت، ارتفاع معدلات إيذاء النفس لدى الفتيات في مرحلة المراهقة منذ أوائل عام 2010، ويوضح هايدت أنه من المعروف أن مستويات القلق لدى الفتيات ترتفع كثيرًا في هذه المرحلة العمرية، وقد كان إيذاء النفس إحدى الطرق التي تعاملت بها بعض الفتيات تاريخيًّا مع القلق، لكن إيذاء النفس لم يكن شيئًا يفعله الأطفال الذين تتراوح أعمارهم بين 12 و13 عامًا، بل كانت تفعله الفتيات الأكبر سنًّا.
لكن، في عام 2010، تضاعفت زيارات غرفة الطوارئ في المستشفى، بنحو ثلاثة أضعاف، بسبب إيذاء الفتيات اللاتي تتراوح أعمارهن بين 10 و14 عامًا أنفسهن. يُضيف هايدت كانت هذه واحدة من أكثر الزيادات في معدلات أعراض الأمراض والاضطرابات العقلية التي قمت بمراجعتها. وتضاعف المعدل بالنسبة للفتيات الأكبر سنًّا، اللاتي تتراوح أعمارهن بين 15 و19 عامًا.
ومن عام 2010 إلى عام 2019 ارتفع معدل الانتحار بنسبة 48 بين المراهقين الذين تتراوح أعمارهم بين 10 و19 عامًا. أما بالنسبة للفتيات اللاتي تتراوح أعمارهن بين 10 و14 عامًا، فقد ارتفعت النسبة بـ131. وارتفع معدل الانتحار بين المراهقين الشباب بنسبة 167 فيما بين 2010 و2021.
هنا يؤكد جوناثان هايدت، أن أفراد الجيل زد Z، وهم مواليد عام 1996 وما بعده، يُعانون بدرجة كبيرة من القلق والاكتئاب واحتمال إيذاء النفس والاضطرابات المتعلقة بذلك، بمستويات أعلى بكثير من أي جيل آخر لدينا بيانات عنه. ورُبما يكون ذلك هو ما دفع هايدت إلى عنونة كتابه باسم الجيل القلق.
كما تَقدَّم في مثال هايدت برحلة المريخ، التي قد تُعرّض الأطفال لخطر كبير وارتفاع احتمال إصابتهم بتشوهات بدنية وصحية؛ فإن تعرّض الأطفال والمراهقين المفتوح لمنصات التواصل الاجتماعي يمكن أن يُعدّ بمثابة رحلة يومية إلى المريخ، قد لا تُعرّض هياكلهم العظمية للتشوه هنا، لأن أجسادهم مستقرة في المنازل أمام أعين الآباء، لكن عقولهم في مكان آخر، وهو ما يُعرّض أدمغتهم، التي لم يكتمل نضجها بعد والتي لا تزال في مرحلة النمو والتشكل، لاحتمال التضرر بشدة.
إذا كنت أحد الآباء الذين يشاهدون أطفالهم يجلسون ساكنين بدنيًّا ساعات، مسلطين كل تركيزهم وانتباههم على شاشات هواتفهم ويتركون عقولهم كليًّا تحت سطوة فوضى تيك توك وإنستغرام وسناب شات وفيسبوك وغيرها، فأنت هنا سمحت بأن يرحل عقل طفلك يوميًّا إلى المريخ متعرضًا لكافة الأخطار المحتملة، التي رُبما كانت ستصيب بدنه وهيكله العظمي إذا رحل إلى المريخ جسديًّا.
وفقًا لما طرحه هايدت، فإن شركات التكنولوجيا ومنصات وسائل التواصل الاجتماعي، قد تسببت في أضرار بالغة لمرحلة الطفولة على نطاق لا يكاد يُتصوَّر، وذلك من خلال تصميم خرطوم من المحتوى الذي يُسبب الإدمان ويدفع الأطفال إلى التخلي عن الحياة الاجتماعية واستبدالها بالعزلة ومصاحبة الهواتف والشاشات فقط.
هنا يعترف هايدت، البالغ من العمر ستين عامًا، بأنه رغم كونه يحيا ليقرأ لأن القراءة هي هوايته المفضلة، فإنه حينما يريد أن يقرأ، يجب أن يضع جهاز الآيفون في الجانب الآخر من الغرفة؛ لأن وجود هذا الجهاز بجواره يُشعره دائمًا بأن شيئًا ما مثيرًا للاهتمام يحدث في جيبه؛ إذ تحاول آلاف أو ملايين الشركات جذب انتباهه ومحاولة إبقائه مُستخدمًا لتطبيقاتها.
بالطبع، قد يكون الشعور المسيطر والغالب عليه هنا هو أنه يجب عليه أن يواكب هذا الشيء ويكون على دراية بما يحدث. هذا ما تفعله الأجهزة الذكية برجل ستيني عقله مكتمل وناضج، وهكذا يحاول، بحكم نضجه واكتمال وعيه، أن يحافظ على متعته وهوايته المفضلة في الحياة من خلال الابتعاد التام عن هذه الأجهزة.
إذن، ماذا عن الطفل الذي لم يكمل من عمره عشرة أعوام بعد؟ يوضح هايدت أنه في اليوم الذي تغير فيه الهاتف القابل للطي وتحول إلى هاتف ذكي، وأصبحت لديك كاميرا أمامية، وإنستغرام، وبيانات عالية السرعة، أصبح هذا الجهاز، بالنسبة للعديد من الأطفال، هو المالك والسيد. ليس لجميع الأطفال، ولكن للكثير منهم. الأطفال عرضة أكثر للتشتت والرغبة في الهرب، خاصةً عندما يواجهون بعض المهام الصعبة أو حينما يكون التفكير صعبًا، هنا يبدؤون البحث عن أي شيء أخف وطأة على عقولهم الصغيرة، وأفضل ما يجدونه هنا هو بالطبع الترفيه.
يقول هايدت أنا نفسي أقوم بهذا، عندما أحاول أن أكتب شيئًا ما ويكون الأمر صعبًا، أقول ما هو الطقس؟ اسمحوا لي أن أذهب لإلقاء نظرة على الطقس. ماذا يوجد في بريدي الإلكتروني؟ أحاول أن أبحث عن أي شيء أكثر إثارة للاهتمام وأسهل من الشيء الذي أحاول القيام به.
يُضيف هايدت لكني لديّ قشرة أمام جبهية مكتملة التكوين. المراهقون قدرتهم على السيطرة على أنفسهم أقل بكثير، لأن قشرتهم غير المكتملة لا تسمح لهم بالتحكم في الاندفاعات. وطالما أن لديك كل هذه الألعاب والأشياء المثيرة للاهتمام المتاحة لك على هاتفك، فسوف تطاردك دومًا. ذلك إذا لم نأخذ في الحسبان وسائل التواصل الاجتماعي.
مثل السنة الأولى من الحياة، تُعدّ مرحلة البلوغ أهم فترة لنمو الدماغ وإعادة تنظيمه. في الوقت الذي يشكك فيه البعض في نظريات هايدت ونصائحه الموجهة إلى الآباء، ويقول إنها قائمة على قاعدة علمية غير مؤكدة ولا قاطعة، أكدت جمعية علم النفس الأميركية مخاوف هايدت خلال تقرير جديد، نُشر خلال العام الجاري.
يصف تقرير جمعية علم النفس الأميركية منصات التواصل الاجتماعي بكونها تصميمات غير آمنة بطبيعتها بالنسبة للأطفال. ويؤكد تقرير الجمعية البرلمانية الآسيوية أيضًا، أن الأطفال ليست لديهم الخبرة الكافية ولا القدرة على الحكم وضبط النفس ليتمكنوا من إدارة أنفسهم وحمايتها من خطر تلك المنصات.
أوضح تقرير جمعية علم النفس الأميركية أن المنصات المصممة أصلًا للبالغين ليست مناسبة للأطفال والمراهقين بطبيعتها؛ لأنهم يحتاجون إلى حماية خاصة بسبب ضعف الكفاءة الناتج عن كونهم لا يزالون في مراحل التشكل والنمو. وتعطي الجمعية تحذيرًا خاصًّا، حيث تزداد الخطورة بالنسبة للشباب الذين يعانون من مشاكل نفسية وجسدية وفكرية أو يواجهون بعض تحديات الصحة العقلية أو غيرها من التحديات التنموية؛ مشيرة إلى أنه قد لا يرتبط العمر الزمني بشكل مباشر بالاستعداد للتعامل مع وسائل التواصل الاجتماعي.
خلال كتابه الجيل القلق، يوجه هايدت تحذيرًا صارخًا، يقول خلاله نحن عند نقطة تحول كمجتمع، وإذا لم يتخذ الكبار الإجراءات اللازمة للحماية، فقد يخاطرون بالصحة العقلية لجميع الشباب إلى أجل غير مسمى.
يُضيف هايدت هناك قصة درامية مهمة، بدأت منذ فترة طويلة تعود إلى الثمانينيات، عندما بدأنا بشكل منهجي في حرمان الأطفال والمراهقين من الحرية، واللعب غير الخاضع للرقابة، والمسؤولية، وفرص المجازفة، وكلها أمور تعمل على تعزيز الكفاءة والنضج والصحة العقلية. لكن التغير في الطفولة تسارع في أوائل عام 2010، عندما تم إغراء جيل محروم من الاستقلال بالفعل بعالم افتراضي جديد بدا آمنا للآباء، ولكنه في الواقع أكثر خطورة، في كثير من النواحي، من العالم المادي.
ويتابع قائلًا ما أزعمه هو أن الطفولة الجديدة المعتمدة على الهاتف، التي تبلورت قبل 12 عامًا تقريبًا، تُصيب الشباب بالاضطراب العقلي وتعوق تقدمهم نحو الازدهار في مرحلة البلوغ.
هنا، تؤكد جمعية علم النفس الأميركية مزاعم هايدت، حيث توضح أن أضرار إطلاق أيدي الأطفال في التعامل مع مواقع التواصل الاجتماعي، تعود إلى أن نمو الدماغ الذي يبدأ في سن 10-13 عامًا، أي بداية مرحلة البلوغ، حتى منتصف العشرينيات تقريبًا، يرتبط بفرط الحساسية اتجاه الردود والمحفزات الاجتماعية. وبعبارة أخرى، يصبح الشباب مستثمرين يكرسون كل طاقتهم وجهدهم ووقتهم، بشكل خاص للقيام بالسلوكيات التي ستساعدهم في الحصول على ردود وتعليقات شخصية إيجابية أو الثناء أو الاهتمام من أقرانهم.
بناءً على ما سبق، هل بدأت تدرك مدى استغلال منصات التواصل الاجتماعي لجوانب الضعف في التكوين النفسي والعقلي للأطفال والمراهقين؟
يفعل الأشخاص، في هذه المرحلة العمرية، كل ما في وسعهم، عبر مواقع التواصل الاجتماعي للحصول على المزيد من الإعجابات والمتابعين، هذا هو الثناء والاهتمام الذي يتوقون إليه، يصلون إليه هاهنا من خلال علامات القلوب الحمراء وعلامات الإعجاب الزرقاء، وكلما ازداد العدد فهذا يعني المزيد من الشعور بالأهمية والرضا عن الذات. زيادة أعداد الإعجابات والمتابعين تُنشِّط المناطق العصبية التي تؤدي إلى تكرار السلوك، وبالتالي قد يكون لها تأثير أكبر في مواقف وسلوكيات الأطفال والمراهقين والأشخاص الذين هم في بداية مرحلة الشباب، مقارنة بالبالغين.
هذه الفئة العمرية حساسة، بشكل خاص، اتجاه الردود الاجتماعية الإيجابية ورفض الآخرين، على حد سواء. استخدام هذه المقاييس، مثل علامات الإعجاب وأعداد المتابعين، لقياس معدلات المشاركة في هذه المنصات، والحفاظ عليها، يقوم أساسًا على استغلال نقاط ضعف الشباب، ومن المحتمل أن يؤدي إلى استخدام إشكالي.
من جوانب استغلال نقاط الضعف في تكوين الأطفال والمراهقين والشباب الصغار أيضًا الإشعارات الفورية التي تستفيد من احتياج الشباب إلى الإلهاء وحساسيتهم الشديدة اتجاهه. فالقدرة على تجنب عوامل التشتيت والتعامل معها بفعالية هو قدرة معرفية عالية المستوى لا تتطور بشكل كامل حتى مرحلة البلوغ المبكر. هذا الأمر يجعل الإشعارات الفورية تؤثر بشكل سلبي على تركيز الشباب والمراهقين أثناء وقت الفصل الدراسي ووقت أداء الواجبات المنزلية.
كذلك، فإن درجة تطور النظام القشري لدى صغار الشباب، تجعلهم أقل قدرة على مقاومة الاندفاع أو إيقاف أنفسهم عن السلوك الذي قد يؤدي إلى فائدة مؤقتة على الرغم عواقبه السلبية على المدى الطويل، فتنخفض قدرتهم على تحديد الأخطار البعيدة المدى. وهو ما يجعل التمرير اللانهائي، على مواقع التواصل الاجتماعي، محفوفًا بالأخطار بشكل خاص بالنسبة للشباب؛ نظرًا إلى أن قدرتهم على مراقبة أنفسهم وسلوكياتهم وإيقاف المشاركة على وسائل التواصل الاجتماعي محدودة مقارنة بتلك الموجودة لدى البالغين. وهو ما يزيد صعوبة انفصال صغار الشباب والمراهقين، عن وسائل التواصل الاجتماعي، ويزيد مُعدلات إدمانهم على هذه المواقع.
يزداد الأمر سوءًا في ظل عدم وجود حدود زمنية لاستخدام وسائل التواصل الاجتماعي، فهي متاحة دائمًا، وإذا لم يكن هناك دافع شخصي داخلي، فقد لا يتوقّف الأطفال والمراهقون عن الاستخدام المتواصل أبدًا. تمت الإشارة إلى عدم وجود حدود للوقت الذي يمكن للشباب فيه استخدام وسائل التواصل الاجتماعي باعتباره السبب الرئيسي وراء حصول المراهقين على أقل من الكمية الموصى بها من النوم، وهو أمر له في حدّ ذاته آثار سلبية كبيرة على الصحة العقلية.
النوم ضروري لنمو الدماغ بشكل صحي وتعزيز الصحة العقلية في مرحلة المراهقة. تأخير النوم أو انقطاعه له آثار سلبية كبيرة على انتباه الشباب والقدرة على ضبط السلوك والحالة المزاجية والسلامة والأداء الأكاديمي.
من ناحية أخرى، تُعدّ فترة المراهقة فترة حرجة لتطوير مهارات العلاقات الاجتماعية الأكثر تعقيدًا، التي تتميز بالقدرة على تكوين علاقات أكثر حميمية ورُبما علاقات عاطفية. ووفقًا لجمعية علم النفس الأميركية، فإنه ينبغي أن توفر سنوات المراهقة فرصًا حيّة وحيوية ومباشرة لممارسة هذه المهارات من خلال التفاعلات الفردية أو الجماعية الصغيرة.
التركيز الذي تفرضه مواقع التواصل الاجتماعي، على أعداد المتابعين والإعجابات، يجعل انتباه المراهقين مُسلطًا كله على التفاعلات الأحادية الجانب، وقد يعوق قدراتهم على بناء المهارات الاجتماعية التي تُمكنهم من بناء علاقات صحية ومفيدة نفسيًّا.
كذلك، فإن غياب وجود عمليات واضحة وشفافة لمعالجة البلاغات المتعلقة بالمحتوى الضار يجعل من الصعب على الشباب أن يشعروا بالحماية أو القدرة على الحصول على المساعدة في مواجهة المحتوى الضار. وفيما يتعلق بالسلامة أيضًا، قد يتم خداع المراهقين بسهولة من قبل بعض الجهات الفاعلة الخبيثة التي قد تحاول التفاعل معهم عبر قنوات التواصل الاجتماعي. هنا قد يتعرض الصغار لأخطار شديدة محتملة نتيجة للاتصال والمراسلة المباشرة مع الغرباء البالغين، منها مثلًا احتمال الاستغلال الجنسي.
مما سبق يمكن استخلاص أن المراهقة هي فترة من العمر قد يكون الشخص خلالها خاضعًا بشدة لتأثير الأقران، وقابلية التأثر بالمحيطين، والحساسية للرفض الاجتماعي. وهي كلها أمور تبرز بحدّة عبر مواقع التواصل الاجتماعي، ورُبما تقوم الحياة داخل هذه المنصات أصلًا على هذه الأعمدة بشكل أساسي.
دعنا نؤكد إجابة سؤال قد يدور بذهنك الآن، وهو هل تبالغ هذه التحذيرات؟ فقبل انتشار تكنولوجيا الهواتف الذكية ومنصات التواصل الاجتماعي، سبق هذه المنتجات اختراع التلفاز مثلًا، وبدأ الجميع مشاهدته منذ خمسينيات القرن الماضي، وقد أثار انتشار التلفاز حينها الذعر أيضًا، وتداول الناس العديد من المخاوف حوله، فمثلًا كان الآباء يرددون لأبنائهم أنت تجلس قريبًا جدًّا من التلفاز، سوف تحترق عيناك، وسيتحول عقلك إلى هلام.
لكن، الأمر الآن مختلف تمامًا، فأنت لا تستطيع أن تحمل التلفاز معك وأنت تستقل حافلة المدرسة، بل تسلط كامل تركيزك عليه أحيانًا فقط، ويمنعك ذلك من النظر من النافذة والتعرّف أكثر على محيطك أو التحدث وتبادل أطراف الحديث مع أحد زملائك. التكنولوجيا الجديدة، هنا، هي أكثر قابلية للحمل وأكثر شخصية وجاذبية من أي شيء سبقها، وهو ما يجعل التحذير من الهواتف الذكية أكثر جدية، ويؤكد أنه تحذير من خطر حقيقي، ولا يُشبه التحذير من التلفاز في القرن الماضي، لأن الأمر بالفعل أسوأ وأخطر.
هنا يوضح هايدت أن كل أمر جديد قد يُثير الذعر حوله، فقبل التلفاز كانت هناك مخاوف من الراديو وقبلهما الكتابة، التي قال عنها سقراط إنها ستقضي علينا. لكن الأمر هذه المرة مختلف جدًّا؛ لأنه مثلًا، حينما حدثت في السابق موجة من الجرائم التي أعقبت انتشار التلفاز، لم يكن ممكنًا، على المستوى البحثي، ربط هذه الجرائم بشكل وثيق بالتلفزيون، ولم تكن هناك أدلة موثقة تُظهر أنه عندما يشاهد الأطفال التلفاز، فإنهم يخرجون ويؤذون الناس أو يقتلون.
أما ما حدث هذه المرة، وفقًا لهايدت، فمع انتشار الهواتف الذكية ومواقع التواصل الاجتماعي، في عامي 2012 و2013، وجد الباحثون أن هناك طفرة في الرسوم البيانية تتجه نحو الأعلى بالنسبة للاضطرابات العقلية، وكانت الصحة العقلية تبدو وكأنها تسقط من الهاوية.
يقول هايدت كان الأمر مفاجئًا بدرجة كبيرة، ولم يكن بإمكان أحد أن يشرح لماذا حدث ذلك فجأة خلال هذين العامين، لم تتراجع مؤشرات الصحة العقلية في الولايات المتحدة الأميركية فقط، بل أيضًا في كندا والمملكة المتحدة وأستراليا ونيوزيلندا وشمال أوروبا.
ويُضيف قائلًا أنا في انتظار أن يُعلن شخص ما عن أنه قد وجد مادة كيميائية تم إطلاقها فقط خلال الأعوام السابقة لهذين العامين، وأن هذه المادة هي المسؤولة عن تراجع مؤشرات الصحة العقلية على هذا النحو، هنا قد يكون لدينا قصة أخرى نرويها بخلاف أن الهواتف الذكية ومواقع التواصل الاجتماعي هي المسؤولة عمّا حدث.
مقدار سوء الهواتف الذكية ومواقع التواصل، نابع من فقدان العديد من المراهقين القدرة على التواصل المباشر بشكل كامل مع الأشخاص الموجودين حولهم، لصالح القيام بالكثير من الأنشطة الافتراضية والوجود على منصات التواصل الاجتماعي ومشاهدة قنوات بث الفيديو، الأمر الذي غير الحياة الاجتماعية للجميع. هنا، وفقًا لما يوضحه هايدت، تمت إعادة صياغة الأنماط الاجتماعية، والقدوة، والعواطف، والنشاط البدني، وحتى أنماط النوم، بشكل أساسي بالنسبة للمراهقين، على مدار خمس سنوات فقط.
يوضح جوناثان أن تدهور الصحة النفسية هو مجرد واحدة من العديد من العلامات التي تُشير إلى حدوث خطأ ما.
وفقًا لهايدت، بدأت مشاعر الوحدة وانعدام القدرة على تكوين الصداقات والعلاقات الاجتماعية السويّة بين المراهقين الأميركيين في الارتفاع خلال عام 2012 تقريبًا. ووفقًا لبعض الإحصائيات، فقد انخفض التحصيل الأكاديمي أيضًا، حيث بدأت درجات الطلاب الأميركيين في القراءة والرياضيات في الانخفاض بعد عام 2012، وتُظهر بعض المقاييس أن الانخفاض في الرياضيات والقراءة والعلوم حدث على مستوى العالم، وبدأ أيضًا في أوائل عام 2010.
يُضيف هايدت عندما يصل أكبر أعضاء الجيل Z إلى أواخر العشرينيات من أعمارهم، فإن مشاكلهم ستنتقل إلى مرحلة البلوغ. وهو رُبما ما سيجعلهم يُظهرون اهتمامًا أقل بالزواج وإنجاب الأطفال مقارنة بالأجيال السابقة. وقد يصبحون أكثر عرضة للعيش مع والديهم، كما كانوا سابقًا، وأقل احتمالا للحصول على وظائف في سن المراهقة، حيث يقول المديرون إن العمل معهم أصعب. بدأت العديد من هذه الاتجاهات الظهور مع الأجيال السابقة، لكن معظمها تسارع مع هذا الجيل.
هنا يُحيل هايدت إلى مقابلة أُجريت منذ عام تقريبًا، وتحديدًا في شهر مايوأيار الماضي، مع سام ألتمان، المؤسس المشارك لشركة OpenAI، وباتريك كوليسون، المؤسس المشارك لشركة Stripe. خلال المقابلة أشار ألتمان إلى أنه لأول مرة منذ السبعينيات، لم يكن أي من رواد الأعمال البارزين في وادي السليكون تحت سن الثلاثين. وقال ألتمان لقد حدث خطأ ما حقًّا. في صناعة ناشئة شابة وتلقى رواجًا واسعًا، كان من الغريب الغياب المفاجئ للمؤسسين المميزين الذين هم في العشرينيات من أعمارهم.
آثار قلق هذا الجيل قد لا يُعاني منها جيل زد Z وحده، بل قد يدفع ثمنها المجتمع بأكمله، إذ يوضح هايدت أنه إذا كان هذا الجيل، بشكل عام يُعاني من حالة صحية عقلية سيئة ويتخلف عن الأجيال السابقة في العديد من المقاييس المهمة، وإذا كان هذا الجيل أكثر قلقا واكتئابا ويبدأ في تكوين أسر ومهن وإنشاء شركات مهمة بمعدل أقل كثيرًا من الأجيال السابقة، فإن العواقب الاجتماعية والاقتصادية سوف تكون عميقة بالنسبة للمجتمع بأكمله.
خلال مقابلة CNN السابقة الذكر، يوضح هايدت أن الجميع الآن تقريبًا يرون المشكلة. لكن الآباء أصبحوا في حالة من اليأس. يشعرون وكأن الجنّيّ قد خرج من القمقم، وأصبح قويًّا ومسيطرًا، ولا يمكنهم الوقوف في وجهه. بعض الآباء يقول لا يمكنك إعادة معجون الأسنان إلى الأنبوب، أليس كذلك؟ هنا يقول هايدت إذا كان عليك فعل ذلك حقًا، فسوف تفعله.
ويضيف هايدت عندما تنظر إلى حطام الصحة العقلية للمراهقين وتنظر إلى الزيادات في معدلات إيذاء النفس والانتحار، وتنظر إلى انخفاض درجات التقييمات المدرسية منذ عام 2012 في الولايات المتحدة وفي جميع أنحاء العالم، أعتقد أنه يتعين علينا القيام بشيء ما. يقدم كتابي تحليلًا واضحًا لحل هذه الأزمة.
باب الخروج من هذا المأزق يحدّده هايدت هنا بأنه ينبغي منع الأطفال من التعامل مع الهواتف الذكية ووسائل التواصل الاجتماعي، حتى يبلغوا 16 عامًا. ويوضح هايدت أن نصيحته هذه تستند إلى سنوات من البحث الذي توصل إلى تصاعد تحديات الصحة العقلية بين المراهقين الأميركيين، والإحصائيات التي تشير إلى أن العديد من المراهقين في الولايات المتحدة يعانون بالفعل، بطرق ودرجات مختلفة، من الاكتئاب أو القلق في سن المراهقة.
يقول هايدت ممنوع استخدام الهواتف الذكية قبل المدرسة الثانوية، وممنوع استخدام وسائل التواصل الاجتماعي حتى سن 16 عامًا. هذه المنصات لم تكن مخصصة، بالأساس، للأطفال. يبدو أنها ضارة بهم على نحو خاص. يجب علينا إيلاء الاهتمام لحماية الأبناء خلال مرحلة البلوغ المبكر لأنه يحدث خلالها الضرر الأكبر.
وأضاف هايدت أنه يجب أن تكون المدارس، أيضًا، خالية من الهواتف، وهذا جانب من العمل المجتمعي الجماعي اللازم للخروج من الأزمة، موضحًا أنه لا توجد حجة مقنعة للسماح للأطفال بأن يكون في جيوبهم أكبر جهاز إلهاء تم اختراعه على الإطلاق أثناء ساعات الدراسة. إذا لم يكن لديهم هواتف، فسوف يستمعون إلى معلميهم ويقضون الوقت مع الأطفال الآخرين.
وأكد أنه يجب منح الأطفال المزيد من الوقت لممارسة اللعب الحر وتعلم المسؤولية والاستقلالية في العالم الحقيقي. يقول هايدت نحن بحاجة إلى التراجع عن الطفولة القائمة على الهاتف واستعادة الطفولة القائمة على اللعب.
رَبْطُ الأطفال الصغار والمراهقين أمام الشاشات يُفقدهم القدرة على الاستفادة من سنوات بالغة الأهمية بالنسبة لهم، ويوضح هايدت أنه عند سن السادسة تقريبًا، يبلغ حجم دماغ الطفل بالفعل 90 من حجمه عند البالغين. وخلال السنوات العشر أو الخمس عشرة القادمة يتم تعلم المعايير وإتقان المهارات الجسدية والتحليلية والإبداعية والاجتماعية. يحدث هذا من خلال اللعب الحر وخوض التجارب واكتساب الخبرات وممارسة مجموعة واسعة من السلوكيات. خلال هذه السنوات، يتم الاحتفاظ بالمشابك والخلايا العصبية التي يتم استخدامها بشكل متكرر، وتختفي تلك التي يتم استخدامها بشكل أقل، التعامل واكتساب المهارات يسمح بالاحتفاظ بالمزيد من الخلايا العصبية وعدم تدميرها وفقدانها. | https://www.aljazeera.net/sukoon/2024/8/14/%d9%85%d8%a7%d8%b0%d8%a7-%d8%a3%d9%81%d8%b9%d9%84-%d9%85%d8%b9-%d8%a3%d8%b7%d9%81%d8%a7%d9%84-%d9%8a%d8%af%d9%85%d9%86%d9%88%d9%86-%d9%85%d9%86%d8%b5%d8%a7%d8%aa | 2024-08-14T15:55:24 | 2024-10-15T02:19:00 | أبعاد |
|
47 | الهرشة السابعة فرضية غير علمية حول تعثّر الزواج في سنته السابعة | هل سمعت عن نظرية الهرشة السابعة من قبل؟ أو لعلّك شاهدت مسلسل “الهرشة السابعة” أو رأيتَ منشورا يتحدّث عنه، فما هي نظرية الهرشة السابعة؟ وما الذي يحدث للمتزوجين في السنة السابعة للزواج؟ | هل سمعت عن نظرية الهرشة السابعة من قبل؟ أو لعلّك شاهدت مسلسل الهرشة السابعة أو رأيتَ منشورا يتحدّث عنه، فما هي نظرية الهرشة السابعة؟ وما الذي يحدث للمتزوجين في السنة السابعة للزواج؟ وما رأي علماء النفس والمختصين بعلم نفس العلاقات الزوجية والعاطفية؟ نعرض لك، عزيزي القارئ، في هذا المقال مراجعة علمية من منظور علم نفس العلاقات بحسب ما يرى الباحثون والخبراء لفكرة الهرشة السابعة ومشكلات الزوجين بعد مُضي السنوات الأولى من الزواج. إذا كُنتَ تتابع حلقات المسلسل ولم تنتهِ بعد، فمن المهم التنويه بأن هذا المقال يحتوي على بعض الأحداث والمواقف التي قد تكشف تفاصيل ما تبقّى من مسلسل الهرشة السابعة.
تابع الجمهور خلال الأسبوعين الماضيين مسلسل الهرشة السابعة، من إخراج المخرج المصريّ كريم الشناوي، وتأليف ورشة سرد التي تُديرها السيناريست المصرية مريم نعوم. يتناول المسلسل العلاقات الزوجية بشتّى أشكالها، منهم الكبير الذي يبحث عن ونيس، ومنهم المنفصلان، ومنهم الشابان اللذان سيتزوجا خلال المسلسل، ومنهم من قطع شوطا في علاقته واستقر في زواجه، وهذان تحديدا هم بطلا القصة الرئيسيان أمينة التي تلعب دور شخصية نادين، ومحمد شاهين آدم. زوجان نستكشف معهما رحلة من العقبات والمطبات التي يمران بها، مرة تمر العقبة بسلام، ومرة تتعقد خيوط الأزمة وتتشابك؛ ما يضع زواجهما على المحكّ وعلى عتبة الانفصال.
يتضح لنا سبب تسمية المسلسل بهذا الاسم، في أحد المشاهد حيث تجلس فيفي والدة آدم بين نادين وصديقتها سلمى أسماء جلال وتُخبرهما أن خلاط الأحداث الذي يعصف بحياتهما يُسمى هرشة السنة السابعة، وهو الترجمة غير الموفقة لـمقولة إنجليزية متداولة the seven-year itch. الهرشة السابعة هي فرضية تنص على أن الزواج سيواجه أولى عقباته الضخمة في سنته السابعة، نتيجة لمرور الزواج خلال تلك السنة بتحوّلات جذرية تفصل ما سبق عمّا هو آت بوصفه علاقة زوجية. بحسب ما قيل في المسلسل ووفقا لما شاهدته فيفي والدة آدم في أحد المقاطع على تطبيق تيك توك، فإن علاقة الزوجين تتغيّر مرة كل ثلاث سنوات، وهو ما يخلق تحدّيا للزواج في سنته السابعة عمّا إذا كان الزوجان سيتقبّلان التغيرات الجديدة التي طرأت على شريك حياتهما، أي أن السبع سنوات مفترق طرق ونقطة حاسمة يعيد خلالها الزوجان تقييم العلاقة، فإمّا أن يستقرا على أنها علاقة ميؤوس منها، وإما أن يجددا التزامهما نحو بعضهما.
فكرة الهرشة السابعة في حد ذاتها فكرة أسطورية وغير علمية، لكنها لاقت رواجا بسبب كونها منطقية نسبيا فيما يتعلق بالعلاقات الزوجية، لأن المتوقع حدوث تغيّر هائل على مستوى العلاقة الزوجية بعد مُضي هذا القدر من السنوات، ومن الجدير بالذكر أن التغيير الحاصل ليس تغييرا سلبيا بالضرورة، لكن العلاقة الزوجية تمرّ بهذا التغيّر بعد أفول ما يُسمّى مرحلة شهر العسل أو السنة الأولى على الأقل حين تبدأ حلاوة البدايات بالتلاشي، وبريق التجارب الجديدة بالخفوت.
عموما، يُعد مصطلح الهرشة السابعة تعبيرا مجازيا مفاده أن العلاقة ستتعثر بعد سبع سنوات، سواء بالخيانة أو عدم التقبّل أو أنّها ستعاني من عدم الاستقرار على الأقل. لكن إذا ما نظرنا إلى معدلات الطلاق اليوم، فمن الواضح أن الهرشة تهاجم العلاقات قبل تمامها سبع سنوات. هذا تحديدا ما سنقف عليه وقفة بسيطة في هذا المقال، وهو استشكال كانت نادين في المسلسل قد استشكلته على فكرة الهرشة السابعة حين تساءلت لماذا ليس كل ثماني سنوات؟، أليست مشاكلنا سابقة لزواجنا؟، وهي، من وجهة نظر علمية، على حق.
أولا، تأتي الحكّة أو الهرشة المشار إليها في هذا التعبير أو النظرية من الطفح الجلدي المعروف بـالجَرَب، وكان علاجه فيما مضى يستغرق قرابة السبع سنوات. استعار الكاتب المسرحي الأميركي جورج أكسلرود هذا المجاز وحوّله إلى مسرحية عام 1952، مُشبِّها المرض بحالة زوج قرر خيانة زوجته بعد سبع سنوات من الزواج وإنجاب طفلين. تغيّر معنى هرشة، أو، حكة السنة السابعة تغيّرا جذريا حين تحوّلت المسرحية إلى فيلم The Seven Year Itch 1955 أدت بطولته مارلين مونرو وتوم إيويل، ونجح باكتساحٍ لدرجة أن الأسطورة تلبّست لباس حالة علمية1.
علميا، فإنّ فكرة وجود سنة واضحة ومُحدَّدة تمرّ خلالها جميع العلاقات الزوجية بتحدٍّ جذريّ هي نظرية خاطئة تماما، مع ذلك فإن جزءا من هذه النظرية كما يحكيها المسلسل أو الأساس المبنية عليه هو أساس منطقي وعلمي، خاصة أن المتزوجين حديثا ينعمون خلال الفترة الأولى بحالة مليئة بالمحبة المتبادلة والفرح والاهتمام من الأقارب والشعور بالسعادة والارتياح لتلبية التوقعات الاجتماعية عبر طقس الزواج. لاحقا، وحين تبدأ هذه المرحلة بالانتهاء، يحدث انتقال نوعي في شكل العلاقة، حيث يبدأ التفاوض على أعمال المنزل والتنسيق بين العمل والحياة والتغيّرات الهائلة التي تطرأ في حال إنجاب طفل، يحدث دمج كامل وتام بين الحياتين، وأحيانا لا تتسم هذه العملية بالسلاسة لأنها تخالف توقعات أحد الأطراف، مثلما حدث مع آدم ونادين حين طلبت أن يكون حاضرا في حياتها بشكل أكبر أو أن يُسافرا معا، سألها إن كانت تركت منزل والديها وتزوجته حتى تُحقق أحلامها فحسب، هنا تحديدا تظهر التعارضات الجوهرية على سطح العلاقة الزوجية2.
تشير الأبحاث الحديثة إلى أن معدلات الطلاق ترتفع بعد الزواج مباشرة ثم تبلغ ذروتها عند السنة الخامسة تقريبا، وتنخفض بشكل ملحوظ بزيادة السنوات. يُعيدنا هذا النمط المستمر في الصعود والهبوط إلى فرضية هرشة السنة السابعة، لكنها تحدث في وقت أبكر، أي هرشة السنة الخامسة مثلا. لذا، لكل علاقة خصوصيتها، وقد يتساءل المرء مثلا متى تبدأ هذه السنوات السبع؟ في فترة المواعدة أم بعد الزواج؟ وهو سؤال مشروع استشكله الباحثون أنفسهم، إذ تفترض الهرشة السابعة نقطة محددة وواضحة للزواج، بينما يحدث أن يفضي معظم المتزوجين فترة لا بأس بها بالتعرّف على بعضهم بعضا قبل الزواج، بل قد يحدث كما في البلاد الأوروبية بأن يتعايش الشريكان العاطفيان لفترة طويلة قبل الزواج بصورته الاجتماعية المعروفة، ولذا تنفي هذه الفروقات في سنة بدء العلاقة الزوجية صحّة تلك الأسطورة حول السنة السابعة، إذن من أين نبدأ العدّ؟2.
من جهة أخرى، وجدت بعض الدراسات التي ظهرت في أوائل التسعينيات أن السعادة الزوجية تأخذ منحى يُشبه حرف U، أي أن الزواج ينطلق من سعادة مفرطة وجامحة تُسمى فترة شهر العسل، وتُطلَق على السنة الأولى من الزواج وليس شهر العسل حرفيا، ثم تبدأ في الهبوط من السنة الثالثة أو الرابعة، حين يهجم الملل على العلاقة أو يغيّر إنجاب الأطفال طبيعتها بأي شكل، لكن مع اعتياد الزوجين ومقاومتهما تلك العقبات، كهرشة السنة السابعة، يبدأ معدل السعادة في الارتفاع من جديد إلى أن يصل أقصاه بعد التفرغ والانتهاء من مسؤولية تربية الأبناء3.
لكن في دراسة أخرى أكثر مصداقية، امتدت 17 عاما ودرست أطيافا كثيرة من المجتمع على خمس مراحل خلال زواجهم، تشير إلى أن السعادة تقل تدريجيا خلال فترة الزواج إجمالا، لكنها لا تصل إلى الحضيض، وأيضا لا يحدث شيء سحري يجعلها تزيد زيادة بالغة خلال التقدم في السنوات. وتُشير أيضا إلى احتمالية حدوث انخفاض ضئيل خلال سنوات الزواج الأولى والأخيرة. ما ينفي تماما فكرة هرشة السنة السابعة بالتحديد، أو أن في العلاقات هبوطا حادا يليه ارتفاع جنوني في مستوى الرضا3.
درس أربعة علماء أميركيين من جامعة ميشيغان، جوزيف فيروف وإليزابث دوفون وشيرلي هاتشيت وتيري أوربيش، مجموعة واسعة من المتزوجين السود والبيض على مدار 23 عاما تقريبا من 1986 إلى 2007. ظلتْ هذه المجموعة ثابتة، يلتقيها الباحثون كل عام ويجرون معهم حوارات مشتركة، سواء مع كلا الزوجين في جلسة واحدة أم حوارات أخرى منفردة مع كل زوج على حدة، ومع أبنائهم كذلك. تحوّلت هذه الدراسة إلى مشروع سُمّي مشروع سنوات الزواج الأولى EYM، وهو إحدى أهم الدراسات التي تُمعن النظر في العلاقات وتُقدِّم رؤى مهمة عن العوامل التي تسهم في استمرارها ومستوى رضا الزوجين والأبناء أيضا.
لم تتناول هذه الدراسة الزواج من جانب أُحادي، بل من كونه بناء متشابكا مع الوضع الاقتصادي والخلفية الاجتماعية لكل طرف وعلاقة كل منهما بعائلة الآخر، العامل الأخير على وجه التحديد يلعب دورا كبيرا في إمكانية وقوع الطلاق، إذ إن الباحثين لاحظوا أن العلاقة القوية مع العائلة الكبيرة وزيارتها بشكل ثابت وقلة الجدال حولها عكس آدم ونادين قللت نسبة الطلاق بين السود المتزوجين أكثر من البِيض، بينما مشاركة الزوج بكثافة في أداء الأعمال المنزلية بين العائلات البيضاء تزيد من نسبة المشاحنات المؤدية إلى الانفصال على المدى البعيد. تُشير أوربيش إلى أن العلاقة في حالات كثيرة تهتز ببساطة بسبب الملل لا أكثر الذي يبدأ في التسلل في السنة السابعة، وليس بسبب حدث جلل يمكن أن تنكسر عليه آصرة الزواج، مع ذلك، في حال تجاوز الزوجان حالة الملل هذه لا يعني هذا أنهما لن يمرا بها في السنين المقبلة4.
قد تبدو لك العلاقات عشوائية الآن، لكن أوربيش تطمئننا أن الأمر أحيانا أوضح من ذلك في نقاط محددة، منها أن الطلاق في حد ذاته ليس كارثة بالحجم الذي يُصوَّر له، إذ إن مستوى سعادة المتزوجين الذين نشؤوا على يد أبوين مطلقين هو نفسه مستوى سعادة الذين تربوا في منازل يُمكن تسميتها بالمستقرة. ثمة عامل بسيط يمكن استخدامه لتوقع مدى رضا الطرفين في العلاقة الزوجية، وذلك من خلال الأشياء التي تتذكرها الزوجة عن قصصها الرومانسية، وخاصة قصص الحب الملحمية التي جرت خلال فترة الخطبة أو المواعدة، فعندما تتحدث الزوجة عن هذه القصص، فإنه يمكن تحليل النبرة والكلمات التي تستخدمها لتوقع مدى سعادتها في العلاقة الزوجية الحالية، وفي هذا الصدد، يُشار إلى أن الزوجة السعيدة تحتفظ بتصوّر إيجابي عن الرومانسية التي عاشتها في فترة الخطبة أو المواعدة، ولكنها قد تنسى التفاصيل الدقيقة لهذه القصص في ظل وجود تفاصيل أخرى جديدة وسعيدة في العلاقة الزوجية الحالية. وعلى الجانب الآخر، إذا كانت الزوجة تتحدث عن قصص الحب السابقة بشكل متكرر وبتفاصيل دقيقة، فقد يشير ذلك إلى عدم رضاها عن العلاقة الزوجية الحالية. أيضا تقل احتمالية الطلاق في حال كان للزوجة حياة نشطة ومنفصلة عن المنزل4.
بكلمات أخرى، لا يوجد ما يُسمى بالهرشة السابعة، إذ إن تقلبات الزواج دائمة ومرتبطة بالعقبات الحقيقية التي تواجه العلاقة، وليس بسنة مُحدّدة بعينها أو بزمن حرج بحدّ ذاته.
شجّع آدم زوجته نادين في البداية على إيجاد عمل تملأ به أيامها لتخلق حياة منفصلة عنه بدلا من قضاء الوقت في انتظار أوقات فراغه، سنغض الطرف عن محاولتها الأولى للعمل مهندسة ديكور، فقد كان الخطأ حينها خطأها الشخصيّ حين عجزت نادين عن فصل ذوقها الخاص عن رغبات عملائها، لكن لننظر إلى عملها الثاني مؤدّية صوتية. وقد كانت نادين حين بدء عملها الثاني تعيش ظروفا مختلفة، فقد أنجبت طفليها، وانقلبت حياتها رأسا على عقب. لذا، ورغم إمكانية جلب مُربّية أو مُساعِدة منزلية للأطفال، أو الاستعانة بالجدات، لم يتسامح آدم مع سيطرة العمل على زوجته. في النهاية يتحوّل الأمر إلى ملحمة من العناد لأجل العناد ومخالفة رغبات الطرف الآخر فحسب. اختفت هوية نادين تماما، وكان هذا سببا آخر أدى إلى فشل الزواج، حتى إن آدم أخبرها أنها ركنته على الرف، أنها أصبحت أمّا فحسب، لكن هذا التحوّل لم يكن مسؤوليتها وحدها. تجرّدت نادين من هويتها الفردية لأنه لم يكن هناك خيار آخر، حتى إن زوجها لم يشملها في نجاحه واهتماماته الجديدة، وظهرت امرأة أخرى5.
أنا مش شغلتي أقعد بالعيال، ولما أعمل ده لازم تقدريه، لماذا تُعد هذه الجملة كارثية؟ حصر آدم مسؤولية نادين وشخصها كله في دور الأم، رغم أنه أردف شاكيا من هذا بالتحديد. نسي كلاهما أنهما زوجان في المقام الأول وليس أبوين. أيضا يعني هذا الكلام أن آدم لم يضع نفسه مكانها ولو لحظة، وهذا هو التمثل أو المواجدة، أن تحكم على تصرفات الآخر بتخيّل نفسك مكانه، وهي شقّ أهمّ من التعاطف الذي لا يسعى سوى إلى رفع معنويات الفرد وتحسين صورته عن ذاته، وآدم لم يتواجد مكان نادين ولم يتعاطف مع دورها، بل في النهاية أقرّ أنه المتوقع والطبيعي منها ببساطة، بل حتى بعد ولادة التوءم، في المشهد الذي تذمرت فيه نادين أنها لم تتمكن حتى من غسل وجهها خلال الخمس دقائق الذي جالس آدم ابنيه فيهما5.
قد يختلف المشاهدون في هذه النقطة. هل فعلا داليا، مُساعِدة آدم في مشروعه الجديد، كانت المرأة الأخرى، أم أن نادين بالغت في رد فعلها ومقارنة نفسها بداليا؟ الخيانة، وإن كانت شعورية، هي من أحد أهم الأسباب التي تؤدي إلى فشل العلاقة. ليس آدم فحسب، بل نادين قررت من تلقاء نفسها ضرب اتفاقهما -وإن بُني على أساس خاطئ- وعادت إلى عملها فور أن رفض آدم الانصياع إلى رغبتها بأن تحلّ محل مساعدته في العمل. الخيانة، وإن كانت ضبابية وغير واضحة، تُعدّ خيانة. وأساس علاقة آدم ونادين هو خروج شخص منتصر أو مستفيد، أيا كان على حساب ماذا أم مَن. لذا، حتى في النهاية، اكتملت أبعاد الخيانة للمشاهد بأن صرّح آدم بمشاعره لداليا بعد طلاقه بثلاثة أشهر5.
بدأ فشل التواصل مع بداية العلاقة، كلما دار شجار بينهما قرر أحدهما التنازل ومصالحة الآخر دون مناقشة ما حدث فعلا. للاعتذار أهميته، لكن إن لم يتبعه تغيير أو إصلاح فلن يُغيّر شيئا. قبل طلاقهما، دار بين آدم ونادين حوار قد يراه البعض القشة الأخيرة، لكن كان حوارا أصم، يُلقي كل طرف باتهاماته واحتياجاته دون محاولة استيعاب الآخر أو سماعه. دار الحوار بشكل هادئ ومتحضّر، لكن النتيجة كانت محددة مُسبقا، لأنهما فشلا في مد جسر للتواصل يقطعه كلاهما.
في النهاية، قد تهجم الهرشة على أي زيجة في السنة الأولى أو الخامسة أو حتى التاسعة، الفارق ليس في عدد السنوات، بل في تقبّل التغيّرات الطارئة على العلاقة، وفي أن يعي كلا الزوجين أن الزواج جسم عضوي مُتغيّر يحتاج إلى عناية وإلى تقبّل التغيّرات التي تطرأ على أحد الأزواج أو كليهما، وذلك من خلال التواصل الفعّال والنقاش الواعي والتعاطف مع أهداف الآخر ورغباته بتحقيق ذاته، والسماح للآخر بأن يخبرك شيئا جديدا عن نفسه بعيدا عن القوالب المُسبقة التي تصهرها به في عقلك، وهكذا فإنّ الزواج محاولة مستمرة لإنجاح الحبّ، محاولة منبعها المودة والرأفة، والإصرار الجادّ لفهم الآخر وتقدير أفكاره ومشاعره. | https://www.aljazeera.net/sukoon/2023/4/16/%d8%a7%d9%84%d9%87%d8%b1%d8%b4%d8%a9-%d8%a7%d9%84%d8%b3%d8%a7%d8%a8%d8%b9%d8%a9-%d9%81%d8%b1%d8%b6%d9%8a%d8%a9-%d8%ba%d9%8a%d8%b1-%d8%b9%d9%84%d9%85%d9%8a%d8%a9-%d8%ad%d9%88%d9%84 | 2023-04-16T10:05:09 | 2024-05-30T09:53:51 | أبعاد |
|
48 | لماذا أراد صدام حسين قتل حافظ الأسد؟ | حكم حزب البعث العربي الاشتراكي العراق وسوريا، وعلى مستوى الأفكار والمنطلقات الفكرية، كان يأمل البعث في نهضة عربية قومية اشتراكية، ولكن على مستوى السلوك السياسي بين بغداد ودمشق، كان الفريقان متصارعين. | في أواخر ستينيات القرن الماضي، سأل الرئيس المصري جمال عبد الناصر المقربين منه مندهشا؛ لماذا لم يتمكَّن البعثيون من الوحدة عندما حكموا بغداد ودمشق؟ وهو سؤال محوري اختزل العلاقة بين سوريا والعراق؛ فقد حكم حزب البعث العربي الاشتراكي كلًّا من العراق وسوريا، وعلى مستوى الأفكار والمنطلقات الفكرية، كان يأمل البعث في نهضة عربية قومية اشتراكية، ولكن على مستوى السلوك السياسي بين بغداد ودمشق، كان الفريقان متصارعين.
وكان من عجائب الأقدار أن كلًّا من صدام حسين وحافظ الأسد قد جاءا إلى سُدّة الحكم من بيئة ريفية هامشية بعيدة عن العاصمة، وأن كليهما استطاع الوصول إلى الرئاسة وقيادة رئاسة الحزب والسلطة بعد انقلابات عسكرية، والقضاء على الخصوم بدموية كبيرة، ولعل هذه السلطوية والمركزية في الحكم هي التي جعلت الصراع بين الرجلين على أشدّه طوال عقدين كاملين فيما بعد، وفوق ذلك الطبيعة الدينية لكلٍّ منهما، فهذا سُني بعثي، وذلك علوي بعثي، هذه الخلفية الدينية كانت مؤثرة في سلوك الإخوة الأعداء ولا شك
كان كلٌّ من العراق وسوريا تحت حكم فصائل بعثية متصارعة، فقد اعتنق العديد من المدنيين والعسكريين في البلدين أفكار حزب البعث العربي الاشتراكي الذي أنشأه ميشيل عفلق وصلاح البيطار منذ أواخر أربعينيات القرن العشرين، ورأوا في أفكاره أملهم للغد.
ورغم نجاح انقلاب البعث السوري عام 1963 ووصوله إلى سُدّة الحكم، وفي العراق عام 1968، فإن انقلاب البعث السوري الثاني بقيادة العلويين وعلى رأسهم حافظ الأسد، ومطاردتهم لرفاقهم القدامى، بل ومنهم مؤسسو الحزب نفسه وعلى رأسهم ميشيل عفلق، جعل الصراع بين بعث سوريا وبعث العراق يشتد ويشتعل.
ورغم محاولات المصالحة بين البعثينِ الحاكمين للعراق وسوريا في عامَيْ 1969 و1972، ودعم العراق لسوريا ضد إسرائيل خلال حرب أكتوبرتشرين الأول 1973، فإن العلاقات الثنائية تدهورت مجددا منذ عام 1975 بسبب انعدام الثقة بين الجانبين.
ولكن بعد اتفاقية كامب ديفيد بين مصر وإسرائيل، رأى حافظ الأسد أن التقارب مع العراق هو الملجأ الوحيد له لإعادة التوازن الإستراتيجي في المنطقة، وفي خلال زيارة دولة قام بها إلى بغداد في أكتوبرتشرين الأول 1978، وقّع الرئيس السوري حافظ الأسد والرئيس العراقي أحمد حسن البكر بشكل مفاجئ على ميثاق العمل الوطني المشترك، الذي شمل بشكل رئيسي أهداف التعاون والتكامل الاقتصادي والعسكري بين البلدين.
كان البكر ينقم على رفيقه ونائبه صدام حسين، ويبحث عن وسيلة للتخلص منه، فلم يجد إلا مشروع الوحدة مع سوريا، ومع هذا المشروع كان ستُرفَع متطلبات جواز السفر والتأشيرات بين الدولتين، وتُفتح الحدود التي كانت مغلقة منذ سنوات، وفي 7 نوفمبرتشرين الثاني 1978، أعلن الطرفان أنه ستُتخد إجراءات فورية نحو التوحيد الكامل بين البلدين الشقيقين.
ولكن رغم الأهمية الكبرى للتعاون العسكري بالنسبة لسوريا، فقد فشلت اللجنة الفرعية المعنية في البداية بسبب الاختلافات وانعدام الثقة المتبادل، إذ لم تكن سوريا راغبة في أن تتمركز القوات العراقية دائما على أراضيها، ولم تكن مستعدة لحل كتائب النخبة التي كانت مخصصة لحماية نظام البعث السوري، كما اختلفت وجهات النظر بشأن شكل الوحدة المنشودة؛ حيث فضَّلت سوريا تحالفا أو كونفدرالية فضفاضة، بينما دفع العراق نحو اتحاد أو تكامل كامل بين البلدين.
وفي 15 ينايركانون الثاني 1979، وافقت سوريا والعراق رسميا على تأسيس اتحاد مشترك، وكان من المقرر أن يكون لهذا الاتحاد اسم علم مشترك، ورئيس مشترك أو مجلس رئاسي، وحكومة اتحادية مشتركة. كما اتُّفِق على أن يتناوب العراقيون والسوريون على منصب الرئيس، حيث تولى البكر منصب الرئيس في البداية، بينما تولى الأسد منصب قائد الحزب في القُطرين ونائب الرئيس.
وكانت الحكومة الفيدرالية ستتولى مسؤولية السياسة الخارجية، والدفاع، والثقافة المشتركة، وكان من المتوقع أن يتكوّن الجيش المشترك للدولتين من 380,000 جندي، و4300 دبابة، و730 مقاتلة، ومع ذلك، ظهرت خلافات بشأن توجهات السياسة الخارجية لهذا الجيش، حيث سعت سوريا لتحقيق توازن عسكري مع إسرائيل ومصر، بينما كان يطمح العراق لرد الثورة الإيرانية وزيادة نفوذها في الخليج العربي.
كان أحمد حسن البكر قد وافق على رئاسة حافظ الأسد للاتحاد الجديد، ويبدو أن هذا السبب هو الذي سرّع من الانقلاب الأبيض الذي قام به نائبه صدام حسين الذي كان يسيطر عمليا على الجيش وقتها، حيث ضغط على البكر لتقديم استقالته بحجة كبر سِنّه في يوليوتموز 1979.
ورغم ذلك، في البداية تمسّك صدام حسين بفكرة التكامل التدريجي، ولكن في 28 يوليوتموز، كشف عن مؤامرة مزعومة للإطاحة بالحكومة العراقية، متهما قوة أجنبية بالتورط، ورغم أن سوريا لم تكن متهمة مباشرة، فإن عملية التطهير داخل حزب البعث العراقي أسفرت عن إعدام العديد من الأعضاء الداعمين للوحدة مع سوريا.
لقد رأى صدام حسين وحافظ الأسد أن كلًّا منهما الأحق بالزعامة في الوطن العربي، ولم يكن يقبل أحدهما أن يكون الآخر زعيما عليه، ولهذا السبب خرج صدام حسين في خطاب تلفزيوني يقول هل مسموح لصدام حسين وحافظ الأسد التنازل عن الرئاسة أمام الشعبين العراقي والسوري، ويجرون انتخابات ديمقراطية لمَن هو مرشّح بإشراف ممثلين عن العرب ككل، ومن يمثل صدام حسين وحافظ الأسد، يفرزون صناديق الاقتراع ككل، هذا أكثر ديمقراطية.
وبسبب الاختلاف دخل العراق وسوريا في مشكلات أخرى فوق الانشقاقات الحزبية، والمنافسة السياسية الجغرافية، فقد وقع الشجار بين الرجلين على مسائل اقتصادية، وحصص كلٍّ منهما في مياه الفرات، وحول أنابيب النفط التي كان كل واحد منها يمر عبر الأراضي السورية ويسيطر عليه الأسد، الأمر الذي أثار حفيظة صدام، وكان العراق قد بنى أنبوبا آخر عبر تركيا مما أثار غضب الأسد.
هذا التنافر الشخصي والفكري والطائفي بين الرجلين جعل كلًّا منهما عدوا للآخر، ومتوجِّسا منه، حتى قرر حافظ الأسد دعم إيران في أثناء الحرب الإيرانية العراقية بين عامي 1980-1988، وهو الأمر الذي يرصده باتريك سيل في كتابه الأسد، الصراع على الشرق الأوسط، ويعدّه الشيء الأكثر جرأة في سياسة الأسد الخارجية، فقد أدى وقوفه مع الثورة الإيرانية إلى إنشاء محور شيعي يمتد من طهران عبر دمشق إلى جنوب لبنان.
وكان الأغرب الذي يرصده سيل أيضا أن حافظ الأسد اعتبر مصادقة الخميني من مقتضيات المصلحة العربية العليا، بل حتى قبل قيام الثورة الإيرانية مدّ حافظ الأسد يد المساعدة إلى بعض مساعدي الخميني، مثل إبراهيم يزدي ومصطفى شمران وصادق قطب زاده، الذين قُدِّر لهم لاحقا أن يعملوا وزراء في الجمهورية الإسلامية الإيرانية، فقد أعطى لكلٍّ منهم جوازَ سفرٍ سوريًّا مَكَّنهم من القيام بنشاطهم بحرية ضد نظام الشاه.
وقد اعتبر صدام حسين مصادقة وتحالف الأسد ودعمه الكبير للخميني والثورة الإيرانية إعلانا للعداء بين سوريا والعراق، وحين انطلقت الحرب العراقية الإيرانية في سبتمبرأيلول 1980، شجب الأسد حرب صدام واعتبرها خاطئة، بل وحماقة ستؤدي إلى تمزق العرب أمام إسرائيل، ولكن وفقا لبتريك سيل فإن الهم الذي كان يُقلق الأسد في السر هو أن يحصل العراق على نصر سريع، فهذه نتيجة ستكون وخيمة وَبيلة.
ولهذا السبب أسرع الأسد إلى السفر نحو موسكو، ومن هناك أعلن مع بريجنيف، زعيم الاتحاد السوفياتي وقتها، تأييد حق إيران الثابت في أن تقرر مصيرها بنفسها بصورة مستقلة وبدون أي تأثير أجنبي. وأمام موقف الأسد العلني في تأييده لإيران في إبان الحرب مع العراق، أمرَ صدام باقتحام القوات العراقية السفارة السورية في بغداد في أغسطسآب 1980، وطرد معظم موظفيها بتهمة تهريب بنادق ومتفجرات لأعداء صدام، وفي 12 أكتوبرتشرين الأول من العام نفسه قطعت بغداد علاقتها مع دمشق وسط سيل من التهجّمات والشتائم.
وشرع صدام فيما اعتبره فضح ممارسات نظام حافظ الأسد على الملأ في الإعلام العراقي، حين قال إن الأسد طلب من العراق الذي كان يشارك في الجبهة السورية وقف إطلاق النار بـجُبنٍ في اليوم الثاني من حرب أكتوبرتشرين الأول سنة 1973، وإنه تدخّل في الحرب الأهلية اللبنانية سنة 1976، وكل ذلك بالتواطؤ والاتفاق مع واشنطن وإسرائيل، وإن حافظ الأسد هو المسؤول الأول عن مجزرة الفلسطينيين في تل الزعتر بلبنان، وإنه المتآمر الأول لتدمير مشروع الوحدة بين سوريا والعراق عام 1979.
وفي القمة العربية التي عُقدت في فاس بالمغرب في أواخر عام 1981، حدثت مناوشة بدأها صدام حسين حين عيَّر الأسد بوقوفه مع إيران ضد دولة عربية، بل وصل الأمر للسّباب العلني، وهو الأمر الذي شهده مصطفى الفقي، سكرتير الرئيس المصري الأسبق حسني مبارك، وكادت الأمور تصل بين الرجلين إلى ما لا يُحمد عقباه لولا تدخل الملك الحسن الثاني ملك المغرب، الذي أصر على تهدئة الأمور بين الرجلين.
ولهذا السبب في العام التالي 1982، قرر حافظ الأسد إغلاق حدود سوريا مع العراق، وكذلك -وهو الأشد- إغلاق الأنبوب الذي ينقل النفط العراقي عبر الأراضي السورية صوب البحر المتوسط، ومنع السوريين من السفر إلى العراق، بل كُتب على جواز السفر السوري ممنوع السفر إلى إسرائيل والعراق، وفي الوقت نفسه عقدَ مع إيران اتفاقا تجاريا واسعا كان يضمن لسوريا الحصول على النفط الإيراني طوال سنوات عديدة وبأسعار تفضيلية، وقد سهّلَ حافظ الأسد من استقبال الإيرانيين والإيرانيات لزيارة مقام السيدة زينب في دمشق، وزيادة التعاون الثقافي والسياسي والاقتصادي بين البلدين.
في دراسة أعدّتها المخابرات الأميركية عام 1984 لفهم جذور الخلافات السورية العراقية، تناولت واشنطن التشابه الكبير في المسيرة السياسية لكلٍّ من حافظ الأسد وصدام حسين، خاصةً في نشأتهما الريفية المشتركة، حيث يعتقد الباحث والمؤرخ الأميركي توماس شوارتز أن شخصية الرجلين كانت ذات تأثير كبير، حيث كان كلاهما قاسيا ويفتقر إلى الثقة في الآخرين. كما يشير شوارتز إلى أن الأسد وصدام كانا يعشقان السيطرة والهيمنة، مما جعل أي تعاون بينهما أمرا مستحيلا.
ولكن في مسعى من الملك حسين، عاهل الأردن، لسد الفجوة بين الأسد وصدام، فقد أصر على إجراء لقاء سري يجمع بينهما في الأردن. ووفقا لمذكرات عبد الحليم خدام، نائب الأسد وقتها، اقترح صدام حسين على حافظ الأسد مناقشة عدة قضايا، شملت الموقف السياسي من اتفاقية كامب ديفيد، وفكرة الوحدة بين البلدين، والتعاون الاقتصادي، وإعطاء الطرفين حق التدخل العسكري إذا تعرض أيٌّ منهما لاحتلال، وأشار خدام إلى أن الأسد أبلغ الأردن بأن الاجتماع سيُعقد في موسكو يوم 21 فبرايرشباط 1987.
وبعد أيام، وافق صدام على عقد الاجتماع، لكنه طلب أن يُجري مندوبان من الجانبين السوري والعراقي لقاء تمهيديا لتحضير جدول الأعمال. وبالفعل، اجتمع وزير الخارجية السوري فاروق الشرع مع نظيره العراقي طارق عزيز في مارسآذار من العام نفسه لمناقشة التحضيرات لقمة تجمع صدام والأسد.
وقد جرى لقاء آخر عُقد في مايوأيار من العام نفسه في الأردن بين صدام والأسد بحضور الملك حسين لمحاولة الصلح بين الطرفين، وإيجاد تفاهمات مشتركة بخصوص مصالح كل دولة، بل وعقد وَحدة مشتركة بين الدول الثلاثة بما فيها الأردن، حتى قال صدام قبل اللقاء ماكو مصافحة وأنا رئيس العراق وسوريا والأردن، ولكن الاجتماع بين صدام والأسد باء بالفشل بسبب انعدام الثقة بينهما، وبسبب رفض الأسد إدانة الجانب الإيراني في الحرب العراقية الإيرانية الدائرة وقتها، واعتقاده أن صدام يبحث عن مصالح العراق فقط دون مصالح سوريا.
الأمر اللافت أن رئيس أركان الجيش العراقي الأسبق، نزار الخزرجي، ذكر في شهادته لأحد البرامج الحوارية أن لقاء آخر كان يُرتَّب للجمع بين الرئيسين صدام والأسد على الحدود العراقية السورية في أواخر الثمانينيات لتقريب وجهات النظر، وطي خلافات الماضي بينهما، وقد حذَّر الخزرجي صدّام حسين بأن حافظ الأسد سليط اللسان وقد يتطاول أثناء كلامه، فما كان من صدام إلا أن وجّه أمره لأحد مرافقيه قائلا إذا تطاول حافظ الأسد فاعتقله على الفور، وإذا قاوم فأطلق عليه الرصاص، الأمر الذي يكشف أن العلاقة بين الرجلين بلغت إلى حد الثأر الشخصي بينهما، وأن صدام كان مستعدا لقتل الأسد لمجرد التطاول عليه.
استمر العداء كما هو حتى وقع زلزال كبير في المنطقة، ففي 2 أغسطسآب 1990، استفاق العالم العربي على حدث ضخم، حين قرر صدام حسين غزو الكويت بعد سلسلة من الخلافات المتصاعدة، مما أدى إلى انهيار علاقاته مع دول الخليج وخسارة كل التعاطف الذي ناله أثناء الحرب مع إيران.
وفي الشهر نفسه، انطلق حافظ الأسد للقاء الرئيس الإيراني وقتها علي أكبر رافسنجاني، وبحسب كتاب عبد الحليم خدام نائب الأسد التحالف السوري الإيراني والمنطقة، فإن كلًّا من إيران وسوريا كانتا تستشعران القلق الشديد من هجوم صدام حسين على الكويت، ليس بسبب مناهضته للقانون الدولي، وتعدّيه على حقوق الغير فقط، بل وخوفا من زيادة سطوة صدام ونفوذه في المنطقة مع سيطرته على البترول الكويتي، وأيضا بسبب ردة فعل الدول الغربية التي ستأتي وتستقر في المنطقة مما يهدد كلًّا من إيران وسوريا.
ولكن حافظ الأسد، نكايةً في غريمه وعدوه اللدود صدام، قرر أن ينضم إلى التحالف الدولي الذي رعته واشنطن لطرد القوات العراقية من الكويت، فقد التقى الأسد مع جورج بوش في جنيف، ومن ثم قررت دمشق رسميا المشاركة في التحالف الدولي، وهُزم العراق في حرب الخليج في العام التالي، كما واجهت بغداد حصارا اقتصاديا وسياسيا مؤثرا في التسعينيات بسبب العقوبات الدولية، وهو الأمر الذي جعل الأسد يشعر بالراحة والطمأنينة من انكسار غريمه صدام.
وبعد سنوات من الشكوك والمؤامرات والعداوة، شهد منتصف التسعينيات عودة التواصل بين الرجلين عبر قنوات غير علنية ولقاءات سرية على مستوى السفراء، حيث تبادلا رسائل سرية كشفت عن رغبة بغداد الشديدة في استعادة العلاقات بين البلدين.
لكن عودة العلاقات جاءت في الوقت بدل الضائع بعد وفاة حافظ سنة 2000، حيث كان نظام صدام حسين يوشك على السقوط، وهو ما حدث في عام 2003 حين انهار نظامه، وتَشكَّل نظام جديد كان لإيران فيه النفوذ الأكبر، الأمر الذي عزَّز من نفوذ وقوة محور طهران دمشق جنوب لبنان.
وذلك قبل أن تندلع الثورة السورية في عام 2011، التي أدت في نهاية المطاف بعد 13 عاما إلى سقوط نظام الأسد الابن، في إعادة لمشهد سقوط نظام صدام حسين، فكان من عجائب الأقدار أن يشهد صعود نظام صدام والأسد المقدمات نفسها، وأيضا يواجه النظامان النتائج عينها، وذلك السقوط والاندثار | https://www.aljazeera.net/politics/2025/1/6/%d9%84%d9%85%d8%a7%d8%b0%d8%a7-%d8%a3%d8%b1%d8%a7%d8%af-%d8%b5%d8%af%d8%a7%d9%85-%d8%ad%d8%b3%d9%8a%d9%86-%d9%82%d8%aa%d9%84-%d8%ad%d8%a7%d9%81%d8%b8-%d8%a7%d9%84%d8%a3%d8%b3%d8%af | 2025-01-06T12:20:50 | 2025-01-06T12:20:50 | أبعاد |
|
49 | أرض الوداع والعلامات السبع لزوال إسرائيل | لاقت نبوءات زوال إسرائيل رواجا كبيرا في أعقاب عملية طوفان الأقصى، التي ضربت نظرية الأمن الإسرائيلي في مقتل ودفعت لإعادة النظر في عوامل التفكك والانهيار الراسخة في بنية الدولة الصهيونية. | في عام 2003، وبينما كانت إسرائيل في خضم مساعيها لوأد انتفاضة الأقصى، وفي وقت كانت تحاصر فيه الرئيس الفلسطيني حينها ياسر عرفات داخل مقر الرئاسة بالمقاطعة في رام الله، كتب أبراهام بورغ، الذي شغل منصب رئيس الكنيست الإسرائيلي لأربع سنوات، قائلا إن هناك احتمالا حقيقيا بأن يكون جيلنا هو الجيل الصهيوني الأخير.
كان بورغ يرى أن المشروع الصهيوني الاستعماري الذي بدأ في القرن التاسع عشر، قد شارف على نهايته، ولم يعد له مكان في القرن الحادي والعشرين. للمفارقة، سوف يتكرر هذا التحذير مرارا على ألسنة الكتاب والمفكرين وحتى القادة السياسيين في إسرائيل خلال العقدين التاليين. مثلا، رصد الكاتب الإسرائيلي آرييه شافيت عام 2021 في كتابه بعنوان بيت ثالث من شعب إلى قبائل إلى شعب، إخفاقات إسرائيل خلال أكثر من 70 عامًا من إنشائها، وتحدث عن أهمية مواجهة الصراعات الداخلية في إسرائيل باعتبار ذلك الفرصة الأخيرة للشعب اليهودي.
في السياق ذاته، أكد رئيس الوزراء السابق نفتالي بينيت في مناشدة من 27 صفحة عام 2022 أن الدولة الإسرائيلية تقف أمام اختبار حقيقي ومفترق طرق تاريخي إما استمرار العمل، وإما العودة للفوضى، لأنها تشهد اليوم حالة غير مسبوقة تقترب من الانهيار، مشيرا إلى أن إسرائيل تفككت مرتين في السابق بسبب الصراعات الداخلية، وهي تقترب من أشد لحظات الانحطاط في حقبتها الثالثة.
تكرر التحذير ذاته على لسان رئيس الوزراء الأسبق إيهود باراك، مستشهدًا في ذلك بـالتاريخ اليهودي الذي يفيد بأنه لم تُعمَّر لليهود دولة أكثر من 80 سنة إلا في فترتين استثنائيتين، فترة الملك داود وفترة الحشمونائيم، وكلتا الفترتين كانتا بداية تفككهما في العقد الثامن.
وقد لاقت هذه النبوءات رواجا كبيرا في العام الأخير في أعقاب عملية طوفان الأقصى، التي ضربت نظرية الأمن الإسرائيلي في مقتل ودفعت لإعادة النظر في عوامل التفكك والانهيار الراسخة في بنية الدولة الصهيونية. كما أن اتفاق وقف إطلاق النار الذي توصل إليه الوسطاء بين جيش الاحتلال وفصائل المقاومة في غزة، دون تحقيق بنيامين نتنياهو وجيش الاحتلال للأهداف التي وضعوها للحرب، فإن ذلك يطرح مزيدا من التساؤلات عن قدرة هذا المشروع على الصمود.
هنا نقدم 7 من هذه العوامل التي رصدها الباحثون والمفكرون المهتمون بمشروع الحركة الصهيونية.
شهدت الأشهر التي سبقت الحرب على قطاع غزة خروج مئات الآلاف من المستوطنين الإسرائيليين إلى الشوارع في مظاهرات حاشدة ضد حكومة رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، وذلك في خضم ما عُرف حينها باسم أزمة التعديلات القضائية. في ذلك الوقت، سعت حكومة نتنياهو لإجراء عدة تعديلات دستورية من شأنها أن تحدّ من صلاحيات السلطة القضائية لصالح السلطة التنفيذية.
وكي نفهم فداحة هذه التغييرات، علينا أن ندرك أولا السياق الذي نبعت منه، سواء بالنظر إلى الحكومة الحالية أو بتاريخ إسرائيل منذ النكبة. فحكومة نتنياهو اليمينية تُعد من أكثر الحكومات تطرفا في تاريخ إسرائيل، إذ جاءت في وقت تعاني فيه أحزاب الصهيونية في الداخل الإسرائيلي من الانقسام أكثر من أي وقت مضى، حيث يحتدم الصراع بين الصهيونية العلمانية والصهيونية الدينية، وهو ما رأى فيه المؤرخ الإسرائيلي إيلان بابيه عنصرا مهمًّا سيكتب سطور نهاية المشروع الصهيوني.
ويشير إلى أن حالة توحّد المجتمع الإسرائيلي الظاهرية التي نشهدها حاليا ستبدأ في التفكك والزوال بانتهاء الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، ثم ما يلبث الصراع الديني العلماني في إسرائيل أن يشتعل مرة أخرى، خاصة في ظل صعود أحزاب أقصى اليمين.
في عام 2015، نشر كلٌّ من بابيه، والمفكر والكاتب الأكاديمي الأميركي نعوم تشومسكي، كتابا مشتركا بعنوان عن فلسطين، عقدا فيه مقاربة تحليلية بين نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا ونظام الفصل العنصري في فلسطين، وناقشا القضيتين باعتبارهما نموذجا في مقاومة الإمبريالية.
وفي الفصل الرابع من الكتاب عن مستقبل دولة إسرائيل، أشار تشومسكي إلى أن السنوات العشر الأخيرة في الداخل الإسرائيلي شهدت تغيرا سياسيا كبيرا، مالت فيه العقلية الإسرائيلية ناحية اليمين القومي المتطرف، وهو الوضع الذي وصفه المفكر الأميركي بأنه مشابه للأيام الأخيرة التي شهدها نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا.
وفي نوفمبرتشرين الثاني 2022، أي بعد نشر هذا الكتاب بنحو 7 سنوات، جاءت نتائج الانتخابات الإسرائيلية لتؤكد هذه الرؤية، بعدما حقق تحالف أقصى اليمين بقيادة بنيامين نتنياهو انتصارا ساحقا، ونال 64 مقعدا من مقاعد الكنيست البالغ عددها 120، وهو ما أعاد نتنياهو إلى السلطة مرة أخرى بعد 18 شهرا من مغادرته إياها.
وقد علق الكاتب والصحفي الإسرائيلي ناحوم برنياع على نتائج هذه الانتخابات في مقال نشرته صحيفة يديعوت أحرونوت، بالقول إنها تمثل بداية النهاية لعصر الصهيونية العلمانية، في حين كتب المدير السابق لمركز غافي للدراسات الإستراتيجية في تل أبيب، يوسي ألفر، مقالا نشرته حركة السلام الآن الإسرائيلية التي تناصر حل الدولتين، استشهد فيه بالرؤية القاتمة لمستقبل إسرائيل التي تنبأ بها العالم والفيلسوف الإسرائيلي يشعياهو ليبوفيتز في أعقاب حرب 1967، عندما قال إن نشوة الفخر المتطرفة التي أعقبت حرب الأيام الستة ستعمل على نقل دولة إسرائيل من نموذج القومية الفخورة الصاعدة، إلى نوع من القومية الدينية المتطرفة، التي ستؤدي بدورها إلى مزيد من العنف، يقود في المرحلة الأخيرة إلى نهاية المشروع الصهيوني.
قامت الدولة الصهيونية على عقيدة أساسية، وهي أن اليهود لا يمكن أن يشعروا بالأمان إلا بوجودهم داخل دولة واحدة يسيطرون على حكومتها وقوانينها، فكان الأمان الهدفَ الأساسي الذي بنى عليه ثيودور هرتزل الفكرة الصهيونية في كتابه دولة اليهود عام 1896، وأعلِن على إثره نشوء إسرائيل عام 1948.
ورغم ذلك، لم تستطع إسرائيل الحفاظ على سلامة اليهود داخل أراضيها، وذلك لعدة أسباب؛ أهمها أنها ما زالت تتبع منطق العنف والاستيطان ذاته الذي اتبعته منذ أكثر من 75 عاما، فاستمرار نظام الفصل العنصري ضد الفلسطينيين، واحتلال أراضيهم وهدم منازلهم وتجريدهم من إنسانيتهم، بالإضافة إلى حروب جيش الاحتلال على مصر والأردن وسوريا ولبنان، وأخيرًا الفشلُ الذريع في عملية طوفان الأقصى، كل هذا نتج عنه فشل إسرائيل في أن تصبح مستقرة وآمنة، وهذا من أهم مؤشرات بداية انهيار المشروع الصهيوني كما يرى المراقبون.
أضف إلى ذلك فشل إسرائيل في أن تصبح دولة لكل اليهود من كل أنحاء العالم كما أراد لها المشروع الصهيوني منذ بدايته، فرغم أن المشهد المُسيطر طوال القرنين 19 و20 تَمثَّل في موجات هجرة اليهود إلى فلسطين، نجد أن القرن 21 يشهد موجة هجرة عكسية من الأراضي المحتلة إلى الولايات المتحدة وأوروبا.
وقد تجاوز عدد المستوطنين الذين رحلوا عن إسرائيل 750 ألفا حتى نهاية عام 2020، وهو عدد وصل إلى 900 ألف بنهاية عام 2022.
ومنذ 7 أكتوبرتشرين الأول 2023، تصاعدت موجات الهجرة خارج إسرائيل بشكل ملحوظ، حيث هاجر قرابة نصف مليون إسرائيلي منذ انطلاق عملية طوفان الأقصى، وفقا لتقارير هيئة السكان والهجرة الإسرائيلية.
وفي السنوات الأخيرة، أشارت العديد من المصادر إلى أن يهود الغرب الذين يسكنون حاليا الولايات المتحدة وأوروبا أكثرُ سعادة من اليهود الذين يقطنون الأراضي المحتلة في فلسطين، وهو أمر انعكس على الجيل الجديد من اليهود، فلم يعد المشروع الصهيوني بالنسبة إليهم معقل الأمان، وهم في ذلك على النقيض من الأجيال السابقة.
منذ بداية العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، شهدت القضية الفلسطينية دعما شعبيا غير مسبوق، خاصة في الغرب، فرأينا المظاهرات الحاشدة تجوب شوارع المدن الأوروبية وترفع أعلام فلسطين في الميادين، في حين ندد المتظاهرون بنظام الفصل العنصري الذي تفرصه إسرائيل على الفلسطينيين.
وقد أشارت صحيفة فايننشال تايمز في مقال نشرته في نوفمبرتشرين الثاني 2023، إلى أن القضية الفلسطينية كانت قد تراجعت خلال السنوات الأخيرة، وغالبا ما قوبلت في الغرب باللامبالاة مع دعم أميركي كامل لإسرائيل، لكن سيطرة مشاهد القصف المروعة لقطاع غزة على منصات الأخبار ووسائل التواصل الاجتماعي، أدت إلى تحولات عميقة في الرأي العام العالمي تجاه القضية الفلسطينية، ازداد على إثرها دعم الديمقراطيين في الولايات المتحدة لفلسطين.
هذا وقد أظهرت استطلاعات الرأي التي أجرتها مؤسسة غالوب الشهيرة عام 2023 تصاعدا كبيرا في دعم الأجيال الصغيرة من الشباب الأميركي للفلسطينيين، وذلك على النقيض من الأجيال الأكبر سنًّا.
ووفقا لبابيه، فإن التحول في الرأي العام العالمي جعل أغلب المتضامنين مع القضية الفلسطينية حاليا على استعداد لتبني سيناريو إنهاء دولة الفصل العنصري، تماما كما حدث مع جنوب أفريقيا، وهو ما عدّه أحد إرهاصات النهاية للمشروع الصهيوني.
في مايوأيار الماضي، قررت 3 دول أوروبية -هي إسبانيا وإيرلندا والنرويج- الاعتراف بدولة فلسطين، في أعقاب الحرب التي شنها جيش الاحتلال الإسرائيلي على قطاع غزة، وهو ما جدد دعوات الاعتراف بالدولة الفلسطينية. وقد انضمت إليها في يونيوحزيران الماضي دولة سلوفينيا، و4 دول أخرى تقع في منطقة الكاريبي، ليرتفع عدد الدول التي اعترفت بفلسطين إلى 146 من أصل 193 دولة في الأمم المتحدة.
هذا هو السيناريو الذي تنبأ به المفكر الدكتور عبد الوهاب المسيري قبل أكثر من 15 عاما، إذ قال في أحد حواراته مع قناة الجزيرة في برنامج بلا حدود إن المشروع الصهيوني غير قادر على حل مشكلة المقاومة الفلسطينية، وسينتهي به الحال أمام المصير ذاته لنظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا، مُعللا ذلك بأن حركات التحرير على مر التاريخ لم تستطع أيُّ قوة هزيمتها، وأن مصير الجيوب الاستيطانية التي لم تتمكن من القضاء على السكان الأصليين كان التفكك والزوال.
وبحسب المسيري، انقسمت هذه الجيوب عبر التاريخ إلى قسمين مستوطنات استطاعت القضاء على السكان الأصليين، مثلما حدث في النمط الاستيطاني بالولايات المتحدة وأستراليا، وبهذه الطريقة نجحوا في البقاء.
وأخرى تشبه نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا، وهو النمط الذي ينطبق على إسرائيل، إذ فشلت إسرائيل في القضاء على الفلسطينيين، وما زالت تحاول تغيير ديمغرافية مدينة القدس وتهويدها رغم مرور أكثر من 75 عاما على بدء الاحتلال.
وهذا ما يؤكده رئيس الكنيست الإسرائيلي السابق أبراهام بورغ، عندما أشار في مقاله إلى أن قمع حركة النضال الفلسطيني لن يقضي عليها، مناديا بالقضاء على نظام الفصل العنصري، لأن سفك دماء الفلسطينيين لن ينتج عنه إلا المزيد من المقاومة، وستدفع إسرائيل جراء ذلك ثمنا باهظا، على حد وصفه.
في كتابهما عن فلسطين، عرض إيلان بابيه ونعوم تشومسكي بعض الحلول والمعالجات التي يمكن للجماعات المناهضة للحركة الصهيونية استغلالها لتحقيق أثر بالغ في معركتها ضد نمط الدولة الاستيطانية لإسرائيل.
في هذا السياق، يدعو الكاتبان حركات النضال الفلسطيني إلى اتخاذ حركات التحرر ضد نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا نموذجا لها، ويحثان على دور حركة المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات بي.دي.أس في قيادة هذا الحراك، من خلال التركيز على الفظائع التي يرتكبها جيش الاحتلال في الضفة الغربية وقطاع غزة.
كما يشير تشومسكي إلى الخطوات الصارمة والجريئة التي اتخذتها حركات التحرر في جنوب أفريقيا وأسهمت في عزل دولة الفصل العنصري دوليا وثقافيا. فعلى سبيل المثال، دعت هذه الحركات إلى وقف السماح بمشاركة جنوب أفريقيا في الفعاليات الرياضية باعتبارها دولة عنصرية، وهو ما جعل نظام الفصل العنصري في نهايته منبوذا، ولم يتلقَّ أي دعم دولي إلا من دولتين فقط، هما الولايات المتحدة وبريطانيا.
ولهذا يدعو تشومسكي حركة المقاطعة إلى توجيه حملاتها نحو الولايات المتحدة لتجريد إسرائيل من الدعم الدولي الأساسي الذي تتلقاه.
وهذا بالضبط ما تناوله الكاتب اليهودي الأميركي ريتشارد روبنستين، في مقاله نهاية الوهم الصهيوني، عندما تحدث عن الأحزاب الصهيونية بشقيها؛ العلمانية والدينية، قائلا إنهما مجرد وجهين لعملة واحدة، يجمعهما هدف مشترك، وهو الحفاظ على تفوق النخبة المهيمنة وسيطرتها، وعندما لا يؤدي أحد النهجين إلى تحقيق النتائج المرجوة، يجري تطبيق النهج الآخر.
ويضيف روبنستين أن الصراعات التي اندلعت على مدار العقدين الماضيين، وبلغت ذروتها بالحرب الوحشية الأخيرة على قطاع غزة، ساهمت بشكل كبير في نزع الشرعية عن إسرائيل، وكشفت حرب الإبادة الجماعية التي تخوضها إسرائيل للتطهير العرقي في فلسطين، وهو ما يترتب عليه مستقبلا تغيرات جذرية في بنية إسرائيل الحالية.
لكن في مرحلةٍ ما قادمة، سيكون على الجميع الصمود والوقوف في وجه الإمبريالية الأميركية من أجل اقتناص حق تقرير المصير، حيث تَعُد الولاياتُ المتحدة إسرائيلَ استثمارا إستراتيجيا لها في منطقة الشرق الأوسط، وهو أمر أشار إليه الدكتور المسيري في كتابه من الانتفاضة إلى حرب التحرير الفلسطينية، مؤكدا أن دعم الولايات المتحدة لإسرائيل يستند إلى حسابات دقيقة تهدف إلى حماية المصالح الأميركية في المنطقة، بدايةً من أسعار النفط إلى صفقات السلاح والاستثمارات. ولهذا فإن تجريد إسرائيل من الدعم الأميركي يُعد الخطوة الأهم في سبيل تحقيق التحرر الفلسطيني.
في ينايركانون الثاني 2023، نشرت صحيفة جيروزاليم بوست الإسرائيلية النتائج الأولية لمسحٍ أجراه معهد التأمين الوطني الإسرائيلي، وجاء فيها أن 20 من الإسرائيليين يعيشون تحت خط الفقر. ووفقا لتقارير عام 2021، أفاد نحو 30 من النساء والرجال أنهم يشعرون بالفقر، أي ثلث مواطني الداخل الإسرائيلي.
وكان هذا عاملا من عوامل سقوط المشروع الصهيوني التي أوردها بابيه في حديثه، إذ أشار إلى أن قدرة إسرائيل على الصمود اقتصاديا لن تبقى طويلا، مُتنبئا بزيادة معدلات الفقر في السنوات التالية، وهو أمر سيُعجّل بانهيارإسرائيل من الداخل، بحسبه.
قبل سنوات، تحدث عبد الوهاب المسيري أيضًا عن النتائج المترتبة على فقر المجتمع الإسرائيلي، وكيف سيصبح عاملا مساعدا على الهجرة العكسية من الأراضي المحتلة إلى دول الغرب بحثا عن رغد العيش.
أضف إلى ذلك تقلص أعداد الوافدين الجدد من المهاجرين، حيث قال إن الجيوب الاستيطانية من أجل بقائها تحتاج دائما إلى الهجرة، وإسرائيل دولة استيطانية عنصرية قائمة على العنف، وهي بحاجة إلى العنصر البشري لتظل آلة القتال دائرة، وهذا ما سيجعل إسرائيل تواجه في المستقبل أزمة كبيرة، وفقا للمسيري.
يعرض المسيري في كتابه انهيار إسرائيل من الداخل عدة مؤشرات مهمة اعتبرها المفكر الراحل إيذانا ببداية نهاية المشروع الصهيوني، حيث إن الجيوب الاستيطانية التي عمل الغرب على غرسها وسط مجتمعات أفريقيا وآسيا؛ هي بالأساس أشبه بقاعدة عسكرية للدفاع عن مصالح الدول العظمى الاستعمارية، وهو ما يفرض عليها الاستناد بشكل كامل إلى قوتها العسكرية، إذ صُمّمت لتكون آلات قتال كما ذكرنا سابقا.
ومن أجل ذلك عملت الدولة الصهيونية النائشة منذ تأسيسها عام 1948 على غرس فكرة التجنيد الإجباري بين المستوطنين الشباب، وقد استغلت في ذلك الحس القومي والديني الذي يتميز به صغار السن، وعمدت إلى ترويج أساطير وخرافات مفادها أن دولة إسرائيل بحاجة دائمة إلى الدفاع عن نفسها أمام جيرانها العرب، الذين يستهدفونها ويحيطون بها من كل جانب، الأمر الذي جعل التطوع في صفوف قوات النخبة من الأعمال المرموقة، وفقا للمسيري.
لكن الوضع قد تغير في العقود القليلة الماضية، وانخفضت الروح القتالية لدى الشباب، مما دفعهم إلى الفرار من الخدمة العسكرية، وهو ما عدّه المسيري مؤشرا مهمًّا على قرب زوال الكيان الصهيوني، خاصة أن مسألة القوة العسكرية تُعد بالنسبة لجيش الاحتلال مسألة وجودية.
ففي عام 1997، نشأت حركة شبابية جديدة تدعو إلى إلغاء التجنيد الإجباري، تحت اسم بروفايل جديد، بينما يشير استطلاع رأي أجري عام 2000، إلى أن ثلث الشباب الإسرائيلي صرَّح برغبته في تحاشي الخدمة العسكرية.
وبعد مرور 25 عاما على هذا الاستطلاع، نستطيع أن نرى نتائج ذلك في غضون الحرب الأخيرة التي يشنها الجيش الإسرائيلي على غزة. ففي يونيوحزيران الماضي، وقَّع عشرات من جنود الاحتياط الإسرائيليين أول رسالة لرفض الخدمة العسكرية في القطاع.
وفي نهاية ديسمبركانون الأول 2023، حُكم على الشاب الإسرائيلي تال ميتنيك 18 عاما بالسَّجن 30 يوما، لرفضه التجنيد في الجيش أو المشاركة في الحرب الراهنة على غزة، بعدما اعتبرها حملة انتقامية. وقد لجأت إسرائيل في الآونة الأخيرة إلى تجنيد الأفارقة من طالبي اللجوء، بعدما عرضت عليهم منحهم إقامة دائمة مقابل المشاركة في المجهود الحربي داخل غزة.
بنى المشروع الصهيوني استعماره للأراضي الفلسطينية بديلا للاستعمار البريطاني، فبحسب ما ذكره المؤرخ الفرنسي ماكسيم رودنسون في دراسته فلسطين.. حالة فريدة في تاريخ إنهاء الاستعمار، تمتَّع المشروع الصهيوني بحماية القوة البريطانية المهيمنة، التي ساعدت المستوطنين الجدد على تكوين وجود خاص بهم بشكل منفصل ومهيمن، وذلك بالتوازي مع قمع واضطهاد الوجود الفلسطيني.
فكانت بريطانيا هي مَن وضع حجر الأساس للوضع المتأزم الذي نشهده حاليا. ورغم جلاء الاستعمار البريطاني، فإن الفلسطينيين لم يُمنَحوا يوما حريتهم.
وقد استقى الاستعمار الصهيوني أفكاره من أسس الإمبريالية الأوروبية للقرن 19، ويرى كثير من المؤرخين والمفكرين أن استمرار المشروع الصهيوني لأكثر من 70 عاما لا يعود إلى نجاح المشروع في حد ذاته، بل إن سبب استمراره الجوهري والمفصلي هو الدعم الخارجي الأميركي والبريطاني، الذي جعل وجود إسرائيل يعتمد على الغرب تقريبا في كل المناحي.
ولولا ذلك ما كانت إسرائيل موجودة حتى يومنا هذا. ولكن للسبب ذاته تقريبا، نجد أن المجتمع الإسرائيلي من الداخل أصبح يعاني من الهشاشة، فهو مجتمع مليء بالمشكلات والأزمات الاقتصادية والاجتماعية، يعيش أفراده في خوف، مع قدر قليل جدا من الشعور بالأمان.
وفي مقال له نُشر على صفحات الجزيرة نت عام 2006 بعنوان نهاية إسرائيل، يشير الدكتور عبد الوهاب المسيري إلى أن مسألة زوال إسرائيل متجذرة في وجدان المجتمع الصهيوني، حتى قبل إقامة دولتهم، حيث أدرك كثير من الصهاينة أن حلم المشروع الصهيوني سيتحول في نهايته إلى كابوس، وهو أمر حاضر في الأدبيات الإسرائيلية.
ففي قصة الروائي الإسرائيلي أبراهام يهوشوا في مواجهة الغابة، ترمز الغابة التي احترقت في النهاية، بعدما أضرم النار فيها رجل عربي أصيب بعاهة إبان المجازر التي ارتكبتها العصابات الصهيونية في حق القرى الفلسطينية عام 1948؛ إلى إسرائيل.
وفي ذروة الانتشاء الصهيوني بالنصر الذي حققه جيش الاحتلال في حرب عام 1967، قال رئيس الوزراء الإسرائيلي حينذاك، إسحق رابين، للجنرال أندريه بوفر أثناء مشاهدته صحراء سيناء من طائرته المحلقة لكنْ ما الذي سيبقى من كل هذا؟.
ومع اليقين المتجذر بزوال إسرائيل في الداخل، كان صعود تيار ما بعد الصهيونية في إسرائيل إبان ثمانينيات القرن الماضي قد وضع المشروع الصهيوني على المحك، فهو في الدراسات الفلسفية الغربية يعني نهاية الصهيونية، ويكسر تابوهات المجتمع الإسرائيلي.
ولهذا عُدَّ هذا الجيل داخل إسرائيل معاديا للدولة وشرعية وجودها، وهذا لأنهم أعادوا النظر في جوهر الفكر الصهيوني وقاموا بتفكيكه، كاشفين عن التناقضات التي تعج بها فكرة إسرائيل.
وكان من أبرز رواد هذا التيار إيلان بابيه، الذي اشتهر بمؤلفاته القيمة، مثل كتابَيْه التطهير العرقي للفلسطينيين، و10 خرافات عن إسرائيل، إلى جانب عدة أبحاثٍ كان أحدها دراسة بعنوان ما بعد الصهيونية.. توجهات جديدة في الخطاب الأكاديمي الإسرائيلي حول الفلسطينيين والعرب، التي تناول فيها بالبحث جيل ما بعد الصهيونية من المؤرخين والمفكرين الإسرائيليين، وكيف استطاعوا تحدي السردية الإسرائيلية السائدة والقائمة لسنوات طويلة على شرعنة الاحتلال، وغض الطرف عن التهجير القسري والإبادة الجماعية للفلسطينيين. | https://www.aljazeera.net/culture/2024/11/1/%d8%a3%d8%b1%d8%b6-%d8%a7%d9%84%d9%88%d8%af%d8%a7%d8%b9-%d9%88%d8%a7%d9%84%d8%b9%d9%84%d8%a7%d9%85%d8%a7%d8%aa-%d8%a7%d9%84%d8%b3%d8%a8%d8%b9-%d9%84%d8%b2%d9%88%d8%a7%d9%84 | 2024-11-01T17:17:58 | 2025-01-15T20:35:32 | أبعاد |
|
50 | التنين وإسرائيل.. من أرض الميعاد الصينية إلى زمان طوفان الأقصى | أصبحت إدارة العلاقة مع إسرائيل اليوم بالنسبة إلى شي جين بينغ طريقة للمناورة في مواجهة الولايات المتحدة. وهي عبر هذه المناورات لا تسعى إلى كسب دعم واشنطن بقدر ما تهدف إلى تقويضها وإضعافها. | هناك حكاية قديمة وغير متداولة كثيرا يمكنها أن تفسر مسار العلاقات بين الصين ودولة الاحتلال الإسرائيلي. بدأت الأحداث برسالة بعثها سون كي -وهو مسؤول تشريعي صيني مرموق وعضو في المجلس الأعلى للدفاع الوطني ونجل مؤسس الصين الحديثة وأول رئيس لجمهورية الصين سون يات سن- إلى مكتب الشؤون المدنية الحكومي حوت مقترحا بدا للوهلة الأولى غريبا وغير مألوف لماذا لا تستضيف الصين اليهود الفارين من بطش النازيين في أوروبا وتقدم لهم وطنا بديلا، عوضا عن خطط البريطانيين لتوطينهم في فلسطين، التي يرفضها العرب وتثير الكثير من العنف والمواجهات الدامية؟
كان ذلك في عام 1939، والحرب العالمية الثانية تطرق أبواب العالم، وبعد نحو عامين من بداية الغزو الياباني للأراضي الصينية ضمن الحرب اليابانية الصينية الثانية. بالطبع لم يكن اقتراح سون كي نابعا من دوافع صينية خيّرة بقدر ما فرضته دواعي إستراتيجية من وجهة نظره. بادئ ذي بدء، ومن خلال استضافتها لليهود الفارين، يمكن لبكين الاستفادة من الدعم الأميركي والبريطاني في مواجهة الغزاة اليابانيين، الذين استولوا على شنغهاي وسيطروا على الساحل الصيني كله بحلول ذلك الوقت.
وفضلا عن ذلك، اعتقد سون كي أن اللاجئين اليهود لديهم ما يقدمونه للصين اقتصاديا بفضل خلفيتهم المالية القوية ومواهبهم العديدة، على حد تعبيره. هذا فضلا عن الدعاية الكبيرة التي ستحصل عليها الصين في الغرب لإسهامها في حل المعضلة اليهودية وتوفير وطن بديل لليهود الفارين.
بحلول ذلك الوقت، كانت الصين قد استضافت بالفعل ما بين 20 و25 ألف لاجئ يهودي تركز معظمهم في شنغهاي، لكن خطط سون كي كانت أوسع من ذلك بكثير، إذ كان المسؤول الصيني يأمل استضافة 100 ألف يهودي، ليس في شنغهاي هذه المرة ولكن في مقاطعة يونان عند سفوح جبال الهيمالايا، وهي مقاطعة حدودية ذات مناخ معتدل وطبيعة خلابة وفيها ما يكفي من الأراضي الصالحة للزراعة لاستيعاب عشرات الآلاف من اللاجئين الجدد؛ مما يجعلها بمثابة أرض الميعاد الصينية لليهود.
بيد أن فكرة توطين اليهود في الصين لم تكن جديدة تماما، ويُعتقد أن سون كي التقطها بطريقة ما من طبيب أسنان أميركي من بروكلين يُدعى موريس ويليام سبق أن طرحها على الفيزيائي الشهير ألبرت أينشتاين قبل 5 سنوات من اقتراح سون كي. لقد اعتقد ويليام -وهو اعتقاد وافقه عليه أينشتاين بقوة- أن الصين هي الأمل الحقيقي الوحيد لـضحايا هتلر، ليس فقط لكون كلا الشعبين، الصيني واليهودي، ينتميان إلى ثقافات تعود إلى العصور القديمة، ولكن أيضا لأن الصين لا تزال بلدا شابا يكافح من أجل تحويل نفسه إلى دولة حديثة، وربما يكون على استعداد لإفساح المجال للمستوطنين اليهود.
وجدت رؤية ويليام طريقها إلى حزب الكومينتانغ الصيني الحاكم آنذاك، لكن قادة الحزب أظهروا تقبلا محدودا للفكرة في البداية بسبب تقديرهم لعلاقاتهم مع ألمانيا، التي كثفت مساعداتها العسكرية والاقتصادية للصين بعد سيطرة النازيين على السلطة، ومخاوفهم من أن استقبال اليهود سوف يفسر في برلين على أنه إساءة للحكومة الألمانية، حتى إن بكين، ممثلة في مجلس بلدية شنغهاي، سارعت إلى إبداء انزعاجها من تزايد تدفق اليهود.
الأهم من ذلك أن أصواتا داخل الحكومة الصينية حذرت من أن حكم الصين لمستوطنتها اليهودية المُقترحة سوف يكون صعبا على المدى الطويل وأن اليهود سوف يطالبون عاجلا أو آجلا بالحكم الذاتي. وأخيرا، خشي المسؤولون الصينيون أن استقبال اليهود سوف يضعف موقفهم في مواجهة الدعاية اليابانية الفاشية التي تركز على اتهام الصين بالشيوعية، وتضع اليهود مع الشيوعية في خانة واحدة في كثير من الأحيان.
لكن الوعد باحتمال جذب المساعدات العسكرية الأميركية أثبت في النهاية أنه أقوى من هذه المخاوف، وفي مارسآذار 1939 وافق حزب الكومينتانغ على اقتراح سون كي وبدأ نشر خطة يونان في الصحافة الصينية والأميركية، وشكلت الصين لجانا خاصة لوضع شروط منح الجنسية الصينية للمهاجرين الجدد وشروط قبولهم وتحديد الأولويات وطرق التوطين، بيد أن الخطة الصينية تعطلت لأسباب غير محددة بوضوح، ربما يكون أرجحها هو تقاعس الولايات المتحدة في زمان روزفلت عن توفير التمويل اللازم للخطة، وتضارب الأصوات بشأنها بين الصينيين.
في النهاية، كانت حادثة بيرل هاربر -وليست خطة توطين اليهود- هي التي دفعت الولايات المتحدة وبريطانيا إلى دعم الصين، لتنتهي الحرب بهزيمة اليابان، لكن حزب الكومينتانغ خرج بعدها أضعف من أن يحكم. وقد استغل الحزب الشيوعي الصيني بقيادة ماو تسي تونغ هذا الضعف ليفرض سيطرته على البلاد منذ عام 1949 حتى اليوم، مجبرا سون كي ورفاقه على الفرار إلى تايوان.
هناك القليل مما يجمع الحزب الشيوعي اليوم مع حزب الكومينتانغ في الثلاثينيات لكن من المسائل القليلة التي توحد الطرفين على الأرجح طريقة تعامل كل منهما مع اليهود وإسرائيل ليس كعلاقة متبادلة وقائمة بذاتها بين طرفين مستقلين، ولكن كبطاقة وظيفية في سياق جيوسياسي أوسع يتجاوز العلاقات الثنائية. بالنسبة إلى القوميين الصينيين، كان الوعد باستضافة اليهود ورقة مهمة للحصول على الدعم الأميركي والبريطاني في الحرب، وترسيخ صورتهم الدعائية في الغرب، وبصورة مماثلة تماما، أصبحت إدارة العلاقة مع إسرائيل اليوم بالنسبة إلى شي جين بينغ ورفاقه من أحفاد ماو طريقة للمناورة في مواجهة الولايات المتحدة. الفارق الرئيسي هو أن الصين اليوم أقوى بكثير من تلك الدولة الهشة زمان الحرب العالمية الثانية، وأن مناوراتها لا تسعى إلى كسب دعم واشنطن بقدر ما تهدف إلى تقويضها وإضعافها.
افتتحت العلاقات الدبلوماسية بين الصين الشيوعية ودولة الاحتلال الإسرائيلي ببادرة غزل دبلوماسي من قبل الدولة الصهيونية الوليدة التي سارعت إلى الاعتراف بجمهورية الصين الشعبية عام 1950 فكانت من أوائل الدول غير الشيوعية التي تتخذ هذه الخطوة، وفي وقت لاحق من العام نفسه التقى المسؤولون الصينيون والإسرائيليون في موسكو لاستكشاف العلاقات الدبلوماسية، بيد أن اندلاع الحرب الكورية ومشاركة الصين فيها، واحتدام المواجهة العالمية بين الشيوعية والرأسمالية تسببت في وأد المغامرة الدبلوماسية بين بكين وتل أبيب في مهدها.
طوال عهد ماو تسي تونغ تقريبا 1949 1976، تنكرت الصين لإسرائيل ضمن نبذها للعالم الغربي الرأسمالي، حيث رأت بكين الدولة الصهيونية بوصفها أحد قواعد الإمبريالية الغربية في الشرق، وفي المقابل فإنها دعمت الأنظمة القومية والماركسية في مصر والجزائر وجنوب اليمن وسوريا فضلا عن حركات التحرر الوطني وفي مقدمتها النضال الفلسطيني. وتجلى هذا الدعم في جهود وزير الخارجية الصيني تشو إن لاي لإدراج القضية الفلسطينية على جدول أعمال المؤتمر الأفروآسيوي في باندونغ عام 1955 بوصفه رمزا لدعم بكين لنضالات الشعوب المضطهدة.
وبحلول عام 1965، توجت الصين تضامنها مع الفلسطينيين باعترافها الرسمي بمنظمة التحرير الفلسطينية بعد أشهر من تأسيسها وهي أول دولة غير عربية تعترف بالمنظمة.
قدمت الصين في عهد ماو وخلفه دنغ شياو بينغ دعما من الأموال والأسلحة يصعب الوقوف على حجمه لمنظمة التحرير وزعيمها ياسر عرفات، وظلت حتى مطلع السبعينيات وفية لسياسة نبذ إسرائيل، فرفضت منح تأشيرات للإسرائيليين ما لم يحملوا جواز سفر دولة أخرى، وتجنبت الانخراط في أي علاقة دبلوماسية أو عسكرية أو اقتصادية رسمية مع دولة الاحتلال.
لكن هذه السياسة بدأت في التغير في أعقاب الانقسام الصيني السوفيتي ورحيل ماو تسي تونغ والقيادة الأكثر تشددا في الحزب الشيوعي، وتحسن العلاقات بين الولايات المتحدة والصين وصولا إلى استعادة العلاقات الدبلوماسية في عام 1979، حيث خففت الصين قيود السفر عن الإسرائيليين، في حين صوتت إسرائيل لقبول عضوية الصين في الأمم المتحدة وأعادت فتح قنصليتها في هونغ كونغ كانت تحت الإدارة البريطانية آنذاك، لتصبح النقطة الرئيسية للاتصال الدبلوماسي والاقتصادي مع بكين.
بالتزامن، دشن الطرفان علاقة عسكرية متنامية في السر، تضمنت بيع إسرائيل التكنولوجيا اللازمة لتحديث الدبابات والطائرات الصينية في الثمانينيات. ويُعتقد أن شركة الصناعات الفضائية الإسرائيلية باعت التقنيات المتعلقة بالطائرة لافي -وهي مقاتلة جيل رابع متعددة المهام- للصينيين الذين استفادوا منها في تطوير الطائرة تشينغدو جيه 10، وبالمجمل ساعدت التقنية والخبرات الإسرائيلية على تحديث الجيش الصيني والقوات الجوية، وفي المقابل حصلت إسرائيل على الأموال الصينية اللازمة لتمويل برامج الأسلحة المحلية العالية التقنية.
مهّد هذا التعاون الطريق لعلاقات أكثر علنية بين الطرفين عبر افتتاح مكاتب تمثيلية في بكين وتل أبيب عملت سفارات بحكم الواقع. عُرف المكتب الإسرائيلي باسم مكتب الاتصال للأكاديمية الإسرائيلية للعلوم والإنسانيات، وافتتح في يونيوحزيران 1990، ولحقه في العام نفسه المكتب الصيني في تل أبيب وهو فرع لخدمة السفر الدولية الصينية.
وفي ينايركانون الثاني 1992، تُوّجت العلاقات باعتراف الصين الرسمي بإسرائيل وإقامة علاقات دبلوماسية كاملة بين الطرفين، ومنذ ذلك الحين قام أربعة رؤساء إسرائيليين وثلاثة رؤساء وزراء -منهم بنيامين نتنياهو في مارسآذار 2017- بزيارات رسمية وشبه رسمية للصين. ورغم ذلك، حافظت بكين على الخطوط العريضة لسياستها تجاه القضية الفلسطينية، على المستوى الخطابي على الأقل، فتمسكت بالمطالبة بقيام دولة فلسطينية كسبيل أوحد لحل الصراع، ونادت باستئناف المفاوضات والحلول السلمية، ونددت غير ما مرة بالاعتداءات الإسرائيلية على الفلسطينيين.
رغم مرور أكثر من 3 عقود على العلاقات الدبلوماسية الكاملة بين الصين ودولة الاحتلال الإسرائيلي؛ ظلت النفعية هي العنوان الرئيسي لهذه العلاقات، التي تمحورت بشكل رئيسي حول الاقتصاد، وبالأخص التكنولوجيا، ولم تثمر تقاربا دبلوماسيا في الملفات الحساسة لكلا الطرفين. من جانبها حافظت الصين إجمالا على خطابها بشأن القضية الفلسطينية من انتقاد إسرائيل لبناء الجدار العازل في الضفة الغربية، وإدانة غارتها على أسطول الحرية عام 2010، والتصويت لصالح تحقيق الأمم المتحدة في جرائم الحرب الإٍسرائيلية بعد العدوان على غزة عام 2014 مرروا بتوبيخ إسرائيل بشأن تصرفاتها في سوريا ولبنان، كما امتنعت عن تصنيف حركة المقاومة الإسلامية حماس وحزب الله منظمتين إرهابيتين رغم الضغوط الغربية، واعتبرتهما ممثلين لقطاعات واسعة من الشعبين الفلسطيني واللبناني. على الجهة المقابلة، ظلت تل أبيب وفية لتحالفها مع الولايات المتحدة بما يشمل تصويتها ضد الصين في المحافل الدولية، وإدانة انتهاكاتها ضد المسلمين الإيغور.
كان الاتفاق غير المكتوب بين البلدين إذن هو فصل الملفات الاقتصادية عن المواقف السياسية، وهو موقف أفاد الصين أكثر بكثير مما أفاد إسرائيل التي تعرضت لضغوط أميركية كبيرة لتقليص علاقاتها مع بكين، واتُّهمت بالافتقار إلى إستراتيجية متماسكة للتعامل مع الصين بل وبغياب الفهم الكامل لحقيقة طموحات بكين ودوافعها. وقد أثمر هذا الاتفاق الضمني توسعا سريعا في التجارة الثنائية لتصبح الصين ثاني أكبر شريك تجاري لإسرائيل بعد الولايات المتحدة إثر زيادة حجم التجارة بين البلدين بنسبة 130 بين عامي 2013 و2022 لتصل إلى أعلى مستوى لها على الإطلاق عند 17.6 مليار دولار أميركي.
تأتي معظم أموال التبادل التجاري بين البلدين من الواردات الصينية إلى دولة الاحتلال الإسرائيلي، لكن ما يهم أكثر بشأن هذه العلاقة هو ما استفادته بكين من تل أبيب وهو ما تكشفه أرقام الاستثمارات الصينية أكثر من بيانات التبادل التجاري. على سبيل المثال في عام 2018 أبرمت الصين 73 صفقة استثمار أجنبي مباشر في مجالات التكنولوجيا المتقدمة في دولة الاحتلال، وهو توجه هيمن على مسار العلاقات خلال العقدين الأخيرين، إذ يرصد معهد دراسات الأمن القومي الإسرائيلي زيادة مطّردة في الاستثمارات وعمليات الدمج والاستحواذ الصينية في قطاع التقنية الإسرائيلي بين عامي 2007 و2020.
وكذلك تشير دراسة لمؤسسة راند بين عامي 2011 و2018 إلى أن الشركات الصينية استثمرت ما لا يقل عن 5.9 مليارات دولار في قطاع التقنية الإسرائيلي، ومن بينها شركات ذات ارتباط مباشر وغير مباشر بالدولة والجيش، مثل هواوي وزد تي إي وليجند وعلي بابا وشاومي وكونغ شي وغيرها.
تركزت استثمارات الشركات الصينية على مجالات الحوسبة السحابية، والذكاء الاصطناعي، وأشباه الموصلات، وشبكات الاتصالات، ومعظمها تُصنف ضمن إطار التقنيات ذات الاستخدام المزدوج التي يمكن توظيفها في أغراض مدنية وعسكرية على السواء.
رافقت هذه الاستثمارات مجموعة من الشراكات العلمية والبحثية دارت حول المجالات نفسها. فمثلا، أنشأ معهد تخنيون الإسرائيلي للتكنولوجيا وجامعة شانتو في الصين فرعًا جامعيًّا في مقاطعة غوانغدونغ الصينية، وعلى نحو مماثل، قامت جامعة حيفا العبرية وجامعة شرق الصين العادية بتدشين معهد بحثي مشترك في شنغهاي، كما أنشأت جامعة بن غوريون في النقب وجامعة جيلين مركزًا مشتركًا لريادة الأعمال والابتكار، وتعاونت جامعة تل أبيب مع جامعة تسينغهوا في بكين لبناء مركز أبحاث يركز على مجالات التكنولوجيا الحيوية والطاقة الشمسية والمياه والتقنيات البيئية.
وفرت هذه الاستثمارات والشراكات بابا خلفيا للصين للحصول على التكنولوجيا الغربية التي حُرمت منها بسبب القوانين والقرارات التي حظرت الوصول الصيني إلى التقنيات المتقدمة في أميركا وأوروبا ووضعت قيودا على تعاملات الشركات الغربية مع بكين. فبالنسبة إلى الصين كانت إسرائيل بمثابة بحيرة لاغتراف التقنيات الغربية لكن مع قدر أقل بكثير من القيود والتدقيق بالنظر إلى حقيقة أن قطاع التكنولوجيا في إسرائيل يندمج بشكل وثيق في عالم التكنولوجيا الغربي، وتتعاون الشركات الإسرائيلية مع نظيراتها الأميركية والأوروبية، وتمتلك هذه الشركات، جنبا إلى جنب مع صناديق رأس المال الاستثماري الغربية مكاتب خاصة في إسرائيل.
في مقابل ذلك، جنت إسرائيل الكثير من الفوائد المادية التي لم تمانع الصين في تقديمها واستفادت من نمو حركة السياحة الصينية إلى تل أبيب، بعدما زار أكثر من 150 ألف سائح صيني دولة الاحتلال عام 2019، وهو أكبر عدد من السياح في تاريخ العلاقات بين البلدين.
لكن شهر العسل التقني ذاك يبدو أنه انتهى أو شارف على الانتهاء. وحتى قبل عملية طوفان الأقصى في 7 أكتوبرتشرين الأول 2023، بدأت العلاقات الاقتصادية بين الطرفين تظهر علامات تراجع نسبي، حيث انخفضت التجارة عام 2023 بنسبة 18 عن العام السابق إلى 14.6 مليار دولار، في حين انخفض عدد صفقات الاستثمار الأجنبي المباشر بشكل مطرد منذ عام 2019 ليسجل 18 صفقة فقط عام 2022، وهو ما يعني أن صورة إسرائيل باعتبارها مركزًا للابتكار وأمة للشركات الناشئة بدأت في التآكل، على الأقل من وجهة نظر بكين.
من الأسباب الرئيسية وراء هذا التراجع أن إسرائيل بدأت ترضخ للضغوط الأميركية بتقليص استثمارات الصين واستحواذاتها في مجال التقنية، وهي مسألة طالما أثارت الخلاف بين واشنطن وتل أبيب. مثلا في عام 1999، انهارت صفقة لبيع طائرات فالكون الإسرائيلية للإنذار المبكر بسبب ضغوط واشنطن، وفي عام 2004 اضطرت دولة الاحتلال إلى رفض طلب بكين تحديث طائرات هاربي المسيّرة الإسرائيلية الصنع وإعادتها إلى الصين دون تحديث بعد أن طالب البنتاغون بمصادرتها.
ومن الواضح أن الخلافات حول هذا الملف أصبحت أكثر حدة وأن الضغوط الأميركية صارت أكبر من أن تُقاوم، وهو ما دفع تل أبيب إلى عرقلة العديد من صفقات الاستحواذ المرتبطة بالصين وإنشاء نظام جديد للاستثمار الداخلي عام 2019 يراعي دواعي الأمن القومي. وكانت المحصلة النهائية لكل ذلك هي تراجع الحضور الصيني في سوق التقنية الإسرائيلي وبالتالي تراجع الأهمية الوظيفية لإسرائيل لدى الصينيين. ويمكن القول إن عام 2018 هو النقطة التي بدأت عندها الشراكة التقنية بين البلدين في التراجع، ودخلت معها العلاقات الثنائية في طور جديد من البرود.
مع تراجع الفائدة الوظيفية التكنولوجية لإسرائيل، أصبح من المرجح أن تتقلص مكانة دولة الاحتلال في السياسة الرسمية الصينية تدريجيا إلى ما قبل عهد طفرة التكنولوجيا.
صحيح أن البنية التحتية للعلاقات الاقتصادية الثنائية التي تأسست خلال العقدين الماضيين ليس من السهل تجاوزها وأنها تجعل القطيعة الكلية أو حتى الجفاء الكامل بين الطرفين غير محتملَين، لكن لا يُستبعد أن تكتسي العلاقة مع إسرائيل في المستقبل القريب في بكين بنفس ثوبها في عصر الكومينتانغ ورقة مناورة لتحقيق أهداف الصين في الفضاء الجيوسياسي الأوسع، وفي مقدمة هذه الأهداف تقويض النفوذ العالمي للولايات المتحدة ورفع مكانة الصين وسط دول ما يُعرف بـالجنوب العالمي.
يمكن لهذه النظرة الواسعة أن تفسر السياسة الصينية تجاه الحرب الأخيرة في قطاع غزة، والتصريحات الرسمية لبكين التي بدت بالنسبة للمراقبين في الغرب -وفي تل أبيب نفسها بالطبع- مفاجئة في عدائها لإسرائيل. بداية، امتنعت الصين عن إصدار أي إدانة صريحة لحركة حماس وفصائل المقاومة الفلسطينية بعد عملية طوفان الأقصى، وعلى النقيض سارع المسؤولون الصينيون إلى التأكيد على أن الغارات الجوية الإسرائيلية تجاوزت الدفاع عن النفس وأدانوها باعتبارها عقابًا جماعيًّا للفلسطينيين، في حين ألقت وسائل الإعلام الصينية باللوم على الولايات المتحدة في تأجيج الصراع.
ليس هذا فحسب، بل إن المسؤولين الصينيين حرصوا على الإشارة إلى السبب الجذري للصراع وهو أن القضية الفلسطينية لم تتم تسويتها بشكل عادل بعد كما جاء على لسان تشاي جون، المبعوث الخاص للحكومة الصينية إلى الشرق الأوسط، أما ذروة سنام التصريحات الصينية، فجاءت على لسان ما شينمين، المدير العام لإدارة المعاهدات والقانون بوزارة الخارجية، أمام محكمة العدل الدولية في فبرايرشباط الماضي مؤكدًا أن الصراع الفلسطيني الإسرائيلي ينبع من احتلال إسرائيل للأراضي الفلسطينية والقمع الإسرائيلي الطويل الأمد للشعب الفلسطيني، وأن الشعب الفلسطيني يكافح ضد القمع الإسرائيلي، وأن نضاله من أجل استكمال إقامة دولته المستقلة على أراضيه المحتلة هو نضال عادل لاستعادة حقوقه المشروعة، في إقرار صريح ونادر بشرعية المقاومة الفلسطينية المسلحة ضد الاحتلال الإسرائيلي.
يعد هذا تصعيدا خطابيا شديدا حتى بالنسبة إلى معايير الصين نفسها، لكن هذا التصعيد لا ينبغي قراءته على أنه موقف مناصر للفلسطينيين أو معاد لإسرائيل بصورة بحتة، بقدر ما تتحتم قراءته في ضوء رؤية بكين لمصالحها الإستراتيجية الكبرى، التي تتمحور حول الولايات المتحدة وليس حول إسرائيل.
بادئ ذي بدء، ترى بكين الصراع الفلسطيني الإسرائيلي في الوقت الراهن ساحة مواتية لتحدي الهيمنة الأميركية ومواصلة انتقاد سياسة واشنطن في الشرق الأوسط ودورها في الصراعات والأزمات العالمية بشكل عام، ومما لا شك فيه أن انحياز واشنطن المطلق لإسرائيل ودعمها المالي والعسكري والسياسي والقانوني لجرائم الاحتلال الإسرائيلي مقابل انتقادها لحرب روسيا في أوكرانيا مثلا أضعف موقفها الشعبي في الشرق الأوسط ودول الجنوب العالمي بشكل عام، وسلط الضوء على ازدواجية معاييرها الأخلاقية، وهو ما منح منصة للصين لترويج روايتها حول كون النظام العالمي القائم على القواعد الذي تتبجح به أميركا لا يقوم إلا على قاعدة واحدة فقط هي خدمة مصالح واشنطن وحلفائها.
بعبارة أوضح، تتعامل بكين مع الالتزام الأميركي الأعمى تجاه إسرائيل بوصفه كعب أخيل تسدد له الضربات، وتبتهج لرؤية خصمها يتعثر بسببه مرة تلو المرة. في الوقت ذاته، تربح الصين، بفعل دعمها الخطابي للقضية الفلسطينية تعزيزا لموقعها الإستراتيجي في دول الجنوب العالمي المتعاطفة مع القضية الفلسطينية، بما لا يقتصر على الدول العربية والإسلامية وحدها، بل يتجاوزها إلى العديد من الدول النامية والكتل البشرية الكبرى في آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية التي ترى في النضال الفلسطيني رمزا للمقاومة ضد الموروثات الاستعمارية وتحدي الهيمنة الأميركية.
تثبت استطلاعات الرأي نجاعة هذا التوجه الصيني، فمنذ بداية الحملة الإسرائيلية المدعومة أميركيا على غزة، تعمقت حالة عدم الثقة في الولايات المتحدة وسياساتها بشكل واضح.
ويعكس استطلاع للبارومتر العربي أجري بين ديسمبركانون الثاني 2023 ومارسآذار 2024 شمل خمس دول عربية انخفاضا حادا في مستوى التأييد الشعبي للولايات المتحدة، وبالمقارنة مع آخر استطلاع للمنظمة نهاية عام 2021 وبداية 2022، انخفضت النظرة الإيجابية إلى واشنطن في الأردن من 51 إلى 25 فقط، وفي موريتانيا انخفضت نسبة التأييد من 50 إلى 31 وفي لبنان من 42 إلى 27، وكذلك انخفضت نسبة المشاركين الذين وافقوا على أن السياسات الخارجية للرئيس الأميركي جو بايدن كانت جيدة أو جيدة جدًّا بمقدار 12 نقطة في لبنان وتسع نقاط في الأردن خلال نفس الفترة.
يؤكد استطلاع البارومتر العربي في تونس تحديدا أن الدعم الأميركي للعدوان الإسرائيلي على غزة هو السبب في تدهور صورة واشنطن. وفي الأسابيع الثلاثة التي سبقت طوفان الأقصى، قال 40 بالمائة من التونسيين إن لديهم وجهة نظر إيجابية تجاه الولايات المتحدة، قبل أن تنخفض النسبة إلى 10 فقط بعد 3 أسابيع من بداية الحرب.
وللمفارقة المتوقعة، كانت الصين المستفيد الرئيسي من تراجع سمعة الولايات المتحدة بين الجماهير العربية، حيث أظهر استطلاع البارومتر العربي أن 50 من المشاركين على الأقل لديهم آراء إيجابية تجاه الصين وهو ارتفاع ملحوظ مقارنة ببيانات 2021 و2022 التي أظهرت تراجعا في سمعة الصين عربيا، وفي كل من الأردن والمغرب استفادت الصين من زيادة قدرها 15 نقطة على الأقل في سمعتها الإيجابية.
لا يقف هذا التوجه عند الدول العربية أو حتى الإسلامية وحدها، بل يتردد صداه في شتى أنحاء العالم غير الغربي. مثلا، وجد استطلاع رأي أُجري في خريف عام 2023 تزامنا مع حرب غزة في ثماني دول رئيسية غير غربية هي البرازيل والصين والهند وإندونيسيا وروسيا وتركيا والمملكة العربية السعودية وجنوب إفريقيا من قبل المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية، أن الرأي العام في الجنوب العالمي أصبح أكثر توافقا مع سياسات الصين ورؤاها ورسائلها الدعائية حول العديد من الملفات، ومن ذلك مثلا أن روسيا أقرب إلى الانتصار في حربها على أوكرانيا، وأن الولايات المتحدة تتحمل مسؤولية كبيرة في استمرار الحرب، فضلا عن الإيمان باحتمالية انهيار الاتحاد الأوروبي في غضون عقدين، واعتقاد أن الديمقراطية الأميركية أكثر هشاشة مما تبدو عليه.
على صعيد المنافع المباشرة، تعتقد الصين أن بإمكانها الاستفادة من الانغماس والتعثر الأميركي في الشرق الأوسط وغيره من الساحات خارج آسيا من أجل تحسين وضعها الإستراتيجي في جوارها المباشر، خاصة في تايوان وبحر جنوب الصين. لكن ذلك لا يعني أن بكين على استعداد لتجاوز سقف التصريحات الخطابية نحو مواقف أكثر عملية في دعم الفلسطينيين كما حدث في زمان ماو.
أولا، لأن الصين اليوم أكثر اندماجا بكثير في النظام العالمي على صعيد الاقتصاد والتجارة وحتى الأمن مقارنة بزمان ماو تسي تونغ، وهي تهدف على الأرجح إلى إصلاح هذا النظام وتحسين موقعها فيه وليس إلى تقويضه كما تذهب الرؤى السائدة، مما يجعلها أقل ميلا إلى تحدي الولايات المتحدة الواقعة على بعد آلاف الأميال من أراضيها. ثانيا، لأن بكين تدرك حدود قوتها بالفعل وأنها لا تمتلك نفوذا حقيقيا لإجبار أحد طرفي الصراع أو كليهما على اتخاذ موقف بعينه، على الأقل إسرائيل التي ستكون أقل استجابة لأي مبادرة دبلوماسية صينية حتى ولو كانت رمزية.
ثالثا، والأهم ربما، هو أن بكين ليست مهتمة حقيقة -على الأرجح- بإنهاء الحرب عاجلا عكس ما يظهر من تصريحاتها الرسمية، بقدر اهتمامها بألا تتوسع إلى الممرات التجارية الحيوية في باب المندب والبحر الأحمر على نحو يصيب مصالحها التجارية بأضرار بالغة، وما دامت الحرب منحصرة داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة فسوف تكون بكين سعيدة برؤية الولايات المتحدة تغرق في تبعاتها حتى أذنيها.
في غضون ذلك، يأمل شي جين بينغ أن موقفه الخطابي المناهض لحرب غزة وموقف أميركا المخزي في مناصرة الإبادة الإسرائيلية سوف يكونان كافيين لضمان دعم دول الجنوب العالمي، أو على الأقل حيادها، إذا اتخذ قراره المصيري بـ غزو تايوان في أي وقت قريب.
الهوامش
الكومنتانغ أو الحزب القومي الصيني هو حزب سياسي حكم كل أو جزء من البر الرئيسي للصين بين عامي 1928 و1949، وانتهى حكمه بخسارته للحرب الأهلية الصينية التي انتصر فيها الحزب الشيوعي بقيادة زعيمه ماو تسي تونغ وحكم الحزب للبلاد حتى اليوم.
جغرافيًا يشير الجنوب العالمي إلى الدول القابعة جنوب خط الاستواء مقابل الدول الواقعة شماله. وقد استُخدم في الصحافة غالبا للتعبير عن دول العالم الثالث أو الدول النامية في مقابل الدول الغنية بصرف النظر عن موقعها الجغرافي مما يعكس تقسيمًا اقتصاديًّا في المقام الأول. ولكن مؤخرا تم تطويع المصطلح للتعبير عن تكتل محتمل أو افتراضي للدول غير الغربية الصاعدة اقتصاديا والكثيفة سكانيا التي تنادي بعالم متعددة الأقطاب وترفض الهيمنة الأميركية الأحادية على العالم. | https://www.aljazeera.net/politics/2024/7/23/%d8%a7%d9%84%d8%aa%d9%86%d9%8a%d9%86-%d9%88%d8%a5%d8%b3%d8%b1%d8%a7%d8%a6%d9%8a%d9%84-%d9%85%d9%86-%d8%a3%d8%b1%d8%b6-%d8%a7%d9%84%d9%85%d9%8a%d8%b9%d8%a7%d8%af | 2024-07-23T07:25:37 | 2024-07-23T07:25:37 | أبعاد |
|
51 | لماذا تخيف عودة ترامب الاستخبارات الأميركية؟ | في هذه المادة المترجمة عن فورين أفيرز، يوضح الكاتب كيف يخطط ترامب لتفكيك البيروقراطية الاستخبارية الأميركية؟ وما تداعيات ذلك على عمل هذه الأجهزة وعلى الأمن القومي الأمريكي من منظور أوسع؟ | في مقال بمجلة فورين أفيرز يعكس بيتر شرودر، العضو السابق في الهيئة التحليلية العليا في وكالة المخابرات المركزية الأميركية سي آي إيه وعضو مجلس الاستخبارات الوطني في الفترة من 2018 إلى 2022 مخاوف مجتمع الاستخبارات الأمريكي من صعود دونالد ترامب. يعد هذا المجتمع هو قلب البيروقراطية الأمنية الأميركية، وهي الجزء الأساسي من الدولة العميقة التي يرى ترامب أنها تعوق تنفيذ أجندته ويتعهد بتفكيكها، وهو ما ينذر بمواجهة محتدمة بين الرئيس وأجهزة استخباراته القوية.
تعزز تعيينات ترامب لمديري أجهزة الاستخبارات هذه المخاوف، وفي مقدمتهم جون راتكليف، المرشح لمنصب مدير وكالة المخابرات المركزية سي آي إيه، وكاش باتيل المرشح لرئاسة إف بي آي، وأخيرا وليس آخرا تولسي غابارد المرشحة لتولي منصب مدير الاستخبارات الوطنية، وثلاثتهم من المنتقدين السابقين لعمل أجهزة الاستخبارات والمشاركين لترامب رؤيته بشأن الدولة العميقة. أكثر من ذلك، فإن سجل ترامب مع أجهزة الاستخبارات خلال ولايته الأولى لم يكن وديا بما يكفي، وهو ما يزيد قتامة التوقعات.
فكيف يخطط ترامب لتفكيك البيروقراطية الاستخبارية الأميركية؟ وما تداعيات ذلك على عمل هذه الأجهزة وعلى الأمن القومي الأمريكي من منظور أوسع؟ وكيف سيتعامل التقنيون في مجتمع الاستخبارات مع حقبة ترامب؟ يجيبنا شرودر بتوقعاته في السطور التالية.
في 21 ينايركانون الثاني 2017، وبعد يوم واحد من تنصيبه رئيسا خلال ولايته الأولى، زار الرئيس الأميركي دونالد ترامب مقر وكالة الاستخبارات المركزية سي آي إيه في لانغلي بولاية فرجينيا. هدفت الزيارة، التي كانت أول حدث رسمي لترامب في رئاسته الثانية، إلى إعادة ضبط علاقاته مع مجتمع الاستخبارات بعد 10 أيام فقط من هجوم ترامب على وكالات الاستخبارات واتهامها بالمساعدة على تسريب تقرير زعم أن عملاء روسيين لديهم معلومات شخصية ومالية سيّئة عنه.
لكن ترامب سرعان ما انحرف عن مساره، مفسحا المجال للغة خطاب حددت مسار علاقاته مع مجتمع الاستخبارات طوال فترة رئاسته. فبينما كان يقف أمام النصب التذكاري لوكالة الاستخبارات المركزية، وهو الموقع الأكثر أهمية وإجلالا في الوكالة، تحدث وكأنه في حدث انتخابي متنقلا من موضوع عشوائي إلى آخر، ومتباهيا بالحشود الكبيرة التي حضرت حفل تنصيبه.
وتسبب حديث ترامب المفعم بالشكوى من وسائل الإعلام أمام صفوف النجوم التي تمثل موظفي الوكالة الذين لقوا حتفهم أثناء الخدمة؛ في إثارة دهشة العديد من الضباط، وكان ذلك بمثابة هدف عكسي أحرزه ترامب في مرماه زرع بذور الشك وانعدام الثقة بينه وبين جهاز الاستخبارات على مدار السنوات الأربع المقبلة.
ومع تنصيب ترامب رئيسا للمرة الثانية، من المرجح أن يشعر مجتمع الاستخبارات بالقلق مجددا. وفي ظل وجود فريق إداري أكثر تنظيما واستقرارا، كان الأمل هو أن الرئيس سوف يسخر مجتمع الاستخبارات لتأمين الوطن والمصالح الأميركية في الخارج، لكن ترشيحاته حتى الآن لمنصب مدير وكالة المخابرات المركزية، ومدير الاستخبارات الوطنية، ومدير مكتب التحقيقات الفيدرالي تشير إلى أنه يعطي الأولوية للولاء على الخبرة.
وبدافع من الضغائن السياسية، هناك مخاوف من أن يشن ترامب هجوما شاملا على ما يسمّيه الدولة العميقة وهي -وفقا لاعتقاد الرئيس- مجموعة سرية من البيروقراطيين الحكوميين الذين يتعاونون لعرقلة أجندته، ومنهم الضباط الذين يتجسسون بشكل غير قانوني على الأميركيين ويسربون المعلومات إلى وسائل الإعلام.
ولكن من غير المرجح أن يستسلم المسؤولون في وكالات الاستخبارات لهذه التهديدات، ويظهر التاريخ أن مجتمع الاستخبارات كان قادرا في كثير من الأحيان على تحقيق النجاح، حتى عندما كانت علاقته بالرئيس متوترة. وعلى الرغم من المنعطفات في ولاية ترامب الأولى، فقد أشرف على إنجازات استخبارية مهمة، مثل قتل زعيم تنظيم الدولة الإسلامية ومؤسسه أبي بكر البغدادي.
رغم ذلك، من المرجح أن تواجه الاستخبارات مجموعة من الأخطار تحت الإدارة المقبلة، تشمل التهديدات الشخصية والمؤسسية، فضلا عن أخطار على صعيد جمع المعلومات واستخدامها، والمهمات والبعثات، والشراكات الأجنبية. وسوف يكون لزاما عليها أن تبحر وسط الأزمات القريبة الأجل وتسعى لتجنب ضرر أطول أمدا لمؤسسات مجتمع الاستخبارات وقدراته.
يبدأ التهديد الذي يفرضه ترامب على مجتمع الاستخبارات بمورده الأساسي وهو البشر. وينوي الرئيس الحد من نفوذ بيروقراطيات الأمن القومي وتقليص حجم الحكومة الفيدرالية؛ مما يعني استنزاف القوة البشرية لمجتمع الاستخبارات، وبالتبعية تقليص فعاليته.
وقد تحدث إيلون ماسك وفيفيك راماسوامي، اللذان اختارهما ترامب لقيادة وزارة جديدة للكفاءة الحكومية إضافة المترجم فيفيك راماسوامي قرر الانسحاب من وزارة الكفاءة الحكومية بعد ساعات من تنصيب دونالد ترامب رئيسا، حيث أشارت صحيفة البوليتكو إلى نيته الترشح لمنصب حاكم ولاية أوهايو، فيما لم يؤكد فيفيك هذه الأنباء أو ينفيها بعد، عن ضرورة خفض القوى العاملة الفيدرالية على نطاق واسع، وهو ما سيؤثر حتما في العاملين في مجال الاستخبارات. وأكثر من ذلك، وعد ترامب نفسه بطرد ما يسمّيه الجهات الفاعلة الفاسدة في فضاء الأمن القومي.
لا يزال من غير الواضح يقينا ما إذا كانت التخفيضات المنتظرة للقوى العاملة الفيدرالية سوف تشمل مجتمع الاستخبارات وكيف سيتم تطبيقها إذا حدثت. ولكن إذا أقدم البيت الأبيض بقيادة ترامب على تخفيضات عميقة للغاية، أو شملت التخفيضات مجالات حاسمة، فمن شأن ذلك أن يقوض قدرات مجتمع الاستخبارات، فمثلا ربما يؤدي تخفيض أعداد الموظفين إلى إضعاف مجموعات المهارات التي يحاول مجتمع الاستخبارات تنميتها لمواجهة التهديدات المستقبلية من جهات فاعلة مثل الصين، أو في قطاعات مهمة مثل التكنولوجيا المتقدمة.
وحتى إذا لم يقم ترامب بأي تخفيضات على الإطلاق، فإن خطابه العدائي وحده سوف يقوض وظائف مجتمع الاستخبارات. وكما حدث في ولايته الأولى، لربما يختار ضباط الاستخبارات الموهوبون والمؤهلون من المستوى المتوسط ترك العمل لصالح رئيس يطالب بالولاء الشخصي، وهو اتجاه من المرجح أن يتفاقم عند تزايد الضغوط على موظفي الخدمة المدنية.
ينذر هذا التوجه المحتمل بخطر شديد، نظرا إلى أن تعويض الخسائر البشرية في الاستخبارات أمر صعب بسبب الطبيعة الفريدة للوظيفة، والمهارات والمعارف والخبرات الخاصة التي تتطلبها. على سبيل المثال، في أكتوبرتشرين الأول 1977، طرد مدير وكالة المخابرات المركزية آنذاك ستانسفيلد تورنر فجأة حوالي 800 ضابط عمليات؛ مما أدى إلى انخفاض الروح المعنوية في الوكالة، وتراجع عمليات الاستخبارات البشرية لسنوات قادمة.
وفي أعقاب سقوط الاتحاد السوفياتي، خُفضت أعداد موظفي الاستخبارات بنسبة 25٪، وانخفضت ميزانية وكالة المخابرات المركزية بنسبة 18٪؛ وهو ما أجبر الوكالة على تجميد توظيف المحللين وضباط العمليات والتقنيين. وامتد تأثير هذه التخفيضات إلى أواخر التسعينيات وحتى العقد الأول من القرن الحادي والعشرين؛ مما أعاق قدرة الاستخبارات على التعامل مع التهديد المتزايد من قبل الإرهاب العالمي.
واليوم، صارت مهمة تعويض الموظفين المفقودين أكثر صعوبة. وفي أكتوبرتشرين الأول 2021، أشار مدير وكالة المخابرات المركزية ويليام بيرنز إلى أن الأمر يستغرق أكثر من 600 يوم في المتوسط لمعالجة وتعيين ضباط جدد. ويمكن لترامب أيضا أن يردع المرشحين المؤهلين عن التقدم أصلا إلى الوظائف؛ إذ لن يشعر سوى قِلة من الناس بالإثارة إزاء العمل مع رئيس يشيطن وظائفهم.
وحتى مع افتراض أن ترامب لن يخفض حجم مجتمع الاستخبارات، فإن إصلاحاته من المرجح أن تخفض جودة العنصر البشري. وينصح مشروع 2025، وهو المخطط الذي أعدته مؤسسة التراث Heritage foundation، مركز الأبحاث المحافظ، للانتقال الرئاسي بعد تولي ترامب، ينصح الرئيس بإصدار أوامر إلى مدير وكالة المخابرات المركزية باستبدال رؤساء مراكز البعثات والمديريات -الهيئات التي تشرف على عمل الوكالة في مجالات مختلفة- لضمان توافق أنشطة وكالة المخابرات المركزية مع أجندته.
وفي حال وُضعت هذه الخطة موضع التنفيذ، فإن ذلك سيعني إبعاد العديد من المديرين الموهوبين لصالح ضباط ينظر إليهم المدير على أنهم أكثر ولاء أو حزبية.
ينصح مشروع 2025 أيضا بنقل أجزاء من الوكالة بشكل دائم إلى خارج واشنطن العاصمة لتقليل نفوذ وكالة المخابرات المركزية، وهو سبب آخر ربما يدفع الموهوبين إلى المغادرة ويعطل التعايش بين الاستخبارات وصناع السياسة. كما اقترح معهد أميركا أولا للسياسة، وهو مركز أبحاث أسسه مسؤولون سابقون في إدارة ترامب عام 2020، قواعد سلوك جديدة تتطلب من ضباط الاستخبارات التوقيع على اتفاقية تنص على عدم إساءة استخدام أي معلومات أو صلاحيات حصلوا عليها نتيجة عملهم في مجال الأمن القومي لأغراض سياسية، حتى بعد ترك الخدمة الحكومية.
ومن المحتمل أن تؤدي مثل هذه المعايير غير الواضحة والمفتوحة إلى توليد النفور من المخاطرة في العمليات والتحليل بين صفوف موظفي الاستخبارات.
وعلى أقل تقدير، من المرجح أن تؤدي سياسات الإدارة إلى خلق حالة من الاضطراب تشتت انتباه الاستخبارات عن مهامها الأساسية. وحتى الإصلاحات المفيدة المحتملة، مثل منح مدير الاستخبارات الوطنية سلطة أكبر على ميزانية المجتمع، من شأنها أن تخلق معارك على النفوذ بين 18 وكالة يضمها مجتمع الاستخبارات. ومن غير المرجح أن يعمل القادة المشغولون بالدفاع عن مواردهم وميزانياتهم -فضلًا عن وظائفهم- بعضهم مع بعض بشكل فعال.
خلال فترة ولايته الأولى، أظهر ترامب عدم اكتراثه بمخرجات مجتمع الاستخبارات، لدرجة أنه نشر صورة فضائية سرية على حسابه على تويتر، وازدرى قادة الوكالات علنا قائلا إن عليهم أن يذهبوا إلى المدرسة بعد أن اختلف مع شهادتهم السنوية أمام الكونغرس بشأن التهديد الإيراني. وفي الأيام الأخيرة من ولايته، هرب إلى مقر إقامته في مار إيه لاغو ومعه وثائق استخبارية شديدة السرية.
أثارت هذه التصرفات قلق خبراء الاستخبارات، ومن المؤسف أن هناك الآن فرصة كبيرة لتكرارها. على سبيل المثال، يشارك المرشحون الرئيسيون الجدد لتولي وكالات الاستخبارات ترامب تجاهله لمنجزات المجتمع، ويقدرون الولاء السياسي. فمثلا، تعد تولسي غابارد المرشحة لتولي منصب مدير الاستخبارات الوطنية من المنتقدين القدامى لعمل الاستخبارات الأميركية، كما أنشأ كاش باتيل المرشح لمنصب مدير مكتب التحقيقات الفيدرالي قائمة بأعداء الدولة العميقة لـتطهيرهم.
وحتى المرشح لمنصب مدير وكالة المخابرات المركزية جون راتكليف، الأقل إثارة للجدل من بين الثلاثة، لديه سجل حزبي لا يمكن تجاهله، فهو المدير السابق للاستخبارات الوطنية لترامب، وفي أوائل ينايركانون الثاني 2021، ورد اسمه ضمن المتورطين في تسييس التحليلات حول تدخل الصين وروسيا في الانتخابات الرئاسية لعام 2020.
ولإكمال المشهد، يحل رئيس مجلس النواب مايك جونسون محل النائب الجمهوري مايك تيرنر رئيسا للجنة الدائمة المختارة للاستخبارات في مجلس النواب بسبب مخاوف قادمة من مار إيه لاغو -إشارة إلى ترامب- وفقا لتيرنر. وسبق أن صوت تيرنر لصالح التصديق على انتخاب بايدن عام 2020 وكان من دعاة دعم الولايات المتحدة لأوكرانيا.
وقد جادل روبرت غرينواي، عضو فريق ترامب الانتقالي المعني بشؤون وكالة المخابرات المركزية، بأن الإحاطة الاستخبارية اليومية الحالية، التي تقدم فيها وكالات الاستخبارات تقييمات مباشرة للرئيس بالتنسيق بينها، يجب أن تُستبدل بنظام موجه من خلال المعينين السياسيين من المستوى الأدنى في البيت الأبيض. ومن شأن مثل هذا النظام أن يزيد احتمالات سماع ترامب حصرا لما يريد سماعه، بدلا مما يحتاج حقا إلى معرفته.
وإذا تصرف ترامب وفريقه بمثل هذا التجاهل، فمن المرجح أن يؤدي موقفهم اتجاه مجتمع الاستخبارات إلى إضعاف تبادل المعلومات وإجبار الوكالات على تقييد تدفق الإحاطات الصادرة مخافة إساءة استخدامها. إن مسؤولي الاستخبارات مسؤولون عن حياة العملاء البشريين وكذلك عن منصات جمع المعلومات الباهظة الثمن التي لا يمكن تعويضها، وربما يخشون أنّ تناقص الحماية لمعلومات وكالاتهم يمكن أن يؤدي إلى تعريض هذه الأرواح والأصول للخطر.
وسوف تكون عواقب ذلك وخيمة، وتكفي هنا الإشارة لتقرير لجنة 11 سبتمبر، الصادر عام 2004، الذي أشار إلى أن الفشل في تبادل المعلومات خاصة بين وكالة المخابرات المركزية ومكتب التحقيقات الفيدرالي كان عاملًا رئيسيا وراء الفشل في الكشف عن الهجمات ومنعها.
أكثر من ذلك، من شأن المخاوف بشأن تسييس الاستخبارات أن تحفز المزيد من الرقابة الذاتية، وهو ما يعني أن الضباط سوف يترددون في تمرير المعلومات التي لا تتوافق مع أجندة الرئيس، وربما تنحرف تحليلاتهم وتقييماتهم نحو خدمة المصالح السياسية للإدارة، بدلا من تقديم رؤى موضوعية وفق المعلومات المتاحة.
كانت هذه الديناميكية حاضرة في تحليل تدخل الصين في الانتخابات الرئاسية لعام 2020، وفقًا لتقرير أمانة التظلمات بشأن مجتمع الاستخبارات في ينايركانون الثاني 2021، الذي أشار إلى أن مديري وكالة المخابرات المركزية تمسكوا بأحكامهم المسبقة حول أن الصين لم تسع لتشويه ترامب في الانتخابات وتجاهلوا جميع التقارير والمعلومات التي تشير إلى خلاف ذلك. وتماما مثل تضارب المصالح، تشوه الاستخبارات المسيسة العملية التحليلية؛ مما يقوض المناقشات الأساسية لحل المشاكل الصعبة.
ينطوي تسييس الاستخبارات على أخطار تتجاوز بكثير خسارة الموظفين وتحريف التقييمات وإشعال المعارك الداخلية. ومن المرجح أن يشعر مسؤولو الاستخبارات بالقلق إزاء التأثير الطويل الأمد الذي ستخلفه سياسات ترامب على أدوار وسلطات وكالاتهم؛ مما يؤدي إلى الحذر والتردد الذي يضر بالفعالية التشغيلية.
تتمتع وكالة المخابرات المركزية، على وجه الخصوص، بذاكرة طويلة عن العمليات التي أمر بها البيت الأبيض وجاءت بنتائج عكسية على الوكالة، مثل فضيحة إيران كونترا في الثمانينيات واستخدام التعذيب أثناء الحرب على الإرهاب، وكلاهما أدى إلى سنوات من التحقيق، وألحق أضرارا علنية بسمعة الوكالة.
ونظرا إلى سجل ترامب في متابعة سياسات بعينها كما فعل حين طلب من الرئيس الأوكراني زيلنسكي التحقيق بشأن جو وهانتر بايدن؛ فمن المرجح أن يدقق ضباط الاستخبارات في تورطه في عملياتهم أو توجيهها، خوفا من أن تؤدي الدوافع السياسية أو التجاوزات إلى مساءلتهم أمام الكونغرس.
وكان هذا التحفظ موجودا بالفعل خلال فترة ولاية ترامب الأولى، فبحسب مجلة وايرد، حاول ترامب دفع وكالة المخابرات المركزية إلى الإطاحة بالدكتاتور الفنزويلي نيكولاس مادورو، لكنه قوبل بدعم فاتر غير متحمس من جانب البيروقراطيين القلقين من ردّ عنيف.
ومن المرجح أيضا أن تخلق وجهات نظر ترامب غير التقليدية في السياسة الخارجية واستعداده لاستعداء الحلفاء تحديات أمام تبادل المعلومات الاستخبارية مع الشركاء الأجانب. وأوصى مشروع 2025 بأن يسعى البيت الأبيض إلى مزيد من السيطرة والإشراف على الشراكات الاستخبارية الأجنبية، بدلا من تركها تحت سيطرة وكالات الاستخبارات. ويثير تعيين ترامب لتولسي غابارد قلق حلفاء الولايات المتحدة، نظرا إلى نهجها الودي نسبيا مع روسيا والرئيس السوري السابق بشار الأسد الذي التقت به عام 2017.
وفي يوليوتموز 2024، أخبر العديد من المسؤولين الأجانب مجلة بوليتيكو أن مستشاري ترامب أبلغوهم أنه يفكر في تقليص تبادل المعلومات الاستخبارية مع شركاء الناتو ضمن خطة لتقليص الدعم للحلف الأطلسي الناتو. وفي مايوأيار 2017، ذكرت صحيفة نيويورك تايمز أن ترامب مرر معلومات استخبارية قادمة من إسرائيل إلى وزير خارجية روسيا في اجتماع في المكتب البيضاوي.
لا غنى عن الشراكات الأجنبية الصحية لمجتمع الاستخبارات، إذ تجمع الحكومات الأجنبية وتنقل الأفكار والمعلومات التي تفتقر الوكالات الأميركية إلى الوصول إليها أو الموارد اللازمة لجمعها. ولكن إذا أصبح الشركاء قلقين من أن الرئيس الأميركي أو مدير الاستخبارات الوطنية لن يحمي هذه المعلومات، أو أنها ستستخدم لمباشرة سياسات ضارة فلربما يتوقفون عن مشاركتها.
وإذا حدث ذلك فلن تقتصر تداعياته على الاستخبارات وحدها، بل ستكتشف الإدارة أنها خسرت أداة مهمة لصنع السياسات وممارسة النفوذ. على سبيل المثال، حذرت واشنطن من الغزو الروسي لأوكرانيا قبل وقت طويل من حدوثه في فبرايرشباط 2022، مما ساعد على التهيئة لفرض عقوبات دولية قوية.
لا شك أن العديد من ضباط الاستخبارات يترقبون بقلق شديد ولاية ترامب الثانية، ويتذكرون الأحداث التي شهدتها السنوات الأربع لولايته الأولى، بداية من الزيارة الافتتاحية المثيرة للجدل للانغلي، وانتهاء بتمرد الكابيتول. ولكن ضباط الاستخبارات لديهم وجهات نظر سياسية متباينة، وعندما يتعلق الأمر بعملهم فإن أغلبهم غير مسيسين، وكل ما يريدونه هو التركيز على مهمتهم الأساسية في ضمان سلامة وأمن الشعب الأميركي.
وإذا أدرك ترامب ذلك، فإنه يستطيع تسخير هذا التركيز وهذه الطاقة لتأمين الولايات المتحدة في الداخل والخارج. ومع انتقال أقل فوضوية، وخبرة أكبر، أصبح ترامب أكثر استعدادا للعمل مع الاستخبارات هذه المرة مقارنة بما كان عليه خلال ولايته الأولى. ولكنه لا يزال يحتقر البيروقراطيين الفيدراليين ويحمل ضغينة راسخة بسبب التحقيق الذي أجراه مجتمع الاستخبارات بشأن تدخل روسيا في الانتخابات الرئاسية لعام 2016. لذا فإن المسار الذي يشير إليه، من خلال خطابه وتعييناته، هو المواجهة.
وفي حال مضى ترامب قدما في هذا الطريق، فسوف تواجه وكالات الاستخبارات الأميركية تحديات خطيرة في تنفيذ عملياتها اليومية والتركيز على مهامها الأساسية، ولكن لا يزال أمام محترفي الاستخبارات مهمة يتعين عليهم القيام بها، وربما تكون أفضل خططهم هي محاولة القيام بها على أكمل وجه.
في عام 1961، كاد غزو خليج الخنازير الفاشل بقيادة وكالة الاستخبارات المركزية أن ينسف علاقات الوكالة مع الرئيس جون كينيدي الذي تولى منصبه حديثا. ولكن في العام التالي، استعادت الاستخبارات بعض ثقة كينيدي إثر تقديم معلومات تفيد بأن الاتحاد السوفياتي كان يسلم صواريخ نووية إلى كوبا. ويخبرنا ذلك أنه حتى الرؤساء المتشككين العدائيين غالبا ما يغيرون موقفهم عندما يدركون أنهم بحاجة إلى إفادات الاستخبارات وقدراتها.
كما أن مجتمع الاستخبارات لديه آليات إشرافية عديدة يمكنه استخدامها لجعل الأمر أكثر صعوبة على فريق ترامب لإساءة استخدام المعلومات الاستخبارية بما يتجاوز تعزيز الأهداف السياسية، وهي آليات تطورت بالتوازي مع أدوار الاستخبارات وسلطاتها الفريدة. وسوف يكون من الصعب على البيت الأبيض الإحاطة بتفاصيل البيروقراطية الاستخبارية السرية والمترامية الأطراف، خاصة أن ترامب ليس معروفًا بالتركيز والمثابرة، ويعني ذلك أن جزءا كبيرا من عمل الاستخبارات سوف يستمر في الظل بغض النظر عن السياسات التي ينتهجها ترامب.
وفي نهاية المطاف، فإن فترة ولاية ترامب الرئاسية ستستمر أربع سنوات فقط، وليس بالإمكان إعادة انتخابه مرة أخرى. وينبغي أن يتجنب مسؤولو الاستخبارات خلال تلك الفترة تشتيت انتباههم، وعليهم إيجاد طريقة للبقاء مركزين على المهام الأساسية. ومن خلال القيام بذلك، يمكنهم ضمان أن تكون اضطرابات ترامب مجرد فترة مؤقتة وليست تغييرا جذريا في طبيعة مجتمع الاستخبارات الأميركي.
_________________ هذه المادة مترجمة عن فورين أفيرز ولا تعبر بالضرورة عن الجزيرة نت | https://www.aljazeera.net/politics/2025/1/22/%d8%a7%d9%84%d8%b1%d8%a6%d9%8a%d8%b3-%d8%b6%d8%af-%d8%a7%d9%84%d9%88%d9%83%d8%a7%d9%84%d8%a9-%d9%84%d9%85%d8%a7%d8%b0%d8%a7-%d8%aa%d8%ae%d8%a7%d9%81-%d8%b3%d9%8a-%d8%a2%d9%8a-%d8%a5%d9%8a%d9%87 | 2025-01-22T10:49:24 | 2025-01-22T11:25:26 | أبعاد |
|
52 | الخبير الذي توقع زلزال تركيا وسوريا.. لماذا عليك ألا تصدقه؟ | أثار “فرانك هوغربيتس” الجدل بحديثه عن أهرامات الجيزة قائلا إن هندستها، عندما يتم بحثها بشكل صحيح، تحمل أدلة على معرفة متقدمة جدا، لا يمكن وفقا لفهم العصر الحديث أن تكون موجودة بهذا الزمن البعيد. | عقب الزلزال الذي هز أراضي تركيا وسوريا في فبرايرشباط 2022، اكتشف عدد كبير من مستخدمي الإنترنت العربي أن رجلًا هولنديًّا يُدعى فرانك هوغربيتس، يصف نفسه بأنه خبير في الزلازل، كان قد توقّع قبل ذلك بوقت قصير زلزالًا قويًّا في نفس المنطقة المتضررة. ومنذ ذلك الحين، يظهر اسم الخبير الهولندي مشفوعًا بادعاءات صاخبة، حول زلازل قوية أخرى تصل شدتها إلى سبع أو ثماني درجات على مقياس ريختر. أما هذه المرة، فقد أثار الجدل بحديثه عن أهرامات الجيزة المصرية قائلا إن هندستها، عندما يتم بحثها بشكل صحيح، تحمل أدلة على معرفة متقدمة جدا، لا يمكن وفقًا لفهم العصر الحديث أن تكون موجودة في ذلك الزمن البعيد.
تحدثنا من قبل عن أهرامات الجيزة وغيرها من آثار العالم القديم وادعاءات الحضارة المفقودة المتعلقة بها في مادة مفصلة بعنوان لماذا لا يصدق البعض أن المصريين هم من بنوا الأهرامات؟، لذا لا حاجة لنا في تفنيد هذا الادعاء الآن، لكن انتشار أخبار هوغربيتس خلال شهور عديدة وتوقعاته المستمرة للزلازل يحتاجان منا إلى بعض التفكير في طبيعة المنهجية العلمية ومحدداتها. ذلك أن هذه المنهجية ستجيبنا عمّا إذا كان هذا الرجل يروج لعلوم زائفة؟ وهل يمكن -حقًّا- الاعتماد ولو بشكل جزئي على فرضياته؟
حسنًا، لنرجع بالزمن إلى عام 1974، حينما أصدر الفيزيائي الفلكي البريطاني الشهير جون جريبن بالتعاون مع عالم آخر هو ستيفن بلاجمان كتابًا بعنوان تأثير المشتري، لاقى الكثير من الاهتمام وبِيعت منه ملايين النسخ. يتحدث الكتاب عن أثر محتمل للاقترانات الكوكبية في السماء في بعض أنواع الكوارث على الأرض، ومنها الزلازل. وتوقع كلاهما -من ضمن عدد من التوقعات- حدوث زلزال في فالق سان أندرياس في ولاية كاليفورنيا بالولايات المتحدة الأمريكية في يوم 10 مارسآذار عام 1982.
محاذاة الكواكب تعني وقوفها في جانب واحد من الأرض، فمثلا يمكن أن تنظر في ليلة إلى السماء فتجد أن المشتري والزهرة يتجاوران فيها بعد الغروب، وهذا شيء طبيعي ومتكرر، وفي بعض الأحيان يدخل إلى تلك المحاذاة عدد أكبر من الكواكب، وفي أحيان نادرة يمكن لمعظم الكواكب أن تكون في جانب واحد من الأرض وتكون الشمس في الجانب الآخر. في هذه الحالة تحديدًا يمكن لأثر الجاذبية المجتمع من هذه الكواكب أن يصل إلى الأرض.
لكن حتى قبل صدور هذا الكتاب، كان علماء الفلك والجيولوجيا متفقين على أن تأثير محاذاة الكواكب في الأرض، لا يمكن أن يصل إلى درجة إحداث الزلازل؛ لأن تلك الكواكب بعيدة جدًّا عن الأرض، أما القمر الصغير جدا مقارنة بتلك الكواكب لكنه قريب نسبيًّا من الأرض فله أثر أقوى منها مجتمعة، وهو ما يتضح في حالة المد والجزر، حيث يمكن للقمر بالفعل أن يتحكم في حركة بحار ومحيطات الأرض بقوة جذبه، لكننا لا نلحظ هذا الأثر مثلا مع محاذاة الكواكب.
جريبن ورفيقه سعيا إلى تجنب هذه الاعتراضات بسلاسة من خلال النظر في تأثير المحاذاة، ليس في الأرض بشكل مباشر، ولكن في الشمس، ثم افترضا أن الشمس ستؤثر في الأرض عبر إبطاء دورانها بمعدل يسمح بتهتك أكبر من المعتاد في القشرة الأرضية؛ مما قد يتسبب في عدد من الكوارث، منها زلزال سان أندرياس المحتمل بحسب توقعات العالمين.
مر العاشر من مارسآذار بسلام، وفي شهر أبريلنيسان التالي نشر جريبين وبلاجمان كتابًا أقل بيعًا بعنوان إعادة النظر في تأثير المشتري، قالا فيه إن التأثير قد حدث بالفعل عام 1980، على الرغم من عدم وجود محاذاة كوكبية في ذلك الوقت، وإنه تسبب في ثوران بركاني لجبل سانت هيلين غربي ولاية واشنطن الأمريكية، وفي عام 1990 أعلن جريبن أنه أخطأ في فرضيته، واعتذر عن علاقته بهذا الموضوع أصلًا.
لكن على الرغم من ثبوت خطأ تلك الفرضية، فإن ما فعله العالمان في هذا الكتاب هو ما يمكن بالفعل أن نسميه التنبؤ بالزلازل، حيث يحدد الجيولوجيون التنبؤ بالزلازل بأنه القدرة على تحديد مكان وموعد ومقياس الزلزال بدقة، كأن تقول إن شمالي الجزائر، على سبيل المثال، سيشهد -لا قدر الله- زلزالا بقوة 6.8 على المقياس في يوم 15 أكتوبرتشرين الأول القادم.
لا يمكن هنا للتوقعات الأكثر عمومية أن تعبر عما يقصده العلماء من اصطلاح التنبؤ بالزلازل، لأن أي خرق لتلك القاعدة لن ينقذ الناس من زلزال قريب، فمثلا سيكون كاتب هذه المادة صادقًا حينما يقول لك إن تركيا ستشهد زلزالًا أعلى من 7 درجات على المقياس قريبًا ولا يحدد لك الموعد بدقّة، ويمكن أن يحدد نطاقًا زمنيًّا كأن يقول خلال 10 سنوات ويكون صادقًا كذلك، وذلك لأن بعض المناطق في العالم تشهد بالفعل معدلات زلازل أكبر من غيرها.
عند هذه النقطة دعنا نتأمل ما يسميه العلماء حلقة النار أو حزام ما حول المحيط الهادئ، وهي ليست حلقة بالمعنى الذي قد يتبادر إلى الذهن، بل هي شريط جغرافي طوله نحو 40 ألف كيلومتر يشبه شكل حدوة الحصان شهد 81 من زلازل العالم الكبرى، ويمتد حول المحيط الهادئ، بداية من جنوب قارة أميركا الجنوبية عبر خندق بيرو-تشيلي، وصولا إلى خندق أميركا الوسطى، وينطلق بعد ذلك صعودا في أميركا الشمالية بمحاذاة جبال روكي إلى ألاسكا، ثم عبر مضيق بيرنغ إلى اليابان نزولا إلى الفلبين وإندونيسيا، ثم في النهاية نيوزيلندا.
إلى جانب حزام حلقة النار، يوجد حزام آخر يجري على اليابسة يسمى الحزام الألبي، وهو حزام زلزالي وجبلي يمتد أكثر من 15 ألف كيلومتر على طول الهامش الجنوبي من قارتي آسيا وأوروبا، فيبدأ من جاوة وسومطرة، ثم يمتدّ عبر شبه جزيرة الهند الصينية، ثم جبال الهيمالايا وما وراءها، ثم جبال إيران والقوقاز والأناضول وصولا إلى البحر الأبيض المتوسط، وحتى المحيط الأطلسي، هذا الحزام مسؤول عن 17 من الزلازل الكبرى في العالم.
أثر الحزام الألبي يمتد ليصل إلى تركيا وهو ما يضعها في منطقة زلزالية نشطة، حيث تقع على صفيحة صخرية صغيرة تسمى صفيحة الأناضول، تندفع إلى الغرب بفعل حركة صفيحتين كبيرتين مجاورتين، الأولى هي الصفيحة الأوراسية من الشرق والشمال، والثانية هي الصفيحة العربية جنوبها، ويضاف إلى ذلك تأثير حركة الصفيحة الأفريقية. تشابك تلك التحركات يضع تركيا تحديدا في منطقة حرجة زلزاليا. ويصل أثر هذا الحزام كذلك إلى المغرب التي يقع كذلك على أطراف الحزام الألبي، وقد شهد زلزالًا بقوة 6.8 في سبتمبر 2023، ولو أن احتمالات وقوع الزلازل فيه أقل من تركيا.
يجري نفس الأمر على مناطق مثل غربي الولايات المتحدة الأمريكية وألاسكا وعدد من المناطق في أمريكا الجنوبية مثل شيلي ودول مثل اليابان وسومطرة وإندونيسيا؛ لأنها جميعا تقع في مناطق حرجة تتلقى أكبر الزلازل في العالم بسبب طبيعتها الجيولوجية، ويمكن للعلماء أن يعطوا درجات من الترجيحات لهذه المناطق، حيث يُحتمل مثلا بنسبة 72 أن تختبر ولاية كاليفورنيا زلزالا كبيرا على أي نقطة في فالق سان أندرياس، خلال ثلاثة عقود، وتنخفض النسبة إلى نحو 30 في بعض المناطق في اليابان.
أضف إلى ذلك أنه لا يمكن توقع زلزال بدون تحديد الموقع، لأن الزلازل -على غير ما قد تظن- ليست ظاهرة نادرة، إذ تشهد الأرض سنويًّا ما يزيد على مليون زلزال نصفها يمكن رصده بأجهزة قياس الزلازل و100 ألف منها قابلة للشعور بها لكن 100 فقط يمكن أن تسبب ضرارًا وما بين 15 و20 زلزالا منها تكون مؤثرة جدا فوق مقياس سبع درجات، بلدك مثلا يسجل سنويا العديد من الزلازل التي تعلنها الهيئات المختصة، ولذلك لو قلنا لك إن هناك زلزالا سيحدث اليوم لكنا صادقين تماما بنسبة 100، لأننا ببساطة لم نحدد الموقع.
إذن يمكن للعالم بالفعل أن يقدم توقعات للزلازل، لكن في إطار احتمالي، يعتمد على تحديد المناطق الأكثر نشاطًا زلزاليا دون غيرها، لكن لا يمتلك العلماء أية وسيلة إلى الآن للتنبؤ بناء على المعايير الثلاثة السالف ذكرها.
في تلك النقطة تحديدًا، وبعد مقدمة طويلة لكنها ضرورية، يظهر خبير الزلازل الهولندي، فرانك هوغربيتس الذي لا نعرف تخصصه، فهو فقط خبير زلازل.
بعد بحث طويل، لم نجد اسمه في قواعد بيانات الورقات العلمية المنشورة في الدوريات المختصة، وهذا غريب حقًّا فعادة ما تكون للباحث أبحاث منشورة باسمه خضعت لما يعرف بمراجعة الأقران. النظرية التي يعتمد عليها هوغربيتس هي نفسها نظرية تأثير المشتري، حيث يعتقد أن محاذاة الكواكب لها تأثير في الأرض، يصل إلى درجة إحداث الزلازل.
لنبدأ الآن بتطبيق ما ناقشناه على الخبير الهولندي. أول معرفتنا به كانت حينما كتب قبل زلزال 6 فبرايرشباط المدمر في تركيا وسوريا أنه يتوقع أن يحدث زلزال في منطقة تقع بين سوريا وتركيا عاجلا أم آجلا، هذا الموقع لا يحمل سمات التنبؤ الثلاث، وذلك لأن الحدود بين سوريا وتركيا تقع بالفعل ضمن منطقة نشطة زلزاليا كما أسلفنا، شهدت الكثير من الزلازل على مرّ التاريخ.
لكن دعنا نفترض جدلا أن الباحث الهولندي كان يقصد بـعاجلا أم آجلا الأيام القليلة القادمة، ومن ثم يكون تنبؤه صحيحًا، هنا نحن أمام احتمالين لا ثالث لهما، فإما أن يكون ما حدث مجرد صدفة وإما أن يكون نظرية علمية جديدة ستكون الطفرة الحديثة الأهم في العلم كله، فكما هو معلن من قبل الهيئات البحثية المختصة؛ لا يمتلك العلماء أية نماذج أو أدوات يمكن من خلالها التنبؤ بالزلازل.
في هذا السياق دعنا نبدأ بالاحتمال الثاني، وهو أننا أمام عبقري اكتشف نظرية جديدة، لكن المنهجية العلمية تقضي بأن تُنحّى الصدف وأخطاء التنفيذ والتحيزات عن طريق التكرار، يعني ذلك أنه إذا نجحت في تحقيق نتيجة ما بأحد التجارب، فإن ذلك لا يعني أن نعامل النتيجة التي توصلت إليها على أنها حقيقة علمية، فقد تكون هذه النتائج مجرد مصادفة أو خطأ في استخدام الأدوات أو أنك تحيزت في أثناء تنفيذ تجربتك للحصول على نتيجة بعينها كانت محددة مسبقا، خاصة أن الزلازل التي تضرب كوكبنا ليست قليلة العدد.
لذلك يجب على علماء آخرين استخدام نظريتك وتكرار هذه التجربة والحصول على نتائج شبيهة، لكي نقول إن نظريتك صحيحة. في هذه النقطة تحديدًا ربما يجب أن نوضح أن فرانك هوغربيتس ليس شخصًا قليل التنبؤات. الرجل يتنبأ بالزلازل على الأقل مرتين أسبوعيًّا منذ سنوات عديدة، ويلقي بالتوقعات جزافًا هنا وهناك. فمثلا في 2015 توقع أن تُضرب كاليفورنيا بزلزال بقوة 8.8 على المقياس، ولم يحدث الزلزال ومر العام بسلام. وتوقع زلزالًا آخر في 2018 بسبب محاذاة كوكبية لكنه كذلك لم يحدث، ويمكن لك أن تأخذ جولة في حسابه على تويتر لتجد أنك على وشك الغرق في بحر من التنبؤات بالزلازل.
أضف إلى ذلك أن الرجل في كثير من الحالات لا يقول توقعات محددة، بل إن غالبية توقعاته تقع في نطاق نشاط زلزالي محتمل في هذه المنطقة، وعادة ما تكون تلك المنطقة واسعة وممتدة على الكوكب، وهذا لا يمكن أن يحسب توقعًا، لأن عدد الزلازل كبير وهناك مناطق بالفعل أكثر احتمالا لتلقي الزلازل، بل يجب أن تكون التوقعات محددة تماما بالوقت والمقياس والموضع، كما أسلفنا. الأرض تشهد سنويا العديد من الزلازل المؤثرة؛ لذا ينبغي أن يضع لنا الرجل توقعات محددة، ثم ننطلق في تطبيق نظريته.
يعني ذلك أن ما وصل إليك لم يكن سوى تنبؤ واحد نجح من بين آلاف التنبؤات، ألا يعني ذلك أن ما حدث يمكن أن يكون مجرد صدفة؟ في الحقيقة هناك مفهوم ربما يساعدنا على إدراك تلك الفكرة، إنه قانون الأعداد الكبيرة حقًّا Law Of Truly Large Numbers، الذي ينص على أنه في عينة ضخمة جدًّا يمكن لأي حدث مهما كان شاذًّا أن يحدث، ومن أشهر التقديرات التي نقولها دلالةً على ضعف احتمال ما مرة في المليون، لكن في شعب عدد أفراده 20 مليون شخص، هناك بالفعل فرصة لشيء ما كي يحدث.
The latest forecast video, in case you missed it. httpst.coqCyYXvlnzr
Frank Hoogerbeets hogrbe February 28, 2023
كلما ازداد عدد المشاركين في العينة أصبحت الاحتمالات الضعيفة أقرب إلى التحقق، هذه اللعبة تحديدًا تستخدم في الاحتيال، لنفترض أن أحدهم على الإنترنت يعمل منجمًا، وأخبرك أنه سيتمكن بنسبة مئة في المئة من توقع عشر لفات للعملة ستجريها على التوالي، فسيقول صورة، ثم تلف العملة للأعلى، وترى أنها بالفعل قد أظهرت الصورة بعد سقوطها، ثم سيقول كتابة، وتجد أن العملة بالفعل أظهرت الكتابة بعد سقوطها، ثم بعد 10 مرات من الاحتمالات لن يطلب أي شيء منك، فقد حصل بالفعل على مراده، وهو أنك أصبحت تؤمن به، وفي المستقبل ستطلب منه الكثير من الخدمات، لأنك متأكد أنه يمتلك قدرة ما خارقة
الآن دعنا نتأمل الأمر من منظور أعلى، هذا المحتال لا يلعب مع شخص واحد فقط، بل مع نحو ألفين وخمسمئة شخص، ومع كل واحد منهم، فإنه يتنبأ عشوائيًّا بالاحتمال القادم، حيث يضع احتمال صورة لنصف العدد 1250 شخصا، واحتمال كتابة للنصف الآخر، وسيصيب في بعض الحالات، ويخطئ في بعضها، هؤلاء الذين اكتشفوا خداعه سيتركون اللعبة، أما البقية فإنه سيستمر معهم في نفس اللعبة، حيث يتنبأ لنصفهم بـصورة، وللنصف الآخر بـكتابة، وهكذا تستمر السلسلة في التقدم، وهناك احتمال ضعيف بأن يتمكن بالفعل من التنبؤ بعشر لفات قبل أن تحدث، لكنه احتمال تحسبه نظرية الاحتمالات بقيمة 1 لكل 1024 حالة؛ مما يعني أنه في 2500 حالة ستكون هناك احتمالية مناسبة لأن ينجح، إنها حالتك أنت.
لو افترضنا -مثلًا- أنك كل عام نشرت عشرات التنبؤات السياسية على فيسبوك، ولتكن مثًلا الرئيس القادم سيُقتل في عامه الثالث، أو سيدة من المعارضة ستستولي على الحكم، أو ستسقط الحكومة في العام الثاني من انتخابها إلخ، ثم في مرة من المرات تحقق أحد تلك التنبؤات، فهنا يمكن لك إبراز هذا التنبؤ أمام الجمهور، ثم تدلل من خلاله على حنكتك السياسية، أو ربما أنك نوستراداموس العالم المعاصر، إلا أن الصورة الكبرى تتضمن مئات التنبؤات التي توقعتها على مدى سنوات طويلة، وكلها كانت خاطئة، كل المطلوب أن تسمح نظرية الاحتمالات بحدوث واحد منها حتى تصبح نجمًا إعلاميًّا جديدًا.
المنجمون أيضًا يتلاعبون بهذه الفكرة، فيطلقون مئات من التنبؤات يُتوقع أن يحدث واحد منها إلا أن احتمال حدوث كلٍّ منها على حدة ضعيف جدًّا، لكن المنجم في هذه الحالة يخفي كل ما سبق من تنبؤات، ويبرز هذا الجديد، فينهال الناس عليه بالتصديق.
يعيدنا ذلك إلى السؤال المهم هل يمكن أن يكون ما حدث مع الخبير الهولندي أمرًا مماثلًا لذلك؟ الرجل ببساطة يلقي بالعديد من التوقعات سنويًّا وصادف أن أحدها حصل حسنًا، لو تأملت الأمر قليلا لوجدت أن ذلك هو الاحتمال الأقرب إلى الصواب، فتوقعات الرجل السابقة الكثيرة التي حددت المقياس والوقت وقوة الزلزال لم تنجح، وتوقعاته العامة لا تتفق مع المعايير الثلاثة للتنبؤ بالزلازل الوقت والمقياس والمكان، ويمكن لأي أحد القيام بتوقعات من نوع زلزال قريب هنا أو نشاط زلزالي محتمل خلال الشهر القادم كما أسلفنا، بما في ذلك كاتب هذا التقرير أو قارئه.
حينما نقول إنه يجب علينا التعامل مع خبير الزلازل الهولندي على أنه مجرد مخرف فنحن لا نقصد إهانة الرجل، بل نقصد أنه حينما يكون الحدث كبيرًا جدا ونود أن نصل إلى الحقيقة، يجب أن نبدأ بتنحية عامل الصدفة والتحيز، وبالتالي نُشكك في صحة هذه الفرضية التي لا يقتنع بها هذا النطاق البحثي أصلا، ونطالب الخبير الهولندي بعدد من التوقعات المحددة جدا كي نكرر نتائج نظريته، يجب أن نفعل ذلك مع كل صاحب فرضية جديدة من هذا النوع.
يأتي ذلك كله في سياق مهم، وهو أن التنبؤ بالزلازل يعد عملية غاية في التعقيد، حدوث التصدعات في الصخور التي ترتبط بالزلازل يرتبط بعدد كبير من العوامل التي لا يمكن العلماء إجمالها في نظام تنبؤ دقيق، فمثلا قد تتداخل بعض الصخور بعنف لكنها تكون لينة فتتحمّل الصدمات، وقد تكون جافة فتتحطم فور اصطدامها وتتسبب في زلزال كبير، ولا يمتلك العلماء أية طريقة للتنبؤ بحالة تلك الصخور التي تمتد على مدى آلاف الكيلومترات.
أضف إلى ذلك أن تلك التصدعات لا تتحرك داخل الصخور باتجاه واحد، بل تتشعب مثل فروع الشجرة، حدوث تلك التشعبات يتعلق بطبيعة كل قطعة صخرية داخل القشرة الأرضية ودرجة حرارتها، وهو أمر من الضخامة والتعقيد بحيث لا يمكن دراسته بشكل كامل.
في الحقيقة، فإن سمك القشرة الأرضية يتراوح بين 30 و70 كيلومترا في القارات، وبين 6 و12 كيلومترا في أعماق المحيطات، ولا يمكن للعلماء الوصول إلى هذا العمق في كل مكان من أجل دراسته، فأعمق حفرة تمكن البشر من حفرها بلغت 12 كيلومترا فقط، وهي بئر كولا العميق، وكان مشروعا علميا لاستكشاف قشرة الأرض أجراه علماء الاتحاد السوفييتي وبدأ في 1970.
كل هذا ولم نتحدث بعد عن أثر الجاذبية الأرضية الذي يختلف من مكان إلى آخر، وحركة طبقة الوشاح أسفل طبقة القشرة، وهي الطبقة التي تقع بين نواة الأرض الكثيفة الشديدة الحرارة وقشرتها الخارجية الرقيقة، يبلغ سمك طبقة الوشاح حوالي 2900 كيلومتر وهي تتنوع في درجات الحرارة والرطوبة واللزوجة بشكل يؤثر تأثيرًا مختلفًا في القشرة السابحة فوقها.
إلى جانب ذلك، فإن طبيعة تحركات الصفائح الصخرية المكونة لقشرة الأرض الصفائح التكتونية التي تتسبب في غالبية الزلازل غير مفهومة تمامًا، فهي حركة بطيئة جدًّا وتتحرك بشكل يبدو للعلماء عشوائيًّا تمامًا، وبالتالي فإن تداخل أي منطقة بين الصفائح التكتونية لإحداث الزلازل هو أمر ممكن نظريًّا في أي وقت.
لكن رغم ذلك، فإن محاولات العلماء لم تتوقف، إذ لاحظ فريق منهم مثلا أنه قبل حدوث الزلازل فإن البيئة في موقع الزلزال تشهد بعض التغيرات مثل زيادة تركيزات غاز الرادون، وهو غاز يتكون من التحلل الإشعاعي لبعض المركبات الموجودة في الصخور، وقد تصور العلماء أن الشقوق الصغيرة التي تنشأ في الصخور قبل حدوث الزلزال تغير من نفاذية باطن الأرض ويهرب الغاز إلى السطح، حيث يمكن اكتشافه.
في العقد الماضي، خلصت بعض الدراسات إلى أن التركيزات المرتفعة لغاز الرادون في التربة أو المياه الجوفية يمكن أن تكون علامة على وقوع زلزال وشيك، وعلى الرغم من أن بعضا من الباحثين استخدم هذه الطريقة للتنبؤ بزلزال لاكويلا في إيطاليا عام 2009، فإن هذا النجاح لم يتكرر في مرات تالية، ولذلك فإن معظم العلماء ما زالوا متشككين في صحة هذه الطريقة.
وإلى جانب ذلك فقد لاحظ الناس منذ قديم الزمان أن الحيوانات قد تتأثر باقتراب الزلازل، بل رصدت بعض الدراسات هذا السلوك، حيث قام باحثون من معهد ماكس بلانك لسلوك الحيوان بربط أجهزة تفحص سلوك الأغنام والكلاب والأبقار في مزرعة إيطالية على مدى شهور أبلغت السلطات المختصة خلالها عن وقوع أكثر من 10 زلازل بقوة 4 درجات على المقياس أو أعلى.
وبحسب هذه الدراسة التي نشرها الفريق في دورية إيثولوجي في 2020 فقد تبين أن الحيوانات قد أظهرت أنماطًا سلوكية غير معتادة قبل حوالي يوم كامل من حدوث الزلزال واستمرت مدة ثلاثة أرباع ساعة، وأظهرت الدراسة كذلك أنه كلما اقتربت الحيوانات من مركز الزلزال فإن سلوكها الغريب يكون أوضح وكانت تبدأ فيه قبل أقرانها البعيدة عن مركز الزلزال.
لكن لا تزال الكيفية التي يحدث بها ذلك غير واضحة بالنسبة للعلماء، والأهم أنه على الرغم من أن بعض الدراسات قد رصدت استجابة الحيوانات للزلازل، فإن الحيوانات لم تستجب بشكل صائب في كل مرة، ففي بعض الأحيان استجابت الحيوانات ولم تكن هناك زلازل، وفي بعض الأحيان لم تستجب الحيوانات ولم تكن هناك زلازل، ولذلك فإن استخدامها للتنبؤ بالزلازل ليس مفيدا حتى الآن.
بعض الملاحظات الأخرى تعلقت بأضواء الزلازل. في بعض الأحيان تُلاحظ ظواهر مثل البرق والتوهجات في السماء بالاقتران مع الزلازل وبالقرب من مركز الزلزال، تسمى أضواء الزلازل، لكن إلى الآن يختلف الجيوفيزيائيون في مدى اعتقادهم حول صحة تلك الظاهرة، فقد تكون التقارير الفردية للإضاءة بالقرب من الزلزال راجعة لأي شيء مثل مشاكل خطوط الكهرباء، وقد تكون صحيحة.
وفي حالة صحتها فإن العلماء لا يعرفون بدقة أسباب تلك الظواهر، إذ يرى فريق منهم أن تلك الأضواء قد تكون ناتجة عن الشحنات الكهربائية التي يتم تنشيطها في أنواع معينة من الصخور أثناء النشاط الزلزالي الذي يضغط على تلك الصخور، ويرى فريق آخر أن ضغط الصخور في الزلازل يوجد ما يسمى التأثير الكهرضغطي، حيث تنتج الصخور الحاملة للكوارتز مجالات كهربائية قوية عند ضغطها بطريقة معينة، ويتصور فريق ثالث من العلماء أنها تفاعلات بين مركبات الغلاف الجوي وغازات خرجت من شقوق أحدثتها الزلازل قبل أو أثناء تكونها.
لكن للأسف حتى بافتراض صحة تلك الظاهرة، فإنها لا يمكن أن تستخدم للتنبؤ بالزلازل، أولا لأنها لا تظهر في كل الزلازل، وثانيًا لأن تلك الأضواء قد تظهر ولا تحدث زلازل، أو قد تحدث زلازل من دون أضواء، ولذلك فإنه لا يمكن استخدامها أداة في هذا النطاق.
وينطلق الأمر إلى خرافات كاملة في هذا النطاق، حيث يتصور الناس أن البعض يصاب بأعراض مثل الغثيان أو أي من الأعراض الأخرى مثل الصداع أو اضطراب البصر، قبل وقوع الزلازل، لكن لا توجد أية دراسات تؤكد هذه الظاهرة، وقد يكون الأمر أن البعض أصيب بأعراض مثل الغثيان أو حرقة المعدة ثم يحدث زلزال فيربط هذا بذاك. تعرف الحساسية للزلازل بأنها حالة تحدث لبعض الأشخاص حيث يمكنهم أن يمتلكوا حساسية اتجاه ضربات الزلازل الوشيكة، التي تتجلى في الأحلام أو الرؤى أو المشاعر العنيفة أو الأعراض الفسيولوجية مثل طنين الأذن أو الغثيان أو غيرها من الأعراض. يشير المروجون لتلك الفرضية إلى أنها تحدث بسبب الحساسية للمجال الكهرومغناطيسي أو انبعاثات بعض الغازات التي قد تصحب الزلازل، لكن في النهاية لا يوجد دليل علمي موثوق به على مثل هذه الآثار، ولا أي نظرية حول كيفية إدراك هذه الآثار، وتعد الحساسية للزلازل علما زائفا تمامًا.
وبحسب هيئة المسح الجيولوجي الأمريكية فإنه لم يتمكن أحد إلى الآن من امتلاك القدرة على التنبؤ بالزلازل، والادعاءات التي تنتشر من حين إلى آخر وتتعلق بالقدرة على التنبؤ بالزلازل إما أنها لا تستند إلى أدلة علمية، وإما أنها لا تحدد العناصر الثلاثة المطلوبة للتنبؤ الوقت، القوة، الموقع فتكون عامة جدًّا لدرجة أنه سيكون هناك دائمًا زلزال مناسب. وتضيف الهيئة أن كل ما يمتلكه العلماء حتى اللحظة هو فقط درجات من الاحتمال، كما أسلفنا.
حاليا، يأمل العلماء أن تتمكن قدرات الذكاء الاصطناعي من فهم كل التعقيد الكامن في القشرة الأرضية عبر تجميع البيانات والبحث عن أنماط خلالها، وكان فريق من الباحثين قبل عدة سنوات قد تمكن بعد الاستماع إلى إشارة صوتية منبعثة من زلزال تم إنشاؤه في المختبر، من استخدام التعلم الآلي للتنبؤ بالوقت الباقي قبل حدوث الزلزال. وبحسب الدراسة التي نشرها هذا الفريق في دورية جيوفيزكال ريسيرش ليترز، فإن الضوضاء القادمة من منطقة الصدع في المختبر قبل حدوث الزلزال قد وفرت معلومات حول موعد انزلاق الصفائح التكتونية، لكن الأمر لا يزال موضع دراسة.
يظل ما فعله الخبير الهولندي مهمًّا في توضيح الفرق بين بديهتنا والمنهج العلمي في التفكير، لأننا في خضم الأحداث الكبرى تحديدا ننزع للتوتر والخوف فنفتقد التفكير العقلاني ونقع فورًا في أسر التفكير غير السليم. سنقول في أنفسنا رجل يتنبأ بالزلزال الكارثي الذي قتل أكثر من 50 ألف شخص؟ لا يمكن أن يكون ذلك مجرد صدفة، لكن القواعد البسيطة لنظرية الاحتمالات، تقول إن ذلك ممكن جدا.
في الواقع وخلال الفترة السابقة كانت قصة الخبير الهولندي هي أقل الأخطاء الشائعة في الفهم وطئًا، فقد سافر الأمر إلى خرافات بحتة، عن الكائنات الفضائية والتحكم في الزلازل عن طريق أجهزة خفية تمتلكها مجموعة من الأشرار، بل تطور الأمر إلى ظهور الدجال ونهاية العالم
الأسوأ من ذلك هو كم الرعب الذي يحيط بكل هذه الفوضى، في سياق الكوارث الكبرى، يصاب الجمهور بصورة غير مرضية من اضطراب ما بعد الصدمة، فتنتشر الأفكار السلبية عن نفسك أو الآخرين أو العالم، ويصبح اليأس من المستقبل قاعدة أساسية، ينتشر الشعور بالذعر أو الخوف بسهولة، ويكون هناك انتباه دائم لوجود خطر، تستغل هذه الحالة الكثير من الصفحات، بل والمنصات الإخبارية للترويج لكل ما يتسبب في الرعب حتى لو كان غير مبني على قاعدة علمية رصينة.
وللأسف، فإن بعض المنصات الإخبارية العربية انساقت وراء الخبير الهولندي وتنبؤاته التي تلفت انتباه الناس، وروجت لخرافات التسونامي والزلازل الكبرى القادمة، دون النظر حتى إلى ما يقوله العلم في هذه القضايا، ولم يدرك أحد من هذه المنصات كم الألم والرعب وترويع الآمنين الذي يحدث، فالهدف هو فقط إقبال الجمهور | https://www.aljazeera.net/science/2024/5/23/%d8%b1%d8%ba%d9%85-%d8%b5%d8%af%d9%82-%d8%aa%d9%88%d9%82%d8%b9%d9%87-%d8%a8%d8%ad%d8%af%d9%88%d8%ab-%d8%b2%d9%84%d8%b2%d8%a7%d9%84-%d8%aa%d8%b1%d9%83%d9%8a%d8%a7 | 2024-05-23T07:31:56 | 2024-05-23T08:29:54 | أبعاد |
|
53 | كيف غرقت إسرائيل في مستنقع الجنوب وانتصر حزب الله في حرب تموز؟ | هناك تشابه أخير لا يمكن تجاهله بين الحرب الحالية وحرب عام 2006، تظهره نتائج لجنة فينوغراد لبحث وتقصي الحقائق في إخفاقات الجيش الإسرائيلي في حرب تموز، وهي عدم امتلاكها لإستراتيجية خروج واضحة. |
إن إسرائيل لا يمكنها إعلان النصر في هذه الحرب، فقد كان بوسع حسن نصر الله الخروج في اليوم التالي معلنًا انتصاره.
في الأول من أكتوبرتشرين الأول الجاري، بدأت إسرائيل غزوها البري للبنان الذي وصفته بأنه عملية عسكرية محدودة، وهو ما يعيد إلى الأذهان الاجتياحات الإسرائيلية للأراضي اللبنانية في العقود الماضية، وآخرها في يوليوتموز 2006.
وذلك حين غزا الجيش الإسرائيلي، متسلحا بعتاده المتقدم والدعم المالي والتقني الأميركي، الأراضي اللبنانية بغية تقويض حزب الله، الذي كان حينها لا يزال قوة صاعدة أقل عددا وعتادا مما هو عليه الآن.
وبالرغم من هذا التفاوت الكبير بين الجبهتين، تمكن حزب الله من إلحاق هزيمة بإسرائيل وأجبرها على الانسحاب في غضون 33 يوما فقط.
حينها قارن المراقبون الإسرائيليون تلك الحرب بحرب فيتنام، بل أطلق عليها بعضهم فيتنام إسرائيل.
فكما تمكنت قوات فيتنامية غير نظامية من هزيمة الجيش الأميركي الأقوى عالميا وإجباره على الانسحاب من فيتنام ملحقة به أكبر وصمة في تاريخه، هزّ حزب الله مكانة الجيش الإسرائيلي بشكل غير مسبوق وطرح أسئلة جدية حول قدرته على الردع، بل وأثار الشكوك حول دور إسرائيل ومكانتها في المنطقة، بإقرار لجنة الخارجية والأمن في الكنيست الإسرائيلي في تقريرها الصادر في ديسمبركانون الأول عام 2007، بعد عام ونيف على الحرب.
في هذا التقرير نستحضر نموذج معركة 2006، التي يُطلق عليها حرب لبنان الثانية، أو حرب تموز، والتي تمكنت فيها المقاومة اللبنانية ممثلة في حزب الله من إعادة الجيش الإسرائيلي منكسرا وخالي الوفاض بعد مغامرة قصيرة في أراضي لبنان.
يوفر لنا هذا النموذج فرصة لإضاءة بنك التوقعات التي تصاحب عملية الاجتياح الحالية.
صحيح أن ظروفا كثيرة تغيرت، قد يكون أهمها غياب زعيم الحزب حسن نصر الله بعد اغتياله، ووجود حكومة إسرائيلية توصف بأنها الأكثر تطرفا في تاريخ إسرائيل، والتي يرأسها بنيامين نتنياهو، والذي يبدو أنه على استعداد لأن يحارب حتى الرمق الأخير.
لكن تظل هناك معادلات حاكمة لهذا الصراع، أبرزها أنه لا يزال صراعًا بين جيش نظامي تدعمه قوى دولية كبرى وجماعة مسلحة ذات حلفاء إقليميين، وفي بيئة اتسعت فيها الجبهات، ويحوطها توتر جيو استراتيجي متفاقم.
ويظل العامل الأخطر هذه المرة هو الارتباك الذي لا بد أن حزب الله يمر به، جراء الضربات المصممة لقطع أنظمة اتصالاته، وتفريغ قياداته، والتي سبقت مباشرة إعلان الغزو الإسرائيلي. وهو ما يجعلنا نتساءل هل يمكن أن تعود الكرّة مرة أخرى ويغرق نتنياهو في مستنقع الشمال؟ أم أن الأمر مختلف هذه المرة؟
بدأت إسرائيل عدوانها على الجنوب اللبناني في 12 يوليوتموز 2006، على خلفية نجاح حزب الله في أسر جنديين إسرائيليين عبر الحدود الشمالية، بغرض مبادلتهم بمعتقلين في السجون الإسرائيلية؛ إلا أن تل أبيب رفضت التفاوض وقررت بدلا من ذلك اللجوء إلى لغة الحرب التي تفضلها، لتبدأ المعركة بقصف جوي إسرائيلي مكثف وحصار بحري، تبعه توغل بري في الجنوب اللبناني.
لطالما كانت العودة إلى لبنان حلما يراود القادة الإسرائيليين بعد أن أُجبروا على الانسحاب من البلد العربي الصغير بعد 18 عاما من غزوه عام 1982.
وكان احتلال إسرائيل للأراضي اللبنانية حينها هو الشرارة التي حفزت ظهور المقاومة غير النظامية الأكثر شراسة والأفضل تجهيزا ضد إسرائيل حتى ذلك الحين ممثلة في حزب الله، الذي أدّى دورا بارزا في إنهاء الاحتلال الإسرائيلي للبنان.
وفي أعقاب انسحاب إسرائيل، ألقى حسن نصر الله خطابا شهيرا في مدينة بنت جبيل المحررة، عرف باسم خطاب بيت العنكبوت أعلن فيه الانتصار على إسرائيل وأذلها خطابيا بعد أن أذاقها البأس ميدانيا بقوله إن إسرائيل التي تملك أسلحةً نووية وأقوى سلاح جو في المنطقة، هي أوهن من بيت العنكبوت.
منذ ذلك الوقت حلمت إسرائيل بهزيمة حزب الله في عقر داره، ورفع العلم الإسرائيلي في بلدة بنت جبيل التي ألقى بها نصر الله خطابه المحفور في الذاكرة.
وبهذه النية حاولت القوات الإسرائيلية السيطرة على منطقة بنت جبيل في يوم 24 يوليوتموز عام 2006 إبان الحرب اللبنانية الثانية، إلا أنها خاضت مع مقاومة حزب الله واحدة من أشرس المعارك، انتهت بمقتل 13 جنديًّا إسرائيليًّا وإصابة العشرات؛ مما اضطر القوات الإسرائيلية إلى الانسحاب من بنت جبيل بحلول يوم 29 يوليوتموز.
بيد أن أهداف إسرائيل من حرب تموز كانت تتجاوز محاولة محو الإذلال الذي تعرضت له في لبنان، نحو تحقيق أهداف إستراتيجية أوسع نطاقا. وشملت الأهداف المعلنة الإفراج غير المشروط عن الأسرى الإسرائيليين وتدمير حزب الله ونزع سلاحه وإنهاء تهديده للحدود الشمالية للاحتلال، وفيما وراء كل ذلك، كان هناك هدف كبير غير معلن هو استعادة إسرائيل لقدرتها على الردع العسكري، التي تضررت بشدة بعد انسحابها مجبرة من قطاع غزة عام 2005.
غير أن دولة الاحتلال لم تتمكن من تحقيق أي من هذه الأهداف، وحتى هدف إطلاق سراح الأسرى لم يتحقق إلا بعد مرور زهاء عامين على الحرب، وليس عن طريق القتال كما أرادت إسرائيل، ولكن عبر المفاوضات غير المباشرة تماما كما أراد حزب الله. كما خسرت إسرائيل 121 جنديا في المعارك، إضافة إلى 44 آخرين قتل معظمهم بفعل صواريخ حزب الله التي حلقت فوق رؤوس الإسرائيليين في المدن الفلسطينية المحتلة، ولم تتوقف إلا مع صدور القرار الأممي رقم 1701 القاضي بوقف إطلاق النار في 11 أغسطسآب 2006، بعد 33 يوما من الإذلال العلني لجيش طالما ادعى أنه لا يقهر.
ومن فضول القول، أن حرب تموز لم تنجح في تقويض قدرات حزب الله، التي نمت وازدهرت بوضوح منذ ذلك الحين، حتى أصبح الحزب اليوم يمتلك ترسانة ضخمة من الصواريخ تقدر بما يزيد على 150 ألف صاروخ بحسب التقديرات الإسرائيلية، وهو عشرة أَضعاف ما كان يملكه عام 2006 حوالي 14 ألف قذيفة متنوعة المدى، كما ضاعف الحزب عدد مقاتليه من أقل من 10 آلاف مقاتل 5 آلاف في بعض التقديرات إلى زهاء 100 مقاتل اليوم، فضلًا عن الطفرات التقنية والتكتيكية التي حققها منذ ذلك الحين.
أكثر من ذلك، أعطت تلك الحرب فرصة غير مسبوقة للحزب اللبناني لاستعراض قوته.
لقد شهدت الحرب قيام حزب الله للمرة الأولى بإطلاق صواريخه باتجاه الأجواء الإسرائيلية وكان هذا أول تهديد صاروخي حقيقي لإسرائيل منذ صواريخ سكود العراقية التي أطلقها صدام حسين من العراق عام 1991، حيث لم تكن صواريخ المقاومة الفلسطينية الناشئة آنذاك أُطلق أول صاروخ من حركة حماس نحو الأراضي المحتلة في عام 2001 قد بلغت المدى الذي تشكل معه تهديدا حقيقيا.
إلى درجة أن تقرير مجموعة الأزمات الدولية الصادر في 25 يوليوتموز 2006 وصف ترسانة حزب الله العسكرية في ذلك الوقت بأنها ترسانة مخيفة يمكن لها أن تهدد أمن مستوطنات الشمال الإسرائيلي الذي أُجبر سكانه على ترك منازلهم والاحتماء بالملاجئ.
كان الكاتيوشا هو بطل تلك الحرب بلا منازع. والكاتيوشا قذائف صاروخية روسية الأصل يصل مداها إلى 40 كيلومترا، وبإمكانها حمل رأس حربي يزن 20 كيلوغراما من المواد المتفجرة، وقد أطلق حزب الله منها زهاء 3500 قذيفة على مدار الحرب، بعد أن كدسها في مخابئ ومواقع إستراتيجية جاهزة للإطلاق في الجنوب اللبناني.
وإلى جانب الكاتيوشا، أطلق الحزب 700 صاروخ من طرز أخرى متنوعة يتراوح مداها بين 40 و200 كيلومتر، مع حمولة تصل إلى 600 كيلوغرام من المتفجرات، على رأسها صواريخ فجر-5 التي استخدمها حزب الله لأول مرة في هذه الحرب، مع مدى يبلغ 75 كيلومترا ورأس حربي يزن 90 كيلوغراما.
كما استخدم الحزب أيضا نوعا من صواريخ غراد غير الموجهة، وهي صواريخ سوفيتية تعود إلى الخمسينيات ويصل مداها إلى 20 كيلومترا وتعد من أكثر الصواريخ انتشارا منذ ظهورها، ورغم ضعف دقتها فإنه يمكن توجيهها بنجاح من المسافات القصيرة فضلا عن سهولة نقلها وإمكانية إطلاقها بشكل متزامن.
هذا فضلا عن مجموعة متنوعة من الصواريخ المضادة للسفن أهمها صواريخ سي-802 C-802 الصينية المنشأ، التي يصل مداها إلى 120 كيلومترا، وهي مزودة برأس حربي يزن 165 كيلوغراما، وقد مكنت حزب الله من استهداف الفرقاطة الإسرائيلية آي إن إس خانيت أو الرمح، وهي إحدى ثلاث فرقاطات من طراز ساعر 5 بنتها شركة نورثروب غرومان للجيش الإسرائيلي، وتكلف الواحدة منها أكثر من 250 مليون دولار؛ لذا فإن تدميرها فرض هيمنة نفسية مبكرة لحزب الله على مجريات الحرب.
في غضون ذلك، ساعدت الصواريخ الموجهة المضادة للدبابات حزب الله على تحقيق نجاحات تكتيكية مهمة في المعارك البرية، وأهمها منظومة صواريخ كورنيت الروسية المنشأ، التي يصل مداها إلى 10 كيلومترات، والتي اخترقت المدرعات والمواقع الحصينة، وألحقت خسائر كبيرة بصفوف مشاة الجيش الإسرائيلي.
وقد ذكر الدكتور يوسف نصر الله في كتابه الحرب النفسية قراءات في إستراتيجيات حزب الله، أن الجنود الإسرائيليين كانوا يخشون الوجود في الوحدات القتالية التي تتطلب الاشتباك المباشر مع المقاومة، ومنها سلاح المدرعات الميركافا، إذ تحولت هذه الأسلحة إلى توابيت متنقلة، بفعل القذائف المضادة للدبابات، وفي مقدمتها الكورنيت.
يدفعنا ذلك إلى التساؤل عن السبب الذي يجعل قوة غير نظامية أقل عددا وتجهيزا، قادرة على إلحاق الهزيمة بجيش نظامي متفوق. ويكمن الجواب في تكتيكات الحرب غير التقليدية التي أتقنها حزب الله منذ نشأته، والتي عانى منها الجيش الإسرائيلي في المقابل.
عن ذلك يقول الباحث الإسرائيلي رون بن يشاي إن الأزمة في الحرب بين قوات عسكرية نظامية وجماعات عسكرية غير تقليدية، تكمن في أن كافة الأساليب العسكرية المُتبعة عادة في الحروب التي من شأنها أن تقوض القوى الدفاعية لهذه الجماعات، لا تحقق النتائج المرجوة منها.
كان يشاي يشير إلى ما يُعرف اليوم بـالحروب الهجينة، وهي إستراتيجية تمزج بين وسائل الحرب التقليدية وتكتيكات حروب العصابات، وفيها لا تتحكم الفوارق في العدد والعتاد وحدها في نتائج المعركة.
إذ تعتمد المعارك على التكيف وتكتيكات الكر والفر والاختفاء والظهور وإعداد الكمائن، وبالتالي تصبح المرونة التنظيمية والخفة والقدرة على التكيف عوامل مؤثرة، بل حاسمة.
إذا قمنا بتحليل عمليات حزب الله في حرب 2006، فسنجد أنها أظهرت تنوعا ملحوظا بين أنماط القتال المختلفة بما يشمل الكمائن البسيطة أو المركبة، والاستدراج نحو الفخاخ بأنواعها، والغارات البسيطة والمعقدة، والهجمات عبر الخنادق وغيرها، وهي إستراتيجية تهدف إلى مفاجأة العدو، وجعله غير قادر على التنبؤ بتحركات القوات في ميدان المعركة.
في الوقت ذاته، اعتمد الحزب على مبدأ عدم إخلاء الميدان وأن يكون لكل نقطة مقاتلوها وفقًا لطبيعتها وخبرة المقاتلين، وهو ما جعل قوات العدو غير قادرة على التشبث بالأراضي التي تصل إليها، ويذكرنا ذلك بالمعارك التي تخوضها كتائب القسام والمقاومة الفلسطينية في قطاع غزة ضد قوات الاحتلال منذ السابع من أكتوبرتشرين الأول الماضي.
ما ساعد حزب الله على فعل ذلك هو معرفته الكبيرة بالجغرافيا ونجاحه في تطويعها لصالحه، وهو مبدأ أساسي للحروب الهجينة أو الحروب غير المتكافئة، فاستخدم مقاتلوه الكهوف والأشجار والنباتات لإخفاء تحركاتهم، كما استفادوا من شبكة معدة جيدا من المخابئ والأنفاق في المناورات الحربية وإعداد الكمائن، واستغلّوها أيضا في عمليات إطلاق الصواريخ ونقل المعدات بشكلٍ آمن نسبيًّا.
كانت عملية إطلاق الصواريخ نفسها مدروسة ومحسوبة وليست عشوائية أو اعتباطية، فقد تمت الاستعانة بها إلى جانب مسيّرات من طراز مرصاد في تدمير البنى التحتية الإسرائيلية المهمة.
كما استمر قصف الشمال الإسرائيلي بالصواريخ طوال مدة الحرب لإيجاد تأثير نفسي هائل، ووُظفت القذائف المضادة للدبابات في المعارك البرية بفاعلية؛ مما أثمر تدمير نحو 20 دبابة إسرائيلية على مدار الزمن القصير للحرب.
أضف إلى ذلك ما أشار إليه الدكتور يوسف نصر الله في كتابه المذكور سابقا حول امتلاك حزب الله لقدرات جيدة في مجالات الإشارات اللاسلكية ومكافحة التجسس، كان لها بالغ الأثر في سير العمليات البرية؛ إذ جعلته قادرًا على التنبؤ بالمكان والزمان الصحيح الذي ستهاجم فيه المقاتلات والقاذفات الإسرائيلية.
يعضد ذلك النتائج التي خلصت إليها ورقة بحثية تفصيلية كتبها جيفري فريدمان وستيفن بيدل بعنوان حملة لبنان 2006 ومستقبل الحروب.
حيث أشار الكاتبان إلى أن حزب الله كثف اعتماده على اثنين من الأسلحة المهمة في حرب 2006، الأول هو مدافع الهاون، التي استخدم منها ما لا يقل عن 120 قذيفة في قرية مركبا للهجوم على إحدى وحدات الجيش الإسرائيلي، والثاني حقول الألغام التي قام مجندو الحزب بزراعتها عبر مساحات واسعة في الجنوب اللبناني.
وتعد معركة بلدة مارون الراس في 20 يوليوتموز، خير مثال على ذلك، إذ استغل مقاتلو الحزب الألغام المزروعة بدقة في الطرق الرئيسية للإيقاع بقوات الجيش الإسرائيلي أثناء تقدمها، وكان ذلك جزءًا من الخطة التي أعدوها للدفاع عن البلدة.
في النهاية، تفوق التنظيم الدقيق لحزب الله رغم ضعف العتاد، على القوة الباطشة للجيش الإسرائيلي الذي راهن رهانا خطيرا على انهيار حزب الله مبكرا.
ووفقا للعقيد المتقاعد في سلاح الجو الإسرائيلي غور لايش، كانت إستراتيجية إسرائيل متمحورة حول شن غارات جوية على البنى التحتية العسكرية لحزب الله في الجنوب اللبناني لتقويض قدراته الرئيسية، ومن ثم تتبعها العمليات البرية، التي كان من المفترض أن تستكمل أهداف هذه الحرب بتدمير قدرات حزب الله.
إلا أن الحزب -باعترافِ غور لايش- لم ينهر، بل حافظ على طابعه المنظم طوال فترة العمليات، وهذا على العكس من الجيش الإسرائيلي الذي لم يلتزم بإستراتيجية متماسكة موحدة.
أحدثت هزيمة إسرائيل في حرب لبنان الثانية زلزالا داخليا عنيفا، وحفزت إجراء 50 تحقيقًا داخليا لمراجعة أوجه القصور والإخفاقات والاستفادة منها في التجهيز للمواجهة القادمة مع حزب الله.
وفي عام 2017، نشر العقيد احتياط في الجيش الإسرائيلي غابي سيبوني، ورقة بحثية في معهد دراسات الأمن القومي الإسرائيلي، تناول فيها التقييمات والمراجعات الإسرائيلية المتعلقة بحرب تموز وكيف أثرت في بناء وتشغيل وحوكمة الجيش الإسرائيلي، الذي عانى من مشكلات عديدة متعلقة بالسيطرة وغياب التنسيق بين القيادة العامة والقيادة الميدانية، والفشل في العمليات العميقة داخل الحدود اللبنانية.
أشار سيبوني إلى أن إصدار وثيقة إستراتيجية الجيش الإسرائيلي عام 2015، جاء في إطار وضع أسس جديدة لقيادة العمليات بعد الانقسام الذي شهدته القيادة العسكرية الإسرائيلية في حرب تموز، مضيفا أن تأسيس لواء عوز عام 2015، وهو اللواء المكرس كليًّا للعمليات الخاصة، قد جاء ثمرة لهذه المراجعات بهدف تحسين أداء الجيش في المعارك البرية وتعزيز فعالية العمليات الخاصة.
ومع اندلاع العدوان الإسرائيلي الحالي على لبنان، كانت إحدى الوحدات الخاصة التابعة للواء عوز، وهي وحدة الكوماندوز الإسرائيلية إيغوز، في طليعة المواجهات البرية مع مقاتلي حزب الله.
وكما هو واضح، أعدت لهذه المواجهة طويلا منذ عام 2006، إلى درجة أن الجيش أدرج في 2019 مفهوما عملياتيا جديدا باسم خطة الزخم يصنف حزب الله على أنه العدو الرئيسي للدولة العبرية، وتضمن وضع قوائم أهداف واسعة، تسمح بتدمير قدرات حزب الله العسكرية في حالة اندلاع صراع مستقبلي.
قوائم الأهداف الواسعة تلك اتضحت تفاصيلها أكثر إثر سلسلة الهجمات التي نفذتها إسرائيل واستبقت بها الاجتياح البري، مثل تفجيرات أجهزة النداء البيجر واللاسلكي، واغتيال قيادات الحزب وعلى رأسهم الأمين العام حسن نصر الله، وهو ما منح إسرائيل زخما ونشوة مبكرة في افتتاح المعارك، لكن من غير المضمون أن يستمر هذا الزخم إذا ما قررت إسرائيل إطالة أمد عملياتها البرية.
لقد أثبتت حرب عام 2006 أن المعارك البرية في لبنان ليست نزهة، وأن حزب الله لديه من المرونة ما يكفي لتجاوز آثار الضربة الإسرائيلية المبكرة واستعادة التوازن تدريجيا إذا طال أمد القتال، خاصة في ساحة يعرفها أكثر من خصومه.
وقد ظهرت مؤشرات على ذلك في اشتباكات اليومين الماضيين، بعدما استهدف حزب الله قوات جيش الاحتلال المتوغلة في الأراضي اللبنانية، بما في ذلك وحدة الكوماندوز التابعة للواء عوز، مسقطا 8 من ضباطها وجنودها في كمائن متقنة، وهو سيناريو مرشح للتكرار كلما طال أمد الحرب.
هناك تشابه أخير لا يمكن تجاهله بين الحرب الحالية وحرب عام 2006، تظهره نتائج لجنة فينوغراد لبحث وتقصي الحقائق في إخفاقات الجيش الإسرائيلي في حرب تموز، التي أشارت إلى ثغرة خطيرة في العدوان الذي شنته إسرائيل على لبنان، وهي عدم امتلاكها لإستراتيجية خروج واضحة إذا لم تسر الأمور على ما يرام.
وتعد هذه نقطة ضعف تاريخية لدى العسكرية الإسرائيلية التي تبرع في شن الحروب أكثر مما تبرع في إنهائها ولا أدل على ذلك من حرب غزة التي شارفت على عامها الأول. وإذا قررت إسرائيل التمادي في لبنان أبعد من عمليتها المحدودة حتى يستعيد حزب الله توازنه، فليس من المستبعد أن يكون ما لقيته في غزة أقرب إلى نزهة بالمقارنة مع ما ستواجهه في مستنقع الشمال. | https://www.aljazeera.net/politics/2024/10/6/%d9%83%d9%8a%d9%81-%d8%ba%d8%b1%d9%82%d8%aa-%d8%a5%d8%b3%d8%b1%d8%a7%d8%a6%d9%8a%d9%84-%d9%81%d9%8a-%d9%85%d8%b3%d8%aa%d9%86%d9%82%d8%b9-%d8%a7%d9%84%d8%ac%d9%86%d9%88%d8%a8 | 2024-10-06T17:55:17 | 2024-10-15T00:06:14 | أبعاد |
|
54 | ليلة سقوط كورسك.. كيف انكسر الروس على هذا النحو المدهش؟ | إستراتيجيا، لم تتكشف بعد كامل أهداف “الغزو” الأوكراني لمنطقة كورسك أو مآلاته، ولا يزال الروس أنفسهم يتعاملون مع الأمر بحذر شديد. إلا أن نقل الحرب إلى داخل الأرض الروسية، قد يغير شكل الحرب وطبيعتها. | في السادس من أغسطسآب الجاري، شنَّت القوات الأوكرانية هجوما مباغتا غير مسبوق على الأراضي الروسية سيطرت خلاله على عشرات البلدات في مقاطعة كورسك، فيما وُصف بأنه أكبر حملة ضد الأراضي الروسية منذ الحرب العالمية الثانية. وبحلول يوم 15 أغسطسآب، أعلن القائد العام الأوكراني أولكسندر سيرسكي أن بلاده أنشأت مكتب قائد عسكري في كورسك للحفاظ على القانون والنظام، وضمان الاحتياجات ذات الأولوية للسكان. وفي اليوم نفسه، تقدمت القوات الأوكرانية ما بين 500 متر و1.5 كيلومتر في مناطق غير محددة من المقاطعة، ما يرفع عمق تقدمها إلى 35 كيلومترا منذ بدء العملية، ويُعَد هذا أكبر مما اكتسبه الروس خلال أشهر من الحرب القائمة بين الطرفين منذ 30 شهرا.
منذ اللحظة الأولى للعملية، رجح الكثيرون، وفي مقدمتهم الروس، أن ما يحدث ليس إلا اختراقا بسيطا سيلتئم سريعا مع إرسال الدفاعات الروسية إلى كورسك، لكن رغم مرور زهاء 12 يوما، لا يزال الأوكرانيون متمركزين في كورسك، بل ويتقدمون يوما بعد يوم، لكن تقدمهم بات أبطأ في الأيام الأخيرة، مع متوالية من السيطرة والسيطرة المضادة على البلدات بين الأوكرانيين والروس.
على جبهة منفصلة، تحافظ القوات الروسية على وتيرة هجومها المرتفعة نسبيا في عدة مناطق، منها دونيتسك في شرق أوكرانيا، ما يعني أن القيادة العسكرية الروسية لا تزال تعطي أولوية للتقدم في شرق أوكرانيا حتى مع الضغط في كورسك، لكن نظرة بسيطة على معدلات إسقاط القنابل الانزلاقية الروسية على منطقة دونيتسك تُبيِّن أن طائرات الروس لا تعمل بطاقتها المعتادة فوق المنطقة، ما يعني أن عددا منها سُحب إلى جبهة أخرى. على الجانب الآخر، سحبت كييف وحدات من ألوية متعددة بعضها كان رابضا في أكثر أجزاء خط المواجهة سخونة، حيث يستمر القتال بين الطرفين بلا هوادة.
للتغلب على هذه المعضلة، قام الجيش الروسي على ما يبدو بنقل عناصر مختارة من الوحدات الروسية من منطقة دونيتسك للتعامل مع التوغل الأوكراني في كورسك، لكنه تجنب سحب الوحدات العسكرية الروسية المنخرطة في القتال ضمن القطاعات ذات الأولوية في المنطقة بسبب المخاوف بشأن إبطاء وتيرة العمليات الروسية، بحسب مركز دراسات الحرب الأميركي.
لكن ذلك لا يعني أن الروس لا يواجهون مشكلة، إذ يعتقد فريق من الخبراء أن القيادة العسكرية والسياسية في روسيا لم تكن مستعدة لحدث من هذا النوع، بسبب اطمئنانها إلى اتفاق ضمني مسبق مع القوى الغربية على أن استخدام أوكرانيا الأسلحة الغربية لاختراق الحدود الروسية يرقى لأن يكون مقدمة لحرب نووية. ونتيجة لذلك، أخفق الكرملين على ما يبدو في التخطيط لاحتمال حدوث توغل أوكراني كبير في روسيا، وتعامل مع الحدود الروسية مع شمال شرق أوكرانيا باعتبارها جبهة كاملة منذ بداية الحرب خريف عام 2022، وبالتالي لم تُوضع خطة طوارئ للتعامل مع أحداث من هذا النوع.
ومن المرجح أن الأوكرانيين استخدموا أسلحة غربية في الهجوم على كورسك. وقد صرحت وزارة الدفاع البريطانية مثلا أن كييف يمكنها استخدام المعدات والأسلحة البريطانية بما يتماشى مع القانون الدولي للدفاع عن نفسها، مؤكدة أن القيود مفروضة على استخدام أسلحة معينة في غزو الأراضي الروسية، وفي مقدمتها صواريخ ستورم شادو بعيدة المدى. ويعني ذلك أن القوات الأوكرانية لا يزال بإمكانها استخدام الأسلحة البريطانية الأخرى في عملياتها الدفاعية، مثل دبابات تشالنجر التي استُخدمت بالفعل في التوغل في منطقة كورسك. في مواجهة ذلك، سارع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى وصف العملية بأنها استفزاز يتطلب ردا مضادا، مع الإشارة إلى حلفاء أوكرانيا في حلف شمال الأطلسي الناتو قائلا الغرب يقاتلنا بأيدي الأوكرانيين.
في السياق ذاته، كشفت مصادر أميركية أن البيت الأبيض منفتح على إرسال صواريخ كروز بعيدة المدى جو-أرض مشتركة من نوع جاسم JASSM إلى أوكرانيا، لكنه لم يتخذ قرارا نهائيا، كما تشير تقارير إلى أن البنتاغون يعمل مع أوكرانيا لضمان استخدام طائرات إف-16 بالشكل الأمثل في العمليات الجوية أعلى المنطقة، وضمان قدرة الطائرات على إطلاق الصاروخ الذي يبلغ وزنه 1200 كيلوغرام ويحمل رأسا حربيا شديد الانفجار بوزن 400 كيلوغرام.
يأتي ذلك جزءا من محاولات الولايات الولايات المتحدة على مدى عامين تجزئة سلاحها المفترض إرساله إلى أوكرانيا لقتال الروس على شكل قطع صغيرة متدرجة في القوة والمدى لتجنب استفزاز موسكو مرة واحدة، بدءا من السماح بتمرير أسلحة تعمل في نطاق منطقة خاركيف فقط، ثم السماح للأوكرانيين باستهداف المنطقة الحدودية مع روسيا، ثم تزويد الأوكرانيين بأنظمة صواريخ متحركة أو ذات مدى أبعد قادرة على الوصول إلى الأراضي الروسية في الوقت الحالي.
إستراتيجيا، لم تتكشف بعد كامل أهداف الغزو الأوكراني لمنطقة كورسك أو مآلاته، ولا يزال الروس أنفسهم يتعاملون مع الأمر بحذر شديد. ولا تُعَد كورسك منطقة ذات أهمية إستراتيجية أو عسكرية في روسيا، وبالتالي فإن السبب الأرجح لتلك الهجمات هو الضغط النفسي على الروس الذي قد يضطرهم في مرحلة ما لإرسال قوات مكثفة إلى المنطقة، وبالتالي تخفيف الضغط عن الجبهة الشرقية بالنسبة للأوكرانيين، ولو بعد حين.
إضافة إلى ذلك، يبدو أن الأوكرانيين يريدون أن يُثبتوا لحلفائهم في الغرب أن اختراق الحدود الروسية يمكن أن يُسرِّع من وتيرة إنهاء الحرب إذا وُضع هذا الملف على طاولة المفاوضات. وفي حال نجحت القوات الأوكرانية في البقاء لفترة أطول داخل روسيا، دون أن تدفع الأخيرة لكسر عتبة استخدام السلاح النووي أو تصعيد المعارك بشكل غير متوقع، ربما يقنع ذلك الأميركيين والأوروبيين بمنح أوكرانيا الأسلحة التي يحظرها الغرب حتى الآن مع تلاشي الخوف من تجاوز الخطوط الروسية الحمراء.
تُسلِّط هذه التطورات الضوء على المشكلات التكتيكية المعقدة التي تواجهها موسكو في ساحة المعركة الروسية. ولا تكمن مشكلة روسيا فقط في أنها أخطأت تقدير نِيَّات الأوكرانيين في عملية استثنائية واحدة، ولكن في سوء التقدير والتجاهل المتكرر لنقاط قوة الأوكرانيين في هذه الحرب، والتعامل معها على أنها مجرد طفرات مؤقتة.
فبحلول منتصف عام 2022، كانت أجزاء كبيرة من شرق أوكرانيا وجنوبها تحت السيطرة الروسية، ومنها بلدة خاركيف، القريبة من الحدود الروسية، وصاحبة الأهمية الإستراتيجية الكبيرة، فهي ثاني أكبر مدينة في أوكرانيا، وتُعَد مركزا صناعيا ولوجستيا مهما، كما أن تضاريس المنطقة وبنيتها التحتية جعلتها مركزا رئيسيا للتحكم في طرق الإمداد وخطوط الاتصال مع القوات الروسية. لذلك كانت استعادة خاركيف هدفا أساسيا بالنسبة إلى كييف، على المستويين العملي والرمزي المعنوي كليهما. وفي سبتمبرأيلول من العام نفسه، شنَّ الأوكرانيون هجوما مضادا سريعا تمددت خلاله القوات بسرعة إلى داخل خاركيف، مستغلةً نقاط الضعف في الخطوط الروسية، واستعادت أراضي كبيرة وقتها، في عملية مستلهمة جزئيا من تكتيكات الحرب الخاطفة.
والحرب الخاطفة هي إستراتيجية عسكرية طوَّرها الفيرماخت الألماني القوات المسلحة النازية، واستُخدمت على نطاق واسع خلال الحرب العالمية الثانية، وتُركِّز على تحقيق انتصارات سريعة وحاسمة باستخدام هجمات سريعة الحركة ومنسقة تشارك فيها مختلف الفروع العسكرية، وتستهدف نقاط الضعف في خطوط العدو لتخترقها، ومن ثم تتمدد إلى داخل المنطقة المراد السيطرة عليها.
بشكل مماثل، يُنظر إلى هجوم خيرسون، الذي شنَّته القوات الأوكرانية في أواخر 2022 وأوائل 2023 بهدف استعادة منطقة خيرسون جنوبي أوكرانيا والقريبة من شبه جزيرة القرم والبحر الأسود، على أنه يحمل بعض بصمات الحرب الخاطفة، حيث أجرت القوات الأوكرانية استطلاعا واسع النطاق، وجمعت معلومات استخباراتية عن المواقع الروسية والتحصينات وتحركات القوات، ومن ثم استخرجت نقاط الضعف، ثم وجهت ضربات مدفعية لمستودعات الإمدادات الروسية ومراكز القيادة والبنية التحتية الحيوية. بعد ذلك بدأ الأوكرانيون هجوما منسقا متعدد الجوانب شاركت فيه فئات مختلفة من الأسلحة، وفي مواجهة الضغط المستمر وخطر التطويق، بدأت القوات الروسية انسحابا إستراتيجيا من المواقع الرئيسية في خيرسون، حيث تراجعت عبر نهر دنيبرو لإنشاء خطوط دفاعية جديدة على الضفة الشرقية.
كان تقدُّم الأوكرانيين سريعا وحاسما، ما أعطى هذه المعركة بعضا من سمات الحرب الخاطفة، لكنها وكذلك معركة خاركيف لم تكن حربا خاطفة بالمعنى المفهوم، حيث كان جزء كبير من الإستراتيجية العسكرية لأوكرانيا دفاعيا في المقام الأول، بهدف السيطرة على الأراضي وصد التقدم الروسي بعد الاختراق، بدلا من القيام بعمليات هجومية بحتة على الطريقة الأصلية للحرب الخاطفة. أضف إلى ذلك أنه على عكس الحرب الخاطفة، التي تعتمد على تحقيق التفوق الجوي والحفاظ عليه، شهد الصراع في أوكرانيا مجالا جويا متنازعا عليه، حيث استخدم كلا الجانبين الطائرات بدون طيار على نطاق واسع، لكن لم يحقق أيٌّ منهما الهيمنة الجوية الكاملة.
ويبدو أن التكتيك نفسه استُخدم خلال الاستيلاء الأوكراني على كورسك دون تجاهل عامل السلاح الغربي وعدم تأمين المنطقة بشكل كافٍ. ووفقا لقناة تلغرام العسكرية الروسية ترويكا، استخدم الأوكرانيون التكتيكات التي اختبروها سابقا في خاركيف ولكن على نطاق أصغر. بدأت الأمور بحرب خاطفة إلكترونية، حيث قام الأوكرانيون بإسقاط المسيرات الروسية المسؤولة عن الاستطلاع والمراقبة، ويُعتقد أن ذلك حدث عن طريق مسيرات اعتراضية جديدة مرتبطة إلكترونيا برادار الدفاع الجوي، بعد ذلك أُدخلت أجهزة تشويش قصيرة المدى إلى الخط الأمامي لتستمر عملية التعتيم لأطول فترة ممكنة، وجرت برمجة هذه الأجهزة ببيانات جُمعت مسبقا عبر وحدات استطلاع الحرب الإلكترونية.
كانت نتيجة ذلك توقفا تاما لعمل المسيرات الروسية المستخدمة لتحديد الأهداف وتوجيه المدفعية، هذه المسيرات كانت دائما السبب في نجاح المدفعية الروسية، حيث تحدد الهدف بدقة ثم تُضبط المدفعية والأسلحة الأخرى باتجاهه، وتشير بعض التقارير إلى أن لها الفضل في تدمير قرابة ثلثي الدبابات التي فقدتها كييف خلال الحرب.
ومع تحييد المدفعية الروسية من خلال طمس أهدافها، دخلت أسراب من المسيرات الأوكرانية لضرب الدفاعات المستقرة في كورسك، بما في ذلك الخنادق الأرضية المحصنة، بدقة شديدة مع وابل كثيف من الضربات، بعد ذلك تقدمت القوات البرية لمسافة آمنة عبر الأرض التي أمَّنتها للتو، ومن ثم تحضر معها أجهزة التشويش، وتبدأ العملية الخاطفة نفسها من جديد، ويستمر التقدم للأمام عبر التكتيك نفسه.
وفي حين أن الروس يمتلكون بالفعل مسيرات يمكنها تحييد هذا النوع من العمليات، فإن عاملَيْ السرعة والمفاجأة هما السببان الرئيسيان اللذان يُعزى إليهما تأخر رد الفعل الروسي، أضف إلى ذلك أن تنظيف السماء الروسية من المسيرات الأوكرانية يتطلب وقتا، وهو العامل الحاسم في العمليات الأوكرانية كلها، حيث تؤمِّن مسار التقدم بسرعة، مع وجود قوات في الخلفية تعمل على السيطرة على المناطق التي أمَّنتها.
تنتمي كل هذه التكتيكات الحربية الأوكرانية إلى جعبة ما يُعرف بـالحرب الهجينة، وتعني الحرب التي توظف مزيجا بين القوات والأدوات النظامية المعروفة جنود ودبابات ومدفعية وطيران إلى جانب تكتيكات الحرب غير النظامية، مثل حروب العصابات وعمليات الكر والفر ونصب الكمائن، وتخريب البنية التحتية مثل الجسور والسكك الحديدية، والاغتيالات. هذا وتستخدم كييف تكتيكات الحرب الهجينة لجسر فارق القوة مع القوات الروسية الأكبر والأكثر تجهيزا، مستفيدةً من تبادل المعلومات الاستخباراتية مع القوى الغربية.
على سبيل المثال، في عملية خيرسون، شنَّت القوات الأوكرانية هجمات صغيرة النطاق مستهدفةً الخطوط الخلفية الروسية، فنصبت كمائن للدوريات الروسية، وهاجمت طرق الإمداد، واستخدمت المقاومة المدنية لتزويد الاستخبارات بتحركات القوات الروسية. وفي ماريوبول، استخدم المقاتلون الأوكرانيون، بما في ذلك كتيبة آزوف المكونة من الحرس الوطني الأوكراني، المجمعات الصناعية في المدينة، مثل مصنع آزوفستال للصلب، معاقل لمقاومة التقدم الروسي لعدة أشهر، واستخدموا الأنفاق تحت الأرض ومواقع القنص والفخاخ المتفجرة لصد قوة روسية أكبر بكثير، يعني ذلك أن أوكرانيا اعتمدت على نمط غير متكافئ في قتالها مع الروس، فاستخدمت في جانب منها المزايا الطبيعية للحروب الحضرية، إلى جانب التوظيف المتقن للمسيرات التجارية الصغيرة الرخيصة، التي عُدِّلت للاستخدام العسكري، كانت هذه المسيرات ضرورية للاستطلاع والاستهداف وحتى الهجمات المباشرة على المواقع الروسية، ورغم تكلفتها المنخفضة فإنها تسببت في أضرار مكلفة، وأبقت الجنود الروس في درجة من القلق وعدم اليقين بشأن المخاطر القادمة من السماء
تكمن أزمة روسيا الرئيسية في أنها لم تتوقع خوض حرب استنزاف طويلة ومكلفة إلى هذا الحد في اللحظة التي عبرت فيها قواتها الحدود إلى أوكرانيا، حيث كان الاعتقاد السائد لدى الكرملين هو أن موسكو بصدد شن عملية خاطفة تستغرق قرابة أسبوعين إلى عدة أسابيع وتنتهي بسقوط كييف سريعا، لكن الحقيقة كانت غير ذلك تماما.
وبحسب ورقة بحثية صدرت عن المعهد الملكي للخدمات المتحدة، فإن طول أمد الحرب، وتكلفتها المادية والبشرية المرتفعة بالتبعية، تسبب في اهتزاز وضع الجيش الروسي على الأراضي الأوكرانية خلال العام الأول ومعظم العام الثاني من الحرب، ومع التكلفة الكبيرة بدأ الروس في تعديل تشكيلات المشاة الروسية، التي اعتادت التشكل على هيئة مجموعات كتائب تكتيكية، وهي وحدات مناورة مشتركة الأسلحة تتألف عادة من كتيبة مشاة ميكانيكية نموذجية مكوَّنة من 2 إلى 4 سرايا معززة بوحدات للدفاع الجوي والمدفعية والهندسة والدعم اللوجستي مع سرية دبابات.
مع الإرهاق الواضح لميزانية الجيش، وظهور نقاط ضعف قاتلة في هذا النوع من الكتائب تتعلق بالتنسيق بين وحداتها، وصعوبة تحركها في مقابل النمط السريع للتكتيكات الأوكرانية، عاد الجيش الروسي إلى نظام غير رسمي يتضمن إنشاء أربع فئات مختلفة من رجال المشاة المتخصص، والهجومي، والخطي، والقابل للتصرف، وهو تدرج مبني على المهارة والتكلفة المطلوبة للتدريب، الغرض منه استخدام كل جندي لأفضل مهمة مناسبة لتكلفته.
بشكل مشابه، استخدم الروس الدبابات بشكل كلَّفهم الكثير في بداية الحرب، وهي خسارة هائلة انتبهت إليها موسكو تحديدا بعد معركة مدينة فاهليدار في مقاطعة دونيتسك شرقي البلاد في أكتوبرتشرين الأول 2022، التي وصفها المسؤولون الأوكرانيون بأنها أكبر معركة دبابات في الحرب، حيث دُمِّر أكثر من 130 دبابة. لفترة طويلة، كانت القوات الروسية تميل إلى الدفع بأسراب دبابات غير مدعومة بشكل مباشر إلى الكمائن الأوكرانية، ما تسبب في تدمير أعداد كبيرة من هذه الدبابات، خاصة مع استخدام الأوكرانيين لمنظومات رخيصة نسبيا لكنها فعالة جدا ضد الدبابات مثل صاروخ جافلين، وهو نظام أميركي محمول مثل الآر بي جي، يبلغ مداه ألفَيْ متر، ويتمتع بمزايا عديدة مثل خفة الوزن وسهولة التشغيل، لكن الأهم من ذلك أنه يتبع تقنية أَطْلِق وانسَ التي تُمكِّن المُطلِق من إصابة الهدف دون الحاجة إلى التصويب عليه بدقة.
بدأت روسيا الحرب باستخدام الدبابات لأغراض الاختراق في العمق العملياتي بوصفها جزءا من مجموعات الكتائب التكتيكية التي تحدثنا عنها سابقا، لكن مع الخسائر الفادحة أصبحت روسيا تستخدم الدبابات في حالات الاختراق التي تبدو مناسبة فقط وباجتماع عدة نقاط قرار متنوعة.
ما سبق كان فقط مجموعة من الأمثلة على أن الروس لم يتوقعوا الطريقة التي ستتطور بها الحرب، وفي كل مرة اضطروا للتكيف مع المستجدات التي يفرضها الأوكرانيون لا العكس، والمشكلة أن ذلك كان يحدث ببطء، ما تسبب في تأخير تقدمهم في الأراضي الأوكرانية على مدى سنوات الحرب كلها، وعموما، واجه الروس ولا يزالون مشكلة في توفير الدعم اللوجستي، وهو توفير جميع الموارد والخدمات الضرورية لدعم العمليات العسكرية، ويشمل النقل والتخزين والإمدادات والصيانة والاتصالات، وكل ما يسهم في ضمان تدفق المواد والمعلومات بسلاسة.
يتوافق ذلك مع ما خلص إليه فريق بحثي يضم برادلي مارتين وسين بارنيت وديفين ماكارثي من مؤسسة راند، الممولة من وزارة الدفاع الأميركية. وفي دراسة نشرها الباحثون الثلاثة في ينايركانون الثاني 2023، رجَّحوا أن إخفاقات روسيا في الحرب مع أوكرانيا كانت راجعة بالأساس إلى سوء التخطيط، حيث لم تقم روسيا بتقييم المتطلبات اللوجستية بشكل صحيح، حتى لو كانت تمتلك القدرة على ذلك.
وبحسب الدراسة، فقد نفدت الإمدادات الحيوية من روسيا في وقت مبكر من حملتها للاستيلاء السريع على الأراضي الأوكرانية، وكانت هذه الفجوة إلى حدٍّ كبير نتيجة التقليل من شأن المقاومة التي واجهتها، بمعنى أن روسيا لم توفر القدرة الكافية، ليس لأنها لا تمتلكها، ولكن لأنها اعتقدت أنها لن تكون مطلوبة من الأساس. مثال واضح على ذلك هو اعتماد الجيش الروسي على النقل البري الطويل الذي جعله أكثر عرضة للخطر بسبب سوء تقدير تفوق الأوكرانيين في الهجمات غير النظامية، وتأثير أنظمة الصواريخ التي حصلوا عليها من الغرب.
للمفارقة، يرى فريق من الباحثين أن مكامن الفشل الروسي تلك كانت موجودة في وقت أبكر بكثير من زمان الحرب في أوكرانيا، لكنها لم تُرصد بدقة. وخلال السنوات الـ22 الماضية، أنفقت روسيا أكثر من 1.1 تريليون دولار على الجيش، وكان لديها ثلاثة وزراء دفاع، وأربعة رؤساء أركان، أشرفوا على ثلاثة إصلاحات عسكرية، وخاضت حربا قصيرة مع جورجيا، وتدخلا في سوريا، وعدة عمليات انتشار أصغر في الجمهوريات السوفياتية السابقة، مع سجل نجاح محدود على معظم هذه الأصعدة.
ويرى كيرل شاميف من المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية أن أهم الأسباب التي جعلت المحللين الغربيين يميلون إلى المبالغة في تقدير القدرات العسكرية الروسية هو أداء الجيش الروسي في التدريبات الإستراتيجية السنوية التي تُعرَض على المراقبين الأجانب ووسائل الإعلام، وركزت على مكافحة التمرد. ومع ذلك، في الحرب مع أوكرانيا، لم يُثبت الجيش الروسي القدرات نفسها على ما يبدو.
يعمل الجيش الروسي حاليا على زيادة مهاراته وقدرته على الاستجابة والتكيف مع نقاط الضعف التي كشفت عنها الحرب، مع أن اختراق كورسك سوف يكون نقطة مفصلية ستغير شكل الحرب تماما، على الأقل من وجهة نظر الكرملين. بادئ ذي بدء، سوف تكثف موسكو جهودها لمنع الولايات المتحدة والغرب من دعم أوكرانيا بأسلحة ذات مدى أوسع، وفي الوقت نفسه ضبط التقدم الشرقي لخصمها ومحاولة عكسه في أقرب فترة ممكنة.
وستتعامل موسكو بجدية أكبر مع الجيش الأوكراني عبر حرمانه من مكامن قوته ومحاولة استكشاف نقاط ضعفه الحقيقية التي أظهرتها الشهور الماضية، وعلى رأسها محدودية الحضور الجوي. فحتى مع وصول إمدادات الـإف-16 الأميركية، حافظت روسيا على قوة جوية أكثر تقدما وأكبر حجما، ورغم تلقيها أنظمة الدفاع الجوي الغربية، لا تزال كييف تواجه تحديات في تأمين مجالها الجوي بالكامل ضد هجمات الصواريخ والطائرات بدون طيار الروسية.
أضف إلى ذلك أن الحفاظ على خطوط الإمداد للذخيرة والوقود وغيرها من الضروريات باتت تحديا صعبا بالنسبة لأوكرانيا، وخاصة في المناطق المتنازع عليها. وفي ظل نقص القوى العسكرية العاملة، يظل الحفاظ على القتال عالي الحدة لفترة طويلة أمرا مرهقا للأوكرانيين، خاصة مع الخسائر المستمرة للأفراد ذوي الخبرة.
يزداد الوضع صعوبة مع اضطرار الأوكرانيين للدفاع عن خط مواجهة كبير وممتد، وهذا يتطلب موارد واسعة ويجعل من الصعب تركيز القوات في مكان واحد، مما يجعل بعض المناطق معرضة للخطر، خاصة المناطق الساحلية، حيث تتمتع أوكرانيا بقدرات بحرية محدودة نسبيا مقارنة بروسيا، وهذا يعوق قدرة أوكرانيا على السيطرة على المناطق القريبة من البحر الأسود وبحر آزوف أو الدفاع عنها.
في غضون ذلك، سوف يتعين على روسيا بذل جهد أكبر لإصلاح وضعها الداخلي للتعامل مع حرب طويلة وممتدة. وقبل عدة أشهر، أطاح الرئيس بوتين بوزير الدفاع سيرغي شويغو وخلفه أندريه بيلوسوف، الذي يعتقد أن لديه خلفية أفضل في إدارة الموارد طويلة الأمد، وفي المقابل، حلَّ شويغو محل نيكولاي باتروشيف رئيسا لمجلس الأمن، الذي يُشرف على أجهزة الاستخبارات الروسية. وبحسب خبراء، فإن هذا التعديل الوزاري يمهد الطريق لحرب استنزاف طويلة في أوكرانيا، سيحاول خلالها الفريق الجديد ضبط الاقتصاد ليعمل بحالة من التوازن مع استمرار الحرب قائمة.
في المقابل، سوف يستمر السياسيون وجنرالات الحرب الغربيون في دعم أوكرانيا بعد أن فوجئوا بقدرتها على الصمود ضد الضغط الروسي، وهم في هذا السياق مستفيدون لا شك من قدرتهم على دراسة الوضع العسكري الروسي في الحرب الحالية، واستنزاف موسكو تدريجيا في حرب طويلة، واختبار مدى صبر بوتين قبل أن يقرر استخدام سلاحه النووي وهو أمر لا يزال مستبعدا، لكنهم يدفعون ضريبة ذلك اقتصاديا، سواء بسبب دعم الأوكرانيين المكلف، أو بسبب تباطؤ الاقتصاد العالمي بسبب الحرب، وهي أوضاع مرشحة للسوء مع وجود أكثر من بؤرة ملتهبة مرشحة للانفجار عالميا، وما الشرق الأوسط وتايوان منا ببعيد. | https://www.aljazeera.net/politics/2024/8/18/%d9%84%d9%8a%d9%84%d8%a9-%d8%b3%d9%82%d9%88%d8%b7-%d9%83%d9%88%d8%b1%d8%b3%d9%83-%d9%87%d9%84-%d8%ba%d9%8a%d8%b1-%d8%ba%d8%b2%d9%88 | 2024-08-18T13:18:17 | 2024-10-15T02:17:26 | أبعاد |
|
55 | لماذا امتنعت إسرائيل عن ضرب المنشآت النووية والنفطية الإيرانية؟ | يمكن تشبيه المواجهة الحالية بين إسرائيل وإيران بمباراة للشطرنج يقع العبء الأكبر فيها على صاحب الدور في اللعب، الذي يتعين عليه الرد على نقلات خصمه السابقة. | بعد قرابة 4 أسابيع من الانتظار، وجهت إسرائيل عدة ضربات جوية لإيران فجر السبت 26 أكتوبرتشرين الأول، طالت مواقع عسكرية في العاصمة طهران تحديدا في قطاعها الغربي، وفي مدينة كرج شمال غرب طهران، فضلا عن أهداف في محافظتي عيلام وخوزستان في غرب وجنوب غرب إيران على الترتيب.
سبق الضربة الإسرائيلية تصعيد خطابي إسرائيلي تجاه إيران منذ هجومها الصاروخي على إسرائيل مطلع الشهر الحالي، مع تهديدات بالغة الحدة، باستهداف منشآت البرنامج النووي الإيراني والبنية التحتية النفطية للبلاد.
غير أن الرد الإسرائيلي الفعلي لم يرق إلى مستوى التهديدات وسلك أقل السيناريوهات توقعا، مما أثار انتقادات داخل إسرائيل نفسها وفي الوقت نفسه منح السلطات الإيرانية الفرصة للتقليل من حجمها وفعاليتها. وتمهد تلك الضربة المحدودة وردود الفعل حولها، الطريق لكسر المسار التصعيدي للمواجهة المباشرة بين إسرائيل وإيران، والسماح بتراجع عجلة الحرب خطوة إلى الخلف نحو جبهة المواجهة الرئيسية بالنسبة لجيش الاحتلال في غزة إضافة إلى الجبهة اللبنانية المشتعلة.
بالقطع، لا يوفر هذا السيناريو نصرا حاسما لأي من الأطراف ولكنه يوفر نقطة توازن بين المصالح المرجوة والخسائر المحتملة، تاركا لكل طرف الفرصة لصياغة ما حدث بالشكل الذي يخدم أهدافه السياسية.
على الجانب الإسرائيلي، يمكن للجيش الإسرائيلي أن يتباهى بقدرته على استهداف العمق الإيراني بدقة ومرونة في غير ما مناسبة، مع تجنب التكاليف اللوجستية لعملية أكثر جرأة وتعقيدا كانت ستتطلب حشدا أكبر للموارد العسكرية ودعما أوسع من الولايات المتحدة، فضلا عن كونها ستثير ردا واسعا من إيران وتصعيدا لتوترات يبدو أن إسرائيل اختارت تجنبها في الوقت الذي تخوض فيه الحرب على أكثر من جبهة.
في المقابل، يمكن لإيران القول بأنها نجحت في فرض معادلة جديدة أصبح استهداف الأراضي الإسرائيلية معها خيارا مطروحا حال تجاوزت إسرائيل الخطوط الحمراء، مع إقرار ضمني بذلك من واشنطن وتل أبيب كليهما.
أما الولايات المتحدة فتعد هي الرابح الأكبر في تلك الجولة حيث نجحت في تجنب مواجهة عسكرية لا يمكن التنبؤ بعواقبها في الشرق الأوسط قبل أيام قليلة من الانتخابات، وتمكنت من كسب أسابيع إضافية من الوقت في انتظار تحديد هوية الرئيس القادم ووصفته الخاصة لإدارة الصراع.
ومع ذلك، يبقى التساؤل الأهم الذي يحتاج إلى إجابة هو ما الذي دفع إسرائيل، عكس ما كان متوقعا من قبل الكثيرين، إلى اختيار مسار التهدئة مع إيران في الوقت الراهن؟ ولفعل ذلك علينا أن نقرأ سريعا مشهد المواجهة المباشرة بين إيران وإسرائيل خلال الأسابيع الأخيرة، مع تسليط الضوء على تفاصيل الضربة الإسرائيلية الأخيرة ومغزاها.
يمكن تشبيه المواجهة الحالية بين إسرائيل وإيران بمباراة للشطرنج يقع العبء الأكبر فيها على صاحب الدور في اللعب، الذي يتعين عليه الرد على نقلات خصمه السابقة.
وبعد اغتيال إسرائيل لرئيس المكتب السياسي لحركة المقاومة الإسلامية حماس إسماعيل هنية في قلب طهران، وإقصائها للصف القيادي لحزب الله بالكامل بمن في ذلك الأمين العام حسن نصر الله، وقع الدور على إيران التي أمضت أسابيع لتصميم ضربة تتلاءم مع حجم الفعل الإسرائيلي ليس بغرض التصعيد الذي تعد طهران أحرص الطرفين على تجنبه، ولكن بهدف ردع إسرائيل عن رفع السقف تقديرا منها أن إيران غير قادرة على الرد.
وهكذا جاءت الضربة الصاروخية في الأول من أكتوبرتشرين الأول الحالي لتثبت قدرة طهران على استهداف العمق الإسرائيلي بفعالية كبيرة محدثة أضرارا محسوبة بدقة، لا هي قليلة للدرجة التي تجعل الضربة رمزية أو مسرحية ولا هي واسعة كي يصبح معها التصعيد خيارا حتميا، ولتؤكد في الوقت نفسه على قاعدة جديدة في توازن القوى تنص على إمكانية استهداف الأراضي الإسرائيلية مباشرة من إيران وهي القاعدة التي أرستها طهران لأول مرة في أبريلنيسان الماضي حين استهدفت إسرائيل بضربة صاروخية من أراضيها للمرة الأولى في تاريخ الصراع.
بعد الرد الإيراني، انتقل عبء الاستجابة إلى إسرائيل التي حان دورها لحسم حركتها. وكان عليها أن تختار بين خيارين رئيسيين إما توجيه ضربة واسعة بهدف إعادة إرساء الردع، تشمل منشآت طهران النفطية والأهم برنامجها النووي، ما يزيد من خطر توسع المواجهة، وإما الاكتفاء برد رمزي استنادا إلى ما حققته في الضربات السابقة، من أجل منح مساحة لخفض التصعيد على تلك الجبهة.
وعلى مدار الأسابيع الأخيرة كان السيناريو الأول هو الأكثر ترجيحا، لكن المفاجأة أن تل أبيب سلكت الخيار الثاني، وهي المرة الأولى التي تستجيب بها إسرائيل بشكل جراحي ودون سقف القوة أو الوحشية المتوقعة منها منذ السابع من أكتوبرتشرين الأول 2023.
تشير الرواية الإسرائيلية إلى أنها استهدفت 20 موقعا عسكريا في إيران بمشاركة مئة مقاتلة جوية، ونفذت الهجوم عبر 3 موجات استغرقت نحو 4 ساعات بدءا من الساعة الثانية صباح السبت، وركزت الموجة الأولى على استهداف منظومات الدفاع الجوي والرادارات، فيما توسعت الموجتان اللاحقتان لتشملا قواعد صاروخية ومنشآت لتصنيع الطائرات بدون طيار.
ويظهر حجم الدمار في المواقع المستهدفة أن الضربة كانت دقيقة للغاية ولم تحدث أضرارا واسعة النطاق، مقارنة حتى بالدمار الذي أحدثته الصواريخ الإيرانية في بعض المواقع الإسرائيلية في الأول من أكتوبرتشرين الأول، وهو ما يتسق مع ما نقلته وكالة تسنيم الإيرانية التي شككت في الرواية الإسرائيلية حول حجم الضربة، مؤكدة أن عدد المواقع المستهدفة كان أقل مما تدعيه إسرائيل.
والأهم في هذا السياق هو أن إسرائيل تجنبت تماما، بحسب رواية الطرفين، استهداف أي من مواقع البرنامج النووي والمنشآت النفطية في البلاد، أو استهداف مقرات الحكم والشخصيات البارزة في القيادة الإيرانية، الأمر الذي كانت تهدد به إسرائيل قبل الضربة.
لكن ذلك لا يعني أن الضربة الإسرائيلية كانت فارغة تماما، حيث نجح الجيش الإسرائيلي في تقديم استعراض لقدرته على الوصول للمجال الجوي الإيراني عبر مسار طويل اخترق فيه الدفاعات الجوية لبلدين هما سوريا والعراق على الأرجح، ممهدا للضربات من خلال قصف الدفاعات الجوية والرادارات في كلا البلدان كما أوردت صحيفة نيويورك تايمز.
كما أظهرت الاستهدافات، رغم محدودية طاقتها النيرانية، قدرات استخبارية إسرائيلية في الداخل الإيراني ومقدرة على تحديد مواقع منشآت عسكرية بدقة، والأهم أنها اقتربت من محيط المنشآت النووية المهمة، واستعرضت قدرتها على الوصول إليها.
كذلك لم يكن اختيار محافظة خوزستان للضربات الإسرائيلية عشوائيا على ما يبدو، فثمة رسائل تريد إسرائيل توصيلها لطهران عبر استعراض وصول نيرانها إلى خوزستان، حيث يقع في هذه المحافظة الحدودية، المجاورة للعراق ومياه الخليج العربي، أغلب حقول النفط الإيرانية بما يمثل قرابة ثلثي الإنتاج النفطي للبلاد، كما تضم محطة كارون النووية، أحدث مشروعات الطاقة النووية في إيران والتي بدأ إنشاؤها عام 2022، بالإضافة لهذا، يقع في خوزستان مجمع فارس الجنوبي للغاز، المسؤول عن إنتاج الشق الأكبر من الغاز الإيراني.
صممت الضربة إذا لتوجيه رسائل سياسية إلى إيران، مع منحها الفرصة في الوقت نفسه لتجنب التصعيد عند اختيار خطوتها القادمة. ولا أدل على ذلك مما أورده موقع أكسيوس الأميركي حول كون إسرائيل أبلغت إيران عبر أطراف ثالثة بالأهداف التي تنوي استهدافها وحذرتها من أن أي رد انتقامي سوف يقابل بهجوم أكثر قوة خاصة إذا تسبب في مقتل أو إصابة إسرائيليين، وهي الرسالة ذاتها التي نقلتها إدارة بايدن إلى طهران معبرة عن رغبتها أن تكون تلك الضربة نهاية لمعركة اللكمات المتبادلة بين الطرفين.
في السيناريو المثالي إذن، تريد إسرائيل ومن ورائها أميركا أن تمتنع إيران عن الرد مجددا، وتتراجع إلى المقعد الخلفي مكتفية بإسناد محور المقاومة على الجبهتين المشتعلتين في غزة ولبنان، وفي أسوأ الأحوال أن تكتفي برد رمزي أقل حدة من سابقه تاركة الكرة في ملعب إسرائيل لإنهاء هذه الجولة من التصعيد المتبادل. ولكن بالعودة إلى السؤال الرئيس لماذا اتخذت إسرائيل هذا النهج على الرغم من تصريحات قادتها التي رفعت سقف التوقعات بشأن ضربة أكثر قوة وحسما؟.
العامل الأول بكل تأكيد هو الضغوط الأميركية التي تصاعدت على القادة الإسرائيليين خلال الأسابيع الماضية، وقد أصدر مكتب رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بيانا يوم الثلاثاء 16 أكتوبرتشرين الأول قال فيه إن إسرائيل ستنصت إلى الولايات المتحدة مردفا أنها ستتخذ قراراتها بناء على المصلحة الوطنية.
وكان نتنياهو قد تلقى تحذيرات من الرئيس الأميركي جو بايدن من استهداف أي منشآت نفطية أو نووية في إيران في إطار الرد الذي تجهز له إسرائيل على الضربة الإيرانية المتوقعة. وقال وزير الخارجية الأميركي، أنتوني بلينكن، الخميس الماضي إن الولايات المتحدة تنسق بشكل وثيق مع إسرائيل بشأن ما هو ضروري لردع المزيد من الأعمال العدائية من جانب إيران ولضمان ألا يؤدي أي رد إلى دائرة لا نهاية لها من التصعيد.
ومع أن نتنياهو وفريق إدارته يحاولون التقليل من التأثير الأميركي على اتخاذ قراراتهم لإظهار دولتهم على أنها دولة مستقلة لديها من القوة ما يكفي لاتخاذ قراراتها العسكرية، حيث علق مكتب نتنياهو أمس السبت على تقارير إعلامية إسرائيلية تحدثت عن الدور الأميركي في تحجيم الضربة واصفا إيها بأنها مجرد كذبة، إلا أن هذه السردية لا تنسجم مع المعطيات العسكرية والجيوسياسية التي تجعل إسرائيل، بالفعل، غير قادرة على اتخاذ قرار الحرب مع إيران منفردة.
على المستوى العسكري، يعد توجيه ضربة عسكرية قوية إلى إيران مسألة تتجاوز قدرة إسرائيل رغم الفارق الواضح في ميزان القوى لصالح دولة الاحتلال بكل تأكيد. على سبيل المثال، يتطلب توجيه ضربة للمنشآت النووية الإيرانية الرئيسية في فوردو ونطنز استخدام قنابل قادرة على اختراق عشرات الأمتار من الصخور والخرسانة المسلحة قبل أن تنفجر داخل المباني أو الأهداف.
ويعد السلاح التقليدي غير النووي الوحيد القادر على تحقيق هذا الهدف بشكل معقول هو القنابل الخارقة للتحصينات، الأميركية الصنع، وأهمها القنبلة جي بي يو 57 إيه بي GBU-57AB.
هذه القنبلة لا يمكن حملها بواسطة الطائرات المقاتلة الأميركية العادية، بما في ذلك طائرات الجيل الخامس إف-35 التي تحوزها إسرائيل، لكنها تحمل فقط عبر قاذفة الشبح الأميركية بي 2 سبيريت B-2 Spirit التي لا يوجد منها سوى 21 نسخة فقط عالميا تُشغَّل جميعا بواسطة القوات الجوية الأميركية.
وبعيدا حتى عن مسألة القنبلة وحملها، يتطلب تنفيذ هذه العملية وفق صحيفة فايننشال تايمز البريطانية سربا كبيرا من الطائرات متعددة المهام يتجاوز 100 طائرة لضرب أهداف متزامنة، وهو ما يزيد من تعقيد العملية لوجيستيا بفرض أن إسرائيل تمتلك القوة اللازمة لمثل هذه الضربة.
سياسيا، يدرك الأميركيون جيدا تعقيدات الملف الإيراني أكثر بكثير من الإسرائيليين، فبعد كل شي إيران هي دولة نظامية مندمجة في منظوماتها الخاصة للتحالفات والعلاقات الدولية، وليست فصيلا مسلحا، مما يعني أن هناك تداعيات سياسية أوسع بكثير لخوض حرب ضد إيران. وتعد علاقات طهران مع كل من الصين وروسيا تحديدا من النطاقات الشائكة التي يمكن أن تجعل الحرب ضد طهران غير مأمونة العواقب.
فعلى الرغم من غياب الوضوح الإستراتيجي بشأن موقف روسيا من إيران التي تشاركها التنافس على النفوذ في محيطها الجيوسياسي الجنوبي جمهوريات آسيا الوسطى، فإن الحرب الروسية الأوكرانية كشفت عن التقاء مصالح كبير بين طهران وموسكو، ويسود اعتقاد غربي بأن روسيا باتت تعتمد على إيران في قطاعات مهمة من قدراتها العسكرية، وأن إيران زودتها بصواريخ باليستية تكتيكية قصيرة المدى ومسيرات استخدمتها بفاعلية في الحرب على أوكرانيا، بل إن تقارير مشابهة صدرت الأيام الماضية اتهمت روسيا بتزويد حركة أنصار الله في اليمن الحوثيون بصواريخ باليستية طويلة المدى.
وبالنسبة للصين، فقد دفعت العزلة الغربية المفروضة على إيران منذ الثورة في 1979 إلى تعميق علاقاتها الاقتصادية مع بكين، حتى باتت الأخيرة تمثل لإيران شريان حياة اقتصادي وتجاري، كما أن الصين تنظر لطهران أيضا كمصدر للطاقة أكثر أمانا في حال فرض عقوبات غربية على بكين يوما ما.
صحيح أن موسكو وبكين من غير المرجح أن تتدخلا مباشرة في صراع مباشر بين إيران وإسرائيل أو بين إيران والولايات المتحدة إلا أنهما ستستغلان هذه الخطوة لتقويض الموقف الدولي لأميركا، وربما لتبرير تحركات عسكرية خاصة بهما سواء في أوروبا بالنسبة لموسكو أو في تايوان وبحر جنوب الصين بالنسبة لبكين.
هذا التعقيد الجيوسياسي يجعل الولايات المتحدة غير متحمسة، حاليا، للدخول في حرب مع إيران، وتعتقد أن لديها من أدوات الضغط الطويل المدى على طهران ما يجعلها في غنى عن الاستجابة لمغامرات نتنياهو، وخاصة في ظل قلق الديمقراطيين من أن اشتعال الحرب قبيل الانتخابات ربما يعطي ذريعة أكبر لحملة ترامب لإبراز فشل الديمقراطيين في ضبط المنطقة والحفاظ على المصالح الإستراتيجية للولايات المتحدة.
بالتزامن مع ذلك، يبدو أن جرعة الأدرينالين التي دفعتها الإنجازات العملياتية الضخمة -خاصة على الجبهة اللبنانية- في جسد إسرائيل السياسي خلال الأسابيع الأخيرة قد بدأ تأثيرها في التراجع. وكما تظهر أحداث الأيام الأخيرة بدأ حزب الله يستعيد عافيته بينما لا يزال التقدم بطيئا للغاية في العملية البرية التي تقودها الفرقة 36 في الجيش الإسرائيلي من بلدة عيترون شرقا على الحدود مع لبنان وصولا إلى راميا ومرورا بـ عيتا الشعب، نقطة التركيز الرئيسية.
وحتى في غزة، التي تناهز الحرب فيها الشهر الثالث عشر، لا تستطيع إسرائيل حتى الآن وضع تصور زمني لإنهاء عملياتها العسكرية بما يحقق أهدافها الإستراتيجية والسياسية وعلى رأسها استعادة الأسرى وفرض تصور لإدارة القطاع في اليوم التالي للحرب يضمن إبعاد حماس عن الحكم لمنعها من إعادة تخليق قدرات المقاومة مرة أخرى.
ولا تزال كل الصيغ التي حاولت إسرائيل تطبيقها، بدءا من الحكم العسكري المباشر للقطاع وصولا إلى تشكيل حكومة تكنوقراط من العائلات والوجهاء، غير قابلة للتحقق. ومع استمرار عمليات المقاومة، ولو على نحو متقطع، في مناطق سيطرة الاحتلال داخل القطاع يزداد الموقف تعقيدا.
في غضون ذلك، تدرك إسرائيل أيضا أن حلقة النار الإيرانية حولها، ما زالت لم تستنفد طاقتها القصوى في الحرب، ولا يزال لدى الجبهة اللبنانية والقوات الموالية لإيران في سوريا والعراق واليمن الكثير لتفعله ضد إسرائيل لو وصلت الحرب ذروتها. لذا فإن مزيجا من الضغط الأميركي، والتبصر بأوضاع الحرب ربما أفقد نتنياهو وإدارته الحماسة للتصعيد المباشر مع إيران.
وقد نجحت إيران نفسها، ربما بصورة لم يتوقعها أحد لوهلة، في تسريب هذه القناعة إلى عقل صانع القرار الإسرائيلي الذي كان يستفيق من نشوة الانتصارات الأولية السريعة في لبنان.
وقد كشفت هجمات الأول من أكتوبرتشرين الأول، رغم محدوديتها من حيث الكم، الثغرات الضخمة في منظومة الدفاع الجوي الإسرائيلي، وقصورها عن تأمين سماء أراضي إسرائيل من هجمات أعدائها، حيث لم تنجح منظومة الدفاع الإسرائيلية المتعددة الطبقات في كشف أو منع الطائرات المسيرة ذات البصمة الرادارية المنخفضة من الطيران تحت أنوفها والوصول لأهداف دقيقة مثل استهداف غرفة الطعام في مقر لواء غولاني، أو استهداف نافذة منزل نتنياهو، كما أثبتت الصواريخ الباليستية الإيرانية المتوسطة المدى ذات الرؤوس الخفيفة مقدرة جيدة على إرباك وتشتيت الدفاعات الجوية الإسرائيلية والإفلات منها.
وقد دفع ذلك الولايات المتحدة لاتخاذ خطوات سريعة وغير مسبوقة لإسعاف سماء إسرائيل المخترقة، مرسلة للمرة الأولى منظومة ثاد، أحدث وأكثر أنظمة الدفاع الجوي الأميركية ضد الصواريخ الباليستية كفاءة، رفقة مئة من الجنود لتشغيلها. صحيح أن هذه ليست المرة الأولى التي تنشر فيها واشنطن مثل هذه الأنظمة في إسرائيل، لكنها المرة الأولى التي تنشر فيها جنودها داخل إسرائيل لمساعدة دفاعاتها الجوية على الصمود، مما يشرح عمق الأزمة التي تواجهها دولة الاحتلال حاليا.
ليس دفاع الجو الإسرائيلي وحده غير المهيأ للدخول في حرب شاملة مع إيران، فحسب الخبير البارز في العلاقات الدولية والإستراتيجية، جورج فريدمان فإن الضربات الجوية، مهما كانت شدتها، نادرا ما تؤدي إلى الاستسلام. يعني ذلك أنه إذا أرادت إسرائيل تقويض قدرات إيران بشكل حاسم، فلا مفر من خوض حرب شاملة تنطوي على مشاركة القوات البرية.
وحسب تقدير لمؤسسة جيوبوليتيكال فيوتشرز، فإن جيش الاحتلال الإسرائيلي يفتقر في ذاته إلى القدرات اللازمة لشن هذه الضربة الهائلة والمستدامة على إيران، فحتى تستطيع إسرائيل الوصول بريا إلى طهران سوف تضطر إلى عبور مسافة تصل إلى 1600 كيلومتر مرورا بأراضي دولتين. ولتغطية هذه المسافة الكبيرة من الأرض سوف تحتاج إلى الوصول إلى طرق العبور وقدرات إعادة التزود بالوقود وهو ما لا يمكن تصوره عملياتيا.
ينطبق الأمر ذاته على إيران، فهي وإن كانت تمتلك طريقا ممهدا عبر الأصدقاء إلى حدود إسرائيل، فإن قواتها الجوية من طائرات إف-14، وإف-4، وميج-29 لن تستطيع القيام بتأمين هذه المهمة المستحيلة، فضلا عن أن أحدث دبابة لدى الجيش الإيراني يبلغ مداها 350 ميلا فقط، لكن ما تملكه إيران ولا تملكه إسرائيل هو قدرة إيران على تهديد حدود إسرائيل البرية بقوات شبه نظامية تجعلها في حالة انشغال واستنزاف مستمر.
والخلاصة، أن لعبة الحرب الشاملة والتصعيد المفتوح بين إسرائيل وإيران مغامرة إستراتيجية غير محسوبة ولا مضمونة النتائج لأي من الطرفين. وإن كانت الشهور الماضية قد أثبتت بشكل واضح أن إيران تقدر هذا جيدا وتعمل حسابه وتحاول جاهدة منع الحرب الشاملة من الاندلاع، فإن قيادة إسرائيل وصلت إلى هذه القناعة متأخرا. لكن ذلك لا يعني أن خيار الحرب الإيرانية الإسرائيلية تم تفاديه بشكل كامل، فلم تضع الحرب أوزارها بعد على جبهتي غزة ولبنان وليست حتى قريبة من ذلك، وهذا ما يجعل كافة السيناريوهات، وحتى التقديرات الخاطئة والمتهورة من أي طرف، محتملة بدرجة ما.
في غضون ذلك، لا يزال التقدير الإستراتيجي لدى قادة إسرائيل أنه ما من خيار لتحقيق الأمن لدولتهم دون مواجهة إيران وتدمير قدراتها داخل وخارج أراضيها ومنعها من تهديد إسرائيل، لكن حدود القدرات العملياتية تضغط على القرار الإسرائيلي، وهذا هو جوهر معضلة إسرائيل التي تسبب فيها طوفان الأقصى.
ثمة من كان يجادل في الشهور الماضية بأن إسرائيل قد تجاوزت عقدة بن غوريون إلى الأبد، وأظهرت مرونة ومقدرة عملياتية على تغيير إستراتيجية الحرب الخاطفة، واستطاعت الانخراط بكفاءة في حرب طويلة المدى ومتعددة الجبهات وعالية الخسائر، تلك الحرب التي كان يرى بن غوريون أن إسرائيل لأسباب موضوعية تتعلق بالجغرافيا والموارد البشرية بشكل أساسي لا تستطيع تحملها. لكن التطورات الأخيرة تدعونا لأخذ المزيد من الوقت لنرى من كان أكثر بصيرة بحدود قدرات إسرائيل، بن غوريون أم نتنياهو؟. | https://www.aljazeera.net/politics/2024/10/28/%d8%a5%d8%b3%d8%b1%d8%a7%d8%a6%d9%8a%d9%84-%d9%84%d9%85-%d8%aa%d8%b6%d8%b1%d8%a8-%d8%a7%d9%84%d9%85%d9%86%d8%b4%d8%a2%d8%aa-%d8%a7%d9%84%d9%86%d9%88%d9%88%d9%8a%d8%a9 | 2024-10-28T01:23:56 | 2024-12-21T15:02:52 | أبعاد |
|
56 | غادي آيزنكوت.. مهندس عقيدة التدمير والعقاب الجماعي في جيش الاحتلال | لعب آيزنكوت دورا محوريا في وضع السياسة الأمنية الأحدث لجيش الاحتلال الإسرائيلي، وتشكيل النظرة الإستراتيجية لإسرائيل، لا سيَّما بعد حرب لبنان في يوليو/تموز 2006 وما أسفرت عنه من إخفاقات إسرائيلية. | نحن لم نصل بعد إلى إنجاز إستراتيجي، أو بالأحرى جزئيا فقط... نحن لم نُسقط حماس.
إطلاق سراح الرهائن بوسائل أخرى غير وقف إطلاق النار هي ادعاءات بمنزلة نشر أوهام.
عندما تقاتل ضد عدو ضعيف لسنوات عديدة، فإن ذلك يضعفك أيضا.
إن الجيش المنقسم على نفسه بشأن السياسة والدين لا يستطيع أن يفي بمهمته.
جيش الدفاع الإسرائيلي هو جيش الدفاع الإسرائيلي، وليس جيش الدفاع اليهودي. يضم جنودا دينيين وعلمانيين. إذا كانت قيمه تأتي من الحاخامية فرع الوعي اليهودي، فهذا مشوه. إنه خطأ.
في سجلات التاريخ العسكري الإسرائيلي، هناك عدد قليل من الشخصيات التي كان لها تأثير في هندسة عقيدة الجيش الإسرائيلي أو تطويرها. الفريق غادي آيزنكوت هو أحد تلك الأسماء، ويشتهر باسم آيزنكوت. عُرِف آيزنكوت باهتمامه بالإستراتيجية العسكرية وتطويرها والتزامه بالأمن القومي، وتمتد مسيرة آيزنكوت داخل الجيش الإسرائيلي عقودا من الخدمة 40 عاما، حيث خدم من 1978 وحتى 2019.
بلغت ذروة خدمته عندما تولى رئاسة الأركان العامة، ليصبح رئيس الأركان الحادي والعشرين لقوات الدفاع الإسرائيلية، واستمر في ذلك المنصب نحو أربع سنوات، بالتحديد من تاريخ 16 فبراير 2015 وحتى 15 يناير 2019، وهو أول رئيس أركان من أصول مغربية يصل إلى هذا المنصب.
آيزنكوت ليس سياسيا ذا شعبية يجيد الخطاب، لكنه عقلية أمنية تعمل خلف الكواليس وتضع اللمسات الإستراتيجية للعقلية الأمنية داخل الجيش، وكان له دور كبير ومساهمة في تطوير العقيدة العسكرية والإستراتيجية العسكرية للجيش، وهي العقيدة غير الأخلاقية، عقيدة الضاحية التي استندت إلى الاستخدام غير المتناسب للقوة مع الخصوم في استهداف المدنيين والبنية التحتية بوصفها سياسة عقاب جماعي لمنع الحاضنة والسكان من دعم حركات المقاومة، وهو ما يُعد انتهاكا للقانون الدولي كما نصت عليه معاهدة جنيف لحقوق الإنسان.
بالنظر إلى حجم الدمار قد يُنظر إلى أنه نصر عسكري، لكن عدم تحقيق أهداف الحرب المتمثلة في القضاء على التهديدات يجعلها عقيدة وإستراتيجية فاشلة، فهي على المدى القصير نصر تكتيكي، لكن على المدى الطويل خسارة إستراتيجية.
كذلك كان آيزنكوت الرجل الثاني خلف وزير الدفاع بيني غانتس، ورمانة الميزان بين معسكر الصهاينة القوميين المتدينين والصهاينة الليبراليين، رغم ميله إلى كفة الليبراليين. وقد أشار آيزنكوت إلى العديد من العيوب الكبيرة داخل الجيش الإسرائيلي، وهي عيوب يمكن وصفها بالمشكلات البنيوية، أولها انعكاس صدى الصراع السياسي والأيديولوجي بين المعسكرين المتنازعين داخل النسيج البنيوي للجيش وبين صفوف الجنود والضباط، وهي دلالة خطيرة على تنامي ولاءات خارج إطار الهيكل الهرمي للجيش الإسرائيلي.
ثانيها حرصه الشديد في لقاءاته على تأكيد الاختصاصات بين ما هو سياسي وما هو عسكري، وانتقاده لتنامي ظاهرة الاستقطاب السياسي والأيديولوجي ودعوته إلى إخراج ثكنات الجيش خارج المدن، حيث يرى أنها قد تدفع إلى تحركات من قادة الجيش بشكل منفرد خارج مظلة رئيس الحكومة، ما يُعد أزمة مستبطنة في نموذج العلاقات المدنية العسكرية الإسرائيلية.
وُلد غادي آيزنكوت في 19 مايوأيار 1960 في طبريا، في شمال فلسطين المحتلة، ونشأ داخل عائلة يهودية تقليدية من أصول مغربية، وهو الثاني من بين أربعة أطفال لـمئير وإستر آيزنكوت، المهاجرين اليهود المغاربة. شب وترعرع في مدينة إيلات التي تقع في المنطقة الساحلية الجنوبية وهي مدينة أم الرشراش المصرية التي احتلتها القوات الإسرائيلية في 10 مارسآذار 1949، ودرس في مدرسة غولدووتر الثانوية Goldwater High School، ثم حصل على بكالوريوس في التاريخ من جامعة تل أبيب، والتحق بعدها بالكلية الحربية للجيش الأميركي وحصل منها على درجة الماجستير، وفي عام 2011 حصل على درجة الماجستير في العلوم السياسية من جامعة حيفا.
جمع غادي في تعليمه بين العلوم الإنسانية والعسكرية، ما جعله يمتلك قدرات فكرية مكَّنته من المساهمة في تطوير العقيدة العسكرية والأمن القومي والإستراتيجيات العسكرية، بل وجعلته رقما صعبا في الحياة السياسية الإسرائيلية.
رغم أن والدَيْ آيزنكوت وُلدا في المغرب، فإن الاسم ترجع أصوله إلى يهود غرب أوروبا، وقد ظهر ذلك عندما أُثير في الرأي العام الإسرائيلي -عن نزعة عنصرية- أصول آيزنكوت المغربية عند تعيينه في منصب رئيس الأركان، حيث استُغرب عدم تناسق الاسم مع أصوله المغربية.
يُستخدم اسم آيزنكوت عند اليهود أشكنازيًّا، وهم اليهود الذين ترجع أصولهم إلى أوروبا الغربية، خاصة ألمانيا وفرنسا وإنجلترا، وقد هاجرت العديد من تلك العائلات اليهودية من روسيا وبولندا إلى المغرب في القرن التاسع عشر خلال الحرب العالمية الثانية هربا من حملات الملاحقة والاضطهاد التي كانت تمارس ضد اليهود في أوروبا.
حرصت تلك العائلات على أن تحافظ على أسمائها الأشكنازية، وكانت عائلة آيزنكوت ضمن أهم العائلات والأسر اليهودية في مدينة طنجة الساحلية بالمغرب، حيث عمل بعضهم مترجمين في السلك الدبلوماسي والقنصليات الغربية، مثل ديفيد آيزنكوت الذي عمل مترجم القنصل الفرنسي في طنجة. كما أن أبراهام آيزنكوت كان أحد زعماء الجالية اليهودية بالمغرب، وهو ما يرجح أن تكون أصول أجداده عائدة إلى اليهود الأشكنازيين في أوروبا وليس يهود المغرب.
وقد علّقت والدته إستير آيزنكوت عند صدور قرار تعيينه رئيسا لأركان الجيش بأنها كانت تود أن يكون حاخاما، وقالت إن مع تعيينه في صفوف اليهود الأصوليين المتشددين والمتدينين ستكون الأمور أفضل في الجيش، لأنه يُقدِّر الدين كثيرا.
التحق آيزنكوت بلواء غولاني في 1978، وكان يبلغ حينها 18 عاما، وخدم بصفته قائد فرقة وضابط شعبة عمليات خلال عامي 1986 و1987، ثم عُيِّن ضابطا للعمليات بقيادة المنطقة الشمالية، وترقى إلى رتبة عقيد عام 1992، والتحق بدورة الطيران في سلاح الجو الإسرائيلي، لكنه خرج منها بعد شهر واحد وعاود الانضمام إلى لواء غولاني وأصبح قائدا له في 1997-1998.
وخلال فترة الدراسة في الكلية الحربية بأميركا كتب آيزنكوت ورقة بحثية إستراتيجية في مارسآذار 1997 بعنوان أمن إسرائيل في القرن الحادي والعشرين المخاطر والفرص، قدم فيها نقدا ضمنيا لعدم وجود مادة منشورة رسميا توضح المبادئ الأمنية التي تستند إليها الإستراتيجية العسكرية الإسرائيلية تفصيليا كالوثائق الرسمية التي تنشرها أميركا، مثل إستراتيجيتها الأمنية الوطنية، وإستراتيجيتها العسكرية الوطنية، وقال إن الافتقار إلى عقيدة أمنية رسمية ومنشورة لا يعني أن إسرائيل تفتقر إلى إستراتيجية سياسية وعسكرية متماسكة مبنية على مفاهيم شبيهة بالعقيدة، ووصف النجاحات العسكرية بأنها تثبت نجاح الإستراتيجيات العسكرية الإسرائيلية.
ورغم هذا الاضطراب في الوصف، قال إن هدفه من الدراسة هو تحديد عدد من المبادئ الأمنية الحاسمة التي شكَّلت الإستراتيجية الإسرائيلية، من خلال مناقشة المخاطر والتحديات التي تواجه الأمن الإسرائيلي في القرن الحادي والعشرين وآليات الاستجابات المحتملة لتلك التحديات.
وقد خلص آيزنكوت في دراسته بالكلية الحربية الأميركية إلى أن السياسة الأمنية الإسرائيلية ناجحة بحسب وصفه، وأن جيش إسرائيل نجح في مهمته في حماية البلاد، وقال إن الدليل على ذلك هو نجاحاته في ست حروب خلال نشأة الدولة الإسرائيلية، وأشار إلى أن قدرات الردع الإسرائيلية ورفضها الاستسلام للتهديدات الخارجية كان لها دور كبير في إقناع الخصوم العرب بالاعتراف بدولة إسرائيل والدخول في عملية السلام معها.
وأكد آيزنكوت أن الاستمرار في تحسين القدرات الاستخبارية له دور مهم في منع الحروب الواسعة وتعزيز قدرات الجيش للصمود أمام التهديدات المحتملة والتحالفات التي قد تتشكل في الشرق الأوسط ضد إسرائيل. وأشار أيضا إلى أن إسرائيل يجب أن تعمل على منع انتشار أسلحة الدمار الشامل في الشرق الأوسط، بجانب المشاركة الفعالة في أي منظمة دولية أو تشكيل عسكري إقليمي يهدف إلى محاربة الإرهاب والإسلام المتطرف.
فيما وصف اتفاقيات السلام القائمة بأنها أهم شيء بالنسبة لإسرائيل في الحاضر والمستقبل، وأن إسرائيل يجب عليها أن تعمل على التوسع في المفاوضات مع الدول العربية.
أظهرت دراسة آيزنكوت رؤيته التي جمعت بين البُعد العسكري والسياسي، وجعلته محل اهتمام عند صانع القرار الإسرائيلي، ليُختار بعد ذلك سكرتيرا عسكريا لرئيس الوزراء ووزير الدفاع في عهد رئيس الوزراء إيهود باراك عام 1990، ويترقّى إلى رتبة عميد. كما شارك آيزنكوت بحكم منصبه في المفاوضات مع سوريا.
وخلال الانتفاضة الفلسطينية الثانية عام 2003، تولى قيادة الفرقة 366 وفرقة يهودا والسامرة، وتُعرف باسم فرقة الضفة، ثم ترقّى لرتبة عقيد وعُيِّن رئيسا لقسم العمليات في هيئة الأركان العامة في يونيوحزيران 2005. ونتيجة لدوره في إدارة حرب لبنان ووضع مخططات الهجوم والتكتيكات العسكرية، عُيِّن رئيسا للقيادة الشمالية.
وفي عام 2013، شغل منصب نائب رئيس الأركان العامة، وترقّى إلى رئيس الأركان في فبرايرشباط 2015 وحتى ينايركانون الثاني 2019. وبذلك يكون أول يهودي من أصول مغربية يتولى ذلك المنصب، وقد تقاعد بعد 40 عاما من الخدمة في الجيش.
وقبل خروجه من الخدمة حصل آيزنكوت على وسام جوقة الاستحقاق من نظيره الأميركي عام 2016، الجنرال جوزيف دانفورد، عن الخدمة الجديرة بالتقدير بشكل استثنائي بوصفه رئيسا للأركان العامة للجيش الإسرائيلي، وهو يُعد من أهم الأوسمة داخل الجيش الأميركي. وكان من أكثر الأشياء اللافتة خلال فترة إدارته للجيش أنه لم يطلب إضافات في ميزانية الجيش.
اتسم آيزنكوت خلال فترة خدمته رئيسا للأركان ببُعده عن الإعلام، وكانت خطاباته الإعلامية قليلة، واقتصرت على طبيعة بروتوكولية بصفته رئيس الأركان، حيث أجرى جولة واحدة فقط من المقابلات مع الصحافة المطبوعة، وجولة واحدة مع صحافة الإنترنت. فيما لم يُجرِ أي مقابلات على التلفزيون، وكان ينظم جلسة أو اثنتين كل عام للمراسلين العسكريين العاملين في الصحافة الإسرائيلية.
حصل آيزنكوت على وسام جوقة الاستحقاق من نظيره الأميركي الجنرال جوزيف دانفورد عام2016 المتحدث باسم جيش الاحتلال الإسرائيلي
لعب آيزنكوت دورا محوريا في وضع السياسات والتوجهات الأمنية المعمول بها داخل الجيش الإسرائيلي، التي كان في مقدمتها تشكيل الإستراتيجية العسكرية للجيش الإسرائيلي وتعريف التهديدات وترتيب أولوياتها. كان آيزنكوت يقدم المشورة للقادة السياسيين بشأن مسائل السياسة الدفاعية أو يدعو إلى اتخاذ تدابير استباقية لمعالجة التهديدات الناشئة مبكرا، وبرز اسم آيزنكوت بوصفه مستشارا موثوقا به، وكان لمشورته وزن كبير في توجيه دوائر صنع القرار الإسرائيلية، حيث أسهمت توجيهاته في تطوير العقيدة العسكرية للجيش الإسرائيلي ووضع إستراتيجيته الحالية، وتطوير فلسفة الأمن القومي الإسرائيلي والتحديات والمخاطر التي تواجه دولة إسرائيل.
كانت البداية عام 2007، وهو العام الذي صاغ فيه آيزنكوت عقيدة الضاحية، وهو الاسم الذي أُطلق عليها نسبة إلى حي الضاحية في بيروت، حيث كانت توجد مراكز قيادة حركة حزب الله اللبناني. اعتمدت العقيدة خلال حرب لبنان الثانية على تكثيف قصف الجيش الإسرائيلي لعدد كبير من المباني السكنية، وكانت الفكرة بالأساس هي تنفيذ سياسة العقاب الجماعي بإحداث أضرار في البنية التحتية ضد الحاضنة الشعبية الداعمة لأي حركة مسلحة تعمل على استهداف إسرائيل، وحتى تكون عبرة لجميع أنحاء لبنان أو لأي دولة أخرى في أي صراع مستقبلي. وقال آيزنكوت تعقيبا على النهج العملياتي الذي استهدف البنية التحتية في جنوب لبنان
ما حدث في ضاحية بيروت عام 2006 سيحدث في كل قرية يُطلَق النار منها على إسرائيل، وسنستخدم قوة غير متناسبة ونسبب أضرارا ودمارا كبيرا فيها... من وجهة نظرنا، هذه ليست قرى مدنية، بل هي قواعد عسكرية
هذا التصريح يُعَد الصياغة الواضحة المعبرة عن مفهوم العقيدة العسكرية للجيش الإسرائيلي، وكيف مثلت العمليات العسكرية في الضاحية نقطة تحول في تطوير عقيدة الجيش الإسرائيلي وتكتيكاته العملياتية.
وفي ندوة عن الأمن والسياسة بجامعة رايخمان، عَرَّف آيزنكوت التهديدات الإستراتيجية التي تواجه إسرائيل بالترتيب التالي 1 القنبلة النووية الإيرانية المحتملة بوصفها تهديدا أولا، 2 ثم أشار إلى أن الجماعات المسلحة وشبه العسكرية تمثل التهديد الثاني، ويقصد بذلك حركتي حماس بقطاع غزة وحزب الله في جنوب لبنان، 3 أما الجيوش النظامية في سوريا ومصر فحلَّت بوصفها تهديدا ثالثا، حيث وصفها بأنها لا تمثل تهديدا حاليا، وربط درجة التهديد والخطورة المتوقعة من الجيشين بتغير النظام السياسي في مصر أو سوريا، حيث وصف مصدر التهديد بأن تغيير النظام السياسي قد يدفع إلى تغيير منظومة الجيش وعقيدته سلبيا تجاه إسرائيل، وقدّر آيزنكوت المدة اللازمة لتنفيذ تلك بالجيوش بفترة تتراوح بين 3-5 سنوات، ووصف هذا التحول بأنه سيمثل إرباكا وسيعيد ترتيب التهديدات وأولويات الأمن القومي الإسرائيلي، وسينعكس على إستراتيجياتها العسكرية والبنيوية للجيش الإسرائيلي. 4 ثم وضع الحرب السيبرانية والكوارث الطبيعية تهديدا رابعا، 5 ثم ختم بـالنضال المستمر من قِبَل الفلسطينيين، حيث يرى أن استمرارية النضال والانفلات الأمني كما حدث في الانتفاضة الفلسطينية ستُمثل تهديدا وجوديا. وعند سؤاله عن حالة الصراع مع حركة حماس وقطاع غزة، عقب بأن حالة الصراع مع غزة لا يوجد حسم، ولا يوجد نصر.
قدَّم آيزنكوت التهديدات غير التقليدية التي تواجهها إسرائيل على التهديدات التقليدية في الإستراتيجية العسكرية، رغم وضعه حركة حماس وحزب الله تهديدا ثانيا بعد القنبلة النووية الإيرانية المحتملة، لكنه وصف التهديدات غير التقليدية قبل انطلاق حرب طوفان الأقصى بأنها متزايدة بالمقارنة مع التهديدات التقليدية.
تناول آيزنكوت خطة جدعون في مقال مكتوب في مجلة الشؤون العسكرية والإستراتيجية بمعهد دراسات الأمن القومي، ووصف آيزنكوت المخطط جدعون بأنه خطة جديدة متعددة السنوات، دخلت حيز التطبيق والتنفيذ أوائل عام 2016، وأشار إلى أن الخطة استندت إلى فكرة تقليص حجم الجيش، بما في ذلك الجيش النظامي وهيكله وجيش الاحتياط.
وجعل الجيش يركز على مهامه الأساسية والوصول إلى مستوى عالٍ من الفعالية من خلال وحدات عالية التدريب بتعزيز مكوناته الرئيسية، وتحسين استعداده وتدريبه ومخزونه. تستند فلسفة الخطة إلى أن تستمر الحرب ضد الإرهاب حسب وصفه، لكن من خلال نموذج إدارة المخاطر بالحكمة، وهو نموذج يميل إلى استخدام القوة على النحو الذي يوجه المعركة ويتحكم في مسارها.
وقد أكد أن من الخطأ توجيه كل موارد وقدرات الجيش الإسرائيلي نحو الحرب ضد الإرهاب، ويهدف المشروع أيضا إلى الاستمرار في نقل الجيش الإسرائيلي إلى النقب خلال العقد المقبل وإخلاء المقرات في وسط إسرائيل والمدن.
الخطة جدعون سُميت على اسم القاضي المحارب الإسرائيلي الذي أمره الله بمحاربة المديانيين وتدمير أصنامهم، وقُدمت الخطة في يوليوتموز 2015، وكان من ضمن أهداف آيزنكوت تأمين تمويل إضافي لقطاع الدفاع دون خفض الأموال المخصصة لمجالات أساسية أخرى مثل الرعاية الاجتماعية، والتعليم، والرعاية الصحية، وغيرها، وكانت ميزانية الدفاع قد بلغت في وقت الإعلان نحو 60 مليار شيكل 15.3 مليار دولار.
تحولت إحاطة آيزنكوت التي قدمها بصفته رئيسا للأركان إلى وثيقة رسمية بعنوان إستراتيجية جيش الدفاع الإسرائيلي، وهي بمنزلة دليل لجيش الاحتلال الإسرائيلي بما يحدد الاستجابات الإستراتيجية والعملياتية للتهديدات الآنية التي يواجهها الجيش، وعلى رأسها حركتا حماس وحزب الله.
هَدَف آيزنكوت إلى جعل الإستراتيجية مرجعا ودليلا إرشاديا للجيش الإسرائيلي، يعتمد عليها في تعريف الأمن القومي، وتنظم إطارا نظريا في توظيف العمليات والتكتيكات العسكرية. وقد حددت الوثيقة أربعة اتجاهات رئيسية لمبادئ عقيدة الأمن القومي الإسرائيلي 1 الردع، 2 والإنذار المبكر، 3 والنتيجة الحاسمة، 4 والدفاع واتخاذ القرار.
وتضع تلك المبادئ إطارا منظما للإستراتيجية العسكرية، وأسلوبا للعمليات والأنشطة العسكرية لجيش الاحتلال الإسرائيلي. كما تناقش الإستراتيجية أيضا مبادئ وأهداف نشر قوات الجيش في المواقف الروتينية وحالات الطوارئ والحروب، وهي تؤكد أيضا أن رئيس الأركان هو القائد الوحيد لجميع عمليات جيش الاحتلال.
يستند مفهوم الأمن عند آيزنكوت إلى مجموعة من الفرضيات؛ تتمثل في الحفاظ على فترات طويلة من الهدوء الأمني لتحقيق تنمية مجتمعية وعلمية واقتصادية، وتحسين الاستعداد لحالات الطوارئ والحروب. كانت المساهمة التي قدمها آيزنكوت في هذا السياق هي الجهود الحركية المستمرة لإضعاف قدرات العدو بهدف إطالة الوقت بين الحروب وتحسين فرص الفوز بها إذا فرضت في الساحة، وأطلق عليها اسم الحملة بين الحروب، وهو مفهوم مطبق ميدانيا ضد إيران وتحركاتها في سوريا والعراق، ولا يشمل حركة حماس وحزب الله، حيث جعل من عمليات استهداف خطوط الإمداد والتسليح للجماعات المسلحة الموالية لإيران تأخذ وتيرة شبه يومية في سوريا والعراق، التي بلغت أكثر من 2000 قنبلة عام 2018.
تستند الفرضية أيضا إلى خلق الردع في البيئة الإقليمية ضد العناصر التي يمكن أن تشكل تهديدا لإسرائيل. وفي الوقت نفسه، استخدام جميع المنظمات الدفاعية في عمل منسق لإعاقة قدرات العدو عن بناء قوته. تركز الفرضية أيضا على إزالة التهديد بسرعة، مع تقليل الأضرار التي ستلحق بالدولة.
يخشى آيزنكوت من اختلال نموذج العلاقات المدنية العسكرية في الدولة الإسرائيلية، لذلك يحرص دائما على تأكيد آليات اتخاذ القرار والعلاقة بين الجيش والسياسة وكيفية صناعة القرار، وكان يرى أن من المهم نقل وحدات الجيش خارج المدن للحفاظ على الطابع المدني للمدن.
كما حرص آيزنكوت على تأكيد مفاهيم الديمقراطية، خاصة مع تنامي الأزمات السياسية الداخلية وتداخل الجيش في قلب تلك الأزمات خلال مرحلة إدارة الحرب. هذا القلق نابع من تصاعد حالة الصراع بين القوميين المتدينين والليبراليين حول نوع الدولة التي ينبغي لإسرائيل أن تكون عليها، وتختلف الرؤية بين الصهاينة العلمانيين والصهاينة المتدينين.
من زاوية أمنية، فإن تصاعد مثل هذا الخلاف داخل الجيش يمثل تهديدا بنيويا، فالجيش ليس ساحة لإعطاء الرأي في السياسة أو في الدين. ومع تصاعد الانقسام والاستقطاب بين الطرفين سياسيا، عمل آيزنكوت خلال فترة رئاسته لأركان الجيش الإسرائيلي على وضع حد وتوازن من خلال إلغاء وحدة الوعي اليهودي المكونة من مجموعة من الحاخامات العسكريين عام 2016، التي تأسست داخل الجيش منذ 15 عاما بهدف تقديم وعظ وإرشاد ديني.
ونقل وحدة الوعي اليهودي إلى جناح الأفراد العسكرية، وبمعنى أدق وضعهم تحت مظلة رفع الروح القتالية داخل الوحدات العسكرية. وقد تعرضت تلك الوحدة لنقد كبير من قِبَل الصهاينة العلمانيين، ولقي القرار نقدا كبيرا من قِبَل الصهاينة المتدينين وعدد من الحاخامات. وتعقيبا على هذا الصراع قال آيزنكوت
إن الجيش المنقسم على نفسه بشأن السياسة والدين لا يستطيع أن يفي بمهمته، وجيش الدفاع الإسرائيلي هو جيش الشعب ويشمل طيفا واسعا من المجتمع الإسرائيلي، والتغيير مطلوب بهدف إبقاء جيش الدفاع الإسرائيلي جيش دولة في دولة ديمقراطية.. ورعاية ما يوحد الجنود ... جيش الدفاع الإسرائيلي هو جيش الدفاع الإسرائيلي، وليس جيش الدفاع اليهودي. يضم جنودا دينيين وعلمانيين.. إذا كانت قيمه تأتي من الحاخامية فرع الوعي اليهودي، فهذا مشوه.. إنه خطأ.
أدت إزالة فرع الوعي اليهودي إلى تفاقم الانقسامات القائمة داخل الجيش الإسرائيلي حول مكانة الدين والأيديولوجية، وكان رد فعل الجنود الصهاينة المتدينين قويا على إزالة الوحدة من الجيش. وعُدَّ القرار، الذي اتخذه رئيس أركان الجيش الإسرائيلي غادي آيزنكوت، بمنزلة هجوم على القيم الدينية داخل الجيش، وبينما رحب البعض بهذا الأمر، فقد أثار غضب الآخرين وساهم في تسييس الجيش على نطاق أوسع على أسس دينية علمانية.
وفي مطلع عام 2021، قال آيزنكوت إن أعداء إسرائيل لا يشكلون تهديدا وجوديا لدولة إسرائيل، بل الاستقطاب الداخلي، وذلك على خلفية الأزمة السياسية التي تعيشها إسرائيل بين المعسكرين منذ أبريلنيسان 2019 التي أُجري فيها خمسة انتخابات في خمس سنوات، ويتبنى في ذلك نهجا وسطا يدعو فيه المجتمع الإسرائيلي إلى وقف حملة الاستقطابات الحادة فيما بينهم من أجل إيجاد خطوط اتصال بين المعسكرات السياسية المختلفة، ويرى أن التهديد الداخلي يعزز من عدم الثقة في النظام السياسي ومؤسسات الدولة، ووصفها بأنها تعمق الاستقطاب والشرخ بين أجزاء المجتمع الإسرائيلي وقد تمثل تهديدا وجوديا، ليضعها بجانب التهديدات الخارجية القادمة من سوريا ولبنان وإيران.
ترتكز آراء آيزنكوت السياسية على إقامة دولة متجذرة في القيم القومية اليهودية، مع ضمان الحقوق المتساوية لجميع المواطنين، وتميل آراؤه إلى دعم حل الدولتين مع الفلسطينيين، مع إعطاء الأولوية لغور الأردن والكتل الاستيطانية، ويدعو إلى وقف إطلاق نار طويل الأمد ونزع السلاح في قطاع غزة. ويؤكد آيزنكوت الحاجة إلى سياسة أمنية قوية ووحدة داخلية في إسرائيل، معتبرا أن الاستقطاب السياسي الداخلي يمثل تهديدا كبيرا للدولة، ويدعو كذلك إلى إصلاحات لتعزيز الفصل بين السلطات داخل الحكومة الإسرائيلية.
آيزنكوت أيضا لا يرغب في انهيار السلطة الفلسطينية، فهو يُفضِّل أن يدير الفلسطينيون حياتهم بأنفسهم، ويوصي بعدم دفعهم إلى تبني فكرة الدولة الواحدة. ويتبنى آيزنكوت مواقف تميل إلى التوازنات الأمنية، لإيمانه أكثر بإدارة الصراع.
انضم غادي آيزنكوت إلى حزب الوحدة الوطنية الإسرائيلي في 14 أغسطسآب 2022. يقود الحزب بيني غانتس وزير الدفاع السابق، وانضم آيزنكوت إلى قائمة الحزب الانتخابية، ليكون في المركز الثالث بعد غانتس ووزير العدل جدعون ساعر.
يقدم الحزب نفسه فكريا بأنه حزب يمين وسط معتدل، وقد تَشكَّل الحزب عن ممثلين من حزب أزرق أبيض بزعامة بيني غانتس، وحزب الأمل الجديد بزعامة جدعون سار، بجانب غادي آيزنكوت ومتان كهانا. وتشتمل مبادئ الحزب في تعريف دولة إسرائيل على أنها دولة قومية للشعب اليهودي، وتؤكد الالتزام بالديمقراطية والحفاظ على استقلال القضاء والفصل بين السلطات.
ويدعم الحزب حل الدولتين للصراع الفلسطيني الإسرائيلي، ويؤيد تعزيز الأمن الإسرائيلي ومنع إيران من امتلاك أسلحة نووية، ويتبنى منظور الاقتصاد الحر والعدالة الاجتماعية في أجندته الاقتصادية. ويسعى غانتس إلى توحيد قوى الوسط في إسرائيل لخلق بديل لحكومة نتنياهو، لكنه يواجه خلافات مع آيزنكوت في تحديد الأولويات رغم التوافق حول الأهداف.
يركز آيزنكوت في مشاركاته داخل الكنيست على مسائل الدفاع والعلاقات الخارجية، وتطوير منظومة الشرطة واختصاصاتها، بجانب دعم التجمعات الاستيطانية في مناطق خطوط المواجهة مع حركات المقاومة، حيث شارك في عضوية اللجنة الخاصة المعنية بمشروع قانون تعديل قانون الشرطة، وهي لجنة معنية بوضع صلاحيات العاملين في الشرطة وذلك من ديسمبركانون الأول 2022 وحتى أكتوبرتشرين الأول 2023.
وشارك أيضا في عضوية لجنة الشؤون الخارجية والدفاع من نوفمبرتشرين الثاني 2022 وحتى أكتوبرتشرين الأول 2023. وكذلك عضوية تجمع جنود الاحتياط في الجيش الإسرائيلي من مارسآذار 2023 وحتى أكتوبرتشرين الأول 2023، وعضوية تجمع تعزيز سكان خطوط المواجهة من مارسآذار 2023 وحتى 11 أكتوبرتشرين الأول 2023.
يهاجم آيزنكوت أحزاب اليمين المتطرف في إسرائيل، حيث يقول إن الدولة القومية للشعب اليهودي يجب أن توفر حقوقا متساوية لجميع مواطنيها دون النظر إلى الدين أو العرق أو الجنس، بما في ذلك السكان العرب داخل إسرائيل، وقال علينا أن نتخذ سياسات نشطة لمنع التطور الخطير لدولة ثنائية القومية، في إشارة إلى النتيجة المحتملة للصراع الإسرائيلي الفلسطيني، حيث يرى أن الفشل في إقامة دولة فلسطينية قد يؤدي إلى قيام دولة ثنائية القومية لليهود والفلسطينيين، وقد أبدى احترامه لليهود المتشددين ووصفهم بأنهم حافظوا على التقاليد اليهودية لسنوات عديدة، وهم جزء مهم لا ينفصل عن المجتمع الإسرائيلي.
دعا آيزنكوت إلى اتباع نهج أكثر اعتدالا تجاه حركة حماس وقطاع غزة، مؤكدا أهمية التوصل إلى وقف إطلاق النار والعودة الآمنة للمحتجزين، وعارض فكرة أن إسرائيل قد هزمت حماس بالكامل، قائلا نحن لم نصل بعد إلى إنجاز إستراتيجي، أو بالأحرى جزئيا فقط... نحن لم نُسقط حماس، ووصف إمكانية إطلاق سراح الرهائن بوسائل أخرى غير وقف إطلاق النار بأنها ادعاءات بمنزلة نشر أوهام.
كما أعرب آيزنكوت عن مخاوفه من العواقب الإستراتيجية المحتملة في حال وُجهت ضربة استباقية ضد حزب الله في لبنان، مشيرا إلى أن مثل هذا الهجوم قد يؤدي إلى صراع إقليمي أوسع.
وقد قُتل ابنه الرائد غال مئير آيزنكوت 25 عاما في معارك غزة، كما قُتل أيضا ماور مئير كوهين ابن شقيق آيزنكوت، وكان غال آيزنكوت يقاتل في الكتيبة 669 تشكيل نصف حاش، وهي معروفة باسم وحدة الإنقاذ الجوي والإخلاء، وهي وحدة تابعة للقوات الجوية الإسرائيلية متخصصة في الإنقاذ القتالي. والوحدة تابعة لجناح القوات الجوية الخاصة السابع الموجود في قاعدة بالماحيم، وتُعد إحدى وحدات النخبة الأربع في جيش الاحتلال الإسرائيلي. | https://www.aljazeera.net/politics/2024/7/18/%d8%ba%d8%a7%d8%af%d9%8a-%d8%a2%d9%8a%d8%b2%d9%86%d9%83%d9%88%d8%aa-%d9%85%d9%87%d9%86%d8%af%d8%b3-%d8%b9%d9%82%d9%8a%d8%af%d8%a9-%d8%a7%d9%84%d8%aa%d8%af%d9%85%d9%8a%d8%b1 | 2024-07-18T16:45:36 | 2024-07-18T16:45:36 | أبعاد |
|
57 | أطلقوا عليه سلطان العالم.. عندما استغاثت فرنسا بسليمان القانوني | أدرك الملك هنري الثاني، أهمية الدولة العثمانية لفرنسا، وقد عبّر عن ذلك في رسالة إلى السلطان سليمان القانوني، مشيرًا إلى أن فرنسا لم يعد لديها أي أمل في المساعدة من غير السلطان العثماني. | شهدت أوروبا في القرن السادس عشر صراعًا دمويًّا على الهيمنة بين اثنين من أعظم القادة في ذلك العصر، وهما الملك الفرنسي فرانسوا الأول ت 1547م، والإمبراطور الروماني المقدس وملك إسبانيا شارلكان أو كارلوس الخامس 1558م.
وقد اندلع الصراع بينهما للظفر بإيطاليا التي كانت منقسمة إلى عدد من الجمهوريات الغنية مثل البندقية وجنوة وفلورنسا وميلانو، فضلا عن أهميتها الدينية لوجود البابوية بها، وذلك في إطار ما عُرف باسم الحروب الإيطالية التي استمرت قرابة ستين عامًا بين عامي 1494 و1559م، وقد شكّلت هذه الحروب نقطة تحول في تاريخ العلاقات الدولية الأوروبية والنفوذ العثماني.
لهذا السبب كانت فرنسا تتطلع إلى السيطرة على أجزاء من جارتها إيطاليا، كما سعت إسبانيا والإمبراطورية الرومانية المقدسة لفرض هيمنتهما على هذه المناطق، وكان شارلكان يحكم إمبراطورية شاسعة تضم إسبانيا وهولندا والنمسا وأجزاء من إيطاليا، مما يعني أنه يمتلك قوة اقتصادية وعسكرية هائلة.
وفي المقابل كان فرانسوا الأول يطمح إلى توسيع نفوذ فرنسا في إيطاليا وإعادة فرض السيطرة على دوقية ميلانو، التي فقدتها فرنسا لصالح الإمبراطورية الإسبانية.
بدأت الحرب بين فرانسوا الأول وشارلكان بصورة غير مباشرة في عام 1515م حين تمكن الفرنسيون من إحكام السيطرة على ميلانو في شمال إيطاليا، الأمر الذي أدى إلى تسريع المواجهة العسكرية بين الجانبين.
ففي عام 1521 قام شارلكان بدعم من البابوية بمهاجمة ميلانو؛ وكان البابا ليو العاشر وأدريان السادس من بعده متحالفَينِ مع الإمبراطور الإسباني لأنهما وإياه كانوا يخشون التوسع الفرنسي في إيطاليا ويعتبرونه تهديدًا للكنيسة الكاثوليكية ومصالحها، وفي هذه الفترة كانت ميلانو تحت السيطرة الفرنسية منذ الحروب الإيطالية السابقة، وقد اعتبر فرانسوا هذا الهجوم تهديدًا مباشرًا لمصالحه.
ردًّا على الهجوم، أرسل فرانسوا الأول جيشه لاستعادة ميلانو، ولكن قواته تعرضت لهزيمة ساحقة في معركة بيكوكا عام 1522 على أيدي القوات الإسبانية والرومانية المقدسة، وفقدَ فرانسوا على إثرها السيطرة على ميلانو مجددًا لصالح الإمبراطورية الرومانية المقدسة، وهو ما شكّلَ ضربة قاسية لمخططاته التوسعية.
لم ييأس فرانسوا وأعدّ حملة عسكرية أكبر من سابقتها قادها بنفسه في عام 1525، حيث وقعت معركة بافيا في شمال إيطاليا، وهي إحدى أهم وأشهر المعارك في الصراع بين فرانسوا الأول وشارلكان، ومع ذلك كانت خطة فرانسوا غير مدروسة جيدًا، وتعرضت قواته لهجوم مفاجئ من جيش شارلكان في مدينة بافيا في شمال إيطاليا.
تفوق الإمبراطور شارلكان بفضل خبرته العسكرية، وكثرة جيوشه، وتمكن من إلحاق هزيمة ساحقة بالفرنسيين، بل وأُسر الملك الفرنسي فرانسوا الأول في تلك المعركة، وهو حدث نادر في تاريخ الملوك الفرنسيين، لاحقا كتب فرانسوا بعد أسره رسالة شهيرة إلى والدته جاء فيها كل شيء ضاع إلا الشرف، معترفًا بالخسارة المريرة لكنه أكّد على احترامه لنفسه وكرامته.
بعد أن تم أسر فرانسوا الأول، تم نقله إلى مدريد عاصمة إسبانيا، حيث وُضع تحت الحبس وأُجبر على توقيع معاهدة مدريد في ينايركانون الثاني 1526، وقد تضمَّنَت المعاهدة شروطًا قاسية لفرنسا كان من بينها التنازل عن دوقية ميلانو ودوقية بورغونيا لصالح الإمبراطور شارلكان؛ ولضمان تنفيذ هذه الاتفاقية أَجبر الملك الإسباني غريمه الفرنسي على تسليم ابنيه ليكونا رهينتين عنده.
لكن فور عودة فرانسوا إلى فرنسا في مارسآذار من نفس العام رفض الامتثال لشروط المعاهدة بحجة أن الاتفاق تم تحت الإكراه، وأدى هذا الموقف إلى تصعيد الصراع مجددًا، وبدأ فرانسوا في البحث عن تحالفات جديدة ونوعية لمواجهة غريمه شارلكان.
في هذه الفترة، كان السلطان سليمان القانوني ت 1566م في أوج قوته، حيث كان يقود الدولة العثمانية في توسعات هائلة، وكانت إسطنبول تُهيمن على مساحات شاسعة في القارات الثلاث آسيا وأفريقيا وأوروبا؛ وخاصة في شرق أوروبا والبحر المتوسط، وذلك بعد أن نجح في فرض هيمنة الدولة العثمانية على معظم منطقة البلقان وتوسع نحو المجر وشرق أوروبا، وقد أصبح السلطان القانوني بفضل هذه الفتوحات القوة الأبرز في العالم الإسلامي، والخصم الأكبر لـ الإمبراطورية الرومانية المقدسة في الشرق.
ولأجل هذه القوة العظمى، أدرك فرانسوا الأول أن التحالف مع السلطان سليمان القانوني قد يكون الفرصة الوحيدة لمواجهة قوة شارلكان المتفوقة، وعلى الرغم من أن فرنسا دولة كاثوليكية وقلعة من قلاع المسيحية في أوروبا الغربية، وأنها كانت تعتبر العثمانيين خصمًا دينيًّا وحضاريًّا خطيرًا، فقد دفعت الضرورات السياسية في تلك الفترة الملك الفرنسي إلى التفكير خارج الأطر التقليدية.
ومذ كان في الأسر، بدأ فرانسوا الأول في التواصل مع السلطان سليمان القانوني عبر رسائل دبلوماسية من خلال والدته وكبار دبلوماسيّيه، وقد طلب الملك الفرنسي من السلطان العثماني دعمه في محاربة الإمبراطور شارلكان بلغة ملؤها الاستنجاد والاستغاثة.
في إحدى تلك الرسائل نرى فرانسوا الأول يُخاطب السلطان سليمان بلقب سلطان العالم ويعترف بمكانته العظمى وسلطته التي تمتد على أرجاء شاسعة من العالم، ويشرح للسلطان القانوني ظروفه الصعبة بعد هزيمته في باڤيا وأسرِه، ويطلب دعمه في مواجهة الهيمنة الإسبانية والألمانية، ويشير فرنسوا في الرسالة إلى أنه لم يعد لديه أي أمل في مساعدة مِن أي جهةٍ أوروبية أخرى سوى الدولة العثمانية، يقول
لم يبقَ لدى فرنسا أيّ أمل بالمساعدة من أي مكان آخر عدا حَضرة سلطان العالم، حيث إن حضرة سلطان العالم قد قدَّم من قبل مساعدات لمرات عديدة. إن فرنسا ستكون ممتنة إلى الأبد لو سُوعدت بمقدار من النقود والبضاعة، وخاصة أن هذه المساعدة تُعتبر لا شيء بالنسبة إلى سلطان العالم.
في المقابل أبدى السلطان سليمان تعاطفًا مع الملك الفرنسي، وأحب أن يَبعث له ردَّا يهدّئ من روعه، جاء فيه وصل إلى أعتاب ملجأ السلاطين المكتوبُ الذي أرسلتموه مع تابعكم، مع بعض الأخبار التي أوصيتموه بها شفاهيا، وأعلَمَنا أن عدوكم استولى على بلادكم، وأنكم الآن محبوسون وتستدعون من هذا الجانب مدد العناية بخصوص خلاصِكم، وكل ما قُلتموه عُرض على أعتاب سرير سُدتنا الملوكانية وأحاط به علمي الشريف على وجه التفصيل فصار بتمامه معلوما.
تستمر الرسالة في إظهار عظمة العثمانيين والوعد بتقديم الدعم للملك الفرنسي، حيث تقول فلا عجب مِن حبس الملوك وضيقهم، فكُن منشرح الصدر، ولا تكن مشغول الخاطر، فإن آبائي الكرام وأجدادي العظام نوَّر الله مراقدهم لم يكونوا خاليين من الحرب لأجل فتح البلاد وردّ العدو، ونحن أيضا سالكون على طريقتهم وفي كل وقت تُفتح البلاد الصعبة والقلاع الحصينة، وخيولنا ليلا ونهارا مَسروجة وسيوفنا مسلولة، فالحق سبحانه وتعالى يُيسر الخير بإرادته ومشيئته، وأما باقي الأحوال والأخبار تفهمونها من تابعكم المذكور فليكن معلومكم هذا.
وبعد دراسة الأوضاع العامة في القارة الأوروبية، وإدراك سليمان خطورة القوة التي أصبح يتمتع بها العاهل الإسباني وهو في الوقت عينه إمبراطور الدولة الرومانية المقدسة وافق السلطان على تقديم الدعم لفرنسا، ليس فقط بسبب العداوة المشتركة مع شارلكان، ولكن أيضًا لتحقيق مصالح عثمانية في البحر المتوسط كان شارلكان يفاجئ بلدان المغرب العربي كل حين بالهجوم والحرب عليها.
كانت إستراتيجية الدولة العثمانية في إطار هذا التحالف أن يكون الهجوم على مصالح الدولة الرومانية المقدسة من شرق أوروبا وغربها، ولهذا السبب قام السلطان القانوني بشن حملات عسكرية قوية ضد ممتلكات شارلكان مباشرة، وكانت أولى تلك الحملات موجَّهةً ضد مملكة المجر حيث انتصر العثمانيون في معركة موهاج الشهيرة عام 1526، وبعدما تحقّقَ هذا النصر الساحق، ودخلت المجر في القبضة العثمانية، فتحوا بذلك الطريق نحو فيينا العاصمة النمساوية وقلب أوروبا.
وبعد إعداد جيد لتحقيق هذا الغرض، وفي عام 1529م قاد السلطان سليمان القانوني بنفسه حملة عسكرية انطلقت باتجاه فيينا عاصمة النمسا، حيث تمكن العثمانيون من محاصرتها للمرة الأولى في التاريخ الإسلامي، وكان حصارًا قاسيًّا شديدًا وكادت تسقط في أيديهم لولا دخول الشتاء القارص، وانتشار المرض بين الجنود العثمانيين والمقاومة الباسلة التي قادها القائد النمساوي نيكولاس فون سالم، وكان هذا الحصار أكبر تهديد للإمبراطورية الرومانية المقدسة وإمبراطورها شارلكان.
وبفضل هذا التدخل العثماني في أوروبا الشرقية والوسطى، تمكن الملك فرانسوا الأول من استغلال الضغط الذي مارسه العثمانيون على شارلكان لإعادة تنظيم قواته وتوسيع تحالفاته في أوروبا الغربية، وتنفس الصُّعداء قليلا تجاه غريمه اللدود.
والحق أن العثمانيين لم يكتفوا بالهجوم البري الساحق على البلقان والمجر والنمسا فقط، فقد أدركَ السلطان سليمان أن الأسطول الإسباني في البحر المتوسط صار قوة كبيرة تهدد مصالح الدولة العثمانية ورعاياها في ليبيا وتونس والجزائر، فضلا عن المغرب، وكانت بعض هذه الأقطار قد دخلت في حوزة العثمانيين منذ عصر والده السلطان سليم؛ حيث لم يجدوا المعين ولا الناصر من القوى الإسلامية الأخرى مثل المماليك والحفصيين لضعفهم وتشرذمهم، فضلا عن تجدد الخطر الإسباني على الحليف الفرنسي فرنسوا الأول.
وكان القائد والقبطان البحري الشهير خير الدين بربروس باشا من أقوى حلفاء العثمانيين في الجزائر أولا ثم دخل في طاعتهم وصار أحد قادة الدولة الكبار، وكان ذا أياد بيضاء في طرد المحتل الإسباني من البلاد، فضلا عن تحرير تونس، وفوق ذلك عملياته العسكرية والبحرية الدائمة لدعم مسلمي الأندلس الذين كانوا يواجهون القتل والتعذيب على أيدي الكاثوليك في ظل سياسة محاكم التفتيش التي كانت تسوموهم سوء العذاب.
ولم يكن اختيار السلطان سليمان القانوني لخير الدين بربروس باشا لقيادة العمليات العسكرية لتأديب إسبانيا وحماية فرنسا من فراغ أو لاشتهار خير الدين بربروس فقط؛ بل إن هناك أسبابًا إستراتيجية من وراء هذا الاختيار كان على رأسها تعزيز القوة البحرية العثمانية عالميًّا.
فقد كان الأسطول العثماني بحاجة إلى قائد ذي خبرة بحرية واسعة مثل خير الدين بربروس، الذي اشتهر بتفوقه في المعارك البحرية في البحر الأبيض المتوسط ضد الإسبان والطليان والقراصنة الأوروبيين، وكان بَربروس يملك معرفة عميقة بتكتيكات القتال البحري، وأصبح رمزًا للقوة العثمانية البحرية بعد تحقيقه هذه الانتصارات.
كما أراد السلطان سليمان القانوني توحيد قيادة البحرية العثمانية من خلال تولية خير الدين بربروس في منصب قبودان باشا، وكان سَعيُ سليمان القانوني إلى توحيد القوة البحرية العثمانية تحت قيادة بربروس باشا يعني تحقيق تنسيق أكبر بين الأساطيل العثمانية التي كانت تعمل في مختلف مناطق البحر المتوسط.
أما الهدف الإستراتيجي الطويل الأمد من وراء ذلك الاختيار فكان يستهدف التوسع والهيمنة المطلقة على البحر المتوسط، ولا سيما أن السيطرة على هذا البحر تعني السيطرة على التجارة والممرات البحرية الحيوية، وقد نجح بربروس في هذه المهمة من قبل.
كما هدف السلطان سليمان من وراء اختيار بربروس باشا إلى زيادة قوة التحالف مع فرنسا ضد شارلكان، وإضعاف التحالفات الأوروبية المناهضة التي كان يعقدها الإسبان مع الألمان والإنجليز، والتي كانت تستهدف المصالح العثمانية في البر والبحر.
ولكل هذه الأسباب وفي شهر ربيع الأول عام 950هـ1543م انطلق الأسطول العثماني بقيادة خير الدين بربروس باشا من إسطنبول، وضم الأسطول 154 سفينة حربية بين كبيرة ومتوسطة، كان على متنها حوالي 30,000 جندي، وقد وَصل الأسطول إلى السواحل الإيطالية حيث استسلمت له مدينتا مسينا في صقلية وريجيو كالابريا في الجنوب الإيطالي، وتمكن الأسطول العثماني من تدمير الحصون العسكرية في المدينتين دون أن يتعرض مباشرة للمدنيين.
لاحقًا، توجه الأسطول العثماني إلى ميناء أوستيا الذي كان يبعد حوالي 30 كم من العاصمة الإيطالية روما لتزويد الجنود بالإمدادات اللازمة، ومن ثم أكمل بربروس باشا رحلته إلى شواطئ فرنسا، حيث وصل إلى ميناء مارسيليا في يونيوحزيران 1543، وقد استقبل الفرنسيون الأسطول استقبال الأبطال الفاتحين، وأمر الملك فرنسوا الأول بوضع الأسطول الفرنسي المكون من 44 سفينة تحت إمرة بربروس باشا وإطاعة أوامره.
بعد وضع خطته، اتجه بربروس نحو سواحل مدينة نيس، التي كانت تحت سيطرة دوق سافوي الموالي للإمبراطور الإسباني شارلكان، وقد تمكنت القوات العثمانية الفرنسية المشتركة من حصار المدينة برًّا وبحرًا لمدة أسابيع، حتى استسلمت نيس في 10 جمادى الأولى 950هـ 20 أغسطسآب 1543م.
وبعد الانتصار، بقي الأسطول العثماني في ميناء تولون الفرنسي خلال الشتاء بناءً على اتفاق بين الجانبين، وقد تُركت المدينة تحت إدارة العثمانيين، وانسحب الموظفون الفرنسيون، ورُفع الأذان في المدينة خمس مرات يوميًّا، وجمعت الضرائب من السكان الفرنسيين لتغطية احتياجات الجيش العثماني كما يقول المؤرخ التركي يلماز أوزتونا في كتابه تاريخ الدولة العثمانية.
ومع حلول ربيع العام التالي، شنت الأساطيل العثمانية غارات على السواحل الإسبانية وضربت جزيرة سردينيا التابعة للإمبراطور الإسباني شارلكان، وقد استغل الفرنسيون وجود الأسطول العثماني في موانئهم لتحقيق مكاسب ميدانية وتعزيز سياسة الردع تجاه الإسبان والألمان.
وفي عام 951هـ1544م عاد بربروس باشا إلى إسطنبول مصطحبًا معه حوالي 400 من البحارة الذين عملوا في الأسطول الفرنسي. وقد أرعب الأسطول العثماني الإسبان والإيطاليين والألمان، محققًّا الأهداف المرجوة من الحملة وعلى رأسها استعادة مدينة نيس وغيرها من الأراضي الفرنسية المحتلة.
استمر التعاون العثماني الفرنسي لعدة سنوات تالية؛ إذ أدرك الملك هنري الثاني ت 1559م ابن الملك فرانسوا الأول، أهمية الدولة العثمانية لفرنسا، وقد عبّر عن ذلك في رسالة إلى السلطان سليمان القانوني، مشيرًا إلى أن فرنسا لم يعد لديها أي أمل في المساعدة من غير السلطان العثماني، طالبًا مساعدته لتوسيع العلاقات الاقتصادية بين الجانبين.
رأى العثمانيون فرنسا في عهد سليمان القانوني حليفًا مهمًّا، ساعدهم على ضرب القوى الأوروبية من الداخل. وقاد خير الدين بربروس باشا، أمير الجزائر، جزءًا من الأراضي الفرنسية مثل تولون ومارسيليا ونيس لعدة أشهر خلال حملته على جيوش وأساطيل شارلكان. وكانت هذه الحملة بمثابة علامة فارقة في عهد السلطان سليمان القانوني، الذي حكم ستة وأربعين سنة واعتبر عصره قمة المجد الذهبي للإمبراطورية العثمانية. | https://www.aljazeera.net/culture/2024/10/4/%d8%a7%d9%84%d9%85%d9%84%d9%83-%d8%a7%d9%84%d9%81%d8%b1%d9%86%d8%b3%d9%8a-%d9%8a%d8%b3%d8%aa%d9%86%d8%ac%d8%af-%d8%a8%d8%a7%d9%84%d8%b3%d9%84%d8%b7%d8%a7%d9%86 | 2024-10-04T03:04:34 | 2024-10-15T00:10:07 | أبعاد |
|
58 | جلالة الطفل إيمانويل ماكرون من منظور التحليل النفسي | نأخذك في هذا التقرير عبر رحلة نفسية لنشأة إيمانويل ماكرون وحتى وصوله إلى سدّة الحكم في فرنسا، ومن ثمّ نستعرض آراء المحلّلين النفسيين حيال شخصيته وآراء بعضهم المثيرة للجدل. | سواء أكان يُثير حنقك وكراهيتك أو كان يُثير إعجابك ويلفت انتباهَك، فلا شكّ أنّ الرئيس الفرنسيّ إيمانويل ماكرون أحد الشخصيات السياسية البارزة في سلوكه وقدراته مقارنةً بصغر سنّه وطفولية ملامحه. ولا شكّ أن شخصية ماكرون مثيرة للجدل وكثيرة التناقض في المواقف والآراء السياسية، وهي تقلّبات حادّة في جوهرها، لكنّها تظهر للعَوام كانتقالات ناعمة، ذلك أن ماكرون من الشخصيات الذكية التي تسعى دائمًا في حياتها الخاصّة وكذا السياسية إلى إغواء الآخرين وإثارة إعجابهم عبر عقلنة الأمور وتبريرها المُفصّل الذي تُجسّده إجاباته المُتكرّرة عن أسئلة الصحافيين بـدعني أشرح لكَ الأمر.
وكأيّ شخصية سياسية مثيرة للجدل، ثمّة صندوق أسود يحتوي على الأسرار النفسية لماكرون وسِجل سيكولوجيّ طويل يُفسِّر سلوكياته ومواقفه، معظمها يظهر على السطح بصيغة النجاح والإنجازات وتحقيق الأهداف، وجزء آخر غير قليل منها يظهر على هيئة نرجسية مَرَضية ورغبة عارمة في إغواء الآخرين وجوع شديد لإثارة إعجاب الآخرين واستباحة مطلقة للحدود الأخلاقية في سبيل تميّزه وتفرّده ونجاحه الشخصيّ، لدرجة دفعت مُحلّلين نفسيين لوصفه بأنّه جلالة الطفل الذي مهما ترقّى سياسيًّا واجتماعيًّا فإنه ما يزال يتصرّف كطفل عالِق عند حاجاته الطفولية.
لكل ما سبق وأكثر، سنأخذك في هذا التقرير عبر رحلة نفسية لنشأة إيمانويل ماكرون وحتى وصوله إلى سدّة الحكم في فرنسا، ومن ثمّ نستعرض آراء المحلّلين النفسيين حيال شخصيته وآراء بعضهم المثيرة للجدل حول تعرّضه للإغواء الجنسيّ في مراهقته من قبل زوجته الحالية، وكيف انعكس ذلك على شخصيته وسلوكه وتقلّبات آرائه السياسية.
تبدأ القصّة من بلدة أميان في شمال فرنسا، حيث وُلد ماكرون في عام 1977 لأمّ طبيبة وأب يعمل طبيب أعصاب وفي منزل مستقرّ ماديًّا، بالإضافة إلى حضور عالٍ لجدّته مانيت خلال طفولته، والتي أسهمت بشكلٍ رئيسيّ في زرع بذور حبّ المعرفة وشغف القراءة في عقل ماكرون، الذي أشار في مناسبات عدّة إلى أنّ جدّته هي التي قدّمته للثقافة اليسارية وأفكار اليسار الفرنسيّ وشرحتها له منذ سنّ مُبكِّرة.
اعتاد ماكرون على الدوام أن يكون الطفل المُميّز، والطالب المُجتهد في صفوفه. لكَ أن تتخيّل إيمانويل ماكرون في طفولته، شديد النباهة ومتّقد الذكاء، وقد أحاط نفسه بالكثير من الكتب، وكان واثقًا من نفسه لدرجة أنّه كان يُفضِّل أن يقضيَ وقته مع أولئك الذين يكبرونه في السنّ، ويرفض التسكّع مع الفتيات اللواتي في عمره، يتناول العشاء مع مُعلِّميه ويُناقشهم ويُحاورهم في ما يقرأ، وهذا الملمَح المهم من ملامِح شخصيته قد لازمه في شبابه، حيث تلبّسه هذا الشغف بأن يسبق أقرانه ويحتكّ بمَن هُم أكثرُ خبرةً منه وأعلى مَنصبًا، وهي إحدى الاتّجاهات الأساسية في شخصيته التي أسهمت في وصوله إلى الرئاسة.
في ربيع عام 1993، وقف المراهق ذو الخمسة عشر عامًا على خشبة المسرح ليُؤدّي مسرحية لغة الكوميديا للشاعر والمُؤلِّف الدراماتيكي الفرنسيّ جان تارديو، والتي لعب فيها دور شخصية الفزّاعة بطريقة استثنائية شدّت انتباه الحاضرين، وسيُلقيها هذا الفتى المُراهق أمام زوجته المُستقبلية بريجيت ترونيو، والتي كانت معلّمة الدراما في مدرسته آنذاك، والتي وصفته في أحد الأعمال الوثائقية لقد لَعِبَ دور الفزّاعة، أتذكّر ذلك جيدًا، لقد كان مُذهلًا، وقد أثار إعجابي من شِدّة حضوره على المسرَح.
كانت بريجيت ترونيو تكبره بـ24 عامًا، وكانت حينها في التاسعة والثلاثين من عمرها ومُتزوِّجة ولديها أطفال حين وقع ماكرون في حبّها، وكان من بين أطفالها الثلاث ابنة في نفس عمر ماكرون. في مشهد أقرب إلى أن يكون حبكة لفيلم أو رواية رومانسية مليئة بالتحدّيات الجوهرية والموانع الاجتماعية، وبالرغم من جميع هذه المُعيقات الواضحة لمسار العلاقة منذ بدايته فإنّ ماكرون قد أسرّ لبريجيت في إحدى المُناسبات سأتزوّجُكِ مهمّا كلّف الأمر.
لم تكن علاقة ماكرون ببريجيت ترونيو علاقة يسيرة، بل واجه كلاهما عددًا من العوائق في سبيل إنجاحها، بدءًا من مقاومة بريجيت نفسها وممانعتها، ومرورًا بعائلة ماكرون التي عارضت هذه العلاقة بشدّة، وانتهاءً بأوضاع بريجيت ترونيو الزوجية. وقد تعمّدت عائلة ماكرون إبعاده عن بريجيت عبر التخطيط لإكمال دراسته في باريس، ومع هذا فقد كان ماكرون يتواصل بشكل شبه يومي مع بريجيت عبر الهاتف ويتحدّثان لساعات دون أن يحول البُعد الجغرافي بينهما من استمرار العلاقة. وفي عام 2006، وضمن خطّة لتحويل علاقتهما إلى علاقة رسمية، أقدمت بريجيت ترونيو على الطلاق من زوجها بعد 14 عامًا من لقائها الأوّل بماكرون، وتزوّجا في عام 2007 بعد أن طلب من أطفالها تزويج والدتهم، حيث وصفته تيفين أوزيير، ابنة بريجيت، بأنّه كان عنيدًا وشديد الإصرار، وقد قام بعمل مُثير للدهشة حتّى يتمكّن من طلب يد بريجيت للزواج.
تُعطينا قصّة وقوع ماكرون في حُبِّ زوجته المُستقبلية وقدرته على تحقيق مُراده عددًا من الدروس الإدراكية والسلوكية على مستوى علم نفس الشخصية فأولًا، لا يبدو أنّ ماكرون من النوع الذي يهاب المخاطرة والمغامرة، بل على العكس تمامًا، فهو يسعى لاختراق المساحات المُستحيلة وإثارة إعجاب الآخرين عبر التمكّن من تحويل المُستحيل إلى مُمكن. وثانيًا، يبدو أنّ ضميره الأخلاقي صامت، ولا حضور له حين يُقرّر هدفًا في رأسه، فسواء أكانت عشيقته مُتزوّجة أم لا، وسواء أكان لديها أطفال أم لا، فإنّه سيسعى لانتزاعها مهما كلّفه الأمر. وثالثًا، لديه شعور عالٍ بالاستحقاق النفسي وبالكفاءة الذاتية والجدارة التي تجعله يُعطي وُعودًا مُبكِّرة لأهداف وغايات لا يُصادق عليها الواقع، وهو أمر قد عاد عليه بنتائج إيجابية وناجحة في بعض نواحي حياته، لكنّه مَنحى خطر يرتبط ببعض السمات النرجسية التي تُعمي صاحبها في أحيان كثيرة أخرى.
بالإضافة لذلك، يبدو أنّ الكفاءة العقلية والذهنية لماكرون تجعله يضيق بأقرانه ذرعًا ويُحجِم عن الاختلاط بهم، لهذا يشعر دائمًا بحاجته ورغبته إلى الاحتكاك والتواصل مَع مَن هُم أكبر منه عُمرًا وأكثر منه خبرة، وقد تُعطينا علاقته مع زوجته وعلاقته مع فرانسوا هولاند -الرئيس الفرنسي السابق- وغيرهم من رجالات الدولة وخبراء الاقتصاد والسياسة مَلمَحًا مهمًّا عن طبيعة الندّية العقلية التي يبحث عنها ماكرون. وأخيرًا، يبدو أنّ ماكرون ينتمي إلى فئة المُجتهدين والمُثابرين من أنماط الشخصية الذين يخُطّطون مُسبَقًا ويستغرقون وقتهم في التدبير لتحقيق أهداف بعيدة المَنال دون أن يُثيروا الصخب والضجيج خلال رحلتهم لتحقيق أهدافهم. ولم يكن هذا مُجرّد كلامًا نظريًّا، فقد استطاع ماكرون أن يجذب أنظار رجال كبار أحاطوا به، إذ تمكّن خلال دراسته الفلسفة من الالتقاء بأحد أكبر الفلاسفة الفرنسيين، وهو الفيلسوف بول ريكور، وساعده على إعداد وتحرير كتابه الذاكرة، التاريخ، النسيان.
في سنة 1999 توجّه ماكرون لدراسة العلوم السياسية بجامعة العلوم السياسية بباريس، في هذه المرحلة بدأت بعض النقاط في شخصيته تظهر جلية، كرغبته الدائمة في انتزاع إعجاب الناس المحيطين. بعد تخرجه اجتاز ماكرون امتحان المدرسة الوطنية للإدارة التي تعتبر مدرسة عليّة القوم التي كونت الموظفين الساميين والوزراء، تخرج من المؤسسة وكان من بين أفضل 15 طالبًا، وعُيِّن بالمُفتشيّة المالية.
التقى ماكرون بالمُفكِّر والكاتب الفرنسي من أصول يهودية جزائرية جاك أتالي، الذي كان يُشرف على لجنة تحمل اسمه بتكليف من نيكولا ساركوزي، لإيجاد أفكار تساعد على إعادة إنعاش الاقتصاد الفرنسي. لعبَ جاك أتالي دورًا حاسمًا في فتح فصل جديد من حياة ماكرون، فصل من شأنه أن يكسبه ثروة ويزيد من قبضته على النظام المالي العالمي، حيث كان يعمل ضمن وظيفة في بنك روتشيلد الباريسي الشهير، إلّا أنّ هذا قد أكسبه في المُقابل ازدراء اليسار الفرنسي الذي ينظر إلى المصرفيين بوصفهم أشرارًا يعيثون في الأرض الفساد. ولأنّ الحياة في القطاع الخاصّ مهما كانت مُجزية إلّا أنّها في حدودها القصوى عاجزة عن تحقيق أهداف سياسية كُبرى بحجم الأهداف التي يتطلّع إليها ماكرون.
اقترح أتالي على ماكرون الدخول في مجال السياسة عبر الانتخابات السياسية والعمل مع فرانسوا هولاند الذي كان يستعد حينها لانتخابات 2012، حينها كان هولاند في حاجة إلى مستشار اقتصادي. انضمّ ماكرون لفريق هولاند إذن بوصفه مستشارًا اقتصاديًّا، وبعد وصول هولاند إلى الرئاسة، اقترح عليه منصب سكرتير عام ومساعد في الاقتصاد والمالية.
تمكّن ماكرون على إثر ذلك من اختراق قصر الإليزيه، ذلك القصر الفرنسي الفخم الذي يسكنه الرئيس المنتخب. بدأ ماكرون في دراسة المداخل والمخارج، لم يكن يرغب في البقاء فقط مستشارًا اقتصاديًّا لهولاند، بل كان يطمح إلى ما هو أبعد من ذلك الرئاسة، وقد كان ماكرون واضحًا ومباشرًا في مسعاه، ففي الوقت الذي كان فيه مُفتشًا في المالية في سنّ الخامسة والعشرين، كان ماكرون يقول إنّه خلال السنوات المقبلة سيكون رئيسًا للبلاد.
خلال فترة وجوده داخل القصر الرئاسي، أبدى ماكرون اهتمامًا واسعًا بجميع التفاصيل، كان يطرح العشرات من الأسئلة كل يوم، ويحاول ربط علاقات الصداقة مع الجميع، من الحرس الرئاسي أمام القصر إلى الطباخين وصولًا إلى الوزراء وضيوف هولاند، كما فعل ذلك أثناء الدراسة. وقد كان وزراء هولاند يزورون مكتبه حتى ساعات متأخرة من الليل، وكان لديه القدرة والموهبة على الحديث مع أي شخص مهما كان منصبه من منطلق الندّ للندّ، حتى أُطلق عليه لقب الأمير الصغير، مقربون من الإليزيه في هذه المرحلة قالوا إن كلّ شيء في طريقة كلامه واهتمامه بمنظره وشكله كان يوحي بأنه يحاول الوصول إلى ما هو أبعد من سكرتير أو مستشار اقتصادي.
دخلت عملية التخطيط لهذا السطو السياسي على قصر الإليزيه مرحلة جديدة بعد أن غادر ماكرون القصر الرئاسي محتجًّا على عدم تعيينه في الحكومة الأولى لمانويل فالس، لكن الأخير ضغط على هولاند حتى يمنح ماكرون حقيبة الاقتصاد في الحكومة الثانية، وهذا ما تمّ بالفعل. كان الرئيس الفرنسي السابق فرانسوا هولاند ينظر إلى ماكرون على أنّه ابنه الروحي، لكنّ هذه العلاقة، وإن كانت تبدو منسجمة في الظاهر، إلّا أن ماكرون كان يُسِرّ لعدد من المُقرّبين منه وللصحفيين بعدم رضاه عن سياسات هولاند، وأنّه كان سيُغيِّر كثيرًا من الأمور في حال كان هو على رأس السلطة، فقد أحسّ ماكرون على الدوام بأنّه شخص مُميّز، وأنّه أفضل بكثير من العديد من الذين يجلسون على مقاعد السلطة في البلاد.
في مكتبه بصفته وزيرًا للاقتصاد، بدأ ماكرون يبحث عن أرضية صُلبة من العلاقات مع عليّة القوم، فبدأ باستقبال الكتّاب والعلماء والمثقفين والمحللين والممثلين والمغنّين، لدرجة جعلت مقربين من هولاند يخبرونه أنّ شيئًا ما يُعدّه الوزير الشاب الوسيم في الكواليس. في تلك الأثناء، أسّس ماكرون تياره إلى الأمام بالفرنسية En Marche، الذي يتشارك مع اسمه في الحرفين الأولين. وكان بالفعل قد أخبر هولاند بهذا الأمر من قَبِيل أريد خلق تيار سياسي شبابي، لكنه لم يفصح كثيرًا عن أهدافه، ولم يكن هولاند معارضًا، كان يظنّ أنّ هذا التيار قد يخدمه أيضًا بطريقة أو بأخرى.
أعلن ماكرون الذي كان وزيرًا للاقتصاد في حكومة اشتراكية يسارية أنّ تياره الجديد لا ينتمي لا إلى اليمين ولا إلى اليسار، هو تيار وسطي مُستقلّ، يأخذ من كلّ تيار ما يعجبه ويترك الباقي. لكن، ورغم هذا التصريح، أظهر ماكرون ميلًا أكثر إلى اليمين، ليس الجمهوري فحسب، بل والمتطرف، فقد داوم خلال تلك فترة على لقاء فيليب دي فيليي، الجنرال اليميني العنصري الذي كان أحد رجال حملة إيريك زمور الأخيرة، وبالرغم من هذا، فإنّ ماكرون مهما شكّل من أحلاف إلّا أنّه ينأى بنفسه عن أن يتخندق في معسكر واضح ويرفض أن يتم اختزاله بأدلوجة واضحة، ففي إحدى اللقاءات الصحفية صرّح ماكرون لستُ اشتراكيًّا، أنا أعمل في حكومة اشتراكية، وهذا أمر مختلف.
للوصول إلى المكانة التي يحلم بها، كان ماكرون يحتاج إلى تحييد وإبعاد ثلاث جهات رئيسية الرئيس السابق، والحزب الاشتراكي اليساري، والحزب الجمهوري اليميني. لم ينتظر ماكرون إعلان هولاند عن عدم ترشُّحه لتقديم أوراقه للانتخابات، بل أقدم على ذلك قبل هذا الإعلان، بعد أن قفز من مركب هولاند الغارق وقدّم استقالته من الحكومة.
لكنّه لم يقفز وحيدًا، بل جذب معه إيف لو دريان، وزير الدفاع اليساري السابق ووزير خارجية فرنسا الحالي، الذي عرض عليه الالتحاق به في حالة فوزه بالحكومة، وهو ما حرم اليسار من أحد أكثر وزراء التيار شعبية، وعلى اليمين انتدب ماكرون إدوارد فيليب، الذي سيصبح رئيسًا للحكومة، ففي إحدى المُناسبات قال ماكرون لفيليب لا داعي لتضييع الوقت في بناء يمين جمهوري متهالك في الوقت الذي نحتاج فيه إلى بناء فرنسا التي أنهكها التعب. وانتهت العملية بالإطاحة بـمارين لوبين، زعيمة اليمين المتطرف.
على مستوى التحليل النفسي لشخصية إيمانويل ماكرون، فقد قام أدريانو سجاتوري، الطبيب والمُحلِّل النفسي الإيطالي، بمُراجعة عدد من الأدبيات التي طالَعت الحياة الشخصية الخاصّة لماكرون، وقد أشار سيجاتوري إلى أنّ حيثيات وقوع ماكرون في حبّ بريجيت له قصّة أخرى من حيث النشأة، قصّة مُثيرة للجَدَل ومُناقضة تمامًا للرواية الرسمية، والتي تتحدّث عن تعرّض ماكرون للتحرّش والإغواء الجنسيّ المُتعمّد من قبل أستاذته بريجيت، التي سعت بشكلٍ جدّي لإغوائه نفسيًّا وجسديًّا انطلاقًا من استبطانها رغبة هذا المراهق الشاب بالوجود، وإثارة انتباه أولئك الذين يكبرونه بالسنّ.
يقوم التشريح النفسي الذي صاغه سجاتوري لشخصية ماكرون على أنّ هذا الانتهاك النفسي والجسدي لذاتية ماكرون قد انعكس على هيئة الرغبة العميقة والحثيثة لانتزاع بريجيت من زوجها، وخوض علاقة عاطفية على هيئة زواج تعويضيّ لإصلاح حادثة التحرّش وإعادة السيطرة على مسار حياته العاطفي والنفسيّ من خلال فعل انتقامي بهيئة ناعمة ورومانسية.
وكما يحدث لأي مراهق يتعرّض لتجربة الإغواء الجنسيّ المُتعمّد، فإنّ أهم درس نفسي وإدراكي يستقرّ في نفسه هي قدرة الآخرين على انتهاك المحرّمات واختراق الحدود الأخلاقية المسموحة، وذلك بعد تساؤلات عدّة عن دوافع شخص ما بانتهاك حرمة جسده، تنتهي بالاصطدام بحائط الرغبة بأنّ هذا الشخص أراد أن يحقّق هدفًا ورغبة بداخله، وقد فعل ذلك دون أن يُراعي أيّ مُحرّمات أو ضوابط، وهو ما سينعكس على ماكرون بتبنّي رؤية ومنظومة إدراكية للواقع مفادها إباحة كلّ شيء في سبيل تحقيق أهدافي وطموحاتي ورغباتي الشخصية بحسب ما أشار لذلك الطبيب النفسي سجاتوري في تحليله.
بحسب المُحلِّل النفسي الفرنسي رولاند غوري، فإنّه لا يُمكِن فهم ماكرون بمعزل عن أهمية ومركزية حضور العنصر النسائي في حياته، وحين نتحدّث عن العنصر النسائي فهذا لا يعني أنّه يعشق النساء أو أنّه يهوى أن يكون مع نساء كُثُر أو أنّ لديه رغبات جنسية غير منضبطة، ولكن ما نتحدّث عنه هنا بحسب رولاند غوري هنا هو رغبته بوجود عنصر الأمّ الراعية والحانية الأكبر عمرًا والأكثر خبرة والتي يحتاج إلى إثارة إعجابها واكتساب تأكيدها المتواصل لما يفعل، بدءًا من أمّه التي شكّلت نرجسية طفلها اللامتناهية، ومرورًا بجدّته التي كرّست ثقته المُفرِطة بنفسه، وانتهاءً بزوجته التي تكبره بأربع وعشرين عامًا وتقوم من حيث الوظيفة الرمزية مقام الأمّ الحانية والمُؤكّدة لشعور ابنها على الدوام.
من هنا، فإنّ هناك ثلاثة ملامح رئيسية تُشكِّل شخصية إيمانويل ماكرون أوّلًا، منظومة إدراكية لا تؤمن بوجود حدود أو ضوابط أخلاقية ثابتة تلجم جماح رغباته وطموحاته الشخصية. وثانيًا، شعوره بالقدرة المُطلقة على فعل أي شيء والسيطرة على أي شيء عن طريق الإغواء وإثارة الإعجاب. وثالثًا، النرجسية الخفيّة covert narcissism التي تُوصَف بالنرجسية الخبيثة أو الماكرة التي تستطيع إخفاء ملامحها المَرَضية بالرغم من شعور داخلي عميق ومُهيمن على أهمّية الذات وأفضليتها وتفوّقها على كلّ أولئك الموجودين من حولها. هي نرجسية تصفها المُحلّلة النفسية نانسي ماك ويليامز بأنّها تُمكّن أصحابها من بلوغ أعلى المناصب السياسية، فمن الصحيح أنّ الشخص المُعتلّ نفسيًّا يُمكن أن يكون مُنحرفًا وقاتلًا مُجرمًا مكانه السجن، لكنّه إن امتلك قدرة عالية على التنظيم والذكاء الاجتماعي فبإمكانه أن يصيرَ رئيسًا للولايات المُتحدة دون أن يشعر أحد بأنّه مُعتلّ نفسيًا، كما تُشير لذلك نانسي ماك ويليامز.
تتضح ملامح النرجسية الخفية والماكرة وتتكشّف في مواقف لا حصر لها، مُستندةً على الشعور العالي بالاستحقاق، وعن طريق سمة الميكافيلية النفسية في علم نفس الشخصية، والتي تُشير لاقتناع الفرد بأنّ الضحايا يستحقّون ما يجري لهم. وأفضل تجسيد لهذه الملامح المَرَضية هو الحالة الهستيرية التي تُصيب ماكرون عند تعرّضه للانتقاد أو حين يتم تحدّي آرائه السياسية، وهو مشهد قد تكرّر كثيرًا حين تراه يتحدّث عن الفقراء بصيغة أقرب للتوبيخية، وحين يُهين الأيدي العاملة في شمال فرنسا ويختزلهم بوصفهم مجموعة من المُدخنين ومُدمني الكحول والجهلة، وهي أفكار تظهر على السطح بين الحين والآخر بشكلها العاري والمُجرّد عن أي صوابية سياسية كما سيظهر لاحقًا في حديثنا عن قناعاته السياسية والأيدولوجية.
المُشخّصون باضطراب الشخصية النرجسية يصعب عليهم الشعور بالندم ويصعب عليهم أن يروا أنفسهم على خطأ، وماكرون بحسب الطبيب النفسي سجاتوري من النرجسيين الذين يصعب عليهم الشعور بالندم حيال ما يقولون أو حيال ما يؤمنون به، وحين يتعرّض ماكرون للإحراج أو المُساءلة فإنّه يبذل جُهدًا أكبر للتبرير وإعادة صياغة كلامه، لكنّه لا يُعبِّر عن ندمه أبدًا على مقولاته المثيرة للجدل؛ لأنّه لا يشعر بالذنب أساسًا، ومن الصعب على الشخصية النرجسية أن تشعر بالذنب من الأساس. لهذا نجد أنّ ماكرون كما أشار أحد المحلّلين النفسيين لديه إشكال حقيقي في الحفاظ على مسافات جيدة مع الناس، فهو إما أن يتصرّف بشكلٍ مبالغ في التكبر والاستعلاء، وإما أن يتصرف على النقيض من ذلك، فيحاول الظهور بمظهر المتواضع والقريب جدًّا من الشرائح المجتمعية المختلفة، فنجده يرقص مع الشباب.
بحسب المُحلِّل النفسي سِراج حافظ، خلال استضافته في إذاعة Europe1، فإنّ ماكرون بحسب التحليل النفسي مُغرَم جدًّا بنفسه، ويحارب دفاعًا عن الحفاظ على صورته المُتميِّزة، وأنّه على الدوام يحتاج إلى التأكيد الذاتي من قِبَل امرأة أكبر عُمرًا، وهو لا يستطيع تخيّل امرأة أكبر منه سنًّا بوصفها خصمًا أو بوصفها أيّ شكل آخر غير الأمّ الحانية، ولهذا فإنّه لا يستطيع تقبّل ماريان لوبين أبدًا، ويواجهها ضمن منطق خلافي لا يقتصر على السياسة فحسب، ولكن من منطلقات نفسية عميقة.
تتجلّى النرجسية الخبيثة لماكرون من خلال حواراته ومناقشاته، إذ بحسب المُحلّل النفسي سِراج حافظ يبذل ماكرون جُهدًا كبيرًا كي يظهر كما لو أنّه شديد التركيز والانتباه مع الآخر، ويُريد أن يظهر كما لو أنّه مُستعدّ لفهم الآخر وتقبّل ما سيقوله، لكنّه يفعل هذا كلّه وهو مقتنع داخليًّا بأنّ كلّ ما سيقوله الآخر مُجرّد كلام فارغ لن يُؤثِّر بقناعاته الشخصية، ويُفكِّر أكثر في كيف يستثمر الموقف واللحظة الحالية لإغواء المُشاهدين والحضور وإثارة إعجابهم، فهو لا يبحث عن الإعجاب لمُجرّد الإعجاب، وإنما الإعجاب الذي يخدم أهدافه ويهدف إلى إقناع الآخرين بآرائه وتوجّهاته.
لفهم القناعات الفكرية والأيديولوجية لماكرون، تجب العودة إلى سنوات التسعينيات، كان ماكرون حينها متأثّرًا كثيرًا بالخطّ الرسمي، سواء في المدرسة أو في الإعلام. خلال هذه السنوات، كان الخطاب السائد ينظر إلى أنّ أوروبا هي الحلّ المستقبلي للعالَم، وأنّها ستجمع شتات شعوب المنطقة وتنهي حالة الاحتقان القومي بعد نهاية الحرب الباردة. قارّة جديدة تشكّل دولة فيدرالية شبيهة بالولايات المتحدة الأمريكية، كان ماكرون يرى في تشكيل اتحاد أوروبا ذلك الحلم القادر على الحفاظ على فرنسا وعنفوانها كما كانت تقول وسائل الإعلام، وظل محافظًا على هذه الفكرة حتى الآن، فهو مرشح أوروبا الأوحد تقريبًا.
اقتصاديًّا، يرى ماكرون في النظام النيوليبرالي الحلّ الحقيقي، هو لا يقتنع كثيرًا بأفكار اليساريين حول ضرورة دعم حقوق العمال والعمل لساعات أقلّ والرفع من الأجور. كان ماكرون يرى في الهجرة فرصة لفرنسا لتوفير اليد العاملة بسبب معدلات الولايات الضعيفة في البلاد، لكن بعد ذلك بدأ في الحديث عن تأمين الحدود ومراقبة الهجرة وفرض سلطة الدولة بشكل أكبر على الذين يصلون ببطاقات إقامة، وفرض تعلّم الفرنسية للحصول على إقامة مُطوّلة.
وبالرغم من المجهود الكبير الذي يظهره للتودّد للناس، فإنّ الرئيس الفرنسي هو ابن أسرة ميسورة، ينظر بنوع من التعالي إلى الطبقات الشعبية، وهذا يظهر بوضوح في حواراته مع المواطنين الغاضبين، فقد قال في مرة لأحد العاطلين بأنّه إن عبر الشارع فقط فسيجد عملًا بسهولة، للدلالة على أنّ هذا العاطل هو الذي لا يريد العمل. وقال في مرة أخرى -وكان حينها وزيرًا للاقتصاد- لأحد المُحتجِّين بأنّه يلبس بدلة بـ3000 يورو لأنّه يعمل، في حين أنّ العامل العادي يتحصل على 1200 يورو فقط للعيش رغم عمله الشهر كاملًا دون انقطاع.
نشأ ماكرون في جو التسعينيات، حيث انتشرت الفردانية المتطرّفة في المجتمعات الغربية وتركيز الأشخاص على أهدافهم ومصالحهم قبل المصلحة العامة، ومن ثم فإن أي نجاح يعود أساسًا إلى مجهود الفرد وفضل هذا النجاح للفرد نفسه، بالنسبة إلى الناجحين في هذا الجيل فإن الفاشلين استحقوا الفشل لأنّهم السبب وراء هذا الفشل، مستبعدين أيّ مُحدّدات موضوعية.
ومن الواضح أنّ الرئيس الفرنسي ببرغماتية شديدة في مجال الأفكار الأيديولوجية، فقد عمل مع حكومة اشتراكية، وبعدها أعلن حياده بين اليمين واليسار، ثم بعد توليه الحكم بدأ يخاطب بقراراته شريحة اليمينيين المتطرفين الذي يشكلون الفئة الناخبة لمارين لوبين، فعيّن جيرارد دارمنان وزيرًا للداخلية، وهو المعروف بتطرفه وعنصريته التي دفعته لانتقاد لوبين يومًا ما ويقول لها إنها أصبحت هشة وطرية فقط في تناولها لموضوع الحضور الإسلامي، بجانب وزراء آخرين لهم مواقف عنصرية واضحة من قبيل وزيرة المواطَنة مارلين شيابا، ووزير التعليم ميشيل بلانكير.
اعتمد ماكرون على إستراتيجية يمينية متطرفة، وأشرف على إصدار قانون الانعزالية الإسلامية سيّئ السمعة، حاول جمع الناخبين، ففتح المجال للفاشيين كـإيريك زمور الذي قال إنّ ماكرون التقى به وعبّر له عن اتفاقه معه حول مجموعة نقاط من بينها غزو المهاجرين للبلاد وخطر الحضور الإسلامي، لكنّه تحفّظ على الخطوات التي اقترحها زمّور لكونها ستدفع البلاد نحو حرب أهلية حسب ما ذكر زمور نفسه. والآن، وخلال الجولة الثانية للانتخابات الحالية، عاد ماكرون للتحذير من اليمين المتطرف وخطورة أفكاره، وانتقد لوبين التي تريد منع الأكل الحلال والحجاب في المجال العام، وهو ما يُعيدنا للتحليل النفسي لشخصية ماكرون بوصفه نرجسيًّا خبيثًا يحترف التلاعب بالكلمات والعبارات؛ كي يُثير إعجاب الآخرين ويحتوي أكبر عدد ممكن منهم.
- | https://www.aljazeera.net/sukoon/2022/4/24/%d8%ac%d9%84%d8%a7%d9%84%d8%a9-%d8%a7%d9%84%d8%b7%d9%81%d9%84-%d8%a5%d9%8a%d9%85%d8%a7%d9%86%d9%88%d9%8a%d9%84-%d9%85%d8%a7%d9%83%d8%b1%d9%88%d9%86-%d9%85%d9%86-%d9%85%d9%86%d8%b8%d9%88%d8%b1 | 2022-04-24T11:06:57 | 2024-05-29T10:38:26 | أبعاد |
|
59 | كيف نفهم عقلية الأمين العام الجديد لحزب الله نعيم قاسم؟ | إن القرارات في أوقات الحروب تكون لها تأثيرات وتداعيات استثنائية، وإن حزب الله بقيادته الجديدة وفي الخلف منها داعموها وحلفاؤها بحاجة إلى مراجعات إستراتيجية. | ليس أمرا غريبا ولا طارئا أن يُقتل القادة في الصراعات والحروب عموما، فما بالك لو كانت تلك الحروب بين طرف محتل وبين جماعات مسلحة تقاوم الاحتلال.
والتاريخ المتصل بالصراع مع إسرائيل ليس استثناءً، بل هو تاريخ زاخر بأثمان غالية دفعتها مختلف فصائل المقاومة، بداية من عز الدين القسام إلى الشيخ أحمد ياسين مؤسس حركة المقاومة الإسلامية حماس، وفتحي الشقاقي مؤسس حركة الجهاد الإسلامي، وخليل الوزير أبو جهاد الرجل الثاني في حركة فتح، وأبو علي مصطفى الأمين العام للجبهة الشعبية. ناهيك عما جرى مؤخرا من اغتيال لقادة حركة حماس، بدءا من اغتيال صالح العاروري في لبنان، وصولا لاغتيال رئيس المكتب السياسي السابق إسماعيل هنية في طهران.
أما على صعيد لبنان، فما حدث في سبتمبرأيلول 2024 مع حزب الله كان استثنائيا على عدة أصعدة، فإسرائيل لم تقتل الأمين العام لحزب الله حسن نصر الله فحسب، وإنما قتلت بعد أيام معدودة الرجل الثاني هاشم صفي الدين، فضلا عن تصفية ما يُرجّح أنه الصف الأول والثاني تقريبا بالكامل، ليظل نعيم قاسم الاسم البارز المتبقي الوحيد من الحرس القديم، قبل أن يعلن عن اختياره أمينا عاما جديدا للحزب نهاية أكتوبرتشرين الأول الماضي.
وُلد قاسم في عام 1953 ببيروت، أي أنه أكبر بسبع سنوات من حسن نصر الله، ودرس الكيمياء باللغة الفرنسية في الجامعة اللبنانية؛ ما أكسبه مهارة التحدث بالفرنسية بجوار العمل مدرسا للكيمياء في المدارس الثانوية قبل أن يحصل على درجة الماجستير عام 1977. ومن ثم كانت بداية نشاطاته في مجال العمل الطلابي على عكس حسن نصر الله الذي كانت بداياته في العمل العسكري خلال الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982.
وفي المجال الديني، درس قاسم على يد عدد من علماء المذهب الشيعي الاثنا عشري، ومن أبرزهم المرجع اللبناني محمد حسين فضل الله، كما انضم إلى موسى الصدر إثر قدومه إلى لبنان بعد أن درس في الحوزات الدينية بقم والنجف، حيث أسس الصدر المجلس الشيعي الأعلى عام 1969، تبعه حركة المحرومين.
وبحلول عام 1975، أُعلن رسميا تأسيس الجناح العسكري لحركة المحرومين تحت اسم أفواج المقاومة اللبنانية، والتي اشتهرت بالاسم المختصر أمل. وتدرج قاسم في المناصب القيادية في حقل الثقافة والتوجيه حتى أصبح مسؤول العقيدة والثقافة بحركة أمل.
مع اختفاء موسى الصدر الغامض خلال زيارته إلى ليبيا في عام 1978، ونجاح الثورة الإيرانية في العام التالي، بدأ التمايز داخل حركة أمل بين توجهات متباينة، فنظّم مجموعة من الإسلاميين الشيعة في لبنان مظاهرات تأييد للثورة تحت اسم اللجان المساندة للثورة الإسلامية في إيران، وبدؤوا في التواصل مع زعيم الثورة ومرشدها آنذالك آية الله الخميني، في خطوة هي الأولى من نوعها، حيث اعتاد شيعة لبنان آنذاك على تقليد مراجع النجف العراق، وبالتحديد آية الله أبو القاسم الخوئي، وفي نطاق أضيق محمد باقر الصدر.
وبحسب نعيم قاسم، فقد كانت هناك فوارق بارزة بين مرجعية النجف التي ركزت على الجوانب الثقافية والفكرية، مقارنة بحوزات قم التي ركزت بشكل أكبر على السياسة وتأسيس دولة إسلامية شيعية معاصرة.
في ضوء هذه التطورات، والتي تبعها الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982، انفصلت مجموعة من أعضاء حركة أمل، من بينهم نعيم قاسم، ليشاركوا رفقة عناصر من اللجان المساندة للثورة في تأسيس حزب الله سرا عام 1982 برعاية إيرانية، ليتبنى الحزب أسسا عقدية وفكرية تؤمن بولاية الفقيه، ويتخذ من مقاومة الاحتلال الإسرائيلي هدفا له.
وفي المقابل أرسلت طهران عناصر من الحرس الثوري إلى لبنان ليعملوا على بناء معسكرات تدريب وتأهيل لعناصر حزب الله، والذي ظل يعمل في الخفاء لمدة 3 سنوات قبل أن يعلن عن وجوده بوضوح في عام 1985 عبر طرحه لرؤيته العقائدية والفكرية والسياسية وأهدافه في رسالة مفتوحة قرأها الناطق الرسمي باسم الحزب آنذاك إبراهيم أمين.
خلال مسيرته في حزب الله، تولى نعيم قاسم عضوية مجلس شورى الحزب لثلاث دورات متتالية، وهو مجلس كان مكونا من 9 أعضاء يُنتخبون لمدة عام واحد من طرف عناصر الحزب الذين يشغلون مناصب رؤساء أقسام فما فوق، أي أن نعيم قاسم كان أحد القادة التسعة الكبار في الحزب عند تأسيسه.
وفي أعقاب الخلاف حول مشاركة حزب الله في الحياة النيابية، والذي أقيل على إثره الأمين العام الأول للحزب صبحي الطفيلي، وتولى المنصب بدلا منه في عام 1991 عباس الموسوي، خُفض عدد أعضاء مجلس الشورى إلى 7 أعضاء، وزادت دورة عضويتهم إلى سنتين، واستُحدث منصب نائب الأمين العام، وشغله للمرة الأولى نعيم قاسم، وظل به طول عهدَي الموسوي وخليفته حسن نصر الله. الفارق أنه في عهد قيادة نصر الله، أصبحت دورة عضوية مجلس الشورى 3 سنوات، كما تبلورت واستقرت 5 مجالس ضمن البنية التنظيمية لحزب الله، وهي المجلس السياسي، والجهادي، والتنفيذي، والنيابي، والقضائي؛ حيث يرأس كل مجلس منهم عضو من أعضاء مجلس الشورى.
خلال مسيرة نعيم قاسم التنظيمية، تقلد منصب نائب رئيس المجلس التنفيذي، ثم ترأسه لفترة، وهو المجلس المسؤول عن الأنشطة والأعمال الإجرائية داخل الحزب، وعن الوحدات الثقافية والاجتماعية والتربوية والنقابية والمهن الحرة فضلا عن مسؤولي المناطق بالحزب. وفي ضوء خبرة نعيم قاسم بالملفات الثقافية والفكرية والعمل العام، ومحدودية انخراطه في العمل العسكري والأمني، فقد أوكلت إليه خلال توليه منصب نائب الأمين العام ملفات ذات أبعاد سياسية من قبيل رئاسة هيئة العمل الحكومي المختصة بمتابعة عمل نواب الحزب في مجلس النواب، والإشراف على أداء الوزراء التابعين للحزب في الحكومات المتتالية، فضلا عن الإشراف على اللجنة المركزية بالحزب الخاصة بإدارة الانتخابات ميدانيا في أنحاء لبنان.
إضافة إلى ذلك، يُعرف قاسم بأنه أبرز منظري حزب الله، حيث نشر نحو 26 كتابا في قضايا متنوعة، ومن أهمها كتابه حزب الله المنهج والتجربة والمستقبل، والذي قدم فيه تأريخا للحزب، خاصة في العقود الثلاثة الأولى منذ تأسيسه عام 1982، وعرضا لأهم المحطات في علاقته بالدولة في لبنان ومؤسساتها، وتلخيصا لأبرز منطلقات الحزب الفكرية، وعلاقاته الدولية والإقليمية، وخياراته في الداخل اللبناني.
واليوم يتقلد نعيم قاسم منصب الأمين العام في ظرف استثنائي وفي لحظة ربما تكون هي الأصعب في تاريخ الحزب منذ تأسيسه، فالغارات الإسرائيلية لا تتوقف على لبنان، والحرب تأخذ مسار تكسير عظام، وتهدف لإخراج حزب الله من دائرة التأثير، بالتوازي مع محاولة فرض شروط تطالب بسحب مقاتليه إلى شمال نهر الليطاني ومنع إعادة تسليحه، والسعي لنزع أسلحته الثقيلة ليصبح دوره سياسيا واجتماعيا فقط.
وفي تلك الأجواء، يُفترض بقاسم أن يقود جهود إعادة بناء الهيكل القيادي للحزب، وأن يعبر به محارق الحرب ومزالق السياسة، بينما تلاحقه في الوقت ذاته تحديات جمة من بينها التهديد الإسرائيلي الصريح باستهدافه على لسان وزير الدفاع المُقال يوآف غالانت.
يحدث ذلك بينما المقارنة بين قاسم وسلفه حسن نصر الله حاضرة في المشهد، فالأخير هو القائد الكاريزمي الأبرز في تاريخ الحزب، وربما في السياسة اللبنانية في العقود الثلاثة الأخيرة، حتى إن الوزير اللبناني السابق وئام وهاب ذهب إلى أن حجم لبنان تضاءل باغتيال نصر الله، لأنه الوحيد الذي إذا تكلم أنصتت لكلامه الأطراف الأخرى داخل لبنان وخارجه، وحين ترسم الدول الأخرى سياساتها تجاه لبنان تراعي حضور نصر الله وتأثيره، وذلك بحسب وهاب.
في المقابل، فإن نعيم قاسم لا يتسم بنفس القدر من الحضور والكاريزما من سلفه؛ ما يطرح تحديات مبكرة أمام قيادته. هذه الإشكالية سبق أن طرحها نظريا عالم الاجتماع الألماني ماكس فيبر، مشيرا إلى أن القائد الكاريزمي يعتمد في قيادته على صفات شخصية تضمن ولاء الأتباع، لكن من يخلفه في مقعد القيادة عادة ما يكون ذا طابع محافظ فيقود بنمط يمزج بين السلطة التقليدية والروتين.
عند إسقاط مقاربة فيبر على حزب الله وقيادته الجديدة، نجد أنها تمنحنا نافذة لتوقع الشكل الذي ستبدو عليه قيادة نعيم قاسم. فقد قاد حسن نصر الله الحزب في صراعه مع الاحتلال إلى أن انسحب من المنطقة الأمنية العازلة بجنوب لبنان عام 2000، كما صمد في المواجهة خلال حرب 2006 التي قضت على المستقبل السياسي لرئيس الوزراء الإسرائيلي آنذاك إيهود أولمرت ووزير دفاعه عمير بيرتس ورئيس أركانه دان حالوتس.
ثم أصبح مايسترو ما يعرف بـمحور المقاومة، بالأخص بعد اغتيال الولايات المتحدة لقاسم سليماني قائد فيلق القدس مطلع عام 2020، كما قاد انخراط الحزب في سوريا بعد اندلاع الثورة، ليدشن المرحلة الأكثر جدلية في تاريخه، حيث نُظر إلى تدخل الحزب دعما لنظام الأسد كجزء من مشروع تحالفي يجمعهما بإيران.
هذا النمط القيادي الذي أظهره نصر الله من الصعب أن يضطلع به قائد بديل؛ ما يعني أن حزب الله لن يشهد فقط تغيرا في شخص القيادة، ولكن في نمطها وطريقتها أيضا، وهو ما نلمسه في كلمات نعيم قاسم نفسه، الذي أكد مرارا في خطاباته التي ألقاها منذ اغتيال نصر الله على مؤسسية حزب الله، وتوافر البدائل في صفوفه، والأهم، في قيامه بتفويض بعض المهام التي كانت تقع ضمن اختصاصات نصر الله إلى آخرين، خارج صفوف الحزب تماما في بعض الأحيان، مثل إسناده إدارة التوازنات الداخلية إلى الساحة السياسية اللبنانية، وإسناده التفاوض غير المباشر مع إسرائيل إلى نبيه بري، زعيم حركة أمل ورئيس مجلس النواب اللبناني، في بيان رسمي متلفز.
يعد هذا فارقا مبكرا بين قيادة نصر الله وقيادة قاسم التي أبدت مرونة في التراجع خطوة إلى الخلف وتفويض جزء من القرار السياسي إلى مظلة أوسع يمثلها بري، ولعل الواقع الصعب الذي يعيشه حزب الله بعد اغتيال قيادته هو الذي فرض هذه الخطوة. لكن التحديات التي تواجه قيادة قاسم تتجاوز ذلك.
فعلى عكس حسن نصر الله، القائد القادم من ميدان العمل العسكري، تشير المصادر إلى أن قاسم لا يمتلك خبرة كبيرة بشؤون الحرب، حيث لم يكن ضمن دولاب تسيير العمل الميداني للحزب، وأن دوره كان رمزيا باعتباره نائب الأمين العام فضلا عن خلفيته التاريخية بصفته أحد مؤسسي الحزب منذ تدشينه.
ويعني ذلك أن قاسم سوف يضطر لتفويض المزيد من المهام، خاصة في الشؤون الميدانية والعسكرية داخل لبنان وخارجه لقيادات أخرى، وربما يلقي ذلك بظلال طويلة الأمد على الهيكل القيادي للحزب، وربما حتى على علاقته مع إيران راعيه الأول.
شأنه شأن سلفه، يَدين نعيم قاسم بالولاية للفقيه الإيراني. وهو يوضح في كتابه حزب الله المنهج والتجربة والمستقبل لوازم اتباع الحزب لولاية الفقيه، وتتلخص في أن الولي الفقيه هو ولي الأمر الواجب طاعته في الأمور العامة، بينما مراجع التقليد يُطاعون في الأمور الدينية المحضة، وفي حال اختلاف اجتهادهم عن الولي الفقيه، يقدم رأي الفقيه.
وشدد قاسم في كتابه أنه لا علاقة لموطن أو مكان إقامة الولي الفقيه بسلطته وصلاحياته، وبناء على ذلك فحينما اختلف مجلس شورى حزب الله بخصوص مشاركتهم في انتخابات مجلس النواب عام 1992 بين من رأى المنع لاعتباره النظام السياسي اللبناني لا يحتكم للشريعة الإسلامية، ومن يرى المشاركة لفوائدها بالانخراط في الحياة النيابية لتشكيل غطاء سياسي للعمل المقاوم ضد الاحتلال ولحماية سلاح الحزب؛ رفع مجلس شورى الحزب الموضوع إلى المرشد الإيراني علي خامنئي رغم أن القضية تمس شأنا داخل لبنان، فأفتى خامنئي بمشاركة الحزب في الانتخابات النيابية، وذلك بحسب ما أورده قاسم في كتابه عن حزب الله.
ويوضح قاسم أن قيادة حزب الله بما فيها مجلس الشورى تحصل على شرعيتها من الولي الفقيه، مع تخويلها بالإدارة والمتابعة التفصيلية اليومية لشؤون الحزب دون الانفراد بالقرارات في قضايا كبرى تشكل منعطفا، وبناء على تلك الأدبيات التي ذكرها نعيم في كتابه فإن القرارات التي تمس الحرب والسلم من المتوقع ألا ينفرد بها الحزب دون استشارة الولي الفقيه في إيران.
وهذه النقطة مهمة في فهم موقف حزب الله من الضغوط الإسرائيلية الداعية لفصل جبهة لبنان عن جبهة غزة في الحرب الحالية، فقرار مثل هذا لا يقرره أمين عام الحزب ولا مجلس الشورى فحسب، إنما يقرره المرشد الإيراني، وهو ما كرره قاسم في عدد من لقاءاته الإعلامية.
رغم تلك الضوابط التي ذكرها نعيم في كتابه عن حزب الله، فإنه يعتقد أن حزب الله في عهد حسن نصر الله بلغ مكانة كبيرة ضمن منظومة محور المقاومة، لدرجة أنه كان مفوضا من قبل طهران في التعامل مع عدد من القضايا والملفات الإقليمية، مثل المساندة في تنظيم الميليشيات العراقية وتدريبها، وكذلك إدارة العلاقة مع جماعة الحوثي سياسيا وعسكريا.
وفي ضوء الضربات الواسعة التي أصابت الحزب والتغييرات التي تبعتها، ليس مستبعدا أن تعيد إيران تقييم قدرة الحزب اللبناني على الاضطلاع بالمهام الإقليمية الموكلة إليه في الوقت الراهن، فضلا عن إمكانية التدخل في عملية صنع القرار بشكل أكبر وراء الكواليس، لكن مع الحرص على ألا يمس ذلك صورة حزب الله واستقلالية قادته، خاصة في الشؤون الداخلية اللبنانية.
من ثم، من غير المرجح أن تختلف قيادة قاسم عن سلفه على صعيد الخط الإستراتيجي للمواجهة مع إسرائيل، حيث يقدم نعيم قاسم في كتاباته المعركة مع إسرائيل على أنها معركة مفتوحة، ويعتبر أن تحرير جنوب لبنان فصل من فصول الصراع، لكن توجد فصول أخرى، مثل العمل على تحرير مزارع شبعا، فضلا عن ضرورة ردع الأطماع التوسعية الإسرائيلية، والتي يقول إن الجيش اللبناني غير قادر على النهوض بها في ظل اختلال موازين القوى بينه وبين جيش الاحتلال الإسرائيلي.
يشدد قاسم في تنظيراته وكتاباته أيضا على أن موقع لبنان الجغرافي والسياسي يجعله بين أحد خيارين، إما أن يكون مع سوريا أو مع إسرائيل، وأن الأخيرة دائما ما تتذرع بمبررات شتى لتنفيذ اعتداءات على لبنان، من قبيل حماية سكان الشمال أو استهداف كوادر وفصائل فلسطينية داخل لبنان.
ويسوق قاسم تلك المبررات على أنها أسباب لرفض الحزب التخلي عن سلاحه أو سحب مقاتليه من الجنوب. ويشير إلى أن المقاومة هي رد فعل في مواجهة الاحتلال، وأن أي أثر يترتب عليها يكون من تداعيات الاحتلال لا المقاومة، وأن ثمن مقاومة الاحتلال مهما كبر أقل من ثمن التسليم للاحتلال.
ويقر قاسم بأن إمكانات حزب الله أضعف بكثير من إسرائيل، لكنه يشدد على أن تلك الفوارق يمكن جبرها باختيار الأساليب المناسبة لإيلام الاحتلال، وبالأخص ما يؤثر على أمنه؛ ما يثير تساؤلات حول مستقبل إسرائيل وجاذبيتها للهجرة وقدرتها على البقاء، وذلك عبر عمل مقاوم تراكمي طويل الأمد لا يقتصر على جولة واحدة أو عدة جولات من الحرب.
ويجادل قاسم بأن الصراع لا تحدده معايير القوة المادية فقط، إنما توجد عوامل أخرى مؤثرة فيه، من أبرزها الأداء الفعال والمعنويات والظروف المحلية والإقليمية والدولية، ولكنه يقر بقلق الحزب من الواقع السياسي الداخلي في لبنان، ومدى تأثيره وتوظيفه ضد الحزب خلال جولات القتال ضد إسرائيل.
ويشير قاسم في سياق مناقشته لعوامل الانتصار والهزيمة إلى أن الكثير من الأحزاب والجماعات والمنظمات في منطقتنا العربية خسرت عندما اهتمت بأمور جزئية واستنفرت طاقاتها من أجلها، فضاعت منها القضايا الكبرى، ويضيف القاعدة التي انطلق منها الحزب هي أولوية قتال إسرائيل، ورفضه لأي قتال داخلي مهما كانت مبرراته.
ويضرب أمثلة برفض الحزب الاستجابة لضغوط المجتمع الشيعي اللبناني بالانخراط إلى جوار حركة أمل في حرب المخيمات ضد الفصائل الفلسطينية في عام 1985، وتجنبه الدخول في مواجهة مع الجيش السوري بلبنان إثر قتله سبعة وعشرين من عناصر الحزب في هجومه على ثكنة فتح الله ببيروت عام 1987، وقبول الحزب إنهاء الاقتتال الذي استمر لعامين بينه وبين حركة أمل، وتجنبه الصدام مع الجيش اللبناني إثر فض الجيش مظاهرة ضد اتفاقية أوسلو انطلقت من الضاحية الجنوبية ما أدى إلى مقتل تسعة متظاهرين وإصابة العشرات.
فيما برر قاسم تدخل الحزب العسكري في بيروت في أحداث مايوأيار عام 2008 بأنه عمل دفاعي مؤقت لحماية شبكة اتصالات الحزب التي قررت حكومة فؤاد السنيورة تفكيكها آنذاك.
على الجانب الآخر، فإن دور الحزب في الحرب السورية ناقض وهدم كل ما سبق، وهو ما يتطلب مراجعة من قاسم وقيادة الحزب لذلك القرار في ضوء تأثيراته على الحزب سياسيا وأمنيا وأخلاقيا.
وإذا تجاوزنا التنظيرات إلى المستوى العملي، يظهر أن قاسم يتولى القيادة بين مطرقة العدوان الإسرائيلي وسندان الحاجة لمراجعة داخلية للسياقات والقرارات والممارسات الإستراتيجية والتكتيكية التي قادت الحزب إلى الوضع الصعب الذي يمر به حاليا، وسبق لقاسم أن قال بعد حرب 2006 لقد درس حزب الله الحرب ونتائجها، واستفاد الدروس والعبر من إيجابياتها وسلبياتها.
لكن الواقع يعضد أن إسرائيل هي التي فعلت ذلك، ومن ثم باغتت الحزب، بينما انشغل الحزب بصراعات أخرى انخرط بها في دول الجوار؛ ما أجج لهيبا طائفيا، وكشف الحزب أمنيا واستخباريا أمام تل أبيب.
إن القرارات في أوقات الحروب تكون لها تأثيرات وتداعيات استثنائية، وإن حزب الله بقيادته الجديدة وفي الخلف منها داعموها وحلفاؤها بحاجة إلى مراجعات إستراتيجية. وفي حين يُعد نعيم قاسم نظريا من دعاة تكريس القضية الفلسطينية كقضية مركزية للأمة، وجمع الطاقات لدعمها بكل السبل المتاحة بحسب نصوص كتاباته، فإن تفعيل تلك الدعوة يتطلب الابتعاد عن الممارسات والمواقف الطائفية، وبالأخص في الملفات التي تحولت خلال السنوات الأخيرة إلى بؤر استقطاب وساحات استنزاف أثرت سلبا على شعوب المنطقة وقضاياها، وفي القلب منها القضية الفلسطينية. | https://www.aljazeera.net/politics/2024/11/14/%d9%83%d9%8a%d9%81-%d9%86%d9%81%d9%87%d9%85-%d8%b9%d9%82%d9%84%d9%8a%d8%a9-%d8%a7%d9%84%d8%a3%d9%85%d9%8a%d9%86-%d8%a7%d9%84%d8%b9%d8%a7%d9%85-%d8%a7%d9%84%d8%ac%d8%af%d9%8a%d8%af | 2024-11-14T00:30:33 | 2024-11-14T00:30:33 | أبعاد |
|
60 | برنامج متطور وترسانة عملاقة فهل صواريخ إيران كافية لردع إسرائيل؟ | سلط الهجومان الأخيران من طهران تجاه تل أبيب أهمية الصواريخ في منظومة الردع الإيرانية، والتطور الكبير الذي تحقق في النطاق الصاروخي، لكن هل تكفي هذه المنظومة بتغيير موازين القوى إذا اندلعت حرب إقليمية؟ | شنَّت إيران، مساء الثلاثاء، هجوما واسعا بالصواريخ ضد أهداف في العمق الإسرائيلي. ووفق الإذاعة الرسمية لدولة الاحتلال، أطلقت طهران أكثر من 200 صاروخ باليستي خلال نصف ساعة على إسرائيل.
من جانبه، أعلن الحرس الثوري الإيراني أنه بدأ في ضرب أهداف عسكرية مهمة بعشرات الصواريخ بالأراضي الفلسطينية المحتلة، مؤكدا أن أي رد عسكري إسرائيلي على هذه العملية سيُواجَه بهجمات أقوى وأكثر تدميرا.
تأتي هذه العملية الإيرانية ردا على استشهاد رئيس المكتب السياسي لحركة حماس إسماعيل هنية في طهران، وزعيم حزب الله اللبناني حسن نصر الله اللذين اغتالتهما إسرائيل في وقت سابق.
وتُعد هذه هي المناسبة الثانية التي تستهدف فيها إيران إسرائيل بالصواريخ مباشرة، بعد هجوم إبريلنيسان الماضي ردا على استهداف القنصلية الإيرانية في دمشق.
ويسلط هذان الهجومان الضوء على أهمية الصواريخ في منظومة الردع الإيرانية، والتطور الكبير الذي حققته إيران في النطاق الصاروخي، لكن في ظل مشهد إقليمي ملتهب، قد تُثبت الصواريخ أنها أقل فعالية مما اعتقد الإيرانيون للوهلة الأولى.
قبل 13 عاما تقريبا، تحديدا في 12 نوفمبرتشرين الثاني 2011، كان الإيرانيون في شرق طهران على موعد مع لحظات غير معتادة من الفزع، حين تهشمت نوافذهم واهتزت أبنيتهم وشق لسان ضخم من اللهب سماءهم بشكل مفاجئ على وقع انفجار ضخم، وبدا للوهلة الأولى أن أميركا أو إسرائيل تجاوزتا عتبة التهديدات الكلامية لتُسقطا إحدى القنابل المتطورة فوق العاصمة الفارسية، قبل أن يُدرك الإيرانيون في وقت لاحق أن مصدر هلعهم كان انفجارا غير معهود في قاعدة الغدير للصواريخ في بيد غانه، على بُعد 30 ميلا من العاصمة الإيرانية.
لا يعرف الإيرانيون أو غيرهم إلى اليوم كثيرا حول حادثة الغدير التي تحمل اسم تلك القاعدة الصاروخية الغامضة، قاعدة ارتبط اسمها بحملات دعائية ضخمة لقطع من الأسلحة تحمل الاسم ذاته، مثل غواصات غدير وصواريخ غدير.
أما خارج إيران، حيث تكشف الأقمار الصناعية تفاصيل كل شيء فوق الأرض تقريبا، كانت القاعدة معروفة بوضوح ومشهورة بنشاطها الكثيف ومبانيها المميزة زبرجدية اللون، التي صارت علامة على تفضيلات الرجل الأهم في تلك المنشأة، وهو العميد حسن طهراني مقدم، الذي يُعرف اليوم بأنه أبو البرنامج الصاروخي الإيراني.
كان طهراني واحدا من قلائل يفوق صيتهم في إسرائيل وفي الغرب شهرتهم في إيران نفسها، مع كونه الضابط الأبرز في قوة الفضاء الإيرانية التابعة للحرس الثوري، ومهندس مشروع الصواريخ الباليستية الإيرانية، والمسؤول الأول عن تصميمات الصواريخ، ومسؤول الاتصال والمشتريات الخارجية للبرنامج الصاروخي، ومؤسس مركز الصواريخ في الحرس الثوري، والمشرف لاحقا على تأسيس البرنامج الصاروخي لـحزب الله اللبناني نفسه، ومسؤول منظمة الاكتفاء الذاتي والبحوث الصناعية، وقبل ذلك قائد الجناح الشمالي للحرس الثوري، وصاحب السجل العسكري الحافل الذي جعله على رأس قائمة المطلوبين لأجهزة الاستخبارات، وإن لم يُكشف عن ذلك رسميا.
لم تقدم إيران أبدا ما يكفي من المعلومات حول الانفجار الذي هزَّ قلوب الإيرانيين، وخلَّف 17 قتيلا من خيرة جنرالات وجنود الحرس الثوري وفي مقدمتهم طهراني نفسه، مكتفية بجنازة مهيبة تقدمها المرشد الأعلى الإيراني خامنئي، لكن القادة في طهران كانوا يدركون أن ما خسروه في ذلك يتجاوز مجرد مقتل قادة عسكريين بارزين، وأن برنامجهم العسكري الأكثر تطورا تعرض للتو لضربة كبيرة ربما لن يكون قادرا على التعافي منها في وقت قريب.
ومنذ ذلك الحين، ظل مقتل طهراني لغزا بلا حل، فرغم تشبث الرواية الإيرانية الرسمية بأن الانفجار الذي أودى بمقدم ورفاقه كان راجعا إلى خطأ تقني وليس إلى عملية استهداف موجهة، فإن حدوث الواقعة أعقاب سلسلة من عمليات الاغتيال ضد علماء إيران النوويين خلال الأعوام السابقة أسهم في رفع سقف التكهنات حول تورط أجهزة استخبارات خارجية، ويبدو أن طهران لم تكن تريد الاعتراف وقتها أن أذرع الموساد الطولى على الأرجح قد تجاوزت أنشطة استكشاف شوارع طهران إلى المواقع العسكرية الحصينة.
على مدار السنوات التالية، خفت ذكر طهراني وصواريخه طويلا لصالح برنامج طهران النووي الناشئ الذي جذب أنظار العالم، ولكن ذكر أبي الصواريخ الإيراني قفز لدائرة الضوء من جديد حين نُشرت صورة له في منتدى إيراني على الإنترنت عام 2017، وخلفه صندوق غامض يحمل اسم مرفق شهرود، صورة قادت لاحقا إلى استنتاج مذهل يبدو أن طهراني قبل وفاته بقليل أشرف على تطوير منشأة سرية ثانية في الصحراء الإيرانية النائية في شهرود على بُعد 300 ميل من منشأته الأولى، وبفحص صور الأقمار الصناعية سرعان ما ظهرت المباني زبرجدية اللون المميزة من جديد، ولكن هذه المرة في قلب صحراء إيران.
أثارت التحقيقات حول منشأة شهرود الغامضة موجة جديدة من الجدل حول نشاط إيران الصاروخي، خاصة عند تحليل الندبات الأرضية التي خلَّفتها اختبارات الصواريخ على الأرض، التي ترجح أن إيران لا تطور فقط ترسانتها التقليدية من الصواريخ قصيرة ومتوسطة المدى، ولكنها ربما دخلت إلى عصر تطوير صواريخ طويلة المدى أو برنامج فضائي متطور، في تطور نوعي لترسانة الصواريخ الإيرانية التي دُشِّنت في صورة بدائية في منتصف الثمانينيات، لتتطور تدريجيا عاما بعد عام مثيرة المزيد من الذعر، ليس في إسرائيل فحسب، ولكن في واشنطن نفسها.
تعود طموحات إيران الصاروخية إلى عصور حكم الشاه خلال حقبة ما قبل الثورة الإسلامية الإيرانية، فخلال تلك الفترة -في بداية السبعينيات- كان الجيش الإيراني واحدا من أفضل الجيوش تجهيزا في الشرق الأوسط، وربما في العالم بأكمله، ممتلكا في القلب منه برنامجا ناشئا وطموحا للصواريخ قصيرة المدى، ولكن بعد الثورة الإسلامية عام 1979، فُكِّك الجيش من الداخل وقُلِّصت برامج المشتريات والتدريب، ناهيك بفرار العديد من العسكريين المدربين خاصة في سلاح الجو، تاركين الجيش الإيراني بوحداته المختلفة في حال يُرثى له من الضعف والتفكك.
دخلت إيران أتون حرب السنوات الثمانية مع العراق، بعد عام واحد على قيام ثورتها، على ذلك الحال من التردي العسكري وعلى الأخص في سلاح الجو، ورغم أن إيران كانت متفوقة من الناحيتين العسكرية والتكنولوجية على الجيش العراقي، فإنها وجدت نفسها عاجزة عن تحقيق التفوق الجوي، وفي الوقت الذي أمطرت فيه الصواريخ العراقية المدن الإيرانية بكثافة، كانت طهران عاجزة بوضوح عن توجيه ضربات دقيقة إلى الأهداف في الداخل العراقي.
ومن أجل تحقيق توازن الردع في مواجهة بغداد، قررت طهران في وقت مبكر أنها بحاجة إلى امتلاك ترسانتها الخاصة من الصواريخ، ولمّا لم يكن التصنيع خيارا عمليا وقتها، ركزت جهودها الأولى على استيراد وتجميع صواريخ سكود قصيرة المدى، وفي عام 1985 ترأس رئيس البرلمان الإيراني آنذاك أكبر هاشمي رفسنجاني وفدا رفيع المستوى خاض رحلات مكوكية إلى ليبيا وسوريا وكوريا الشمالية والصين، في جولة تسوق خاصة من أجل الحلم الصاروخي.
آتت جهود رفسنجاني أُكلها سريعا، فلم ينتهِ العام ذاته قبل أن تحصل إيران بالفعل على دفعتها الأولى من الصواريخ قصيرة المدى من طراز آر 17، أحد نماذج سكود بي من ليبيا، وهي صواريخ يمكنها الطيران لمسافة تقترب من 300 كم حاملة رأسا متفجرا يصل وزنه إلى ألف كيلوغرام، ورغم كون تلك الصواريخ ضعيفة التوجيه إلى حدٍّ كبير، فإنها كانت كافية لتحقيق هدف طهران بإشعال النيران في المدن العراقية ضمن ما عُرف لاحقا باسم حرب المدن بين طهران وبغداد.
ولكن إيران سرعان ما استنفدت مخزوناتها من الصواريخ الليبية، لتتوجه بعدها إلى مورد جديد هو كوريا الشمالية، وهذه المرة بصفقة أكثر طموحا، حيث عرضت المشاركة في تمويل برنامج بيونغ يانغ الصاروخي مقابل نقل التكنولوجيا إليها والحصول على امتياز الأولوية في حيازة الصواريخ بمجرد خروجها من خطوط الإنتاج.
وبالفعل سُلِّمت الدفعة الأولى من صواريخ سكود سوفياتية الأصل في نسختها الكورية الشمالية عام 1987، وأُشيع آنذاك أن إيران حصلت على حصتها من الصواريخ حتى قبل نشر الصواريخ من قِبَل الجيش الكوري الشمالي نفسه، وخلال الأشهر التالية حصلت إيران على ما يقرب من مئة صاروخ استُخدمت جميعا تباعا في الحرب مع العراق، مضيفة المزيد من النيران إلى لهيب السماوات المشتعلة بالفعل نتيجة أكبر حرب للصواريخ عرفها الشرق الأوسط حتى ذلك التوقيت.
في نهاية المطاف، انتهت الحرب العراقية الإيرانية دون فائز واضح بعد أن خلَّفت زهاء مليون قتيل، بيد أن انتهاءها لم يُنهِ طموحات طهران في امتلاك الصواريخ، بل جعلها أكثر تعطشا، وقبل أن ينتهي عقد الحرب نفسه دخلت إيران في مفاوضات مع كوريا الشمالية لشراء أحدث صواريخها المصممة على طراز سكود سي.
يعمل سكود سي بالوقود السائل مثله مثل نسخ سكود السابقة، ولكنه أطول وأوسع مدى من صواريخ سكود بي، مع توسيع خزانات الوقود لتحمل كميات أكبر منه، ويُقدَّر مدى الصاروخ بـ500 كم عند حمله رأسا متفجرا يزن 700 كغم.
ورغم حصول إيران على حصتها من سكود سي بالفعل عام 1991، فإن طموحاتها آنذاك تجاوزت نهم اقتناء الصواريخ، ليتحول اهتمام طهران الأساسي إلى امتلاك التكنولوجيا اللازمة لإنتاج الصواريخ محليا، وهو هدف قديم يبدو أن طهران شرعت في التخطيط لتحقيقه بدقة ونشاط في وقت أبكر مما يظن الجميع.
أدت الحاجة إلى الصواريخ الباليستية في زمن الحرب العراقية، وكذلك عداوة إيران التي تجذرت سريعا مع إسرائيل، إلى تطور سريع في صناعة الصواريخ الإيرانية، دافعة إيران لتقديم باكورة إنتاجها الصاروخي مبكرا، وهو صاروخ مدفعي أرض أرض عُرف باسم نازعات، يُطلَق عبر راجمة صواريخ متحركة، ويُعدّ نازعات أول الإنجازات الواضحة لفريق تطوير الصواريخ الذي أسسه طهراني مقدم إبان الحرب العراقية الإيرانية.
ومع وضع الحرب، وجد مقدم نفسه في وضع أفضل نسبيا لإجراء المزيد من الأبحاث والتجارب على الصواريخ الأكثر تقدما، والسعي لإبرام اتفاقات نقل التكنولوجيا، ليتحقق له ذلك الهدف بالفعل عام 1993 حين قررت كوريا الشمالية تزويد إيران بتقنيات إنتاج صواريخ سكود، فضلا عن إيفاد بعض المتخصصين من الكوريين للمساعدة في تدريب الإيرانيين على إنتاج صواريخهم الخاصة.
بداهة، كانت نسخ الصواريخ الأولى عبارة عن نماذج محاكاة لصواريخ سكود الموجودة بالأساس، وبدأ الأمر مع صاروخ شهاب، وهو نسخة مقلدة من صاروخ سكود بي نجحت إيران لاحقا في تصنيع ما بين 2000-3000 وحدة منه، وهو يعمل بالوقود السائل وبإمكانه حمل رأس حربي يصل وزنه إلى 1000 كغم لمسافة تصل إلى 186 ميلا، ولكنه يفتقر إلى الدقة، شأنه شأن صواريخ سكود بي الأصلية، وفي وقت لاحق طورت إيران نسخة أطول مدى من الصاروخ نفسه تحت اسم شهاب 2، وهو قادر على قطع مسافة تبلغ نحو 300 ميل.
وفي عام 1998، قامت إيران بإطلاق تجريبي لصاروخ شهاب 3، وهو نسخة محدثة من صواريخ نودونغ التي أنتجتها كوريا الشمالية لغرض ضرب القواعد الأميركية في اليابان من شبه الجزيرة الكورية، ورغم أن مدى الصاروخ يبلغ في الأصل قرابة 600 ميل، يُعتقد أن إيران طورت قدراته إلى مدى يتجاوز 2000 كم نحو 1200 ميل.
ولكن رغم تلك الطفرة الكبيرة التي حققتها صواريخ شهاب من حيث مدى الصاروخ، فإنه ظل متأخرا تقنيا بشكل مزعج للإيرانيين على مستوى الدقة، بما يجعله غير مناسب للاستخدام في ساحة المعركة لضرب أهداف محددة وحيوية مثل المطارات والمنشآت العسكرية، بقدر ملاءمته لحالات التدمير العشوائي التي يمكن أن تسبب حالة من الذعر الشعبي واسع النطاق في أي دولة بمرماه.
ومن أجل التغلب على هذه العيوب، قامت طهران لاحقا بإصدار نسخة جديدة من صواريخ شهاب 3 تحت اسم غدير 1، وزودته بجيل جديد من الرؤوس الحربية عُرف باسم عماد، رؤوس يعتقد أنها تمنح الصواريخ المزيد من الاستقرار والقدرة على المناورة، مع دقة أكبر رغم أنها تتمتع بمدى أقل نسبيا، لكن إيران بدأت تُدرك تدريجيا القيود المرتبطة بالاعتماد على الصواريخ التي تعمل بالوقود السائل، وبدأت في تطوير صواريخ الوقود الصلب الأكثر جدوى من الناحية العسكرية.
فبخلاف التفوق النوعي لصواريخ الوقود الصلب من حيث المدى والدقة، فإنها تحتفظ بميزة نوعية وهي أنها يمكن تعبئتها بالوقود وتخزينها لفترة طويلة، بعكس صواريخ الوقود السائل التي تتطلب تزويدها بالوقود بشكل آني قبل الإطلاق، وهو الأمر الذي يُصعِّب من مهمة إخفائها، أضف إلى ذلك أن الوقود الصلب أكثر تناسبا مع الصواريخ متعددة المراحل، وهذا يجعله مثاليا للصواريخ بعيدة المدى.
وكانت إحدى أولى خطوات إيران في مجال تقنيات الوقود الصلب هي إنتاج صاروخ أرض-أرض قصير المدى من طراز مشاك، وهو صاروخ بدائي صُمِّم على النمط السوفياتي في الثمانينيات بمساعدة تقنية صينية، وأُطلِق خمس مرات خلال حرب المدن.
ورغم اختفاء صواريخ الوقود الصلب من الساحة الإيرانية لفترة طويلة، فإنها عادت بشكل مفاجئ عام 2002 مع تجربة صاروخ جديد يعمل بالوقود الصلب أُطلِق عليه اسم فاتح 110، وهو صاروخ ذو مرحلة واحدة يبلغ مداه 200 كم على الأقل، وصُنِّع على طراز صواريخ سي إس إس 8 الصينية، والمفاجأة أن إيران أكدت في ذلك التوقيت أنها مَن قامت بتصنيع الوقود الصلب للصاروخ في معهد البحوث التابع لوزارة الدفاع، وفي وقت لاحق أعلنت إيران أنها طورت نسخة بحرية من صواريخ فاتح القادرة على استهداف السفن التجارية والبحرية في الخليج العربي ومضيق هرمز.
وفي مايوأيار 2009، حققت إيران قفزة كبيرة في تسيير صواريخ الوقود الصلب حين اختبرت بنجاح صاروخ سجيل 2، وهو صاروخ أرض أرض ذو مرحلتين، اختبرته إيران بنجاح عدة مرات منذ ذلك الحين، وتزعم أن مداه يتراوح بين 2000-2500 كم. أما عام 2015، فقد شهد أحد التطورات المثيرة بشأن الصواريخ الإيرانية، حين كشفت طهران عن قيامها بتصنيع صاروخ جوال كروز بمدى يصل إلى 2500 كم، وهو تطور كبير عنى أن صواريخ إيران لم تعد قادرة على استهداف الشرق الأوسط فقط، بل إن شرق أوروبا وجنوبها قد دخلا مرمى الصواريخ الإيرانية للمرة الأولى.
أكثر من ذلك، فإن بعض الصواريخ الإيرانية الباليستية، مثل صواريخ فاتح-313 وقيام-1، تعمل اليوم بأنظمة توجيه دقيقة، فاتح-313 هو صاروخ باليستي قصير المدى نحو 500 كم جُهِّز بنظام توجيه متقدم يتضمن الملاحة بالقصور الذاتي، وربما التوجيه عبر الأقمار الصناعية، مما يسمح بدقة عالية في الاستهداف. أما قيام-1، الذي يبلغ مداه 800 كم، فيتميز بنظام توجيه دقيق يتضمن مزيجا من الملاحة بالقصور الذاتي والتوجيه الطرفي، مما يُحسِّن دقته وفعاليته.
على مدار تاريخها، كانت إيران قوة دفاعية في المقام الأول، ويرجع ذلك بشكل رئيس إلى الجغرافيا، ففي حين زودت التضاريس الجبلية إيران بقدر كبير من الحصانة الدفاعية، فإنها صبغتها بالكثير من العزلة أيضا، وفرضت قيودا دائمة على طموحاتها في التوسع الخارجي، وزاد التميز العِرقي ولاحقا المذهبي من عزلة إيران، وبوجه أخص عن محيطها العربي الذي فرض عليها انعزالا اجتماعيا وثقافيا من نوع فريد.
وجاءت الحرب العراقية الإيرانية لتفرض على إيران حصة أكبر من تلك العزلة، ولتُثبِت في الوقت نفسه افتقارها الشديد إلى توازن الردع مع خصومها، فمع سقوط الصواريخ العراقية على المدن الإيرانية وفرار سكانها بالآلاف للمرة الأولى، دُمِّرت معنويات الإيرانيين، ووجدت طهران نفسها مضطرة لإنهاء الحرب، ومنذ ذلك الحين تحولت الصواريخ في الوجدان العسكري الإيراني من مجرد سلاح إلى طريقة كاملة للحرب، لتستقر في نهاية المطاف بوصفها مُكوِّنا رئيسا لإستراتيجية الردع الإيرانية.
وبخلاف وقوعها في محيط مكتظ بالمعادين والمنافسين، فإن إيران، على العكس من منافسيها وخصومها وفي مقدمتهم إسرائيل، لا تتمتع بأي وصول إلى التقنيات العسكرية الغربية المتطورة، ولا تحظى بأي ضامن أمني رفيع المستوى، ومع عدد سكانها الكبير ومواردها المحدودة نسبيا، فإنها تتمتع برفاهية أقل لتعزيز إنفاقها العسكري.
وبترجمة تلك الحقائق على الأرض، وجدت إيران نفسها تمتلك منظومة أسلحة أكثر تخلفا على المستوى التقني والتشغيلي مقارنة حتى بأضعف جيرانها، لذا فإن معادلة الأمن التي طورتها قامت بشكل رئيس على امتلاك الردع الذي يقلل من فرص قيام حرب تتورط فيها إيران بشكل مباشر من الأساس.
ويرتكز ثالوث الردع الإيراني على ثلاثة أركان رئيسة؛ أولها هو قدرة إيران النظرية على تهديد الملاحة في مضيق هرمز، وثانيها قدرتها على تشغيل أعمال عنف بالوكالة في بقاع متعددة خارج حدودها، سواء من خلال وكلاء مسلحين دائمين مثل حزب الله أو عبر خلايا مرنة ذات طابع خاص كما في أوروبا وأميركا اللاتينية، وأخيرا تأتي قدرتها على توجيه ضربات مؤثرة لأعدائها عن بُعد باستخدام ترسانتها من الصواريخ قصيرة ومتوسطة المدى.
وتحظى كل ساق من سيقان ذلك الثالوث الأمني بنصيبها من المزايا والعيوب الواضحة، فمن ناحية، يمكن أن تؤدي الجهود المبذولة لإغلاق المضيق إلى ضرب استقرار الأسواق المالية والعالمية وفقدان إيران أي دعم دولي في أوروبا وآسيا، لذا فإن إيران تحتفظ به دوما خيارا أخيرا واستثنائيا، وفي الوقت نفسه فإن قدرة طهران على إشعال الصراعات عن بُعد وتنفيذ التفجيرات خارج حدودها تتقلص بشكل ملحوظ مقارنة بحقبة التسعينيات على سبيل المثال، لتتحول الصواريخ إلى خيار إستراتيجي أول وربما وحيد بالنسبة لإيران.
وحتى لو لم تكن تلك الصواريخ قادرة على توجيه ضربات حاسمة لأهداف عسكرية أو لبنوك البنية التحتية الحيوية، فإن مجرد امتلاك القدرة على إطلاق حرائق سكانية جماعية في المراكز السكانية الكبرى هو أمر كفيل بتحقيق أهداف إيران الحالية، وإحداث تأثيرات تراكمية تتوافق بشكل مثالي مع مبدأ المقاومة الإيراني، وهو مبدأ لا يعتمد على تحقيق انتصارات حاسمة قصيرة الأجل، ولكنه يفترض أن النصر يأتي في المقام الأول عن طريق الصمود واستنزاف العدو لأطول فترة ممكنة، لذا ليس من المستغرب أن جميع وكلاء إيران والحركات المسلحة المدعومة منها تستخدم الصواريخ ضعيفة التوجيه بوصفها أسلحة أساسية.
في الواقع، كثيرا ما ناقش المسؤولون الإيرانيون قوتهم الصاروخية باستخدام مصطلحات مستعارة من نظرية الردع الكلاسيكية. فعلى سبيل المثال، وبعد إطلاق أول اختبار لإطلاق صاروخ شهاب 3 في يوليوتموز 1998، أوضح علي شمخاني، وزير الدفاع الإيراني آنذاك، باختصار رؤيته لنظرية الردع الإيرانية التي تقوم على امتصاص أي ضربة أولية بحيث تُلحق الحد الأدنى من الضرر، ثم توجيه ضربة انتقامية قوية تكون كفيلة بمنع أي ضربة ثالثة من الوقوع لأطول فترة ممكنة.
وفي الحقيقة، فإن إيران جربت فاعلية منظومة الردع القائمة على الصواريخ تلك في الماضي القريب بشكل غير مباشر، حين نجحت ترسانة صواريخ حزب الله المستمدة من إيران عام 2006 في إلحاق أضرار اقتصادية وسياسية بالغة بإسرائيل خلال الحرب التي خاضها الطرفان في ذلك العام، رغم أن غالبية صواريخ حزب الله آنذاك كانت من الصواريخ المدفعية قصيرة المدى نسبيا، لكن ضرباتها كبَّدت الاقتصاد الإسرائيلي خسائر قُدِّرت بـ3.5 مليارات دولار، بعد أن أجبرت الشركات الإسرائيلية على الإغلاق ودفعت السلطات لإنفاق أموال طائلة على التأمين واستدعاء قوات الاحتياط.
واليوم يمتلك حزب الله -فضلا عن إيران نفسها- ترسانة صاروخية أكثر قوة تُقدَّر بـ150 ألف صاروخ تتميز بمدى أطول ودقة محسنة، بما في ذلك صواريخ فاتح وصواريخ فجر وحتى صواريخ سكود الأصلية، في الوقت الذي عززت فيه إيران من ترسانة الصواريخ الخاصة بها ونشرتها على مساحات جغرافية أوسع، خاصة في سوريا التي تستضيف اليوم صواريخ إيرانية متوسطة المدى ومصانع ميدانية لتركيب الصواريخ.
يمكن لتلك الصواريخ أن تُمكِّن إيران وحزب الله من ضرب العمق الإسرائيلي حال أرادوا ذلك، في الوقت الذي تفتقر فيه إسرائيل للعمق الإستراتيجي الكافي بسبب مساحتها الجغرافية الصغيرة وانكشاف مواقع البنية التحتية الأساسية، مثل مرافق النفط والمياه والكهرباء وحتى مخزونات الأسلحة الكيميائية.
وحتى مع امتلاك تل أبيب لنظام دفاع صاروخي متعدد الطبقات، يشمل نظام القبة الحديدية لاعتراض الصواريخ قصيرة المدى نسبيا، ومنظومة دايفيد سلينغ ضد الصواريخ طويلة المدى، وأخيرا نظام أرو-سهم للصواريخ الباليستية متوسطة وطويلة المدى، تبقى هذه الشبكة عُرضة للتشبع حال تفوق عدد الصواريخ المطلقة على عدد القذائف الاعتراضية المتوفرة، وهو حاجز يبدو أن طهران حريصة على عدم تجاوزه حتى اللحظة.
توفر الصواريخ لإيران إذن قوة ردع غير متماثلة أمام قوى أكبر تسليحا وأفضل تجهيزا، وهي قوة تتطلب استثمارا ماديا وتقنيا قليلا نسبيا بالمقارنة مع القدرات العسكرية الأخرى، خاصة القدرات الجوية، لذا فإنها تبقى الخيار المفضل للقوى الصغيرة لاكتساب ردع نسبي ضد قوى أكبر حجما عبر امتلاك قدرة على التسبب في أضرار جسيمة لها، وفرض تكاليف دفاعية ضخمة عليها عبر دفعها لتنصيب منظومات دفاع صاروخي باهظة الثمن.
ومع ذلك فإن ما أقلق العالم -والولايات المتحدة على وجه الخصوص- لفترة طويلة سابقة ليست صواريخ إيران الحالية محدودة التوجيه نسبيا القادرة على إصابة إسرائيل، بقدر طموحات إيران المزعومة لامتلاك صواريخ طويلة المدى أو عابرة للقارات قد تكون قادرة على تهديد سلطة العالم المتحضر في قلب معاقله.
في الوقت الراهن، هناك 5 دول حول العالم تمتلك ترسانات صاروخية قادرة على إصابة أي هدف من شرق الكرة الأرضية إلى غربها؛ هي الولايات المتحدة وروسيا والصين وبريطانيا وفرنسا، حيث تمتلك هذه الدول صواريخ باليستية عابرة للقارات يصل مداها إلى 13 ألف كيلومتر، بخلاف دول أخرى تمتلك صواريخ عابرة للقارات أقل مدى مثل باكستان والهند، وغيرها من الدول التي تمتلك برامج صواريخ عسكرية فوق متوسطة أو طويلة المدى.
وحتى خصوم طهران المباشرون في إسرائيل يمتلكون صواريخ متطورة يمكنها إصابة عمق طهران منذ فترة تزيد على عقدين في أفضل الأحوال، ولكنَّ أيًّا من تلك الترسانات الصاروخية الضخمة -إقليميا وعالميا- لا تثير القدر ذاته من الجدل والرعب الذي تثيره الصواريخ الإيرانية، ويرجع ذلك من ناحية إلى اقتران التناول السياسي لبرنامج إيران الصاروخي مع المخاوف المتزايدة حول طموحاتها النووية.
بمعنى أن برنامج إيران الصاروخي كان يُنظر إليه دوما بوصفه رافعة لتوصيل أسلحتها النووية المنتظرة، كما أنه مرتبط من ناحية أخرى بمخاوف طويلة الأمد لدى الولايات المتحدة من امتلاك ما تصفها دوما بـالدول المارقة لصواريخ قادرة على إصابة الولايات المتحدة أو حلفائها المقربين في محيطها الأوروبي.
لطالما حملت واشنطن مخاوف طويلة الأمد من امتلاك تلك الدول منظومات صواريخ متطورة منذ أزمة الصواريخ الكوبية الشهيرة مطلع الستينيات، حين اتفق الاتحاد السوفياتي مع كوبا على بناء قواعد سرية لإطلاق الصواريخ متوسطة المدى يمكنها أن تصيب الأراضي الأميركية كاملة، في رد فعل على قيام واشنطن بنشر صواريخ ثور في بريطانيا وصواريخ جوبيتر في إيطاليا وتركيا، واضعةً موسكو في مرمى أكثر من مئة صاروخ أميركي قادر على حمل رؤوس نووية.
مَثَّلت أزمة الصواريخ الكوبية أبرز فصول الحرب الباردة، وكادت أن تضع العالم على شفير حرب نووية حقيقية، لكن أحد تأثيراتها طويلة الأمد كان المخاوف العميقة التي وُلدت في واشنطن من الأضرار التي يمكن أن تلحقها أسلحة رخيصة مثل الصواريخ مع قنبلة نووية بدائية في مواجهة القوة الأميركية، ناهيك بتسليط الضوء على حجم الخطر الذي يمكن أن تسببه قوة صغيرة غير ملتزمة بالقواعد التقليدية للنظام الدولي.
لاحقا، أسهم الفشل الأميركي في احتواء كوريا الشمالية التي امتلكت برنامجين متطورين للردع النووي والصاروخي في تعزيز هذه المخاوف، خاصة بعد أن أثبتت بيونغ يانغ بما لا يدع مجالا للشك قدرتها على توصيل أسلحتها النووية إلى الشاطئ الأميركي في سياتل وسان فرانسيسكو، وهو ما زاد من مخاوف الولايات المتحدة ليس بشأن كوريا فقط، ولكن بشكل أكبر بشأن إيران الواقعة بدورها في محيط من القواعد والتكتلات العسكرية الأميركية، وأسهم في تعظيم هذه المخاوف خصوصا التاريخ الطويل من التعاون الصاروخي بين الدولتين على قاعدة التضامن ضد أميركا، والعزلة المتبادلة في محيط من الحلفاء الأميركيين وحتى الطموحات النووية، حيث تعتقد الولايات المتحدة بقوة أن بيونغ يانع هي الداعم الرئيس لبرنامج إيران الصاروخي، وأن إسهامها فيه يفوق كثيرا إسهام حلفاء طهران التقليديين في موسكو وبكين.
والحقيقة أن هذا الاعتقاد الأميركي يصيب قدرا كبيرا من الحقيقة، حيث يشرف مهندسون من كوريا الشمالية إلى اليوم على الأغلب على خطط تطوير وتحسين الصواريخ الإيرانية، وتستخدم الجمهورية الإسلامية مخططات كوريا الشمالية لبناء المواقع السرية التي توفر الحماية للصواريخ تحت الأرض.
ويسافر الخبراء بانتظام بين البلدين للمساعدة في تطوير الرؤوس الحربية النووية وأنظمة التوجيه، كما تواصل كوريا الشمالية تزويد إيران ببعض صواريخها المتطورة، وعلى رأسها صواريخ موسودان متوسطة المدى التي يعتقد البنتاغون أن إيران حصلت عليها عام 2005 وطورتها لفترة طويلة، قبل أن تطلقها عام 2007 تحت اسم خرمشهر، ويصل مداها إلى 2000 كم.
واستجابة لتلك المخاوف طويلة الأمد من قدرة الصواريخ الإيرانية، وضعت الإدارات الأميركية المتعاقبة خططا متوالية للدفاع عن أوروبا ضد التأثير المحتمل لتلك الصواريخ، جاء أبرزها في عهد الرئيس جورج بوش الابن عام 2007 حين أعلن خطة لإقامة هيكل دفاع صاروخي في أوروبا ينشر عشر منظومات صواريخ في بولندا ونظام رادار في الجمهورية التشيكية.
خطة أُطلِقت ردَّ فعلٍ على إطلاق طهران لصاروخ سجيل الذي يبلغ مداه 2600 كم، ما يعطيه القدرة على ضرب بولندا وعدة دول أخرى في الاتحاد الأوروبي، مع مخاوف من قدرة قريبة على تطوير صواريخ باليستية عابرة للقارات يفوق مداها 4000 كم.
تعززت هذه المخاوف خصوصا مع افتتاح إيران مركز الفضاء الخاص بها في مقاطعة سمنان عام 2008، ونجاحها مطلع العام التالي في إطلاق صاروخ سفير الفضائي ذي المرحلتين بنجاح لوضع القمر الصناعي أوميد في مداره، لتتوالى لاحقا عمليات إطلاق أقمار صناعية إيرانية باستخدام صاروخ سفير القادر من الناحية النظرية على حمل رأس نووي، قبل أن تكشف إيران لاحقا عن إصدار أكثر تطورا من سفير تحت اسم سيمورغ، مع قدرة على حمل مركبة تزن 500 كغم.
ومع توسع البنية التحتية الخاصة بعمليات الفضاء الإيرانية، ازداد القلق الغربي من تحول عمليات إطلاق الأقمار الصناعية إلى معامل تجريبية لإطلاق صواريخ عابرة للقارات، لكن واشنطن خلصت في النهاية إلى كون هذا التحول غير محتمل نظرا لوجود فوارق تقنية كبيرة بين منصات إطلاق الصواريخ الفضائية، التي تعمل بواسطة محركات منخفضة الدفع مع مدة تشغيل طويلة لازمة لتسيير الأقمار الصناعية إلى مداراتها، وبين الصواريخ العابرة للقارات التي تتطلب محركات مختلفة لدفعها إلى ارتفاعات أعلى.
ونتيجة لذلك، فإن إدارة أوباما شرعت في عملية تقييم إستراتيجي لخطر الصواريخ الإيرانية، وخلصت إلى أن طهران لن يكون بمقدورها صناعة صواريخ باليستية عابرة للقارات في أي وقت قريب، وأن التهديد الأكبر القادم من إيران يكمن في برنامجها النووي وصواريخها متوسطة المدى القادرة على الوصول إلى أوروبا، لذا انخرطت الإدارة في محادثات مطولة مع طهران لتحجيم طموحاتها النووية، في الوقت الذي دشَّنت فيه مبادرة بديلة لخطة بوش للدفاع عن أوروبا تضمن نشر صواريخ إس إم-3 الاعتراضية من أجل التصدي للتهديد المحتمل للصواريخ متوسطة المدى القادمة من إيران.
خفَّفت إستراتيجية إدارة أوباما المتمحورة بشكل رئيس حول البرنامج النووي والفصل بين مقاربتها للملفين النووي والصاروخي من الضغوط على برنامج إيران الصاروخي، ما منح طهران فرصة التوسع في تجاربها الصاروخية، وتشير التقديرات إلى أن إيران أطلقت 23 صاروخا باليستيا على الأقل منذ توقيع الاتفاق النووي عام 2015 حتى مطلع عام 2018، منها 10 عمليات على الأقل لإطلاق صواريخ باليستية متوسطة المدى قادرة على حمل رؤوس نووية من الناحية النظرية.
لكن هذه الفورة الصاروخية خُفِّفت مع قدوم إدارة ترمب إلى البيت الأبيض مطلع عام 2017 محملة بأجندة واضحة لتدمير اتفاق إيران النووي، وحُمل التهديد الباليستي إلى واجهة النزاع من جديد، ضمن خطة أوسع نطاقا لتقويض النظام الإيراني بالكلية، ومحاصرة برنامج طهران النووي والصاروخي وأنشطتها العسكرية خارج الحدود.
ولم تكن إدارة بايدن الديمقراطية أفضل كثيرا بالنسبة لإيران، حيث أثبتت أنها عُرضة للابتزاز الإسرائيلي، ما تركها دون سياسة واضحة للتعامل مع طهران، لا تقارب واحتواء، ولا جنوح واضح نحو التصعيد.
كان موقف بايدن من صواريخ إيران، وحتى برنامجها النووي، مزيجا من التردد والاستجابة للضغط الإسرائيلي، وقد قاطعت إيران هذا الارتباك بالإعلان عن قفزة جديدة في رحلتها الصاروخية في يونيوحزيران 2023، حين كشفت عن صاروخ فتاح الباليستي الفرط صوتي بمدى يبلغ 1400 كم وسرعة تبلغ 14 ماخ، ما يعني أنه قادر على إصابة هدفه خلال 400 ثانية فقط. وبهذا الإعلان انضمت إيران إلى نادٍ حصري يضم 3 دول فقط تمتلك صواريخ فرط صوتية؛ هي الولايات المتحدة وروسيا والصين.
لم تستخدم إيران فتاح حتى الآن حسب المعلن، لكنها استخدمت ترسانتها الباليستية في أكثر من مناسبة منذ عام 2017، منها الهجوم الصاروخي على قاعدتين عراقيتين للقوات الأميركية هما عين الأسد الأنبار غرب وحرير أربيل شمال مطلع عام 2020 ردا على مقتل الجنرال قاسم سليماني، وقد استخدمت إيران خلال هذا الهجوم صواريخ من طراز قيام وفاتح 313.
الأهم أن طهران استخدمت زهاء 100 صاروخ باليستي و30 صاروخ كروز خلال أول استهداف مباشر في تاريخها لأجواء إسرائيل منتصف إبريلنيسان الماضي 2024 ردا على قصف إسرائيلي لقنصليتها في دمشق، وهو ما تكرر مجددا الليلة الماضية 1 أكتوبرتشرين الأول 2024، حيث أطلقت إيران زهاء 200 صاروخ باليستي على أهداف إسرائيلية ردا على اغتيال إسرائيل رئيس المكتب السياسي لحركة حماس إسماعيل هنية، ثم زعيم حزب الله اللبناني حسن نصر الله.
في ظل مشهد إقليمي ملتهب، وفَّرت الصواريخ لإيران إذن فرصة لرد يحفظ ماء وجها -ولو قليلا- دون مستوى التصعيد الذي يستثير رد فعل أوسع من إسرائيل أو أميركا. لكن المشكلة التي تواجه طهران حاليا أن استخدام الصواريخ تحت السقف الذي يُحدِث أضرارا جسيمة لخصومها يجعلها أقرب إلى طريقة إثبات الموقف منها إلى وسيلة للردع.
المشكلة الحقيقية هي أنه في اللحظة التي تلجأ فيها إيران إلى إطلاق تلك الصواريخ بكثافة من أراضيها فوق رؤوس خصومها، وفي مقدمتهم إسرائيل، بالقدر الذي يصيبهم بأضرار فعلية، فإن تل أبيب ومن ورائها واشنطن سوف تقرران أن الحرب على إيران، على تكلفتها، لا مفر منها، وساعتها لن تصبح الصواريخ وحدها كافية لتوفير الأمن للإيرانيين حين تدق الحرب طبولها. | https://www.aljazeera.net/politics/2024/10/3/%d8%a8%d8%b1%d9%86%d8%a7%d9%85%d8%ac-%d9%85%d8%aa%d8%b7%d9%88%d8%b1-%d9%88%d8%aa%d8%b1%d8%b3%d8%a7%d9%86%d8%a9-%d8%b9%d9%85%d9%84%d8%a7%d9%82%d8%a9-%d9%81%d9%87%d9%84 | 2024-10-03T01:51:44 | 2024-10-15T00:10:24 | أبعاد |
|
61 | من وسط جحيم جباليا تسدد كتائب القسام مباغتات قاتلة فكيف ذلك؟ | أعلنت كتائب القسام، الجناح العسكري لحركة المقاومة الإسلامية (حماس)، أن مقاتليها هاجموا مقر قيادة العملية العسكرية الإسرائيلية شمال قطاع غزة، وأوقعوا أفرادها بين قتيل وجريح. فكيف يحدث ذلك وسط الإبادة؟ | يوم 23 أكتوبرتشرين الأول، أعلنت كتائب القسام -الجناح العسكري لحركة المقاومة الإسلامية حماس- أن مقاتليها هاجموا مقر قيادة العملية العسكرية الإسرائيلية شمال قطاع غزة، وأوقعوا أفرادها بين قتيل وجريح. وأضافت الكتائب أن الهجوم الذي تم قرب نادي معسكر جباليا نُفذ باستخدام قذيفة تي بي جي مضادة للتحصينات.
بعد ذلك، اشتبك مقاتلو القسام داخل المقر مع قوة إسرائيلية، مستخدمين الرشاشات المتوسطة والخفيفة، وأعلنت القسام أنها أوقعت أفراد القوة الإسرائيلية بين قتيل وجريح.
وقبلها بأيام قليلة، وتحديدا يوم 20 أكتوبرتشرين الأول، ووسط الحصار الإسرائيلي الثالث لجباليا شمالي غزة، أعلن جيش الاحتلال عن مقتل قائد اللواء 401 العقيد إحسان دقسة، إثر استهدافه بعبوة ناسفة أثناء وجوده بجوار دبابة في منطقة العمليات، كما أصيب معه قائد كتيبة وضابطان آخران.
دقسة هو أعلى رتبة عسكرية إسرائيلية يجري استهدافها منذ بداية العملية البرية في قطاع غزة، وهو قائد واحد من أهم ألوية النخبة في الجيش، والذي كان له الدور الأبرز في الكثير من العمليات الهجومية الواسعة في مناطق الشفاء، والزيتون، وبيت حانون، وجباليا، ورفح.
هذا النوع من العمليات التي تندرج تحت مفهوم الاغتيالات عالية القيمة، تتطلب قدرا من التنسيق بين مجهود استخباري، واستطلاع ميداني، ووحدات نشر العبوات، فضلا عن التوثيق المصور متعدد الزوايا التي اعتادت عليه المقاومة، مما يؤشر إلى أن ثمة منظومة للقيادة والتحكم لا تزال فعالة وتعمل بقدر من الكفاءة حتى في واحدة من أكثر نقاط تركيز المجهود الحربي الإسرائيلي، وبعد مرور أكثر من عام على الحرب.
الأهم أن تلك العملية ليست الأولى من نوعها التي تؤكد هذه الفرضية، فقبل أسبوع تقريبا، بثت المقاومة شريطا مصورا لإيقاع سرية مشاة ميكانيكية مصحوبة بالآليات مكونة من 12 مركبة وشاحنة في كمين مركب، ربما يتطلب قدرا أعلى من التنسيق والتحكم.
فكيف يمكن فهم قدرة المقاومة على الاحتفاظ بهذا القدر من التماسك الجيد نسبيا والقدرة على تخطيط وتنفيذ مثل هذا النوع من العمليات المعقدة رغم الضغط الهائل الذي تعرضت له على مدى أكثر من عام، فقدت خلاله العديد من القيادات الميدانية والسياسية؟
ومع أنه لا يمكن، بطبيعة الحال، أن نختزل جملة العوامل، المادية والمعنوية واللوجستية، التي تكسب المقاومة هذه المقدرة المهمة ولا أن نردها إلى عنصر واحد، إلا أن أحد أهم تلك العوامل هو أن القوات المقاتلة كتائب القسام في هذه الحالة في نطاق الحرب غير النظامية، عادة ما تتبع هيكل قيادة منتظما، لكنه أقرب للامركزية وأبعد عن نمط الجيوش التقليدية.
لفهم الأمر بعمق؛ دعنا نرجع إلى الوراء زمنيا، إلى مايوأيار 1940، حين كان الاستيلاء على حصن إيبن إميل، الذي يقع بين لياج وماستريخت على الحدود البلجيكية الهولندية، مهمّا للغاية لنجاح الحملة التي شنها الفيرماخت على فرنسا. قد تتصور أن مهمة بهذه الحساسية عُهدت إلى قائد كبير في الجيش، لكن الحقيقة أن من خطط لها ونفذها وأدارها كان ملازما أول من سلاح المظلات يسمى رودولف فيتسيغ، ولم يكن تحت تصرفه سوى 77 جنديا.
لم تمر العملية بسلام، واضطر قائد هذه الفرقة الصغيرة، إلى الهبوط اضطراريا في حقل على بعد حوالي 100 كيلومتر من الهدف، وفي أثناء رحلته إلى إيبن إميل للسيطرة عليه اضطر لاتخاذ قرارات حاسمة بمفرده، كانت تتطلب في الظروف العادية الرجوع إلى القيادة المركزية قبل تنفيذها.
ما حدث في إيبن إميل هو مثال جيد على تكتيك العقد، بالألمانية الأوفتراجيستاكتيك Auftragstaktik، وهو أحد منهجيات القيادة والتحكم، الذي مارسته القوات المسلحة الألمانية لمدة 200 عام، وتأصّلت في نظريات الجنرال البروسي الألماني والمنظر العسكري البارز، كارل فون كلاوزفيتز، وكانت ابتكارا فعالا بشكل استثنائي.
وكان أحد أهم العوامل التي جعلت الأوفتراجيستاكتيك ناجحا هو التركيز على خفض عتبات القرار، من خلال السماح لقادة الفرق والرتب الميدانية بالتصرف من دون طلب الإذن. وقد زاد ذلك من سرعة دورة القرار التكتيكي لدى الألمان بعد أن شعرت القيادات الأصغر أن بإمكانها التصرف بدرجة أكبر من الحرية، استنادا فقط للإستراتيجية المركزية والعقيدة القتالية التي درستها جيدا.
وبشكل عام؛ يمكن أن نتصور قيادة وإدارة المهام العسكرية على أنها مصفوفة خيارات متعددة واصلة بين ضدين، الأول هو المركزية الكاملة بحيث يمكن لمركز قيادي واحد فقط أن يتحكم في سير كل خطوط العمليات في الجيش، والثاني هو لامركزية كاملة، حيث يغيب المركز تماما وتعمل كل وحدة بحسب رؤيتها الخاصة وتكيفها مع سياقها الذاتي. وبين هاتين النقطتين الأكثر تطرفا، ثمة درجات متعددة ومتباينة بحسب القرب أو البعد عن أي من النقطتين.
وبهذا المقياس؛ يمكن اعتبار العمليات سالفة الذكر في جانب منظومة المركزية، لكنها ليست متطرفة تماما إلى نمط المركزية الكاملة.
بصورة أكثر تعميما من عمليات جباليا، من المهم أن نتساءل أين تقف هيكلة كتائب القسام ومنظومة القيادة والتحكم فيها بين مصفوفة المركزية واللامركزية؟ نلاحظ أن هناك غيابا للإجماع حول تحليل المنهجية التي تتبعها حماس في هيكلة تنظيمها العسكري وهندسة منظومة القيادة والتحكم وإدارة المستوى العملياتي من الحرب.
فمثلا في ورقة بحثية نُشرت في يوليوتموز 2024 في دورية جورنال الدراسات الفلسطينية Journal of Palestinian Studies، تخلص النتائج أن حماس بشكل عام، سياسيا وعسكريا، تغلب عليها سمات اللامركزية أكثر من سمات المنظمة المركزية الهرمية، وتفسر ذلك بأن القمع الإسرائيلي المتزايد واستهداف القادة بشكل متكرر، قد دفع قيادتها إلى هذا النمط من اللامركزية والقيادة المُوزَّعة، لتجنب الصدمات الناتجة عن الفقدان المفاجئ لبعض القادة ورفع درجة المرونة والقابلية للتكيف.
ويتفق مع هذا الرأي بلال صعب، وهو زميل مشارك في مؤسسة تشاتام هاوس البحثية في لندن، حينما يقول في تصريحات لصحيفة فايننشال تايمز البريطانية إن حماس تستخدم مزيجا من نمط القوات التقليدية والهجينة وإن عملياتها لامركزية للغاية، وهناك نوع من الهيكل العسكري الخلوي، حيث تعمل كل فرقة بمفردها.
أما معهد دراسة الحرب في الولايات المتحدة، في تقرير نُشر في ديسمبركانون الأول 2023، فيختلف مع الرؤى السابقة ولكن ليس كليا، إذ يرى أن حماس تتشابه في تنظيمها، إلى حد بعيد، مع الهياكل العسكرية الرسمية، حيث تنظم كتائب القسام نفسها في مستويات من الفرقة وحتى مستوى اللواء تماما كما تفعل الجيوش التقليدية، ومن ثم لا يمكن تصورها كما المنظمة السرية التي تدير خلايا مترابطة لامركزية بشكل مطلق.
ولكن إلى جانب ذلك، تشير الدراسة إلى امتلاكها درجة أعلى من المرونة تظهر في تسلسل قيادي مرن وموزع الصلاحيات بغية تسهيل التعافي في مواجهة فقدان القادة أو عناصر الوحدات.
ورغم الاختلاف الظاهر في هذه التقييمات لمنهجية القسام، إلا أن ثمة نقطة اتفاق مشتركة بينها، هي أن عمليات القتل المستهدفة وحدها لن تؤدي إلى إضعاف حماس أو تدميرها بشكل دائم. ومن المرجح أن تحتفظ حماس بقاعدة عميقة من القادة العسكريين ذوي الخبرة والردفاء، والذين سيكون معظمهم مستعدين لإعادة بناء المنظمة وتدريب قادة جدد على المستوى العملياتي والتكتيكي.
في ضوء ذلك، يخلص بيتر كونشاك، الضابط في الجيش الأميركي والباحث من مؤسسة لايبر البحثية، في ورقة نشرت في أغسطسآب الماضي، أن هزيمة حماس لن تتحقق فقط في استنزاف أفراد الخط الأمامي وعزل قوات حماس القتالية النظامية عن مصادر التعزيز والإمداد، مؤكدا أن هزيمة الحركة تتطلب تفتيت كل الوصلات بين شبكة وحدات المقاتلين، وصولا إلى المجموعات الأصغر التي تعمل كخلايا مكتفية ذاتيا إلى حد كبير، ولا حاجة لها في بعض الأحيان إلى التواصل مع القيادة لأجل تنفيذ القرار.
انطلاقا من هذا المنظور؛ يمكن لنا تصور كتائب القسام في شكلها الذي دخلت به السابع من أكتوبرتشرين الأول 2023 في صورة هجينة تمتلك بعض سمات القوات غير النظامية، وفي جانب آخر تحوز صفات القوات المسلحة التقليدية، ويسمح لها ذلك بالاحتفاظ بتماسك الهيكلة ووحدة القيادة والخطة الإستراتيجية، ولكن مع السماح للوحدات الأصغر باتخاذ قرارات في مستوى أقل من الإستراتيجي بصلاحية أوسع كثيرا من تلك التي تعتمدها أغلب الجيوش النظامية.
وفي حالة الحرب؛ كلما أصبحت الأمور أعقد وأصعب توجهت تلك الوحدات بصورة أكبر إلى النمط اللامركزي، للحفاظ على وتيرة القتال والاشتباك. بمعنى أوضح، في حال انقطاع الاتصال مع أي من نقاط القيادة، سواء العليا أو المحلية أو حتى قيادة الفرق، أو فقدان القدرة على الوصول إلى الإمدادات، فإن جنود الوحدات الأصغر مدربون على التعامل بشكل مستقل تماما، لتحقيق الأهداف الإستراتيجية للحرب.
فقدان القادة ليس السبب الوحيد الذي يدفع المقاومة للتمسك ببعض سمات القيادة اللامركزية، بل ثمة أسباب أخرى تجعل التنظيمات التي تمتلك عددا أقل من الجنود وكمًّا أقل تطورا من العتاد تتجه بصورة أوسع نحو اللامركزية عندما تواجه جيشا نظاميا. أول تلك الأسباب يتعلق بأفضل استثمار للموارد وهو ما يتطلب العمل بشكل مستقل من دون انتظار أوامر من قيادة مركزية باستغلال الفرص، والتكيف مع الظروف المتغيرة، والاستجابة للتهديدات في الوقت المناسب.
كما أن طبيعة الحروب غير المتماثلة تفرض على المقاومة التصرف بسرعة في سياق ما هو متاح لديها من بيانات وأدوات، لأن الهدف هو التحكم في بدء العمليات الخاطفة وإنهائها، وهذا هو بالأساس جوهر الحرب غير النظامية، حيث تتمكن القوة الأضعف نسبيا من تحقيق أفضل استثمار ممكن فيما هو متاح من أدوات لإيقاع الخسائر في صفوف القوة الأقوى تقنيا، من دون الاضطرار لمواجهات مباشرة مع تقنيات أعلى كفاءة، كالدبابات والطائرات.
ولنأخذ مثالا من أرض الواقع، وهو الهجمات التي تندرج تحت مفهوم الكمين والإغارة، وهو التكتيك العسكري الذي تتبعه أغلب عمليات المقاومة بعد الشهور الأولى من الاجتياح البري، فرغم أن هجمات كتائب القسام من هذا النوع باتت أكثر تطورا وتعقيدا وتركيبا، من حيث استخدامها لأسلحة متنوعة وتعدد جهات الاشتباك، إلا أنها تظل معتمدة بشكل كبير على قيام مجموعة صغيرة من المقاتلين ببناء خطة سريعة لاستهداف فرقة تمر في هذا المكان أو ذاك في لحظة محددة.
ولا تنتهي الأمور عند هذا الحد، فبمجرد أن ترفع كتائب القسام من معدلات هذا النوع من العمليات فسوف يتكيف الاحتلال بالتبعية مع ذلك عبر زيادة عدد دوريات المراقبة والاستطلاع في مناطق التوغل والارتكاز، ومن ثم تتكيف الكتائب مجددا عبر تحويل تكتيكاتها ناحية خطوط الإمداد، وإذا أعاد الاحتلال التكيف مع ذلك بزيادة حراسة خطوط الإمداد، يكون قرار المقاومة بالتحول بينهما حسب المعطيات الميدانية، وبالتالي تفيد اللامركزية بشكل أكبر في هذه الحالة، وتنتج درجة أعلى من إرهاق قوات العدو وتشتيتها.
إلى جانب ذلك، تستطيع الوحدات الصغيرة المستقلة أن تبتكر وتستخدم تكتيكات فريدة ومحلية مصممة كي تناسب بيئات محددة أو تستهدف نقاط ضعف العدو التي ظهرت في سياق حدث بعينه، مما يجعلها أقل قابلية للتنبؤ من طرف العدو.
ويحدث هذا عندما تدرك قيادة المقاومة أن قواتها المحلية تتمتع بفهم أفضل للتضاريس والسكان وديناميات البيئة الخاصة بها، وهو أمر بالغ الأهمية في الحرب غير النظامية ويمثل مركز ثقل الطرف الأقل عددا وقوة، والواقع أن الحرب الحضرية تخدم المقاوم دائما فهو أدرى بالمنطقة من المهاجم المحتل، وبالتالي يمكنه توجيه المعارك إلى حيث يريد، في منطقة قد تمثل بحد ذاتها تحديا لقوات الاحتلال، خاصة مع اعتماد المقاومة لتكتيك الأنفاق، كتكتيك مساعد في عمليات الإغارة والكمائن، مما يعطي طبقة إضافية من تعقيدات التضاريس ويمنح المقاومة مقدرة هجومية دفاعية وقدرة على الانسحاب السريع.
في غضون ذلك، تقنيات الاتصالات الحديثة تسمح لهذه الوحدات الأصغر بالبقاء على اتصال مع بعضها البعض، وتنسيق الحملات الأكبر بالتوازي مع الاستمرار العمل بشكل مستقل، وهنا يمكن أن تستخدم الوحدات اللامركزية مبدأ آخر من مبادئ التكتيك العسكري هو التحشيد، حيث تتقارب المجموعات الصغيرة من مواقع مختلفة تجاه هدف واحد.
والمحصلة؛ أن هذه المنهجية تزيد من احتمالية النجاح مع تشتيت الوحدات المهاجمة، وتصعب على الخصم التنبؤ بمسار العمليات مما يحرمه فرصة تركيز جهوده الدفاعية. ولنأخذ مثالا من الرياضيات؛ في إطار نظرية الاحتمالات، إذا كانت هناك عملة واحدة فاحتمال أن تصبح صورة أو كتابة هو 50، لكن إن كانت هناك عملتان فإن احتمالية أن تنتج كلتاهما معا صورة أو كتابة تنخفض إلى 25، وإذا زاد عدد العملات ستنخفض النسبة أكثر، كذلك فإن القوات الصغيرة المُهاجمة من اتجاهات متعددة ترفع من نسبة عدم اليقين، ما يتسبب في الضغط على العدو حتى مع وجود فارق قوة لصالحه.
في ورقة تحليلية صدرت عن مؤسسة أكليد ACLED المختصة بدراسة بيانات مناطق الحرب، تبين أنه حتى أغسطسآب 2024 كانت كتائب القسام تدير 17 جبهة قتال ضد جيش الاحتلال في مناطق متفرقة من غزة، ما بين الشمال والجنوب، ورغم أن قدرة المقاومة قد انخفضت من ناحية عدد العمليات والقدرة على صد التوغل، إلا أنها رغم ذلك حققت عددا من النتائج النوعية، بسبب التحول الواضح نحو تكتيكات حرب العصابات منذ منتصف 2024.
ظهر ذلك في تركيز المقاومة، بصورة أساسية، على نصب الكمائن وتفجير الألغام الأرضية والمباني وفتحات الأنفاق عندما اقترب الجنود الإسرائيليون من المواقع المستهدفة. وترجح الورقة أن شبكة الأنفاق لا تزال تعمل في العديد من المناطق وقد لعبت دورا مهما في تمكين مقاتلي المقاومة من الكر والفر.
بدورها، رصدت صحيفة وول ستريت جورنال، في تقرير نُشر في مايوأيار الماضي، نقاط ومحاور الاشتباك التي لا تزال تبدي فيها قوى المقاومة في غزة فاعلية ميدانية، ويوضح التقرير أن مقاتلي القسام باتوا يميلون لاستخدام تكتيكات حرب العصابات مقابل التكتيكات النظامية بدءا من منتصف عام 2024، كما أن الانتشار الواسع لوحداتهم في غزة يجعل شبكة القتال الخاصة بهم كبيرة ومتعددة العقد، ولا تزال نشطة على مساحة ليست قليلة.
هذا من شأنه، بحسب الصحيفة، أن يحيل حرب إسرائيل في غزة إلى حرب أبدية لا تقف أبدا، لأنه ببساطة لا يمكن قطع رأس النمر إذا لم يكن له رأس، وحتى مع نجاح الاحتلال في السيطرة على منطقة ما، سيضطره ذلك لخفض المجهود الحربي في مناطق أخرى، وسيسمح ذلك بالتبعية بظهور مقاتلي المقاومة مرة ثانية واستمرارهم في تنفيذ المهام المنوطة بهم، حتى مع عدم القدرة على التواصل مع الرفاق أو القيادة في مناطق أخرى، وفي أثناء ذلك سيبدون تكيفا أعلى مع البيئة المتغيرة جدا في محيطهم، ما يجعل إسرائيل تعلق في مستنقع الحرب من دون أفق للنهاية. | https://www.aljazeera.net/politics/2024/10/23/%d8%a7%d9%84%d8%a5%d8%a8%d8%a7%d8%af%d8%a9-%d8%a8%d9%84%d8%ba%d8%aa-%d8%b0%d8%b1%d9%88%d8%aa%d9%87%d8%a7-%d9%81%d9%8a-%d8%ac%d8%a8%d8%a7%d9%84%d9%8a%d8%a7-%d9%84%d9%83%d9%86 | 2024-10-23T20:59:03 | 2024-10-24T13:22:25 | أبعاد |
|
62 | كيف طوَّر حزب الله مسيراته لمستوى يهدد إسرائيل؟ | هذه الضربة ليست الأولى ولن تكون الأخيرة، وما زالت التحليلات لحجمها وقدراتها على اختراق الدفاعات الإسرائيلية مستمرة، لكن لفهم مدى عمق تأثير حزب الله يجب أن نرجع بالتاريخ 20 سنة تقريبا للوراء. | كشفت إذاعة الجيش الإسرائيلي عن أن التحقيقات الأولية حول حادثة استهداف طائرة مسيرة تابعة لحزب الله اللبناني قاعدة عسكرية قرب بنيامينا توضح أن الدفاعات الجوية الإسرائيلية رصدت المسيرة قرب نهاريا وتم تفعيل صفارات الإنذار. لكن، كما توضح هذه التحقيقات، فقد فقدت الدفاعات الجوية أثر المسيّرة بعد ذلك، لتنجح في الوصول إلى قاعة الطعام في معسكر تابع للواء غولاني وتنفجر، مما أسفر عن مقتل 4 جنود إسرائيليين وإصابة 67، منهم 7 بحالة خطيرة.
ونقلت صحيفة يديعوت أحرونوت عن التحقيقات الأولية أن المسيرة المستخدمة بالهجوم من طراز شاهد 107، في حين قالت مصادر أخرى إنها من طراز مرصاد التي يتراوح مداها بين 150 و200 كيلومتر.
هذه الضربة ليست الأولى ولن تكون الأخيرة، وما زالت التحليلات لحجمها وقدراتها على اختراق الدفاعات الإسرائيلية مستمرة، لكن لفهم مدى عمق تأثير حزب الله يجب أن نرجع بالتاريخ 20 سنة تقريبا للوراء، تحديدا مع أول رحلة لمسيرات حزب الله داخل المجال الجوي الإسرائيلي لأغراض الاستطلاع في نوفمبرتشرين الثاني 2004، الأمر الذي فاجأ المخابرات الإسرائيلية وقتها.
حلَّقت مرصاد-1 نهارا أعلى الجليل الغربي لمدة 20 دقيقة تقريبا، ثم عادت إلى لبنان قبل أن تتمكن القوات الجوية الإسرائيلية من اعتراضها. وقتها أعلن حزب الله أن مرصاد يمكن أن تصل إلى أي عمق داخل إسرائيل مع 40-50 كيلوغراما من المتفجرات.
كانت الرحلة الثانية عبارة عن توغل قصير بعمق نحو 25 كيلومترا في أبريلنيسان 2005 بالمسيرة نفسها، التي أفلتت من الرادار الإسرائيلي وعادت إلى لبنان قبل أن تتمكن الطائرات المقاتلة الإسرائيلية من اعتراضها، تلتها مهمة ثالثة في أغسطسآب 2006 أثناء حرب لبنان، لكنها هذه المرة لم تستهدف الاستطلاع فقط، بل كانت مسيرات هجومية من طراز أبابيل على إسرائيل، كلٌّ منها تحمل 40-50 كيلوغراما من المتفجرات.
في تلك الفترة، كانت المسيرات القادمة من لبنان صغيرة الحجم، تتحرك ببطء نسبيا، وكانت تمضي على ارتفاع منخفض، وبالتالي كان من الصعب اكتشافها بواسطة الرادار، من شأن الارتفاع المنخفض أن يحد من الكشف، لأنك كلما اقتربت من الأرض ازدادت الفوضى الراديوية بسبب النشاط البشري والظروف البيئية.
كان الظهور التالي لطائرة بدون طيار تابعة لحزب الله في أكتوبرتشرين الأول 2012 بمنزلة مفاجأة مذهلة، لأن مسيرات حزب الله سافرت جنوبا من لبنان فوق البحر الأبيض المتوسط، وتحركت لمسافة 50 كيلومترا في النقب أكثر من 200 كيلومتر مجمل الرحلة، واخترقت نقطة بالقرب من بلدة ديمونا، موقع مجمع الأسلحة النووية الإسرائيلي، وهناك أسقطتها طائرات إسرائيلية، لكن عند فحص الحطام تبين أن هناك احتمالا أن تكون الطائرة بدون طيار قد نقلت صورا لمركز الأبحاث النووية.
في ورقة صدرت عام 2014 من اتحاد العلماء الأميركيين، يقول الباحثون إن مسيرات حزب الله ستؤدي مستقبلا مهام الاستطلاع لجمع المعلومات عن تحركات القوات والمرافق، استعدادا لعمليات التسلل أو الهجمات الصاروخية في المستقبل، ومعايرة دقة استهداف الصواريخ في الوقت الحقيقي، وبمجرد تطوير الطائرات لنقل حمولات أثقل، تصبح المسيرات منصات إطلاق للصواريخ الموجهة أو القنابل.
ما توقعته الدراسة حصل بالفعل، ذلك لأن أي قارئ لتاريخ تطور المسيرات في يدي حزب الله سيستنتج فورا أن المشكلة ليست في أن نقارن بين قدرات سلاح المسيرات التابع لحزب الله مع التابع لإسرائيل، ولكن في التسارع الواضح لاعتماد حزب الله على المسيرات، وتطويرها لمستوى أسرع حتى من توقعات الإسرائيليين.
ركَّز حزب الله على تطوير المسيرات في نطاقات بعينها، مثلا استيراد وتطوير كاميرات وأجهزة استشعار أدق مع الزمن، حيث يمتلك حزب الله حاليا كاميرات بصرية دقيقة وكاميرات تعمل بالأشعة تحت الحمراء، مما مكَّنها من إجراء مراقبة أكثر دقة وجمع معلومات استخباراتية عالية الدقة، وهذا أمر بالغ الأهمية لمراقبة تحركات العدو وتحديد الأهداف.
في 2006، ربما لم يتخيل أحد أنه في يونيوحزيران ويوليوتموز 2024 سيتمكن حزب الله من اختراق الداخل الإسرائيلي، ثم نشر مقاطع مصورة طويلة نسبيا تتضمن مسحا دقيقا لمناطق عسكرية بشمال إسرائيل الفيديو الأول، ومشاهد استطلاع جوي لقواعد استخبارات ومقرات قيادية ومعسكرات في الجولان السوري المحتل المقطع الثاني، قال الحزب إن مقطع الفيديو صوّرته مسيّرات تابعة له تمكنت من تجاوز وسائل الدفاع الجوي للعدو، وعادت من دون أن تتمكن وسائله من كشفها، وتضمنت المشاهد التي وردت في الفيديو الأول والثاني مواقع إسرائيلية حساسة.
مسيّرة الهدهد التي قامت بهاتين العمليتين تحتوي على 8 محركات، وفي كل جناح 3 مراوح، وتبلغ سرعتها القصوى 70 كيلومترا في الساعة، ولها القدرة على الإقلاع والهبوط العمودي دون الحاجة إلى مدرج، وهي عبارة عن طائرة كهربائية لا تتضمن بصمة حرارية أو صوتية، يبلغ طولها نحو 150 سنتيمترا، وطول جناحها 190 سنتيمترا، ما يخفض من قدرة الرادار على رصدها، خاصة أنها ذات صوت ضعيف وقدرات على التخفي. تستطيع الهدهد التحليق لمدة ما بين ساعة وحتى 90 دقيقة، لمسافة 30 كيلومترا.
إلى جانب ذلك، تمكَّن حزب الله من امتلاك مسيرات ذات جودة عالية في أنظمة الاتصالات، مما يسمح بنقل البيانات في الوقت الفعلي إلى مراكز قيادة حزب الله، وبالتبعية فإن ضرب المسيرة بعد اكتشافها لا يمنع نقل البيانات، كما أن هذه القدرة حيوية لاتخاذ القرارات في الوقت المناسب، وخاصة مع الضربات المنسقة، وهو أمر سنتحدث عنه بعد قليل.
كما قام حزب الله بتعديلات عدة لزيادة مداها التشغيلي، مما يسمح لها بالوصول إلى عمق أراضي الاحتلال، وهذا ينطوي على تحسينات في كفاءة الوقود والديناميكا الهوائية الخاصة بالمسيرات، ومن خلال تحسين عمر البطارية وتخزين الوقود، يمكن لمسيرات حزب الله بدون طيار الآن البقاء في الهواء لفترات طويلة، وإجراء مهام مراقبة مطولة أو انتظار اللحظة المناسبة للضرب.
وبالإضافة إلى ذلك، صُممت بعض مسيرات حزب الله الأحدث بحيث يكون لها مقطع عرضي راداري أقل، مما يجعل من الصعب اكتشافها بواسطة أنظمة الرادار الإسرائيلية، وهذا يعزز من قدرتها على البقاء في المجال الجوي الإسرائيلي لفترات طويلة، وهو ما اتضح في حالة الهدهدين.
وإلى جانب قدرات المراقبة، يركز حزب الله على تسليح مسيراته بالمتفجرات، وتحويلها إلى مسيرات انتحارية يمكن توجيهها نحو هدف وتفجيرها عند الاصطدام به، مما يتسبب في أضرار جسيمة، خاصة أن المسيرات الأحدث لديها أنظمة توجيه محسنة، مما يسمح بضربات أدق على أهداف محددة، وهو أمر مفيد خصوصا في الحرب غير المتكافئة، تلك التي يستهدف من خلالها حزب الله إيقاع أكبر قدر ممكن من الخسائر على إسرائيل مقابل أقل قدر ممكن من التكاليف.
حاليا يمتلك حزب الله مجموعة متنوعة من المسيرات، بما في ذلك مرصاد-1 مداها 200 كيلومتر، وأيوب مشتق من شاهد-129 الإيرانية بمدى يزيد على 1600 كيلومتر، كما يمتلك حزب الله مسيرات انتحارية استخدمها في الهجمات المتتالية على إسرائيل، ومن المحتمل أن يطغى إطلاق عدد كبير منها على قدرات القبة الحديدية.
ويبدو أن حزب الله يقترب من تلك النقطة، حيث يقدر مركز ألما للأبحاث الإسرائيلي عام 2021 أن حزب الله يمتلك ما يزيد على 2000 من الطائرات المسيرة متعددة المهام. وفقا للتقرير، كان حزب الله يمتلك 200 مسيرة في عام 2013؛ وبمساعدة من إيران زاد حزب الله من أسطوله بشكل كبير، سواء عبر استخدام مسيرات إيرانية مباشرة، أو إطلاق نسخ جديدة مستوحاة منها، أو تطوير التكنولوجيا الخاصة بالمسيرات داخليا.
إسرائيل على الجانب الآخر لم تتجهز بالشكل المناسب لهذا التسارع كما يبدو، فمثلا في مايوأيار الماضي 2024، شنَّت جماعة حزب الله واحدة من أعمق ضرباتها على إسرائيل، وقدمت ضربة مباشرة لأحد أهم أنظمة مراقبة سلاح الجو الإسرائيلي. وتعليقا على ذلك، قال فابيان هينز، زميل الأبحاث في المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية، إن قدرة حزب الله على استخدام المسيرات تُعَد تهديدا يجب أن يؤخذ على محمل الجد، وفي حين بنت إسرائيل أنظمة دفاع جوي، بما في ذلك القبة الحديدية للحماية من ترسانة حزب الله من الصواريخ والقذائف، كان هناك تركيز أقل على تهديد الطائرات بدون طيار.
وقال تقرير صادر عن معهد دراسات الأمن القومي، وهو مركز أبحاث مستقل تابع لجامعة تل أبيب، إن هذا الهجوم أظهر تحسنا في الدقة والقدرة على التهرب من الدفاعات الجوية الإسرائيلية، ومنذ بدء القتال في أكتوبرتشرين الأول 2023، استخدم حزب الله المسيرات بشكل أكبر لتجاوز أنظمة الدفاع الجوي الإسرائيلية وضرب مواقعها العسكرية على طول الحدود، وكذلك في عمق إسرائيل.
وأكد معهد أبحاث الأمن الإسرائيلي قبل عدة أسابيع أن حزب الله بدأ استخدام طائرات مسيّرة يمكنها إطلاق صواريخ وأخرى تجمع المعلومات، وسط مخاوف إسرائيلية من تزايد استخدام الحزب للمسيّرات التي يتعذر على النظام الدفاعي الجوي مواجهتها، وفي هذا السياق تتزايد المخاوف في إسرائيل من إطلاق سرب من هذه المسيّرات فجأة، الأمر الذي يسهل اختراق القدرات الدفاعية لإسرائيل.
لكن حزب الله لا يستخدم المسيرات منفردة في ضرباته الكبرى، بل يدمجها مع الصواريخ. تنوع المنتجات الهجومية الجوية هو هدف أساسي لدى حزب الله، ويُمثِّل سمة مميزة لبرنامجه العسكري، وهو التركيز على العمليات المشتركة، وقد استُخدم هذا التكتيك بالفعل في الضربة الأخيرة، حيث أفاد الحزب بأن هجماته تضمنت ضربات بأنواع مختلفة من الصواريخ والمسيرات، وقد رُصد وجود هذا التكتيك في أكثر من عملية، منها العمليات التي تلت طوفان الأقصى في السابع من أكتوبر.
عمليات الأسلحة المشتركة هي أسلوب قتالي يسعى إلى دمج الأسلحة القتالية المختلفة لتحقيق تأثيرات تكاملية متبادلة، حيث تضرب الأسلحة المشتركة الخصم بعدة أذرع في وقت واحد، فمثلا يمكن استخدام الطائرات المسيرة لمهاجمة رادارات الدفاع الجوي في المراحل الأولى من هجوم كبير، هنا ستتحول قدرات الدفاع الجوي الأخرى لصد هجوم المسيرات، لكن تليها ضربات صاروخية باليستية وأخرى بصواريخ كروز موجهة ويمتلك حزب الله بالفعل نسخا منهما، فلا تتمكن الدفاعات من صدّها جميعا، خاصة مع اختلاف تكتيكات عمل كلٍّ منها.
وعادة ما تعمل المسيرات نفسها في أسراب تكتيكية يمكن أن تشتت قدرات أنظمة الدفاع الجوي وتتجاوز حدود قدرتها على الصدّ، وتعطل الاتصالات والخدمات اللوجستية. وعلى سبيل المثال، ففي سيناريو الحرب، سيعمل فريق من المسيرات على تدمير أنظمة الدفاع الجوي وتمهيد الطريق لسلسلة من المسيرات الأخرى للتوغل في أراضي العدو، في حين تقوم فرقة ثالثة من المسيرات بالاستطلاع ودراسة الضربة.
وفي دراسة صدرت في 2022، يوضح جيمس روجرز، أستاذ الدراسات الحربية بجامعة جنوب الدنمارك، أن هذه الهجمات المشتركة تهدف إلى التغلب على دفاعات الخصم بطريقة متطورة من الناحية التكتيكية والتقنية، ويشير روجرز إلى أنه في حال التمكن من إيقاف تلك الهجمات الآن، فإنه في مرحلة ما، ومع وقوع مسيرات أكثر تقدما في أيدي جهات مثل الحوثيين، وقدراتهم على إعادة إنتاجها أو ابتكار الجديد منها، سيكون من الصعب جدا إن لم يكن من المستحيل مواجهة تلك الهجمات.
هذا بالضبط هو أحد أهم الأسباب التي دفعت حزب الله منذ البداية للتركيز على حرب المسيرات، فالفرصة لتطويرها مفتوحة تماما مع زيادة توافر تكنولوجيا المسيرات التجارية، ومنظومات تحديد الموقع الجغرافي، وتطبيقات التحكم في نشر المسيرات، وأجهزة إرسال واستقبال التردد القابلة للتعديل. يفتح ذلك الباب لاستيراد وتطوير تكنولوجيا، رخيصة نسبيا وسهلة في الحصول عليها، باتت يوما بعد يوم تُمثِّل تحديا للتفوق الجوي للطائرات المقاتلة في حرب غير متكافئة ضد جيش متقدم في العدد والعتاد.
بالنسبة لجماعات مثل حزب الله، فإن هدف الاستثمار في المسيرات مختلف عن قدرات الجيوش التقليدية، فالأخيرة تستثمر في المسيرات بوصفها جزءا من سلاحها الجوي الذي تُمثِّل المقاتلات قمة هرمه، أما بالنسبة للحوثيين فإن المسيرات هي قمة سلاحها الجوي، ومن ثم فإنها تعمل على تطويره بكل السبل الممكنة، واستخدامه بأكثر الأساليب فاعلية.
ويوضح روجرز في دراسته أن ذلك ليس إلا خطوة أولى، فيوما بعد يوم ستزيد من مرونة أنظمة المسيرات وقابليتها للأتمتة، أي أن تصبح مستقلة وقادرة على التعامل بشكل منفصل عن وحدة التحكم البشرية بصورة كاملة أو شبه كاملة، ويعتقد روجرز أنه بحلول عام 2040 فإن الجماعات، مثل حزب الله أو الحوثيين أو غيرها، ستتمكن من أتمتة مسيراتها، بالنظر إلى التطور المحتمل للذكاء الاصطناعي وخوارزميات التعلم الآلي، الأمر الذي يفتح الباب بدوره إلى مرحلة تهديدات المسيرات كاملة الطيف، ما يعني أن المسيرات التي تمتلكها جماعات كتلك لن تكون جوية فقط، بل أرضية وبحرية.
يعي المخططون ذلك في عدة جبهات مثل حزب الله، وكلٌّ منهم يستخدم ما هو متاح من تكنولوجيا وأدوات، سواء بالابتكار المحلي أو الاستيراد من الأصدقاء، ليحقق أقصى استفادة ممكنة من سلاح المسيرات، وهو يعلم أن طريقها للتطوير مفتوح تماما. ولذا فإن النجاح الجزئي الذي حققته الضربة الأخيرة ليس إلا خطوة أولى في خط سير طويل. | https://www.aljazeera.net/politics/2024/8/26/%d9%85%d8%a7-%d9%8a%d8%b9%d8%b1%d9%81%d9%87-%d8%a7%d9%84%d9%87%d8%af%d9%87%d8%af-%d9%83%d9%8a%d9%81-%d8%b7%d9%88%d8%b1-%d8%ad%d8%b2%d8%a8-%d8%a7%d9%84%d9%84%d9%87 | 2024-08-26T04:57:28 | 2024-10-15T02:14:51 | أبعاد |
|
63 | أميركا التي لم يُخلق مثلها في البلاد | حوار عميق بين صديقين عن كيف تصعد وتنهار القوى العظمى. حتى متى ستتربع الولايات المتحدة على عرش العالم؟ | يا إلهي كم لبثنا؟، شهق وهو ينظر في قائمة الأسعار. كنت اعتدت هذا الردّ ممن كان آخر عهده بتركيا شهرين من الزمن، فما بالك بمن غاب عنها خمس سنوات.
لقد تراجعت قيمة العملة، وزاد التضخم، وبما أن تخصصك الاقتصاد، فأنت تعلم أنها كلها مصطلحات فنية لإخفاء الحقائق السياسية التي نعيشها، قلتُ له.
سأل باستهجان وما هي هذه الحقائق؟.
كان صديقي يعرف إلى أي نقطة أريد الذهاب بالحوار، لكنه -بطبيعة الحال- لم يكن متفقا معي.
قلت له من يملك حق طبع الدولار يستطيع سرقة مدخرات العالم كله. أعرف أن ثمة نقاشًا كبيرًا حول السياسات الاقتصادية الداخلية لكل بلد يعاني من أزمات اقتصادية، لكن وسط احتشاد المصطلحات الفنية تضيع الحقائق الصلبة. يا صاحبي، هناك من يسرقنا ليمول إنفاقه الهائل على تكاليف البقاء في القمة.
هذا منطق السوق المفتوح، عليك أن تتحمل خسائره مثل ابتهاجك بمنافعه، قال لي بشكل مقتضب مصحوب بالتذمّر.
ربما يكون غوته هو الذي قال لا يكون المرء في البداية، ضد شيء، أشد مما هو ضد أغلاط تخلّى عنها، لكن الأكيد أن صديقنا هذا، الذي سيبدو لكم من أشد المدافعين عن النموذج الأميركي لرؤية العالم، كان يساريا قبل أن يسافر إلى أميركا منذ خمس عشرة سنة.
هذه هي أميركا. قادرة على صدم الناس بعد زيارتها، فلا يعودون كما كانوا قبل دخولها؛ إما أن يعودوا على طريقة أميركا التي رأيت فيتحمسون لكل ما هو ضدها، وإما أن تقنعهم بنفسها فينفرون من كل ما هو ضدها. وصديقنا -كما هو بادٍ لكم- كان من الصنف الثاني.
لم يكن الموضوع الاقتصادي هو الذي يشغلني، مع معرفتي التامة أنه لا يمكن فهم كلمة واحدة من الاقتصاد دون وضعها في إطارها السياسي العام، ومن ينسون هذه الحقيقة البدهية ينتهي بهم الأمر كموظفي تسويق بدون رواتب لصالح الرأسمالية
وعليك أن تتذكر، يا من تطلع على حوارنا هذا، أن الاقتصاد مثل كافة العلوم الإنسانية؛ وجهات نظر، وذلك على الرغم من هيبة العلوم البحتة التي تبدو عليها الأرقام.
ستتساءل لماذا إذن افتتحت النقاش بالبعد الاقتصادي؟ في الحقيقة، كان هدفي التأكد من الذي بقي لدى صديقنا من ماضيه. ومن جملة واحدة، أصبح جليا لي، أن شبح ماركس عنده، قد اختفى تحت تأثير الإنارة الفائقة لـالمدينة المنيرة على الجبل.1
وسأعلن لك نيّتي منذ البداية. إن حواري مع صديقي، يدور في فلك مسألة البقاء في القمة، إنه تساؤل واحد لا غير، لكنه شديد التشعب هل نشهد نهاية العصر الأميركي فعلًا، أم أننا نشاهد رغباتنا في نهاية العصر الأميركي؟
كان صديقي منشغلا بقراءة قائمة الطعام، أو بالأحرى، بمقارنة الأسعار مع آخر مرة زار فيها تركيا، وكنت أتفحصه من دون أن يشعر. كان شكله يبدو أميركيا بالفعل. وكنت قد سمعت ذات مرة، أن الطعام والأفكار بعد فترة من الزمن، يغيّران شكل الإنسان الخارجي، وهو ما يفسر تشابه شكل الأزواج بعد فترة.
قاطع استرسال أفكاري عن العلاقة بين مظهره وأكله وفكره، وقال لي وهو ما زال محدقا في الأسعار سأخبرك نكتة راجت في نهاية القرن التاسع عشر في أميركا ثلاثة رحالة أميركيين كانوا يشربون نخب بلدهم في حضور مستضيفهم الأجنبي.
قال الأول هذا النخب لأميركا التي تحدها شمالا كندا، وجنوبا المكسيك، وشرقا المحيط الأطلسي، وغربا المحيط الهادئ. قال الثاني لا، هذا نخب أميركا التي يحدها من الشمال القطب الشمالي، ومن الجنوب القطب الجنوبي، ومن الشرق شروق الشمس، ومن الغرب غروب الشمس. قال الثالث أقدم لكم أميركا التي يحدها من الشمال الشفق القطبي الشمالي، ومن الجنوب اعتدال الأيام والفصول، ومن الشرق الفوضى البدائية، ومن الغرب يوم الحساب ثمّ أخذ بدنه يهتزّ من دون أن يصدر منه صوت ضحك، كأنه يريد أن يعطي انطباعًا بأنها نكتة نخبوية، إن لم تُضحكني فهذا لقصور في فهمي.
وبغض النظر عن أنها لم تكن نكتة مضحكة بالفعل، فإنها معبرة عن ثلاث دفقات من الطموح الأميركي الذي كلما التهم قسطا من الأهداف، صار يحلم بالمزيد منها.
قلت لصديقنا في الواقع، هذا قانون طبيعي لكل المشاريع الجادة والحالمة، تبدأ عادة بالخطوة الأولى حسم الهيمنة على النطاق المحلي؛ وهو الذي تجلى في حالة أميركا في ثلاث مسائل إبادة السكان الأصليين بالبارود والأمراض، ثم طرد البريطانيين، والحرب الأهلية التي قادها إبراهام لينكولن لتوحيد بلاده لمّا عارض الجنوب الأميركي المحافظ والزراعي مشروع إلغاء الرق. كان لينكولن -وفق تعبيره- يريد عاملا لديه أحلام، أما العبد فبلا أحلام، ولذا لا يصلح لتأثيث العالم الجديد. وهذا كان جوهر مشروع الشمال الصناعي، الذي حسم رؤيته بتكلفة نحو نصف مليون أميركي.
ثم لاحقا الخطوة الثانية حسم الهيمنة على النطاق الإقليمي؛ الذي تجلى بوضوح في قانون مونرو عام 1823، حاسما نفوذ أميركا على نصف الكرة الغربي، ومتدخلا بالقوة لمنع أي دولة منافسة من الوجود في إقليمها. ومع أن أوروبا سخرت منه في البداية، فإنه فيما بعد، ومع رئاسة فرانكلين روزفلت للولايات المتحدة، أصبح حقيقة واقعية.
أما الخطوة الثالثة فهي حسم الهيمنة على النطاق العالمي؛ وذلك حين أخذت الولايات المتحدة بالتنافس على ترتيب عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية 1941-1991.
حين وصلت إلى هذا الحدّ من الشرح، قاطعني صديقنا المحلي، الإقليمي، العالمي.. هذا يعني أن الطريق أمام العرب طويل جدا لكن دعني أسألك ألم يكن القرن العشرون قرنا أميركيا أيضا؟ صحيح أن أميركا كانت تخشى الاتحاد السوفيتي، لكنه كان يغذي تفوقها، يغذي سرديتها في قيادة العالم الحر، ولذا بعد انهياره، راحت أميركا من فورها تخترع بديلًا له ليكون نقيضا لها، فكان صدام حسين وأسامة بن لادن جاهزين للعب هذا الدور.
ثمّ أكملت على فكرته نعم، لقد قاتلت أميركا بكل قدراتها في القرن العشرين لحسم النطاق العالمي، وكانت التسعينيات تتويجا لهذا الحسم، وأنت تعرف، أنه بدلا من النمط القديم للإمبراطوريات، القائم على الاستعمار المباشر وبناء المستعمرات المكلفة، أخذت في بناء نظام قائم على المؤسسات والاتفاقيات التي تضمن المحافظة على نفوذها، وهذه كانت لا تقل أهمية عن قواعدها العسكرية التي نشرتها في كل مكان في العالم حتى بلغت 700 قاعدة.
وزدت على ذلك بل إن بعضهما يكمل بعضا، وكأن المؤسسات استمرار للحرب بوسائل أخرى، فالأمم المتحدة ضمنت لأميركا شكل الإجماع على قيادتها للنظام العالمي، أما البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، فكانا من أدواتها في التأكد من إعادة هيكلة الأسواق بما يضمن بقاءها ضمن نطاقها الاقتصادي، ويغري حلفاءها بالبقاء قريبين منها، محتاجين إليها على الدوام، وبنفس الطريقة التي عملت بها على خنق محيط الاتحاد السوفيتي، فإنها اليوم تعطل على الصين حسم إقليمها، بالتحالف مع تايوان والهند وغيرها.
هذا هو نموذج أميركا، الجمع بين الإخضاع عبر التحالفات، والتدخلات العسكرية المباشرة، فحيث لم تنفع الجزرة كانت تتدخل العصا. خذ مثلا تدخلها في قلب حكومة مصدق في إيران، ومنعها لصعود الأحزاب الشيوعية في غواتيمالا، وجمهورية الدومينكان، والبرازيل، وتشيلي، وبنما، والحرب في كوريا، ثم حربها التي خرجت منها على وقع ضربات فيت كونغ في فيتنام.
كان صديقي يسمع هذا، وهو معجب بالطريقة التي استطاع بها الأميركان السيطرة على العالم، وينتظر النقطة التي سيختلف معي فيها.
ولك أن تتخيل، أن البلد الذي يسيطر على العالم، يشكّل 5 من حجم السكان. وأنه كذلك، منذ 250 سنة من عمره لم يعش إلا 30 سنة منها في سلام، فهو على الدوام، إما في معركة، أو أنه يعد لأخرى. ليس سهلا أن تقود العالم بدولة كهذه، قلت له.
وأضفت أنت تعرف أن الأميركان أنفقوا 916 مليار دولار في العام المنصرم على الدفاع العسكري، وهي النسبة العليا في العالم2، وتزيد على ما تنفقه بقية القوى العظمى على الدفاع مجتمعة. هذه نقطة قوة، صحيح، ولكنها في الوقت نفسه نقطة ضعف. كان بول كيندي الذي فجر دراسات تراجع أميركا قد ذهب إلى أن الإمبراطوريات الكبرى في التاريخ، ابتداءً من الرومانية وحتى البريطانية، تسقط تحت وطأة التكلفة الاقتصادية العالية نتيجة إنفاقها العسكري مشكلة التمدد الزائد Overstrech، وعلينا أن نلاحظ كما لاحظ فيرغسون أن دين الولايات المتحدة تجاوز 110 من دخلها القومي، وهذا أعلى مما عرفته بريطانيا في نهاياتها.
هنا، أمسك صديقي مقصًّا وقطع به حبل أفكاري، معلنًا العودة إلى الخلاف. انهيار أميركا.. انهيار أميركا، آه؟، ثم ألقى على الطاولة بابتسامة خفيفة. هذا يشبه اعتبار كل ارتفاع لدرجة الحرارة في الجسم، علامة على قربه من الموت.
سألت صديقنا بشكل مباشر قل لي، وأنت القادم من بطن الوحش، ألا تبدو آثار التراجع على الإمبراطورية الأميركية؟.
نظر إليّ، وبدا على محياه أنه سبق أن خاض هذا الحوار عشرات المرات من قبل هذا النقاش الذي سنخوضه الآن لن يختلف عن نقاش كان يجري في الخمسينيات من القرن العشرين. يمكنك أن تراجع وثيقة الأمن القومي الأميركي NSC في تلك الفترة، ستجد أنها تحذر من الفجوة المتزايدة بين القوة العسكرية لأميركا والتزاماتها بوصفها قوة عظمى، وأن هذه الفجوة إذا استمرت فمن شأنها أن تضع العالم الحر في خطر الانهيار في مواجهة الاتحاد السوفيتي. لقد كانت الوثيقة، تصوّر أن النظام الأميركي يواجه خطرا محدقا لم تعرفه أميركا من قبل.
دعني أسمعك هذا الاقتباس، قال لي، وتناول هاتفه، وراح يكتب على غوغل بعض الكلمات المفتاحية، ثم قال اسمع وبدأ يقرأ أمريكا هي قوة عظمى متدهورة وخائفة من أن تتورط في قضايا العالم الثالث، وأصبحت غير قادرة بوضوح على أن تفرض هيمنتها.... خمّن أي سنة قيلت هذه الجملة؟ تبدو كأنها قيلت الآن، أليس كذلك؟ إنها لماوتسي تونغ. قال ذلك، وانفلت منه الضحك، كأنه يسخر من تاريخه لا من الرفيق ماو
ستقول لي لقد خرجت أميركا مذلة من أفغانستان على يد مقاتلي طالبان وأنا لم أقل هذا، لكني كنت على وشك قوله فعلا، هذا صحيح، لكنها خرجت مذلة على يد المقاتلين الفيتناميين أيضا، وماذا حدث؟.
وأكمل كلامه كان عقد السبعينيات فظيعا، إذ فقد الاقتصاد صدارته، وتحول فائض التجارة إلى عجز تجاري، ونضبت الاحتياطات المالية. أتذكر، لقد قال كيسنجر وقتها ناعيا التجربة برمتها إنها الذروة لحضارتنا... والتاريخ ليس إلا حكاية الجهود الفاشلة للبقاء. إنه عقد الأزمة الأكبر، فقد شهد استقالة أول رئيس بسبب فضيحة ووترغيت، وارتفاع مفزع لأسعار النفط نتيجة استخدامه سلاحًا ضدها، وهو الذي ترك شعورا بالمهانة وخوفا على المستقبل لدى الأميركيين. في تلك الأوقات، كتب كارتر في مذكراته إن الشعب الأميركي كان في غاية الأسى من أن أزمة أمته العظمى على وجه الأرض قد سببتها دول صحراوية، في إشارة إلى السعودية وإيران. ماذا كانت نتيجة كل هذا؟ ها أخبرني؟.
قال وكأنه يعلن النتيجة للمرة الأولى انهيار الاتحاد السوفيتي.
ولم يقف عند هذا الحد، بل أضاف والصين كذلك، تغيّرت بعد أن تعلمت الدرس، فتخلت عن صلابتها الأيديولوجية ودخلت في منطق النظام العالمي الذي صممته أميركا. من يبشرون اليوم بصعود الصين لا ينتبهون إلى أنها تصعد على درجات سلم صممته أميركا.
يا صديقي، لقد انفردت أميركا في التسعينيات؛ موسعة الناتو شرقا، ودافعة معظم العالم لتبني إجماع واشنطن، وكتب العديد من الكتاب شتما لفوكوياما عندما أعلن نهاية التاريخ. النموذج الليبرالي انتصر في السياسية والاقتصاد، لقد أوسع الجميع هذا النموذج شتما، لكن كلهم في قرارة أنفسهم كانوا يصدقونه، مشاعرهم تصدقه، والأهم سلوكهم اليومي يصدقه.
ولمّا قال هذه الخلاصة، نظر إليّ، فأحس بتصنيف له قد اختمر في ذهني، فلم يصبر عليه حتى استدرك اسمع، لا أريد أن أبدو بمظهر عبد المنزل وكل هذه التصنيفات الجاهزة، أنا فقط أحاول أن أكون واقعيًّا، من يتجاهل حقيقة أن السماء تمطر في الخارج، تفاؤلًا بصفاء الطقس، لن يجني لنفسه إلا البلل.
أنت استشهدت منذ قليل بكاندي، أليس كذلك؟، سألني ولم ينتظر الإجابة.
دعني أقل لك، إن أدبيات أفول الغرب قديمة جدا، كل أزمة ستجد خلالها العشرات من المقالات والكتب التي تبشر بتراجع ليس فقط أميركا بل السيطرة الغربية برمّتها... صدّقني، ثمة الكثير من التفسير الرغبوي في كل هذا. الكثير من المتضررين من السيطرة الأميركية في العالم يعتقدون أن كل مؤشر للتراجع يشبه بالضرورة قطعة الدومينو، التي تشتغل بمنطق حتمي نحو الهاوية.
يمكن أن تتراجع في سنوات وتتقدم بعدها، تتعرض لأزمات وتخرج منها أقوى، يتعرض شكل سيطرتك لتحدٍّ فتعيد تكييفه، وهو ما قد يبدو للبعض ضعفا، لكن من يفهم فضيلة المرونة، لا يمكنه إلا أن يعجب بالطريقة التي ينجو بها هذا النظام باستمرار.
صمت هنيهة فهممت بأخذ دوري في الحوار، لكني رأيت عينيه كأنهما تتأملان ما قال، استعدادًا لعودة لسانه إلى الانطلاق مرّة أخرى، فأدركت أني إذا تكلمت لن أتكلّم إلا لنفسي، فآثرت احترام سكوته، وفعلًا، ما هي إلا ثوانٍ حتى عاد وانطلق لقد عانت أميركا أزمات اقتصادية حادة في عقود 1890-1930-1970 واستطاعت بعدها أن تعود أقوى مما كانت، والآن ما زلنا نعاني من تبعات أزمة 2008، لدينا سنوات من الركود والنمو المتباطئ، هذا صحيح، لكن المركز الاقتصادي للولايات المتحدة لم يتغير. انظر آخر أربعة عقود، ستجد نفسك أمام الحصة نفسها، ربع الإنتاج العالمي هو من نصيبها. وما زالت في نفس المركز، صعود الصين التهم من كعكة أوروبا واليابان، لكن ليس من أميركا.
قاطعته هنا أنت تتجاهل التناقضات داخل المعطيات الاقتصادية، قلت لك إن الأرقام تكذب أكثر من غيرها؛ لأنه لا يشكك فيها أحد. ثمة تناقضات حقيقية تزداد بين النمو والتوزيع لهذا النمو، بين الإنتاج السلعي الذي يؤسس اقتصادًا حقيقيًّا والاقتصاد المالي، وهذا الأخير يشكل معظم شكل الاقتصاد، ولا تخفى عليك هشاشته، خصوصا وقت الأزمات والحروب، إضافة إلى الممكنات المدمرة التي تحملها فكرة تنمية المال من المال، وهذا بالأساس تخصصك ولا أريد أن أتعدى عليه.
أجاب بعجلة هل وضع الصين أفضل؟ وعلى ذكر الصين، نحن أمام نمو سريع بلا شك، وهو من ناحية التسارع يصب في صالحها، لكن لنتذكر أن الصين كانت أكبر اقتصاد عالمي في بداية القرن التاسع عشر. قوة الاقتصاد شيء وتحويل هذه القوة إلى نفوذ سياسي شيء آخر. أما اليوم، فمن ناحية اقتصادية ما زالت تواجه مشكلتين رئيسيتين الحفاظ على معدلات النمو، ونصيب الفرد من الناتج القومي الإجمالي، وفي هذين الجانبين ما زالت أميركا متفوقة عليها بكثير.
دعنا من الاقتصاد، ودعني أسألك، قال لي. هل تعرف اسم فيلم صيني، كتاب، مفكر، أو حتى فكرة صينية عن العالم. إذا كنت تعرف اسم أو اسمين، وغالبا أنت تلفظهما بشكل خاطئ، فأنت تعرف العشرات عندما يتعلق الأمر بأميركا. ليس لدى الصين فكرة تبيعها للعالم، وهي لا تنتمي لفضائنا الحضاري، وكونك قويًّا اقتصاديا وعسكريا لا يكفي لحكم العالم. لكن أميركا لديها أفكار وثقافة، وهو ما نسميه بالقوة الناعمة؛ أن يحبك العالم، أن يعجبوا بك، أن يكون لديهم طموح بأن يصبحوا مثلك. ما زال الناس يموتون في البحور والمحيطات وهم يحاولون الوصول إلى أميركا، هل سمعت عن أحد مات غرقا في الطريق إلى الصين؟
يا رجل، حتى نُقّاد الحضارة الغربية لا يجري الاعتراف بهم إلا عندما يمرّون بالمؤسسات الأميركية. انظر إلى كل دراسات التابع الهندية؛ من رانجيت إلى سبيفاك إلى هومي بابا، وانظر إلى نقاد الاستشراق؛ من إدوارد سعيد إلى وائل حلاق، من أين ينتجون المعرفة؟ وكيف يحصلون على الاعتراف؟
المضحك أكثر أن بعض الأصدقاء يبشرون بالنموذج الروسي، أوه، هذا ما لا أريد أن أخصص له حصة من النقاش، فقط عليك أن تعلم أن كاليفورنيا وحدها تنتج اقتصاديا أكثر مما تنتجه روسيا بأكملها هؤلاء لأسباب نوستالجية، لا علاقة لها بالسياسة، يظنون أن روسيا هي نفسها الاتحاد السوفيتي.
ثمّ ختم فكرته بالسخرية تخيل أن يعيدوا لك المقاهي القديمة مع الرفاق القدماء، ثمّ تجدهم يتكلمون بالطريقة القديمة نفسها اليسار اليوم في مقاربته لموضوع صعود روسيا، يشبه بطلة فيلم جود باي لينين؛ تغير العالم كليا من حولها، لكن عالمها هي تحديدا بقي كما هو. وأخذ يضحك.
السبت 14 سبتمبرأيلول 2019، استهدفت طائرات مسيرة منشأتين تابعتين لشركة أرامكو السعودية في المنطقة الشرقية من المملكة. كان الاستهداف الإيراني رفعا مفاجئا لقواعد الاشتباك، لكن الأكثر مفاجأة كان إجابة الرئيس الأميركي وقتها دونالد ترامب، حين سئل عن الردّ الأميركي، فأجاب لقد حدث هذا في مكان بعيد عنا.
تستورد أميركا من نفط الخليج حوالي 5، في حين كانت تستورد 20 عام 2012، فحاجتها إلى النفط الخليجي اليوم لم تعد مثلما كانت في السابق، أما الصين فتستورد 40 من نفط الخليج. مع ذلك، ما زال الخليج منطقة نفوذ أميركي، ومسؤولية ضبط إيقاع وأمن الإنتاج جعلته من مسؤوليتها، لأنه في النهاية سيؤثر في العالم كله، وفكرة أن هذا حدث بعيدا عنا، أعطت انطباعا لأصدقائها وأعدائها على السواء، بأن تراجعا ما قد حدث. لاحقًا، سمعنا عن تقارب سعودي إيراني برعاية صينية
وفي السياق ذاته عام 1938، كان جنرالات هتلر مشغولين بخطة غرين المعدة للهجوم على تشيكوسلوفاكيا، ولمّا لم يجدوا ما يردعهم؛ نفّذوها. كان تجاوزا لقواعد اللعبة وقتها، ومؤشرا حقيقيا على قوة هتلر وتراجع قوة خصومه، وحين سئل نيفيل تشامبرلين، رئيس وزراء بريطانيا، عن ذلك، قال لقد حدث هذا في مكان بعيد عنا. لكن هتلر قرأ ذلك جيدا، ممّا أغراه بالاستمرار.
لذا، فإن مقدمات الحرب العالمية الثانية بدأت مع القرارات المترددة التي سبقتها في وضع حد لهتلر وتصاعد قوته.
المهم هنا، أن أول من يقرأ تقهقر الدول العظمى من الدول، هي الدول التي بأمس الحاجة إلى حمايتها، فدول الأطراف تعرف مبكرا مؤشرات التراجع في المركز.
بعد أن سردت لصديقنا هذا التشابه بين القصتين، أخذت أشرح له فكرتي ستبقى على رأس القيادة حين يخافونك ويرغبون فيك، أما عندما تكف عن الإخافة وإثارة الإعجاب، فإنك تدريجيا تبدأ تأجيل المشاكل التي عليك حسمها، تحت فكرة أننا لم نصل بعد إلى نقطة التصعيد الصفري، مضحيا برصيد ردعك وهيبتك.
ثمّ ضربت له مثلًا لا يمكن فهم جرأة الحوثي على إغلاق البحر الأحمر إلا كامتداد لحادثة أرامكو، وفشل تحالف حارس الازدهار سيمنح خصوم الولايات المتحدة جرأة أكبر. واللحظة التي لا يعود فيها ضعفاء العالم يصدقون الأساطير التي تصوغها أميركا عن نفسها، تبدأ قوة ردعها التآكل. ونحن ننتمي لجيل شهد محدودية قدرة أميركا على التدخل مرات ومرات، وشهد مهانتها كذلك.
أما طائرة 11 سبتمبرأيلول 2001، فلقد ضغطت على كبرياء أميركا وأطلقت جنونها في غير الاتجاه الصحيح، الذي كان عليها التركيز فيه، وذلك بحسب ما تعلنه عن أولوياتها. كان حادثا أفقد الأميركان الإحساس بالوجهة، ولم يستفيقوا عليه إلا وقد أصبحوا بدون قيادة. كانت مناظرة بايدن وترامب مناظرة بين خرف ومجنون، هل هذه هي قيادة العالم الذي تبشرني بعقلانيته في تجاوز الأزمات؟.
استفزّه تساؤلي الساخر، لكني لم أكترث، وأكملت لقد انشغلت أميركا بحروب غير إستراتيجية، أنفقت فيها الكثير من أموالها وسمعتها، وغذت خلالها نزعات تصاعدية في عدائها، ولكن أيضا أتاحت المجال لصعود الصين وروسيا في ظل هذا الانشغال غير المجدي. أما الصين فواصلت نموها بصمت، كما سعت روسيا لحسم إقليمها بمهاجمة جورجيا ثم القرم ثم أوكرانيا.
في المحصلة، خرجت أميركا من أفغانستان تاركة حكمها لطالبان، وخرجت من العراق تاركة حكمها لإيران، بل فتحت المنطقة أمام الإيرانيين بإسقاط نظام صدام حسين، ولم تحقق أي هدف إستراتيجي من حروبها آخر 25 سنة.
ثم إنك تسألني عن الفكرة التي تملكها الصين للعالم، قلت له وقد كان يظن أن مجادلته عنها مفروغ منها عندي. حسنا، إنك تنسى أننا في عصر لم يعد أحد فيه يقدم أي فكرة، لا يتعلق الموضوع بالصين وحدها، إن النظام العالمي برمته، بمن هم على هرمه وبمن يتنافسون على هرمه، لم يعد لديهم ما يقدمونه قيميًّا، طبعًا إن افترضنا أنهم كانت لديهم قيم في السابق. الفكرة ليست في انتظار من سينوب أميركا، بل في أن الشكل الذي سيأخذه الصراع على القمة سيرخي قبضة السيطرة على منطقتنا، وربما يتيح لنا متنفسا في صعود السلم الذي يخصنا.
أما موضوع تصدير الأفكار الذي أشرت إليه، فقل لي بربك وأنت تعلم أن من يتنازع على أميركا اليوم يسار جديد ويمين جديد ما هي الأفكار التي يقدمها هذان التياران؟ ها؟ لا يمكنك أن تسمع جملة واحدة تخرج منهما، دون أن تسمع في خلفيتها صوت اصطدام رأس البشرية في القاع. اليسار الجديد يضحي بـالمنجز الليبرالي الأكبر الفردية والحرية لصالح الحشود المهووسة بالجنس والرغبة. يا صاحبي، والله إن النازية تعتبر نسخة محسنة من حجم القمع الذي تحمله هذه الفئات لسكان المعمورة.
ثمّ ما الذي يقدمه اليمين الجديد؟ هوس للعرق وعصاب ضد اللاجئين، وشعارات بدون مشاريع. في اللحظة التي تحول فيها المهاجر إلى لاجئ، تكون فكرة أميركا القائمة على الهجرة قد ضربت.
وعلى ما يبدو في هذين التيارين من اختلاف، فإن بينهما شيئًا مشتركًا، قلت له، وبدا على وجهه التعجّب المشترك بينهما أنهما يقدمان خطابا للغرائز دون المرور بالعقل، ويعلنان وصول الانحدار الغربي إلى مآله الأخير، وعلى مذبح الهوى هذا تجري التضحية بكل إرث.
وحدهم الذين ما زال لديهم صلة بوحي السماء هم من يستطيعون تقييم هذا الاعوجاج، فصدّقني، لا يمكنك تقويم شيء بدون وجود مسطرة سابقة على وجودك، تكون معيارا لما ينبغي أن يكون عليه الشيء. ونحن يا صديقي الورثة الباقون لما ينبغي أن يكون عليه هذا العالم بعد فساده، وهذا قدر تكليفي ثقيل أكثر منه إضفاء لمدح أو رفعا من شأن الذات.
كان الاقتصاد الذي بنى عليه صديقنا أرضيته للمجادلة، والذي حاول جرّي إليه بوصفه مربّعًا آمنًا له يتقن اللعب فيه، آخذًا في الاضمحلال أمام القضايا الأخرى، وكأنه أدرك فجأة أن أميركا ليست اقتصادًا فقط إنك بالمؤشرات التي ذكرتها ما زلت أسيرا للطريقة التي ينظر بها النظام إلى نفسه، إنك كمن يحاول التأكد من نجاح العملية الجراحية بسؤال المريض الذي تحت التخدير عمّا إذا كان لا يزال يشعر بالألم؟
لكنك تعرف، أن التجارب في النهاية تنهار -غالبا- ليس نتيجة قلة الثقة بالنفس، بل بفائض من هذه الثقة. يمكن للتراجع أن يحدث دون أن ينتبه أكثر الناس عناية به، ولا يعني القدرة على تجاوز الأزمات -أكثر من مرة- أن صفتك الخالدة هي تجاوز الأزمات، بل قد تمكر بك الأزمات من هذه النقطة تحديدا؛ نقطة الثقة الكاملة بالقدرة على حلها.
ربما لم تدرك بريطانيا أنها لم تعد قوة عظمى إلا بعد فشلها في العدوان الثلاثي على مصر، وربما فوجئت بأن قوى أخرى أصبحت أقوى منها، وأنها لكي تحترم سنها عليها أن تفسح المجال لصعود الآخرين، وأن تتبع حماس الشباب حتى لا يدوسها هذا الشباب القادم بقوة.
هل كانت النخب التي تعيش ببريطانيا تعلم بأفولها؟ هل استشعرت قبل الأفول أم خلاله أم بعده؟ هل كانت داخلها أصوات تؤكد أننا مررنا بأصعب من هذا وتجاوزناه فلا داعي للفزع؟، تساءلت، ولم أنتظر جوابه.
خذ مسألة فتور حماس الأجيال القادمة للدفاع عما ورثته من قوة، بل عدم إدراكها لما ورثته، هذا ضروري ومركزي في بذل التضحيات اللازمة لبقائه. أليس هذا قانون الانهيار الدائم؟ جيل أول مؤسس ومضحٍّ، ثم جيل بناء التقاليد والمؤسسات، ثم جيل الرفاه الذي لم يدرك الصعوبات ولم تصقله، ولم يعرف المخاوف لتحفزه. كتب تشرشل في مذكراته أجرى نادي خريجي أكسفورد سنة 1933 استفتاء حمل هذا السؤال هل أنت جاهز للقتال من أجل بريطانيا العظمى؟ غالبية الإجابات كانت بالنفي.
واليوم هناك جيل بأكمله لا يرى أن ثمة حلمًا أميركيًّا لكي يمنحه روحه دفاعًا عنه. بل يغلب على هذا الجيل، عدم الثقة في هذا النموذج وفقدان الانبهار به، فتوزع الجيل على انتماءات هوياتية فرعية عابرة، لا تغذي اكتساب صفات القوة ومعالي الأمور، بل تجعلها محط سخريتها.
وأردفت ليس هذا فقط، فالمجتمع الأميركي اليوم في أشد لحظات انقسامه، حتى إن شخصا مثل فوكوياما الذي استشهدت به للتو، اعتبر أن المؤشر الحقيقي للتراجع هو أن الانقسام الداخلي أصبح حادا بين الجمهوريين والديمقراطيين، لدرجة أن استطلاعات الرأي تشير إلى أن الجمهوريين يعتبرون الديمقراطيين أكثر خطرا على أميركا من الروس والعكس صحيح.
وحتى أضعكم في صورة هذا النقاش، تعرّضت مع صديقي لنقطة نظريّة الطابع، ورأيت أن أوضحها لفهم الطريقة التي تعمل بها الديمقراطيات، وذلك تجنبًا لأي سوء فهم بيني وبينه ثمة حجم للخلاف بين التيارات، إذا ما صار حادًّا، يصبح فوق قدرة الديمقراطية على حله.
الديمقراطية تنظم الخلافات التي على سطح الحياة السياسية، أما ثوابت الأمة فإنها تُحسم مع المؤسسين والأوائل. مع الوقت، تتوالى التقاليد المؤسساتية أو ما يعرف بالدولة العميقة على ترسيخ ثوابت الأمة وحماية جوهرها، وتشمل هذه الحماية حمايتها من الديمقراطية نفسها، من جهل الطارئين أو جنوح الشاردين في أحلامهم عن إمكانية التغيير الجذري من خلال صناديق الاقتراع.
عندما توضع الثوابت محل استفتاء وينقسم الناس عليها، لا تعود الديمقراطية قادرة على التعامل معها، مع مهمة بهذا الحجم، وهذه هي المشكلة الكبرى التي عانينا منها خلال ثورات الربيع العربي؛ ذهبنا نحسم ثوابت الأمة عبر صناديق الاقتراع.
لم أدع صديقنا يقاطعني، فلقد أخذ حصّته من الكلام حتى خشيت عليه من أن يشرك ويجعل أميركا إلهًا. لذا، تعمّدت تكسير هذا الصنم في نفسه، وقلت له يا صديقي، حتى قدرة أميركا على أن تقود مؤسساتها فقد تحولت إلى محط سخرية.
انظر جيدًا، إنها تتعرض لاستنزاف في شرعيتها بشكل مستمر، وهي اليوم في أسوأ حالاتها، خصوصا مع تمسكها بحليفتها إسرائيل، التي لا تكف عن إحراجها، من محكمة الجنايات الدولية إلى تجريم الأونروا، ومن معسكرات الاعتقال إلى المحارق والإبادات الجماعية. بدت إسرائيل كدولة مارقة على النظام الدولي، ولم تنجح أميركا في صنع مسافة من مروقها ولا حتى في كبحه، بل عززته مضحية بمكانتها الإستراتيجية لصالح طريق فرعي قد تكون عواقبه وخيمة ومكاسبه في كل الأحوال أقل من خسائره.
تحولت إسرائيل من مشروع يحمي مصالح أميركا إلى مشروع بحاجة إلى حمايتها، ولقد أنفقت أميركا على إسرائيل منذ قيامها 260 مليار دولار. وكان طوفان الأقصى كاشفا عن هشاشة هذا المشروع وعجزه عن القيام بالدور المنوط به. أنت أمام حليف ضعيف ومُحرِج ومكلف لك، ومع ذلك يقف أعضاء الكونغرس يصفقون له عشرات المرات، على وقع التعطش إلى الدم وغياب العقل والقيم.
لقد احتاجت أميركا إلى تعجيل دمج إسرائيل بالمنطقة، لكي تتجه شرقا وتركز على التحدي الأهم وهو صعود الصين، لكن إسرائيل تشدها مجددا في حروب غير إستراتيجية كما فعلت سابقا طائرة برج التجارة. لكن كل خطوة تفعلها هي متأخرة عن وقتها، وكما شخّص تقرير لجنة إستراتيجية الدفاع الوطني، فإن خطة بايدن للأمن لعام 2022، متخلفة عن حجم الأخطار والمهام التي تحيط بها.
إن مشروع التطبيع بالطريقة التي صممته أميركا بها، وفشلها في رعاية عملية ولو شكلية للدولة الفلسطينية، عمّقا استفزاز المقاومة وعجّلا بمعركة الطوفان، وأغرقا أميركا مجددا بقضايا بعيدة عن أولوياتها، ومن طائرة التجارة حتى الطوفان، تحول الدور الأميركي من ربان العالم الحر إلى رجل إطفاء حرائقه، معتمدا منهجية محاصرة الحريق بالحريق.
ولمّا رأيت أني أثقلت عليه بالنقد، متعاملًا مع حججه التي طرحها، أخذته إلى منطقة أخرى إن رصد تراجع الدور الأميركي ليس موضوعا أكاديميا، صدقني، هو أهم من ذلك بكثير. لدينا اليوم فرصة تاريخية لاستعادة دورنا، ومع أني مدرك تماما لحجم قوتها، وضعفنا، فإنني مدرك أيضا كوامن الانهيار فيها، وكوامن النهوض فينا.
قبضتها تضعف، والفوضى قادمة لا محالة، الحرب التي لا يريدها أحد قد تبدأ في أي لحظة، بأي خطأ كان، وحجم الصدفة في هذه الحالات مؤثر جدا، ومنطقتنا عانت كثيرا من هذا النظام العالمي وظلمه. ولطالما كانت أراضينا وأجساد أهلينا مكانا لحل تناقضات القوى الكبرى، بعيدا عن أراضيها، وبقدر ما ترك هذا جروحا فينا، فإنه منحنا كنوزا مهمة يمكننا الاتكاء عليها الخبرة اللازمة لفهم ما سيأتي، والرغبة العارمة في أداء دور فيه.
يا صاحبي، لقد كان عجزنا هو كنزنا، وبمقدار ألمنا بهذه الحقيقة كنا نتدرب على تجاوزها. الفرن المفتوح لا يخبز، ونحن أغلقت علينا الدنيا وأصبحنا أرغفة ناضجة.
أنا مضطر هنا إلى مقاطعتك، قال لي. أفهم تماما ما تقوله، لكن كل الحسابات المنطقية تستبعده.
قلت له بالعكس تماما، كل الحسابات المنطقية تدعمه، لم نكن عقليا أقرب من اليوم إلى حدوث التغيير الكبير، على شرط أن تفهم العقل بمعناه الأوسع؛ المعنى الذي يندرج داخله احترام الغيب وغير المتوقع بوصفهما سببين حقيقيين وواقعيين، نحن جيل شهد بأم عينيه العديد من الهجمات على القوى الكبرى وإذلالها بما لم يشهده أجدادنا، آخرها كان طوفان الأقصى، ألم يعنِ لك ذلك شيئا في روحك السياسية؟.
أجابني نحن جيل شهد حجم نكسات أكثر بكثير مما شهد أجدادنا، ألا يعني لك ذلك شيئًا في روحك السياسية؟.
حين سئل الرئيس المكسيكي الأسبق بورفيريو دياث، وبلاده غارقة في المشاكل أوائل الثلاثينيات، عن حقيقة أزمة المكسيك، أخذ يفكر قليلا ويتمتم أزمة المكسيك. ثم أجاب أزمتها أنها قريبة جدا بحدودها من الولايات المتحدة، وبعيدة جدا بروحها عن الله.
وصديقي لديه نفس مشكلة المكسيك تماما، قريب من أميركا، ومن شأن القرب أن يحجب الفهم ويجمد العين الناظرة على قوة المادة، وكذلك بعيد عن الله، ومن شأن البعد أن يعطّل فهم الكيفية التي تعمل بها يد الله في التاريخ، وبدون ذلك لا تمكن الثقة في المستقبل، لا تمكن الثقة في أنفسنا، ولن نتمكن من رؤية الفجر.. ولا من فهم سورته.
فقد كان هذا كلّه من قبل أميركا وبريطانيا، وروما، وثمود الذين جابوا الصخر بالواد، فقل لي ألم تر كيف فعل ربك...؟
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ورد التعبير في موعظة الجبل للمسيح، أنتم نور العالم، لا يمكن أن تخفى مدينة موضوعة على جبل، ثم أصبح عبارة تشير إلى أميركا منذ هجرة البيورتانيين من إنجلترا نيو إنغلاند، ولاحقا عبرت الروح المادية بتأويلها بعيدا، حين جعلتها تعبيرا عن الحلم الأميركي نفسه.
2 زادت الولايات المتحدة إنفاقها العسكري العام الماضي بنسبة 2.3، وهو ما يفوق الدول العشر التالية لها على سلم الميزانية الدفاعية مجتمعات.
| https://www.aljazeera.net/politics/2024/8/13/%d8%a3%d9%85%d9%8a%d8%b1%d9%8a%d9%83%d8%a7-%d8%a7%d9%84%d8%aa%d9%8a-%d9%84%d9%85-%d9%8a%d8%ae%d9%84%d9%82-%d9%85%d8%ab%d9%84%d9%87%d8%a7-%d9%81%d9%8a-%d8%a7%d9%84%d8%a8%d9%84%d8%a7%d8%af | 2024-08-13T16:55:27 | 2024-12-02T03:20:29 | أبعاد |
|
64 | طفلك سيكذب، هذا مؤكّد.. لكن كيف تتعامل معه؟ إليك هذه الخطوات العلمية | كيف يتمكّن طفل ما زال يتعثر في مشيه من تطوير ملكَة الكذب لخداع من حوله؟ ولماذا يكذب الطفل من الأساس؟ وما الحل المناسب في هذه الحالة؟.. أسئلة كثيرة يجيبك علماء النفس عنها بهذا التقرير. | يحدث كثيرًا أن تسمع طفلك في مقتبل عمره وهو يحكي عن مغامرات خيالية تحدث معه، كأن يحكي عن شجارٍ دار بينه وبين ديناصور في غرفته، أو أنه يصادق حوتا في المدرسة. وللأمر أن يتجاوز حدود نسج القصص، فقد تلحظه أحيانا يكذب بخصوص استذكار دروسه أو قد يُنكر مثلا أنه أخذ المال الذي كان على الطاولة.
وسواء كنت أُمًا أو أبًا أو مسؤولًا في مدرسة، فمن الأكيد أنك مررت بموقفٍ شبيه مع طفل يلجأ للكذب هربًا من مواجهة الحقيقة، ولربما يدفعك هذا نحو مزيد من القلق حين تتخيّل أنّ الطفل سيكبر ليكون محتالا محترفًا.
يتعرّف الأطفال على الكذب، أو الخداع بمعناه الأوسع، في سن صغيرة للغاية، حيث يشير الخبراء إلى أن الطفل يبدأ في تزييف الحقائق من سن مُبكّرة، إذ يزيّف الطفل بكاء جوعه فقط لأنّه تُرك فترة طويلة في مهده ويُريد الآن أن يلفت انتباه والديه.1 وعلى الرغم من سمعة الكذب السيئة، فإنه سلوك شائع في التواصل الإنساني بشكل عام ويلعب وظائف اجتماعية عدة. صحيح أن قول الطفل الحقيقة مهم لوالديه، لكنّ الأهم هو أن يسعى الآباء لفهم ما يقف وراء تلك الأكاذيب قبل محاولة انتزاع الحقيقة من الطفل.2
في هذا السياق، ينصحك عالم النفس كانغ لي أن تبتهج حين يكذب طفلك لأول مرة. حسنا، دعنا لا نتعجّل الحكم ونطّلع على ما يقوله عدد من علماء النفس بالتفصيل. تُشير الدراسات3 إلى أن الأطفال يُولدون ولديهم منذ ولادتهم وازع وحسّ أخلاقي جزئي متأصّل في شخصياتهم، إذ يستطيع أطفال البشر، وبحسب سلسلة من الدراسات التي قام بها بول بلوم، إدراك مفاهيم العدل والتعاطف، ومنها يميز بين الصواب والخطأ، ويعرف أن هناك قواعد اجتماعية وآدابا وسلوكيات صائبة وأخرى مرفوضة، ومن خلال مراقبة الكبار المستمرة يستكشف الطفل كيف يتصرف في حياته. لذا فإن مفهوم قول الحقيقة الصدق والأمانة هو مفهوم ينشأ في نفس الطفل تدريجيًا مع تقدّمه بالعمر.
لكنّ السؤال المهم هنا كيف يتمكّن طفل ما زال يتعثر في مشيه من تطوير ملكَة الكذب لخداع من حوله؟ يُجيب كانغ لي، أستاذ علم النفس بجامعة تورنتو University of Toronto بكندا والمتخصص في علم النفس النمائي للأطفال، أن الأمر طبيعي للغاية، بل مطمئن بالأحرى.
يعتمد الطفل بالكامل منذ ولادته وحتى بلوغه الثالثة من عمره تقريبا على الكبار في تدبير كلّ أموره، تكون أكاذيب هذه المرحلة بيضاء بسبب أخطاءٍ بريئة ارتكبها، أو لحماية نفسه، أو لتهدئة الشخص الذي يحاسبه. يفهم الطفل شعور الأبالأم من نبرة صوته، إن سألته بغضبٍ هل قمتَ بكسر المزهرية؟ فعلى الأغلب سيكون رده لا، لست أنا. والسبب أن الطفل لا يريد إثارة مشكلةٍ مع الراشدين الذين يعتمد عليهم، ولأنّ نبرة الصوت الغاضبة تخيفه، سيسعى جاهدًا للحفاظ على شعوره بالأمان عبر إنكار فعلته.
خلال نموه الإدراكي، يطوَّر الطفل ما يسمى بـنظرية العقل theory of mind وهي مقدرة الطفل على أن يُدرك أن الآخرين يدركون الأمور بطريقة مستقلّة عن إدراكه هو، وأن ما يعرفه هو بعقله، لا يستطيع أن يعرفه الآخر بالضرورة، فإذا رآك طفلك قد نسيت مفاتيح السيّارة على الطاولة، ثُمّ قام أحد أفراد العائلة بتعليق المفاتيح على الحائط، فسيكون بإمكان طفلك في هذه المرحلة أن يتوقّع بأنّك ستعود لتبحث عن المفاتيح على الطاولة حيث نسيت، لأنّه يستطيع أن يتخيّل ولو بشكل جُزئي كيف تُفكِّر بعقلَك الخاص بناءً على معطياتك أنت، لا معطياته هو.
بناءً على هذا النمو الإدراكي بحسب نظرية العقل، فإنّ الطفل يستطيع أن يُدرك أنَّك لا تعرف ما يعرفه هو بالضرورة، فيؤلّف عند الحاجة حبكةً متّسقة بناء على إدراكه للمعلومات التي تعرفها بطريقة تسعى إلى تضليلك، وهذه المقدرة هي أحد المُكوِّنات الأساسية لسلوك الكذب4.
أمّا المُكوِّن الأساسي الثاني، كما يقول كانغ لي، هو وعي الطفل بقدرته على التحكّم الذاتي self-control، إذ يحتاج الطفل كي تنطلي كذبته على المستمع أن يتحكّم بتعابير وجهه ولغة جسده وصوته وانفعالاته، بطريقة يعرف أنّها ستثير لديكَ انطباعا مختلفا عن اتّهامك له، وبالتالي فهو يستثير عواطفك عبر انطباع بريء يُثير لديك مشاعر التعاطف والثقة.
لا يُولد الطفل وبحوزته هذه المهارات الإدراكية، بل هي تطورات عقلية تُستحدث مع التقدم في العمر، لذا ينصحك عالم النفس كانغ لي أن تبتهج حين يكذب طفلك لأول مرة، حيث إن هذا مؤشر على التطور الإدراكي للطفل، وهذه المهارات التي يعكسها الكذب تقوم بوظائف هامّة بعيدا عن الكذب نفسه، فهي تعكس قدرات إدراكية تمكّن المرء من مسايرة العالم ببراعة حين يكبر. وغياب هذه القدرات الإدراكية يرتبط ارتباطًا وثيقا بالاضطرابات النمائية العصبية مثل التوحد واضطراب نقص الانتباه وفَرط الحركة ADHD.5
وفي الفترة العمرية بين الثالثة والسابعة، يظلّ الطفل يستكشفُ الفرق بين الخيال والواقع، فهو يخلق عالمًا من نسج خياله ويُصادق أناسا غير موجودين. وكثيرٌ من الآباء والأمهات يشجّعون أبناءهم بسؤالهم عن اسم صديقه الخيالي ومغامرات ألعابه، حيث لا يرغب الوالدان في تحجيم مخيّلة الطفل وتقييد إبداعه.6 يفهم الطفل معنى الكذب وأهدافه بدايةً من السنة الخامسة حتى العاشرة، ويحاول الامتثال للقواعد المرساة في البيت والمدرسة عن أهمية قول الحقيقة، وذلك باعتبار أنه يريد أن يكون طفلًا عاقلا يحظى برضا وقبول أبوَيه ومعلِّميه. وبعد سن العاشرة، يكون الطفل قد استوعب كليا تبعات وعواقب قول الحقيقة أو إخفائها.
إذن، تتعدّد الأسباب خلف كذبات الطفل؛ فقد يكذب الطفل أحيانًا بشكل عفويّ ودون تفكير أو تخطيط، لأنه قد يُدرك خطأَه في نفس لحظة سؤالك إيّاه، وحينها قد يكذب على عجالة لتفادي المشكلة، وقد يكذب الطفل لشعوره بالخوف والتهديد ولأنّه لا يريد أن يتعرّض للتوبيخ أو العقاب. ويحدث في كثير من الأحيان أن يندفع الطفل للكذب بدافع الفضول والاستكشاف والإثارة، حين يُفكِّر ما الذي سيحدث لو أخفيت هذه عن والديّ؟ أو ماذا الذي سيحدث لو لم أخبر أخي أنّني مَن تناول قطعة حلوته الخاصّة؟.
وباختصار يُمكن أن نقول إن الأطفال يكذبون لاحتمالات عدّة نعرضها في الإنفوغراف التالي
يجدر بالآباء معرفة أن الطفل لا يرى الكذب من المنطلق الأخلاقي نفسه الذي يراه الكبار، لأن فهم أهمية الحقيقة يتكوّن تدريجيا لدى الطفل. تلعب البيئة المحيطة دورًا كبيرا في تحويل الكذب من عادة سيئة إلى سلوك يومي اعتيادي. بحسب نظرية التعلم المكتسب، يتعلّم الطفل معظم سلوكياته من خلال ملاحظة ومراقبة الأشخاص الذين يحيطون به.
ببساطة شديدة يتدرّب الطفل على الكذب حين يرى والدَيه يكذبان، فحينًا يوصيانه بقول الحقيقة، وحينًا آخر يطلبان منه أن يُجيب طارق الباب بأنهما خارج المنزل للتهرّب منه، وبهذا يعلمانه انتفاء ضرر الكذب طالما أن أحدا لن يتمكّن من اكتشافه. لذا يحتاج الطفل في البداية للإجابة عن سؤال لماذا عليه ألّا يكذب؟ هل لأن الحقيقة مهمة، أم لأن قول الصدق هو الأهم مهما كلف الأمر؟
ليس المطلوب أن يتوقف طفلك عن الكذب، بل أن تتعزز لديه مفاهيم الصدق والشجاعة والثقة والقدرة على حل المشكلات التي يواجهها دون التهرب منها بالكذب. وهو يكتسب هذه الصفات عبر مراقبة سلوكك ومحاكاة أساليبك في حلّ المشكلات وعاداتك اليومية بالتواصل الاجتماعي.
ابقَ هادئا حين تكتشف أن ابنك يكذب، لأنّ الصراخ سيخيفه، كما أن الغضب سيترك آثارًا يترتب عليها عواقب أكثر تعقيدا. حين تهدأ الحادثة، حاوره ووضِّح عواقب الكذبة والمساوئ المترتّبة عليها والتي قد تؤثر في مشاعر الناس الذين يهتمون لأمره، الأمر الذي سيساعده على تطوير ذكائه العاطفي وقدرته على رؤية الموقف من زوايا مختلفة.7
من المهم كذلك ألا تنعته بالكذاب، واطلب منه أن يخبركَ الحقيقة بهدوء، لأنك حين تنعته بالكذّاب مرارا وتكرارا، سيصدّق ذلك، وسيرى نفسه أسيرا لهذه العادة، وسيستمرّ في الكذب وسيَصعب تقويم سلوكه فيما بعد. وما يحدث في كثير من الأحيان أن الطفل يبرع في التصرّفات السيئة حين يقتنع أنه ما من تصرفٍ سيرضي والدَيه، وأنّه ما من طريقة ممكنة ليَحظى بحبّهما، لأنهما يواصلان نعته بالذنب الذي اقترفه مرارا وتكرارًا.8
اطرح عليه أسئلةً تُساعدك في فهم دوافع الكذب من وجهة نظره، لماذا يُؤكّد لك أنّه قد غسل أسنانه على الرغم من أنّه لم يفعل ذلك؟ حاول العثور على ما دفعه لإخفاء الحقيقة، هل هو خائفٌ منك أم أنّه لا يحب غسل أسنانه لأنّه لا يستسيغ طعم المعجون مثلًا؟ أم إن كلّ ما يريده هو أن يلفت انتباهك ولا يجد طريقة تدفعك للحديث معه إلّا من خلال هذا السلوك.9
تلعب التجارب السابقة أيضا دورًا مهمًّا في تحديد السلوك الحالي، هل يكذب الطفل بسبب خوفه من ردّ فعلك نتيجة لتجربة ما سابقة، أيّ حين وبّخته على الإفراط في هدر الماء بطريقة عنيفة؟
يقع كثير من الآباء في خطأ تربوي شائع عند محاولة جرّ الطفل للاعتراف بكذبته، واستدراجه لفضحه أو جعله في موقف محرج أمام نفسه. إذ لا يعدّ اجترار الطفل الوسيلة المثلى لمواجهة الكذب، بل من الأفضل أن تقول له قبل سؤالك عِدني بأنّك ستقول الحقيقة، حيث يزيد قطع هذا الوعد من ميل الطفل إلى الصدق10. لكن لا تُرغمه على قول الحقيقة، إذ سيزيد هذا من خوفه وقلقه.
إن التصرّف الأمثل حين يرفض الطفل الاعتراف بخطئه أو عند امتناعه عن قول الحقيقة هو ببساطة إخباره أنك متأكد أن ما يفعله خاطئ، وطمئنه أن الأمر بسيط وأنّه بإمكانكما حل المشكلة معا، لكنّ الضغط والتحقيق والصراخ سيعقّد المسألة وسيزيد من إصرار الطفل على إخفاء الحقائق، وسيعزّز من كذبه عند وقوعه بمآزق أخرى في المستقبل.
التهذيب لا ينتج عن العقاب كما هو شائع، بل تشير الدراسات إلى أن نشأة الطفل في بيئة تستخدم العقاب وسيلة للإصلاح لا تُحقق هدفها في معظم الأحيان. إذ إنّ الاستخدام المتواصل للعقاب أسلوبا للتربية داخل الأسرة، يقود إلى التمرّد والغضب والنفور عند بلوغ الابن مرحلة يشعر فيها باستقلاليته، أو حين تنقلب موازين السلطة في العائلة وحين يجد الابن نفسه قادرا على التحدي والرفض. لذلك يكون استيعاب الابن، والحوار الهادئ، أحد الطرائق المثلى لاحتواء الكذب وتقليله.10
امتدحه كلما أجابك بصدقٍ حتى وإن كانت الإجابة مزعجة، بل أظهر له احترامَك لشجاعته، عزّز هذا السلوك بمكافآت رمزية، مثل الخروج سويّةً لتناول وجبة لذيذة بينما تظهر له امتنانك للثقة المتبادلة بينكما رغم المشكلات والمآزق والأخطاء التي يرتكبها. كذلك قُصَّ عليه حكايا تبين إيجابيات الصدق، وليس العكس، فالقصص التي تُظهر سلبيات الكذب وعواقبه الوخيمة تشجّع الطفل على تطوير مهارته في صياغة قصّته الكاذبة بشكل أكثر مهارة في كل مرة، لذلك تعوّد أن تشجّع على الصدق وتمتدحه أكثر ممّا تنتقد الكذب وتهاجمه.11
الخيال هو عالَم الطفل الخصب للتسلية والاستمتاع، وهو جزء مهم في نمو إبداع الطفل وقدراته الإدراكية، ودورك كمسؤول عن رعايته يقع في شحذ مخيّلته وتشجيعه على الانطلاق بعقله، لكن دوركَ أيضا هو توضيح الفرق بين الحقيقي والخيال، ينطبق ذلك أيضا على قصص ما قبل النوم أو في الدروس المدرسية، تحديدا للأطفال ما قبل الرابعة. على سبيل المثال، إن قصَّ عليك طفلك أنّه قد تمكن من دخول شاشة التلفاز ومقابلة المذيع، أخبره أن خياله خصب، وأن قصته رائعة وعليه أن يكتبها في كتاب لتشجعه، وفي الوقت نفسه أعِدْه إلى أرض الواقع عبر أخذه في زيارة إلى محطّة التلفاز -إن كان هذا مُمكنًا- ليرى عالَمها الحقيقي، وليدرك أن التلفاز مجرّد وسيط ناقل للصوت والصورة.12
يُشير الكذب في حالات نادرة إلى علّة نفسية جوهرية، لكنّ الكذب المَرَضي يُصاحبه عادة أعراض أخرى؛ فإذا كان الطفل يكذب على الدوام في جميع ما يسأل عنه وفي كلّ تفاصيل حياته ويلجأ للكذب بطريقة غير مبرّرة حتّى في أبسط المواقف، ويتحوّل الكذب إلى نهج يَومي عبر تزييف الحقائق وليس تهرّبا من عقوبة أو تحقيقًا لغاية، فسيكون من الجدير بك استشارة مختصٍّ نفسيّ لكيّ يُقيّم الحالة. علاوة على ذلك، تذكّر أن الكذب هو وسيلة الطفل الأولى لمجاراة الحياة الاجتماعية، ويُمكن ضبط عادة الكذب عن طريق خوض نقاشات ناضجة وهادئة عن أهمية قول الحقيقة والمصارحة ومنحه الثقة للإفصاح عن مشاعره وأفكاره دائمًا دون أن يخشى عقابًا أو حرمانًا، وهو ما سوف يساعد الطفل على عدم اعتياد قول الأكاذيب حين يكبر، وسيمكّنه الصدق والإفصاح الناضج من تطوير مهارات اجتماعية إيجابية.
يشرح الباحث والمتخصّص في علم النفس كانغ لي في هذا المقطع عن كيفية حدوث الكذب لدى الأطفال، ولماذا يكذبون؟ وكيف يرى الأطفال الأمور من منظورهم الخاص؟
كتاب البروفيسور في علم النفس بول إيكمان، يشرح لك بالتفصيل الأسباب العلمية الكامنة وراء كذب الأطفال، والدوافع النفسية التي تدفعهم لذلك، وكيفية التعامل معهم غير مترجم.
_______________________________________________________________________
المصادر | https://www.aljazeera.net/sukoon/2021/8/15/%d8%b7%d9%81%d9%84%d9%83-%d8%b3%d9%8a%d9%83%d8%b0%d8%a8%d8%8c-%d9%87%d8%b0%d8%a7-%d9%85%d8%a4%d9%83%d9%91%d8%af-%d9%84%d9%83%d9%86-%d9%83%d9%8a%d9%81-%d8%aa%d8%aa%d8%b9%d8%a7%d9%85%d9%84 | 2021-08-15T15:34:34 | 2024-06-06T11:44:26 | أبعاد |
|
65 | أشعر بالضياع وعدم الاستقرار.. ماذا أفعل؟ | كثيرا ما نشعر نحن البشر بالضياع وعدم الاستقرار، وقد يُورثنا ذلك بدوره الكثير من الحيرة والعجز تجاه الواقع، فكيف نتصرف؟ وكيف ننجو؟ وكيف نتّزن من جديد؟ | هل تشعر بالضياع؟ هل يبدو الاستقرار بالنسبة إليك حلما صعب المنال؟ ربما تمرّ بظروف سيئة أو صعبة تجعلك يائسا من وجود ضوء في آخر النفق، أو ربما تكون حياتك متّزنة في مظهرها الخارجي، لكنك تعاني داخليّا من شعور باللامعنى واللاجدوى والضياع.
كثيرا ما نشعر نحن البشر بالضياع وعدم الاستقرار، فهذا زمان اللايقين والتغير. وقد يُورثنا ذلك بدوره الكثير من الحيرة والعجز تجاه الواقع، فكيف نتصرف؟ وكيف ننجو؟ وكيف نتّزن من جديد؟ وما العمل في وجه هذه الفوضى كلها؟
في هذا المقال نحاول الإجابة عن سؤال لماذا قد نشعر بالضياع وعدم الاستقرار أحيانا؟، ثم نطرح بعض التقنيات والأفكار العلمية التي قد تساعدك في التعامل مع هذه المشاعر، مسترشدين ببعض مفاهيم وأفكار علماء النفس، لتصل لاتزان واستقرار أكبر.
بداية، علينا أن ندرك أن الشعور بالضياع وعدم الاستقرار هو جزء أصيل من حياتنا نحن البشر، هذا ناموس الكون بكافة جوانبه وليس في حالاتنا النفسية فقط، فالحياة مزيج من البناء والهدم، الفوضى والنظام، الاستقرار وعدمه، حتى في العالم البيولوجي تقع هذه الحقيقة في قلب جميع العمليات الحيوية، لن تسير عمليات الأيض في أجسامنا دون موت خلايا وبناء أخرى.
لذلك، علينا ألا نتسرع بوصف هذه المشاعر مشاعر غير طبيعية أو مَرَضيّة، ولا أن نُسارِع بالهروب منها إذ حتى القلق الذي تتسبّب به بعض مخاوفنا وتساؤلاتنا قد يكون إستراتيجية مهمة للتعامل مع الواقع، ومؤشّرا يساعدنا على إصلاح خلل ما أو تعديل المسار الذي نمشي فيه. القلق بحد ذاته هو إستراتيجية تطورية مهمة اكتسبها الإنسان عبر آلاف السنين. وقدر معيّن من الشعور بالضياع مهمٌّ حتى لتقدير الاتزان والاستقرار حين نحصل عليه1.
على صعيد آخر، لا يمكن إنكار أثر الحياة الحديثة على الإنسان من الناحيتين النظرية والعملية، فقد أصبحت حياتنا سريعة وكثيرة التغير والتقلّب. ويمتاز زمننا الحالي باجتياح التقنية والسوشيال ميديا لعالمنا، وعدم الثبات، وعُرضة كل شيء للنقد والتشكيك، وانهيار السرديات الكبرى التي كانت تعصم الإنسان من الشعور بالضياع والحيرة، حتى صار الإنسان نفسه تحت الحصار2. وهذا يجعل الشعور بالضياع وعدم الاستقرار أكثر حضورا من الأزمان السابقة، ومن الشكاوى النفسية الأكثر ورودا، على هيئة اضطرابات قلق يمكن أن نعتبرها استجابة متوقعة لعدم القدرة على مواكبة هذا النمط من الحياة. وتشير الدراسات إلى أن 34 تقريبا من البشر في القرن الحادي والعشرين عانوا من اضطراب قلق مَرَضي مرة واحدة على الأقل في حياتهم3.
تتنوع الأسباب التي قد تُشعرنا بهذه المشاعر، وكذلك تتنوع أشكالها من ظروف موضوعية خارجية، إلى شعور عامّ بالخواء وفقدان المعنى مثلا، ولا يمكن حصرها في هذا المقال بسبب خصوصية حياة كل شخص وظروفه بطبيعة الحال، لكن الأهم من حصر الأسباب والأشكال هو أن يكون لدينا استشعار عامّ بالحدود الطبيعية لهذه المشاعر، وهذا رغم أنه أمر نسبي بعض الشيء، فإن هناك مؤشرات عامة قد تساعدنا، ووجود أحدها -على مدى فترة من الزمن- ضروري لتفريق أي حالة مَرَضية عن غير المَرَضية في الطب النفسي، وهي
تعطل وظيفي عامّ أو تدهور في حياة الشخص وأدواره الاعتيادية عمليا أو اجتماعيا.شعور ذاتي بضيق أو معاناة نفسية لا يستطيع الشخص التعامل أو التأقلم معها داخليا.وجود خطر على النفس أو الآخرين.مشكلة في علاقة الشخص مع الآخرين، أو انحراف شديد عن عُرف المجتمع المحيط بما فيه المدى الواسع للسلوكات المقبولة فيه من فئات المجتمع المختلفة4.
من الجيد أن تحاول مساءلة الأفكار التي تختبئ خلف شعورك بالضياع وعدم الاستقرار. يبدو هذا الأمر سهلا في بعض الحالات، حيث يكون هناك ظرف أو مسألة معينة تسبب هذه المشاعر، كفقدان شخص عزيز أو وظيفة ما، إلا أن هذا ليس سهلا في حالات أخرى تتشابك فيها الظروف أو تبدو جيدة في ظاهرها، لكنها لا تكون السبب المباشر في شعور الإنسان بالضياع وعدم الاستقرار.
هل شعورك ناتج عن مرحلة عمرية معينة قد يشاركك فيه آخرون بمثل سنّك؟ هل هو نتاج تخبّط سلوكي، أم بسبب تجربة قاسية كانفصال أو مرض؟ هل هو شعور عامّ بالخواء رغم الظروف الجيدة؟ حاول التفريق بين المشاعر الناتجة عن ظروف موضوعية خارجية، وتلك التي تنبع من مشاعر داخلية لا دخل لها بالظروف المحيطة بشكل مباشر. هذا سيساعدك بعد ذلك على التعامل معها بشكل أفضل. من الممكن أيضًا أن تستخدم بعض تقنيات العلاج المعرفي السلوكي، مثل سجلّ الأفكار Thought Record الذي ستجده مُتاحًا في الجُزء الأخير من هذا المقال عند قسم أدوات قد تساعدك والذي يرشدنا لكيفية استكشاف مشاعرنا وما وراءها من أفكار، وترشيد سلوكاتنا بالشكل الأنسب.
لا يمكن للكثيرين أن يتحمّلوا الشعور بالضياع وعدم الاستقرار دون اللجوء إلى مهرب يخفف منها عبر الانغماس بشيء آخر، قد يكون هذا الآخر هو الطريق الأسهل، لكنه بالتأكيد ليس الطريق الأفضل أو الأكثر نضجا. وتشمل الطرق المعتادة ممارسة سلوكات غير صحية ومدمّرة أحيانا، مثل التدخين أو شرب الكحول أو تناول الطعام بشراهة أو الغرق في السوشيال ميديا، لتخدير مشاعر الضياع والألم، ولملء الخواء الداخلي. هذا كله لا يحدث دون ضريبة باهظة الثمن قد تدفعها عاجلا أو آجلا، رغم فائدتها اللحظية أو المؤقتة.
تشير العديد من الدراسات إلى أن القدرة على التعايش مع المشاعر السلبية وعدم اليقين وتأجيل العائد الإيجابي Delayed Gratification هي إحدى أهم علامات النضج النفسي لدى الإنسان، كما أن استخدام إستراتيجيات الضبط الانفعالي، مثل حل المشكلات بشكل إيجابي وإعادة النظر للأمور بشكل إيجابي وتقبّل الواقع، هي أكثر إيجابية على المدى البعيد أقل ارتباطا بحدوث اضطرابات نفسية بكثير من الاجترار أو الكبت أو العصبية والتفريغ الانفعالي56.
تذكّر أن المشاعر مؤقتة غالبا في حدتها وأحيانا حتى بمحتواها وطبيعتها. يقول الفيلسوف سينيكا شيئان يعيناننا على تحمّل المشاعر السلبية، إذا اشتدت فهي على الأغلب عابرة بعد وقت ليس بالطويل، وإذا استمرت فستصبح غالبا أقل وطأة وشدة. حاول ألا تتعامل مع المشاعر بوصفها معلومات وحقائق، بل بوصفها بيانات يمكن لك تشكيلها واستخدامها بطرق مختلفة، وتذكّر أن المشاعر تجربة إنسانية لا مناص من خوضها.
وأخيرا وليس آخرا، لا تعرّف نفسك بمشاعرك مثلا أنت تشعر بالضياع لكنك لستَ ضائعا بالضرورة. تذكّر الأشياء التي تدلل على عكس هذا الشعور، مثل قيمك العميقة، وأفكارك الراسخة، وما يجعلك أنت كجوهر لا مظهر.
ينصح الكثير من علماء النفس بأن تحدد ما تريده من حياتك وفقا للقيم التي تؤمن بها أكثر من أي شيء آخر، في نموذج يُدعى بالحياة المدفوعة بالقيم Value-driven life 7، فبدلا من وضع خطط عملية مباشرة، والتفكير بكيف يجب أن أواجه مشاعر الضياع وعدم الاستقرار وماذا يجب أن أفعل، فكّر أولا بم هي القيم التي يجب أن تدفعني كإنسان، وما هي المبادئ التي أرتضيها لنفسي وأرغب بأن أتصرّف بناء عليها، بعد ذلك يمكنك مساءلة سلوكاتك قياسا على القيم التي حددتها لنفسك وتغييرها تِباعا.
هل تعني العائلة لك كل شيء؟ ما موقع الصداقة والطموح والعطاء وغيرها من القيم في حياتك؟ مَن الشخص الذي تريد أن تكونه؟ الكثير من مشاعر الضياع قد تكون مؤشرا غير مباشر لنا على أن حياتنا لا تسير وفق القواعد التي نرتضيها لأنفسنا، وهذا يحتاج منا إلى مراجعة لإعادة التوجه إلى الطريق من جديد.
في لحظات الضياع والحيرة الكبرى، تزداد أهمية المساحات التي تظل تحت سيطرتنا الشخصية، يشمل ذلك روتينك اليومي وتفاعلاتك مع الآخرين من حولك وردة فعلك تجاه ما يحدث، وغيرها. أيّا كان شعورك، ما زال هناك بعض الأشياء التي تستطيع إبقاءها تحت سيطرتك وتحكّمك، وهذا أمر مهم جدا لأنه سيشعرك بشيء من الطمأنينة والاتزان. مثلا، في فترة الحجر المنزلي خلال جائحة كورونا، كان الأكثر قدرة على التعامل معها هم أولئك الذين عرفوا كيفية الإبقاء على هيكل روتين يومي وإنتاجية بالحد الأدنى على الأقل.
تختلف النقاط المرجعية التي يمكن البدء منها لدى كل شخص مقارنة بآخر، فقد تبدأ بمواجهة شعورك بالضياع من خلال التركيز على الأهم، سواء كان ذلك علاقاتك المقرّبة والتي تهمك، أو عملك الذي تستطيع الإنجاز فيه بسهولة وحبّ، أو حتى عاداتك اليومية الصحية كالرياضة والتأمل، أو العبادات والروحانيات التي توفر لك ملجأ فريدا يلفّك بالأمان والمعنى، المهم أن تحاول بسط سيطرتك على الدائرة الصغيرة حولك، حتى لو بدأ ذلك بترتيب أو تنظيف غرفتك
لا تنسَ التقليل من المشتتات، كاستخدام السوشيال ميديا، والتي تعزّز مشاعرك السلبية وتجعلك هائما على وجهك في عوالمها الواسعة.
يشعر الكثيرون بالضياع وعدم الاستقرار بسبب غياب هيكل عام للفعل والتفكير ووضع الأمور في سياقها، سواء لدى إجابة سؤال كيف تخدم أفعالي أو أيامي قيمي؟ كما في النقطة المذكورة سابقا، أو على صعيد أكثر إجرائية وعملية ماذا عليّ أن أفعل اليوم والأسبوع القادم مثلا؟
تعلُّم مهارات التخطيط وإدارة الوقت ستجعلك تنتقل من حيّز الشعور والتفكير إلى الفعل، ومن العالم الداخلي إلى الخارجي، وستستطيع وقتها إدارة أهم مورد نمتلكه نحن البشر، وهو الوقت؛ ما سيجعلك تشعر بقلق أقل لأنك قادر على ضبط الأشياء لكي لا تفيض عن حدها.
من الجيد أن يكون لديك أكثر من خطة بحسب الخط الزمني، أحدها لِمَا يجب أن تفعله يوميا يومية، وأخرى طويلة الأمد بحسب شكل حياتك مثلا إذا كنت طالبا وسينتهي فصلك القادم بعد 3 أشهر، اجعل الخطة هذه للأشهر الثلاثة القادمة، والأخيرة هي خطة عامة وأكثر مرونة لما ترغب بتحقيقه على أمد أبعد مثل السنتين القادمتين أو الخمس سنوات القادمة على سبيل المثال.
ليست هناك قواعد واضحة بالنسبة إلى المدد الزمنية الخاصة بالخطط، المهم أن تخطط وأن تكتب ذلك، الكتابة قَيْد يساعدك على إبقائك مسؤولا أمام نفسك.
نحن كائنات اجتماعية، ونتأثر بالآخرين إيجابا وسلبا، آراؤهم وأفكارهم قد ترينا ما لم نَرَه، وتجاربنا ونقاشاتنا معهم قد تثري حياتنا كما لا يثريها شيء آخر. لا تتردد في طلب المساعدة واللجوء لأشخاص آخرين تثق بهم وبحكمتهم، هذا سيفيدك من ناحية الشعور لأنك ستحسّ أنك لست وحدك، ومن ناحية السلوك والأفكار حيث قد يساعدونك في رؤية الأمور بطريقة مختلفة أو الميل نحو سلوك أكثر إيجابية.
إن زيارة الطبيب أو المعالج النفسي قد تفيد طبعا، لأن العلاج النفسي يجعلك أكثر إدراكا لذاتك وحاجاتها وقيمها، ومن ثم أكثر قدرة على اتخاذ قرارات واعية، وهذا أول المعرفة الحقيقية كما يقول سقراط اعرف ذاتك، والكثير من مشاعر الضياع تتأتّى من عدم معرفتنا لأنفسنا. إلا أنه من المهم التنويه هنا إلى أن العلاج النفسي ليس إرشادا مباشرا ولا إخبارا بما يجب أن تفعل وما لا تفعل، ولا ينزع عنك مسؤوليتك الذاتية وحريتك الشخصية. ليس كل الضياع وعدم الاستقرار في الحياة يناسبه الذهاب للطبيب أو المعالج النفسي، وأحيانا نحتاج إلى حكمة من نثق بهم من أصدقائنا أو عائلاتنا أو معلمينا أو حتى علماء الدين...إلخ.
يُعتَبَر كتاب 12 قاعدة للحياة أحد أشهر الكتب وأكثرها مَبيعًا خلال السنوات الأخيرة، لمؤلّفه المعالج النفسي الكندي الشهير والمُثير للجدل جوردت بيترسون. في هذا الكتاب يضع بيترسون خلاصة مشاهداته السريرية حول مسألة الفوضى والشعور بالضياع في العالَم الحديث، من خلال تقنيات وأفكار مبتكرة يعتبرها ترياقًا للضياع ولأولئك الذين يرغبون بالتخلّص من حياة عبثية بلا معنى. يناقش بيترسون في الكتاب عدد من المحاور التي يراها متّصلة بمسألة المعنى والغاية وهي الانضباط والحرية والمغامرة والمسؤولية، ويقسم نصيحته للقرّاء إلى 12 قانونًا عملي للحياة.
يُعلّمنا جيمس كلير في كتابه الشهير العادات الذرّية، أنّ التغييرات البسيطة في نظام حياتنا اليوميّ، بإمكانها أن تُحدِث أثرًا عظيمًا وفرقًا هائلًا في جودة حياتنا وفي كيفية رؤيتنا لأنفسنا والعالَم من حولنا، ويأخذنا في رحلة من الإرشادات العلمية والعملية حول التغييرات الممكنة على نظامنا المعيشيّ وكيفية اكتساب عادات جيّدة والتخلّص من العادات السيئة.
تطبيق توازن يوفر تطبيق توازن جلسات قصيرة باللغة العربية يمكنك الاستماع لها.
يمكنك اتباع الخطوات الآتية لممارسة التأمل الذهني
اِبقَ جالسا بضع دقائق، استشعر حركة تنفسك وركّز عليها.
ماذا كان هذا الموقف؟ ومتى حدث؟ ومَن كان بصحبتك؟ وما المشاعر التي يستثيرها تذكره؟
كيف تُعرّف هذه الفكرة؟ هل تلوم شخصا من الماضي، أم تُحمّل نفسك المسؤولية؟
هل انعكس شعورك تجاه أفكارك على جسدك؟ هل تشعر بالضيق أم بالراحة؟ راقب التأثير الجسدي عدة دقائق.
ركّز كل انتباهك على مراقبة أنفاسك.
ما شعورك الآن؟ ما الأعراض الجسدية التي لاحظتها؟ ما الأفكار التي خطرت لك وأنت مغمض العينين؟
_____________________________________________
المصادر | https://www.aljazeera.net/sukoon/2023/1/21/%d8%a3%d8%b4%d8%b9%d8%b1-%d8%a8%d8%a7%d9%84%d8%b6%d9%8a%d8%a7%d8%b9-%d9%88%d8%b9%d8%af%d9%85-%d8%a7%d9%84%d8%a7%d8%b3%d8%aa%d9%82%d8%b1%d8%a7%d8%b1-%d9%85%d8%a7%d8%b0%d8%a7 | 2023-01-21T13:21:43 | 2024-05-30T09:55:15 | أبعاد |
|
66 | غضب الداليت.. هل يتوحد الهندوس المنبوذون مع المسلمين لمواجهة مودي؟ | الهندوس ليسوا كتلة سياسية متجانسة على الطريقة التي يصورها رئيس الوزراء ناريندرا مودي وحزبه، بل إن بعضهم يتعاطف مع المسلمين المضطهدين لأنهم يكتوون بنيران التطرف الهندوسي ذاتها. | بالنسبة إلى المراقب من الخارج، يبدو المشهد السياسي في الهند، على مأساويته في بعض النواحي، واضحا وبسيطا للغاية أغلبية هندوسية تصطف وراء رئيس وزراء قومي يميني يقمع هو وحزبه عددا من الأقليات المضطهدة في مقدمتها المسلمون، ويجيّش الجماهير المتعصبة ضدهم ضمن طقس ديني سياسي متطرف.
لكن الحقيقة التي أظهرتها الوقائع الأخيرة، ومنها نتائج الانتخابات التي أُجريت في وقت سابق من هذا العام، تشير إلى غير ذلك، حيث تثبت ببساطة أن الهندوس ليسوا كتلة سياسية متجانسة على الطريقة التي يصورها رئيس الوزراء ناريندرا مودي وحزبه، وأنهم يضمون فئات متعددة، يعارض بعضها حكم مودي، بل إن بعضهم يتعاطف مع المسلمين المضطهدين لأنهم ببساطة يكتوون مثلهم بنيران التطرف الهندوسي ذاتها.
في مقدمة هؤلاء طبقة من يُعرفون بـالداليت، وهم أقلية كبيرة يقدر عددها بالملايين، لكن نظام الطبقات الذي رسخته الهندوسية على مدى أكثر من 3 آلاف عام، دفعهم بقسوة إلى قاع السلم الاجتماعي باعتبارهم فئة منبوذة بحكم إلهي. لكن ذلك لم يمنع النظام الحاكم في الهند وطبقة المتنفذين في البلاد على مدى سنوات من محاولة استمالتهم وتجييشهم لخدمة النضال المقدس ضد الإسلام والمسلمين عبر السماح بضمهم للمنظمات الهندوسية المتطرفة، وشحنهم بالمشاعر والأفكار المعادية المسلمين.
خدمت هذه السياسة حزب بهاراتيا جاناتا الحاكم في الهند بطرق عديدة، فمن ناحية وفرت له رافدا مهما للحشد المناهض للمسلمين الذي يعد اليوم ركيزة أساسية لحكم مودي، ومن ناحية أخرى وفر الشحن الهوياتي والصراع مع المسلمين ملهاة لطبقة منبوذة تنسيها أوضاعها المزرية في خضم حرب ثقافية ومواجهة طائفية.
ولكن الكثير من المؤشرات تدل على أن هذه الإستراتيجية لم تتكلل بالنجاح إلى حد بعيد، إذ باتت قطاعات واسعة من الداليت ترى في صعود الحزب القومي الهندوسي الحاكم تكريسا لمعاناتها الطبقية المؤسسة على أسس دينية، بل إنها باتت ترى في المسلمين حلفاء محتملين في مواجهة الهندوس المتطرفين.
لفهم معاناة طبقة الداليت وأسرار نبذها علينا أن نعرج سريعا على جذور التقسيم الطبقي في الديانة الهندوسية، التي تنطوي على تقسيم هرمي صارم وفق أسس روحية، فالطبقة العليا من العلماء والكهنة خلقت من رأس الإله براهما، وطبقة الحكام والمحاربين خلقت من ذراعه، أما التجار والحرفيون فقد خلقوا من فخذه، ويليهم الفلاحون والعمال الذين خلقوا من قدمه، ثم ما دون ذلك هم طبقة الداليت الذين يعاملون معاملة دون البشر، إذ إنهم جاؤوا للحياة ليعاقبوا على ما فعلوه في حيواتهم السابقة وفق الاعتقاد الهندوسي، وعليهم أن يقوموا بالمهام التي لا تريد الطبقات العليا تلويث نفسها بالقيام بها.
تظهر هذه الفكرة حتى في الأصول اللغوية لكلمة داليت التي تعني المضطهدين أو المنكسرين أو المسحوقين، وهو الاسم الذي اختارته هذه الطبقة لنفسها تمردا على الاصطلاحات الهندوسية التي كانت تفضل وصفهم بـالمنبوذين. ويُعتقد أن أعداد الداليت تتراوح بين 200 و250 مليون شخص، مما يجعلهم أقلية في الهند التي يقارب عدد سكانها اليوم 1.5 مليار نسمة، لكن إذا تخيلنا أن دولة واحدة جمعت أبناء هذه الطبقة فإنها ستكون ضمن أكبر 6 دول على وجه الأرض من حيث عدد السكان.
لكن التعداد الكبير للداليت في الهند لا يشفع لهم لنيل معاملة عادلة أو لائقة، يكفي لمعرفة حجم مأساة تلك الطبقة أن نعرف أن أحد مجتمعاتها يسمى موساهارز في ولاية بيهار وهي كلمة تعني شعب الفئران، وذلك لأنهم فقراء ومعدمون لدرجة أن نظامهم الغذائي يعتمد في الأساس على اصطياد الفئران وأكلها، فهم يظلون بلا عمل لمدة تصل لثمانية أشهر في العام، ثم يعملون لوقت قليل في أكثر الأعمال سخرة في الأراضي الزراعية للملاك الأغنياء حين يحتاجون إلى خدماتهم.
أحد المجتمعات الأخرى للداليت يعرف باسم بهانغيس، وتعني أولئك الذين يجمعون القمامة يدويًا، وتحكي إحدى المنتميات إليهن لصحيفة إن بي آر الأميركية أن الحل الوحيد لها للنجاة في الحياة في الهند هو محاولة إخفاء طبقتها، إذ إن لقب طبقتها وعائلتها في حد ذاته يعد أسوء إهانة يمكن توجيهها لشخص في الهند.
على مدى التاريخ القريب، خاض الداليت نضالات عديدة لمحاولة تحسين أوضاعهم ضمن الهيراركية الهندوسية، وفي المجتمع الهندي بشكل عام، لكن ما حققوه فعليا كان ضئيلا في أفضل الأحوال. أبرز هذه المحاولات وقعت في أعقاب استقلال الهند عن بريطانيا عام 1947 حين اختير باباساهب أمبيدكار وزيرًا للقانون والعدل، وقد كان من أبناء طائفة الداليت وواحدا من الآباء المؤسسين لجمهورية الهند الحديثة والواضعين لقواعدها الدستورية.
وقد تضمن الدستور الذي خط قواعده أمبيدكار، حظر التمييز الطبقي في البلاد، بل إقرار سياسة التمييز الإيجابي لصالح أبناء طائفة الداليت والمتمثلة في توفير التعليم وفرص العمل كتعويض عن الظلم التاريخي الذي تعرضوا له، لكن سرعان ما اكتشف باباساهب أمبيدكار أن سطوة التقاليد الدينية الهندوسية أقوى بكثير من أية قوانين يمكن سنها، ومن ثم استقال الوزير، واتخذ خطوة راديكالية إذ اعتنق البوذية ودعا أبناء طائفة الداليت إلى أن يخرجوا من الديانة الهندوسية التي تقمعهم، وبالفعل تحوّل إلى البوذية مع 200 ألف من أبناء طائفته وسط مراسم كبيرة.
لم تفلح إذن فورة الإصلاحات التي صاحبت الاستقلال في تغيير أوضاع الداليت بشكل جذري، وإن كانت حسّنت أوضاعهم القانونية قليلا مقارنة بالسابق، فقبل ذلك الوقت لم يكن يسمح مثلا للطلاب الداليت المحظوظين الذين تمكنوا من الالتحاق بالمدارس، بأن يلمسوا الكتب أو السبورة لأن لمسها يعني تدنيسا لها، إذ كان ينبغي عليهم أن يجلسوا خارج الفصل ويكتبوا الدرس في الوحل إذا ما أرادوا متابعة ما يقوله المعلم.
ورغم أن الداليت يُسمح لهم حاليا بالانخراط في السلك التعليمي، فإن الجذور الثقافية للتمييز لا تزال تطاردهم، ففي عام 2016 أقدم الطالب والباحث المشهود له بالتفوق روهيث فيمولا المنتمي لتلك الطبقة على الانتحار وعمره لم يكن قد تجاوز 26 عامًا نتيجة التنمر والطبقية العنيفة التي يواجهها بسبب أصوله، وقد وصف فيمولا في رسالة انتحاره ما تعرض له طوال حياته قائلًا لقد كان ميلادي حادثًا مميتًا.
وفي عام 2020 فوجئ رئيس جمهورية الهند آنذاك وهو منصب شرفي إلى حد كبير رام ناث كوفيند برسالة جاءته من شاب من الداليت، يستأذنه فيها بأن ينضم إلى الفصائل المسلحة التابعة للجماعة الشيوعية الماوية في الهند الناكساليت التي كانت تقود حرب عصابات ضد قوات الأمن الهندية، لأن القانون والدستور قد خذلاه وهو يريد الحفاظ على كرامته، حسب قوله.
وقتها، تعرض الشاب براساد من ولاية أندرا براديش الجنوبية إلى التعذيب والإهانة الجسيمة في مركز الشرطة بسبب طبقته المنبوذة، وهي الحادثة التي اعترفت بها الشرطة بالفعل بعد ذلك، مؤكدة أنها قبضت على الضابط المتورط في الانتهاك.
وبحسب صحيفة التايمز البريطانية، فقد انتشرت في عام 2022 حوادث لهجمات القرويين من أبناء الطبقات العليا على الذكور من الداليت الذين يجرؤون على ركوب أحصنة بيضاء في ليلة زفافهم، لدرجة أن الشرطة في إحدى الولايات قد قررت أن تمارس الحماية المباشرة للعرسان من الداليت في ليلة زواجهم، خاصة بعد أن وصلت تلك الحوادث إلى حد الرجم.
تظهر هذه الممارسات مجتمعة، وغيرها، أن البنية التحتية المؤسسية لاضطهاد الداليت لم تتغير بشكل جدي، وأن النظام الطبقي النابع من الجذور والتقاليد الدينية لا يزال يفرض نفسه حتى لو حاولت بعض القوانين المحلية إصلاح الأوضاع ظاهريا. وبحسب صحيفة واشنطن بوست الأميركية، سُجلت جريمة كل 10 دقائق ضد الداليت في عام 2020 وحده، كما تفشت حوادث الاغتصاب الوحشي لنسائهم، والأنكى أن الجناة عادة ما يفلتون من العقاب.
وعلى مستوى أعمق، لا تزال القطاعات الأوسع من أبناء الداليت يفتقرون إلى الموارد الأساسية ويتلقون دعمًا شحيحًا يوازي حفنة ضئيلة من السلع الغذائية، ولا تزال أغلبيتهم تعمل في مهن متواضعة في أراضي الأغنياء أصحاب الأراضي الزراعية الكبيرة، في حين لا يتذكر الحكام والسياسيون مظالمهم إلا في مواسم الانتخابات وحسب، وسرعان ما تتبخر أي وعود يحصلون عليها بعد انقضاء المصالح الانتخابية.
قبل الاستقلال كان الداليت يعاملون مثل العبيد، وإذا ما استمر مودي في الحكم سيعودون عبيدًا من جديد.
زعيم المعارضة بمجلس الشيوخ الهندي ماليكارجون كهارج
في انتخابات عام 2014 لعب الداليت دورًا كبيرًا في الانتصار الساحق الذي أحرزه حزب مودي القومي الهندوسي بهاراتيا جاناتا، وارتقائه إلى السلطة في الهند لأول مرة بعدما قدم مودي حزبه بوصفه حزبًا يمثل كل الهندوس، وأعطى وعودًا بالتنمية الاقتصادية للجميع والارتقاء بحياة الفقراء، وقد لاقى خطاب مودي تصديقًا واسعًا لأنه هو نفسه ينتمي لأسرة من طبقة متواضعة في الهند كما يقدم نفسه، وقد وصل حجم تأثير الخطاب الحزبي القومي في الفئات المضطهدة في الهند إلى حد فوزه بـ40 مقعدا من إجمالي 84 مقعدا برلمانيا مخصصة لطبقة الداليت.
لكن سرعان ما انقلبت العلاقة بين الداليت ومودي بعد ذلك، إذ ظهر الوجه الحقيقي لحزب مودي باعتباره حزبا للهندوس الأغنياء، وظهر أنه لن يعطي الداليت إلا تغييرات رمزية، وبدأت استطلاعات الرأي تظهر تراجع تأييد الداليت لمودي وانحسار شعبيته بينهم، كما هزت حوادث انتحار طالبين جامعيين من الطبقة ذاتها الرأي العام الهندي في عامي 2016 و2017، وبدأ الداليت يعبرون بوضوح بحلول عام 2018 عن أن وضعهم لم يتحسن، بل يسوء أكثر فأكثر.
وبحسب نيلانجان سيركار، الزميل الزائر في مركز أبحاث السياسات في نيودلهي، فخلال الفترة الأولى من حكم مودي حاول هو وحزبه استخدام لغة تعد جميع الطبقات في الهند بالرخاء، لكن سرعان ما اتضح بعد ذلك أن هناك استقطابا طبقيا ملحوظا في البلاد.
لم تعمل سياسات مودي الاقتصادية بشكل عام لصالح الفقراء في البلاد وعلى رأسهم الداليت بشكل أساسي، وأصبح معدل البطالة بحلول عام 2024 هو الأعلى في الهند منذ 46 عامًا، إذ يعاني شاب من كل 6 شباب من البطالة، وعلى الجانب الآخر تضاعف حجم الطبقة العليا التي يبدأ دخلها السنوي من 37 ألف يورو ثلاث مرات في العقد الأخير، ويمكن لهذه الأرقام أن تخبرنا بحقيقة الانحيازات الطبقية للحزب الحاكم، والتي تعكسها سياساته الاقتصادية بوضوح ودون مواربة.
في ضوء ذلك، ركزت المعارضة في الهند في السنوات الأخيرة على هذا الجانب، مسلطة الضوء على سجل اللامساواة والتمييز لمودي وحزبه بحكم الطبقات الفقيرة ومنهم الداليت، الذين لا يجدون من يمثلهم في وسائل الإعلام أو أجهزة الدولة أو الصناعات الكبرى، ولا يزالون يموتون من الجوع، في حين يمتلك 3 من الهنود جميع الامتيازات. كان هذا جزءا رئيسيًا من خطاب المعارضة الذي زعزع مكانة مودي والذي لاقى رواجًا كبيرًا بين الداليت.
وبحسب سيدة هندوسية من طبقة الداليت كانت قد صوتت لمودي في عام 2014 واسمها رشما، فإن حياة الداليت كانت صعبة دائمًا، لكن في ظل حكم ناريندرا مودي وحزب بهاراتيا جاناتا أصبحت الأمور أكثر سوءًا، وبحسبها يواجه أطفال الداليت التمييز والاضطهاد في المدارس، ويتعرض رجال الداليت للقتل إذا ما وقعوا في حب نساء من طبقات أعلى، في حين تتعرض نساء الداليت للاغتصاب، وإذا ما ذهب الداليت للأماكن الدينية يتعرضون للإهانات والاضطهاد أيضًا.
وبحسب منظمة هيومن رايتس ووتش، فقد تدهورت بالفعل أوضاع طبقة الداليت تدريجيًا تحت حكم مودي في ظل الأيديولوجيا الهندوسية القومية المتطرفة التي يروج لها والتي تُعرض الأقليات الدينية والداليت لأخطار العنف والتمييز الطائفي.
في ضوء ذلك، بدأ يُنظر على نطاق واسع إلى الداليت في السنوات الأخيرة باعتبارهم ضمن ضحايا أجواء الاضطهاد والتمييز التي رسخها مودي وحزبه، شأنهم شأن المسلمين، خاصة وأنهم يتعرضون للعنف أيضا من جماعات حماية الأبقار من أقصى اليمين المتطرف في الهند والتي تحظى بحماية الحزب الحاكم، وهي الجماعات المسؤولة عن إعدام وجلد المسلمين والداليت خارج نطاق القانون حين يتهمونهم بذبح الأبقار وبيع لحمها في حالة المسلمين، أو سلخ جلودها بعد وفاتها للاستفادة منها في حالة الداليت.
وغالبًا ما يتم تصوير حوادث العنف ضد المسلمين والداليت من تلك الجماعات ونشرها على وسائل التواصل الاجتماعي، ورغم ذلك، يفلت الجناة في الكثير من الأحوال من العقاب، إذ لا تمر إلا نصف الحوادث إلى المحاكم. إحدى أبرز هذه الحوادث وقعت عام 2016 في ولاية كوجارات حيث جرى ربط 7 أفراد من عائلة واحدة من طبقة الداليت بسيارة، وجلدهم علنًا بعد تجريدهم من كامل ثيابهم وتجريسهم في البلدة، لأنهم كانوا يسلخون بقرة اشتروها بعد وفاتها لينتفعوا بجلدها، لكن جماعة حماية الأبقار اتهمتهم بذبحها.
بحلول موعد الانتخابات الأخيرة في وقت سابق من العام الحالي 2024 بدا أن القمع الذي يتعرض له الداليت والمسلمون وغيرهم من الأقليات، بالإضافة إلى البطالة التي يواجهها الشباب والسياسات الاقتصادية المنحازة للأغنياء، قد أعادت كلها رسم المشهد السياسي، مُوجهةً ضربة قاصمة لتوقعات مودي وحزبه المغرورة باكتساح نتائج الانتخابات. وقد حصد حزب بهاراتيا جاناتا فوزًا بطعم الخسارة بـ240 مقعدا فقط لحزبه و293 مقعدا لتحالفه الحاكم، في حين حصل تحالف المعارضة الهندية على 243 مقعدا. وتعني هذه النتائج أن مودي سوف يبقى في السلطة، ولكن مع تفويض شعبي أقل، وسوف يكون مجبرا على الحكم ضمن تحالف انتخابي وليس منفردا كما كان الحال في السنوات العشر الفائتة.
لقد بات واضحًا -بحسب صحيفة التايمز البريطانية- أن مودي قد أخطأ التقدير وظن أن قمع الأقليات وإعادة بناء معبد هندوسي على أطلال مسجد تاريخي للمسلمين وقمع الصحافة وميله المفرط ناحية أقصى اليمين سيمنحه فوزا كاسحا لكن هذا لم يحدث. وبحسب الصحيفة، فقد كانت الصدمة الكبرى لمودي من طبقة الداليت التي عاقبته بأصواتها. لقد شعر الداليت بالخطر من أن مودي لو حصل على المقاعد التي تؤهله لتغيير الدستور قد يحذف كل الامتيازات القليلة التي حصل عليها المنبوذون طول العقود الفائتة بما يتضمن الحصة في الوظائف الحكومية والمعونات الاجتماعية.
في الخلاصة، لعب الهندوس من الداليت دورًا واضحًا في النتائج المخيبة لمودي وحزبه في الانتخابات الأخيرة بعد أن ذاقوا مرارة الحكم الطائفي الذي يقسم المجتمع بناء على الهوية الدينية ويكتسب شعبيته من خلال إشعال الأحقاد بين أبناء الوطن الواحد، واستطاع الداليت مع المسلمين والقوى المعارضة المتمسكة بحياد الدستور أن يرسلوا رسالة إنذار بأن الهند لا يمكن أن تحكم طويلًا بسياسات طائفية، وسيتوقف مستقبل حزب مودي وأقصى اليمين المتطرف في البلاد على مدى قدرة معارضيه جميعا وفي مقدمتهم الداليت والمسلمون على التوحد معًا والتعاون من أجل تقديم معارضة فعالة وقوية للمشاريع الطائفية، فلا تعد الانتخابات الماضية إلا بداية معركة المعارضة لتجميع نفسها والصمود أمام محاولات ترسيخ حكم طائفي يكتوي الجميع بنيرانه، بلا استثناء. | https://www.aljazeera.net/politics/2024/9/11/%d9%87%d9%84-%d9%8a%d8%aa%d9%88%d8%ad%d8%af-%d8%a7%d9%84%d9%87%d9%86%d8%af%d9%88%d8%b3-%d8%a7%d9%84%d9%85%d9%86%d8%a8%d9%88%d8%b0%d9%88%d9%86-%d9%85%d8%b9 | 2024-09-11T19:06:56 | 2024-09-11T22:30:53 | أبعاد |
|
67 | لأول مرة تنشئ ألمانيا قاعدة عسكرية خارج أرضها فماذا تريد أن تقول؟ | تواجه ألمانيا اليوم حزمة من التحديات الأمنية والعسكرية، لذلك اتخذت سلسلة من التغيرات على رأسها إعلان برلين إستراتيجية جديدة للأمن القومي، ورفع ميزانية الدفاع، وبناء أول قاعدة عسكرية خارج حدودها. | مع نهاية الحرب العالمية الثانية واستسلام ألمانيا ثم تقسيمها إلى شطر شرقي وآخر غربي، بدأت الدولة المدمرة الخارجة من تحت أنقاض النازية في محاولة بناء جيشها الذي أعيد تأسيسه عام 1955 تحت اسم قوة الدفاع الفيدرالية. وقد ساهمت المواجهة بين الولايات المتحدة والغرب وبين الاتحاد السوفياتي إبان الحرب الباردة في رسم هوية الجيش وعقيدته في ألمانيا الغربية، بشكل مخالف تماما للعقيدة التي كانت سائدة في زمان الجيش النازي الفيرماخت، وكانت تلك واحدة من الطرق التي اختارتها ألمانيا للتنكر لماضيها القديم وتلمّس طريقها المتعثر في عالم متغير.
صُمم الجيش الجديد ليتوافق مع معايير ومبادئ حلف شمال الأطلسي الناتو بهدف ردع التهديد السوفياتي أثناء الحرب الباردة، واستمرت هذه العقيدة في الهيمنة على الجيش حتى بعد نهاية الحرب وسقوط جدار برلين، حيث ظلت أولويات الجيش الألماني تتمحور حول الدفاع الجماعي، والتكامل مع القوات المتحالفة، وتحقيق إستراتيجية استجابة مرنة، وكلها إستراتيجيات تتوافق غالبا مع الموقف الدفاعي وتفتقر إلى الاستباقية والذاتية.
وبذلك أصبح مفهوم الدفاع الجماعي محوريًا للإستراتيجية العسكرية الألمانية، حتى أصبح مفهوم الدفاع الوطني يعادل الدفاع الجماعي، بمعنى أن الدفاع عن ألمانيا بات يعادل الدفاع عن أعضاء الناتو، وبالتالي لا تحتاج ألمانيا لامتلاك كافة التقنيات والأسلحة العسكرية إذا ما توافرت تلك التقنيات لدى عضو آخر من أعضاء الحلف الأطلسي.
هذا التحول الكبير في العقيدة العسكرية كان هو الضريبة الأكبر لتفسخ الجيش الألماني ورغبة ألمانيا والعالم من ورائها؛ في تخطي آثار حقبة النازية التي تبنى خلاها الجيش الألماني إستراتيجية الحرب الخاطفة والتي غالبا ما تُنسب إلى الجنرال هاينز جوديريان، إبان الحرب العالمية الثانية.
وتميزت هذه الإستراتيجية بالهجمات السريعة والمنسقة باستخدام الأسلحة المشتركة؛ الدبابات والطائرات والمشاة، واعتنقت عقيدة تقوم على الحركة والسرعة والانتصارات الحاسمة. وقد كانت أفكار جوديريان وتكتيكاته حاسمة في أحداث مفصلية، مثل غزو بولندا وفرنسا والمراحل المبكرة من عملية بارباروسا ضد الاتحاد السوفياتي.
غير أن ألمانيا اليوم تواجه حزمة من التحديات الأمنية والعسكرية التي ربما تجبرها على إعادة النظر في عقيدتها العسكرية الراسخة منذ قرابة 7 عقود. هذه التغيرات تدفع الجيش الألماني دفعا إلى الدخول فيما يشبه عملية قلب مفتوح لاستبدال وإعادة النظر في الكثير من أفكاره وتقاليده الراسخة. وقد صاحب هذه العملية سلسلةٌ من التغيرات الواضحة للعيان، على رأسها إعلان برلين إستراتيجية جديدة للأمن القومي، ورفع ميزانية الدفاع، وبناء أول قاعدة عسكرية للبلاد خارج حدودها لأول مرة منذ الحرب العالمية الثانية.
تُعد المخاوف المتزايدة من قيام حرب في أوروبا أو بالقرب منها الدافعَ الرئيسي وراء التحولات الكبيرة في التفكير والتخطيط العسكري في ألمانيا. لقد اشتعل شرق القارة العجوز بالفعل قبل أكثر من عقد من الزمن، حين اندلع صراع مسلح بين روسيا وأوكرانيا في عام 2014، وأقدمت روسيا على اقتطاع حصة من دولة أوروبية حالية تحت سمع وبصر العالم إثر سيطرتها على شبه جزيرة القرم.
أصبحت الأمور أسوأ مع الحرب الحالية التي اندلعت عام 2022 وشملت الهجوم على الأراضي الأوكرانية بأسرها، بما فيها المدن الكبرى مثل خاركيف وأوديسا وحتى العاصمة كييف التي اقتربت لوهلة من السقوط في أيدي الروس، بعدما استولوا بالفعل على أجزاء كبيرة من جنوب أوكرانيا وشرقها، بما يشمل مدينة ماريوبول الساحلية الإستراتيجية.
بالتزامن مع هذه التحولات، كانت العلاقات بين الحلفاء الغربيين التقليديين على ضفتي الأطلسي تمر باختبارات كبيرة. ففي ينايركانون الثاني 2012، أعلنت إدارة الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما سحب أكثر من 8000 جندي من أوروبا، تبع ذلك سحب نحو 2500 جندي إضافيين على مدار السنوات الأربع التالية. صارت الأمور أكثر سوءا مع قدوم إدارة دونالد ترامب التي أعلنت في يوليوتموز 2022 سحب قرابة 12 ألف جندي من ألمانيا، بجانب خطة لنقل مقر القيادة الأوروبية الأميركية من مدينة شتوتغارت الألمانية إلى مدينة مونس البلجيكية.
ويعتبر هذا أكبر سحب للقوات من أوروبا منذ الحرب العالمية الثانية. ورغم أن أميركا حاولت تبرير هذه الخطوات بمبررات مثل الضرورات الإستراتيجية وإعادة التموضع، فإن القوى الأوروبية -وفي مقدمتها برلين- نظرت إليها بارتياب كبير، خاصة في ضوء سياسات ترمب التي قوضت التحالف الأميركي الأوروبي على أكثر من صعيد.
ورغم ارتفاع تعداد الجنود الأميركيين مع تولي بايدن رئاسة الولايات المتحدة وزيادة التهديدات الروسية، وهو ما أجبر واشنطن على نشر قوات إضافية في بولندا ورومانيا ودول البلطيق، فضلا عن زيادة القدرات البحرية في إسبانيا والدعم الجوي في بريطانيا.
رغم ذلك فإن أزمة الثقة تجاه أميركا تفاقمت داخل دول الاتحاد الأوروبي -وعلى وجه الخصوص ألمانيا- بعدما ترسخت بالفعل، وهو ما أشار إليه تقرير المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية مؤكدا أن غالبية الأوروبيين شعروا بأن النظام السياسي الأميركي مكسور، وأن الولايات المتحدة لن تستعيد مكانتها السابقة كزعيمة للغرب، وأن هناك شكوكا جدية حول موثوقية واشنطن والتزامها بالشراكات عبر الأطلسي.
ومع قرب الانتخابات الرئاسية الأميركية وتنامي فرص عودة ترمب إلى الرئاسة، بجانب وضع الصين كتهديد أول من قبل واشنطن، حيث وصفت إستراتيجية الأمن القومي الأميركي بكين بأنها المنافس الوحيد الذي لديه النية لتغيير النظام الدولي ويمتلك القوة للقيام بذلك، وتراجع نظرة أميركا إلى روسيا كتهديد رئيسي رغم الحرب في أوكرانيا، تشعر القوى الأوروبية -وفي مقدمتها ألمانيا- أن عليها أن تضطلع بمهمة الدفاع عن نفسها دون انتظار حماية من الولايات المتحدة.
لكن فكرة الدفاع الجماعي الأوروبي تواجه هي الأخرى تحديات كبيرة، فقد سبق أن أيدت كل من ألمانيا وفرنسا وإيطاليا فكرة إنشاء جيش أوروبي موحد متكامل، ولكن في المقابل أبدت الدول الأوروبية الشرقية -وعلى رأسها بولندا ولاتفيا- اعتراضا على الفكرة، خوفا من أن يقوض ذلك الهيكل الجديد من فعالية حلف الناتو، ويقوض الالتزام العسكري الأميركي الذي تعتبره غير قابل للاستبدال رغم الشكوك بشأن موثوقيته.
وعلى مستوًى أكثرَ عملية، لا تزال الفكرة تنطوي على ثغرات عدة، على رأسها أنه لا يوجد حتى الآن تعريف دقيق لماهية هذا الجيش الأوروبي، وهل يعني مثلا أن تقوم ألمانيا وفرنسا وإيطاليا وباقي الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي بحل جيوشها ودمجها في جيش واحد بقيادة واحدة؟ أم يتم تشكيل الجيش رقم 28 كوحدة منفصلة لها أدوار عملية وعقيدة عسكرية واحدة ومبادئ تشغيلية وتمويل منفصل؟ وساعتها كيف يمكن إدارة هذا الجيش الذي تتنازعه كل هذه الآراء والمصالح المتضاربة؟
تجعل هذه التساؤلات فكرة الدفاع الأوروبي الجماعي، بشكلها البدائي المتمثل في تشكيل جيش موحد، أبعد ما يكون عن العملية، وفي ألمانيا تحديدا، تصبح المسألة أكثر تعقيدا في ظل وجود تساؤلات وجدالات داخلية لا تقل أهمية حول هوية الجيش وتعريفه لنفسه. فبحلول عام 2011، تبنت برلين مبادرة لوقف التجنيد الإجباري، وهو ما يُعد تحولا كبيرا لدولة أوروبية مركزية.
وصُنفت هذه المبادرة ضمن حزمة إصلاحات إستراتيجية تهدف إلى تحويل الجيش الألماني إلى قوة عسكرية محترفة بالكامل، تزامنا مع التغير المرتقب لدور البوندسفير. وباعتبارها الدولة الأكثر سكانا والأقوى اقتصاديا في قلب أوروبا، كانت المهمة المطلوبة من ألمانيا ليست القدرة على الدفاع عن نفسها فحسب، ولكن أن تتحول إلى عمود فقري للدفاع الجماعي في القارة العجوز، وأن تكون مستعدة لخوض حرب محتملة للدفاع عن نفسها وعن حلفائها.
لكن الوصول إلى هذه الصيغة المنشودة يتطلب ما هو أكثر بكثير من مسألة إصلاح نظام التجنيد. لقد اكتشفت ألمانيا أنه بعد عقود من تبني سياسات الدفاع الجماعي داخل حلف الناتو ونشر القوات والأسلحة الألمانية خارج الحدود، أصبح الجيش الألماني يجد نفسه بدون ذخيرة كافية للدفاع عن نفسه ضد أي هجوم إلا لبضعة أيام فقط. وبعبارة أوضح، في الوقت الذي كيَّفت فيه روسيا جيشها واقتصادها مع حالة الحرب الدائمة، لا تمتلك ألمانيا ما يكفي من الأفراد المؤهلين، فضلا عن المعدات والقدرات التي تتلاءم مع حجم الاستعدادات في الشرق.
عملت كل هذه التحولات كمباضع في قلب العسكرية الألمانية التي كانت أشبه بمريض يكافح في غرفة العناية المركزة. وكخطوة أولى للاستشفاء من آثار الحرب الباردة التي وجد البوندسفير نفسه أسيرا في زمانها إلى اليوم، دشنت برلين في عام 2022 صندوقا خاصا بقيمة 100 مليار يورو لدعم تحديث الجيش، وتعهدت بالوصول إلى هدف حلف الناتو بإنفاق ما لا يقل عن 2 من الناتج المحلي الإجمالي الوطني على الدفاع اعتبارا من عام 2024، مما يعني إنفاق زهاء 85 مليار يورو سنويا على الأغراض العسكرية.
وبالرغم من أن ميزانية الدفاع في الموازنة العامة لعام 2024 بلغت 51.8 مليار يورو فقط، وهو أدنى مما تعهدت به برلين، فإن إضافة مخصصات الصندوق الخاص وأسهم دفاعية أخرى وضعت ألمانيا على مشارف الوفاء بتعهداتها، وتكون بذلك قد لبت متطلبات الناتو لأول مرة منذ أوائل التسعينيات.
في غضون ذلك، أصبح سؤال تحولات العقيدة العسكرية الألمانية محل اهتمام متزايد، وقد جاء الإعلان العملي عن طرفٍ من هذه العقيدة مع تعهد ألمانيا ببناء أول قاعدة عسكرية لها خارج حدودها، وهو ما يعني التحول من سياسات الدفاع الجماعي وضبط النفس والانكفاء على الذات إلى عقيدة بناء الردع الألماني الخاص بمعزل عن الولايات المتحدة والناتو، وحتى عن القوى الأوروبية الحليفة.
تقع القاعدة الجديدة -وهي الأولى لألمانيا خارج حدودها منذ الحرب العالمية الثانية- في دولة ليتوانيا بالقرب من عاصمتها، وستستثمر ليتوانيا أكثر من مليار يورو في القاعدة، وهو الأكبر في تاريخها، بينما يتوقع أن تنفق ألمانيا ما بين 6 إلى 9 مليارات يورو على بناء القاعدة التي تستوعب زهاء 5000 جندي بشكل مبدئي، بجانب 800 مليون يورو كنفقات تشغيلية سنوية، وتعمل ألمانيا وليتوانيا من أجل الوصول إلى القدرة التشغيلية الكاملة للقاعدة بحلول عام 2027.
يُعد موقع القاعدة الألمانية الجديدة النقطة الأكثرَ إثارة للاهتمام، إذ تقع في قلب فجوة -أو ممر- سوالكي التي تفصل بين منطقة كاليننغراد الروسية وبيلاروسيا. وتُعتبر تلك الفجوة أضعف نقاط حلف الناتو جغرافيا، فهي الرابط بين بولندا ودول البلطيق، ومن خلال سيطرة روسيا على الممر، يمكن لموسكو أن تعزل دول البلطيق الثلاث؛ إستونيا ولاتفيا وليتوانيا عن إمدادات حلف الناتو القادمة من بولندا.
تأتي القاعدة الألمانية ثمرة لرؤية أقرها حلف الناتو في اجتماعه السنوي بالعاصمة البولندية وارسو عام 2016 والمعروفة باسم 33، وذلك بمبادرة من ألمانيا، حيث ستتولى الأخيرة دعم ليتوانيا، وبريطانيا دعمَ إستونيا، وكندا دعم لاتفيا، بينما تقدم الولايات المتحدة الدعم لبولندا، وذلك في إطار رؤية عامة للناتو لترسيخ وجوده في شرق أوروبا، عبر نشر مجموعات قتالية متعددة الجنسيات في بولندا ودول البلطيق الثلاث.
وتعزز تلك التحركات عقيدة الاستجابة السريعة للجيش الألماني بجانب بناء الردع، كما تؤكد القاعدة العسكرية على دور قيادي أوروبي تقوم به ألمانيا في الملفات الأمنية والعسكرية، مما يجعلها صاحبة النفوذ الأول في إقرار السياسات الدفاعية في الاتحاد الأوروبي، تماما كما هي صاحبة الكلمة العليا في الملفات السياسية والاقتصادية.
تزامن الإعلان عن القاعدة الألمانية مع تدشين إستراتيجية الأمن القومي الألماني في يونيوحزيران 2023، وهي إستراتيجية أمنية شاملة تضع روسيا كأكبر تهديد للسلام والأمن في أوروبا. وتحدد الإستراتيجية ثلاثة مفاهيم رئيسية وتأسيسية، وهي الدفاع، والمرونة، والاستدامة، كما تُعرّف النظامَ العالمي بأنه نظام يتسم بالتعددية القطبية، وتصف الصين بأنها خصم في تشكيل النظام العالمي، ولكنها في الوقت نفسه شريك محتمل في حل القضايا العالمية، وهي رؤية تختلف كثيرا عن رؤية أميركا إن لم تكن تتعارض معها من بعض الوجوه.
وفي السياق ذاته، تجري مناقشة على مستوى صانع القرار في ألمانيا لإنشاء أول مجلس للأمن القومي يشرف على تنفيذ الإستراتيجية الدفاعية والعسكرية، لكنّ تخوفات معارضي إنشاء المجلس في البرلمان الألماني تركز على تركيز السلطة في يد المستشار الألماني.
تؤكد تلك المؤشرات أن ألمانيا بدأت تأخذ خطوات أكثر استقلالية في الشأن الدفاعي، وبالرغم من أنها خطوات تتماشى مع رؤية حلف الناتو ولا تتعارض تماما مع مبدأ الدفاع الجماعي، فإنها تتميز بالاستباقية التي افتقرت إليها ألمانيا لعقود طويلة. كما تعزز الإستراتيجية مفهوم الردع أيضا، وتُعد خطوة أولى نحو بناء عقيدة هجومية تتناسب مع الشخصية الألمانية التاريخية.
وسوف تكون السنوات القليلة القادمة هي الحكَم على المدى التي ترغب برلين في الذهاب إليه، وهل سنرى مزيدا من الحضور والنفوذ العسكري الألماني في ساحات الصراع الملتهبة حول العالم أم لا. | https://www.aljazeera.net/politics/2024/9/10/%d9%84%d8%a3%d9%88%d9%84-%d9%85%d8%b1%d8%a9-%d8%aa%d9%86%d8%b4%d8%a6-%d8%a3%d9%84%d9%85%d8%a7%d9%86%d9%8a%d8%a7-%d9%82%d8%a7%d8%b9%d8%af%d8%a9-%d8%b9%d8%b3%d9%83%d8%b1%d9%8a%d8%a9 | 2024-09-10T17:16:51 | 2024-10-15T01:59:25 | أبعاد |
|
68 | الصهيونية الدينية على تيك توك.. هكذا شُرّعت الإبادة في غزّة | كيف استثمرت الصهيونية الدينية تطبيق تيك توك لتشريع الإبادة في غزة؟ | بينما تتجول في وقت فراغك على موقع يوتيوب، قد يأتيك إعلانٌ عن فيلمٍ وثائقي ترشحه لك خوارزميات المنصة فيجذب انتباهك. يبدو من ملصق الفيلم، أن موضوعه الثراء، وأنه يحكي قصة نجاح أحد الأشخاص الذين هاجروا إلى أرض الأحلام الأميركية، وهو أمر يلمس الواقع الاقتصادي البائس لكثير من شباب اليوم.
تنقر على الفيلم وتبدأ مشاهدته، فيظهر أول مشهد -بصورة بانورامية- للمسجد الأقصى وقبته الذهبية وما يحيط به من بيوت وشوارع، ثم ينتقل بك الكادر إلى علم إسرائيل وحائط المبكى، يتبعه تصوير بطيء لصفحات من التوراة باللغة العبرية، ثم تتلوها لقطات سريعة لشواطئ دولة الاحتلال ونخيلها، حتى إذا شعرت بأنك أمام فيلم دعائي تقليدي لـإسرائيل، وأوشك أملك أن يخيب فيما ظننته قصة نجاح ملهمة، سرعان ما تنتقل بك الكاميرا إلى صخب نيويورك وناطحات سحابها، وشارع وول ستريت المكتظ بالمارة والبنوك والشركات، وتمثال الحرية؛ الرمز المعروف للمدينة.
ولترضي فضولك، تستمر في مشاهدة الفيلم لتفهم الرابط بين المشاهد، فتدرك تباعًا أن الفيلم هو سيرة نجاح شخصية بالفعل، لكنها ليست شخصية بالكامل، فالوثائقي يصور سيرة حياة الحاخام اليهودي يارون روفين، ويحكي فيه تحوله من كونه مقربًا من بارونات رأس المال وأباطرة الاقتصاد والأموال، إلى يهودي متدين تائب إلى الله، ثم إلى حاخام يدرّس التوراة للطلاب والشباب اليهود.
إذن، فإن الفيلم أقرب إلى قصة نجاح معكوسة من الثروة إلى الزهد، ومن الرفاه إلى التدين، ومن قمة الهرم الرأسمالي إلى الدراسة التوراتية. حصل الفيلم -حتى وقت كتابة هذا التقرير- على 2.2 مليون مشاهدة، لكن هذا لا يزال عددًا متواضعًا لا يكفي لدفع صاحب القصة، روفين، إلى الشهرة العالمية.
لقد ظل روفين أكثر من عشر سنوات ينشر محتواه لتدريس التوراة على قناته على اليوتيوب، التي تتراوح مشاهداتها بين بضع مئات وبضعة آلاف، إلا أن بوابته للشهرة العالمية لم تكن اليوتيوب، وإنما تيك توك.
في 19 أكتوبرتشرين الأول 2023، نشر روفين درسه التوراتي التقليدي بعنوان رؤية توراتية حول قتل الأطفال في الحرب، من خلال بث مباشر في صفحته على تيك توك، حيث جلس على كرسيه المكتبي، مرتديًا الكيباه اليهودية قبّعة صغيرة توضع على الرأس، ويظهر في الخلفية علم إسرائيل مُعلّقًا على الحائط، يجاوره بعض المعلقات باللغة العبرية.
وأمام هذه الخلفية المشبعة بالرؤية الدينية للصهيونية، يتحدث روفين عن صوابية العدوان الإسرائيلي على غزة، الذي راح ضحيته أكثر من 36 ألف شهيد، منهم أكثر من 15 ألف طفل.
لكن الملفت في درس روفين، تبريره قتل الأطفال، فقد قال لا يوجد هناك رحمة أي بأهل غزة. قد تظن أنك رحيم بطفل ولكنك لا تكون رحيمًا بالطفل، وإنما تكون شريرًا للضحية النهائية التي سيكبر هذا الطفل ويقتلها، لأن الأيديولوجية التي سيكبر معها ذلك الطفل هي أسوأ من أيديولوجية والده، ومن هنا جاء سبب وجود آية في سفر التثنية في التوراة تقول
قواعد الحرب لا تسمح لأي شخص بالبقاء على قيد الحياة. لا رحمة. الآية تقول تمحو ذكر العماليق تمامًا من الوجود، وهذا يشمل الرجال والنساء والأطفال.
كان من سوء حظ روفين، أو من حسن حظه، أن وسائل الإعلام التقطت درسه وتداولته على نطاق واسع، ودُهش البعض من مستوى الصراحة المخيفة التي وصل إليها بعض حاخامات اليهود؛ مما دفعهم إلى التساؤل هل هذا التوحش حالة فردية تخصّ هذا الحاخام أم أنه توجّه عامّ عند المتديّنين اليهود في إسرائيل؟
ولماذا اختار الحاخام تيك توك تحديدًا لبث درسه بثًّا مباشرًا عليه؟ أليس تيك توك يدعم السردية الفلسطينية كما تصرح به وسائل الإعلام منذ بداية العدوان على غزة؟ كيف يؤدي الدين اليهودي والحاخامات اليهود دورًا في طوفان الأقصى وفي ميدان تيك توك خاصة؟ وما الدور العربي المقابل للدين على ذات المنصة؟
في الحقيقة، لم تكن حالة روفين فريدة من نوعها، فهي امتداد للصهيونية الدينية واسمها في وسائل الإعلام اليمين المتطرف في إسرائيل، التي بدأت الصعود منذ منتصف السبعينيات، لكنها صارت أكثر تداولًا وعلانيةً منذ أواخر عام 2022، حينما شارك حزب القوة اليهودية بزعامة إيتمار بن غفير، وزير الأمن القومي، وحزب الصهيونية الدينية بزعامة بتسلئيل سموتريتش، وزير المالية، في تشكيل حكومة رئيس الوزراء الحالي بنيامين نتنياهو، إلى أن أخذ صدى خطاب هؤلاء في الانتقال إلى خارج الأراضي المحتلة، عقب أحداث السابع من أكتوبر 2023.
ومنذ بداية صعود نجم بن غفير، كان تيك توك ميدانًا أساسا اختاره لمخاطبة الشباب الإسرائيلي وتعبئتهم من خلاله، فأنشأ حسابه الخاص على المنصة في يوليوتمّوز 2021. وفي العام التالي، أجرى بن غفير عملية إصلاح وتجديد لحسابه، وكلف ابنه بإدارة الحساب، فصار نشطًا للغاية، إلى درجة أن يائير لابيد، المعارض الإسرائيلي، أطلق على بن غفير وصف مهرج تيك توك.
يدرك بن غفير تمامًا مدى أهمية تيك توك في الوصول إلى صغار الشباب في إسرائيل، وقد استطاع خطاب الصهيونية الدينية، الذي يحرض على رفض إخلاء المستوطنات، وعلى ضم الضفة الغربية، ويبرّر العنف ضد الأغيار من غير اليهود؛ اكتساح ساحة تيك توك العبرية. حتى إن الناشط الإسرائيلي أوري مالرون قال إن تيك توك هو أهم ساحة سياسية بالنسبة لنا.
وأشار مالرون إلى أنه قبل انتخابات عام 2021، التي أتت ببن غفير وسموتريتش إلى السلطة، كان تيك توك قد غذى الناخبين الإسرائيليين الشباب بأيديولوجية المستوطنين المتشددين، في حين أن المنظمات اليسارية القليلة التي تعمل على تيك توك تخاطب الشباب بطريقة مملة وعفا عليها الزمن، وبطريقة غير مناسبة للمنصة، كما أشار إلى أنه إذا استمر هذا الاتجاه، فإن نتائج الانتخابات ليست سوى البداية.
ويبدو أن تخوف مالرون قد وقع بالفعل، ويبدو أن الخطاب اليميني المتطرف الذي يتبناه بن غفير وأشباهه قد أتى ثماره، إذ تصاعد الخطاب الديني العنيف المحرض على الفلسطينيين بعد السابع من أكتوبر ووصل إلى أرقام قياسية، وصار الشباب اليهودي على تيك توك يتداولون مقاطع الحاخامات المحرضين على إبادة أهل غزة جميعهم، بعدما كانت هذه الخطابات منبوذة أو مهمشة -إعلاميًّا على الأقل- في السياق الإسرائيلي.
لقد وجد الخطاب طريقه إلى الشباب الإسرائيلي غير المسيّس، أو العلماني، بسبب سأم الشباب من الخطاب الإسرائيلي التقليدي، الذي لم يجلب عليهم سوى ويلات 7 أكتوبر في نظرهم.
يؤكد شاؤول ماجد، الباحث في الدراسات اليهودية، هذا الأمر قائلًا هناك عدد متزايد من الإسرائيليين العلمانيين والمعتدلين الذين سئموا من عبارة الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية، وقد شنّت الحكومات اليمينية السابقة حملاتها على تعهدات ملطفة بـتقليص الاحتلال بدلا من إنهائه.
في المقابل، فإن حزب القوة اليهودية بزعامة بن غفير يعد بإنهاء الاحتلال الإسرائيلي من خلال الضم الكامل للأرض ونقل السكان في الضفة الغربية إلى خارجها.
هكذا، صار من الشائع أن يخرج تيكتوكر إسرائيلي يقول بعدم وجود ما يسمى فلسطين أصلًا أو يخرج آخر ينفي وجود أي احتلال للأراضي الفلسطينية مدعيًا أن الأرض كلها حقّ لليهود. وبالطبع، سيكون للحاخامات المؤمنين بالصهيونية الدينية دور محوريّ في هذه اللعبة السفاكة للدماء.
يمكن قراءة موقف حاخامات تيار اليمين المتطرف عبر مقاطع انتشرت لبعضهم تدعو إلى الإبادة الجماعية لأهل قطاع غزة. على سبيل المثال، إضافة إلى روفين، قال الحاخام يوسف ميزراخي بكل صراحة في نوفمبرتشرين الثاني 2023، إنه لا يوجد بين مليونَي فلسطيني الذين يعيشون في غزة، إنسان واحد بريء، ودعا الجيش الإسرائيلي إلى محو غزة عن بكرة أبيها.
ميزراخي ليس حاخامًا عاديًّا أو جدليًّا فحسب، وإنما هو أحد الحاخامات، كما يصفه كاتب إسرائيلي، الذين أحدثوا نقلة نوعية في وصول الحاخامات المتشددين إلى وسائل التواصل الاجتماعي، خصوصًا في توجيههم نحو الجمهور اليهودي غير المتديّن.
بدوره، قام الحاخام مائير مزوز، مدير مدرسة كرسي الرحمة الدينية، بتوجيه خطاب موقّع نيابةً عن عشرات الحاخامات والمدارس الدينية، إلى نتنياهو، في نوفمبرتشرين الثاني 2023، يعطيه فيه ما يشبه الفتوى الشرعيّة، بأنه لا مانع من قصف مجمع الشفاء الطبي في غزة، قائلًا إنه ليس هناك أيّ مانع في الشريعة اليهودية أو أيّ مانع أخلاقي أو قانوني من قصف العدوّ.. وإذا أسفر تحرك كهذا عن إراقة دماء الأبرياء، فسيقع اللوم على رأس القتلة المتوحشين أي حماس ومؤيديهم فقط.
هذه الدعوة، تشابهها دعوة الحاخام إلياهو مالي، مدير مدرسة شيرات موشيه الدينية التوراتية في مدينة يافا، حيث قال في مؤتمر عام في مارسآذار 2024، إنه يجب اتباع مبدأ لا تُحيِ أي نفس وإذا لم تقتلهم فسيقتلونك التوراتي ضد سكان غزة. وبحسب قوله فإن مقاومي اليوم هم الأطفال الذين تركناهم أحياء في الحروب السابقة، والنساء هن اللاتي ينجبن هؤلاء المقاومين. وهو لا يفرّق بين رجل وامرأة، أو بين صغير وكبير، ودعوته الجنديّ الإسرائيلي إلى القتل لا تقتصر على من يرفع عليه السلاح، ولكن أيضًا الجيل القادم، وكذلك المرأة التي تنجب الجيل القادم، لأنه في الحقيقة لا فرق بينهم، كما يقول.
بعد كل تصريح أو بث مباشر على تيك توك لهؤلاء الحاخامات، يتداول الكثير من الشباب الإسرائيليين هذه المقاطع بكثرة، ربما مئات المرات، قبل أن تحذفها إدارة تيك توك من الموقع وتحظر الوصول إليها بسبب البلاغات عنها.
غير أن الموقف الرسمي للجيش الإسرائيلي لم يكن مختلفًا عن هذا التوجه، فقد صعد الحاخام إيال كريم، اليميني المتطرف، إلى أعلى المناصب الدينية في الجيش الإسرائيلي، وصار حاليًّا رئيس الحاخامية العسكرية، وهو السلاح الذي يوفر الخدمات الدينية لليهود في جيش الاحتلال.
ففي عام 2012، أفتى كريم بالسماح للجنود الإسرائيليين باغتصاب النساء غير اليهوديات، خاصة من ذوات المظهر الحسن، بل ووصف ذلك بأنه ضروري للحفاظ على لياقة الجنود ومعنوياتهم.
وبينما يقوم التيكتوكرز اليمينيون المتطرفون بهذه التعبئة الدينية ضد قطاع غزة، ينعكس صدى هذا الخطاب على بعض المؤثرين والمشاهير الإسرائيليين، ولو لم تكن لهم انتماءات دينية توراتية مدرسية.
هذا هو ما قام به الأديب الإسرائيلي عزار ياخين، ذو الخمسة والتسعين عامًا، حينما زار الجيش الإسرائيلي لرفع معنويات الجنود عقب أحداث 7 أكتوبر، إذ قال لهم انتصروا ودمروهم بكل قدر ممكن كي لا يبقى لهم ذكر، لا هم ولا أمهاتهم ولا أطفالهم ولا رضعهم، افعلوا بهم كل ذلك، هؤلاء الحيوانات.
قُتل ياخين بعدها بأقل من شهر على يد المقاومة، لكن بقي صدى كلماته يتردد داخل التيار اليميني المتطرف في إسرائيل، وتداولت الحسابات العبرية على تيك توك عشرات المقاطع التي تمجّد سيرته وكلماته التي تتوافق والتوجه الديني اليميني المتطرف
الأمر نفسه، دعا إليه المغني الإسرائيلي إيال جولان، الذي قال للجنود الإسرائيليين امحوا غزة، لا تتركوا إنسانًا واحدًا هناك.
هذه الخطابات، مع تكرارها وتنوعها وذيوعها بين الجمهور الإسرائيلي على تيك توك، ستساهم لا محالة، ليس فقط في زيادة سلوكيات وحشية لجنود الجيش الإسرائيلي اتجاه الأهالي في قطاع غزة ومختلف الأراضي الفلسطينية، بل ستدعم أيضًا كل سياسة إسرائيلية، على مستوى الحكومة والجيش، قائمة على إبادة الفلسطينيين، من بشر وشجر وحجر.
تقول الباحثة الفلسطينية منى اشتية، الباحثة في معهد التحرير لسياسات الشرق الأوسط والخبيرة في الحقوق الرقمية الفلسطينية، إن العنف الذي يمارسه المستوطنون الإسرائيليون ضد الفلسطينيين، مرتبط ارتباطًا جوهريًّا بالمجال الرقمي... فعندما تتسامح منصات التواصل الاجتماعي مع التحريض الإسرائيلي، يتصاعد العنف في العالم الحقيقي.
يبقى السؤال كيف ظهرت نتائج هذه الخطابات الدينية اليهودية على تيك توك؟
أدى خطاب الصهيونية الدينية الموجه ضد الفلسطينيين، إلى شيوع موجة غير مسبوقة من التوحش والتلذذ بالقتل، بل وبث الإبادة مباشر. كما تسبب التأثير التراكمي للشحن الديني والتعبئة الروحية والعسكرية اتجاه الفلسطينيين، في تطبيع النقاش العام للأفكار الدينية المتطرفة للحاخامات التي كانت تعتبر محظورة قبل 7 أكتوبر، وعلى رأسها الحديث عن محو سكان غزة والتطهير العرقي والإبادة النووية للقطاع.
لا يمكن رسم بيانات دقيقة لمدى تأثير هذا الخطاب في تيك توك، فالتطبيق لا يوفر بيانات خاصة بمنشورات الكراهية الصهيونية الذي قام بحذفها. وزيادة على ذلك حظَر الأدوات التي تمكن المحللين من تحليل الوسوم الهاشتاغات بسبب ازدياد الضغط الصهيوني على الشركة المالكة للتطبيق.
ولذا، فلا يمكننا تحليل عدد المرات التي استُخدمت فيها على المنصة، خطابات صهيونية دينية تدعو إلى إبادة غزة. لكن في المقابل، نرى على منصة أكس مثلًا تويتر سابقًا، أنه خلال الشهر الأول فقط من الطوفان، وردت دعوات إلى تسوية غزة أو محوها أو تدميرها حوالي 18 ألف مرة في منشورات صهيونية، وفقًا لما ذكرته مجموعة FakeReporter الإسرائيلية، التي تراقب خطاب الكراهية، وذلك مقارنة بذكر العبارات نفسها 16 مرة فقط في الـ45 يومًا السابقة للحرب.
إذن، تأثر جمهور الشباب الإسرائيلي بخطاب الصهيونية الدينية، وظهر ذلك جليًّا في سلوكيات المجندين في الجيش الإسرائيلي والمقاطع التي صوروا فيها أنفسهم وهم يقومون بأعمال عدائية، بشكل استفزازي وتحريضي، اتجاه الأهداف المدنية في قطاع غزة.
مثل الجندي الإسرائيلي الذي صوّر نفسه وهو يفجر مبنى سكني في غزة، ثمّ يقدّم ذلك كـهدية لابنته ، وثان يصور نفسه وهو يسرق سجادًا من أحد منازل غزة. وجنديّ ثالث يصوّر نفسه وهو يعزف بآلة موسيقية مسروقة على ركام أحد المنازل المهدمة، ورابع يصور جنودًا يسرقون محتويات خزانة شخصية نفيسة، وآخر يصور جنديًّا وهو يخرب محتويات محل خاص في غزة.
ومقاطع أخرى تظهر جنودًا إسرائيليين يغنون نشيدهم الوطني في سيارة مع أسير فلسطيني معصوب العينين ومقيّد في الجزء الخلفي من السيارة، وأخرى لجنود يتباهون بالملابس الداخلية النسائية على الجدران، وغيرها من المقاطع الكثيرة التي تملأ منصّات التواصل الاجتماعي.
في المقابل، استخدمت دولة جنوب أفريقيا، خلال دعواها أمام المحكمة الجنائية الدولية، بعض هذه الفيديوهات التي صورها جنود إسرائيليون على تيك توك، لدعم مقولتها بأن إسرائيل ترتكب إبادة جماعية بحق أهل قطاع غزة.
ومن ضمن هذه المقاطع التي عرضها ممثل جنوب أفريقيا أمام المحكمة، مقطع لجنود إسرائيليين صوروه في نوفمبرتشرين الثاني الماضي، وهم يغنون نحن ملتزمون بالميتزفة الوصايا التوراتية لمحو بذور العمالقة العرب.. نحن نعرف شعارنا، لا يوجد مدنيون بريئون. كما عرض مقطعًا آخر لجنود إسرائيليين نشروه على تيك توك في ديسمبركانون الأول الماضي، وهم يرددون نحن ننتقم، بعون الله، لكيبوتس ناحل عوز، ويظهر في خلفية مقطع الفيديو تفجيرهم منازل مدنيين
ووفقًا لأوري جيفاتي، المتحدث باسم منظمة كسر الصمت، وهي منظمة للجنود الإسرائيليين السابقين والحاليين، تعمل على فضح المخالفات المزعومة في الجيش الإسرائيلي، فإنه لم يكن بإمكان الجنود أن يصوروا هذه المقاطع الاستفزازية واللاأخلاقية، التي تخالف ميثاق الجيش الإسرائيلي نفسه، لولا وجود غطاء سياسي وديني لذلك، وهو الأمر الذي وفره خطاب الصهيونية الدينية.
لم تقتصر سلوكيات العدوان الوحشية على الجنود الإسرائيليين فحسب، بل امتدت لتشمل المنظمات اليمينية المتطرفة التي استطاعت تجنيد واستقطاب مزيد من المؤيدين. ففي أحد المقاطع المصورة، يظهر اقتحام ثلاثة مستوطنين لأحد المنازل الفلسطينية، قبل أن يجلسوا على الأرائك في ساحة المنزل، وهم يلفّون سجائرهم ويدخّنونها، في مشهد ترهيب واضح للسكّان الفلسطينيين.
وفي مايوأيار 2024، نشرت صحيفة لوموند تقريرًا ذكرت فيه أن مجموعة صغيرة من المستوطنين والمتطرفين حاولت التسلل إلى الأراضي الفلسطينية ودخول قطاع غزة بالقوة، لإظهار رغبتهم في إعادة استيطان القطاع، لكن الشرطة اعترضت المجموعة وفرقتها.
ووفقًا للصحيفة نفسها، فقد تكونت المجموعة من مستوطني الضفة الغربية والحركة الصهيونية الدينية، وخططت للمشاركة في دخول غزة عنوة، وللانضمام إلى مجموعة أخرى تعمل على منع شاحنات المساعدات الإنسانية من دخول القطاع.
وبحسب لوموند، فإن مستوطنًا ناشطًا وصفته بأنه يكاد يكون نسخة مصغرة من وزير الأمن القومي إيتامار بن غفير، قال حلمي المطلق هو أن أعيش في غزة، لكن إذا لم تكن يهودية 100، فسيكون ذلك بلا فائدة. وقد وجدت أن هذا المستوطن، يستخدم تيك توك بانتظام، قبل أن تغلق المنصة حسابه، ويتوجه إلى أكس.
ولكن كيف تصرّف تيك توك إزاء هذا الخطاب المروع والسفاك للدماء؟
بعد جائحة كوفيد-19 صار المحتوى السياسي على تيك توك طبيعيًّا على المنصة، في كل الدول تقريبًا، من أميركا إلى غانا، ومن تركيا إلى بيرو، ومن إسبانيا إلى ماليزيا. ومنذ انطلاق عملية طوفان الأقصى في 7 أكتوبرتشرين الأول، كان تيك توك مساحة ملحوظة لصغار الشباب لدعم القضية الفلسطينية.
وقد قام المستثمر التقني الأميركي جيف موريس بتحليل للوسوم الداعمة لفلسطين على تيك توك، فوجد أنها تزيد على الوسوم المؤيدة لـإسرائيل بـ15 ضعفًا. ولعل هذا بالتحديد، ما دفع رئيس وزراء إسرائيل الأسبق، نفتالي بينيت، إلى كتابة تغريدة في نوفمبرتشرين الثاني الماضي، قال فيها وضعنا الدولي غير جيّد، والرأي العالمي ليس في صالحنا الآن، على سبيل المثال فإن المحتوى الداعم لفلسطين على تيك توك يفوق نظيره الصهيوني على نفس التطبيق بـ15 ضعفًا.
لذلك، ومنذ بداية العدوان الإسرائيلي على غزة، ترددت أقاويل بأن منصّة تيك توك تدعم المحتوى الفلسطيني وتزيد من انتشاره عليها، وأنه في المقابل حجبت منصات مثل فيسبوك وإنستغرام المحتوى الفلسطيني عليها.
يمثل هذا الأمر تحديًا كبيرًا للولايات المتحدة، بل تهديدًا للأمن القومي لديها، إذ إنه قبيل 7 أكتوبر بأيام، أجرى مركز Pew مسحًا داخل أميركا خلص فيه إلى أن 43 من مستخدمي تيك توك في أميركا يحصلون على الأخبار السياسية منه، مما يعني أنه من المتوقع أن تزداد النسبة بعد الطوفان إلى 50، وهي بالطبع نسبة كارثية للأمن القومي الأميركي.
ومن دلالات ذلك، أن منصّة تيك توك سمحت لترند عجيب بالانتشار، وهو الخطاب الذي وجهه زعيم تنظيم القاعدة أسامة بن لادن إلى الولايات المتحدة عام 2002 بعنوان رسالة إلى أميركا، إذ تداول ناشطون أميركيون هذه الرسالة، التي تشرح أسباب كراهية بن لادن وعدائه للأميركان دينيًّا وسياسيًّا وعسكريًّا. لم يسمع أحد من جيل الشباب بهذه الرسالة من قبل، لكن تداولها على تيك توك أظهر ردودًا صادمة من هذا الجيل، إذ اتفق معظم الناشطين على التطبيق مع محتوى الرسالة.
ورغم حذف تيك توك لهذا المحتوى لاحقًا بعد انتشاره، فإن المسؤولين الأميركيين نظروا إلى التطبيق على أنه ساهم في إيجاد تعاطف داخل أميركا نفسها مع أحد ألد أعدائها في القرن الواحد وعشرين؛ الأمر الذي تطلب تدخلًا عاجلًا لإنقاذ الموقف من الإدارة الأميركية، فتهديد تيك توك لم يعد مقتصرًا على ترويج السردية الفلسطينية فحسب، بل إنه، كما يصفه رئيس إسرائيل في مقابلة تلفزيونية في نوفمبرتشرين الثاني الماضي، إسحاق هرتسوغ، صار يغسل أدمغة مستخدميه.
من وقتها، أخذت الدعوات إلى حظر التطبيق تتصاعد مرة أخرى داخل الأراضي الأميركية. وفي ديسمبركانون الأول 2023، خرجت المرشحة الجمهورية السابقة للرئاسة الأميركية نيكي هايلي لتقول نحن بحاجة ماسة إلى حظر تيك توك إلى الأبد، دعوني أخبركم لماذا، كل شخص يشاهد تيك توك لمدة 30 دقيقة يوميًّا، يصبح أكثر معاداة للسامية وأكثر تأييدًا لحماس بنسبة 17، نحن نعلم الآن أن 50 من الشباب بين 18 و25 عامًا، يعتقدون أن حماس لها ما يبرر فعلها في 7 أكتوبر ضد إسرائيل، وهذه مشكلة.
وبعد سلسلة من المناقشات والمراجعات، أقر الكونغرس الأميركي في مارسآذار الماضي، قانونًا يحظر تيك توك داخل الأراضي الأميركية. وقّع بايدن القانون، الذي تضمن أيضًا حزمة مساعدات أميركية بقيمة 97 مليار دولار موجهة إلى أوكرانيا وتايوان وإسرائيل، وأعطى مهلة للشركة المالكة للتطبيق لبيعه أو سيتعرض التطبيق للحظر.
بدورها، صرحت منصة تيك توك في أبريلنيسان بأنها حذفت أكثر من 3.1 ملايين منشور عن فلسطين وإسرائيل منذ أكتوبر 2023، لانتهاكها معايير مجتمع تيك توك، وتضمنت هذه المنشورات المحتوى الداعم لحماس، وخطاب الكراهية، والتطرف العنيف، والتضليل المعلوماتي.
لم يستطع الكثيرون فهم حقيقة أن تطبيق تيك توك لم يكن يدعم المحتوى الفلسطيني، ولكن الجيل الجديد من الشباب هم من يفعلون ذلك، وأن تيك توك مجرد منصة. والأمر نفسه على منصة إنستغرام، إذ إن هاشتاغ FreePalestine ضم نحو 9.8 ملايين منشور، بينما هاشتاغ Standwthisrael ضم نحو 346 ألف منشور فقط. هذا الفارق لا يعود، بالطبع، إلى دعم إنستغرام للمحتوى الفلسطيني، فشركة ميتا المالكة للتطبيق مشهور عنها قمع وحجب المحتوى الفلسطيني مقابل تمرير ودعم المحتوى الإسرائيلي، وإنما يعود إلى طبيعة أفكار ونشر الجيل الأصغر سنًّا عليه.
يدرك المسؤولون الإسرائيليون هذه المعضلة، ولذا ظهر جوناثان جرينبلات، رئيس جمعية ADL، أحد أكبر اللوبيات الصهيونية في الولايات المتحدة، في تسجيل مسرب نُشر في نوفمبرتشرين الثاني الماضي، وهو يقول إن إسرائيل لديها مشكلة كبيرة كبيرة كبيرة في تيك توك. كما صرح الممثل اليهودي ساشا بارون كوهين، بأن تيك توك يخلق أكبر حركة معادية للسامية منذ النازيين.
ولذا، فإن الكثير من الناشطين والمحللين يقولون إن الولايات المتحدة تريد حجب تيك توك، لا لأنه يضلل الشباب، وإنما لأنه يظهر الحقيقة، ولم يوقع بايدن قرار حظر التطبيق إلا بسبب ضغط اللوبيات الصهيونية على الإدارة الأميركية.
بالنظر إلى حسابات 20 تيكتوكرًا مؤثرًا دينيًّا عربيًّا على تيك توك، تتنوع أعداد متابعي حساباتهم بين عشرات الآلاف ومئات الآلاف والملايين، موزعين على دول عربية مثل مصر وعمان والجزائر والسعودية والسودان وسوريا، ويشكل الدين ركيزة أساسية في خطاباتهم، أو يوظفونه في معظم مقاطعهم لخدمة أغراض دعائية لحساباتهم، مع عدم انتمائهم لأي جهة إسلامية وعدم تأييدهم لأي نظام أو حكومة في أي دولة من الدول.
إن الملاحظة الأولى التي تجذب الانتباه فورًا، هي أن هؤلاء التيكتوكرز العرب المتديّنين، نادرًا ما تجد محتوى خاصًا بهم لدعم القضية الفلسطينية، ومن بين كل عشرين مقطعًا ربما تجد مقطعًا واحدًا يحتوي على حديث يخص القضية الفلسطينية، وبعض هؤلاء اختفى من حسابهم أي ذكر للقضية الفلسطينية منذ السابع من أكتوبر.
وبينما تجد التيكتوكرز اليهود المتدينين على تيك توك مسيّسين بشدة، ويدعمون السردية الصهيونية الدينية للحرب بدون مواربة، وفي قلبها طرد الفلسطينيين من كل أراضيهم، فإن عينة المؤثّرين من الشباب العربي المتديّن يغلب عليها عدم التسيّس، وعدم تبني سردية المقاومة، والاكتفاء بسردية المظلومية، إن وُجدت.
إن المحتوى الديني لهؤلاء يكاد ينحصر في الأذكار والدعاء وتلاوة القرآن وإيراد الأحاديث النبوية، إضافة إلى الحديث عن بعض الأخلاقيات ومشاهد من السيرة النبوية ومواقف الصحابة.
وإن معظمهم يحرصون على تقديم نسخة لطيفة ومرحة من الدين، مجارية للموضة، فيصورون أنفسهم وهم في بيوتهم أو غرفهم الخاصة، ويقدمون محتواهم باسمي الأوجه، مرتبي الثياب، ويستخدم معظمهم فلاتر لتنقية وجوههم من الشوائب، كما يرقق بعضهم أصواتهم لإضفاء مسحة من اللطف على محتواهم الديني.
يواكب هؤلاء التيكتوكرز المزاجات الشبابية والترندات، كارتدائهم مثلًا قميصًا عليه شعار أنمي الهجوم على العمالقة Attack on Titan، أو التصوير على البحر وهو يرتدي سماعة آي فون في إحدى أذنيه، أو عبر استخدام مصطلحات مثل التروما وMove On في خطابه الديني.
إن الصورة النهائية للدين الذي يرسمه هؤلاء هي صورة فردانية إلى حد كبير، نظرًا لتخفيفهم الدين من نزعته النضالية عبر تغييب أي حديث عن القضايا الكبرى، ولا سيما قضية فلسطين. فخطابهم الديني سيخرج غالبًا إنسانًا سمحًا لطيفًا طبيعيًّا في يومه وحياته، منكفئًا على ذاته ومتبنيًا لنمط فرداني للدين، لا يعبأ بما يحدث في فلسطين إلا عرضًا.
وفي مقابل تآكل الجانب الكفاحي في الخطاب الديني عند هؤلاء التيكتوكرز، وتغييب الحديث عن المشاريع والطموحات الكبرى، تتردد كلمات مفتاحية جديدة عندهم مثل الراحة النفسية، والسعادة الشخصية عبر القرب من الله، والمتعة في العيش بالجمع بين الدين والدنيا.
لقد غير تيك توك معادلة التديّن عند الشباب، فلم يصبح الدين عند كثير منهم نقطة مرجعية بذاتها تُستقى منها القيم وصيغ الخطابات، وإنما جعل الدين جزءًا من عملية السعي للشهرة والانتشار على منصات التواصل، أي أن الدين صار جزءًا من المحتوى، وليس هو نفسه المحتوى.
يعمل تيار الصهيونية الدينية على توظيف نصوص التوراة لتحريض الشباب اليهودي والتيكتوكرز الإسرائيليين على العرب والفلسطينيين، فتتداخل المقولات التحفيزية مع المواضيع الدينية، مع التحريض النفسي والتعبئة العسكرية، مع تصوير المقاطع اليومية Vlogs في كل هذه الحسابات، بحيث لا يكاد يخلو حساب اطلعنا عليه من هذه التشكيلة مجتمعة، فالعمل العسكري هو القلب، وسائر المواضيع خادمة له.
أما المحتوى الداعم لفلسطين على تيك توك، فيشمل متابعة الترندات، ومجرد استخدام الهاشتاغ لزيادة مشاهدات مقاطع الفيديو، رغم أنه قد لا يكون له علاقة بفلسطين البتة. كذلك يتضمن المحتوى المؤيد للإسكتشات التمثيلية، والغناء والموسيقى، والرقص، ومقاطع مساحيق التجميل مثل إحدى الفتيات التي ترسم علم فلسطين على خديها
خلاصة الأمر، أن القضية الصهيونية عند التيكتوكرز اليهود المتديّنين قضية مركزية، حاضرة دائمًا في خطاباتهم ومقاطعهم، وقلما يخرجون عنها أو يقدمون محتوى غير متعلق بها، وسقفهم عالٍ جدًّا في الحديث عنها والتحريض عليها. أما التيكتوكرز المتديّنين العرب الذين حلّلت المقالة خطابهم، فإن حضور القضية الفلسطينية باهت في حساباتهم، ويدور معظم محتواهم حول النصائح الفردية واللايف ستايل والفلوجز والحرص على الصلاة والأمانة وعدم الكذب أو الخيانة. | https://www.aljazeera.net/politics/2024/6/23/%d8%a7%d9%84%d8%b5%d9%87%d9%8a%d9%88%d9%86%d9%8a%d8%a9-%d8%a7%d9%84%d8%af%d9%8a%d9%86%d9%8a%d8%a9-%d8%b9%d9%84%d9%89-%d8%aa%d9%8a%d9%83-%d8%aa%d9%88%d9%83-%d9%87%d9%83%d8%b0%d8%a7 | 2024-06-23T08:52:13 | 2024-06-23T14:28:26 | أبعاد |
|
69 | مفهوم السعادة.. رحلة في أروقة التاريخ والفلسفة | نعيش في عالم يقدم لنا نوعا واحد من السعادة وهي سعادة الإشباع؛ إشباع رغباتنا اللامتناهية، فهل بوسع السلع أن تقدم لنا السعادة الحقيقية؟ وهل إرضاء رغباتنا فيه سعادة لنا؟ | العالم الذي نعيش فيه اليوم، هو عالم للسلع وليس عالما للحريّة، فهو عالم للاستهلاك وليس عالما للفلسفة أو للسعادة
هكذا يصرح فلاسفة هذا الزمان 1؛ حيث يرى الفلاسفة أن الفلسفة هي المانحة للسعادة؛ لأنها تمرد على الواقع المعاش، ومحاولة لفهمه وتفكيك بدهياته من أجل تغييره، أما عالم اليوم فهو عالم غير جاهز؛ لا لفكرة الثورة ولا لفكرة السعادة. وذلك لأنّ عالما من البضائع لا يمكنه أن يمنحنا غير سعادة الإشباع إشباع رغباتنا اللامتناهية. إذن ليس بوسع ركام من السلع أن يمنحنا السعادة الحقيقيّة. فهو عالم لا يمكنه أن ينتج غير سعادة مغلوطة. 2
لكن ما هو مفهوم السعادة؟ وهل تنتج السعادة من الرضا؟ هل تتحقق السعادة بإرضاء غرائزنا وتحقيق رغباتنا؟
يبدو مفهوم السعادة اليوم في حاجة لإعادة تعريف، وإعادة تقديمه للناس؛ بعد أن أصبح بسيطا لحد التعقيد، فكلنا نود أن نكون سعداء؛ لكن حين يسألنا شخص سؤالا بسيطا ما هي السعادة؟ لا نستطيع الإجابة؛ لأن المفاهيم اختلطت وتعقدت، ما بين السعادة والرضا والرفاهية، وتخفيف الألم، والنجاة من الموت، والبحث عن حياة كريمة، والسعي وراء الرزق ومكملات الحياة. كل هذا قد شوش ما يمكن أن نراه سعادة تستحق أن نحيا بها، فإن لم يتحقق ذلك ولم يكن هناك معنى للحياة يضيف بعدا من المتعة والرضا؛ فما فائدة الحياة؟
يذهب الفيلسوف ألان باديو إلى أنّ السعادة قائمة في جوهرها على عدم الرضا وعدم القناعة بنظام العالم كما هو. وهنا يعترض باديو على التصوّر الرواقيّ للسعادة والذي يفترض ضربا من التعاطف الكوني والتصالح مع أقدارنا والرضا بما نحن عليه. ليست السعادة محبّة القدر كما قال نيتشه ولا هي أداء الواجب الخلقي كما يتصوّر كانط.
بيد أنّ باديو لا يعترض -فقط- على التصوّرات الفلسفية القديمة لدى الرواقيين مثلا والكلاسيكية الحديثة لدى كانط ونيتشه، هؤلاء الذين لا يؤمنون بأنّ الفلسفة يمكنها أن تمنحنا السعادة؛ بل هو يعترض -أيضا- على التصوّر الليبيرالي للسعادة بما هي إشباع.
فالسعادة عند باديو كَونيّة في حين أنّ الإشباع فرديّ وأنانيّ. السعادة يمكنها أن تؤسس الرغبة من جديد 3 سواء على صعيد الفلسفة أو في الحياة الحقيقية، في حين أنّ الإشباع لا يلبي غير حاجات فرديّة ضيّقة تحوّل الإنسان إلى وسيلة في آلة الاستهلاك الكبرى للعالم الرأسمالي المتوحّش.
أما القيم الكونية التي تسود العالم الآن؛ فهي كونيّة المال والتجارة العالميّة وأجندات الحروب والنفط والمنافسة والتسابق والتباري في المظاهر والموضة. وحده المال هو القيمة العالمية الوحيدة. فعالمنا عالم يخلو من الرغبة في المغامرة. فكلّ شيء فيه قائم على الحساب والأمان. إنّه عالم لا يصلح لأيّة مراهنة ولا لأيّة مجازفة؛ لأنّه لا أحد فيه مستعدّ أن يترك وجوده رهين الصدف واللقاءات العابرة والفجائيّة.
ومهمة الفلسفة -عند باديو في عصرنا الحالي- هي استعادة السعادة الحقيقية من كلّ ضروب ابتذال مفهوم السعادة في عالم ارتدّ فيه البشر إلى أرقام استهلاكيّة في آلة الرأسماليّة المتوحّشة. في عالم البضائع المثيرة للغثيان، عالم المسوخ التي تعبر هذه السوق الكبيرة، يستعيد الفيلسوف صحّته ويأخذ الكلمة مرّة أخرى كي يقول لنا ما هي السعادة؟ وهل ثمّة سعادة حقيقية وسعادة مغلوطة؟ وكيف يمكن للفلسفة أن تقودنا ثانية إلى تحصيل السعادة؟
حيث كانت مهمة الفلسفة منذ نشأتها هي استكشاف أفضل طرق الحياة وأحسن طرق الحصول على السعادة، وأنجح الطرق للبحث عن عالم أفضل.
ورغم وجود مفهوم السعادة عند فلاسفة آخرين قدماء إلا أن مفهوم السعادة عند أفلاطون يمكن أن يكون أول مفهوم كامل 4 فالسعادة بنظر أفلاطون يجب أن تقوم على نوع معين من التناغم والانسجام بين الرغبات والأهداف في حالة تعددها ويعد أفلاطون السعادة هي الخير الأسمى؛ حيث تقوم على تنظيم منسجم لكل الأشياء الماثلة في الحياة المعتادة؛ وهو ما يمكِّن الشخص من القيام بدوره في الحياة.
أما أرسطو فيعرف السعادة وفقا لفضيلتها وإذا كان هناك أكثر من فضيلة للنفس؛ فإنه يكون وفقا لأعظم فضائلها وأكثرها كمالا، وهو يعتقد بأن السعادة هي اللذة أو على الأقل أنها تكون مرتبطة ارتباطا وثيقا بها -أي اللذة- واللذة بدورها يتم تفسيرها باعتبارها غيابا واعيا للألم والإزعاج وهو يحصر الفضيلة بالتفكير الفلسفي أو التأمل. ويصل إلى نتيجة مؤداها أن الحياة الأكثر سعادة هي الحياة المكرسة لهذا النشاط العقلي. وبذلك فإن التأمل يصبح بمنزلة غاية أو هدف غالب على الحياة السعيدة. 5
وهي عنده الخير الأسمى للفلسفة نفسها. وهو في ذلك يخالف التعريف الأفلاطونيّ للسعادة؛ حيث لا ينبغي البحث عنها في عالم مفارق، إنّما يمكن للبشر أن يدركوا مقام السعادة بأعمالهم. وذلك إنّما يتمّ إدراكه بالفضيلة التي تقودنا إلى السعادة عبر اللذّة والخير. وتكمن الفضيلة فيما يسمّيه أرسطو بالاعتدال في الأفعال. 6
أما أبيقور والرواقيون فغالبا ما اختلفوا، ونادرا ما اتفق هؤلاء وأولئك. وفي نظر أبيقور فإن الخير هو اللذة واللذة بدورها يتم تفسيرها باعتبارها غيابا واعيا للألم والإزعاج، وهو -أيضا- يؤكد أن هذا هو ما تسعى من أجله الموجودات البشرية منذ مرحلة الطفولة فصاعدا، وأن الناس جميعا يكافحون من أجل هذه اللذة ومن أجلها وحدها ولا يوجد هناك شخص يرفض ويكره أو يتجنب اللذة لذاتها؛ وإنما بالأحرى؛ لأن هناك نتائج مؤلمة تصيب أولئك الذين لا يعرفون كيف يسعون إلى اللذة بطريقة عقلانية.7
ومن جهة أخرى نجد الرواقيين يؤكدون أن الخير الوحيد للمرء هو الفضيلة بما في ذلك العدالة. كذلك فقد اعتقدوا بأن غاية الوجود البشري هي التوافق مع الطبيعة، ويرى أبيقور أن شكلاً من أشكال اللذة يكمن في غياب الألم والقلق، أما الرواقية فقد نظرت إلى السكينة باعتبارها تنطوي على الرؤية القائلة بأن أحداث الحياة العارضة لا ينبغي أن تشغلنا وأنها أجزاء محتومة وضرورية من نظام الكون، كما يؤكد أبيقور أن الخير هو نوع من التجربة، وتعني اللذة التي يعرّفها بالتحرر من الانزعاج وهو يعتقد بأن الحياة المعاشة ينبغي أن تنطوي على أقل قدر ممكن من الإزعاج 8
لكن يذهب نيتشه -وخلافا لأفلاطون وأرسطو وغيرهما من الفلاسفة- إلى أن تصادم الرغبات وليس انسجامها يمكن أن يكون أمرا مرغوبا فيه؛ فالرغبات تكون -كذلك- حينما تكون مصدرا لنوع معين من الابتهاج، وحافزا لذلك النوع من الإنجاز الذي يراه نيتشه والذي يعده هائلا ومؤثرا وهو يذهب إلى أن تضارب الأهداف يمنع الحياة أن تستتب في حالة من الروتين الممل، وأن تقاوم ذلك النوع من السعادة الذي يريده أغلب الناس. 9
أما في العصور الوسطى فقد ظهر توما الأكويني، وهذا الفيلسوف وقبله أوغسطين يكادان يعدان أبرز فلاسفة العصور الوسطى، ويعدان الممثلين الحقيقيين للديانة المسيحية واللاهوت المسيحي على امتداد العصور الوسطى، وبخصوص السعادة البشرية يقول توما الأكويني إن السعادة البشرية التامة تكمن في رؤية الجوهر الإلهي، ويقول أوغسطين أن جزاء الفضيلة سيكون هو الله نفسه الذي يهب الفضيلة، والذي نذر نفسه لنا، وليس هناك من هو أفضل أو أعظم منه؛ فالله سيكون غاية رغبتنا وسوف نرى أنه بلا نهاية، نحبه بلا حدود ونمجده بلا كلل. 10
أما في كتاب الأخلاق لسبينوزا 1632-1677 فنجد أنّ السعادة هي الغبطة التي ندركها حينما نتحرّر من عبوديّة الأهواء ومن الخرافات والأحكام المسبقة. وينطلق سبينوزا من تعريف للإنسان بوصفه رغبة في ماهيته لذلك فإنّ قدره الوحيد هو الفرحة بالوجود، وأنّ الإنسان عنده قادر على أن يكون سيّدا على رغباته عبر التفكير، ولذلك يمكنه إدراك البهجة التي -دونما تضحية بالرغبة- بوسعها أن تؤول إلى غبطة؛ أي إلى فرح تامّ ودائم. 11
أما جيرمي بنثام وستيوارت مل فيزعمان أنه من خلال تعريف السعادة بوصفها لذة -وإن كان بأساليب مختلفة- فإنهما بذلك يساعدان على تزويدنا بمعيار لاتخاذ السلوك الصحيح. وقد كان مشروع بنثام الاجتماعي أكثر تفصيلا إلى حد كبير مما هو عليه مشروع أبيقورفقد كان يتم تصوير هذا المشروع للوهلة الأولى بوصفه مشروعا قانونيا؛ كي يبين أن نظام القوانين ينبغي أن ينتج أكبر قدر ممكن من اللذة وهو يبدأ بمساواة السعادة باللذة وقد ذهب بنثام في تعلقه بالقوانين أكثر من غيره؛ فهو يربط سعادة الأفراد بسعادة المجموع حين يقول إن سعادة الأفراد التي تتألف منها سعادة المجموع هي الغاية والغاية الوحيدة التي ينبغي أن يضعها المشرع في الاعتبار. 12
فـ بنثام ومل يقولان بأن السلوك الصحيح هو السلوك الذي يحدث أكبر سعادة لأكبر عدد ممكن من الناس، وبنثام يرى أن الخير هو تجربة اللذة بالمعنى الأكثر تداولاً لمفهوم اللذة، وهو المعنى الذي ضمنه كثيرا في إطار التحرر من الإزعاج؛ فهو يرى أن المرء يمكن أن يكون سعيدا بالتناسب مع قدر اللذة التي يمكن أن يحصل عليها.
ظل السؤال الفلسفي عن السعادة يعاني من نقيصة عميقة اكتشفها كانط في كتاب نقد العقل العمليّ بين الذين يعتقدون بأنّ السعادة تكمن في اللذّات كما يذهب إلى ذلك أبيقور، والذين يعتقدون بأنّ السعادة تكمن في الفضيلة؛ أي الفضيلة العقليّة -تحديدا- فالتقليد الأفلاطوني الأرسطي الذي يجعل من الفيلسوف أكثر الناس قدرة على تحصيل السعادة وهو تقليد استأنفه عن اليونان الفارابي وابن سينا لكن بأشكال مغايرة وفي أفق ثقافة مختلفة.
فوفق عبارات الفارابي أنّ السعادة هي أعظم الخيرات وذلك ضمن تصوّر للمدينة الفاضلة التي تحتاج إلى الفضائل النظريّة والأخلاقيّة. وهذا التعريف يستأنف بشكل مغاير التعريف الأرسطي القديم بوصفه قائما على علاقة ضروريّة بين السعادة وتحصيل الحكمة. وهو ما يجعل لدى الفارابي حصول المعقولات الأولى للإنسان هو استكماله الأوّل، وهذه المعقولات إنّما جُعِلت له ليستعملها في أن يصير إلى استكماله الأخير؛ وذلك هو السعادة. 13
أما عند الإمام الغزالي فيقول إن اللذة والسعادة عند بني آدم هي معرفة الله عز وجل ويكمل اِعلم أن سعادة كل شيء ولذته وراحته تكون بمقتضى طبعه، كل شيء خلق له، فلذة العين الصور الحسنة، ولذة الأذن في الأصوات الطيبة، وكذلك سائر الجوارح بهذه الصفة، ولذة القلب خاصة بمعرفة الله سبحانه وتعالى؛ لأن القلب مخلوق لها. 14
يذهب الفيلسوف ألان باديو إلى أنه لكي نكون سعداء؛ علينا أن نتمسّك بالرغبة في الفلسفة من أجل تمييز السعادة الحقيقيّة عن سعادة الإشباع
إنّنا في حاجة ماسّة إلى فكرة ما أو قيمة ما نسمّيها الحقيقة، بها يمكن أن نخاطر من أجل إيقاف هذه السرعة المجنونة لحضارة البضاعة المطلقة، وهذا يعني بأن علينا التمسك بفكرة جديدة عن الحقيقة والكونية معا
حيث إنّ الفلسفة تمرّد عقلاني في معنى رهان كونيّ لمواجهة هذا العالم المعاصر القائم على الشظايا والشذرات والاختصاصات. وهو يقصد بذلك أنّ الفلسفة مسكونة في عمقها برغبة جامحة في الثورة على ما هو سائد من بديهيات ومعتقدات وسياسات. وعليه فإنّ الرغبة في الفلسفة إنّما هي -منذ أفلاطون- رغبة في ثورة الفكر ضدّ التصورات السائدة حول السعادة الحقيقية وسعادة إشباع الرغبات. 15
بيد أن الفلسفة هنا ليست بمعنى التفلسف الفارغ؛ بل بمعناها الأعمق، وهي المعرفة وطرح تساؤلات حقيقية حول المعرفة، والأمر هنا لا يقتصر على المعرفة الأكاديمية؛ بل يرتبط بالمعرفة اليومية، وما يواجهه الإنسان في حياته ويستحق أن يطرح حوله الأسئلة التي تبين وضع الإنسان في هذا العالم، فالوصول إلى السعادة يبدأ حينما يكون الإنسان صادقا مع نفسه.
ويعد طلب الحقيقة ثاني الأفكار التي يطرحها ألان باديو للوصول للسعادة؛ فالإنسان الذي يحيا وسط النفاق والكذب؛ حتى الوصول لدرجة الكذب على نفسه؛ لن يشعر أبدا بالسعادة، وبالنسبة إلى باديو فـنحن نحتاج إلى نقطة توقّف لا مشروطة من أجل كسر هذه السلسلة اللامتناهية لمجتمع تبادل السلع. لا شيء بوسعه إيقاف هذا البريق اللامتناهي لتدفّق السلع ودوّامة الرغبات الاستهلاكيّة غير مطلب جذريّ أو فكرة استراتيجية مناقضة تماما لمنطق العالم الاستهلاكيّ القائم على الإشباع والبضائع الأنانيّة والجاهلة معا.
إنّنا في حاجة ماسّة إلى فكرة ما أو قيمة ما نسمّيها الحقيقة، بها يمكن أن نخاطر من أجل إيقاف هذه السرعة المجنونة لحضارة البضاعة المطلقة. وهذا يعني أنّه علينا التمسّك بفكرة جديدة عن الحقيقة وعن الكونيّة معا، وذلك من أجل المراهنة على شكل جديد من الكونيّة ضدّ كونيّة الرعب التي لم تنتج غير الفاشيّات. 16
أما ثالث الأفكار عند باديو فهي أن تكون سعيدا هو أن ترغب في تغيير العالم
ما معنى أن نغيّر العالم حينئذ؟ يجيب باديو بأنّ كلّ تعريفاتنا غير دقيقة ولذلك ربّما يكون من الأنجع الجمع بين شعارين كونوا واقعيّين.. اطلبوا المستحيل مع جملة عجيبة لجاك لاكان إنّ الواقع هو المستحيل. أن نغيّر العالم هو -إذن- أن نطلب المستحيل بما هو الواقع عينه، الواقع الحقيقيّ كي نواجه الواقع الزائف. هكذا إذن يكون تعريف السعادة الحقيقيّة كما يتصوّرها باديو إنّ السعادة إنّما هي دوما متعة المستحيل. 17
السعادة -إذن- هي شعور ممكن دائما؛ فهي لا تكمن في سعادة المترفين وذوي البطون المشبعة؛ بل تكمن في بهجة الحياة حينما نحبّ، وحينما نبدع فنّا، وحينما نسعد بولادة حقيقة ما. نحن نسعد بكلّ تغيير بهيج لما يحدث لنا. حيث أنه لا ينبغي أن نتأمّل الوجود وأن ننعم بدفء أحضان مساحة الراحة والروتين؛ إنّما علينا الذهاب دوما لملاقاة الحدث وتعلم الجديد. حدث ما؛ هو ذاك الذي يغيّر نظام العالم.
وفي عالم يكاد ييأس من قدرته على السعادة، بما يحصل فيه من ضروب البؤس والتعاسة، تبقى السعادة -كما أخبرنا الإمام الغزالي- في معرفة الإنسان لنفسه وقلبه؛ ومن ثم معرفته لخالقه، فالقلب مخلوق ليسعد بالاقتراب من خالقه، ومفطور على لذة المعرفة الروحانية الخالصة؛ لكن يخبرنا الفيلسوف زيغمونت باومان أن السعادة كفاح وليست مكافأة، مكابدة وليست فرحا دائما، وهذا هو سر الحياة. لكن ما الذي يخبرنا به العلم الحديث عن كيفية فهم الإنسان لشعور السعادة؟ | https://www.aljazeera.net/misc/2021/1/29/%d9%85%d9%81%d9%87%d9%88%d9%85-%d8%a7%d9%84%d8%b3%d8%b9%d8%a7%d8%af%d8%a9-%d8%b1%d8%ad%d9%84%d8%a9-%d9%81%d9%8a-%d8%a3%d8%b1%d9%88%d9%82%d8%a9-%d8%a7%d9%84%d8%aa%d8%a7%d8%b1%d9%8a%d8%ae | 2021-01-29T13:05:44 | 2024-05-07T05:44:34 | أبعاد |
|
70 | ريمونتادا سياسية.. كيف أخفق اليمين الفرنسي على أبواب قصر ماتينيون؟ | بصورة مفاجئة، خسر أقصى اليمين إمكانية تشكيل حكومة فرنسا المقبلة، بينما انتصر اليسار الداعم لحقوق الأقليات والقضية الفلسطينية، فكيف حدث هذا التحول المفاجئ في السباق الانتخابي وما دلالاته؟ | مفاجأة كبيرة أسفرت عنها الانتخابات الفرنسية بعد أسبوع من الشحن والاستقطاب بين القوى السياسية المختلفة. أقصى اليمين، الذي كان حتى قبل أسبوع فقط من الآن يفكر في كيفية ضمان الأغلبية المطلقة لتشكيل الحكومة وتمرير برنامجه القائم على ما يسمى الأفضلية الوطنية التي تعطي الفرنسيين حصرا حقوق المساعدات الاجتماعية والعمل والسكن وتستثني المهاجرين وتميز ضدهم في كثير من القضايا، يجد نفسه دون سابق إنذار خارج حسابات الحكومة المقبلة بعد أن حل ثالثا خلف كل من الجبهة الشعبية الجديدة المكونة من أحزاب اليسار، وتحالف جميعا من أجل الجمهورية، ممثل يمين الوسط الذي يقوده الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون.
أما اليسار، الداعم لحقوق الأقليات والمناصر أيضا للقضية الفلسطينية، أصبح الآن القوة السياسية الأولى في البلاد، بعد أن كانت فرنسا تسبح في الأفكار العنصرية والإقصائية منذ الانتخابات الأوروبية الأخيرة، فما الذي حدث بالضبط؟ وكيف وصلنا إلى هذه النقطة المفاجئة وغير المتوقعة؟
لنفهم ما حدث سنعود إلى يومي الثامن والتاسع من يونيوحزيران الماضي، وقتها كان الفرنسيون يصوتون لانتخاب ممثليهم في البرلمان الأوروبي، وقد تمكّن حزب التجمع الوطني، ممثل أقصى اليمين بقيادة مارين لوبان وجوردان بارديلا، من اكتساح نتائج الانتخابات بعد حصوله على 31.37 من الأصوات و30 مقعدا برلمانيا، وهو ضعف ما حصل عليه أقرب منافسيه من ممثلي حزب الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، الذين حصدوا 13 مقعدا فقط، وهو عدد المقاعد نفسه الذي حصل عليه الحزب الاشتراكي، في حين لم ينل حزب فرنسا الأبية إلا 9 مقاعد.
بعد نتائج البرلمان الأوروبي، دعا رئيس حزب التجمع الوطني جوردان بارديلا الرئيس ماكرون إلى احترام العرف السياسي وإعلان انتخابات تشريعية مبكرة بسبب عدم الاتساق بين الأغلبيتين المتنافرتين في البرلمان الأوروبي والبرلمان الفرنسي، الذي كانت الأغلبية فيه للفريق الرئاسي. ورغم أن ماكرون لم يكن مجبرا على ذلك دستوريا، فإنه استجاب للدعوة معلنا عن انتخابات تشريعية مبكرة تجرى يومي 30 يونيوحزيران الماضي و7 يوليوتموز الحالي، مما خلق جوا من الارتباك في الوسط السياسي بسبب توحش أقصى اليمين، الذي كان أقرب من أي وقت مضى لحكم فرنسا للمرة الأولى منذ الحرب العالمية الثانية.
في 30 يونيوحزيران الماضي، أقيمت الجولة الأولى التي جاءت نتائجها مؤكدةً لما أفرزته الانتخابات الأوروبية، فقد حلّ أقصى اليمين في المركز الأول بنسبة 19.01 بعد جمعه أكثر من 9 ملايين و377 ألف صوت، وهي سابقة بكل ما تحمله كلمة سابقة من معان. حينها بدت فرنسا كأنها تسير نحو الخطوة التي كانت تتوجس منها كثيرا، وهي إعطاء مفاتيح قصر ماتينيون، حيث تقيم الحكومة الفرنسية، لحزب عائلة لوبان.
لكن كل أحلام تيار اليمين تبخرت خلال أسبوع واحد، وتلقى حلمه بالسلطة ضربة قاسية غير متوقعة. ونقدم هنا الإجابة عن سؤالين بسيطين ومهمين كيف سقط أقصى اليمين فجأة في لحظة تاريخية كان فيها على أعتاب نجاح غير مسبوق؟ وما الذي يعنيه ذلك بالضبط؟
بمجرد إعلان إيمانويل ماكرون حلّ البرلمان الفرنسي والدعوة للانتخابات، بدأ أقصى اليمين في حشد أذرعه الإعلامية استعدادا للمعركة، وفي مقدمتها مجموعة كانال المملوكة لرجل الأعمال المثير للجدل فانسون بولوري. في فرنسا ليس هناك مقدم إذاعي أشهر من سيريل حنونة، صاحب البرنامج الكثيف المتابعة لا تلمس تلفازي على قناة سي 8 المملوكة لمجموعة كانال.
حنونة ذو الأصول اليهودية التونسية الذي كان يلعب دور إعلامي الطبقة الشعبية في الماضي، أضحى الإعلامي المفضل لأقصى اليمين، حيث عمل على تبييض وجه عدد من أكثر قادته تطرفا ممن كانوا دائمي الحضور في برنامجه، مثل إيريك زمور وجون مسيحة وماريون ماريشال لوبان، فضلا عن نشطاء يمينيين شديدي التطرف مثل جوليان أودول صاحب واقعة التهجم على سيدة محجبة في أكتوبرتشرين الأول 2019.
بجانب قناة سي 8، لعبت قناة سي نيوز دورا محوريا في نشر الأفكار العنصرية وفق ما يصفه عدد من المراقبين للشأن الفرنسيّ، كما لعبت القناة دورا رئيسيا في الحشد ضد اليسار بسبب دعمه فلسطين وغزة باعتبار ذلك معاداة السامية. لكن رغم كل هذا الحشد اليميني، وجد أقصى اليمين نفسه أمام فضائح إعلامية كبيرة لدرجة جعل مجلة ماريان -أحد الأذرع الإعلامية لأقصى اليمين- تعنون إحدى مقالاتها بـقبل الدور الثاني من الانتخابات.. فشل المرشحين داخل التجمع الوطني، في إشارة إلى الارتباك الإعلامي والسياسي الواضح في صفوف اليمين.
ببساطة، أظهر العديد من البرلمانيين من أقصى اليمين ضحالة فكرية ومعرفية غريبة كما وصفها ناشطون فرنسيون على منصات التواصل الاجتماعي، لدرجة جعلت فيديوهاتهم تنتشر كالنار في الهشيم عبر مواقع التواصل الاجتماعي. لم يتمكن العديد من المرشحين عن التجمع الوطني من الرد ليس على أسئلة تخص الإشكالات الرئيسية التي تعيشها فرنسا، بل عجزوا حتى عن إظهار استيعابهم لبرنامج الحزب الانتخابي، والمثال هنا مثلا المرشح أنيس بوفار عن مدينة آنسي، الذي لم يستطع الإجابة على العديد من الأسئلة التي تم توجيهها له خلال لقاء صحفي حول برنامجه الانتخابي.
الأمر نفسه سيتكرر مع مرشحة الحزب في ديجون السيدة سيلين هامبلو كورني، التي أجابت إجابة غاية في الغرابة عن سؤال اقتصادي يخص مصادر ميزانية البرنامج الانتخابي الذي يريد حزبها تطبيقه، إذ قالت باستستهال يجب إيقاف الهجرة حتى نتمكن من جمع هذه الأموال، دون شرح علاقة الهجرة بتمويل صندوق التقاعد الفرنسي مثلا. رئيس الحزب نفسه جوردان بارديلا رفض في أكثر من مرة خوض مناظرات مع خصومه، واضعا شروطا وصفها خصومه بالتعجيزية لقبول ذلك، مما حوّل جميع المناقشات بشأن البرامج الانتخابية تقريبا إلى مجرد حوارات صحفية تفتقد إلى الحجة والإقناع.
صحيح أن عدم إجابة مرشح برلماني عن أسئلة خاصة بالبرنامج الانتخابي أو تهربه من المواجهة السياسية، قد يؤثر على صورة الحزب، لكن هذه الصورة السلبية قد لا تكون شيئا يذكر أمام التصريحات والتصرفات العنصرية التي أظهرها مرشحو التجمع الوطني طيلة الحملة الانتخابية، والتي تكثفت بشدة قبل جولة الحسم.
ففي الثاني من يوليوتموز 2024، مثلا، أعلنت لوديفين داودي، المرشحة عن حزب التجمع الوطني في المقاطعة الأولى لمدينة كن، سحب ترشحها للانتخابات بعد تسريب صورة لها وهي ترتدي قبعة خاصة بسلاح الجو الألماني النازي. ردا على هذه الواقعة، سيصرح القيادي في الحزب فيليب شاربون بأنه لا يمكن فحص صور تعود لسنوات مضت لكل المرشحين عن الحزب.
سيتكرر هذا الأمر أكثر من مرة ومع أكثر من مرشح، ففي تقرير له حول الأمر، جمع موقع ميديا بارت أهم التصرفات العنصرية أو التصريحات التي خرج بها مرشحو التجمع الوطني من قبيل اعتبار المرشح جون إيف لو لوبولونجي أن قبوله بركة كاهن أسود اللون يعد دليلا على عدم عنصريته، سنجد أيضا، على سبيل المثال لا الحصر، تصريح النائب دانيل غرونون بأن المواطنين الفرنسيين من أصول مغاربية لهم مكانتهم في البلاد، لكن ليس في المناصب العليا لأن ذلك يتعارض مع هدفه بـحماية فرنسا، وفق مزاعمه.
ورغم أن رئيس الحزب جوردان بارديلا برر هذه التصرفات في تصريح متلفز بأن الأمر لا يعدو كونه وجودا لبعض النعاج الجرباء في القطيع، فإنها التصريحات في الحقيقة تعكس جوهر رسالة الحزب وتتسق تماما مع برنامجه الذي لا ينكر التفوق الفرنسي فقط، ويضع ضمن أولوياته منع الأجانب من الحصول على المساعدات والسكن الاجتماعي، بل منع مزدوجي الجنسية من الأصول العربية والأفريقية من العمل في بعض القطاعات، في حين يُستثنى ذوو الأصول الأوروبية من هذا التضييق القائم على النقاء العنصري.
بعد حصوله على المركز الأول في الانتخابات التشريعية، حسب النتائج التي صدرت يوم الأحد، أشارت التغطيات الإعلامية إلى الأمر باعتباره معجزة سياسية كانت بعيدة المنال. ورغم أن التحول الحاصل لم يكن سهلا مطلقا، فإن النتائج التي حصل عليها اليسار في الدور الأول كانت قريبة جدا من الصدارة، فقد حصل على 18.19 من الأصوات مقابل 19.01 لأقصى اليمين، مما يعني فرقا أقل من 1 من الأصوات. رياضيا على الأقل، لم يكن الأمر مستحيلا، لكن هذه الريمونتادا استوجبت الكثير من العمل الذي عجز اليمين عن القيام به.
بعد نجاح التجمع الوطني في البرلمان الأوروبي، لم يتمكن اليمينيون من الوصول لاتفاق لتشكيل جبهة موحدة تدخل الانتخابات التشريعية. في البداية، حاول رئيس حزب الجمهوريين إيريك سيوتي يمين كلاسيكي، ينتمي إليه الرئيس الأسبق نيكولا ساركوزي قيادة تحالف مع حزب لوبين، لكن هذا التحالف لم ينجح بعد رفض سيناتورات الحزب لذلك، مما جعلهم يحاولون الإطاحة به من منصبه لولا تدخل القضاء.
من جهة أخرى، انشق حزب استرداد الذي أسسه إيريك زمور على نفسه بعد أن خرجت الخلافات التي بينه وبين ماريون ماريشال ابنة أخت مارين لوبان إلى العلن بسبب تبادل الاتهامات بينهما بعد أن حاولت ماريشال التوصل إلى اتفاق مع خالتها التي كانت ترفض أي اتفاق يكون إيريك زمور طرفا فيه بسبب تطرفه الشديد.
على العكس من ذلك تماما، لم يأخذ اليسار سوى ساعات قليلة لإعلان تشكيل الجبهة الشعبية الجديدة، بوصفه نسخة من الجبهة الشعبية اليسارية التي تأسست في الثلاثينيات من القرن الماضي في فرنسا. تناسى فرقاء اليسار خلافاتهم المحورية حول الكثير من القضايا وتعاملوا ببرغماتية كبيرة مع هذا الاستحقاق الانتخابي لدرجة قيامهم بسحب بعض المرشحين من منافسة مرشحي حزب إيمانويل ماكرون، رغم الخلاف الكبير مع الرئيس الفرنسي، فقط لمنع مرشحي أقصى اليمين من الصعود فيما سمي بـالسد الجمهوري.
بمجرد خروج النتائج، نقلت الصحافة الفرنسية مقاطع لتجمعات اليساريين في البلاد وهم يصرخون فرحا بإسقاط الفاشيين حد وصفهم. بعدها خرج جون لوك ميلانشون، زعيم حزب فرنسا الأبية، أحد أضلع التحالف اليساري، للتأكيد أن الجبهة الشعبية الوطنية ستطبق برنامجها فقط، معلنا عن رفضه الدخول في أية مفاوضات مع التيار الرئاسي.
وقد صبت باقي التصريحات من مختلف القيادات اليسارية في السياق نفسه، حيث أبدى اليساريون مناعة كبيرة أمام وسائل الإعلام، ورفضوا الحديث عن اسم المرشح لقيادة الحكومة، مؤكدين أن الاسم سيُحدد وقف إجماع، وليس عبر فرض الواقع من قبل أي طرف، خاصة حزب فرنسا الأبية الأكثر تمثيلا.
في غضون ذلك، أظهر اليساريون خلال الحملة الانتخابية، وعكس أقصى اليمين، قدرة جيدة على الحوار والإجابة على أسئلة العديد من النقاط الحساسة في برنامجهم، مما يجعل أسماء عديدة من الحزب الاشتراكي وحزب الخضر ومن فرنسا الأبية مطروحين على طاولة إيمانويل ماكرون لمقعد رئيس الحكومة.
كان هذا هو السؤال الذي طرحته صحيفة لو باريزيان في عددها الصادر في الثامن من يوليو تموز الجاري، فرغم أن النتيجة قد أطاحت بـ كابوس أقصى اليمين، الذي كان يجثم على أنفاس نسبة كبيرة من الفرنسيين، فإن التعايش بين تيار الرئيس وبين اليسار لن يكون سهلا مطلقا.
حقق حزب الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون نتائج وُصفت بالجيدة في جولة الإعادة بحصوله على عدد مقاعد أكثر من أقصى اليمين، ويعود الفضل في ذلك بنسبة لا بأس فيها لسياسة انسحاب اليسار في بعض المقاعد، مما جعل نواب ماكرون يحصلون على ميزة التصويت العقابي ضد حزب لوبان.
مباشرة بعد إعلان نتائج الانتخابات، أعلن رئيس الحكومة غبريال أتال تقديم استقالته، إذ من المنتظر أن يتم اختيار رئيس الوزراء الجديد من الكتلة الفائزة، مما سيطرح إشكالا محوريا بين سياسات ماكرون الاقتصادية والسياسية وبين توجهات اليسار الذي جاء ببرنامج ينقذ فرنسا من الماكرونية، على حد قول هذا التيار.
سيكون على ماكرون الاختيار بين العديد من الإمكانيات المتاحة، أولا، التعايش مع حكومة يكوّنها اليسار، وهو ما سبق أن حدث -مثلا- في عهد الرئيس الاشتراكي فرانسوا ميتران، الذي كان يحكم مع الوزير الأول اليميني جاك شيراك، الذي سيصبح بعد ذلك رئيسا لفرنسا، وهذا السيناريو، حسب بنجامين موريل أستاذ العلوم السياسية في تصريح له لصحيفة ليبراسيون، يبقى هو الأقرب.
السيناريو الثاني الممكن والصعب هو التحالف الحكومي، أما الصعوبة فمردّها أيديولوجي في المقام الأول، فقد تعامل تيار ماكرون مع حزب فرنسا الأبية كتعامله مع أقصى اليمين، بحيث أطلق عليهما اسم التيارات المتطرفة، وظهر هذا في البرلمان الفرنسي في النقاشات الخاصة بفلسطين مثلا، فقد كان التيار الماكروني في البداية يعلن دعمه الكامل لحكومة نتنياهو الإسرائيلية قبل التراجع قليلا، في حين كان اليسار يرى فيما يحدث في فلسطين إبادة جماعية وتطهيرا عرقيا.
الاختيار الأخير نظريا هو تقديم ماكرون استقالته وإعلان انتخابات رئاسية، وهو سيناريو بعيد جدا لأن ماكرون نفسه نفى رغبته في ذلك تماما.
في النهاية، أسفرت الانتخابات الفرنسية عن سقوط لأقصى اليمين، لكن ذلك لا يعني انزواءه عن المشهد تماما. فقد أظهرت النتائج أن هذا التيار نجح في مضاعفة حضوره السياسي بعد حصوله على عدد أكبر بكثير من المقاعد التي كان يحصل عليها حتى الأمس القريب، لذلك يعدّ ما حدث انتصارا جزئيا للفكر الفاشي الذي يجب على فرنسا العمل كثيرا لمواجهته إن أرادت ذلك.
بيد أن الأجندات السياسية المتضاربة بين الرئيس واليسار ستظل عائقا كبيرا أمام الاتفاق على سياسات موحدة، مما سيعطي اليمين الفرصة لمواصلة تعزيز حضوره في انتظار الاستحقاق الانتخابي القادم. | https://www.aljazeera.net/politics/2024/7/8/%d8%b1%d9%8a%d9%85%d9%88%d9%86%d8%aa%d8%a7%d8%af%d8%a7-%d8%b3%d9%8a%d8%a7%d8%b3%d9%8a%d8%a9-%d9%83%d9%8a%d9%81-%d8%a3%d8%ae%d9%81%d9%82-%d8%a7%d9%84%d9%8a%d9%85%d9%8a%d9%86 | 2024-07-08T14:03:12 | 2024-07-08T14:16:30 | أبعاد |
|
71 | أفضل 10 روايات عالمية أجمع عليها الأدباء والنقاد | تطول قوائم أفضل الكتب أو الأعمال الأدبية التي عادة ما يشارك فيها أدباء ونقاد، لن يسعك الوقت لقراءتها بالتأكيد، إليك هذه القائمة لأهم الأعمال الأدبية وتحديدا الروائية. | الكتاب الكلاسيكي هو كتاب لا ينتهي أبدا من البوح عما بداخله
إيطاليو كالفانو
نحن الآن نشعر بالمرور السريع للوقت أكثر من أي زمن مضى، دائما علينا تحديد أولوياتنا في كل ما نفعل، فالحياة قصيرة جدا، والخيارات كثيرة، وعلينا أن نقرر ما الذي نريد فعله حقا. وعندما نتذكر عشرات الكتب التي نريد أن نقرأها، يخطر لنا أننا حتى لو عشنا حياة أخرى على حياتنا، فإنها لن تكفي لقراءة كل هذه الكتب. لكن بالرغم من وجود ملايين الكتب القديمة وآلاف الكتب الجديدة الجيدة فإن الكتب العظيمة التي فتحت آفاقا جديدة للوعي والفهم البشري هي حقا قليلة بل نادرة. هناك الكثير من القوائم التي ستجد بها الكتب الأكثر تأثيرا في التاريخ والتي من أشهرها قائمة لو موند، وقائمة التليغراف، وقائمة مجلة التايم، تحتوي هذه القوائم على أنواع مختلفة من الكتب أدبية وفكرية وعلمية، نعرض منها هنا قائمتنا بأهم الأعمال الأدبية الكلاسيكية التي أجمع عليها الأدباء والنقاد عبر التاريخ.
الأعمال التي ستُذكر في هذه القائمة هي أهم الأعمال الأدبية وتحديدا الروائية، لا تحتوي قائمتنا المسرحيات العظيمة لشكسبير ولا أشعار هوميروس، ومعظم الروايات التي اخترناها هنا هي الأكثر تكرارا في قوائم أفضل الأعمال الأدبية التي شارك فيها أدباء ونقاد من كل مكان في العالم. كما أخذنا في الاعتبار أثناء الاختيار أن تكون الروايات المذكورة لأدباء اعتُبرت جُلّ أعمالهم الأدبية أعمالا استثنائية أو ذُكر لهم أكثر من عمل واحد في القوائم المفضلة لدى الأدباء والنقاد، وترتيب القائمة ليس ترتيبا للأفضلية. في مقالها عن كيفية قراءة الأعمال الكلاسيكية والاستمتاع بها تقول إيمي إكس وانغ الأعمال الأدبية الكلاسيكية؛ تحفة الأعمال الأدبية، التي لطالما سمعت وتسمع أنها أعمال راقية وساحرة وعظيمة، لكنك في الواقع لم تأخذ أيا منها لتحاول قراءته، أو حتى جربت في عصرنا الرقمي أن تقرأها على جهازك اللوحي. وبالرغم من ذلك ما زلت تشعر برغبة داخلك في أن تقرأ رواية كلاسيكية على الأقل في إحدى مراحل حياتك، ربما قد حان الوقت.
رواية مارسيل بروست البحث عن الزمن المفقود هي الرواية الأطول في العالم، تصل عدد كلماتها إلى 1.2 مليون كلمة. نُشرت الرواية خلال أربعة عشر عاما في سبعة مجلدات، واعتُبرت واحدة من الروايات العظيمة على الفور. بأسلوب شديد الحساسية كتب بروست حكاية رجل يبحث عن معنى وسبب حياته في تأمل مستمر لكل الأشياء التي مر عليها، يعتقد النقاد أن هذا الرجل هو نسخة مقنعة من بروست نفسه.
يعتبر الكثيرون رواية الكاتب الأيرلندي جيمس جويس عوليس أو يوليسيس تحديا حقيقيا للقارئ وواحدة من أصعب الأعمال الأدبية للقراءة. فهذه الرواية لها لغتها الخاصة جدا، التي كُتبت بطريقة معقدة وفذة، حتى إن فصولها تُقرأ بترتيب خاص. أفضل ترجمة للرواية باللغة العربية هي ترجمة طه محمود طه الباحث الأكاديمي المتخصص في كل ما يخص جيمس جويس وعوليس. عن ماذا تتحدث هذه الرواية؟ لا يمكن الإجابة عن هذا السؤال ببساطة، لكنّ واحدا من الأشياء التي تجعل هذه الرواية مثيرة للاهتمام أن كل فصل مكتوب بطريقة مختلفة، هناك فصل مكتوب على هيئة مسرحية، وفصل في صورة رواية رومانسية تافهة، وهكذا.
يعتبر بعض النقاد رواية دون كيشوت أو دون كيخوتي للأديب الأسباني ميغيل دي ثيربانتس أول عمل روائي في العصر الحديث. تحكي الرواية حكاية رجل أراد أن يكون فارسا مثل الفرسان الذين قرأ عنهم في الكتب، فارتدى درعا وأطلق على نفسه دون كيشوت، وعندما لم يجد الأشرار والتنانين الذين يجب محاربتهم تخيل أن طواحين الهواء وحوشا عملاقة. يُضرب المَثل بهذه الرواية كثيرا عندما يحارب أحدٌ الأشخاصَ في الاتجاه الخاطئ أو أعداء وهميين فتكون حربه بلا معنى ولا جدوى كأنه يحارب طواحين الهواء.
تقريبا معظم أعمال الأديب الروسي فيودور دوستويفسكي صُنّفت ضمن قوائم أفضل وأهم الأعمال الأدبية وأكثرها حساسية وعبقرية، خصوصا رائعتيه الإخوة كارامازوف والجريمة والعقاب. تُرجمت أعماله إلى كل اللغات واقتُبست كثيرا في السينما والدراما، وكان لها تأثير كبير على فرويد الذي كان يقول إن كل فكرة خطرت له في علم النفس قد سبقه لها دوستويفسكي.
رواية ضخمة للكاتب الروسي العظيم ليو تولستوي لدرجة أنك قد لا تستطيع أن تقرأها ممسكا بها وأنت جالس على السرير. هذه الرواية الطويلة للغاية يمكن اعتبارها بمنزلة مسائلة وفحص مثير للتاريخ. يجسد تولستوي في الحرب والسلام مجموعة من الشخصيات الأكثر واقعية التي يمكن أن تقرأها في حياتك. كذلك فإن روايته أنا كارنينا تصدّرت أيضا الكثير من قوائم أفضل الأعمال الأدبية وينصح بها النقاد كبداية ممتعة وممتازة لقراءة الأعمال الكلاسيكية للمبتدئين. واعتبرها وليام فوكنر الرواية الأعظم الوحيدة في التاريخ على الإطلاق.
يُعدّ الكاتب والطبيب الروسي أنطون تشيخوف واحدا من أفضل كُتّاب القصة القصيرة وأهم روادها في التاريخ، وهو أيضا كاتب مسرحي كبير. مارس الأدب والطب طوال حياته، وكان يقول إن الطب زوجتي والأدب عشيقتي. الأعمال المختارة لتشيخوف هو مجلد لمجموعة من القصص التي وُضعت على قوائم الأكثر مبيعا في العالم.
قال عنها وليام كندي في مراجعات الكتب التي تنشر في صحيفة نيويورك تايمز أول عمل أدبي رفيع منذ سفر التكوين والذي يجب أن يقرأه الجنس البشري بأكمله. وقال عنها الشاعر بابلو نيرودا إنها أفضل تجلٍّ للغة الإسبانية منذ أن كتب ثيربانتش دون كيشوت. تقع أحداث الرواية على مدار ستة أجيال في قرية خيالية تُدعى ماكندو، الرواية مليئة بالأحداث الغريبة والسحرية.
كافكا هو أحد أعظم الكتاب التشيك. الكثير من أعماله ذُكرت في قوائم أفضل الأعمال الأدبية خصوصا المحاكمة التي كتبها في ليلة واحدة فقط. من المعروف أن عوالم كافكا ليست سارّة أبدا، بل تشبه في الكثير من الأحيان كوابيس لا يمكن الفرار منها. ربما ساهم تأثر كافكا بقسوة أبيه واستبداده والرعب النفسي الذي سببه له وعدم قدرة أمه الضعيفة من حماية ابنها منه في خلق عوالمه الكابوسية.
تتميز هذه الرواية للأديب الأميركي ويليان فوكنر بأنها عمل أدبي ليس من السهل هضمه وله مستويات مختلفة للوعي وشخصياته مركبة ومعقدة. يرى النقاد أن العنف المكثف في هذه الرواية كان هدفه نبذ العنف. زمن هذه الرواية ليس زمنا تقليديا مما جعل سارتر يقول ما الذي جعل فوكنر يجزّئ الزمن في روايته ويمزج هذه الأجزاء بلا ترتيب، ولماذا كانت أول نافذة تفتح على العالم الروائي فيها مروية على لسان شخص معتوه؟.
تُعبّر فيرجينيا وولف بالكلمات عن الإثارة والألم والجمال والرعب فيما أسمته العصر الحديث. استلهمت وولف كثيرا من بروست وجيمس جويس وكانت تبحث بشكل مستمر عن طرق جديدة في التعبير تناسب تعقيدات الوعي الحديث، وكانت من أوائل كُتّاب تيار الوعي. تعتمد معظم رواياتها على التأمل الفلسفي الخالي من الأحداث والحوارات. وتُعدّ روايتها إلى المنارة النسخة الخيالية لنشأة عائلة وولف.
الحقيقة أن معظم القوائم التي ترشح أعظم الأعمال الأدبية كانت تضم 100 رواية عظيمة. تختلف مكانة كل رواية في القوائم المختلفة لكن هناك مجموعة من الروايات لا تخلو منها أي قائمة، بالإضافة إلى الروايات العشر السابقة لا يمكن لقائمة أن تخلو من روايات مثل 1984 لجورج أورويل، ولوليتا لفلاديمير نابوكوف، والغريب لألبير كامو، ومدام بوفاري لفلوبير، وموبي ديك لهيرمان ملفيل، والحارس في حقل الشوفان لسالينغر، ومغامرات هلكبري فين لمارك توين، ومغامرات أليس في بلاد العجائب للويس كارول، وغاتسبي العظيم لفيتزجيرالد، وجين أير لتشارلوت برونتي، ومرتفعات وذرنغ لإيميلي برونتي، وآمال عظيمة لتشارلز ديكنز، ولمن تقرع الأجراس لهيمنجواي. ربما سينضم في السنوات المقبلة لهذه الكتب الكلاسيكية أعمال أدباء عصريين مثل جوزيه ساراماغو وميلان كونديرا وغيرهم من الأدباء الاستثنائيين. | https://www.aljazeera.net/culture/2018/9/17/%d8%a3%d8%b9%d8%b8%d9%85-10-%d8%b1%d9%88%d8%a7%d9%8a%d8%a7%d8%aa-%d8%a3%d8%ac%d9%85%d8%b9-%d8%b9%d9%84%d9%8a%d9%87%d8%a7-%d8%a7%d9%84%d8%a3%d8%af%d8%a8%d8%a7%d8%a1 | null | 2024-06-04T08:17:14 | أبعاد |
|
72 | كيف سطّر الجزائريون ملحمة الجرف الكبرى في 7 أيام؟ | معركة الجرف الكبير كان لها ما بعدها في مسار الثورة الجزائرية التي اكتسبت زخمًا كبيرًا في كافة الأراضي الجزائرية، وكانت دفعة قوية لاستمرار النضال من أجل طرد الاحتلال الفرنسي، وهو ما تم في نهاية المطاف. | في 16 فبرايرشباط 1957، وبينما كانت السلطات الفرنسية تحاصر حي القصبة في قلب الجزائر العاصمة، تمكنت بعد مطاردة طويلة من القبض على مناضل يحمل هوية باسم عبد الرحمن عيبود، لكن الجنود سرعان ما أدركوا أنها هوية مزيفة بعدما تأكدوا أنهم نجحوا بالفعل في القبض على أحد أهم مُفجري ثورة التحرير الجزائرية، وأحد ألد أعدائهم محمد العربي بن مهيدي.
كانت الثورة الجزائرية قد اندلعت قبل ذلك بأقل من 3 سنوات، وكان بن مهيدي أحد قادة جبهة التحرير الوطني الستة الذين أطلقوا الثورة، لذلك فقد كان القبض عليه بالنسبة للسلطات الفرنسية بمثابة الحصول على كنز. لكن على مدار الأيام اللاحقة، اكتشف الفرنسيون أنهم، وإن كان صندوق الكنز معهم، لا يملكون المفتاح. تعرّض العربي بن مهيدي لتعذيب شديد من أجل انتزاع معلومات حول الخلايا الثورية وأنشطتها، لكنه لم يبح بأي سر.
وفي 7 مارسآذار، أي بعد أقل من 3 أسابيع من اعتقاله، نشرت صحيفة لوموند الفرنسية خبرا بعنوان انتحار العربي بن مهيدي في زنزانته بعد حالة اكتئاب.
لم يصدق الجزائريون الخبر، ولم يعترف الفرنسيون بالحقيقة إلا بعد 70 عامًا من اندلاع الثورة. ففي الأول من نوفمبرتشرين الثاني 2024، أعلن قصر الإليزيه في بيان، أن رئيس الجمهورية يعترف اليوم بأن العربي بن مهيدي، البطل الوطني للجزائر وأحد قادة جبهة التحرير الوطني الستة الذين أطلقوا ثورة الأول من نوفمبرتشرين الثاني 1954، قتله عسكريون فرنسيون كانوا تحت قيادة الجنرال بول أوساريس.
طيلة السنوات الماضية حافظت الرواية الرسمية الفرنسية على القول بأن بن مهيدي انتحر في سجنه، رغم أن أوساريس نفسه اعترف بقتله في مذكراته التي نُشرت عام 2000.
أتى هذا الاعتراف ضمن سياق أوسع لإعادة قراءة تاريخ الاحتلال الفرنسي للجزائر، حيث يبدو أن الاعتراف الرسمي بمثل هذه الأحداث قد يشير إلى تقدم تدريجي نحو مواجهة الماضي الاستعماري، وإخراج خفايا الزوايا التي حرص الفرنسيون على إخفائها طوال تلك العقود.
الحقيقة أن ثورة التحرير الجزائرية تعد ذروةً في مسار طويل ومعقَّد من المقاومة الشعبية، سواء السياسية أو المسلحة، ضد الاستعمار الفرنسي الذي غزا البلاد عام 1830، فقد بدأت هذه المقاومة بعد فترة قصيرة من بداية الاحتلال الفرنسي للجزائر مع حركة الأمير عبد القادر الجزائري 1832-1847، مرورًا بمقاومة أحمد باي 1837-1848، ثم مقاومة الزعاطشة 1848-1849 وكذا مقاومة لالّة فاطمة نسومر والشريف بوبغلة 1851-1857، وصولًا إلى بطولات الشيخ المقراني والشيخ بوعمامة 1871-1883، وكلٌ منها كشف عن دور مجيد من أدوار النضال الجزائري الثوري ضد المحتل الفرنسي.
بالإضافة إلى هذه الحركات الثورية المسلحة، شهدت الجزائر أيضًا العديد من التحركات الشعبية عبر مختلف مناطقها التي أسهمت في تشكيل الوعي الوطني حتى بداية ثلاثينيات القرن العشرين، حيث ظهرت حركة نجم شمال أفريقيا في عام 1926 بقيادة مصالي الحاج، لتتحول بعدها في عام 1937 إلى حزب الشعب الجزائري، ثم في عام 1946 إلى حركة انتصار الحريات الديمقراطية.
وفي داخل إطار هذه الحركة الوطنية التي كانت تزداد اشتعالا يوما بعد آخر، نشأت منظمة عسكرية سرية من مجموعة من المناضلين الذين كانوا يطمحون إلى إشعال ثورة مسلحة شاملة في عموم البلاد، استجابة لظروف داخلية وخارجية كانت تبدو مواتية في ذلك الوقت. وكان من أبرز هذه الظروف المجازر التي ارتكبتها فرنسا في 8 مايوأيار 1945، والتي أودت بحياة أكثر من 45 ألف جزائري كانوا يطالبون بحقهم في الاستقلال والجلاء الفرنسي، على خلفية انتصار الحلفاء -ومنهم فرنسا- على النازية في الحرب العالمية الثانية، بعدما وعدتهم فرنسا بالحرية والاستقلال.
إضافة إلى ذلك شكَّلت هزيمة الجيش الفرنسي في معركة ديان بيان فو في الهند الصينية عام 1952، محفزًا قويًا لإطلاق الثورة الجزائرية، وذلك في وقت كان العالم يشهد فيه توسّعًا غير مسبوق لحركات التحرر الوطني، فقد أدرك الثوار الجزائريون أهمية المقاومة وجدواها، وأن قوى آسيوية استطاعت أن تقهر الجيش الفرنسي.
ولهذا السبب وبعدد بلغ حوالي 1200 مقاتل، وبامتلاك قرابة 400 قطعة سلاح، أُطلقت أولى الرصاصات من جبال الأوراس في شرق الجزائر لتشتعل الثورة في غرة نوفمبرتشرين الثاني 1954 وتتوالى بعدها العمليات المسلحة في مختلف المناطق الجزائرية، مصحوبة بتوزيع منشورات باللغتين العربية والفرنسية لحض الناس والمقاومين على المواجهة والاستعداد. وقد سجّلت الإدارة الاستعمارية في الليلة الأولى من الثورة حوالي 30 حادثًا، كان أخطرها في مناطق الأوراس، والقبائل، والعاصمة، والشمال القسنطيني ووهران غربًا.
وفي رد فعلها الأول على هذه الأحداث، أصدرت الإدارة الفرنسية مرسومًا يوم 5 نوفمبرتشرين الثاني 1954، يقضي بحلّ جميع المنظمات والهيئات السياسية الجزائرية، واعتقال أكثر من 500 مناضل ومسؤول في الحركة الوطنية، وكان هذا بداية سلسلة من الملاحقات التي تزامنت مع عدة عمليات مسلحة ضد مواقع وهيئات وشخصيات فرنسية، تبنّاها جيش التحرير الوطني، الجناح العسكري لجبهة التحرير الوطني. كما شهدت هذه الفترة اغتيال أبرز قيادات الجبهة، مثل المناضل ديدوش مراد في 18 ينايركانون الثاني 1955.
وفي تلك الأسابيع الأولى، عملت جبهة التحرير الوطني على تعزيز التنظيم الداخلي لصفوفها وإنشاء شبكة لوجستية متماسكة قادرة على مواصلة المقاومة ضد الاستعمار الفرنسي. وفي هذا السياق، استفادت الجبهة من شبكات الدعم المحلية، حيث وُزّعت المهام على المستوى الإقليمي لتنفيذ عمليات متفرقة وعمليات عسكرية على عدة جبهات، خصوصًا في مناطق القبائل، والأوراس، والغرب الجزائري، كما أدركت القيادة الجزائرية أن حرب الاستقلال تحتاج إلى إستراتيجية غير تقليدية، واستندت إلى تكتيكات حرب العصابات والكرّ والفرّ، مما جعل قوات الاستعمار غير قادرة على مواجهة هذه الهجمات المتنقلة.
كانت ردة فعل السلطات الفرنسية عنيفة وقاسية في مواجهة ثورة التحرير، ومع بداية الهجمات، اعتمدت فرنسا سياسة القمع العسكري المكثف، وبدأت في اعتقال آلاف الجزائريين المشتبه في انضمامهم إلى جبهة التحرير، كما شنت حملات اعتقال وتعذيب واسعة بهدف إحباط عزيمة الثوار، إلا أن هذا القمع لم يثنِ الثورة، بل عزز من إصرار الجزائريين، وكشف لفرنسا أن مواجهة ثورة شعبية منظمة ومستندة إلى قضية عادلة لن يكون بالأمر الهيّن.
خلال اجتماع ضم قيادات الثورة الجزائرية في أغسطسآب 1955، تقرر تنفيد هجمات عسكرية لمدة 3 أيام متتالية تبدأ من يوم 20 أغسطسآب، وقد وُزّعت خلالها المهام، وتم اختيار 39 هدفًا عسكريا وإستراتيجيا للفرنسيين في مناطق قسنطينة والخروب وسكيكدة والقل وعين عبيد وقالمة والميلية وأسطورة وفلفلة وغيرها من مناطق الشمال القسنطيني، وكان اختيار هذه الأماكن مقصودًا نظرًا لوجود منشآت عسكرية واقتصادية إستراتيجية من مطارات وموانئ ومراكز للشرطة والدرك ومصانع وخطوط سكك حديدية ومحلات تجارية.
وقد اعتمدت الهجمات على أساليب حرب العصابات، فعلى سبيل المثال في سكيكدة وضواحيها، هاجم المجاهدون مركز الشرطة والدرك وثكنات الجيش الفرنسي ومقر الحزب الجمهوري المتنقل والبنك المركزي ومحطة الكهرباء وبعض المحلات التجارية. وأوقع المهاجمون خلال 4 ساعات خسائر كبيرة في القوات الفرنسية ومصالحها، ويمكن أن نرى ذلك في العديد من المدن والمناطق الأخرى التي اتفق الثوار على استهدافها.
وقد حطم هجوم 20 أغسطسآب 1955 الحصار الإعلامي الفرنسي والغربي الذي فُرض على الثورة وأحوال الجزائر، فانتقلت القضية إلى المحافل الدولية، وأصبحت تتصدر الصفحات الأولى من الجرائد العالمية، حيث تلقت قيادة الثورة دعوة للمشاركة في مؤتمر باندونغ بإندونيسيا والذي حضرته 29 دولة، وكان من نتائجه مصادقة هذه الدول على لائحة تطالب بحق الجزائر في الاستقلال، كما تعهّدت هذه الدول بتمويل القضية الجزائرية.
وفي 20 سبتمبرأيلول 1955، طالبت 15 دولة من كتلة باندونغ بتسجيل القضية الجزائرية في جدول أعمال دورة أعمال الأمم المتحدة، رغم احتجاج فرنسا وادعائها أن القضية الجزائرية قضية داخلية لأن الجزائر جزء من فرنسا بمقتضى مرسوم عام 1834، ولا شك أن تسجيل القضية الجزائرية في جدول أعمال الدورة 10 للأمم المتحدة بعد مرور 10 أشهر فقط على اندلاع الثورة المسلحة، كان نصرًا كبيرًا من الناحية السياسية والدبلوماسية.
يبدو أن فرنسا اشتط غضبها من هذه الأحداث، ولهذا السبب وفي فجر 22 سبتمبرأيلول 1955، شنت القوات الفرنسية هجومًا عنيفًا على وحدات جيش التحرير في جبال منطقة الجرف الواقعة بولاية تبسة شرقي الجزائر. ولأن مناطق الشرق القسنطيني كانت من أنشط معاقل الثورة الجزائرية، أراد الفرنسيون ضربها في معقلها، وهي المعركة التي عُرفت في تاريخ الجزائر الحديث باسم معركة الجرف الكبير، لاستمرارها مدة أسبوع كامل، بل إن بعض شهود العيان يقولون إنها استمرت حتى 4 أكتوبرتشرين الأول من ذلك العام، بحسب ما ذكره محمد العربي مداسي في كتابه مغربلو الرمال.. الأوراس، النمامشة 1954 1958.
كان قائد هذه الجبهة شيحاني بشير قد اجتمع قُبيل الهجوم الفرنسي بأهل المنطقة يدعوهم للانضمام إلى جبهة التحرير، ويُفنّد الأكاذيب الفرنسية حول الثورة، بل ويشرح لهم خطورة السياسة الفرنسية التي تهدف إلى محو الهوية الجزائرية دينًا وقيمًا، وقد علم شيحاني أن نتائج هذا الاجتماع ستصل إلى الفرنسيين، ويبدو أنه كان يستدرجهم إلى جبال ومغارات الجرف لإشعال مواجهة اختلف المؤرخون، بل وحتى بعض رفاقه، في تقييمها بين مؤيّد لها ومعارض، كما يذكر الباحث تابليت عمر في كتابه الأوفياء يذكرونك يا عباس.. عباس لغرور.
ومهما يكن، فقد استخدم الفرنسيون القصف المدفعي تمهيدا لتقدمهم على ثلاثة محاور المناطق الشرقية، والشمالية، والجنوبية التي كان يتمركز فيها المقاومون وخاصة قلعة الجرف، وقد حاولت كتيبة دبابات وقوات مشاة الوصول إلى المدخل الشمالي للمنطقة، لكن الثوار تمكنوا من تدمير الدبابات الأمامية وإلحاق خسائر كبيرة بالمشاة، مما أدى إلى تراجع القوات الاستعمارية، حيث غنم المجاهدون كميات كبيرة من الأسلحة التي تُركت بجوار جثث الجنود الفرنسيين.
ورغم محاولات الطيران الحربي الفرنسي قصف موقع الجرف بكثافة، استطاع الثوار استدراج القوات الفرنسية إلى اشتباك عنيف دام 3 ساعات، كما أجبروهم على التراجع بعد أن نفّذوا هجمات من الخلف على الجبهات الثلاث، مما خلق حالة من الذعر والارتباك لدى القوات الفرنسية. وقد فشلت المدفعية الفرنسية في استعادة السيطرة، وواصلت وحدات المجاهدين الاشتباك مع القوات الفرنسية، مما أسفر عن اشتباك ثانٍ مع نجدات الفرنسيين التي حاولت دعم قواتهم الأساسية.
ومع حلول الليل تمكن الثوار الجزائريون من تطويق القوات الاستعمارية المحاصرة والقضاء عليها بالكامل، واستولوا على كميات كبيرة من الأسلحة والذخيرة، بما فيها مدفعان من طراز بازوكا، وجهاز إرسال واستقبال لاسلكي.
في صباح يوم المعركة، بدأت القوات الفرنسية بقصف طويل المدى من مواقعها في الدرمون شرقًا والسطح غربًا، تلاهُ قصف مدفعيّ عنيف كغطاء لتقدّمها نحو قلعة الجرف، وقد استمرت الاشتباكات طوال اليوم رغم الدعم المتواصل للقوات الفرنسية التي فشلت في اختراق الموقع الدفاعي للثوار، وفي المساء وصلت تعزيزات من المجاهدين لدعم إخوانهم المحاصَرين، مما أسفر عن محاصرة القوات الاستعمارية من الجانبين، وأدى إلى تكبيدهم خسائر فادحة وفرار القليل منهم بدون أسلحتهم.
وفي اليوم الثاني جددت القوات الفرنسية قصفها الليلي، وحاولت استعادة مواقعها لكنها اصطدمت بالمقاومة العنيفة للمجاهدين، مما دفع الجنرال بوفر، قائد الفرقة الثانية للمشاة، إلى اعتبار قلعة الجرف عائقا شديد الصلابة في وجه العمليات الفرنسية الواسعة. وكانت القلعة تمثل حصنًا منيعًا في جبال الأوراس، وعرّضت القوات الفرنسية لصعوبات جمة في ظل توسع نطاق المعركة.
وفي اليوم الثالث، شنت القوات الفرنسية هجومًا جويًا ومدفعيًا مكثفًا، لكنها واجهت مقاومة شرسة من المجاهدين الجزائريين الذين تمكنوا من إسقاط 3 طائرات وتدمير دبابتين و3 عربات مدرعة، مما أجبر القوات الفرنسية على التراجع للمرة الثالثة وترك مواقعها بأسلحتها التي غنمها الثوار بعد سقوط العديد من الجنود الفرنسيين في ساحة المعركة.
وفي صباح اليوم التالي، تقدمت القوات الفرنسية من جديد تحت غطاء قصف المدافع والهاونات على ثلاث جبهات، لكنها اصطدمت أيضًا بوحدات المجاهدين التي تمركزت ليلاً في مواقعها وأعدت فخاخًا مُحكمة، حينئذ تعرضت القوات الفرنسية لهجوم شديد من الجهات الثلاث، أسفر عن أعداد كبيرة من القتلى والجرحى المنتشرين في ساحة المعركة. وعندما ازدادت خسائر العدو، تدخَّلت المدفعية والطيران بقصف شديد، استهدف مناطق تجمعات المجاهدين، ومع ذلك، تمكن الثوار من إحكام سيطرتهم والاستعداد لليوم الخامس من المعركة.
في ذلك اليوم عاد الفرنسيون للقصف المدفعي والجوي المكثف على منطقة الجرف والجبال المحيطة، حيث غطى القصف مساحات واسعة وصلت إلى 40 كلم2، ومع اقتراب القوات الفرنسية من مواقع الثوار الجزائريين فوجئوا بمقاومة عنيفة حيث تمكنوا من ضرب العدو بقوة في الصدور والرؤوس، وقد تزامن ذلك مع تزايد هطول الأمطار مما سهّل من مهمة خروج المقاومين، وصعوبة تقدم الفرنسيين بسبب الوحل، فسهل على المقاومين اصطيادهم، مما أجبر الجنود على التراجع وترك جثث زملائهم في ساحة المعركة، وفر الناجون منهم هائمين على وجوههم في الجبال المحيطة.
وقد تكللت المعركة بانتصار الثوار الجزائريين وتقهقر القوات الاستعمارية، واستشهد فيها ما بين 120 و170 مجاهدًا بحسب الروايات، بينما قُتل من الجانب الفرنسي 700 عسكري، وجُرح أكثر من 350 آخرين. وأشار مجاهدون شاركوا في هذه المعركة إلى أن الجيش الفرنسي عاد وأمطر منطقة الجرف بقنابل الطائرات وقذائف المدفعية والدبابات، بحسب ما ذكره الصادق عبد المالك في دراسته عن الرواية الشفوية ودورها في تدوين معركة الجرف.
لم تتوقف المواجهات التي خاضها المقاومون المنسحبون من جبال المنطقة بعد ما حققوه من خسائر كبيرة في صفوف الفرنسيين، واستمرت في مناطق أخرى محيطة لمدة أسبوعين على الأقل، وقد استطاع القائد شيحاني بشير الخروج بصعوبة شديدة من بعض المغارات والنجاة بنفسه بعد حصار فرنسي كاد يقضي عليه.
غير أن معركة الجرف الكبير كان لها ما بعدها في مسار الثورة الجزائرية التي اكتسبت زخمًا كبيرًا في كافة الأراضي الجزائرية، وكانت دفعة قوية لاستمرار النضال من أجل طرد الاحتلال الفرنسي، وهو ما تم في نهاية المطاف بعد 7 سنوات مضت بحلوها ومرّها، قبل أن ينعم الجزائريون بعودة بلادهم إلى شعبها ودحر المستعمر. | https://www.aljazeera.net/history/2024/11/21/%d9%85%d8%b9%d8%b1%d9%83%d8%a9-%d8%a7%d9%84%d8%ac%d8%b1%d9%81-%d8%a7%d9%84%d9%83%d8%a8%d8%b1%d9%89-%d9%887-%d8%a3%d9%8a%d8%a7%d9%85-%d8%b3%d8%b7%d8%b1-%d9%81%d9%8a%d9%87%d8%a7 | 2024-11-21T20:08:22 | 2024-11-21T22:19:56 | أبعاد |
|
73 | بين حماس والـفيت كونغ.. هل أصبحت غزة فيتنام جديدة؟ | أنفاق الـ “فيت كونغ” لعبت دورا حاسما في القتال في حرب فيتنام، وأصبح التفوق الأميركي العسكري محل نقاش بسبب تلك المتاهات الجوفية التي سمحت للقوات الفيتنامية بنصب الكمائن للجيش الأميركي. | المقاومة في غزة صنعت أنفاقا ضِعْف أنفاق فيتنام التي تُدرَّس في المدارس العسكرية ويقرأ عنها العسكريون ويخطط من خلالها الإستراتيجيون.
إسماعيل هنية، رئيس المكتب السياسي لحركة حماس
تظل حرب فيتنام، أو حرب المقاومة الفيتنامية ضد أميركا كما يطلق عليها الشعب الفيتنامي، أحد النماذج التي يلجأ إليها المختصون لفهم الطريقة التي يمكن أن تواجه بها فصائل مقاومة ضعيفة التجهيز قوة احتلال عظمى. ورغم أن حرب فيتنام بدأت في نوفمبرتشرين الثاني 1955، أي قبل قرابة سبعة عقود، فإن أوجه التشابه بينها وبين ما يحدث اليوم في غزة تبقى مثيرة للانتباه.
وقد قارن المحلل العسكري ومدير الاتصالات السابق في القيادة المركزية الأميركية، جو بوتشينو 1، بين العدوان الإسرائيلي على غزة والحرب الأميركية الفيتنامية التي جرت في القرن الماضي، رابطا بين شبكة الأنفاق مترامية الأطراف تحت أرض غزة ومثيلتها التي واجهها الأميركيون في فيتنام. وأشار بوتشينو إلى أن أنفاق الـفيت كونغ الجبهة الوطنية لتحرير جنوب فيتنام لعبت آنذاك دورا حاسما في القتال، وأصبح التفوق الأميركي العسكري محل نقاش بسبب تلك المتاهات الجوفية التي سمحت للقوات الفيتنامية بنصب الكمائن للجيش الأميركي المرتبك فوق الأرض قبل أن تعاود القوات الفيتنامية الاختفاء.
وبالنظر إلى الطبيعة الجغرافية، يرى بوتشينو أن أنفاق غزة تتفوق على مثيلتها الفيتنامية، نظرا لامتداد الأخيرة على مسافات شاسعة، فيما تتكثف أنفاق غزة في مساحة أصغر كثيرا مما يؤدي إلى تشعبها واتساع نطاقها وصعوبة تتبعها، علاوة على ذلك، فإن التربة في ساحل غزة أكثر ليونة من التربة في جنوب شرق فيتنام، الأمر الذي أتاح للفلسطينيين شق أنفاق أكثر تعقيدا، ودفع البعض إلى تقدير طولها بنحو 500 كيلومتر مقابل شبكة الـفيت كونغ البالغة نحو 270 كيلومترا أي نصف مسافة أنفاق غزة. وفي وقت سابق من عام 2016 2، وخلال تشييع عدد من شهداء الإعداد الذين كانوا يعملون في حفر أنفاق غزة، صرّح رئيس المكتب السياسي لحركة حماس، إسماعيل هنية، بأن المقاومة في غزة صنعت أنفاقا للمقاومة ضِعْف أنفاق فيتنام التي تُدرَّس في المدارس العسكرية ويقرأ عنها العسكريون ويخطط من خلالها الإستراتيجيون.
هذا ويؤكد بوتشينو أن العمق الإجمالي وطول شبكة الأنفاق في غزة لا يزالان مجهولين بالنسبة إلى جيش الاحتلال الإسرائيلي، إذ يُعتقد أن صانعي الأنفاق قاموا بإلقاء التربة المحفورة في البحر مما يصعّب من اكتشاف حجم أنشطتهم. ويعتبر بوتشينو ذلك دليلا على براعة حماس الهندسية وقدرتها على الاستثمار الإستراتيجي على مدار عقود، كما يلفت الانتباه إلى أن وجود الأنفاق يتجاوز تأثيرها المادي في القتال نحو تأثيرات نفسية مثلما كان الحال خلال قتال الأميركيين والـفيت كونغ، لأن العدو القادر على الخروج من الأرض يكتسب ميزة نفسية من خلال قدرته على إحداث الارتباك والذعر ونشر جنون الارتياب.
ويتفق مع ذلك الرأي جون سبنسر 3، عقيد الجيش الأميركي المتقاعد ورئيس دراسات الحروب الحضرية في معهد الحرب الحديثة، مضيفا أن التربة الرخوة تقلل من تأثير متفجرات الجيش الإسرائيلي نظرا لأن التربة الناعمة تمتص قوة الانفجار، فيما أن الأبواب المضادة للانفجارات التي رأيناها في أنفاق غزة تحد من انتقال التأثير عبر النفق.
جدير بالذكر 4 5 أن إدراك الأميركيين وجود الأنفاق الفيتنامية جاء إثر عملية اللصوص Operation Marauder التي أجراها اللواء الأميركي 173 المحمول جوًّا بالاشتراك مع الكتيبة الأولى من الفوج الملكي الأسترالي في دلتا ميكونغ الفيتنامية خلال ينايركانون الثاني 1966. ورغم أن الأستراليين وضعوا يدهم على مداخل بعض هذه الأنفاق، فإنهم لم يدركوا آنذاك المدى الحقيقي لتلك المتاهة الأرضية، وفيما بعد، قدّر الفيلق الثالث الأميركي أن بناء هذه الشبكات استغرق نحو 20 عاما، إذ بدأ الفيتناميون إنشاءها في الأربعينيات أثناء قتالهم المستعمر الفرنسي، وتكوّن بعضها من مستويات متعددة امتدت لآلاف الأقدام، فيما أشارت التقارير الأميركية إلى أن أنظمة الأنفاق الفيتنامية ضمّت في ذلك الوقت أحياء سكنية ومطابخ ومصانع ذخيرة ومستشفيات وملاجئ، الأمر الذي مكّن القوات الفيتنامية من التخطيط والتحرك دون إزعاج -حتى- عندما قامت أميركا ببناء قاعدة رئيسية فوق إحدى الشبكات الضخمة في مدينة هو تشي.
هذه الأنفاق الفيتنامية ظلت صامدة أمام هجمات المدفعية الثقيلة والقصف الجوي الأميركي، تماما مثل أنفاق غزة، المستعصية حاليا على تقنيات جيش الاحتلال. وتضمنت المحاولات الأميركية لمواجهة الـفيت كونغ آنذاك استخدام الغاز المسيل للدموع وقنابل الدخان، كذلك إرسال الكلاب المدربة عبر الأنفاق، بصورة تذكرنا بالتعامل الإسرائيلي الحالي مع أنفاق غزة، لكن محاولات الجيش الأميركي باءت جميعها بالفشل.
يفسر ذلك 6 الكاتب ومؤرخ الحرب الأميركي ويليام بي هيد بقوله إن التربة في فيتنام احتوت على الطين والحديد، مما أدى إلى تكوّن عامل ربط يشبه الأسمنت. واعتمد البناء على آلية بسيطة، حيث جرى الحفر في موسم الرياح الموسمية حينما تكون التربة ناعمة وعند جفافها تبقى مستقرة دون حاجة إلى دعامات، فيما تشير التقارير 7 إلى أن أنفاق غزة أكثر اتساعا وتطورا عبر تبطينها بالخرسانة، كما يتوفر بها مداخل تهوية ومنصات لإطلاق الصواريخ مخبأة تحت الأرض.
تُمثِّل الأنفاق معضلة كبرى للخصوم عند محاولة رصدها وكشف تفاصيلها، وهي مهمة تزداد صعوبة كلما ازداد عمق الأنفاق. ويصف إيال بينكو 8، المسؤول السابق في أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية، تجربة رادارات الاختراق الأرضي بأنها غير فعالة أمام أنفاق حماس، نظرا لوجودها على عمق كبير، يصل في بعض الأحيان إلى ما بين 70-80 مترا تحت الأرض. كذلك فإن محاولة اختراقها عبر الطائرات المسيرة أثبتت فشلها، إذ تبلغ الطائرة مسافة 100 قدم داخل النفق قبل ينعطف الأخير يمينا أو يسارا مما يؤدي إلى فقدان الإشارة.
وبخلاف مسألة الأنفاق، فإن العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة يتشابه مع الحرب الأميركية الفيتنامية في أكثر من وجه. ويسلط الصحفي الأميركي هارولد ميرسون 9 الضوء على الإفراط في العنف من قِبل الاحتلال الإسرائيلي، مشيرا إلى أن إسرائيل قررت أن تقلد الحماقة الأميركية في فيتنام. ووفق رأي ميرسون فإن كلًّا من أميركا وإسرائيل أعلنتا أنهما تسعيان وراء هدف محدد فيت كونغ في فيتنام وحماس في غزة في بداية الحرب، لكن في نهاية المطاف لم تتمكن القوات الأميركية من فصل أعدائها المحددين عن عامة السكان بشكل يماثل الحالة الإسرائيلية، وفي كلتا الحالتين توقف الطرفان عن المحاولة، وتوقفا عن الاهتمام بالوفيات والإصابات التي تسبّبا بها بين المدنيين.
وفيما يشكك ميرسون في أن إسرائيل اهتمت من الأصل بأرواح هؤلاء المدنيين، فإنه يؤكد أن الحرب الفيتنامية أثبتت أن عشوائية القصف المتعمّدة واستخدام القوة المفرطة أغرقتا الولايات المتحدة في حالة من الازدراء الدولي، أما في الوقت الحالي فإن عدوان إسرائيل على غزة يؤدي إلى تعميق ذلك الازدراء الموجود والمنتشر بالفعل جراء سجلها الحافل بالعدوان.
تجدر الإشارة إلى أن الولايات المتحدة واجهت انتقادات شديدة لا يزال صداها حاضرا إلى اليوم بسبب الإفراط في استخدام القوة ضد المدنيين في فيتنام، ورغم أن الجنرال وليام ويستمورلاند، قائد القوات الأميركية في فيتنام أثناء الحرب، أقرّ 10 بأن الوفيات العرضية بين المدنيين مشكلة كبيرة، فإنه ألقى بالمسؤولية على الـفيت كونغ، مبررا ذلك بإصرارهم على الوجود وسط المدنيين، وهي الذريعة ذاتها المستخدمة من الجانب الإسرائيلي لتبرير سقوط الضحايا في غزة. وكما هو الحال مع التحذيرات الإسرائيلية التي طالبت سكان القطاع بالتوجه جنوبا في أعقاب 7 أكتوبرتشرين الأول 2023، ألقى الجيش الأميركي منشورات على القرى الفيتنامية مطالبا سكانها بالإخلاء الفوري، وفي الحالتين كانت تلك التحذيرات مجرد مبررات زائفة للمجازر التالية وضمن محاولات التهرب من طائلة القانون الدولي.
في هذا الصدد يطرح المؤرخ بريان كودي والمحامي الدولي فيكتور قطان 11 مقارنة بين الحرب الفيتنامية والصراع الفلسطيني الإسرائيلي في ضوء القانون الدولي. ويشير الباحثان إلى أن اتفاقيات جنيف انشغلت بالحروب القائمة بين الدول ذات السيادة التي تتمتع بقدرات تكنولوجية متكافئة تقريبا، لكن ما أظهرته الحروب في فيتنام وفلسطين أن ثمة أهمية لتوسيع نطاق القانون الإنساني الدولي ليشمل الحرب داخل الدول، وقد أدى ذلك إلى ظهور بروتوكول جنيف الأول عام 1977 الذي يتناول حماية الضحايا في النزاعات الدولية، ومَثَّل هذا البروتوكول ضغطا على الولايات المتحدة ومن ورائها إسرائيل، لأنه وسّع بشكل صريح حماية القانون الإنساني الدولي في النزاعات المسلحة التي يقاتل فيها الناس ضد السيطرة الاستعمارية أو الاحتلال الأجنبي أو الأنظمة العنصرية.
ويوضح كودي وقطان أن الدبلوماسية التي أنتجت البروتوكول كانت مدفوعة بالأساس من تجربة فيتنام التي أظهرت ثغرات في اتفاقيات جنيف الأربع لعام 1949، لكن يبدو أن توقيت إصداره كان يعني الضرر لإسرائيل، حيث كان النضال الفلسطيني يطرق الأبواب بقوة آنذاك، لذلك قامت مجموعة مؤثرة من المحافظين وقدامى المحاربين في فيتنام بمنع الولايات المتحدة من التصديق على البروتوكول الإضافي عبر الاستشهاد بحجج مصممة لحماية إسرائيل.
جانب آخر تتشابه فيه الحربان يتمثل في حالة الانقسام والتخبط الداخلي التي رافقت أميركا في معارك فيتنام والبارزة أيضا داخل الإدارة الإسرائيلية خلال عدوانها الحالي على غزة. وفي كتابه التقصير في الواجب 12، يشير مستشار الأمن القومي الأميركي السابق هربرت ماكمستر إلى أن الأكاذيب والتعتيم والتلاعب بالكونغرس والشعب الأميركي كانت أهم العوامل التي أدت إلى كارثة فيتنام. ويرى ماكمستر أن تركيز الرئاسة الأميركية على الأهداف السياسية قصيرة المدى والافتقار إلى الفهم الواضح هو ما جعل الإدارة عاجزة عن التعامل مع تعقيدات الوضع في فيتنام، وظل الرئيس الأميركي ليندون جونسون يتحدث عن قوة الفوز في الوقت الذي أصبحت فيه ادعاءات الانتصار أقل تصديقا بين الشعب على نحو متزايد؛ وأدرك الأميركيون أن استمرار الحرب يعني سقوطا أكبر في المستنقع الفيتنامي، وحينما فشلت العملية الجوية هزيم الرعد ضد فيتنام الشمالية تنصل جونسون من الفشل وألقى اللوم على منفذيها ووصفهم بـالأولاد عديمي الخبرة.
وبالمثل، تعكس تصريحات المسؤولين الإسرائيليين 13 التخبط ذاته بشأن أهداف العملية العسكرية في غزة، وبينما يطالب فريق بالذهاب إلى الحرب حتى منتهاها، يرى آخر إعطاء الأولوية للإفراج عن المحتجزين لدى المقاومة. ضبابية الغاية من الحرب دفعت الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون 14 إلى التساؤل حول الهدف الإسرائيلي منها، وهو ما عبّر عنه بقوله هل يعتقد أحد أن التدمير الكامل لحماس ممكن؟ إذا كان الأمر كذلك فسوف تستمر هذه الحرب لـ10 سنوات. وفي الوقت ذاته تتكتم إسرائيل على خسائرها بشكل غير مسبوق في محاولة للإبقاء على ثقة الشارع في الجيش 15، فيما تتصاعد الخلافات بين أعضاء الحكومة الإسرائيلية، ولعل أبرز علاماتها التغريدة التي نشرها رئيس وزراء دولة الاحتلال الإسرائيلي بنيامين نتنياهو على منصة إكس تويتر سابقا وحمَّل فيها قادة أجهزة الاستخبارات مسؤولية الفشل الأمني في 7 أكتوبرتشرين الأول.
أحد أوجه التشابه الأخرى بين الحربين هو كونهما حربين حضريتين، وفي هذا السياق 16 يرى الخبير في الشؤون السياسية والعسكرية، كارلو جي في كارو، أن كل مدينة تتمتع بهويتها الفريدة المتألفة من عوامل عدة، وبالتالي فإن الطُّرق العسكرية التي تنجح في مدينة ما قد تفشل في أخرى. ويربط كارلو بين ذلك وأهمية الدور الاستخباراتي، لأن غزو منطقة غير معروفة هو مغامرة قد تبوء بالفشل. ويشير المعهد الأميركي للحرب الحديثة 17 إلى أن التضاريس الحضرية تقلل من فعالية الاستخبارات والمراقبة والاستطلاع، وفي حين تستثمر الجيوش الحديثة ميزانياتها في تطوير التقنيات بغرض تدمير القوات الأخرى دون الحاجة إلى الاشتباك قدر الإمكان، فإن المناطق الحضرية تفرض واقعا آخر، حيث تقل فعالية المزايا والأدوات التي طُوِّرت بشكل أساسي للقتال في المناطق المفتوحة.
في ضوء ذلك، يمكن فهم أسباب الفشل الأميركي في فيتنام، وهو ما يطرحه أستاذ الفلسفة والعلوم الإنسانية 18 الأميركي ريمون هين بقوله إن الولايات المتحدة خسرت الحرب بسبب حبها للعلوم العسكرية وإهمالها للفن العسكري. لقد وثقت أميركا في تقنياتها العسكرية القادرة على إنهاء المعركة دون الحاجة إلى الاشتباك، لكن ذلك النوع من الحروب غير النظامية أثبت لها أهمية العامل البشري الذي لم يكن مؤهلا أثناء ذلك للتعامل داخل ساحة المعركة الحضرية. وبالعودة إلى حقبة فيتنام، ففي الإمكان إيجاد علاقة بين تكوُّن تلك الثقة العمياء في التكنولوجيا وقدرة أميركا على هزيمة اليابان عن بُعد قبل سنوات من فيتنام حين استخدمت سلاحها النووي.
وبصورة مماثلة تواجه إسرائيل انتقادات حالية 19 بشأن الاعتماد المفرط على التكنولوجيا، لدرجة الإشارة إلى ذلك بوصفه سببا لإخفاق 7 أكتوبرتشرين الأول 2023، وهو ما عبَّرت عنه تهيلا ألتشولر، الخبيرة الإسرائيلية في القانون والتكنولوجيا، بقولها لقد خضع الجيش الإسرائيلي للتكنولوجيا مما أدى إلى إضعاف العامل البشري والانفصال بين الجنود وساحة المعركة.
- | https://www.aljazeera.net/politics/2024/1/10/%d8%a8%d9%8a%d9%86-%d8%ad%d9%85%d8%a7%d8%b3-%d9%88%d8%a7%d9%84%d9%80%d9%81%d9%8a%d8%aa-%d9%83%d9%88%d9%86%d8%ba-%d9%87%d9%84-%d8%a3%d8%b5%d8%a8%d8%ad%d8%aa-%d8%ba%d8%b2%d8%a9 | 2024-01-10T11:21:36 | 2024-07-08T07:30:32 | أبعاد |
|
74 | كيف نقدم المساعدة النفسية للناجين من الزلازل؟ | نحاول محاولة متواضعة أن نشرح كيف نقدّم المساعدة النفسية للناجين، وكيف يلعب المختصون النفسيون دورا جوهريا في استعادة المرونة النفسية، أمر يبدو مستحيلا لكن مطلوب في الوقت نفسه خلال هذا الظرف العصيب. | في منطقة غير متوقّعة هذه المرّة، استيقظ النّاس على خبر وقوع زلزال في دولة المغرب مساء الجمعة 9 سبتمبر وبشدّة بلغت 7.2 درجات على مقياس ريختر، حيث يقع المغرب ضمن حدود أحد الصفائح التكتونية التي تفصل بين شمال أفريقيا وأوروبا، الأمر الذي يتسبّب بوقوع الزلازل والهزّات الأرض بين الحين والآخر. لا يزال النّاس في حالة صدمة، خصوصًا وأنّ أرقام الضحايا لا تنفكّ بالتزايد ساعة تلو الأخرى، إذ حتّى اليوم الثاني من وقوع الزلزال ارتفع عدد ضحايا الزلزال عن الألفيّ قتيل ومثلهم من المُصابين والجَرحى، وهو ما يورث في نفوس المنكوبين الحزن والأسى والخوف، وكذلك الحال لدى كُلّ مَن يُتابع أخبار الزلزال عن قُرب. فكيف نتعامل نفسيًا مع فاجعة الزلزال؟ وما الذي يشعر به منكوبو الكوارث الطبيعية؟ وكيف يمكن لنا تقديم المساعدة والدعم النفسي والاجتماعي لهم؟ نسعى في هذا المقال للإجابة عن هذه التساؤلات وفق ما يقوله لنا علم نفس الكوارث والأزمات.
تحدث الزلازل نتيجة لحركة ألواح الغلاف الصخري المحيط بالأرض، ولا أحد يمكنه التنبؤ بالزلازل، لا أحد، قد يمنحنا علماء الجيولوجيا تصوّرات عامة عن المناطق المعرّضة للخطر، لكن لا إشارة واضحة ومؤكدة عن موعد وقوع أي زلزال أو مكانه. لكن ثمة طرق يمكن الاستدلال بها على أن شيئا خطيرا سيحدث قد يقع في مكان ما، منها أجهزة رصد الزلازل التي تقيس أي اهتزاز في سطح القشرة الأرضية طوال الوقت، حتى إن كان اهتزازا ناتجا عن حركة القطارات أو الشاحنات، ومن خلال هذا الرصد يمكن ملاحظة تغيرات قد تُشير إلى احتمالية وقوع هزة أرضية. من الاستدلالات الأخرى ظهور المنحدرات أو الشقوق أو التصدعات في جزء من القشرة الأرضية في أي مكان، أو اختلاف منسوب المياه في الآبار أو الخلجان، وأيضا تصاعد بعض الغازات مثل غاز الرادون في المناجم والمحاجر تحديدا.
في الأيام الأخيرة، انقلب العالم رأسا على عقب، تركنا جميعا، القريبين من موقع الكارثة أو البعيدين عنه، في حالة من الذهول والفزع بأن العالم معلق على طرف إبرة، نهاره شمسه مشرقة وليله أنقاض وعمليات إنقاذ وقياس لنبض الحياة. كل الصور التي تصلنا، كل المعطيات التي بين أيدينا تؤكد لنا أن العالم مكان يضج بالفجيعة، يتسرّب منا شعورنا بالأمان، نكتشف كم نعيش حياة واهية أينما كنا، الأرض تقرر ونحن نخضع لها رغما عنا، نفقد المقدرة على المحاولة، محاولة الفهم أو الاستيعاب أو تقبل أن ثمة أمورا لا سلطة لأي أحد عليها، نكتشف أن أحداثا كهذه تسلب من ثقتنا بأن الحياة معنى، تسلب منا أي إمكانية للتحلي بالصبر أو نظرةٍ إيجابية لما ينطوي عليه المستقبل.
نأمل أن التبرعات المادية قد وصلت لكلّ محتاجيها، وأن يخفف مرور الزمن وطأة الفجيعة، لكن في هذا الدليل المبسط نحاول محاولة متواضعة أن نشرح كيف نقدّم المساعدة النفسية للناجين، وكيف يلعب المختصون النفسيون دورا جوهريا في استعادة المرونة النفسية، أمر يبدو مستحيلا لكن مطلوب في الوقت نفسه خلال هذا الظرف العصيب.
نظرا إلى أن الأطباء النفسيين مدربون بشكل خاص لمساعدة الناس على التعامل مع التوتر والقلق والمشاعر القوية، فبإمكانهم مساعدة الناجين من الكوارث والمتطوعين والمنقذين على استيعاب المشاعر التي تضرب بهم كالغضب واليأس والحزن والذنب. لا يقدم الطبيب النفسي علاجا في قلب الكارثة، بل يساعد الناجين على تعزيز قوتهم الداخلية وقدرتهم على الصمود للتكيف مع الأمر، يستمع إلى أحزانهم على فَقداهم ومخاوفهم من الحاضر والمستقبل. أيضا يساعد الطبيب أو المعالجُ النفسي الناجيَ على إدارة ظروف معيشته المؤقتة والتأقلم مع الملاجئ التي لا تمت بصلةٍ لحياته السابقة الطبيعية.
نظرا إلى أن المعالج قد يكون من خارج المنطقة التي حلّت بها الكارثة، بإمكانه تسهيل التواصل وتوفير المعلومات عن الموارد المتاحة وأماكن الوصول إلى الاحتياجات من الملابس والرعاية الطبية المطلوبة. أيضا يعرف على نطاق واسع الاحتياجات النفسية للناجين، ويتمتع بقدر واسع من المعرفة والفهم لما يمرون به، لذا يمكنه المطالبة باسمهم لما يحتاجون إليه وقد تغفل عنه المنظمات التطوعية التي تحاول المساعدة. يساعد المتخصصون أيضا الناجين في تعزيز مهارات المرونة للنجاة من الوضع الحالي، ومساعدتهم على تقبّل التغيير وحقيقة أنهم سيعيشون في حالة من التقلّب لفترة من الوقت، يعمل المختص مع الناجين لوضع خطط معقولة لتخطي الأمر أولا ثم بدء رحلة التعافي.
الأخبار في متناول يده على الدوام على مدار 24 ساعة عبر جميع المنصات. متابعة أعداد الضحايا أو أخبار المفقودين لن تزيده إلا قلقا وهلعا، وستجعله يسترجع الحدث مرارا وتكرارا. حاول منعه من الوصول إلى الأخبار ومساعدته على الانخراط في أنشطة الحياة الطبيعية وروتينها.
قد يواجه الناجي صعوبة في النوم عقب وقوع الكارثة، أو قد ينام نوما متقطعا، لذا حاول ألا تدعه يذهب إلى سريره إلا وهو مستعد للنوم، ونَحِّ عنه أي أجهزة إلكترونية قد تزعج نومه، جنّبه شرب المنبهات قبل النوم بساعة على الأقل، إذا عجز عن النوم فحاول أن تتحدث معه عما يدور في ذهنه.
ليس في الأمور الكبيرة مثل العمل والدراسة، بل في أصغر الأمور مثل مواعيد النوم ومواعيد تناول الطعام. سيُفيده إضافة أي نشاط ممتع أو ممارسة أي هواية يُحبها ويتطلع لفعلها لتُشتته عن الواقع، أيضا يحبذ إضافة أي نشاط حركي أو رياضي إن أمكن.
ساعده على الامتناع عن اتخاذ أي قرارات حياتية مهمة وفيصلية، مثل السفر خارج البلاد أو تغيير وظيفته، لأنها تتطلب جهدا للتكيّف معها، وهو أمر شاق في أعقاب أي كارثة. ذكِّره أن مهمته الأساسية حاليا هي النجاة، نفسيا وجسديا، أن يستعيد جزءا من نظام حياته واتزان مشاعره، ومن المهم تسهيل هذه المهمة على نفسه قدر المستطاع.
كما رأينا، تدمر الكوارث المنازل والمدارس وأماكن العمل والعبادة وتشل حياة سكان تلك المناطق لفترات طويلة، أَظهِر تعاطفك مع ما يمرّ به الناجون الذين فقدوا عائلاتهم وأحباءهم أو هم شخصيا تعرّضوا لإصابات جسدية ونفسية ستستمر معهم مدى الحياة. امنحه مساحة آمنة يشارك فيها أفكاره ومشاعره، أو ساعده على البحث عن الطريقة الأنسب للتنفيس عن غضبه وحزنه لأن كبت تلك المشاعر لن يجعلها سوى أكثر حدة.
نظرا إلى أن كارثة كهذه تدمر شبكات الدعم المحيطة بالناجين، فإن التواصل حتى مع شخص واحد قد يُحدث فرقا في نفسيتهم ويعيد لهم شيئا من شعورهم بالأمان. في حال كنت موجودا في مكان بعيد عمن تحاول مساعدته، حاول جمع معلومات عن الأماكن التي توجد فيها المساعدة وتصل لها التبرعات أو مجموعات الدعم أو المختصين الذين يعرضون تقديم الاستشارات المجانية، لأنه حتى مع توفر المساعدة قد لا يعرف طرق الوصول إليها من أثر الصدمة والانشغال بالفزع المحيط به.
قد تشكّل تجربة وقوع الكارثة الطبيعية لأحدهم صدمة نفسية على المستوى العميق، ليس بالضرورة أن تظهر أعراض الصدمة النفسية خلال الأيام الأولى، قد يعاني الناجي بمرور الوقت من أعراض اضطراب ما بعد الصدمة، مثل استرجاع قهري لصور الكارثة في ذهنه، أو قد تأتيه الكوابيس، وقد يظلّ لأشهر لاحقة سريع الانفعال وشديد الخوف، بالإضافة إلى أعراض أخرى مثل التبوّل الّلاإرادي أو الأفكار الاقتحامية والشعور المستمر بعدم الأمان. لذلك من الجيّد أن تأخذ بيده لمراجعة أخصائي نفسي للتحقّق من عدم وجود أعراض اضطراب ما بعد الصدمة أو الشعور بالفقد أو العجز عن التكيف أو خوض رحلة علاجية في حال وجودها.
____________________________________________
المصادر | https://www.aljazeera.net/sukoon/2023/2/16/%d9%83%d9%8a%d9%81-%d9%86%d9%82%d8%af%d9%85-%d8%a7%d9%84%d9%85%d8%b3%d8%a7%d8%b9%d8%af%d8%a9-%d8%a7%d9%84%d9%86%d9%81%d8%b3%d9%8a%d8%a9-%d9%84%d9%84%d9%86%d8%a7%d8%ac%d9%8a%d9%86-%d9%85%d9%86 | 2023-02-16T09:35:46 | 2024-06-06T11:53:49 | أبعاد |
|
75 | هل تقبل بكين أن تعوّض خسائر الغاز الروسي؟ | في ظل القطيعة الروسية-الأوروبية التي أعقبت الحرب على أوكرانيا، هل يمكن للصين أن تعوض الخسائر الفادحة التي لحقت بروسيا جراء فقدان سوق الطاقة الأوروبية، أم أن ثمة ما يمكن أن يحول دون ذلك؟ | في مطلع ديسمبركانون الأول الماضي، بدأت مرحلة التشغيل الكامل لخط الغاز الطبيعي الممتد بين روسيا والصين بطاقته القصوى، والمعروف باسم خط قوة سيبيريا-1، ويبلغ طوله أكثر من 5000 كلم، ويُعد بذلك واحدا من أكبر البنى التحتية لنقل الغاز الطبيعي في العالم.
كان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين قد وجّه في أكتوبرتشرين الأول 2012 بإنشاء خط قوة سيبيريا-1، وجرى افتتاحُه رسميا في أواخر عام 2019، ليكون أكبر خط أنابيب لنقل الغاز من ياقوتيا، كبرى الجمهوريات المنضوية تحت الاتحاد الروسي والواقعة شرق سيبيريا، إلى المستهلكين في أقصى شرق روسيا ثم إلى الصين. وبحسب مجموعة الصين للإعلام CMG، تبلغ سعة النقل السنوية لخط قوة سيبيريا 38 مليار متر مكعب تصل إلى الصين، أي قرابة 9 من استهلاكها السنوي من الغاز الطبيعي.
ويُذكر في هذا السياق أن استهلاك الصين من الغاز الطبيعي بلغ 394.5 مليار متر مكعب في عام 2023، بزيادة قدرها 7.6 عن عام 2022، وبذلك تحلّ الصين في المرتبة الثالثة في قائمة الدول الأكثر استهلاكا للغاز الطبيعي عالميا، بعد الولايات المتحدة وروسيا، بينما يبلغ إنتاج الصين سنويا من الغاز نحو 230 مليار متر مكعب المرتبة الرابعة عالميا من حيث الإنتاج، ما يعني أن بكين تنتج أقل من ثلثي احتياجاتها من الغاز محليا، وتواجه عجزا سنويا بين الإنتاج والاستهلاك يبلغ حوالي 170 مليار متر مكعب.
علاوة على ذلك، تشير الإحصاءات إلى أن استهلاك بكين من الغاز الطبيعي تضاعف نحو 4 مرات خلال السنوات 15 الماضية، كما أنه بصدد الزيادة على نحو كبير في السنوات المقبلة، ويعود ذلك لعدة أسباب، أبرزها تزايد وتيرة التصنيع الذي يستهلك قرابة 70 من الطاقة في البلاد، ورغبة بكين في الاعتماد على مورد طاقة أقل سعرا مقارنة بالنفط والفحم، إضافة إلى أن استبدال الغاز الطبيعي بموارد الطاقة الهيدروكربونية الأخرى، يساهم في إظهار الصين بمظهر الدولة التي تهتم بسياسات المناخ، باعتبار أن مخلفات الغاز الطبيعي أقل إضرارا بالبيئة من البترول والفحم.
ونتيجة لزيادة القوة التشغيلية لخط قوة سيبيريا، ازدادت واردات الصين من الغاز الروسي بصورة بالغة بنحو 30 ضعفا. ولكن في ظل القطيعة الروسية-الأوروبية التي أعقبت الحرب على أوكرانيا، هل يمكن للصين أن تعوض الخسائر الفادحة التي لحقت بروسيا جراء فقدان سوق الطاقة الأوروبية، أم أن ثمة ما يمكن أن يحول دون ذلك؟
يعد خط قوة سيبيريا-1 أداة ضرورية بالنسبة لروسيا لبسط نفوذها الجيوسياسي شرقا، ولتعويض الخسائر الناجمة عن العقوبات الغربية وما لحقها من ضرر في إمدادات الغاز الروسي للغرب. ويُذكر أن الصين قد وقّعت مع روسيا عقد التوريد للغاز الطبيعي في مايوأيار 2014، بين شركة الغاز الوطنية الروسية غازبروم وشركة البترول الوطنية الصينية CNPC، بقيمة 400 مليار دولار، مقابل 1000 مليار متر مكعب من الغاز الطبيعي، بعقد يمتد 30 عاما، وهو أكبر عقد في تاريخ شركة غازبروم.
ولكن بحسب ما تذكره دائرة أبحاث الكونغرس الأميركية، فقد كان التصعيد الأخير بين الغرب وموسكو محفزًا لتنازلها وقبولها بتسعيرة أقل تُرضي بكين، إضافة إلى عدد من التسهيلات الأخرى المتعلقة بتكاليف الإنشاء والتشغيل.
ومع أن الطرفين لم يُعلنا عن التسعيرة المتفق عليها، فإن مصادر عديدة، من بينها دائرة الأبحاث المذكورة، تقدّرها بنحو 360 دولارا لكل 1000 متر مكعب من الغاز الروسي، على غرار السعر الذي كانت تدفعه ألمانيا، أكبر وأهم عميل لدى غازبروم حتى عام 2022، إذ بلغ حجم الغاز الروسي المنقول إليها في ذلك العام 55 مليار متر مكعب، بما يمثل 40 من احتياجات أوروبا السنوية من الغاز الطبيعي، وكان ضخه يتم عبر خط أنابيب نورد ستريم-1، الذي يربط بين مدينتي فيبورغ الروسية ولوبمين الألمانية عبر بحر البلطيق.
لكن موسكو قلصت إمدادات نورد ستريم بنحو 40 في يونيوحزيران 2022، وهو ما اعتبره الغرب استخداما للطاقة بوصفها أداة ضغط سياسي من جانب روسيا في أعقاب اشتعال الحرب الأوكرانية، بهدف دفع دول الاتحاد الأوروبي إلى التخلي عن دعم كييف، في حين بررته موسكو آنذاك بأنه جاء في إطار الردّ على رفض عملائها الغربيين دفع قيمة الغاز بالروبل الروسي.
وقد تلا ذلك في يوليوتموز 2022، قرارُ روسيا إغلاق نورد ستريم-1 مؤقتا بدعوى تنفيذ أعمال صيانة، بحسب ما أعلنته وقتها. ورغم استئناف الإمداد بشكل محدود لاحقا، فإنه سرعان ما توقف تماما في أغسطسآب، وصرّح الناطق باسم الكرملين، ديمتري بيسكوف، بأن تدفقات الغاز لن تستأنف إلا بعد رفع العقوبات المفروضة على روسيا، نظرا لتسببها في العجز عن إصلاح أعطال الخط وصيانته بالشكل المناسب، وهو ما اعتبرته الحكومات الغربية بحثا من موسكو عن ذرائع لقطع الإمداد، قبل تعرض الخط لسلسلة من التفجيرات والأعمال التخريبية في سبتمبرأيلول من ذلك العام.
وتزامن ذلك مع إغلاق خط أنابيب آخر وهو خط يامال، الذي ينقل الغاز الروسي من حقول غرب سيبيريا إلى ألمانيا، عبر بولندا وبيلاروسيا، وتبلغ طاقته 33 مليار متر مكعب سنويا، في حين تشير التقارير إلى أن صادرات الغاز الروسي إلى أوروبا تعتمد في الوقت الحالي على خط ترك ستريم، الذي يمتد بطول 930 كلم أسفل البحر الأسود، ويربط بين مدينتي أنابا الروسية وكييكوي التركية، ويوفر 31.5 مليار متر مكعب من الغاز الطبيعي سنويا.
تشير البيانات إلى أن روسيا، نتيجة حربها مع الغرب، فقدت أكثر من 80 من صادراتها من الغاز الطبيعي إلى أوروبا منذ عام 2022، والتي كانت تُقدّر بأكثر من 150 مليار متر مكعب سنويا، وتُشكّل 66 من إجمالي صادرات خطوط الأنابيب الروسية، بما يعني أن مبيعات خط قوة سيبيريا لن تتمكن بأي حال من تعويض تلك الخسائر بالغة الضخامة.
ونتيجة لذلك، عادت الصين لتمثل بديلا اضطراريا للغاز المتراكم في حقول يامال، ورغم أن المفاوضات مع بكين في هذا الشأن جارية منذ عام 2006، فإن الأحداث الأخيرة دفعت موسكو مرة أخرى إلى تعجيل مفاوضاتها، بهدف إنشاء خط أنابيب جديد يربط بين يامال وشمال الصين عبر منغوليا، أطلقت عليه اسم قوة سيبيريا-2.
وتسعى موسكو إلى الانتهاء من إنشاء الخط الجديد والبدء في شحن الغاز من خلاله بحلول عام 2030، ومن المقرر أن تبلغ طاقة الضخ نحو 50 مليار متر مكعب سنويا. ومع ذلك، بدا أن شركة البترول الوطنية الصينية تماطل في توقيع الصفقة حتى تتمكن من تأمين سعر أفضل للغاز الروسي.
وحتى إذا توافق الطرفان وجرى بالفعل تنفيذ قوة سيبيريا-2، فلن يتمكن من تعويض خسارة السوق الأوروبية بالكامل، حسبما يرى زميل مركز كارنيغي أوراسيا، سيرجي فاكولينكو، إذ يشير إلى أن مبيعات موسكو من الغاز إلى أوروبا في عام 2019 بلغت 165 مليار متر مكعب، مما يعني أن مبيعات الخط المزمع بناؤه لن تتجاوز 30 من خسائر فقدان السوق الأوروبية.
كما يُتوقع أن يتراوح العائد الصافي من خط سيبيريا-2 بين 73 و100 دولار لكل 1000 متر مكعب، بعد خصم تكاليف الإنشاء والصيانة والنقل، وهو رقم أيضاً أقل بكثير من العائد الصافي من مبيعات الغاز إلى ألمانيا والذي تراوح بين 135 و155 دولارا. لكن ذلك لن يكون سيئا للغاية، بحسب رأي فاكولينكو، إذا ما قورن بقلة الخيارات المتاحة أمام موسكو في المدى القريب.
وتضع هذه الاعتبارات الصين في موقف تفاوضي أفضل من روسيا، نظرا لأن الأخيرة تسعى لإبرام الصفقة بدافع تعويض الخسائر، بينما لدى بكين بدائل أخرى قادرة على تأمين احتياجاتها على المدييْن القريب والمتوسط. كما أن قطع إمدادات الغاز الروسي عن أوروبا أضر بسمعة موسكو -بشكل ما- كمورد موثوق للطاقة. وعلى الأرجح، سوف تتضمن عواقب ذلك تخلي دول أوروبا عن الغاز الروسي إلى مدى بعيد. ومجمل هذه الظروف تصبّ إجمالا في صالح بكين، ولهذا يبدو أنها تراهن على الحصول على أسعار أفضل إذا تحلت بمزيد من الصبر الذي طالما عُرفت به.
ولكن ثمة وجهة نظر أخرى تقول إن الصين قد لا تتوغل أكثر في الاعتماد على الغاز الروسي، ولن تتعجل إنشاء الخط الثاني، وقد تتجه إلى تنويع الموردين بغرض تجنب الخطأ الإستراتيجي الذي وقعت فيه دول أوروبية باعتمادها على مورد أساسي للطاقة ومن ثم السماح باستخدامه ورقة ضغط للتأثير على إرادتها السياسية، خاصة أن العلاقات التاريخية بين بكين وموسكو لا تعكس اتفاقا إستراتيجيا يمكن الوثوق به.
علاوة على ما سبق، يرى محللون أن تقارب موسكو وبكين في قطاعات عديدة، ومنها قطاع الطاقة، الذي اتسع وتضخم بشكل بالغ بعد الأزمة الأوكرانية، لن يكون بمأمن عن احتمالية الخلاف وتضارب المصالح، ويتبدى ذلك بدرجة كبيرة في تنافس الحليفين على التمدد لاحتواء حقول الطاقة في منطقة آسيا الوسطى.
ففي الوقت الذي تدور فيه المناقشات حول مخاوف موسكو من فقدانها الهيمنة في آسيا الوسطى لصالح بكين، يرى الساسة الصينيون في المقابل، أن تضارب المصالح في هذه المنطقة الغنية بحقول الطاقة آتٍ لا محالة.
وبالرغم من أن روسيا تتمتع بميزة التشابك الثقافي والتاريخي مع جمهوريات الاتحاد السوفياتي السابق، ومنها دول آسيا الوسطى، فإن هذه الدول تتطلع إلى تنويع شراكاتها، وتنظر إلى الصين باعتبارها شريكا واعدا في مجال الطاقة، كما أنها ترغب في الخروج من العباءة الروسية التي طالما فرضت عليها سيطرتها وقواعدها، بغرض الضغط على أي محاولة تصدير تتجاوزها للحفاظ على وضعها شبه الاحتكاري كمزوّد رئيسي للطاقة في أوروبا.
وفي سبيل ذلك، افتتحت روسيا خط أنابيب قزوين CPC لنقل الغاز من غرب كزاخستان إلى ميناء نوفوروسيسك الروسي على البحر الأسود في عام 2001، كما تولت الشركات الروسية مهام التنقيب عن احتياطيات النفط والغاز في أوزبكستان، وتزامن ذلك مع استحواذ غازبروم على 44 من خطوط أنابيب الغاز الأوزبكي منذ عام 2004.
بدورها، دعمت الصين الأنظمة المصرفية في بلدان آسيا الوسطى من خلال الصادرات وقروض منخفضة الفائدة، بغرض وضع قدم داخل المنطقة والاستفادة من منابع الطاقة المتاحة، إلى أن تمكنت من إنشاء خط أنابيب نفط مع كزاخستان في عام 2005، كما تمكنت من إنشاء خط أنابيب غاز آسيا الوسطى، الذي يبدأ من تركمانستان ويمر عبر وسط أوزبكستان وجنوب كزاخستان قبل الوصول إلى مقاطعة شينغيانغ في الصين، بطول 1833 كلم وسعة نقل بنحو 55 مليار متر مكعب سنويا، على غرار خط نورد ستريم.
إضافة إلى ذلك، تستثمر الصين المليارات في تطوير حقول الغاز الواقعة شرق تركمانستان، ومن ضمنها حقل جنوب يولوتان، الذي يُعتقد أنه أحد أكبر الحقول في العالم، وهي نجاحات تضع موسكو أمام أمر واقع، رغم حرصها الأولي على عدم السماح للشركات الصينية بدخول أسواق وسط آسيا، إلا أن ذلك يدفع موسكو في الأخير إلى القبول بالتعاون الاقتصادي مع بكين داخل فضائها السوفياتي السابق، على أساس أن يصدّ ذلك تنامي النفوذ الغربي، وفي مقدمته نفوذ واشنطن، داخل المنطقة، وأن يعزز الشراكة بما يسمح لها بالحصول على حصص أكبر من واردات الغاز الصينية.
تشير قراءة النتائج التي آلت إليها حرب الطاقة بين روسيا والدول الأوروبية خلال الأعوام الماضية؛ إلى أن موسكو ربما تعجّلت استخدام سلاحها في وجه الحكومات الأوروبية، وكان من الأفضل لها أن تحتفظ به ضمن مخزون الردع الإستراتيجي، أو استخدامه على نطاق ضيق في مواجهة دولة أو اثنتين، إذا ما اضطرت إلى ذلك، بدلا من الخوض في مغامرة غير مأمونة مع عملائها الأوروبيين جميعا في الوقت نفسه، مما دفعها إلى مأزق اقتصادي قد لا تتمكن من تجاوزه في المدى القريب.
وعلى جانب آخر، يمثل قطع علاقات الطاقة بين موسكو والغرب مكسبا إستراتيجيا لواشنطن، التي كثيرا ما انتقدت حلفاءها لسعيهم إلى تعزيز علاقات الطاقة مع روسيا، وادّعت أن تدفق العملات الأجنبية الناتج عن هذه المبيعات يخدم جهود روسيا في تحديث قوتها العسكرية، كما رأت أنه يقوّض العزيمة السياسية لأصدقائها الأوروبيين.
ومع ذلك، لم يأبه الأوروبيون بهذه القضية في السابق، بدعوى أن علاقات الطاقة مع موسكو كانت علاقات تجارية بحتة، خاصة بعد أزمة النفط في عام 1973، عندما قررت منظمة أوبك خفض الإنتاج وفرض الحظر على الحكومات الغربية الداعمة لإسرائيل، مما دفعها إلى الاتجاه صوب موسكو، بغرض تقليل الاعتماد على واردات الشرق الأوسط.
ومع أن مؤشرات عديدة أظهرت عزم موسكو توظيف الطاقة كسلاح سياسي، خاصة منذ الولاية الثانية للرئيس فلاديمير بوتين، حينما ألغِيَت العديد من اتفاقيات مشاركة الإنتاج، وسُحبت الامتيازات والتراخيص الممنوحة لشركات القطاع الخاص، وبدأ الكرملين في تأميم حقول الطاقة واستعادة السيطرة على القطاع بأكمله.
لكن ذلك لم يلفت انتباه الغرب ولم يدفعه إلى تنويع مصادره بعيدا عن موسكو، حتى عندما أقدمت الأخيرة في مناسبات مختلفة على قطع إمدادات الغاز بشكل مؤقت عن بعض جيرانها، بهدف الضغط والمساومة للوصول إلى تسعيرة أفضل، مثل إيقاف شحنات الغاز التي تعبر الأراضي الأوكرانية في عام 2006 بما أدى إلى نقص الإمدادات في عدد من الدول المجاورة.
لكن الحرب الأوكرانية دفعت الأمور لتصل إلى ما يبدو أنه قطيعة نهائية، حيث باتت أوروبا تسعى فعليا للتكيف مع إغلاق موردها الرئيسي لخطوط إمداداته نهائيا، وتعهدت بالاستقلال عن جميع أنواع وقوده الأحفوري بحلول عام 2030، ومن ثمّ إلقاء سلاح الغاز في وجهه. ومع أن تقديرات أخرى تشير إلى صعوبة أن تتمكن أوروبا من تحقيق هذا قبل أن يأكل الصقيع عظام أهلها في الشتاء القارص بسبب نقص التدفئة، فإن السنوات القادمة وحدها هي من سيؤكد أي الطرفين أكثر مقدرة على تنفيذ إرادته. | https://www.aljazeera.net/politics/2025/1/11/%d8%a8%d9%8a%d9%86-%d8%a7%d9%84%d8%b4%d8%b1%d8%a7%d9%83%d8%a9-%d9%88%d8%a7%d9%84%d8%ad%d8%b0%d8%b1-%d9%87%d9%84-%d8%aa%d9%82%d8%a8%d9%84-%d8%a8%d9%83%d9%8a%d9%86-%d8%a3%d9%86 | 2025-01-11T12:47:14 | 2025-01-13T16:19:50 | أبعاد |
|
76 | دليل الوالدين لتفاعل أطفالهم مع تيك توك | تراودك المخاوف بشأن تعلق طفلك بـ “تيك توك”؟ نأخُذ بيدك في دهاليز هذا التطبيق، نعرّفك عليه وعلى ما يحدث داخله، وعلى أنسب الطرق لحماية طفلك منه بناء على نصائح خبراء علم النفس وتوصياتهم. | هل عاد طفلك ذات يوم من المدرسة وفي الحال أمسك هاتفك أو هاتفه متصفحا تطبيق تيك توك فورا؟ هل نبهته أكثر من مرة بأن يُغلق تلك المقاطع السريعة المزعجة وهو يتناول طعامه على المائدة؟ هل دخلت عليه غرفته متوقعا أن تجده غارقا في النوم لكنك رأيته ممددا على السرير، ونور الهاتف المشع مسلطٌ على وجهه، وحين سألته عن سبب سهره أخبرك أنه يتصفح التيك توك؟ ربما عزيزي الوالد، أبا كنتَ أم أما، أنت شخصيا تحب التيك توك، تطبيق ممتع ومسلٍّ فعلا وجديد، لكن تعرف أنه يمتص وقتك واهتمامك وتركيزك ويومك كله، أو أنك لا تعرفه من الأساس لكن بتراودك المخاوف شأنه لأنك تجهل شيئا يستحوذ على طفلك بهذا الشكل ولا تعرف ما عليك فعله. في هذا الدليل، آخُذ بيدك في دهاليز هذا التطبيق، أعرّفك عليه وعلى ما يحدث داخله، وعلى أنسب الطرق لحماية طفلك منه بناء على نصائح خبراء علم النفس وتوصياتهم.
انطلق بداية عام 2016 باسم ميوزكلي في الصين، ثم استحوذت عليه شركة بايت دانس للتكنولوجيا الصينية في نهاية 2017 وسمّته تيك توك، وخلال فترة زمنية قصيرة انتشر التطبيق انتشار النار في الهشيم، يتجاوز عدد تحميله المليار على أجهزة الأندرويد، وعلى وشك إكمال المليار أيضا على آبل ستور. تشير إحصائية إلى أن مستخدميه يشاهدون يوميا قرابة مليار مقطع عليه. إنه من أوسع التطبيقات انتشارا وأكثرها تأثيرا على الجيل الأصغر الذي هجر فيسبوك وتويتر ووجد في تيك توك فسحة للعب والتواصل الإبداعي ومزيجا من الرقص والمعلومات السريعة والحكايات المسلية بصريا. كما أن أغلبية مستخدمي تيك توك من المراهقين، في الصين مثلا لا تتجاوز أعمار 80 من المستخدمين الخامسة والثلاثين، وفي الولايات المتحدة 30 من إجمالي المستخدمين تقل أعمارهم عن التاسعة عشرة12.
يتميز تيك توك بأنه تطبيق في منتهى البساطة، سواء بصفتك مشاهدا أو صانع محتوى؛ فور أن تفتح تجد صفحة تُسمى الـFor You Page أو لك، وهي تُشبه على تيك توك التايملاين على تطبيقات الفيسبوك والإنستجرام وتويتر، لكنها تعرض مقاطع عشوائية لا يتابع المستخدم ناشريها. تدرس خوارزمية التطبيق تفضيلات المستخدم ويعرض تنويعة مختلفة على هذه الصفحة، في حال تفاعل المستخدم من خلال الإعجاب بأي مقطع أو التعليق عليه أو مشاركته أو حتى مشاهدته كاملا، تدوِّن خوارزمية التيك توك الملاحظات، وتستمر في عرض مقاطع مشابهة. صُمِّم التطبيق بطريقة تسمح للمستخدم بالتمرير لأعلى لعرض المزيد من مقاطع الفيديو باستمرار، ومهما كانت سرعة التصفح، فلا نهاية أبدا لتلك الصفحة، ولا مجال لتكرار المحتوى أيضا.
بشكل عام، يمتلئ تيك توك أيضا بمعلومات عن كل شيء تقريبا، يشبه يوتيوب لكن على نحو أسرع وأخف. أحد عيوب تيك توك هو عدم ثبات شروط الاستخدام رغم أنه منصة تستهدف وتجذب صغار السن بشكل أساسي، يطبق شروطه بعشوائية شديدة، قد يحظر محتوى جنسيا علميا، لكنه لا يحجب ظهور مقاطع إباحية خالصة؛ ما يشكل خطورة على الطفل الذي تتحكم الخوارزمية بما يراه. في البداية كان التطبيق يحد المستخدمين بتسجيل مقطع لا يتجاوز الثلاث دقائق، ثم مدوها إلى 10 دقائق.
محتوى التيك توك متنوع بشكل مهول، وتنتشر مقاطعه انتشارا ساحقا بطريقة غير محسوبة، لكن ينحصر معظم المحتوى في عدة فئات مقاطع الرقص، عادة ما تكون رقصات قصيرة وبسيطة على أغاني شائعة أو شعبية، تتضمن حركات محفوظة أحيانا تُقتبس من أفلام شهيرة أو يؤلفها أحد مستخدمي التيك توك، وأحيانا مصدرها يظل مجهولا. مقاطع مزامنة الشفاه lip sync، حيث تكوّن محتوى تيك توك الأشهر لأنها تُعَد بسهولة ودون حاجة إلى أي ابتكار، إذ يكرر المستخدم بضع جُمل من أغنية أو من الأفلام أو البرامج التلفزيونية الشهيرة بطريقة كوميدية.
تنتشر أيضا الميمز memes على التطبيق، وهي عبارات قصيرة وسريعة توضع في نص أعلى المقطع أو مقطع فيديو يشرح حالة معينة بشكل ساخر. يتميز تيك توك بخاصية تُسمى المقاطع الثنائية duet -أضافها الإنستجرام فيما بعد- فيها يُقرِن المستخدم مقطعه مع مقطع آخر عن طريق خيار الـstitch، يكون مقطعا جديدا أو منشورا بالفعل على التطبيق. يتنوع استخدام هذه الخاصية، قد يُظهر المستخدم ردود فعله بشكل صامت على المقطع الأصلي، قد يُغني، قد يُضيف تعليقا. توجد -كذلك- التحديات لكنها ليست نوعا محددا، أو محتوى محددا، ولكن تنتشر يوميا تحديات يحاول الجميع إنشاء نسخته الخاصة منها، سواء كانت رقصة أو فكرة معينة مثل فكرة الـArabian night التي انتشرت بشكل ساحق في الأشهر الماضية3.
لمساعدة طفلك على مقاومة تطبيق ينتشر في كل مكان، علينا أن نفهم السيكولوجية المبني عليها. بشكل عام، تبني الشركات القائمة على منصات التواصل الاجتماعي مجتمعاتٍ غامرة، هدفها جذب انتباه المستخدم لأطول وقت ممكن، وبعيدا عن نظريات المؤامرة، لكن أنت المنتج في حال لم تدفع لشراء المنتج المعروض، لا شيء مجاني، تركيز المستخدم هو السلعة التي تتنافس على نيلها وسائل التواصل. ونتيجةً للفترات الطويلة التي يقضيها المستخدم على هذه المنصات، تحصل الشركات يوميا على رؤى أعمق ومعرفة مفصَّلة بشخصيات مستخدميها ونفسياتهم، وتستخدمها فيما بعد لاستهداف أدق. بلا شك، يتأثر الناس على نحو مختلف، قد يواجه من لديهم ميول إدمانية مشكلات أكبر ممن يمكنهم السيطرة على استخدام تلك المنصات، لكن هذا الجانب، تحديدا حين نتحدث عن التيك توك، لم يُدرس بما يكفي بعد.
تنبع خطورة التيك توك من أنه يصمم بشكل فردي تماما، نعم قد يصادف أن يتشابه المحتوى الذي تشاهده أنت بما يظهر لصديقك من مقاطع، لكن التفضيلات الشخصية واختيارك لمقطع دون غيره وإعادة مشاهدته كلّ هذه البيانات تُغذي خوارزمية التطبيق خلال فترة استخدامك، كأنه مخلوق تلقنه الطاعة كل يوم، عجينة تشكِّلها بلا حدود. ومن هنا ينتج الاستخدام المطول للتطبيق، لأنه لا يخذل المستخدم في تسليته أبدًا.
لكن من منظور آخر بعيد عن أهداف الشركات، ثمة سبب شخصي يأتي من الإشباع الذي يستمده المستخدم من قضاء فترات طويلة على أحد التطبيقات، يشعر أن شيئا من احتياجاته الإنسانية قد أُشبِعت، حاجته إلى التواصل، إلى أن يكون مرئيا من خلال مرايا الآخرين، بأن يقلل شعوره بالوحدة والعزلة سواء مكانيا أو نفسيا، حين يجد المرء، كبيرا أو صغيرا، هذا الشبع في إحدى المنصات، فمن الطبيعي والبديهي أن يواصل استخدامها بلا توقف، وهذا ينطبق على جميع منصات التواصل الاجتماعي، وليس تيك توك فحسب. مع ذلك، يُشير بحث نُشر عام 2021 في دورية Frontiers العلمية أنه لم يُلحظ أي تحسُّن في جودة حياة مستخدمي التيك توك، سواء الاستخدام السلبي بغرض تزجية الوقت أو الإيجابي بمعنى إنشاء محتواهم الخاص بحثا عن طرق إبداعية للتعبير بها عن الذات أو عن الشهرة مثلا، لكن أشار البحث إلى أنه من ضمن أسباب استخدامه الشائعة أن المرء يبحث عن مجتمع يُماثله في عمره وتجاربه واهتماماته، أن ينتمي إلى مجموعة يفهمها ويرتبط بها بشكل ما، لذا تيك توك منصة تؤدي هذا الدور باحترافية عالية وبلا توقف14.
ليس تيك توك وحده ما يُضعف تركيز الطفل، لكنه الأخطر بسبب اعتماده بشكل أساسي على المقاطع شديدة القصر، ربما يشاهد الطفل 50 مقطعا خلال أقل من 10 دقائق، وينتهي به المطاف لا يتذكر واحدا منها. أيضا في حال أن الطفل شارك مقاطع عليه، سينصب تركيزه على تتبع المشاهدات والإعجابات التي ينالها.
في حال عدم وضع قواعد صارمة لاستخدام الأجهزة الإلكترونية، قد يتمسك الطفل بالهاتف حتى على المائدة دون أي احترام أو التفات لآدابها، أيضا، وهي المشكلة الأكبر، لن يشعر بالجوع. يغرق الطفل في التطبيق بدرجة تُنسيه العالم من حوله، إذ يرسل المخ إشارات إلى الجسم لتنبيهه بأنه جائع، لكن في حال كان الطفل مشغولا بشيء مسلٍّ وخاطف لانتباهه بهذا الشكل فلن يلحظ جوعه من الأساس، وقد يؤدي هذا إلى العديد من المشكلات الطبية الأخرى.
تستهلك تلك الأجهزة والتطبيقات طاقة الطفل، وتجعله غير قادر أو غير راغب في الحديث مع محيطه أو حتى والديه. قد يوافق الطفل، بل ويحب، مشاركة أبويه في الكثير من الأنشطة قبل اكتشافه التيك توك، لكن بعد السقوط في هذا الفخ كل ما سيريده هو نيل موافقتك على مشاهدة التيك توك بلا توقف. وحتى في إجازة نهاية الأسبوع، بدلا من اللعب، سترى طفلك جالسا بانتباهٍ بالغ في غرفته طوال الوقت والهاتف بيده.
قد يؤدي قضاء وقت طويل مع الأصدقاء عبر الإنترنت بدلا من العيش في الواقع إلى انعزال الطفل عن العالم الخارجي، ولهذا ضرر بالغ عليه، لأن وعيه يتشكَّل في تلك المرحلة عن ذاته وكل ما حوله. أيضا بعض المقاطع المنتشرة على التيك توك لأطفال باهري الجمال أو يتمتعون بمواهب فذة قد تؤدي إلى تشكيك الطفل في قدراته وشكله. ليس الوقوع في فخ المقارنة هو الأمر الأخطر، بل وفقا لتقرير صدر عن الجمعية الأميركية لجراحي التجميل والترميم ASPS في عام 2020، أُجري ما يقرب من نصف مليون عملية تجميل على المراهقين الذين تتراوح أعمارهم بين 13 و19 عاما.
التيك توك مثله مثل الكثير من المنصات، السخرية أمر مطروح دوما ومقدور عليه، لكن الفكرة أن سياسات التيك توك تجعل الأمر سهلا وسريع الانتشار، من السهل للغاية إنشاء حسابات مزيفة بلا اسم حقيقي أو صور أو حتى مشاركات، ونظرا لأن معظم المقاطع لا تتجاوز الدقيقة، يسهل على أي متنمر مشاهدة كمية كبيرة من المحتوى والسخرية منها في وقت قصير. بعض المحتوى يكون استفزازيا فعلا بغرض جلب المزيد من المعلقين وزيادة نسبة ظهوره في صفحة تيك توك الرئيسية، قد يشعر طفل صغير إثر قراءة هذه التعليقات بأنه من الطبيعي السخرية من كل ما نختلف معه سواء في شكله أو طريقة كلامه أو أفكاره. في حال كان الطفل ينشر محتوى يصنعه بنفسه، فمن الممكن أن يتعرض للمضايقة أو التحرش، إذ لُوحظ أن بعض المستخدمين يستهدفون محتوى الأطفال بشكل أساسي.
تنتشر المعلومات من شتى الناس على التيك توك، المختصين وغير المختصين أو حتى مدّعي الاختصاص. لا توجد سياسات واضحة تُشير إلى المعلومات المغلوطة التي تنتشر على التطبيق، هناك تجد الكثير من المقاطع التي يظهر فيها أشخاص اكتسبوا شهرتهم بشكل أو بآخر ثم بدؤوا بتقديم نصائح نفسية لا تستند إلى أبحاث أو آراء من الخبراء، لا تستند سوى إلى خبرة المشهور الحياتية.
صعب، أعرف. بمجرد أن يرى الطفل أقرانه يتحدثون عنه فسيرغب في المشاركة فيه فورا. لا تتعلق المشكلة بأن تركيزه سيضعف في مرحلة تكوينية ومحورية في حياته فحسب، بل يتمثَّل الخطر في أن طفلك قد يشاهد محتوى لا يناسب سنه على الإطلاق، حتى في أبسط أشكاله توجد رقصات شبه إباحية، ناهيك بالمقاطع التي تكون مليئة بالألفاظ السوقية، والأغاني ذات الطابع الجنسي التي لا تناسب الأطفال أبدا، ليس هذا محتوى التيك توك بشكل أساسي، لكن الخطورة تأتي من تحكم الخوارزمية العشوائية، قد تظهر مقاطع بناء على أغاني يحبها الطفل، أو وسومات هشتاجات معينة يضيفها الجميع بغرض زيادة نسبة وصوله. لذا، من الأفضل منع الطفل من استخدامه واستبداله بنشاط مختلف. كذلك لأن التصميم مصمم بطريقة التقليب الذي لا نهاية له حرفيا دون أن يتكرر المحتوى، لذا فالخوف ينبع من امتصاص تركيز الطفل لساعات طويلة دون شعور منه3.
ماذا لو لم نستطع منعه؟ لا بأس، عليك فقط التركيز معه وضبط إعدادات التطبيق لحماية طفلك، بداية نحوِّل الحساب من مرئي للجميع إلى حساب شخصي، حين تُنشئ حسابا لأول مرة على التيك توك يكون عاما ومفتوحا للجميع، يعني أن أي أحد يمكنه الوصول لحساب طفلك ومشاهدة محتواه والتعليق عليه، وأيضا إمكانية ظهور محتواه في صفحة for you أو لك، وأيضا إرسال رسائل له. لذا، بداية، غيِّر من الإعدادات الحساب من عامّ إلى خاص، ليس فقط لحماية محتواه، بل أيضا حتى لا يظهر الحساب في حالة البحث عنه من قبل الغرباء، وأيضا لتجنب أي متابعين غير مرغوب بهم، لأنه في حالة الحسابات الخاصة على المستخدم الموافقة على طلبات المتابعة أو رفضها. كذلك عليك التأكد من صحة سنة الميلاد التي يُدخلها طفلك في التطبيق، لأنه يقيد بعض الخاصيات حسب السن، مثلا من ضمن سياسته منع النشر لمن هم أقل من 15 عاما3.
سيمنع التحكم في وقت استخدامه إدمانه المحتمل، ربما بداية يكون أمرا شاقا أن تمنعه مباشرة من استخدامه، لكن يمكنك تقليله بالتدريج يوميا حتى تصل إلى مدة معقولة، ويحبذ ألا تكون قبل موعد النوم. يسمح تطبيق التيك توك للآباء بتعيين وقت محدد لاستخدامه، يبدأ من 40 دقيقة حتى 120 دقيقة، ولتجاوز هذا الحد يجب أن يُدخل المستخدم رمزا محددا لاجتيازه عليك إبقاء هذا الرمز سرا بالاتفاق مع طفلك بعد شرح أضرار التيك توك وتأثيره عليه. اتبع التعليمات الموضحة في الصور حتى تُفعِّل هذه الخاصية. هذا من داخل التطبيق، لكن يمكنك تقليل الوقت لأقل من 30 دقيقة أو منع استخدام التطبيق عند ساعة معينة من خلال تطبيقات أخرى، مثل Family Link لهواتف الأندرويد أو Screen Time لهواتف الـIOS.
حسّن تيك توك من إعدادات الخصوصية بغرض حماية الأطفال أو مراقبة المحتوى الذي يظهر لهم. نظرا لأن كل ما سبق يمكن أن يتفاداه الطفل بعدة لمسات على هاتفه، ثمة خاصية مميزة يقدمها التيك توك، وعلى عكس الخاصية المذكورة سابقا، لا يمكن تغييرها دون علمك. لكن هنا عليك التحدث مع طفلك وليس مفاجأته بهذا القرار، لأن القصد ليس مراقبة طفلك والسيطرة على المحتوى الذي يشاهده، بل حمايته. ستفتح لك مناقشته بهدوء وأخذ رأيه في القرار الاقتراب خطوة في عالم ابنتك أو ابنك، والرغبة في مشاركته هذا العالم وليس تحجيمه.
من خلال ربط حسابك بحسابه سيمكنك فعل كل ما مضى من خلالك أنت وليس من خلال حسابه، ولا توجد رموز سرية، لكن سيمكنك تحويل حسابه إلى حساب خاص، والحد من اقتراحات المتابعة التي تظهر له، ومنع وصول أي رسائل سوى من الأصدقاء، وأيضا التحكم فيمن بوسعه مشاهدة محتواه أو التعليق عليه. عليك أولا تحميل التطبيق وإنشاء حساب على التيك توك، افتح الملف الشخصي الموضح في الصور السابقة، واضغط على الخطوط الثلاثة حتى تصل إلى الإعدادات والخصوصية، انزل لأسفل حتى تصل إلى ربط الحسابات للعائلة، أو Family Pairing في حال كانت لغة التطبيق الإنجليزية، واتّبع الإرشادات الموضحة في الصور حتى تصل إلى رمز الاستجابة السريعة أو الـQR code، بعدها ستتمكن من ضبط كل إعدادات حساب طفلك حسبما تريد، بما في ذلك وقت استخدام التطبيق وتحجيم وصول المحتوى للآخرين وإعدادات الخصوصية. يمكن لطفلك إلغاء هذا الارتباط، لكن سيُبلغك التطبيق وسيمنحك 48 ساعة قبل إلغائه مع كل الإعدادات التي ضبطتها، ولهذا مناقشة الأمر بداية مع طفلك أمر جوهري لاستمرار حمايته وللحفاظ على التفاهم بينكما34.
____________________________________________________
المصادر | https://www.aljazeera.net/sukoon/2023/2/2/%d8%af%d9%84%d9%8a%d9%84-%d8%a7%d9%84%d9%88%d8%a7%d9%84%d8%af%d9%8a%d9%86-%d9%84%d8%aa%d9%81%d8%a7%d8%b9%d9%84-%d8%a3%d8%b7%d9%81%d8%a7%d9%84%d9%87%d9%85-%d9%85%d8%b9-%d8%aa%d9%8a%d9%83 | 2023-02-02T09:04:05 | 2024-05-30T09:55:02 | أبعاد |
|
77 | أيه كيه 47 بندقية المقاومة المفضلة لضرب جنود الاحتلال | ظهرت بندقية الكلاشِنكوف من فئة ” أيه كيه 47″ (AK-47) تحديدا إلى جانب ترسانة متنوعة من الأسلحة المحلية والمستوردة، التي عملت حماس على تزويد جنودها بها وتدريبهم عليها على مدار السنوات الماضية. | في مقطع مرئي نشرته كتائب الشهيد عز الدين القسام، الجناح العسكري لحركة المقاومة الإسلامية حماس، قبل عدة أشهر لعرض الأساليب التدريبية التي يتلقاها جنود المقاومة، ظهر بجلاء استخدام الجنود لبندقية فريدة من نوعها، مميزة بامتزاج اللون المعدني بالخشبي. يمكن بسهولة ملاحظة وجود تلك البندقية في المقطع من حين لآخر، وكذلك في المقاطع التي صدرت أثناء الحرب الجارية في قطاع غزة ضد العدوان الإسرائيلي، وهي واحدة من القطع العسكرية الأساسية لترسانة كل فصائل المقاومة تقريبا، إنها بندقية الكلاشِنكوف الشهيرة.
وقد خلصت إلى النتيجة نفسها وكالة الأسوشيتد برس في تحليل لأكثر من 150 مقطع فيديو وصورة تم التقاطها أثناء الأشهر الثلاثة الأولى من الحرب. حيث ظهرت بندقية الكلاشِنكوف من فئة أيه كيه 47 AK-47 تحديدا إلى جانب ترسانة متنوعة من الأسلحة المحلية والمستوردة، التي عملت حماس على تزويد جنودها بها وتدريبهم عليها على مدار السنوات الماضية.
تمثل بندقية الكلاشِنكوف مزيجا متطورا من تقنيات البنادق السابقة لها، وحينما ابتكرها العسكري والمخترع الروسي ميخائيل تيموفيَفِيتش كَلاشْنيكوف أثناء تعافيه من الإصابات التي أصيب بها أثناء القتال في الحرب العالمية الثانية، قرر آنذاك الجمع بين أفضل ميزات البندقية الأميركية إم 1 M1 والبندقية الهجومية الألمانية أس تي جي 44 StG 44، وهما البندقيتان الأكثر تطورا في حينه. ودفع ذلك كَلاشْنيكوف إلى الإشارة إلى أن أي محاولة لاختراع شيء جديد تتطلب من المُصمم أن يمتلك تقديرا جيدا وإلماما بكل ما هو موجود بالفعل في هذا المجال.
صُمِّمَت بندقية أيه كيه 47 الأولى على هيئة بندقية أوتوماتيكية بسيطة التكوين، ولكن موثوقة في الوقت ذاته، بحيث يمكن تصنيعها بسرعة وبتكلفة زهيدة، مع إمكانية إنتاجها بكميات ضخمة. وفي هذا السياق صُمِّمَت البندقية بحجرة غاز كبيرة ومساحة كبيرة بين الأجزاء المتحركة الأجزاء التي تعمل معا لتمكين البندقية من الإطلاق والتحميل والتفريغ والصيانة، مع طلقات مُدبَّبة، وهو ما يسمح للبندقية أن تتحمل التلوث بكميات كبيرة من مواد مثل التراب والماء والقاذورات دون الفشل في دورة العمل.
ولهذه الأسباب تميل هذه البندقية بكل أجيالها إلى البقاء سليمة تحت كل الظروف، سواء كان الطقس حارا أو ممطرا أو كانت المعركة في الصحاري أو الغابات أو السهول الطينية أو بين طرقات المُدن، والأهم من ذلك أن تركيبها البسيط يُسهِّل صيانتها، فهي تتكون من عدة قطع واضحة يسهل معرفة تركيب كل منها في الأخرى، بحيث يكون حاملها هو نفسه الخبير في تفكيكها وتصليحها أو صيانتها وتركيبها من جديد. ومن مزايا تلك البندقية إمكانيةُ التدرُّب عليها سريعا بالنسبة لأي مبتدئ، حيث يمكن تحقيق الكفاءة الأساسية لإدارة بندقية من هذا النوع في غضون بضعة أيام أو أسبوع من التدريب، ويتضمن ذلك التعرف على أجزاء السلاح والتشغيل والصيانة وتمارين الذخيرة الحية.
ولإطلاق النار، يقوم المشغل بإدخال مخزن مُحمَّل بالطلقات من الأسفل، ثم يسحب مقبض شحن الطلقات إلى الخلف ويتركه مرة واحدة، ثم يضغط على الزناد. في الوضع شبه التلقائي، فإن المستخدم يُطلِق النار مرة واحدة مع كل ضغطة زناد، لكن في الوضع التلقائي بالكامل تستمر البندقية في إطلاق رصاصات جديدة تلقائيا حتى نفاد الخزنة أو ترك الزناد. والسر في ذلك هو مكبس الغاز الذي تحدثنا عنه قبل قليل، فبعد اشتعال الطلقة تتحوَّل غازات الدفع الصادرة منها إلى غرفة غاز مغلقة ويؤدي تراكم الغازات داخلها إلى دفع مكبس يتسبب بدوره في إطلاق رصاصة جديدة تلقائيا، وهكذا يستمر ضرب الطلقات، بمعدل يصل في المتوسط إلى 600 طلقة في الدقيقة الواحدة.
تُطلق بندقية الكلاشِنكوف من فئة أيه كيه 47 طلقة متفجرة من عيار 7.6239 مليمترا بسرعة تبلغ 715 مترا في الثانية، ويبلغ وزنها 16.3 غراما، وهو وزن متوسط يجعل من مزايا البندقية أنها خفيفة نسبيا، ويمكن حملها بسهولة مسافات طويلة، وحمل كمية كبيرة من رصاصاتها الخفيفة كذلك.
وبشكل عام، تعتبر رصاصة الكلاشِنكوف من أفضل الرصاص في العالم لعدة أسباب إضافية، منها أنها مدببة؛ مما يساهم في التشغيل السلس للبندقية ويعزز قدراتها على تحمل كل الظروف البيئية، كما أنها توفر توازنا جيدا بين الحجم والقوة؛ مما يجعلها فعَّالة لمجموعة واسعة من التطبيقات العسكرية. وكذلك تساعد طلقات الكلاشِنكوف على تخفيف ارتداد البندقية القوة العكسية التي تحدث عند إطلاق النار من البندقية، وهو أمر مفيد في إطلاق النار التلقائي، حيث يسهل على حاملها التركيز بدرجة ما على الهدف، علاوة على أن إنتاج هذا النوع من الطلقات غير مكلف نسبيا. وقد جعلت هذه الخصائص مجتمعة طلقات الكلاشِنكوف خيارا شائعا لدى العديد من الأسلحة النارية الأخرى في العالم.
على الرغم من وجود عدة عيوب في تلك البندقية، مثل الافتقار إلى الدقة، خاصة عند استخدامها على مسافات أطول، وقِصَر مداها الفعال، وقلّة خيارات التخصيص المتاحة فيها، مثل القضبان الملحقة وأنظمة تركيب البصريات والتحسينات المريحة؛ فإنها تظل من أكثر بنادق العالم استخداما ورواجا على الإطلاق. في الواقع يستخدم المقاتلون في جميع أنحاء العالم تقريبا تلك البندقية، وتشير تقديرات إلى أن عدد القطع المنتشرة منها في العالم اليوم قد يصل إلى 100 مليون بندقية.
إنها السلاح المفضل لدى الجميع، إذ تستعملها الجيوش وقوات التمرُّد وحركات الكفاح المسلح، بل حتى العصابات المسلحة وشبكات الجريمة المنظمة. ويبدو هذا منطقيا لأن إنتاج البندقية غير مكلف نسبيا، وهي قصيرة وخفيفة الحمل، وسهلة الاستخدام مع القليل من الارتداد، كما أنها تتمتع بموثوقية أسطورية في ظل مختلف الظروف البيئية والمناخية القاسية.
ويُمثل كل ما سبق مزايا هامة للمقاومة الفلسطينية. ففي مواجهة جيش مدجّج بالعدة والعتاد، بمدد لا ينقطع من الولايات المتحدة، يصبح أفراد المقاومة في أمسّ الحاجة إلى استثمار كل فرصة ممكنة في سبيل الحصول على سلاح فعال ورخيص مقارنة بالمنافسين بسعر يبدأ من عدة مئات من الدولارات للقطعة الواحدة، والأهم من ذلك أنه متوفر ويسهل الحصول عليه.
في هذا السياق تخوض المقاومة ضد جيش الاحتلال الإسرائيلي شكلا من أشكال الحرب غير المتكافئة القوى. ومما لا يحتاج إلى عميق نظر، معرفة امتلاك الاحتلال آليات عسكرية من طائرات ودبابات ومدافع وجنود وجاهزية تتفوق تقنيا على المقاومة التي قُيِّد حصولها على السلاح على مدى سنوات طويلة بكل الطرق الممكنة. ولكن ذلك لا يعني أن الانتصار حتمي للجيوش التي تثبت تفوقها التقني، ففي الحرب غير المتكافئة من هذا النوع، يمكن للطرف الأضعف تقنيا أن يلجأ إلى تكتيكات غير تقليدية تعطيه الأفضلية في ساحة المعركة، مثل إستراتيجيات الكر والفر، أو انتقاء المعارك في الزمان والمكان الملائمين، أو استخدام أسلحة رخيصة الثمن لكنها فعالة جدا في نطاق عملياتي محدد بحيث توازن القوى من حيث التأثير مع نظيراتها من التقنيات الغالية.
يظهر ذلك بوضوح في الحرب المدينية أو الحضرية، تلك التي يكون للمُدافِع فيها ميزة على المهاجم بوجود الأول داخل تضاريس تُمكِّنه من الاحتماء واصطياد الطرف الآخر، حيث توفر التضاريس الحضرية دائما نقاط قوة فورية ذات جودة عسكرية مهمة بالنسبة للمقاومة، بحيث يكون مجرد عبور الشارع مهمة خطيرة جدا على أي من جنود دولة الاحتلال، بل وأي من الجيوش الأكثر تقدما في العالم بشكل عام.
ويسهِّل ذلك على جنود المقاومة بناء الكمائن المتخفية لاستهداف جنود الاحتلال، وهنا يكون لبنادق الكلاشِنكوف، بسبب فعاليتها في المسافات القصيرة، دور فعال في هذه النوعية من المعارك، فرغم أن مداها لا يتجاوز 350 مترا أو أكثر قليلا وتنخفض دقتها كلما طالت المسافة، فإنها تمثّل خيارا ممتازا للمقاومة في نطاق الشوارع الضيقة والأزقة.
وبشكل خاص، تميل المقاومة إلى بناء كمائن مركبة تستخدم فيها أسلحة متنوعة، فتستخدم قذائف مثل الياسين 105 لتدمير لتدمير الآليات الإسرائيلية وإيقاف تقدمها، ولنفس الغرض تستخدم العبوات الناسفة التي تفخخ المنازل والطرق كذلك، وإلى جانب ما سبق يستخدم الكلاشنكوف لإمطار الجنود بالرصاص أو الهجوم عليهم في مواضع تحصُّنهم. هذا التركيب في العمليات القتالية يُصعِّب على العدو المواجهة، حتى لو امتلك أسلحة أكثر تقدما، وهو يمتلكها بالفعل في هذه الحالة.
في عام 1949، أصبحت الكلاشِنكوف البندقية الهجومية للجيش السوفيتي، ومع نجاحها في المعارك استخدمتها دول أخرى في حلف وارسو، الذي تأسس لمواجهة حلف شمال الأطلسي الناتو، وسرعان ما انتشر السلاح في جميع أنحاء العالم، وأصبح رمزا للثورة في بلدان مثل فيتنام وكولومبيا وموزمبيق، والأخيرة لديها علاقة فريدة بالكلاشِنكوف، حيث يظهر السلاح على علمها بوضوح.
وقد استخدم مقاتلو قوات الفيت كونغ الفيتنامية بنادق الكلاشِنكوف وغيرها من المعدات التي تم تصنيعها وتوريدها في الغالب من قبل الاتحاد السوفيتي والصين الشيوعية في حربهم ضد القوات الأمريكية قبل حوالي نصف قرن. وقد تركت حرب فيتنام أثرا عميقا في الجنود الأمريكيين بسبب استهدافهم من كمائن قريبة. وفي حالة شبيهة بما تفعله المقاومة في غزة، استخدمت قوات الفيت كونغ الأنفاق لتحقيق الهدف ذاته في مواجهة القوات الأميركية الغازية، حيث أمكن لجندي المقاومة أن يظهر فجأة من أي مكان، مثل الشبح، ومع المسافات القصيرة أثبتت بندقية كلاشِنكوف فعالية كبيرة.
يضاف إلى ذلك أن بيئة الأراضي الفيتنامية التي تزخر بالغابات المطيرة الطينية، أتاحت الفرصة لاختبار قدرات هذه البندقية في أعقد البيئات. وقد نجحت البندقية بالفعل في الاختبار مقابل البنادق الأمريكية إم 16، التي كانت تزيد معدلات تعطُّلها بعد تعرُّضها للطين وغيره من ملوثات تلك البيئة. بل ونشأت في هذا السياق حكايات مفادها أن الأمريكيين كانوا يتخلصون من بنادق إم 16 ويأخذون بنادق كلاشِنكوف من الجنود الفيتناميين المقتولين. ورُغم عدم التأكد من صحة تلك الحكايات، فإنها تشير إلى إخفاقات الأميركيين حينها، والتفوُّق الذي أبداه الفيتناميون.
عند تلك النقطة تحولت البندقية إلى رمز يعبر عن نظرة رومانسية متمردة للحروب ضد القوى الكبرى، وجرى ذلك في كل أنحاء العالم. فعلى الرغم من عدم استخدامها مطلقا أثناء الثورة الكوبية، فإن الآلاف من المنتجات المقلدة في الأسواق إلى اليوم تُظهِر المناضل الاشتراكي تشي جيفارا وهو يحمل بنادق كلاشِنكوف. وفي المقابل دأبت السينما الأمريكية على إظهارها بوصفها بندقية الأشرار في أفلام الإثارة؛ مما وضع الكلاشِنكوف في حرب ثقافية لعلها لا تقل تأثيرا عن الحرب التي يُطلق فيها الرصاص. | https://www.aljazeera.net/politics/2024/5/19/%d8%a3%d9%8a%d9%87-%d9%83%d9%8a%d9%87-47-%d8%a8%d9%86%d8%af%d9%82%d9%8a%d8%a9-%d8%a7%d9%84%d9%85%d9%82%d8%a7%d9%88%d9%85%d8%a9-%d8%a7%d9%84%d9%85%d9%81%d8%b6%d9%84%d8%a9-%d9%84%d8%b6%d8%b1%d8%a8 | 2024-05-19T10:28:35 | 2024-05-19T10:28:35 | أبعاد |
|
78 | 40 عامًا من الفري لانس.. موجز سيرة خبير غربي في الشرق الأوسط | “لقد قررت منذ زمن طويل أنني أريد أن أستلقي على فراش الموت دون أي ندم. لا أريد أن أقول: لو فعلت هذا أو ذاك. أريد أن أصفّي حساباتي مع الحياة، وأريد أن أجرب كل شيء”. |
6.7 ملايين إنسان ماتوا ليثبتوا لنا أن الدوام الصباحيّ مجرد خرافة
تأملات موظف في كورونا
كل ما تنجزه في المكتب يمكنك إنجازه من البيت. كل ما في الأمر أن مديرك يستمتع برؤيتك وأنت متصلّب على كرسيّك. وكائنات الموارد البشريّة سيفقدون قدرتهم على قصف عمرك وراتبك بالحسومات.
هذه قصة صحفيّ عاش أكثر من 40 عامًا في إحدى أغلى مدن العالم من دون أن يضطر إلى تسجيل حضور وانصراف.
لقد شهدتُ بعيني سقوط هضبة الجولان، رأيت الدبابات الإسرائيلية عن بعد وهي تتقدم عام 1967، كنت في ميعة الشباب ابن 18 ربيعًا، قررت أن أطوف العالم، وحين وصلت إلى سوريا وقعتُ في غرامها، قال لي ألان جورج الشيخ الطوال الخميص البطن، الذي لم تأكل الخمس والسبعون عامًا من عضله فظل جسمه متناسقًا. فإن تاقت نفسك عزيزي القارئ لأن تكتشف سره، فهاكه المشي 10 كيلومترات يوميًا. كانت عيني متسمّرة على يده اليسرى وهو يتحدث إليّ، لفتني خنصره الأيمن المصبوغ بالذهب، لم أجرؤ على مبادرته بالسؤال عنه، لكني طويت عزمي ألا أغادر منزله قبل أن أعرف قصته..
لقد عملت لأسابيع في مكاتب لشركة نفط لتوفير مبلغ الرحلة. سيشرح لي لاحقًا ضروبًا من الأعمال التي قام بها في أسفاره، حين تناول من أحد رفوف المكتبة التي تقع في غرفة المعيشة، المزيّنة جدرانُها بصور أولاده وأحفاده، ألبوم صوره ليطلعني على صورة وهو محتبٍ بعِلاقة غيتاره، في أحد شوارع فنلندا، ويبدو كعازف سبيل.
ليس كثيرًا، بالعزف لساعات على رصيف مناسب، تستطيع أن تجني أجرة المبيت وثمن وجبة في اليوم.
بدأت رحلتي من لندن، قطعت أوروبا الغربية وصولًا إلى صقليّة، ثم صعدتُ إلى يوغوسلافيا، ثم هبوطًا إلى رومانيا فبولغاريا، فاليونان، ثم إلى إسطنبول، فسوريا، ودخلت دمشق، ثم زرت بيروت، ثم عدتُ إلى سوريا، واتجهت جنوبًا إلى الأردن وفلسطين، احتفلت بعيد ميلادي الثامن عشر في القدس الشرقية، التي كانت تحت الوصاية الأردنيّة، بقيت لأسابيع في كيبوتس مستوطنة بالقرب من الجولان، ثم سافرت إلى قبرص، فتركيا مرة أخرى. قطعتُ القارة العجوز وصولًا إلى المغرب، ومنه عبرت إلى إسبانيا وفرنسا لأعود إلى لندن. أخذ يسرد طريق رحلته التي امتدت لستة أشهر وقام بها قبل خمسة عقود من ذاكرته، وكأنه يقرأها من قائمة بين يديه. ثم قام إلى المطبخ المفتوح على مكان جلوسنا، ليقدم لي ضيافته ماذا تشرب؟ قال وهو يضع هاتفه في الشاحن.
كأس من الماء يكفي، لو تكرمت أجبته.
استأنف كلامه عن رحلته الكبرى كانت رحلتي تلك بداية لعلاقة ستمتد عُمرًا مع الشرق الأوسط، كنت دائما أقول لأولادي لا تنشغل بالتخطيط، سيجدك طريقُكَ.
قرأتُ قبل سبع سنوات في مجلة السياحة التي تصدرها ناشونال جيوغرافيك عن رحلة رحّالة أوروبي قطع قارة أوروبا راجلا، ولم يبقَ في ذهني من تلك المقالة الطويلة سوى سطرها الأول وحده السائح لا يسأل عن الطريق، لأن كل الطرق تفي بالغرض، قال وهو يناولني كأسًا من ماء إيفيان. كان جورج على مذهب ذلك الرحّالة.
أوقعتني سوريا في حبها، كانت بلدًا مختلفًا عن أوروبا ما الذي يجذبُ الغربيّ في بلادنا؟ طالما تساءلت، سيقولون التاريخ. وأنا أقول إن الكثير من عبق التاريخ قد يزكم الأنف. ما الذي يجده الإنجليزي في بساتين الشام ولا يجده في الريف الإنجليزي، أو غابات أسكتلندا؟
سيقول لي جورج في آخر لقائنا زرتُ اليمن، ولم أرَ في حياتي إنسانًا يحافظ على شموخه مع بساطته مثل اليمني، ربما لأنه لم يعش تحت استعمار، هناك شيءٌ ما في الإنسان العربي مثير للعين الغربيّة، العيش في أماكن غير قابلة للعيش لكمية الظلم والفساد والتسلّط، لافتٌ للانتباه.
لم يكن جورج أول من ينتهي إلى تلك الخلاصة في انسحاره بالشام، فقبل 800 عام طاف رحّالة رومي اسمه ياقوت الحموي ت 626هـ1229م القارات المعمورة، ودوّن مشاهداته في كتابه معجم البلدان، ولما وصل إلى الشام قال ما وُصِفتْ الجنة بشيء إلا وفي دمشق مثله.
لم ينسَ جورج الحقول والبساتين ومشهد امرأتين في الصباح الباكر تسيران في الحقل وتحملان على رأسهما الخبز بدا لي وأني أعيش في صفحة من صفحات الكتاب المقدس في سِفر الخروج توصف منطقة الشام بأرض اللبن والعسل، ونحن نصدق هذا لأن البحتري قال لنا عن الشام وقد وفى لك مطريها بما وعدا
في رحلته تلك، تعرّف جورج على الصراع العربي الإسرائيلي، وتبيّن له زيف الدعاية الصهيونية.
بالنسبة لي كانت الحرب منظرًا مدهشًا، كانت الدعاية الصهيونيّة تقدم قصة مختلفة عما يدور في فلسطين لا يعرفه أكثر الغربيين.. ما رأيته في 1967 بأم عيني كان مختلفًا عن هذه الرواية.
رأيتُ أسرى سوريين عزّلا يساقون والجنود يضربونهم بخوذاتهم الحديديّة على رؤوسهم.
درس آلان جورج الجغرافيا بقدميه سيرًا على الخريطة، قبل أن يدرسها على مقاعد الدراسة الأكاديمية. فقد تخرج من جامعة أكسفورد عام 1970، وحصل على درجة الماجستير في جغرافيا الشرق الأوسط من جامعة دورهام عام 1972، ثم حصل على درجة الدكتوراه في الجغرافيا السورية من الجامعة نفسها عام 1978. ومنذ عام 1984 عمل صحفيا مستقلا وباحثا، وكتب في عدة صحف محليّة وعالمية مثل صحيفة أوبزرفر، وصحيفة إندبندنت، وصحيفة برايفت آي بالمملكة المتحدة، وصحيفة بروفيل ودير ستاندارد في النمسا، وصحيفة بانوراما في إيطاليا، وصحيفة بيرلينجسكي تيديندي في الدانمارك، وصحيفتي الشرق الأوسط والقدس العربيتين اللتين تصدران في لندن. وهو معلق دائم على شؤون الشرق الأوسط في الإذاعة والتلفزيون. كما عمل مساعدًا سابقًا لمدير مجلس تعزيز التفاهم العربي البريطاني CAABU وعضوًا في لجنته التنفيذية لسنوات عديدة. وقد زار سوريا والمنطقة العربية بشكل متكرر منذ عام 1967.
تحول اهتمام جورج بسوريا من بلدٍ سياحي إلى موضوع دراسة وبحث، حيث أصدر أول كتبه عنها، فاحصًا اقتصادها وسياستها.
قال حافظ الأسد ذات مرة لا يعيش الإنسان بالخبز وحده، بل يحتاج الإنسان إلى أن يعيش إنسانيته، ويحتاج إلى معنى سامٍ في حياته، ويحتاج إلى الحرية والكرامة. حين زار جورج سوريا أخبرني أنه كان مندهشًا من كمية الخوف في عيون الناس. حكم حافظ الأسد بالحديد والنار، وحين تولى ابنه في مطلع القرن الجديد، هبّت نسمة ربيع دمشق فانفتح المجتمع شيئًا ما وتأسست منتديات ثقافية وارتفع سقف الحرية والعمل السياسي.
وقال الرئيس الجديد لشعبه وقتها الديمقراطية واجبٌ علينا تجاه الآخرين قبل أن تكون حقًا لنا، لم يطل ربيع دمشق سوى ستة أشهر، أعقبته حملة قمع واعتقالات للطبقة المثقفة، وخنق للحريات. رصد آلان جورج هذا التحول، ودرس الاقتصاد السوري فاحصًا وعد الرفاهية، ليخلص إلى كتاب نُشر في 2003 يدلُ عنوانُه على خلاصته سوريا.. لا خبز ولا حرية.
في إحدى زياراته البحثية لسوريا وهو يحضّر لرسالة الدكتوراه، قبضت عليه السلطات السورية وهو يلتقط بعض الصور في دمشق.
وقفتُ أمام لجنة التحقيق التي أخذت تحاضرني عن خطورة ما قمتُ به وتتهمني بخرق سيادة البلاد بكاميرتي رددت عليهم غاضبًا سيادة وتصاريح؟ تحاضرونني عن السيادة والطيران الإسرائيلي يتجول في أجوائكم بلا محاسبة بعد عقدين من الزمان، لم يتوقف النظام وأتباعه عن ذكر السيادة السورية. لكن اختراق الأجواء السورية لم يعد حِكرًا على العدو الصهيوني، فقد انضم إليه الطيران الإيراني والروسي والأميركي والتركي
لا، لم أخف، عرفت أنهم لا يؤذون مواطنًا أوروبيا. ثم إني أتقنت لعبة الخوف التي تمارسها السلطات العربية على شعوبها. ألقي القبض علي مرّة في العراق، فاستخدمتُ الكلمة السحرية، وقلت إني صديق لفلان اسم مسؤول بعثي رفيع المستوى. فارتعب ضابط الشرطة السرية الذي أراد أن يخيفني بسلطته.
بدأت الكتابة في الصحافة البريطانية، كنت أكتب لعدة مجلات محلية متخصصة عن مواضيع تتعلق بالشرق الأوسط، في الصحة والتجارة، والصناعة والمياه، وكان بعضها مملًا للغاية. شيئًا فشيئًا، نما اسمي مع كتابتي في الشأن السياسي. لم تكن معرفة المنطقة العربية متاحة بوفرتها اليوم، وبالتالي كان لدي نوع من الامتياز. ظهر اسمي في صحف مرموقة داخل بريطانيا وخارجها، في الدول الأوروبيّة، وترجمت مقالاتي لعدة لغات مثل الألمانية والإيطالية والفرنسية. قال هذا وهو يناولني ملفًا ضخمًا يجمع قصاصات كثيرة من صحف أوروبية وبلغات شتى.
هل كان العمل بالقطعة، مجديًا وقتها؟ سألته وأنا أقلّب صفحات الملف، وأرى تواريخ نشرها في السبعينيات والثمانينيات.
جدًا، في ذلك الوقت قبل الإنترنت، حيث كانت حقوق النشر محترمة ويسهل تطبيقها، كنت أكتب القطعة بالإنجليزية وأترجمها لثلاث لغات، وأبيعها لعدة دول للنشر في تاريخ محدد، وأقبض عليها ثمن أربع مقالات، كان ذلك مجزيًا
في ذلك الوقت تبيّن لي أن الصحف الكبرى لها أجندتها الخاصة. عملت على تحقيق صحفي كان أحد أعمالي الناجحة؛ وصلت فيه إلى معلومات حصريّة عن تصنيع الأسلحة في العراق، وعن تعاون بعض الدول الأوروبية مع حكومة صدام في صفقات مواد وأجهزة يمكن استخدامها في تصنيع أسلحة فتّاكة. وحين لم أجد تجاوبًا من الصحف السياسية، توجهت إلى مجلة متخصصة اسمها المهندس The engineer، حين غزا العراق الكويت، أصبح موضوع التعاون الأوروبي مع حكومة صدام موضوعًا ساخنًا في الإعلام الغربي. لقد عرضتُ عليهم مقالي في وقت مبكر، ولم يهتموا به
قبل سنوات، كتبت مقالة في صحيفة مرموقة عن رجل أعمال عربي، فهدد بمقاضاة الصحيفة، استدعاني رئيس التحرير وطلب مني أن أعتذر عن مقالي لأنه سيعرّض الصحيفة لقضية تشهير فقلتُ له إن مقالي يعتمد على معلومات دقيقية، ولا يمكن أن أعتذر عن عملي الصحفي. وبدلًا من الاعتذار، دافعتُ عن نفسي في الدعوى القضائية التي رفعها عليّ رجل الأعمال، وربحتها.. حينها وصلتُ إلى قناعة بأن الصحافة تجارة، أن تبيع المعلومات لمن يهتم بها
لم يتخلَ الغرب عن جوهر نظرته العنصريّة نحو الشرق الأوسط وأفريقيا، علاقة الغرب بتلك المنطقة ما زالت علاقة استغلال وعقلية استعمار.
فكّر جورج في التدريس الأكاديمي لفترة لكنه لم يناسب شخصيته المنطلقة، رأى العالم أكبر من أن ينظر إليه من وراء مكتب، أو من قاعة دراسة. فآثر العمل المستقل.
عملت باحثًا جامعيا، وعملت في شركة علاقات عامة في لندن، وكان عميلها الرئيسي العقيد القذافي. وكان ذلك في أوائل الثمانينيات. كنا ننتج مجلات دعائية للقذافي ولجانه الثورية، وكثيراً ما كنا نقتبس من كتابه الأخضر
كنت هناك لمدة ستة أشهر في عام 1973، ودرست اللغة الإنجليزية في جامعة ليبيا في بنغازي، وبدأت في تعلم أساسيات اللغة العربية.
لا شيء غريب سوى القذافي، أجاب بابتسامة عريضة، ثم قال وكأنه تذكر شيئًا نعم، عانيت أنا وزوجتي معاناة حقيقيّة من مكبر الصوت القريب من الشقة التي أسكن فيها، وكانت تنطلق منه هتافات وأغان ثوريّة منذ ساعات الصباح الباكرّ
التقيتُ به مرة في زيارة صحفية لليبيا، أدخلوا الصحفيين لخيمته التي يبسطها في كل مكان يزوره، جاء العقيد مدججًا بفتيات جميلات يحطن به في لبسهن العسكري، وأهداني نسخة من كتابه الأخضر. قام من مجلسه وتناول كتابًا من أحد الرفوف، ومرره إليّ. انظر، كتب لي إهداءً ما المكتوب لم أستطع قراءة خطه؟.
من الرفيق معمر، مع تحياتي قرأته مترجمًا له.
رنَّ الهاتف، فاستأذن للرد عليه.
أخذت عينيّ تتجول في مكتبته، لفتني قاموس المنجد في اللغة للويس معلوف وبعض القصص العربية للناشئين، بدت تلك الكتب العربية غريبة وسط مكتبة إنجليزية خالصة. على جدار الغرفة تصطف صوره مع أبنائه وأحفاده. وفي الركن ينام غيتاره.
في القرنين الماضيين، انتشر الأوروبيون في الأرض بقوة الحديد والبارود، وسكنوا بلاد العالم المستعمَر رغبةً في خيرها، وعلى كرهٍ من أهلها، فلما ارتخت إمبراطورياتهم، وأزعجتهم كُلفة البقاء، وانحسرت خرائطهم، زحف إليهم مستضيفو الأمس بالزوارق والتأشيرات المزوّرة ليحلّوا ضيوفًا عليهم، وبقوّة القانون الذي فرضوه على أنفسهم والتزموا به.
يعمل جورج اليوم مستشارًا مستقلًا في قضايا اللجوء، تستفيد المحاكم البريطانية من خبرته في العالم العربي لتقييم القضايا التي يقدمها المهاجرون، وفحص مصداقيّة قصصهم.
لا يتعب بعضهم نفسه في صياغة قصة مقنعة، أتذكر قضية للبناني سنّي يطلب اللجوء بحجة أن حياته في بلده مهددة، لأن حزب الله جنّدوه لتنفيذ عملية انتحارية، وهددوه بأنه لو لم يفعلها فسيقتلونه قال جورج وهو يسير أمامي ليأخذني إلى مكتبه، واصل قائلًا بصوت منخفض لكي لا نوقظ صديقته الإسبانية النائمة في الغرفة المجاورة والتي وصلت من السفر صباح اليوم، هذا غباء محكم. كيف يمكن أن تصادق على رواية مزوّرة بهذه الطريقة الفجّة؟ كيف يجنّد حزب الله سنيًا؟ وكيف يكون التهديد مساويًا للأمر الذي طلبوه منه، هذا أمر لا يصدق
نعم، كل هذه قضايا طلب لجوء. لا يمكنني أن أطلعكَ عليها لسريّتها. لكن يمكن أن أعرض عليك نموذجًا من قضية قديمة قبل سنوات دون أن أطلعك على اسم صاحبها. أخرج ورقة من أحد الملفات، وقال انظر إلى هذه الوثيقة. محافظة بغداد، أمر بإلقاء القبض على المواطن .. بموجب قانون ب د أ، مذيّلة بختم وزارة الداخلية وتوقيع مسؤول. تبدو لي مزوّرة، لا توجد صيغة لأمر إلقاء قبض هكذا، قلتُ له وأنا أعيد له الورقة. بالضبط، ثم ما معنى قانون ب د أ هذا تزوير رديء، أجاب بانزعاج من اكتشف محاولة تذاك فاشلة.
أعمل كل يوم من الساعة التاسعة إلى السادسة
أمي سويسرية ومنها أخذت قيمة الانضباط في العمل، لانت ملامحه قليلًا حين ذكر أمه، وواصل كمن يبوح بسر في مرض وفاتها في سويسرا، زرتها وجلست عند فراشها، جئت لأقول لكِ شكرًا للطاقة التي منحتني إياها. لقد كانت أحد أسباب ما قمت به في حياتي.
كل أسفاري وسياحتي وتجاربي في الحياة، بالإضافة إلى تتبعي لمسارات المشي الطويل، وفعاليات الرقص حول العالم أدين بها للطاقة التي زرعتها فيّ والدتي. على أية حال، لقد قررت منذ زمن طويل أنني أريد أن أستلقي على فراش الموت دون أي ندم. لا أريد أن أقول لو فعلت هذا أو ذاك. أريد أن أصفّي حساباتي مع الحياة وأريد أن أجرب كل شيء.
رقصة السوينج ليندي هوب على وجه التحديد هي نوع من الرقص الإيقاعي الثنائي. نشأ هذا النمط من الرقص مع الأميركيين السود في نيويورك في ثلاثينيات القرن العشرين، حين بدا له أني لم أستوعب نمط الرقص، فتح هاتفه وأراني أحد المقاطع التي سجلها لرقصه. هذا في فرنسا، في مقهى شعبي. بالمناسبة، ألم تلاحظ اللون الذهبي لإصبعي الصغير؟.
بلى، لكنني ترددت في السؤال عن ذلك.
حسنًا، قال بحماس كبير، عندما أمارس هذه الرقصة في مكان به إضاءة مناسبة، سيتعرض إصبعي الصغير الأيمن لأي ضوء يُسلّط علينا، حينها سيلمع إصبعي بشكل ساطعّ أعتقد أنها فكرة رائعة
أعتقد أنها كانت في السويد، سلكنا مسارًا بطول 200 كيلومتر عبر الجزء الشمالي من السويد من الشمال إلى الجنوب. قطعناه في حوالي عشرة أيامّ هذا الشهر أغسطسآب 2024 سأقوم بجولة سير في جبال البرانس الإسبانية، حوالي 200 كيلومتر.
لقد تلقيت عرضين من دور النشر لكتابة مذكراتي، لكنني لست متأكدًا من أن حياتي كانت مثيرة للاهتمام بما يكفي لتكون موضوع كتاب
هذا سؤال جيد. آمل أن أكون قد تمكنت من نقل طاقتي إليهم. أريد أن يتذكروني كشخص طيب وأب جيد لهم، وكشخص استفرغ وسعه في كل ما قام به، ولم يندم على أي شيء. | https://www.aljazeera.net/politics/2024/8/28/40-%d8%b9%d8%a7%d9%85%d8%a7-%d9%85%d9%86-%d8%a7%d9%84%d9%81%d8%b1%d9%8a-%d9%84%d8%a7%d9%86%d8%b3-%d9%85%d9%88%d8%ac%d8%b2-%d8%b3%d9%8a%d8%b1%d8%a9-%d8%ae%d8%a8%d9%8a%d8%b1 | 2024-08-28T08:43:58 | 2024-10-15T02:13:55 | أبعاد |
|
79 | عالم اجتماع برتبة عسكري.. كيف تشرّع القتل بصياغة أكاديمية؟ | رغم اتساع نطاق الدعم والحراك المؤيد لحقوق الشعب الفلسطيني، خرج بعض أعلام ورموز علم الاجتماع ليعلنوا انحيازهم التام إلى إسرائيل. فلم يكن أحد يتوقع أن يخرج يورغان هابرماس ليكون واحدا منهم. | في الممرات الهادئة للجامعات، التي لا تُسمع فيها عادةً إلا همهمات السجال الفكري، وأصوات طي صفحات الكتب والمراجع، يظهر تحدٍّ أخلاقي عميق يلخصه السؤال التالي ما الذي يعنيه أن تكون عالمًا أكاديميًّا في عالم يموج بالصراعات؟ وما هي المسؤولية الأخلاقية التي تقع على عاتق المختصين في العلوم الإنسانية إذا كانت مهمتهم تحليل المجتمعات، وتقديم حلول لمشكلاتها، في وقت يعلو فيه صوت السلاح على صوت العقل والعدل؟
شغلت هذه الأسئلة الأكاديمية الأميركية جودي دين، وهي أستاذة في العلوم السياسية بإحدى جامعات ولاية نيويورك، في الأيام التي تلت الهجوم الذي نفذته حركة المقاومة الإسلامية حماس يوم 7 أكتوبرتشرين الأول الماضي، والمسمى طوفان الأقصى.
جاءت إجابة جودي في مقال نشرته بعد سبعة أشهر من حرب الإبادة الإسرائيلية على غزة، بعنوان فلسطين تتحدث إلى الجميع. في مقالها كتبت جودي قائلة ومن منا لا يشعر بالبهجة عند رؤية المُضطهَدين وهم يدمرون الأسوار التي تسجنهم؟ بل عند رؤيتهم يطيرون إلى السماء فرحًا بحريتهم؟.
وعلى الرغم من أن الساحات الأكاديمية هي الموقع الأول الذي يمكن أن تُسأل فيه هذه الأسئلة، لم تَرُق أسئلة جودي دين وإجاباتُها التي خلصت فيها إلى أن المقاومة الفلسطينية مقاومة مشروعة تستحق الاحتفاء، لم ترُق لجامعتها التي أوقفتها عن العمل، ومنعتها من استكمال محاضراتها للفصل الدراسي.
فبعد اندلاع الحرب الإسرائيلية على غزة، انتقلت الأسئلة الحدية السهلة من الإعلام والمقاهي لتحتل الجامعاتِ التي يُراد لها أن تكون أكثر تجردًا وموضوعية، وأن تُعلي من قيمة النظرة المتكاملة للأحداث، ومن فهم مقاصد الفاعلين، والمعاني وراء الفعل الاجتماعي، حيث يرتبط السلوك بمعنى ذاتي لدى القائمين به.
ومع انتقال الأسئلة الحدية إلى الجامعات، انتقل معها التحيز إلى المواقف الإسرائيلية، لتُفرض رواية واحدة، وليُدان جميع الذين عارضوا هذه الرؤية أو حاولوا تقديم تفسير وفهم موضوعي لما يحدث.
لم يَطَل هذا التنكيل فقط جودي دين، التي اتُهمت بالتعاطف مع حركة حماس، بل شمل عشرات أو حتى مئات من الأساتذة والأكاديميين الذين رفضوا العدوان الإسرائيلي أو أدانوا حرب الإبادة على غزة.
وصل هذا إلى درجة غير مسبوقة، حيث قالت أنيتا ليفي، وهي مسؤولة في الرابطة الأميركية لأساتذة الجامعات إن ثمة دلائل قوية على أن الولايات المتحدة في بداية مرحلة مكارثية جديدة، حيث كانت كل القضايا التي رفعتها الرابطة في المحاكم الأميركية تمثل دفاعاً عن أساتذة تعرضوا للتنكيل بسبب دعمهم للفلسطينيين، وليس من بينهم من يؤيد إسرائيل؛ الأمر الذي يؤكد وجود انحيازات صريحة وواضحة من المؤسسات الجامعية الأميركية لصالح الموقف الإسرائيلي.
وكان عشرات الآلاف من الطلاب قد اتجهوا إلى التظاهر والاعتصام في ساحات جامعاتهم، وعندما تضامن الأساتذة مع طلابهم تم تهديد الأساتذة بالفصل، كما اعتدت الشرطة في بعض الجامعات الأميركية على الأساتذة واعتقلت بعضاً منهم، وفضت الاعتصامات بالقوة، رغم أن المئات من الأساتذة في جامعات أميركية وألمانية كتبوا خطابات مفتوحة عبروا فيها أنهم ليسوا بالضرورة متفقين مع جميع مطالب الطلاب، لكنهم متفقون على حماية حقوق طلابهم في حرية التعبير والتظاهر والاعتصام.
لقد كان حراكا عالميا هائلا -سيضاف إلى رصيد وتاريخ الحركة الطلابية العالمية- قاده طلاب عدد من الجامعات الغربية التي كانت مركزًا له، وكشف عن زيف قيم الحداثة والديمقراطية الليبرالية وحقوق الإنسان التي تدعيها تلك الدول والجماعات السياسية الحاكمة فيها.
في وقت مبكر، شعر العديد من علماء الاجتماع أن ثمة قيودا جديدة ومخيفة تُفرض على حرية النشر والكتابة، خاصة مع إيقاف بعض الأساتذة في العلوم الاجتماعية، حيث تم توسيع رقعة الحظر والقمع والمنع لكل من يرفض القول بأن هجوم 7 أكتوبر كان مذبحة ضد الشعب اليهودي، بل وصار من يعارض إسرائيل أو الصهيونية علنًا؛ معاديًا للسامية بل وداعما لحماس المصنفة إرهابية في الولايات المتحدة وعدد من الدول الغربية.
لكن موقف جودي دين الفردي، يجعلنا نفكر في المؤسسات الأكاديمية الكبرى التي تضم آلاف الأعضاء، وتسعى دومًا لتطوير أفكارها وتوسيع دوائر المستفيدين منها.
فمثلًا، بادرت الجمعية الدولية لعلم الاجتماع بإعلان موقفها في بيان صدر بعد أقل من أسبوعين من انطلاق عملية طوفان الأقصى. ففي 19 أكتوبرتشرين الأول 2023 أصدرت الرابطة بيانًا يندد بالعنف بين الجانبين، وبخطف المدنيين الإسرائيليين، وبالمأساة الإنسانية للمدنيين من الجانبين. وذكر البيان أن الجمعية تُدين المجزرة التي تَعرض لها المدنيون الإسرائيليون والفلسطينيون.
وعلى الرغم من أن البيان لم يدعُ صراحة إلى وقف إطلاق النار، فإنه دعا إلى إنهاء المعاناة الإنسانية في غزة والإفراج الفوري عن الرهائن.
ويمكن القول إن البيان قدم شيئا جديدا عندما حاول الإجابة عن التساؤل عن أسباب العدوان، وتقصّي سبب قيام حماس بعملية 7 أكتوبر، حيث أحال إلى تقرير قسم الدراسات التاريخية والثقافية والتاريخية في جامعة تورنتو، وكانت تلك الإشارة لافتة، بمحاولة استخدام علم الاجتماع في تفسير مشهد الصراع العربي الإسرائيلي، وذلك بالرجوع إلى ذكر ذلك التقرير الذي نصَ على أنه من الضروري أن يضع العلماء الحرب الحالية في سياقاتها التاريخية الواسعة، بما فيها سياقات الاستعمار الاستيطاني.
وتلا ذلك البيان محاولاتٌ جادة ومستقلة لعلماء اجتماع من مختلف الجنسيات، لإصدار بيانات تدين صراحةً العدوان الإسرائيلي، وتعمل على تقديم إجابات علم الاجتماع، وبصورة صريحة، لتفسير هجوم طوفان الأقصى.
وكان أكثرها قوة ما أقدم عليه 1700 عالم ومشتغل بعلم الاجتماع بعد أقل من ثلاثة أسابيع على بدء العدوان على غزة، عندما كتبوا خطابا مفتوحا -يتقدمهم أساتذة في علم الاجتماع من أرقى الجامعات الأميركية- تحت عنوان علماء اجتماع متضامنون مع غزة والشعب الفلسطيني، وتجاوز عدد الموقعين عليه 2000 شخص.
استهل العلماء خطابهم بالقول إننا نُدين بلا تحفظ أعمال العنف الأخيرة ضد الشعب الفلسطيني في غزة والضفة الغربية، على يد النظام الإسرائيلي. واختتم علماء الاجتماع خطابهم بالقول لا يمكننا الجلوس مكتوفي الأيدي ونحن نشاهد استمرار هذه الحرب والإبادة الجماعية. وانتهى الخطاب بجملة غايةٍ في الموضوعية التاريخية، وذلك بالقول إننا ندعو جميع زملائنا إلى الوقوف تضامنًا مع الفلسطينيين وضد الاستعمار الاستيطاني والإمبريالية والإبادة الجماعية.
ويعتبر هذا البيان الجماعي الأكثرَ قوة وصراحة وجرأة في تاريخ مسيرة علماء الاجتماع بشأن القضية الفلسطينية.
وغَلب على البيان وجود أساتذة أوروبيين وآخرين من بعض دول أميركا الجنوبية، وطلاب وأساتذة عرب، كما وقعه أستاذان يحملان الجنسية الإسرائيلية وهما الدكتور إيليران أرازي، الأستاذ بالجامعة العبرية في القدس، والدكتور إيليران بار إيل، المحاضر في علم الاجتماع بجامعة يورك بالمملكة المتحدة، علاوة على أستاذ يهودي أميركي هو ديفيد فيلدمان، أستاذ علم الاجتماع في كلية أوبرلين الشهيرة بالولايات المتحدة.
وكان عدد كبير من علماء الاجتماع الإسرائيليين قد كتبوا ردًّا على ذلك الخطاب واستنكارا له، متهمين من وقعوا عليه بالعمى الأخلاقي، وقالوا في خطابهم نحن كأعضاء في جماعة علماء الاجتماع الإسرائيليين نشعر بالحزن وخيبة الأمل من الرسالة الأخيرة التي تحمل عنوان علماء اجتماع متضامنون مع غزة والشعب الفلسطيني؛ إننا نشعر بقلق بالغ إزاء الغياب الصارخ للاعتراف بالمذبحة الشنيعة التي ارتكبتها حماس في جنوب إسرائيل يوم 7 أكتوبرتشرين الأول.
وعقب ذلك الخطاب، ظهرت مجموعة من علماء الاجتماع المقيمين في المملكة المتحدة ممن وقعوا على الخطاب السابق، وأطلقوا على أنفسهم اسم علماء اجتماع متضامنون مع الفلسطينيين، وأعلنوا عن أنفسهم في بيان لهم يوم 24 نوفمبرتشرين الثاني الماضي بالقول نحن مجموعة من علماء الاجتماع المقيمين في بريطانيا، ونشعر بقلق عميق إزاء الإبادة الجماعية المستمرة للشعب الفلسطيني في غزة.
هذا البيان هو ردنا على صمت تخصصنا وعلماء الاجتماع، والمنظمات المهنية البريطانية التي تمثلنا، والتردد في إدانة أعمال الإبادة الجماعية والتطهير العرقي التي ترتكبها إسرائيل ضد الفلسطينيين في غزة والضفة الغربية والقدس الشرقية.
الرد جاء سريعًا من وسائل الإعلام الإسرائيلية التي اتهمت المجموعة بمساندة حركات طلابية عنيفة، كما اتهمتها بمساندة حركة حماس، والدعوة إلى محو إسرائيل من الوجود، ومعاداة السامية.
غير أن بعض الأصوات اليهودية -من علماء الاجتماع الأميركيين- رفضت ذلك النقد، بل وساهم عدد منهم مع آخرين من الكُتاب والأدباء والأساتذة اليهود؛ في إرسال خطاب مفتوح وقّع عليه 1800 فنان وأديب وناشط وأستاذ يهودي أميركي، قالوا فيه
نحن كُتاب وفنانون وناشطون يهود نرفض الرواية السائدة بأن أي انتقاد لإسرائيل هو معادٍ للسامية بطبيعته.
ومع اتساع الانتهاكات الإسرائيلية وتصاعد وتيرة العدوان على غزة، بدأت الروابط والتنظيمات الخاصة بعلماء الاجتماع في كتابة ونشر خطابات مفتوحة للتعبير عن موقفها الرافض للعدوان الإسرائيلي. ففي 27 نوفمبرتشرين الثاني الماضي، أصدرت الجمعية البريطانية لعلم الاجتماع بيانا تحت عنوان خطاب علماء الاجتماع حول غزة.
ورغم غياب عبارات الشجب والنقد المباشر للعدوان الإسرائيلي؛ حيث اعتبر البيان أن الرد الإسرائيلي لم يكن متناسبا مع هجوم حماس، فإن أهم ما ورد في البيان كان محاولة تاريخية لفهم جذور المشكلة، وجاء فيه إننا نرى هذه الأحداث باعتبارها جزءًا من النكبة المستمرة التي بدأت في عام 1948، بل وقبل ذلك منذ إعلان بلفور عام 1917 الذي تعهد فيه بإنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين.. لا بد من الاعتراف بأن ما حدث كان نتيجة لكارثة أوروبية مستمرة.
كان غائبًا عن المشهد أهمُ رابطة لعلماء الاجتماع في العالم، وهي الجمعية الأميركية لعلماء الاجتماع.
ومن المهم في هذا السياق أن نعيَ الولاءَ المعياري لعلم الاجتماع الأميركي للقواعد الأخلاقية والمعرفية الليبرالية، وما يرتبط بذلك من تشكيل رؤية الباحثين في علم الاجتماع في البلدان النامية، حيث يرتبط العمل في علم الاجتماع الأميركي بصناديق ومؤسسات وحكوماتٍ تمول أجندة البحوث في علم الاجتماع، الأمر الذي يلقي بظلاله على مواقف المشتغلين بعلم الاجتماع وتحيزاتهم.
لكن موقف الجمعية الأميركية لم يكن دومًا صامتًا، فقد صوتت قبل عامين ضد الاحتلال الروسي للأراضي الأوكرانية، لكنها ظلت شهورًا طويلة غير قادرة على اتخاذ قرار للمطالبة بوقف الحرب على غزة.
ففي 22 ديسمبركانون الأول الماضي أرسل 125 من علماء الاجتماع الأميركيين -بينهم 6 رؤساء سابقين للجمعية- خطابًا إلى مجلس الجمعية، طالبوا فيه باتخاذ قرار يطالب بوقف إطلاق النار في غزة، وضمان الحرية الأكاديمية لمن ينتقدون السياسات الإسرائيلية.
لم تستجب الجمعية لهذا الخطاب، واكتفت بإصدار بيان في فبرايرشباط الماضي، أعربت فيه عن القلق العميق والانزعاج إزاء فقدان أرواح المدنيين في سياق العنف المستمر في غزة وإسرائيل، فضلا عن سياقات أخرى من الصراع والمعاناة التي تتكشف في جميع أنحاء العالم.
ورغم المطالبات الكثيرة باتخاذ موقف صريح ضد حملة الإبادة الجماعية ضد الفلسطينيين، رفضت الجمعية مقترح المطالبة بوقف إطلاق النار أو طرحه للتصويت بين الأعضاء. وكان أستاذ علم الاجتماع في معهد ماساتشوستس للتقنية، عزرا سيفان، من أبرز المعارضين للمطالبة بوقف إطلاق النار، حيث قاد حملة لإبطال أي محاولة لإدانة إسرائيل.
اعتبر سيفان، أن القرار المقترح ينكر بشكل مُخزٍ حقيقة معاداة السامية من خلال تصويرها فقط كسلاح يستخدم لإسكات منتقدي إسرائيل؛ الأمر الذي يقوض المكانة الأخلاقية لعلم الاجتماع بين اليهود. كما رفض بشدة مساواة الصهيونية بالاستعمار الاستيطاني، علاوة على تجاهل المقترح إنسانية الإسرائيليين من خلال تجاهل الفظائع التي ارتكبتها حماس ضد المدنيين الإسرائيليين.
كما اعترضت أستاذة علم الاجتماع بجامعة إلينوي في شيكاغو، باربرا ريسمان، على لغة القرار بشأن الاستعمار والاحتلال الإسرائيلي، وقالت إنه يمكن قراءته على أنه يعني أن إسرائيل ليس لها الحق في الوجود. بل إن بعض الأصوات التي دعمت طرح القرار للتصويت، طالبت بالموافقة عليه فقط بعد تعديلات يتم فيها إلغاء أي إدانة للاحتلال.
لذلك، فشلت الجمعية الأميركية في اتخاذ قرار بشأن العدوان على غزة، حيث رفض مجلس الجمعية في مارسآذار الماضي عرض المقترح للتصويت، وعزا ذلك إلى الاتجاهات المتنوعة والمختلفة لوجهات النظر بين أعضاء الجمعية، ومن ثم تسعى الجمعية إلى أن تعكس كل وجهات النظر بدون تحيز. وقد اتفقت وجهة نظر المجلس مع العديد من الأعضاء الذين قالوا إن قرار الدعوة إلى وقف إطلاق النار مسيء لليهود والإسرائيليين.
وقادت مجموعة علماء اجتماع من أجل فلسطين حملة واسعة لجمع التوقيعات الموافِقة على مقترح الدعوة إلى وقف إطلاق النار، وأسفرت الحملة عن جمع توقيعات 581 عضوًا من أعضاء الجمعية، بما يتجاوز النصاب القانوني البالغ 300 توقيع لطرح المقترح للتصويت.
ورغم ذلك، أبلغت رئيسة الجمعية جامعي التوقيعات أن المجلس لن يوافق على طرح المقترح للتصويت، وهو ما يشكل مظهرًا للاستبداد وغياب الديمقراطية داخل أكبر رابطة علمية لعلماء الاجتماع في العالم.
لكن محاولات الضغط الجادة من طرف مجموعة علماء اجتماع من أجل فلسطين تسببت في تراجع مجلس الجمعية. وعُقد تصويت إلكتروني للأعضاء الدائمين في الجمعية، والبالغ عددهم 8000 عضو، وكانت النتيجة تصويت 59 لصالح القرار الذي مثّل انتصارًا مهمًّا لنضالات الحركات المساندة لحقوق الشعب الفلسطيني، فقد نصّ على أن الجمعية تدعو إلى وقف فوري مستدام لإطلاق النار في غزة، وأنها تساند أعضاءها في ممارسة الحق في الحرية الأكاديمية، بما في ذلك، وعلى سبيل المثال لا الحصر، حرية معارضة الاحتلال الإسرائيلي.
رغم اتساع نطاق الدعم والحراك المؤيد لحقوق الشعب الفلسطيني، خرج بعض أعلام ورموز علم الاجتماع ليعلنوا انحيازهم التام إلى إسرائيل. فلم يكن أحد يتوقع أن يخرج يورغان هابرماس، آخر من تبقى من كبار مُنظري مدرسة فرانكفورت، أو مدرسة النقد الاجتماعي الراديكالي، ليعلن في نوفمبرتشرين الثاني الماضي تضامنه مع إسرائيل.
لكن السقوط الأخلاقي الكبير تَمثل في قوله إنه يتفهم ما تقوم به إسرائيل، فقد جاء في الخطاب الذي وجهه هابرماس بمشاركة ثلاثة أكاديميين ألمان تحت عنوان مبادئ التضامن أن المذبحة التي ارتكبتها حماس مع النية المعلنة بالقضاء على اليهودية بشكل عام، دفعت إسرائيل إلى الرد.. ولا تنضبط معايير تقييم تلك الأحداث عندما تُنسب نوايا الإبادة الجماعية إلى تصرفات إسرائيل.
لم يحاول البيان أن يفهم أو يتطرق إلى جذور الصراع ومسائل الاحتلال والاستيطان والتهويد وإبادة وتهجير الشعب الفلسطيني، ولم يشر إليها من قريب أو بعيد، وذلك في الوقت الذي يتأثر فيه بتراث مدرسة فرانكفورت الذي يعتبر المحرقة النازية، أو الهولوكوست، نقطة فارقة في التحليل الاجتماعي.
فمثلا، يقول الفيلسوف تيودور أدورنو، أحد أهم أقطاب هذه المدرسة، إنه لا شِعر بعد أوشفيتز، ويعني بذلك أنه لا يمكن لأحد أن يكتب، أو يستمتع بالاستماع، أو قراءة الشعر، بعد المحرقة. ومن هنا جاء نقد أصحاب الجيل الأول من مدرسة فرانكفورت للعقلانية والتنوير. المفارقة أن هابرماس كان قد رفض جائزة إماراتية عام 2021 بدعوى أنها ضد مشروعه للتنوير، في الوقت الذي يؤيد فيه العدوان الإسرائيلي ويجده مبررًا.
لقد أغرى خطاب هابرماس العديد من علماء الاجتماع الذين يؤيدون إسرائيل، فقد وجدوا في الخطاب وثِقل وزن صاحبه وسيلةً لتأكيد دعواهم حول نفي حدوث الإبادة الجماعية.
وحتى بعض أساتذة علم الاجتماع الذين يدركون حجم المعاناة والانتهاكات غير المسبوقة للفلسطينيين في غزة؛ لا يبالون بالجذور التاريخية للصراع، وهو ما أكده أستاذ علم الاجتماع في جامعة ميريلاند الأميركية، فيليب كوهين، عندما قال لا أحب أن أضع تاريخ إسرائيل وفلسطين في إطار سياسي باعتباره صراعًا بين الاستعمار والسكان الأصليين.
ولعل صحوة الآلاف من علماء وباحثي علم الاجتماع المستقلين تكون علامةً مضيئة في تاريخ العلم رغم التكلفة والتضحية الكبيرة، وهو ما كان رائد الدراسات النقدية في سبعينيات القرن العشرين، ألفن غولدنر، يسعى لتحقيقه عندما قال إن على عالم الاجتماع ألا يسأل نفسه عن الجانب الذي ينتمي إليه، بل عن القيم الأخلاقية التي يدافع عنها.
ولعل هذه الصحوة تنطبق على عالم الاجتماع البريطاني الشهير، ميشيل بوراوي، الذي شغل منصب رئيس الجمعية الدولية لعلم الاجتماع 2010-2014، عندما سأل بجرأة واضحة هل نستطيع أن نقارن بين معاناة اليهود الإسرائيليين ومعاناة الفلسطينيين؟ وهل قتلُ 1200 يهودي وأسر أكثر من 200 رهينة يعادل المذبحة العشوائية لأكثر من 35 ألف فلسطيني، واحتجازهم في غزة، والتهجير التراكمي الذي بدأ في عام 1917 حتى عام 1948؟ وهل يبرر ذكرى محرقة واحدة والخوف من محرقة أخرى إبادة عرق آخر؟ وإذا كان علماء الاجتماع يدينون المحرقة، فكيف لا يدينون النكبة التي استمرت 75 عاما؟.
يبدو السؤال عصيًا على الإجابة، فقد أدان علماء الاجتماع كل مآسي عالمنا الحديث، بداية من المحرقة النازية، والعنصرية ضد السود، وحرب فيتنام، والعنف ضد المرأة، ونظام الفصل العنصري في جنوب إفريقيا، وليس انتهاءً باحتجاجات هونغ كونغ عام 2019، أو مظاهرات إيران عام 2022. أما في غزة، فيبدو العديد من علماء الاجتماع مستعدين لتبرير الانتهاكات الإسرائيلية هناك بلا تردد، وهذا ما يقودنا إلى سؤال آخر هل يحمل علم الاجتماع قيمة أخلاقية في ذاته؟ أم أنه سلاح -كغيره- يطوّعه المستبدون ومؤيدو الإبادة، ورعاة العنصرية، لتحقيق أهدافهم بلا إراقة مباشرة للدماء؟ | https://www.aljazeera.net/culture/2024/10/4/%d8%b9%d8%a7%d9%84%d9%85-%d8%a7%d8%ac%d8%aa%d9%85%d8%a7%d8%b9-%d8%a8%d8%b1%d8%aa%d8%a8%d8%a9-%d8%b9%d8%b3%d9%83%d8%b1%d9%8a-%d9%83%d9%8a%d9%81-%d8%aa%d8%b4%d8%b1%d8%b9 | 2024-10-04T18:36:41 | 2024-11-15T22:37:02 | أبعاد |
|
80 | هل تكون قوات الاحتياط سببا في انهيار المجتمع الإسرائيلي؟ | يمكن القول إن بقرة إسرائيل المقدسة التي تولت عبء الدفاع عن مشروع الدولة اليهودية، وكانت دائما مجالا للفخر في إسرائيل باعتبارها نموذجا فريدا في تجنيد شعب بأكمله، لم تعد اليوم كما كانت. | ضمن تغطيتها للذكرى الأولى لهجوم المقاومة الفلسطينية على مواقع الجيش الإسرائيلي ومستوطنات غلاف غزة في السابع من أكتوبرتشرين الأول الماضي، نشرت صحيفة هآرتس الإسرائيلية تقريرًا مطولًا يتناول آمال وآلام جنود الاحتياط في الجيش الإسرائيلي، ولم تجد الصحيفة عنوانًا للتقرير أفضل من اقتباس من ضابط احتياط يقول عن إسرائيل هذه ليست البلاد التي سأضحي بحياتي من أجلها.
تناول التقرير طرفًا من قصص أكثر من 130 جنديا وضابطًا في قوات الاحتياط الإسرائيلية، قالوا جميعًا إنهم لن يقدموا أنفسهم للخدمة من جديد إذا لم يفلح رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو في تأمين صفقة مع حركة حماس، تضمن تحرير الأسرى الإسرائيليين الواقعين في أيدي المقاومة وتنهي الحرب. وعلى خلاف المعتاد من الجنود الذين يقضون أوقاتًا طويلة على جبهات القتال، مثل معاناتهم من الإرهاق البدني والذهني، لم تكن تلك هي الأسباب التي دفعت الجنود للتهديد بالقول لقد اقترب اليوم الذي سنتوقف فيه عن أداء واجبنا.
فلأول مرة، يسيطر التساؤل عن جدوى الحرب، لا من الناحية العملية فقط، بل من الناحية الأخلاقية أيضًا. وكما قال جندي احتياط يُدعى ياريف لهآرتس، فقد عبرت زوجته عن ذلك بالقول إذا قضيت في هذه الحرب، فسأضع كان أحمقَ على شاهد قبرك. وبعد أسابيع من نشر التقرير، كشفت صحيفة جيروزاليم بوست عن رسالة وقعها 153 جنديا من جنود الاحتياط وقُدمت إلى نتنياهو، هددوا فيها بالامتناع عن أداء الخدمة العسكرية.
لم يكن الأمر مجرد موقف عابر من قبل بعض الجنود المتذمرين، حيث كشف الكثير من وسائل الإعلام الإسرائيلية، عن تراجع ملحوظ في انضمام جنود الاحتياط للخدمة العسكرية بالجيش الإسرائيلي، وقد ذكرت صحيفة ثالثة، وهي يديعوت أحرونوت في 11 نوفمبرتشرين الثاني الجاري، أن الجيش الإسرائيلي أصبح يشعر بالقلق بسبب انخفاض معدل الخدمة الاحتياطية بنسبة تتراوح بين 15 و25.
وظهور التذمر وارتفاع حدة الغضب إلى هذا الحد داخل قوات الاحتياط ليسا أمرين هيِّنين في إسرائيل. فمنذُ تأسيسها؛ يُنظر إلى قوات الاحتياط باعتبارها أحد أهم ركائز الوعي القومي، والتماسك الاجتماعي، حتى أصبحت توصف بأنها إحدى البقرات السبع المقدسة للمجتمع الصهيوني، بحسب جبرائيل بن دور، مدير برنامج دراسات الأمن الوطني بجامعة حيفا.
فمن ركائز الانتماء لإسرائيل، أن يكون الرد المتوقع لكل من يحمل هويتها هو الاستجابة الفورية إذا تلقى أمر استدعاء للجيش، مهما كان الأمر أو الظروف التي يمر بها المستدعى. حيث أدرك القادة الأوائل في إسرائيل مدى خطورة الفجوة البشرية الهائلة بين دولتهم وأعدائها من الدول العربية، وأن إسرائيل في ظل هذه المحدودية، لا يمكنها الاحتفاظ بقوات نظامية قادرة على مواجهة كافة التهديدات الأمنية المحيطة بها من كل جانب. ومن ثمّ؛ تشكلت نظرية الأمن القومي الإسرائيلي وفق ما يُسمى مبدأ أمة تحت السلاح، حيث تمثل القوات الرديفة القابلة للاستدعاء في أوقات الطوارئ والحرب الضمانة الأساسية لتحقيق الأمن.
بل إن القوام الأساسي لجيش الاحتلال هو من قوات الاحتياط؛ مما يعسّر التمييز بين المدنيين والعسكريين داخل إسرائيل، وفي حكم المستحيل كما يقول المسيري العثور على حدود فاصلة بين النخبة العسكرية والنخبة السياسية، إذ يتبادل أفراد النخبتين الأدوار ويقيمون التحالفات في الأحزاب والهستدروت والكنيست وغيرها من المنظمات.
بيد أنّ أزمة قوات الاحتياط الآخذة في التصاعد لم تكن وليدة أحداث طوفان الأقصى فقط. فقبل الحرب بعدة أشهر؛ شارك ضباط وجنود احتياط في احتجاجات ضد نتنياهو، متهمين إياه بالفساد، وذلك في خضم الاحتجاجات التي اندلعت وقتها ضد توجه حكومته لإقرار تعديلات تشريعية تقلل من صلاحية المحكمة العليا على قرارات الحكومة.
ووقع 161 طيارا وضابطا كبيرا بسلاح الجو، آنذاك، رسالة أرسلوها إلى قائد السلاح، اللواء تومير بار، تحت عنوان الوقف الفوري للتطوع في قوات الاحتياط، كتبوا فيها نحن الموقعين أدناه -وهم 161 من عناصر القلب العملياتي لمقر قيادة القوات الجوية- نعلن عن التوقف الفوري لتطوعنا في خدمة الاحتياط، بحسب ما أوردته وقتها صحيفة يديعوت أحرونوت.
وهذا يعني أن بعض أسس التماسك والانتماء داخل المجتمع الإسرائيلي تواجه تصدعا عنيفا، ازداد تشققًا بعد هجوم السابع من أكتوبر، حيث وجدت قوات الاحتياط الإسرائيلي نفسها في خضم حرب طويلة لم تشهد لها مثيلًا من قبل ولم تكن مستعدة لها وهي التي لم تُبدأ بحرب من قِبل أعدائها على الرقعة التي تحتلها منذ النكبة. فازدادت أزماتها وتبدّت ملامح متعددة للتوتر مع القيادة السياسية في ظل ضغوط شديدة تعانيها تلك القوات، خاصة على جبهات الحرب البرية التي تتعرض فيها لاستنزاف هائل دون أفق سياسي، فضلا عن الأزمات النفسية والاقتصادية والاجتماعية بعد توقف حياتهم المدنية لمدة طويلة.
هذه التطورات تعطي أهمية خاصة لفهم بنية قوات الاحتياط في الجيش الإسرائيلي، وكيف اكتسبت رمزيتها غير القابلة للمساس في المجتمع الصهيوني، وكيف يمكن أن تؤثر أزماتها في مسار الحرب؟
منذ الحرب التي أسست إسرائيل في 1948، طوّر ديفيد بن غوريون، وهو أول رئيس وزراء لإسرائيل وإليه يُنسب بناء عقيدتها الأمنية، مفهوم جيش الشعب بما يعني أن يكون الشعب الإسرائيلي كله مستعدا للقتال والانخراط في الحرب، وذلك لضمان أن تكون أعداد القوات الإسرائيلية المحاربة أكبر من عدد القوات المحاربة في جيوش أعدائها، مهما كانت الفجوة بين العدد الكلي للمجتمع الإسرائيلي وأعداد المجتمعات العربية.
تطبيقا لهذا المبدأ؛ فرضت إسرائيل خلال الحرب عام 1948 التجنيد الإلزامي على كل من يتراوح عمره بين 17 و54 عاما. ثم بعد أن وضعت الحرب أوزارها؛ قننت إسرائيل التجنيد الإجباري على جميع المواطنين اليهود ممن يبلغون 18عاما، ذكورا وإناثا. ولاحقا؛ بعد حرب 1967 حُددت مدة التجنيد الإجباري بثلاث سنوات، وأُعفيت منها فئات من النساء مثل المتزوجات والأمهات، كما أعفي الرجال الحريديم الذين يدرسون في المعاهد الدينية، وكذلك أعفي المواطنون العرب باستثناء الدروز الذين كانوا قد فرضت عليهم الخدمة الإجبارية عام 1954.
ومن ثمّ صارت بنية الجيش الإسرائيلي تنقسم إلى قوات نظامية وقوات احتياط، وتنقسم الأولى إلى مجندين يؤدون الخدمة الإجبارية 32 شهرا للذكور و24 شهرا للنساء ويبلغ عددهم قرابة 133 ألفا، ومجندين دائمين يعملون وفق عقود طويلة الأمد مع الجيش بعد انتهاء خدمتهم الإجبارية، ويبلغ عددهم 40 ألفا فقط.
أما قوات الاحتياط فهي الجزء الأوسع من الجيش، وتتشكل من الذين انتهت مدة تجنيدهم الإلزامية، ولكنهم يبقون على أهبة الاستعداد للاستدعاء في أوقات الطوارئ، وقد بلغ عددهم 465 ألف جندي عام 2023 حسب موقع غلوبال فاير باور، ويحدد قانون الاحتياط فترة الخدمة السنوية للجنود بمعدل 18 يومًا في السنة و54 يوما كل 3 سنوات، وفقا لتعديلات القانون في عام 2008. وذلك فيما عدا الطيارين الاحتياطيين بسلاح الجو الذين يستدعون يوما واحدا كل أسبوع للحفاظ على جاهزيتهم الفنية، ويمارسون أعمالهم المدنية بقية أيام الأسبوع.
وخلال العقود الثلاثة الأولى من عمر إسرائيل؛ مثلت قوات الاحتياط القوة الضاربة والحاسمة، كما في حروب أعوام 48 و56 و67، التي اتسمت عملياتيا بدور مركزي للقوات البرية، وأدى ذلك إلى ارتفاع القيمة المعنوية والرمزية لقوات الاحتياط في الوعي القومي الصهيوني بشكل بالغ. فمثلا في حرب السويس العدوان الثلاثي على مصر في عام 1956، شارك 150 ألف جندي إسرائيلي من قوات الاحتياط في الحرب على الجبهة المصرية، وفي حرب الأيام الستة في 1967 شارك 214 ألف جندي احتياط في حين كان إجمالي القوة القتالية للجيش 264 ألفا.
بيد أن التطور الأكثر أهمية لقوات الاحتياط كان فيما بين حرب أكتوبر 1973 والحرب الأولى على لبنان في 1982 التي أطلقت عليها إسرائيل عملية السلام للجليل. فبعد الضربة المفاجئة التي تلقتها إسرائيل على الجبهة المصرية في أكتوبر، توسع الجيش في التجنيد بغية استعادة الشعور بالتفوق والجاهزية للقتال، فازداد عدد الفرق القتالية البرية حتى وصل إلى 14 فرقة، كانت قوات الاحتياط هي النسبة العظمى منها. وفي الحرب على لبنان 1982 شاركت 7 فرق قتالية في الحرب كانت قوات الاحتياط تمثل أكثر من ثلثيها.
لكننا سنتذكرهم جميعًا..
لأن صداقة مثل هذه لن
تسمح أبدًا لقلوبنا بالنسيان.
الحب المقدس بالدم..
سيزدهر بيننا مرة أخرى.
هذه كلمات إحدى أكثر الأغاني استقرارا في الوجدان الإسرائيلي، وتحمل عنوان هآريوت الذي يعني الصداقة والرفقة، وقد كُتبت هذه الأغنية بعد عام من اندلاع حرب 1948، تجسيدا للمصطلح الذي كان شائعا في إسرائيل أخوة السلاح. ويحمل الإسرائيليون في ذاكرتهم خلال تلك السنوات عشرات القصص الرمزية للتضامن بين قوات الاحتياط الأمة المجندة وسرعتها في تلبية نداء الوطن في حالات الطوارئ.
لكنّ المؤكد أن ثمة تغيّرًا في إسرائيل وفي جيش الأمة بعد العقود الثلاثة الأولى من عمر الدولة. وتحديدا كان عام 1985 عاما محوريا في ذلك، حيث توقف الجيش فيه عن استدعاء قوات الاحتياط للمشاركة في العمليات القتالية في لبنان، بضغط من الحكومة، بعد مشاركة كثير من العائدين منهم من جبهات القتال في احتجاجات شعبية تطالب بإنهاء الحرب في لبنان، وكانت تلك اللحظة بمثابة بداية تراجع الإجماع الشعبي حول حروب إسرائيل، ومن ثم تراجع الدافعية للانخراط في القتال.
ومنذ ذلك الحين، لم تشارك قوات الاحتياط بصورة جوهرية في أي من حروب إسرائيل اللاحقة حتى طوفان الأقصى، وفقا لدراسة مطولة نشرها موقع الكلية الجوية الإسرائيلية في 2014. لكن ثمة عوامل أكثر موضوعية كانت وراء هذا التحول، أبعد كثيرا من العوامل الشخصية المرتبطة بدافعية القوات للقتال.
أول هذه العوامل هو تغير نمط التحديات الأمنية التي تواجه إسرائيل، فقد شهدت الثمانينيات والتسعينيات تراجع خطر نشوب الحروب النظامية بين إسرائيل والجيوش العربية، ونشوء تهديدات أخرى غير نظامية، حيث تأسست حركة الجهاد الإسلامي في فلسطين عام 1981، وحزب الله في لبنان عام 1982، ثم حركة حماس 1987. على إثر ذلك تغيرت العقيدة العملياتية للجيش الإسرائيلي باتجاه تخفيض دور العمليات البرية الموسعة والتركيز على تطوير سلاح الجو والاستخبارات لتنفيذ نمط قتالي جديد يعتمد على الضربات المركزة والحاسمة.
وهناك عامل آخر، هو الأزمة الاقتصادية الحادة التي مرت بها إسرائيل في الثمانينيات، بسبب ارتفاع الإنفاق العسكري بنحو غير مسبوق في السنوات التي تلت حرب 73. ومن تداعيات تلك الأزمة أن جرى الاتفاق بين وزارة المالية ووزارة الدفاع على أن تتحمل وزارة الدفاع التكلفة الكاملة لقوات الاحتياط، ولأن الوزارة ليست ملزمة بميزانية محددة لقوات الاحتياط فقد عمدت إلى توفير ميزانياتها لصالح قطاعات أخرى من الجيش أصبحت ترى أنها أكثر أولوية مثل سلاح الجو والمسيّرات الحديثة.
تغيرت إذن نظرة الجيش إلى مكانة قوات الاحتياط، وتراجع دورها في عقيدته العملياتية تبعا لتراجع دور العمليات البرية بشكل عام، ضمن توجه لبناء جيش صغير محترف يعتمد على العمليات البرية أداةً رئيسة لتحقيق أهدافه الإستراتيجية في حروب سريعة وحاسمة.
وخلال هذه العقود الأربعة لم تُستدع بشكل واسع إلا في أحداث انتفاضة الأقصى في العملية العسكرية التي أطلقت عليها إسرائيل عملية الجدار الواقي بهدف إعادة احتلال مناطق في الضفة الغربية أبرزها مخيم جنين. ولم تشارك قوات الاحتياط في أيّ عمليات عسكرية مهمة في حروب 2006 في جنوب لبنان، وحروب غزة 2008 و2012 و2014، واقتصر دورها على المهام الدفاعية خارج مناطق الاشتباك المهمة.
نتيجة للتحولات السابق ذكرها في نمط الحروب وطبيعة العدو؛ ساد اعتقاد في المستوى السياسي والأمني في إسرائيل بأن أخطار الجبهة الشمالية مع حزب الله والجنوبية مع فصائل غزة قابلة للاحتواء عبر الضربات الجوية، وأن الخطر الأساس الذي يهدد إسرائيل أصبح متمثلا في إيران بصورة رئيسة؛ مما يستدعي اهتماما أكبر بتطوير القدرات النووية والاستخبارية وتطوير سلاح الجو وتحديثه بشكل دائم، وأن هذا النوع من الحروب الحديثة لن يحتاج إلى فرق برية ضخمة.
ومع تراجع شعور المجتمع الإسرائيلي بالتهديد الوجودي، تحول تدريجيا من أمة تحت السلاح إلى مجتمع نيوليبرالي أصبح يفضل الانخراط في سوق العمل على الخدمة العسكرية التي لم يعد الدافع إليها ملهما كما كان.
ومن ثم تراجعت المكانة الرمزية التي كانت تتمتع بها قوات الاحتياط في نفوس الشعب الإسرائيلي، ولم تعد الخدمة العسكرية هي النموذج الأرقى في المخيال العام للمجتمع، وحلت بدلا منها نماذج أخرى مثل تحصيل النجاح الفردي في سوق مفتوحة واقتصاد واعد وشعور بالاطمئنان لقدرات الجيش النظامي المحترف على تحقيق الأمن المطلق لإسرائيل.
كما تنامى، بالتوازي مع هذا، شعور آخر بالتمييز وغياب العدالة في توزيع أعباء الخدمة العسكرية، نظرا إلى استبعاد قطاعات من المجتمع مثل اليهود المتدينين الحريديم. وهذه المسألة، تحديدا، أحدثت خللا مزدوجا في بنية قوات الاحتياط. فمن جانب؛ قلصت حماسة باقي المواطنين للالتزام العسكري، ومن جانب آخر دفعت الجيش بغية تقليل الضغط الشعبي عليه إلى التسامح مع التغيب عن الخدمة العسكرية وعدم التشدد في استدعاء قوات الاحتياط في أيام خدمتهم.
وبحسب دراسة نشرها معهد أبحاث الأمن القومي الإسرائيلي؛ لم يستدعِ الجيش، في عام 2014، قرابة 60 من قوات الاحتياط لأيام خدمتهم السنوية. وفي السنوات الثلاث السابقة لذلك العام، لم يستدع 40 منهم. وفي عام 2016 خدم فقط 6 من قوات الاحتياط مدة 18 يوما في السنة. وخلال ذروة الاحتجاجات في جميع أنحاء إسرائيل ضد ما يسمى الإصلاح القضائي في العام الماضي، شهدت بعض وحدات الاحتياط النخبوية غيابًا عن التدريبات بنسبة تزيد على 40.
وقد حذرت دراسة مشتركة بين معهد دراسات الأمن القومي، ومركز العلوم السلوكية في الجيش الإسرائيلي، والقيادة العامة للاحتياط، نشرت في 2018، من تدهور حالة قوات الاحتياط وضعف جاهزيتها القتالية وتراجع مكانتها المعنوية. لكن مع ذلك ظل التقدير السائد لدى القيادات المتعاقبة أن ثمة أولويات للإنفاق العسكري أهم من قوات الاحتياط، وأن الحروب الجديدة المتوقع أن تخوضها إسرائيل سوف يمكن حسمها من خلال سلاح الجو المتطور.
ومن ثم؛ حظي سلاح الجو بأكثر من نصف الإنفاق العسكري، وجرى تزويده بأحدث النظم التقنية مع اهتمام بتدريب قواته، في حين أهملت قوات الاحتياط ولم يستدع منها إلا أعداد قليلة للغاية، ومن جرى استدعاؤه لم يدرب على منظومات الحرب الحديثة.
في صبيحة السابع من أكتوبر كان المجتمع الإسرائيلي على موعد مع تسديد فاتورة التقديرات الخاطئة لقوة الجيش النظامي وقوة أعداء إسرائيل الجدد سبع ساعات على الأقل لم تكن قيادة الجيش تعرف ماذا يحدث في غلاف غزة، ولم تستطع المبادرة بأي خطوة لإنقاذ قواتها ومواطنيها الذين يتلقون ضربات مقاتلي غزة والمتسللين من حدودها التي كانت محاصرة قبل ساعات.
كانت هذه اللحظة بمثابة انهيار حادّ لكافة الفرضيات التي استندت عليها العقيدة العملياتية للجيش الإسرائيلي في العقود الأربعة الأخيرة، فلم يكن سلاح الجو بتقنياته الهائلة قادرا على منع اقتحام كتائب القسام لمستوطنات غلاف غزة، فضلا عن عدم قدرته على تلبية متطلبات الحرب الشاملة التي لم تجد القيادة السياسية والأمنية بدا من خوضها على كافة محاور التهديدات، بغية استعادة شعور الإسرائيلي بالأمن واستعادة هيبة الجيش في المجتمع.
قررت قيادة الجيش استدعاء 360 ألفا من قوات الاحتياط، وهو الرقم الأكبر منذ حرب 1973، ومع أن الجيش قد نجح بالفعل، في تعبئة ما لا يقل عن 250 ألفا في غضون 3 أسابيع، وهذا ليس رقما هينا، فإن ثمة معضلات أخرى واجهت هذه القوات.
لقد تكشفت فجأة كل أعطاب منظومة الاحتياط التي تسببت فيها سنوات الإهمال، وتأجلت العملية البرية على قطاع غزة عدة مرات لعدم جاهزية فرق الاحتياط، بسبب ضعف التدريب وصعوبة الاندماج في المنظومة القتالية للجيش وضعف القدرة على التنسيق الجيد مع باقي الوحدات.
أبعد من ذلك؛ فلم يكن ثمة عتاد عسكري متوفر بدرجة كافية لتلك القوات الضخمة؛ مما دفع المواطنين في إسرائيل إلى تنظيم حملات للتبرع بالعتاد العسكري الخاص، لا سيّما السترات الواقية من الرصاص.
وفضلا عن عدم الجاهزية القتالية للقوات، فيبدو أن المجتمع الاقتصادي وسوق العمل في إسرائيل أيضا لم يكونا مستعدين لغياب كل هذا العدد من طاقة العمل بشكل مفاجئ. وتُشير تقارير، صدرت عن مؤسسة التأمين الوطني، إلى أن 1000 منشأة تجارية تابعة لجنود الاحتياط أُغلقت في الأشهر الستة الأولى من الحرب، وهو ما يمثل 6 من مجمل المنشآت التجارية التي أغلقت في البلاد، والأكثر أهمية أن قرابة 75 من هذه المنشآت موجودة في المراكز التجارية الكبرى مثل تل أبيب وحيفا.
إضافة إلى ذلك؛ أظهرت ورقة بحثية لوزارة المالية نُشِرَت في فبرايرشباط 2024، أن 20 من جنود الاحتياط الذين التحقوا بالجيش خلال حرب غزة، كانوا من العاملين في قطاع التكنولوجيا المتقدمة؛ لذا فإن تكلفة غيابهم بالنسبة للسوق ستكون مرتفعة جدًّا، خاصة في ظل حرب طالت أكثر مما كان متوقعا.
وإذا كان شعور الإسرائيليين بالتهديد الوجودي في الأسابيع الأولى من الحرب قد ساهم في تعبئة هذا العدد الضخم من قوات الاحتياط، فإن أكثر من عام من الاستنزاف وغياب الأفق السياسي قد أدى إلى عكس ذلك. حيث نشرت صحيفة يديعوت أحرونوت يوم الاثنين 11 نوفمبرتشرين الثاني 2024 أن الجيش الإسرائيلي يشعر بالقلق بسبب انخفاض معدل الخدمة الاحتياطية بنسبة تتراوح بين 15 و25، وأوضحت أن هذا الشعور برز خلال الأسابيع الأخيرة في الألوية القتالية بقطاع غزة والجبهة الشمالية.
وقد يفسَّر ذلك بتنامي شعور لدى قوات الاحتياط بأنهم يدفعون تكلفة الحرب أكثر من غيرهم، ليس بالخسائر الاقتصادية والاجتماعية التي يتعرضون لها فحسب، بل أيضا على جبهات القتال، فقد كشفت بيانات لإدارة إعادة التأهيل التابعة للجيش الإسرائيلي عن استقبالها 12 ألف جندي مصاب في وحداتها خلال العام الأول من الحرب، كان ثلثاهم من قوات الاحتياط.
وفي محاولات لاستدراك أزمة قوات الاحتياط وارتفاع الاحتياج البشري للحرب التي تتوسع زمانا ومكانا، قدمت حكومة نتنياهو مشروع قانون في فبراير 2024 بتعديل مواد قانون الاحتياط، ليسمح برفع سن الخدمة الاحتياطية في الجيش، بهدف استقطاب عدد أكبر من المجندين. لكن القانون واجه غضبا شعبيا واسعا بسبب استمراره في إعفاء اليهود المتشددين الحريديم من هذه الأعباء المتزايدة، رغم بلوغ نسبتهم من السكان حوالي 13.3، بحسب معهد ديمقراطية إسرائيل.
وبينما كان نتنياهو يتردد في تجنيد الحريديم، منعا لتفكك الائتلاف الحاكم الذي يضم أحزابا دينية تعارض هذه الخطوة بشدة، استبقته المحكمة الإسرائيلية العليا في 25 يونيوحزيران الماضي، بقرار يقضي بإلزام الحريديم بالتجنيد في الجيش، ومنع المساعدات المالية عن المؤسسات الدينية التي يرفض طلابها الخدمة العسكرية. لكن القرار لا يزال عالقا، بعد فشل الجيش في تجنيد 3000 منهم فقط في إطار المرحلة الأولى.
ويحاول نتنياهو البحث عن حلول أخرى، ترضي تيار أقصى اليمين من جهة وفي نفس الوقت تخفف السخط داخل صفوف قوات الاحتياط؛ ولذا قررت وزارة الدفاع تقليص نطاق النشاط العسكري لكتائب الاحتياط من متوسط 20 أسبوعا لكل جندي إلى 9 أسابيع فقط بدءا من نوفمبر الجاري، بهدف تشجيع أعداد أكبر على الانخراط في الخدمة، بحسب صحيفة يديعوت أحرونوت، لكن هذا ليس مضمون النتائج؛ مما جعل الصحيفة تعتبره مغامرة غير محسوبة في ظل تزايد الاحتياج إلى القوات.
بعبارة قصيرة، يمكن القول إن بقرة إسرائيل المقدسة التي تولت عبء الدفاع عن مشروع الدولة اليهودية، وكانت دائما مجالا للفخر في إسرائيل باعتبارها نموذجا فريدا في تجنيد شعب بأكمله، لم تعد اليوم كما كانت. فبينما تتعرض إسرائيل لأطول حرب في تاريخها، وفي الوقت الذي تعيش فيه امتحانًا وجوديًّا للحفاظ على أمنها وتفوقها في مجالها الحيوي، بدأ الإسرائيليون فقدان القدرة على رؤية مغزى القتال. وكلما طالت الحرب؛ زاد الاستنزاف المستمر على جبهات القتال وتعمقت ارتداداته الاجتماعية والاقتصادية والمعنوية، واتسع نطاق الأسئلة حول جدوى استمرار الحرب وجدوى الخدمة العسكرية في ظل العجز عن تحقيق الأهداف النهائية. | https://www.aljazeera.net/politics/2024/11/17/%d9%82%d9%88%d8%a7%d8%aa-%d8%a7%d9%84%d8%a7%d8%ad%d8%aa%d9%8a%d8%a7%d8%b7-%d8%ac%d8%af%d8%a7%d8%b1-%d8%a7%d9%84%d8%a3%d9%85%d9%86-%d8%a7%d9%84%d8%a5%d8%b3%d8%b1%d8%a7%d8%a6%d9%8a%d9%84%d9%8a-2 | 2024-11-17T19:57:38 | 2024-11-18T10:31:07 | أبعاد |
|
81 | بر الوالدين عبر الدعم النفسي كيف نقدم المساعدة لآبائنا حين يتقدمون بالسن؟ | لا يُفصح المتقدمون في العمر عن احتياجاتهم وعما يحسون به بسهولة، ويتبادر إلى أذهانهم أنه على أبنائهم تلقائيا معرفة دواخلهم. فكيف نفهم سن الشيخوخة؟.. هذا ما يُجيب عنه التقرير التالي | أنت في مقتبل العمر أو منتصفه، ولم تدرك بعد ما تعنيه الكهولة حقا، بينما والداك مَضَيَا قُدما في اختبار ذلك، فراحة أيديهم الدافئة سَرَتْ فيها ارتعاشة هادئة، خُطَاهم السريعة والعجولة صارت متمهلة، قَسَمات وجوههم منكمشة بالتجاعيد، وأبدانهم تغص بآلام مبرحة من المتلازمات والأمراض، ما يجعل الدواء والعقاقير بالقرب منهم على منضدة فارغة، وغَزَت الشُّعيرات الفضية والبيضاء رؤوسهم، لتعلن بوضوح عن مرحلة جديدة، إنها الشيخوخة.
قد تلاحظ ميل أبويك التدريجي حينئذ إلى التعلق بالمنزل وكثرة نسيان المواعيد، كتناول أقراص أو حبوب الأدوية، وقد يفقد أحدهما مفاتيحه أو محفظته بشكل متكرر أو يترك الموقد قيد التشغيل. تلك التغيرات الذهنية أو في الوظيفة الإدراكية تستدعي منا أن نكون يقظين، وأن نسأل أنفسنا الأسئلة التالية هل ظهرت هذه التغييرات شيئا فشيئا، أم وقَعَت فجأة؟ هل تزامنت مع أحداث أخرى أو تغييرات كوفاة أحد المقربين أو طلاقه، أم أنها عَرَض جانبي تسبب به دواء؟12
يُظهر هذا الاهتمام انعكاس العلاقة التقليدية بين الابنة ووالديها اللذين يتقدمان في السن، ليجمع الباحثون أنه يجدر معرفة أنه كلما تغير كلاكما فلا بد أن تتغير علاقتكما أيضا. لذا، فما من سبيل للحفاظ على قوة علاقتكما سوى بالتحلي بفضائل، كالصبر والقبول وتغيير التوقعات وإعادة صياغة علاقتنا بذوينا3. إذ يحدث أن يصبح الأب أو الأم المسنّان أكثر تمحورا حول أنفسهم، ويصعب التواصل معهم، ألا يشعروا بالراحة في التواصل عبر الهاتف لوقت طويل، فتتحول المحادثات حول تفاصيل حياتنا ومجرياتها إلى تحية وحديث عابر أو مقتضب لا يتعدى بضع دقائق. ومن الشائع جدا عند كبار السن تطوير مخاوف وقلق وشكاوى مستمرة غالبا ما تعد صادمة أو غير عقلانية، وأن تتدهور أبصارهم وتضعف حاسة السمع لديهم وتتراجع الذاكرة ويصيبهم الخرف.
يُتوقع بين عامي 2000 و2050 أن تتضاعف نسبة سكان العالم الذين تزيد أعمارهم عن 60 عاما4، أي أنه بحلول عام 2030 سيكون 1 من كل 6 أشخاص في العالم يبلغ من العمر 60 عاما أو أكثر، وذلك وفقا لمنظمة الصحة العالمية. في هذا الصدد، أظهر استطلاع للرأي أجري في الولايات المتحدة بين البالغين الذين تبلغ أعمارهم 40 عاما أو أكثر أن نصف الأميركيين الأكبر سنا يعتقدون بأن أحد أفراد الأسرة أو الأصدقاء المقربين قد يحتاج إلى مساعدة معيشية خلال السنوات الخمس المقبلة. من بين من أجروا الاستطلاع، قال 7 من كل 10 إنهم ليسوا على استعداد لتقديم الرعاية، ماليّا أو بشكل غير ذلك5.
في السياق نفسه، وجد البحث أن عبء رعاية الوالدين المسنين أو الأصهار يقع على عاتق النساء بشكل متباين عن الرجال، حيث توفر النساء ما يقرب من ثلثي مجموع رعاية المسنين بنسبة 28، وهم أكثر احتمالا لرعاية أحد الوالدين من الأبناء، بل إنه يرجح أيضا أن تَرْعَى النساءُ الزوج المسن، بينما لن يحدث العكس، ما يُلقي عليهن أحمالا ماديا وعاطفية ونفسية6.
مع التقدم في العمر، يصبح الإنسان أكثر حساسية تجاه النقد، مترددا في طلب المساعدة من الآخرين أو قبولها، وعليه، لا يفصح المتقدمون في العمر عن احتياجاتهم وعما يحسون به بسهولة، يتبادر إلى أذهانهم أنه على أبنائهم تلقائيا معرفة دواخلهم، ولربما يتوقعون تصرفا بعينه، وحينما لا يقع، يشعرون بخيبة أمل. تحكي الكاتبة كلير بيرمان عن صديقتها العجوز التي كثيرا ما تعتذر لأبنائها عن لقائهم رغم ما تكنه لهم من محبة؛ إذ يدققون في ما كل ما يصدر عنها، ما يجعلها في حالة توتر7، تصف خجلها من إسقاطها للتاريخ أو اليوم الذي هم فيه من الشهر، إلحاحهم في معرفته، ارتباكها وتلعثمها وخذلان اللغة لها، أمام نظراتهم الطويلة ذات المغزى التي يتبادلونها فيما بينهم.
ويمكن أن يؤدي التقدم في العمر والمرض إلى تفاقم الطباع الشخصية القديمة، فالشخص سريع الانفعال قد تجده يشتعل غضبا في أغلب الأحيان، والشخص ذو الصبر النافد قد يغدو متطلبا صعب المراس ويستحيل إرضاؤه، ليكون مقدم الرعاية نفسه في مرمى كبار السن الغاضبين.
أحيانا، يقف مرض الزهايمر سببا جذريا لغضبهم، فالمريض في هذه الحال لا يتحكم بشكل كامل في أقواله أو أفعاله، لذا فإن أفضل ما يمكنك فعله هو عدم أخذ الأمر على محمل شخصي، والتركيز على الإيجابيات وتجاهل السلبيات، وأخذ قسط من الراحة من تقديم الرعاية قدر المستطاع عن طريق البحث عن رعاية مؤقتة.
في دراسة أجريت عام 2004 قام بها أستاذان من جامعة ولاية نيويورك في ألباني، ماري جالانت، أستاذة الصحة العامة، وجلينا سبيتز عالمة الاجتماع8، وجدا أن الآباء المسنين يكافحون لتحقيق التوازن بين رغبتهم في الاستقلال الذاتي ورغبتهم في الحفاظ على علاقات وطيدة مع أبنائهم الناضجين، لهذا يلجؤون إلى مجموعة متنوعة من الإستراتيجيات للتعامل مع مشاعرهم المتناقضة، مثل التقليل من المساعدة التي يتلقونها، أو تجاهلها، أو مقاومة محاولات الأبناء التحكم في سير حياتهم وحجب معلومات عنهم ووضع حدود واضحة بينهم.
ليتوصل ستيفن زاريت، أستاذ التنمية البشرية والدراسات الأسرية في جامعة ولاية بنسلفانيا، إلى أن أحد أكثر الأشياء رعبا للجميع مع تقدمهم في العمر هو فقدانهم لشعور السيطرة، عارضا مثالا على ذلك إذا أخبرت والدك ألا يخرج ويجرف الثلج، فإنك تفترض أنه سينصت إليك، لكن رده سيكون بالخروج من البيت وتجريفه، في محاولة واعية أو غير واعية منه للتمسك بحياة تتغير ملامحها بلا هوادة.
نظرت دراسة حديثة إلى عناد الوالدين على أنه عامل معقد في العلاقات بين الأجيال، ففقدان الاستقلال ليس أمرا هينا. يمثل تدهور القدرات البدنية والاضطرار إلى الاعتماد على الآخرين في المهام اليومية خوفا كبيرا بين كبار السن، قد يشعر الوالدان كلما تقدما في العمر بالقلق والخوف من عدم قدرتهما على القيام بالأشياء بمفردهما، كالقيادة وغيرها من الأمور التي تمدهم بشعور الحرية9.
في حقيقة الأمر، الشيخوخة مرحلة لا يمكننا فهمها بالكامل حتى نختبرها. ينظر إليها الأبناء بغموض، وينفرد الخوف بالآباء المسنّين. لذا، فحتى تفهم والديك مع تقدمهم في العمر، دعنا نلقي نظرة على المخاوف الأكثر شيوعا في الكهولة، والتي تتضخم بتقدم السن10
حاول التعرف على القضايا التي يواجهها المتقدمون في العمر؛ توقعاتهم، وكيفية معاونتهم على التكيف مع التغييرات التي يمرون بها. ضع في اعتبارك حقيقة أن والديك في مرحلة حياتية مختلفة تماما، لذا فإن ردودهم وآراءهم قد تأتي خلافا لما تتوقع، فقد يستجيب البعض لتلك المرحلة بسلوكيات لا تتوافق مع شخصيتهم، لتصل إلى كونها عنيفة أحيانا. يرجع ذلك إلى الهلع المصاحب للشيخوخة، وعدم التوصل على الأغلب إلى طريقة أفضل للتعبير عنه.
بحسب مركز السيطرة على الأمراض والوقاية منها CDC، يعاني نحو نصف البالغين من العمر، 65 عاما أو أكثر، من التهاب المفاصل؛ ما يؤثر بدوره على نشاطهم البدني. لكنه ليس سوى عرض واحد من أطنان من الأزمات الصحية؛ كهشاشة العظام والالتهاب الرئوي وداء السكري وصحة الفم من فقدان الأسنان وأمراض اللثة وجفاف الفم والأسنان الحساسة وضعف صحة الفم في فقدان الوزن بشكل كبير وسوء التغذية والجفاف والألم. كما أنه وفقا للمعهد الوطني للقلب والرئة والدم، فإن أمراض القلب التاجية هي السبب الأول للوفاة بين النساء في الولايات المتحدة فقط11، باعتباره أكثر أنواع أمراض القلب شيوعا بين كبار السن، لكنها ليست جزءا طبيعيا من عملية الشيخوخة، والحفاظ على نمط حياة صحي هو أفضل وقاية منها.
بناء على ذلك، خصص وقتا لفهم ما يشعر به والداك، حثهم على التواصل، اطرح الأسئلة دون أن تحاول التحكم في مجريات الأمور، قدم المساعدة والدعم ولو بحمل جزء من أعباء الأعمال المنزلية نيابة عنهما، بالإصغاء إليهما في حزنهما أو إحباطاتهما، وابذل قصارى جهدك للحضور من أجلهما، انخرط في أنشطة معهما، مثل حضور دروس في شيء يستهويكم والذهاب للتسوق، أو إعداد وصفة جديدة، أو قضاء ليلة تشاهدون فيلما معا، ويمكنك أيضا تشجيع والديك على المشاركة في الهوايات التي كانوا يحبونها والتي ربما توقفوا عن ممارستها منذ فترة12.
مهما يكن، لا تدخل في صدام مع والديك، تحدث معهما بصراحة وأخبرهما أنك تريد مساعدتهما، امنحهما زمام المبادرة وشاركهما المشكلات وفكروا معا في حلول لها أو قدم لهما خيارات لإظهار تقديرك لاستقلاليتهما، كأن تخبرهما مثلا أبي، في اعتقادك ما الذي سيساعدك على تذكر تناول أدويتك؟ أمي، ماذا يمكننا أن نفعل لجعل المهمات أسهل قليلا وأقل إجهادا عليكِ؟
إن حدث أن أخبرك والداك بشيء يحتاجان فيه إلى مساعدتك، حاول أن تقتصر مساعدتك على ذلك الأمر فقط1314، لكن تلك ليست قاعدة، والأمر منوط بشخصيتهما وطبيعة علاقتك بأهلك. فلا تقتصر الرعاية على وجه محدد، وإنما تتفكك إلى درجات، فهناك من كبار السن مَن هو بحاجة إلى الأنس والصحبة فحسب، وهناك من يحتاج إلى من يعاونه حركيا بشكل طفيف أو كبير، ومن لا غنى له عن جميع ما سبق. لذا، تتمثل الخطوة الأولى في معرفة مقدار الرعاية التي يحتاج إليها الشخص الأكبر سنا حقا.
قد يساعدك إنشاء قائمة بمهام الرعاية اليومية والأسبوعية والشهرية على تنسيق المهام في الليل والنهار وعطلات نهاية الأسبوع، بالنظر في كم النقاط التي يتفق وجودها في الشخص المعني أو فقدانه المقدرة على القيام بها.
الذاكرة هي الأكثر التباسا من بينها، فجميعنا عرضة للنسيان ولو من وقت إلى آخر. كما أن مشكلات الذاكرة البسيطة هي جزء شائع إلى حد ما من الشيخوخة، وفي بعض الأحيان تسهم الآثار الجانبية للأدوية أو الحالات الكامنة في إضعاف الذاكرة.
لكن يوجد فرق بين التغييرات الطبيعية في الذاكرة، وفقدان الذاكرة الذي يجعل من الصعب أداء مهامنا اليومية، مثل القيادة والتسوق. وتتضمن علامات هذا النوع من فقدان الذاكرة طرح الأسئلة نفسها مرارا وتكرارا، والضياع في الأماكن المألوفة، وعدم القدرة على اتباع التعليمات، والارتباك بشأن الوقت والأشخاص والأماكن.
يتعسر مد يد العون لأحد ما في عائلتك وأنت قد نال منك التعب، ضع جدولا ضمّن فيه التزامات العمل ورعاية أطفالك ووالديك، بغرض التخفيف من الإرهاق، والاسترخاء، والتواصل الاجتماعي، وقضاء الوقت في القيام بما تحب؛ فرعايتك لنفسك ليست ترفا، وإنما جزء صحي لا يجب أن يقع بين مشاغل اليوم.
يصطلح تسمية الشبان الذين فاق عمر والديهم الخامسة والستين عاما ولديهم أطفال أقل من 18 عاما بجيل الشطيرة، نسبة إلى الضغط الذي يتعرضون له باعتبارهم في قلب الشطيرة ما بين الآباء والأبناء. لذا، إن وجد الظرف الملائم، شجع طرح طرق لتطوير تقسيمات عمل عائلية أكثر إنصافا لك، حدد وقتا منتظما للتواصل مع الأشقاء الآخرين أو أفراد الأسرة أو الأصدقاء الذين يمكنهم المساعدة في رعاية والديك.
تستدعي تلك المجهودات إيجاد منفذ صحي للتعبير عن الغضب والاستياء، فمن المهم التنفيس عن خيباتك بطريقة صحية لتجنب الخلاف مع والديك، ومحاولة التحدث إلى صديق أو شقيق، أو خذ بعض الوقت للذهاب إلى صالة الألعاب الرياضية أو ممارسة الرياضة بالخارج عندما تشعر بالإرهاق.
فيحدث أن يولي مقدمو الرعاية كامل انتباههم للآباء المسنين متناسين صحتهم هم. احصل على فحوصات طبية سنوية، وحاول أن تأخذ قسطا من النوم لثماني ساعات على الأقل كل ليلة، وتناول نظاما غذائيا متوازنا غنيا بالبروتين والخضروات لتعزيز مزاجك وطاقتك.
ابذل قصارى جهدك لإعداد نظام أمان يحافظ على سلامة والديك ولا يعيق روتينهم المعتاد، ووفر أيضا معدات أمان في حال تعرضهم لحالة طبية طارئة أو حادث مثل السقوط. تساعد بعض الأجهزة المخصصة لرعاية كبار السن في تعميق استقلالية والديك المسنين أيضا، كأجهزة منظمات الأدوية، والوسائل المساعدة على الحركة التي من شأنها أن تجعل أنشطة الحياة اليومية أسهل بالنسبة إليهم. وفر لهم ما في استطاعتك وما يضمن لهم الأمان أيضا.
لا تتوانَ عن تكريم والديك وتقدير وجودهما بالاحتفال معهم وبهم في منحهم القدر الكامل من التعاطف والسماح والعاطفة، دون توقع أي شيء بالمقابل. فإحدى المختصات النفسيات تجزم بأنه في صغرنا ننظر إلى آبائنا على أنهم يعرفون كل شيء دون إدراك أنهم بشر ولهم تطلعاتهم وهواياتهم وتجاربهم الحياتية، لذا اسعَ للتعرف عليهم على مستوى أكثر إنسانية.
فقد يراودهم الشعور بالوحدة حيث يفقدون الأصدقاء والأحباء، وقد يصابون بالاكتئاب، إذ وفقا للمعهد الوطني للصحة العقلية، فغالبا ما يظهر كبار السن المصابون بالاكتئاب أعراضا أقل وضوحا، ويكونون أقل عرضة للتعبير عن مشاعر الحزن أو اليأس لديهم. قد يكون والداك يكافحان للعثور على شخص يمكن التحدث معه وقضاء الوقت، صادقهما وشجعهما على اتباع نظام غذائي ونمط حياة صحيين لمساعدتهما على عيش حياة أطول وأكثر صحة.
بحلول سن 85، ترتفع احتمالية دخول واحد من بين كل ثلاثة دار المسنين، وهو ما حدث لجدة الدكتور روجر وونغ، وهو طبيب شيخوخة وأستاذ إكلينيكي يقدم في هذا الفيديو عددا من النصائح لإبقاء منزل كبار السن آمنا.
يعد كتاب كلير بيرمان الاعتناء بنفسك أثناء رعاية والديك المسنين أقرب إلى كونه مرجعا لرعاية الوالدين مع تقدمهما في العمر، مستندة في ذلك على مجهودات بحثية وخبرات شخصية تحاول سبر أغوار مشكلات عاطفية وجسدية للشيخوخة ومعالجتها دون إغفال أهمية الاهتمام بالنفس.
يعني برنامج الطبيبة كرنسان المجاني بتوجيه العائلات التي تعتني بفرد مسن يعاني من فقدان الذاكرة، تمده بالكيفية المثلى للتعامل مع ذلك الشخص، بالأخص في حال كان ذلك الفرد يواجه صعوبة في تقبل حالته.
_____________________________________________________
المصادر
| https://www.aljazeera.net/sukoon/2021/11/21/%d8%a3%d9%87%d9%84%d9%8a-%d9%8a%d8%aa%d9%82%d8%af%d9%91%d9%85%d9%88%d9%86-%d9%81%d9%8a-%d8%a7%d9%84%d8%b9%d9%85%d8%b1-%d9%83%d9%8a%d9%81-%d8%a3%d8%aa%d9%81%d9%87%d9%91%d9%85-%d8%b3%d9%86 | 2021-11-21T12:53:39 | 2024-05-30T09:55:31 | أبعاد |
|
82 | الشيطان في المتاهة.. لماذا تتساقط روبوتات إسرائيل في أنفاق غزة؟ | تشير التقارير أن أنظمة “روبوتيم” تستخدم في غزة منذ عام 2014 بغرض استكشاف شبكة الأنفاق التي بنتها المقاومة، وكذلك لمحاولة التعرف على نشطاء حركة حماس. لكن هل حققت أنظمة “روبوتيم” أهدافها؟ | في مايوأيار الماضي أعلنت شركة روبوتيم Roboteam الإسرائيلية، المتخصصة في تصنيع الأنظمة الأرضية المُسيّرة والروبوتات القتالية، عن تلقيها أمر شراء من سلاح مشاة البحرية الأميركية المارينز لتوريد 200 قطعة من أنظمة الروبوتات الأرضية التكتيكية الدقيقة إم تي جي آر، في صفقة تبلغ قيمتها نحو 30 مليون دولار.
وقالت الشركة إن مشاة البحرية اختاروا نظام إم تي جي آر 15 MTGR15 الذي يعدّ واحدًا من 5 أنواع من المُسيرات الأرضية التي تصنعُها، وهو من فئة الروبوتات التكتيكية الصغيرة الحجم، إذ يزن نحو 8 كيلوغرامات ولا يتجاوز طوله نصف متر، مما يسمح بإمكانية حمله داخل حقيبة ظهر في ساحة المعركة.
ويمكن تشبيه هذا النظام بدبابة مصغرة، فهو عبارة عن منصة روبوتية عالية المناورة مرتكزة على عجلات، يتم التحكم به عن بُعد من خلال وحدة تحكم مدمجة وشاشة قياس 7 بوصات. وبإمكانه القيام بمهام عدة في ساحة المعركة، من ضمنها التخلص من الذخائر المتفجرة، والمناورات التكتيكية، ومهام الاستطلاع، مما يقلل من تعرض الجنود للمخاطر والكمائن الميدانية.
انتهزت روبوتيم فرصة الصفقة للترويج لجدارة أنظمتها، إذ أشارت إلى أن القوات الجوية الأميركية سبق لها شراء المئات منها بقيمة تزيد عن 25 مليون دولار، فضلا عن كون تلك الأنظمة مُجرّبة من قبل جيش الاحتلال الإسرائيلي وأثبتت كفاءتها خلال حرب غزة، مما يدل على فعاليتها وأنها باتت أفضل خيار لـ عملاء المستوى الأول في العالم، وفق مزاعم الشركة.
لطالما استخدم جيش الاحتلال الإسرائيلي قطاع غزة كصالة عرض حية للصناعة العسكرية الإسرائيلية. هذا وتشير التقارير إلى أن أنظمة روبوتيم تُستخدم في غزة منذ عام 2014 بغرض استكشاف شبكة الأنفاق الواسعة التي بنتها المقاومة ورسم خريطة لها، وكذلك في محاولة التعرف على نشطاء فصائل المقاومة، إذ زوِّدت تلك الأنظمة بعدسة تكبير 10 أضعاف، كما أنها استُخدمت مؤخرًا بكثافة خلال العدوان الحالي على غزة، وفي العمليات التي استهدفت تحديد أماكن المحتجزين الإسرائيليين لدى المقاومة.
لكن هل حققت أنظمة روبوتيم ذلك النجاح الذي تروج له الشركة حقا؟ والجواب أنه بالنظر إلى مرور 9 أشهر على بدء العدوان الإسرائيلي على غزة، وفشل جيش الاحتلال في حل أحجية الأنفاق في غزة، ناهيك عن إخفاقه في تحديد أماكن أسراه طوال هذه المدة رغم المساعدات الاستخباراتية التي تلقاها من الولايات المتحدة وغيرها، فإن مزاعم الشركة الإسرائيلية بخصوص كفاءة أنظمتها هي موضع شك في أدنى الأحوال، وبالنظر إلى كون أنظمة الشركة تُستخدم بالفعل في الصراع منذ 10 سنوات، فإن الإخفاق سيكون هو الإجابة الأكثر منطقية، وليس النجاح.
هناك العديد من العوامل التي يمكن أن يُعزى إليها فشل الروبوتات الأرضية في غزة، ولعل أبرزها أن إدارة هذه الأنظمة تحتاج في الأخير إلى كفاءة العنصر البشري الذي يوجّه النظام، في حين أثبتت حرب غزة أن كفاءة الجندي الإسرائيلي باتت محل شك وفق تصريحات العديد من المسؤولين العسكريين الإسرائيليين السابقين، رغم ما يتمتع به من تقنيات وأسلحة حديثة.
وتوضح الخبيرة الإسرائيلية في القانون والتكنولوجيا تهيلا ألتشولر الأمر بقولها إن الجيش الإسرائيلي خضع للتكنولوجيا وأسلم لها زمام أمره على مدى سنوات، مما أدى إلى إضعاف قدرات العامل البشري وانفصال الجنود عن ساحة المعركة.
وعند تطبيق رؤية ألتشولر على تقنية مثل الروبوتات الأرضية والمُسيرات التي يتم التحكم بها عن بُعد، نجد أنها تحوّل ساحة المعركة إلى مشهد أقرب لألعاب الفيديو، الأمر الذي يُفقد الجنود حساسية الميدان والقدرة على استنباط المخاطر المحيطة واتخاذ القرار الملائم.
وفي سياق مشابه، يرى مدير كلية القيادة والأركان السابق في سلاح مشاة البحرية الأميركية العقيد توماس جرينوود أن حسم المعركة يتحدد من خلال العامل البشري في نهاية المطاف، وأن التفوق التقني في الحرب لن يعوّض الإستراتيجية المعيبة أو التصميم العملياتي الرديء، مؤكدا أن التكنولوجيا ليست علاجا سحريا لكل داء، فلا بد أن تكون مصممة وفقا لخطط ومفاهيم وبيئة تشغيل محددة. علاوة على ذلك، فإن الهيمنة التكنولوجية على العدو لا تضمن النجاح الإستراتيجي في تحقيق الأهداف السياسية التي تقاتل الدول من أجل تحقيقها.
جرينوود يتخذ دولة الاحتلال الإسرائيلي مثالا لإثبات صحة رؤيته، إذ يشير إلى أن تفوق الاحتلال التقني وكونه أحد كبار المنتجين والمصدرين للتكنولوجيا العسكرية، لم يمنع المقاومة من مباغتته وإحداث صدمة في صفوفه في السابع من أكتوبرتشرين الأول الماضي، مما يعني أن الخلل يكمن في كفاءة العنصر البشري واستعداده في المقام الأول.
يمكن أيضا لمصطلح بيئة التشغيل المحددة، الذي أورده جرينوود، أن يفسر القصور الذي أظهرته تقنية الروبوتات الأرضية في سبر أنفاق غزة، نظرا لأن البيانات تشير إلى أن أقصى مدى تشغيل لأنظمة روبوتيم لا يتجاوز ربع الميل نحو 400 متر، في حين يُقدّر الطول الإجمالي لشبكة أنفاق غزة بنحو 500 كيلومتر، كما يُعتقد أن عمقها يصل في أحيان لأكثر من 80 مترا، إضافة إلى أنها مليئة بالعقبات التي يمكن أن تحتجز الروبوت أثناء طريقه، نظرا لأنه مؤهل لصعود درج أو تخطي عقبة يبلغ ارتفاعها 20 سنتيمترا فقط ويعجز عن عبور ما هو أكثر من ذلك، مما يعني أن الأنفاق المستهدفة أكثر تعقيدا بكثير من بيئة التشغيل التي يمكن لهذه الأنظمة العمل خلالها.
أحد التحديات الأخرى المتعلقة بالبيئة التشغيلية هو محدودية استقبال الإشارة داخل الأنفاق، وفي هذا الصدد يشير المسؤول السابق في أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية إيال بينكو إلى أن التقنيات المتطورة فشلت أمام أنفاق غزة، نظرا لتشعب الأخيرة وتعدد طبقاتها وعمقها الكبير. ويضيف بليك رينسيك، المدير التنفيذي لشركة برينك الأميركية المتخصصة في صناعة المُسيّرات، أن المشكلة الكبرى في نشر تلك التقنيات تحت الأرض في الوقت الحالي هي أنها قد تصل إلى مسافة 100 قدم داخل النفق قبل أن ينعطف الأخير يمينا أو يسارا وتُفقد الإشارة تماما.
إضافة إلى ذلك، فإن طبيعة الحروب الحضرية تقلل من فعالية أجهزة الاستطلاع والمراقبة، كما تحرم القوات المهاجمة من مزاياها التقنية التي تؤهلها للاشتباك عن بُعد، بالنظر إلى أن الهجوم على مدينة ليس مجرد مهمة ضد مبنى واحد، إنما عملية تشمل آلاف الأبنية خلال مدى زمني طويل، وتحتاج إلى تنقّل القوات المهاجمة بين تضاريس مجهولة بالنسبة إليها. وإذا ما وضعنا في الاعتبار أن غطاء المهاجم يكون محدودا في الحروب الحضرية مقارنة بالقوات المدافعة، فإن تعدد التقنيات المحمولة يمثل عبئا إضافيا على حركة القوات المهاجمة وعلى قدرتها على المناورة ويسهّل عملية رصدها.
كل ذلك ولم نستعرض بعد تكتيكات المقاومة الفعالة أمام تقنيات الاحتلال، حيث يرجح الخبراء العسكريون أن المقاومة تستخدم أجهزة تشويش تجارية محمولة متاحة في الأسواق العالمية مقابل مبلغ زهيد أقل من 800 دولار، وهي أجهزة يمكنها التشويش على الإشارات وتعطيلها. في هذا الصدد، تقول مؤسسة بروكينغز الأميركية إن إخراج اتصالات العدو من الخدمة إحدى القواعد الأولى للحرب، وهو ما يبدو أن حماس تعرفه جيدا.
التكتيك الآخر الذي استخدمته المقاومة بنجاح هو ما يمكن تسميته بـالنفق الخداعي، وهو عبارة عن نفق مصمم لإيهام العدو بأنه جزء من شبكة الأنفاق، بيد أنه مجرد نفق يمتد لمسافة قصيرة وله وظيفة محددة هي الانفجار في وجه جنود الاحتلال بعد تفخيخه من جانب أفراد المقاومة، التي بثت في أبريلنيسان الماضي مشاهد لتفخيخ أحد هذه الأنفاق، بعد استدراج قوة من جنود الاحتلال إليه، بواسطة عبوات ناسفة مضادة للأفراد، تنشر شظاياها دائريا لتحقيق أعلى معدلات إصابة ممكنة.
لكن، ما الذي يدفع البحرية الأميركية لدفع ملايين الدولارات مقابل أنظمة قتالية مشكوك في كفاءتها في أفضل الأحوال؟ الجواب الأقرب هو أن الجيش الأميركي سوف يستخدم هذه الأسلحة في مهام أكثر مباشرة وأقل تعقيدا من أنفاق غزة. السبب الأكثر وضوحا هو أن الولايات المتحدة لديها مصلحة واضحة في دعم الشركة الإسرائيلية، التي يشكل قدامى المحاربين في الجيش الأميركي نسبة 75 من موظفيها، كما أن 95 من إيراداتها السنوية يتم توليدها في الولايات المتحدة، مما يجعل من استمرار نشاط الشركة مسألة ضرورية بالنسبة للحكومة الأميركية.
تدرك دولة الاحتلال الإسرائيلي إذن، بالتجربة الصعبة، أن تقنيات روبوتيم ليست بالفعالية التي يروَّج لها، ويشير الكاتب ساجي كوهين في صحيفة هآرتس الإسرائيلية إلى أن الأحداث الأخيرة أظهرت بشكل صارخ أن الكثير من مشاريع الروبوتات القتالية غير ناجحة، وأنه لا يمكن الاعتماد على هذه التكنولوجيا وحدها.
على رأس هذه المشاريع الفاشلة يأتي الروبوت القتالي جاكوار من تطوير شركة صناعات الفضاء الإسرائيلية آي إيه آي IAI. وقد زُوِّدت به فرقة غزة المعنية بأمن الحدود بين الأراضي المحتلة وقطاع غزة، وكان من المفترض أن يحل الروبوت محل الجنود على طول السياج الفاصل، حيث يمكنه القيام بدوريات الحراسة وإطلاق النار، كما زُوِّد بخاصية التدمير الذاتي في حال وقوعه في الأسر.
وكما أثبتت الوقائع على الأرض، فإن الروبوت لم يعمل بشكل مناسب أثناء عملية طوفان الأقصى، كما أن ضباطا من جيش الاحتلال اعترفوا بأن المشروع لا يسير وفق ما خُطط له، وأنه يواجه صعوبات عدة تعوق استخدام الإصدار الحالي. وقد دفع ذلك جيش الاحتلال إلى تجربة بدائل أخرى وهي الكلاب الآلية من طراز فيجن 60 Vision 60 من تطوير شركة جوست روبوتيك، ومقرها فيلادلفيا في الولايات المتحدة. يتميز هذا الروبوت بقدرات أكثر تطورا على مستوي أنظمة استشعار، ويمكنه النهوض بعد السقوط أو الانزلاق. إضافة لذلك، بإمكان الروبوت العمل 3 ساعات متواصلة متحركا بسرعة 3 أمتار في الثانية، مما يعني أنه يتفوق على نظام روبوتيم في هذا الصدد.
ومع ذلك، لا يخلو النظام من عيوب تشغيلية واضحة، فرغم مداه الذي يبلغ 10 كيلومترات، فإن وزنه ثقيل جدا يتخطى 50 كيلوغراما ما يُصعّب مهمة التنقل به داخل الميدان، إضافة إلى ارتفاع سعره البالغ 165 ألف دولار للوحدة، والأهم سهولة استهدافه، حيث تشير تقارير بأن جيش الاحتلال عثر على البعض من كلابه الآلية مدمرة بعد أن أجهز عليها أفراد المقاومة.
في النهاية، يبدو جيش الاحتلال الإسرائيلي غارقًا في وحل سببه الرئيسي الاعتماد المبالغ فيه على التكنولوجيا، فلا هو استطاع تطوير أدواته القتالية وتقنياته لتكون بالكفاءة اللازمة للحرب التي أعدت لها فصائل المقاومة في غزة، ولا هو تمكّن من إعداد جنوده لخوض معركة شرسة ومعقدة في مواجهة خصم أقل كفاءة تقنيا، لكنه أقوى عزيمة وأطول نفسا. | https://www.aljazeera.net/politics/2024/7/7/%d8%b1%d9%88%d8%a8%d9%88%d8%aa%d9%8a%d9%85-%d9%88%d8%ac%d8%a7%d9%83%d9%88%d8%a7%d8%b1-%d9%88%d8%a7%d9%84%d9%83%d9%84%d8%a8-%d8%a7%d9%84%d8%a2%d9%84%d9%8a-%d9%84%d9%85%d8%a7%d8%b0%d8%a7 | 2024-07-07T10:05:28 | 2024-07-07T13:27:09 | أبعاد |
|
83 | المقاومة في غزة.. هل هناك تشابه مع ثوار الجزائر؟ | تشبه المقاومة في غزة إلى حد كبير في ظهورها واستمرارها وتكتيكاتها وإستراتيجيتها وأدواتها ما قام به الثوار الجزائريون إبان مقاومتهم للاستعمار الفرنسي الذي جثم على صدر الجزائر لأكثر من 130 عامًا. | منذ انطلقت عملية طوفان الأقصى في السابع من أكتوبرتشرين الأول الماضي 2023، لا يكاد يمر شهر إلا ونرى الإستراتيجيات والتكتيكات العسكرية المرنة التي تتبناها فصائل المقاومة في غزة أمام قوات جيش الاحتلال الإسرائيلي في مختلف محاور التوغل في القطاع.
كانت عملية السابع من أكتوبر خاطفة ومؤثرة، حتى وصفها محللون وعسكريون إسرائيليون بوصفها أكبر ضربة في عمق إسرائيل منذ عقود طويلة، سواء من حيث الخسائر البشرية، وعدد المأسورين، أو من ناحية سيطرة فصائل المقاومة على مناطق من داخل الأراضي الفلسطينية المحتل لعدة ساعات قبل أن تُعلن إسرائيل عن العملية العسكرية الجوية ثم البرية.
أما بالنظر لعمليات ثوار الثورة الجزائرية والتي تقوم عادة على شكل كمين وهجوم ثم اشتباك مع قوات الاستعمار الفرنسي، فإن ثمة أوجه تشابه يجدر بنا استحضارها، حتى وإن كان لكل مرحلة خصوصيتها وطبيعتها التي يفرضها الزمان والمكان.
تنوعّت التكتيكات التي اتخذتها المقاومة منذ بداية هذه الحرب وإلى يومنا هذا تبعًا لمستجدات الأمر الواقع، فوفقًا لتحليل كتبه العميد إلياس حنا في 22 مارسآذار الماضي 2024، فإن حركة المقاومة الإسلامية حماس قاتلت في الأماكن المفتوحة باعتماد مبدأ الدفاع المرن أو التأخيري خاصة في مناطق شمال غزة، وتعتمد هذه الإستراتيجية على عدم زج عدد كبير من قوات المقاومة في المعارك الدائرة مع العمل على تأخير تقدم العدو بهدف كسب الوقت في مقابل التخلي عن المساحة عند الضرورة، مع الاستمرار في استنزاف جيش الاحتلال في العدد والعتاد.
واستغلت المقاومة المساحات المكشوفة لاستطلاع قوات الاحتلال وأماكن تمركزاتها وأوقات نوباتها وتحركاتها، فنصبت الأكمنة، وزرعت المتفجرات، واستعملت ما توفّر من فتحات الأنفاق للخروج منها وضرب خلفية قوات جيش الاحتلال التي تتقدم نحو عُمق القطاع.
ولا شك أن عملية السابع من أكتوبرتشرين الأول جعلت حماس وفصائل المقاومة تستعد لسيناريو حرب طويلة من خلال شبكة أنفاق معقدة تمتد في كامل قطاع غزة الذي تبلغ مساحته 356 كلم مربعا، كما اعتمدت على الكثافة السكانية التي ستكون عائقًا عند تقدم قوات الاحتلال، وما في ذلك من خطورة تتمثل في حروب المدن والشوارع.
ووفقًا لتقرير للكاتب البريطاني ديفيد هيرست في 5 نوفمبرتشرين الثاني الماضي كان إطلاق حركة حماس والمقاومة الفلسطينية لمعركة طوفان الأقصى مدروسًا ومستهدفًا بدقة؛ لوقف مخططات الجماعات اليهودية المتطرفة لهدم قبة الصخرة والمسجد الأقصى وبناء الهيكل المزعوم، خاصة بعدما نجحوا في تقسيم المسجد الأقصى مكانيًا وزمانيًا باستخدام الأجهزة الأمنية والتدخلات السياسية لحكومة دولة الاحتلال لفرض الأمر الواقع بالقوة الجبرية.
ورأى هيرست أن حركة حماس تمتلك أسلحة متنوعة ومهمة ومعظمها محلي الصنع على الرغم من التحديات الضخمة التي تواجهها أمام الجيش الإسرائيلي الذي يستهدف البنية التحتية والسكان الأبرياء العُزّل في غزة فضلا عن الدعم الأوروبي والأميركي اللامتناهي سياسيا وعسكريا للكيان الإسرائيلي وعلى رأسها منظومة الصواريخ قصيرة وبعيدة المدى التي وصلت إلى تل أبيب وما حولها.
ولكن من جملة هذه الأسلحة التي أثبتت فعاليتها في حرب المدن التي تجري اليوم؛ قذائف الياسين 105 وهي نسخة مطورة من القذائف السوفيتية آر بي جي RPG، وهي من أكثر الأسلحة تأثيرًا في الدبابات ومدرعات النمر الإسرائيلية، وقد أدت لخروج مئات من المجنزرات عن الخدمة بصورة كلية أو جزئية، ولا تزال تستخدمها المقاومة حتى يومنا هذا بعد مرور أكثر من تسعة أشهر على بدء الحرب.
ومن الأسلحة التي تم صنعها يدويًا وتشكّل تهديدا متزايدًا وحصدا لأرواح جنود جيش الاحتلال في معركة طوفان الأقصى سنجدُ بندقية الغول، وهي الجزء الأساسي لسلاح القنّاصة في حرب غزة، فقد نشرت المقاومة العديد من الفيديوهات طوال الأشهر الأخيرة التي تمكنت فيها هذه البندقية من الإصابات الدقيقة في صفوف الجيش الإسرائيلي ومن مسافات بعيدة، وهي تُشكّل كابوسًا متناميًا لفئة جنود المدرعات والقوات البرية والفرق الهندسية الإسرائيلية في الأرض.
ويأتي سلاح الاستطلاع والمخابرات للمقاومة والذي ينشط في رصد تحركات جيش الاحتلال في شوارع وأزقة غزة على مدار الساعة ليلا ونهارًا على رأس أهم الأدوات والأسلحة التي تمتلكها المقاومة؛ لأنه العين الأمامية الفاعلة لسلاح القناصة وفرق قذائف الهاون والمتفجرات من خلال تحديده الإحداثيات الدقيقة لأماكن تمركزات القوات الإسرائيلية، ولهذا السبب يرى الخبير العسكري والإستراتيجي العقيد ركن حاتم الفلاحي أن جيش الاحتلال عند دخوله للأحياء في غزة يستولي على البنايات العالية لكي يسيطر على بقية المنازل والأبنية، وهو ما يجعل فصائل المقاومة تقوم بتفخيخ الكثير من المنازل حتى تنفجر عند دخولها، كما جرى في حي التنور شرق مدينة رفح جنوبي قطاع غزة، ولا يمكن حدوث ذلك إلا بوجود استطلاع نشِط للمقاومة.
وقد نوّه الخبير العسكري الفلاحي إلى أن المقاومة الفلسطينية أصبحت تقاتل وفق نمط حرب العصابات وبلا مركزية، ما يؤكد أن عمليات التوغل الإسرائيلي في المدن والأحيان أصبحت بلا معنى، وضرب مثلا بأن القوات الإسرائيلية توغلت في المنطقة الشمالية من قطاع غزة، ولكنها عادت للقتال في مخيم جباليا وغيره من المناطق، وتعتمد إستراتيجية المقاوم الفلسطيني بحسب الفلاحي على تنفيذ العملية ثم الانتقال إلى مكان جديد لتأمين الحماية أولا، ثم للإعداد لعمليات قادمة جديدة.
ولا شك أن حرب العصابات والمدن اللامركزية جعلت الدبابات الإسرائيلية المنتشرة على غير هدى أو حماية كاملة في مرمى المجموعات العنقودية لفصائل المقاومة اللامركزية والتي باتت تستهدفها بمتفجرات شواظ، والقدرة التدميرية العالية لهذه المتفجرات، وفي العديد من إصدارات المقاومة المرئية يقوم أفرادها بزرع ولصق هذه المتفجرات في هيكل دبابات الميركافا سواء من الأمام أو الخلف، ومن ثم وقوع الخسائر الفادحة والمتنامية.
تستهدف المقاومة في غزة إطالة أمد حرب العصابات والمدن؛ ويبدو أنها درست بصورة جيدة النماذج السابقة التي تعرضت فيها القوات الإسرائيلية لهذا النوع من الحروب في مدينة السويس المصرية حينما استغل جيش الاحتلال توقف الحرب المؤقت لإحداث ثغرة والاندفاع نحو السويس وإسقاطها لتحسين شروط التفاوض مع الجانب المصري في 24 و 25 أكتوبرتشرين الأول 1973م.
ولكن بحسب محمد أبو ليلة في كتابه كل رجال السويس، من أسرار الفدائيين في حرب أكتوبر فإن المقاومة الشعبية المصرية التي قادها الشيخ حافظ سلامة وعدد كبير من أبناء السويس فضلا عن 160 مقاتلا من الفرقة 19 مشاة من الجيش المصرية التي لم تكن قد انسحبت من المدينة حتى ذلك التاريخ؛ فإن هذه المقاومة الشعبية اعتمدت على حرب العصابات والشوارع، واستطاعت قتل 80 جنديا إسرائيليا، وسيطرت على مئات البنادق ومدافع الهاون ومجموعات من آر بي جي.
وأمام هذه المقاومة العنيفة التي كانت تستهدف الدبابات وتقنص الجنود انسحبت القوات الإسرائيلية وعملت على تطويق السويس وحصارها لمدة زادت على 100 يوم، حتى انتهى الحصار، ورحل الإسرائيليون ولم يستطيعوا احتلال المدينة، وبعد تسع سنوات كررت القوات الإسرائيلية الأمر ذاته في حصار وتدمير مدينة بيروت؛ إلا أن تدخل أطراف دولية اضطر القوات الإسرائيلية للانسحاب في نهاية المطاف.
ولا شك أن المقاومة تعتمد على أنواع أخرى من التكتيكات والأسلحة، مثل قطاع الحرب السيبرانية والطائرات بدون طيار، والاختراق المعلوماتي لأنظمة إسرائيلية مختلفة، فضلا عن الأسلحة الميدانية الأخرى مثل القنابل اليدوية، وحصولها على أسلحة صينية وروسية، بعضها تم الإعلان عنه وبعضها الآخر ربما لم يظهر حتى الآن فيما يبدو.
تشبه المقاومة في غزة إلى حد كبير في ظهورها واستمرارها وتكتيكاتها وإستراتيجيتها وأدواتها ما قام به الثوار الجزائريون إبان مقاومتهم للاحتلال الفرنسي الذي جثم على صدر الجزائر لأكثر من 130 عامًا؛ إذ كانت فرنسا قد احتلت الجزائر منذ عام 1830م، وهي أول بلدة في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا تسقط في يد الاحتلال الغربي بعد فشل الفرنسيين أنفسهم من قبل أيام نابليون بونابرت في احتلال مصر وخروجهم منها سنة 1801م.
كان الاحتلال الفرنسي للجزائر إجراميًا ودمويًا اتخذ كافة الوسائل التي يتخذها جيش الاحتلال اليوم في استمرار احتلالهم وفصلهم العنصري وحروبهم المتواصلة على فلسطين في شقيه العسكري والثقافي، المادي والمعنوي، حيث بدأوا في تنفيذ خطة مَحْوِ خصائص الجزائر الحضارية من دين ولغة ومعالم تاريخية، ليسهُل في زعمهم استعادة الجزائر للمسيحية، ولم يتوقفوا عن تنفيذ تلك الخطة- ساعة من نهار- طيلة وجودهم بالجزائر. ولذلك اعتبر الإمام البشير الإبراهيمي احتلال فرنسا للجزائر حلقةً من الصليبية الأولى، وأنه قَرْنٌ من الصليبية نَجَم، لا جيش من الفرنسيين هَجَم، وأن هذه الصليبية لم تخف حِدَّتها، ولم يتغيّر لونها، ولم تضعف فَوْرَتُها بتعاقب السنين وتطور الأفكار؛ بل بقيت هي هي تَجَمْهَرت فرنسا أو تَدَكْتَرت، أو اختلفت عليها الألوان بَياضًا وحمرة على حد وصفه.
واتخذت فرنسا في ذلك سُبل القمع والقوة العسكرية والتطهير العرقي والمذابح في حق المقاومة الجزائرية منذ الأمير عبد القادر الجزائري في بداية الاحتلال الفرنسي ومرورا مقاومة الزعاطشة والشريف بوبغلة وحتى مقاومة المقراني وبوعمامة في الثلث الأخير من القرن التاسع عشر وانتهاءً بتشكيل بجمعية العلماء المسلمين الجزائريين ثم الإعلان عن قيام الثورة الجزائرية التي استمرت منذ عام 1954 وحتى الاستقلال عام 1962م.
وقد تجلى غدر الفرنسيين كما يتجلى غدر الإسرائيليين اليوم في كثير من الأحداث، لعل أبرزها ما وقع يوم 8 مايوأيار 1945م في اليوم الذي أُعلن فيه عن انتهاء الحرب العالمية الثانية، وفرحة الجزائريين بهذا اليوم حيث ظنّوا أن الفرنسيين سيصدقون في وعودهم التي وعدوهم إياها أثناء تلك الحرب بالجلاء عن الجزائر، فإذا هذا اليوم يتحول إلى مجزرة ضخمة لا يزال يخلدها التاريخ الحديث، وقد سقط فيها 45 ألف جزائري في يوم واحد، وارتفع العدد إلى مائة ألف شهيد بحلول نهاية ذلك الشهر، وذلك بحسب الباحث كمال بن يعيش في كتابه مجازر 8 مايوأيار 1945.. سطيف المجزرة الجماعية.
وأمام هذه المجازر والغدر، ونكص التعهدات أدرك الجزائريون أن المقاومة المسلحة هي السبيل الوحيد في مواجهة الاحتلال الفرنسي، تماما كما أدرك الفلسطينيون مبكرًا منذ الثورة الفلسطينية الأولى سنة 1936- 1939م أن مقاومة البريطانيين والحركة الصهيونية هي الحل الناجز، وقد تجلى ذلك في أثناء النكبة وعقبها وحتى يومنا هذا في معارك طوفان الأقصى.
كان تاريخ 23 أكتوبرتشرين الأول 1954 موعدا للقاء مجموعة الستة الذين أشعلوا الثورة الجزائرية ومأسسوها؛ وهم محمد بوضياف، ومصطفى بن بولعيد، والعربي بن مهيدي، ومراد ديدوش، ورابح بيطاط وكريم بلقاسم، وقد اختاروا اسم جبهة التحرير الوطني لمنظمة تحرّرية مسلحة تعمل على استقلال البلاد، وطرد المحتل الفرنسي، على أن يكون الأول من نوفمبرتشرين الأول 1954، على الساعة الصفر ليلة 31 أكتوبرتشرين الأول موعدا لبداية هذه الثورة.
بدأت الثورة الجزائرية بمقاومة عددها 1200 شخص، وحوالي 400 قطعة سلاح، وقد انطلقت من جبال الأوراس في شرق الجزائر وبعد التضييق الفرنسي الكبير طوال أشهر، والاعتقال والقتل في حق الجزائريين جاء مؤتمر الصومام في أغسطسآب 1955م ليُعيد ترتيب الثورة الجزائرية وهيكلتها، حيث تم تقسيم الجزائر إلى ست ولايات، تنقسم إلى مناطق، وكل منطقة تتفرع إلى نواحٍ، وكل ناحية تنقسمُ بدورها إلى مجموعات عمل، كل منها كبُر أم صغر يعمل فوق قيادة الثورة العليا وتوجيهاتها.
ومن أبرز التكتيكات التي اتخذها المقاومون الجزائريون في تلك الحقبة أمام المحتل الفرنسي تمثلت في استغلال المناطق الجبلية الوعرة للإثخان في العدو، وانتهاج حرب العصابات، والضربات الفردية والتفجيرات والاغتيالات في المدن الكبرى ، كما حصل في العاصمة الجزائر فضلا عن الإضرابات العامة التي نجحت نجاحا كبيرًا.
كانت عمليات الثوار تقوم عادة في شكل كمين وهجوم ثم اشتباك مع العدو الفرنسي، تماما كما تقوم المقاومة اليوم في غزة، وحرص المقاومون على أن تكون عملياتهم يومية لضمان إرهاق وإيقاع الخسائر في صفوف الفرنسيين، وعلى الرغم من أن الفرنسيين كانوا أصحاب اليد العليا في عدد القوات والأسلحة وأنواعها فضلا عن سلاح الطيران، فإن حرب العصابات والكمائن التي كان يتخذها الجزائريون دفعت الجنرال ديغول في نهاية المطاف إلى قبول الحوار والتوصل لحلول مع منظمة التحرير الجزائرية.
حرصت القيادة العليا لمنظمة التحرير الجزائرية على تلقي الدعم من القوى الإقليمية والدولية المناوئة للإمبريالية الغربية، فاحتضنتها القاهرة أيام عبد الناصر وأمدتها بالسلاح والعتاد، وكذلك لجأت المقاومة الجزائرية إلى الاتحاد السوفيتي لتحقيق التوازن التسليحي والعسكري في مواجهة السلاح الفرنسي والغربي المتطور.
وبين إعلانه التفاوض سنة 1958 والجلاء عن الجزائر استمرت المعارك أربع سنوات كاملة أدرك فيها الفرنسيون أنهم لن يستطيعوا الوقوف أمام تصميم وعزم الجزائريين على تحرير بلدهم، فضلا عن الخسائر اليومية في الأرواح والعتاد، وفي 5 يوليوتموز 1962م حصلت الجزائر رسميا على الاستقلال، وانسحب المحتل الفرنسي عن البلاد التي أوقع فيها ملايين الشهداء بعد أكثر من 130 عامًا من الاحتلال، فهل تُعيد المقاومة الفلسطينية سيرة المقاومة الجزائرية الأولى | https://www.aljazeera.net/turath/2024/8/3/%d8%a7%d9%84%d9%85%d9%82%d8%a7%d9%88%d9%85%d8%a9-%d9%81%d9%8a-%d8%ba%d8%b2%d8%a9-%d9%87%d9%84-%d9%87%d9%86%d8%a7%d9%83-%d8%aa%d8%b4%d8%a7%d8%a8%d9%87-%d9%85%d8%b9-%d8%ab%d9%88%d8%a7%d8%b1 | 2024-08-03T11:10:49 | 2024-10-16T00:47:26 | أبعاد |
|
84 | كيف أعرف إذا ما كانت طفلتي قد تعرضت للتحرش؟ وماذا أفعل؟ | ما من مسؤولية أكثر خطورة من مسؤولية أن تكونين أُمًّا أو أن تكونَ مسؤولًا كأب يحمل على عاتقه هواجس تربية أطفاله وحمايتهم.. فماذا لو عرفت أن طفلك قد تعرض للتحرش؟ ماذا تفعل؟ | ما من مسؤولية أكثر خطورة من مسؤولية أن تكونين أُمًّا أو أن تكونَ مسؤولًا كأب يحمل على عاتقه هواجس تربية أطفاله وحمايتهم والاعتناء بهم. ولا شك أنّ أنواعًا مختلفة من المخاوف التي تحيط بك كمُقدِّم رعاية كوالد أو والدة، ولا شكّ أن أكثر المسؤوليات حساسية ما يتعلّق بحماية أطفالك. ولعلّك تستمع إلى قصصٍ عابرة هُنا وهُناك في إحدى الجلسات عن تعرّض أحد الأطفال للتحرّش أو الاعتداء، لكنّك لا تستطيع أن تصرف ذلك الصوت بسهولة، صوت المخاوف والوساوس التي تخبرك هل يمكن أن يكون طفلي قد تعرّض لمثلِ هذا أيضًا؟
من المهم أولًا أن تعرف عددًا من الحقائق العلمية حول موضوع التحرّش، ما تخبرنا به الأرقام والإحصائيات عن شيوع مدى شيوع هذه الظاهرة وعن المُرتكبين المُحتَمَلين لمثلها، وعن السياقات المُمهّدة لوقوع مثل هذه الحوادث المؤسفة. ومن ثمّ نأخذك في هذا المقال في رحلة كي نُرشدك إلى المؤشرات الأساسية التي قد تكون علامة على تعرّض الطفل للتحرّش -لا قدّر الله- ومن ثمّ نستعرض معًا أهمّ التوصيات والإرشادات العلمية بحسب علماء النفس وخبراء التربية في كيفية التعاطي مع مثل هذه المواقف، وكيف نتصرّف في حال علمنا بتعرّض أطفالنا للتحرّش أو الاعتداء؟ وما رد الفعل الذي يتوجب علينا اتخاذه حينها؟
تقدر الإحصائيات الأكثر حداثة ودقة، كتلك التي أجرتها Darkness to Light عام 2013، أن 1 من كل 10 أطفال دون سن 18 عاما يتعرضون للاعتداء الجنسي12. وتأتي الأغلبية الساحقة من حالات التحرش بالأطفال من شخص موضع ثقة أو ذي معرفة مسبقة بالطفل، كأن يكون جارا أو قريبا أو صديقا للعائلة، وذلك وفقا للمجموعة الوطنية لعلاج صدمات الأطفال الأميركية NCTSN3.
يميل الجانيالمعتدي إلى تطبيق ما يسمى الاستمالة، أي مصادقة الطفل وأسرته والتقرب منهم بغرض اكتساب ثقتهم؛ ليتسنى له الانفراد بضحيته والاعتداء عليها. قد تتضمن تلك الإستراتيجية سلوكيات، كالاهتمام الخاص بالطفل، وإغراقه بالنزهات والهدايا والحلوى، وعزله عن الآخرين، وتلبية احتياجاته، واتخاذ أحد الأدوار داخل الأسرة، ومعاملة الطفل كما لو كان أكبر سنا.
بعض العلامات الجسدية والسلوكية تنذر بأن الطفل تعرض للتحرش، كإبداء ممانعته أو عدم رغبته وخوفه من البقاء في رعاية شخص بعينه، والتشبث بأبويه، وتردده في الخوض في تفاصيل الوقت الذي يقضيه مع أحدهم، وانسحابه إلى الصمت على غير عادته، وقلقه وسرعة انفعاله، وزيادة شهيته للطعام أو نقصانها، وارتداده إلى عادات كان قد كف عنها، كالتبول اللاإرادي، ومص الإبهام، ورؤيته المتكررة للكوابيس، وامتلاك مخاوف جديدة، كالخوف من الظلام، أو على النقيض منها كثرة النوم؛ ليبدو على محياه استياء سرعان ما يفصح عنه بأن يجهش بالبكاء.
أضف إلى ذلك اكتشاف نقود أو أشياء شخصية أخرى بحيازة الطفل دون علم الأبوين بمصدرها أو طريقة حصوله عليها. ويُظهر الطفل المعتدَى عليه أحيانا شكلا أكبر من الطاعة، أو شكلا أكبر من التمرد، كما يقضي وقتا أكبر بمفرده، وتظهر عليه محاولات تجنب التجرد من الملابس لتغييرها أو الاستحمام، بل وربما يخشى أماكن بعينها، كالمراحيض. ويبدي معرفة بأمور تفوق إدراكه أو عمره، آتيا على ذكر كلمات وتصرفات جديدة غير لائقة، بها إيحاءات تنم عن وعي ذاتي مفاجئ بأمور أو ألفاظ جنسية45.
إلا أنه من المهم أن نعي أن التحرش بالأطفال يشتمل على مجموعة متضافرة من سلوكيات العديد منها لا يترك أي علامات جسدية، لذلك لا يمكننا الجزم إن كان الانتهاك الجنسي حقا هو مصدر هذه التغييرات أم لا، لكن المؤكد أن مثل هذه التبدلات التي يستشف منها الأبوان وجود خطب ما طرأ على طفلهما، تستدعي التعامل معها بجدية ومحاولة تفكيكها.
يحدث ألا يتطرق الطفل إلى ما تعرض له، ويُفضّل إخفاءه عن والديه6 لاعتبارات يضعها في عين الحسبان، كحرمانه من العطايا التي يغدقه بها المعتدي، أو لتعرضه للتهديد بالضرب أو العقاب إذا باح لأحد، أو لأن أبويه سيوبخانه إن علما بما حدث. وربما يلحق بالطفل شعور عميق بالحزن والخزي والعار، وأنه يتحمل جزءا من المسؤولية والذنب مما حدث.
الذنب؛ لأنه -كما يفكر- لم يكن في مقدوره إيقاف ما حدث، لأنه وافق على الاستسلام، ولإبقائه ما حدث سرا ولم يحادث به أحدا أول مرة. أما إحساسه بالخزي فمرده إلى أنه شارك في هذا الفعل المشين، وأنه ما زال يحب المعتدي لمكانته القريبة منه7.
جزء من الاستدلال منوط بعلاقة الأبوين بصغارهما، بحجم غيابهما أو حضورهما الدافئ، أو المتسم بقسوة، ومدى انفتاحهما لخوض حوار. فقد لا يقول بعض الأطفال شيئا لأنهم يعتقدون أن لا أحد يهتم بما يحدث لهم. قد يكون الآخرون أصغر من أن يقولوا، لكن الإنصات الجيد للتفاصيل اليومية للطفل واحترام رغبته هو إحدى السبل التربوية التي يشدد عليها علماء النفس؛ لخلق علاقة متينة وآمنة يفهم فيها الصغير أنه ما من أسرار يتوجب عليه حجبها. ففي بعض الأحيان يتحدث الأطفال بطريقة ملتوية8، كأن يقولوا لا أحب أن أكون بمفردي مع الآنسة م، أو يتصرف السيد ب بشكل غريب معي.
يرجع صمت بعض الصغار إلى التردد والخشية من طَرْق منطقة محظورة ومعتمة في بيوت عربية كالجنس، حيث يحاط كل ما يتصل بذلك المفهوم بالتكتم والتحفظ، لذا فإن كثيرا من الصغار الذين يفشون ما تعرضوا له لعائلاتهم يُطلب منهم أن يلوذوا بالصمت خوفا من الفضيحة، وتزداد احتمالية طَيّ ذلك الموقف لو كان المتحرش فردا من الأسرة، ليُهمس للضحية حينها بأن تنسى ما قالته وتدع ما حدث جانبا، كي لا يتمزق شمل العائلة أو يُنظر إلى الضحية بتوجس لا يخلو من إدانة عما حدث لها، أو أن يرفض أحد الأبوين قبول تلك الحقيقة الصادمة فيدعي بأن شيئا لم يكن.
يصعب تقبل أمر كهذا، وإن ظل طي الكتمان داخل المعتدى عليه، لينال لاحقا من جانب في شخصية الإنسان، فيظهر في قلة الثقة بالنفس وفقدان الإحساس بالأمان والقلق والاكتئاب وضعف القدرة على التحكم في الانفعالات، لكن الأشد خطرا هو وضوح جوانب مَرَضية، كتنامي نزعة انتقامية أو عقد نفسية تتضح بشكل جلي في تصرفاته المستقبلية مع الأطفال، كأن يكون هو الجاني بممارسة اعتداءات على أطفال آخرين مستقبلا 9، أو أن ترافقه الصدمة في الكبر وتشوش على إدراكه لبعض الأمور.
من المحتمل أن لا ينبس طفلك ببنت شفه، إلا أن القلق يساورك جراء ملاحظتك لعلامات محددة، أو ربما طَرَح الطفل بضعة أسئلة عليك أو أخبرك أحدهم أنه لاحظ شيئا ما أو أن طفلك قال شيئا ما. يمكنك تحفيزه على التحدث من خلال الاستفسار بأقوال مثل تبدو مضطربا، هل هناك أي شيء يقلقك؟، أو هل أنت بخير؟، يمكنك أيضا طمأنته بقولك لا شيء كبير جدا أو صغير جدا أو مروع جدا لدرجة أنك لا تستطيع الحديث عنه.
حرض صغيرك أو صغيرتك على وصف دواخلهـا بقول أشياء مثل متى شعرت بالضحكالألمالانزعاج؟، أما إن كانــت على أعتاب المراهقة، فيمكنك أن تقول أستطيع أن أرى أنك تعاني من أجل شيء ما، أتساءل ما الذي يقلقك؟، إن شعرت أنه قد يُفضِّل التحدث إلى شخص آخر موثوق بدلا منك، فيمكنك أن تسأل هل هناك شخص يمكنك التحدث إليه؟.
لن يجدي الانفعال أو النحيب ما دام أنه لا يَطُول المتحرش بل يُوجَّه نحو الضحية، لذا حاول أن تظل هادئا حتى لا يلوم الطفل نفسه ويظن أنه المذنب. إذا أبديت ثورة واهتياجا فقد يُغيّر الطفل قصته أو يتراجع عنها10، لذا التقط أنفاسا عميقة، إذ يحفّز التنفس بعمق وببطء الجسم على التوقف عن إفراز هرمونات التوتر والبدء في الاسترخاء11.
كن دافئا عطوفا تجاه طفلك، وتَقَبّل أنه قد يكون لديه مشاعر معقدة حول ما حدث، لكن لا تحاول افتراضها أو التكهن بها، ولا تخشَ من كسر ثقافة الصمت التي تنتهجها مجتمعاتنا والتي تشجع المعتدين على التمادي.
استمع بآذان صاغية إلى كل ما يقوله طفلك، لعلك بهذا تبدد حالة الخوف والتوتر التي تعتريه وهو يروي ما حدث. نعم قد لا يخبرك بكل شيء دفعة واحدة، وإنما تدريجيا على مدار عدة أيام أو أسابيع، لذا تحلَّ بالصبر، وامنح صغيركتك الوقت لمشاركة ما بداخلهـها. لا تقاطعه، دعه يبوح بالقصة بكلماته الخاصة دون تبديل ألفاظه، وبالسرعة التي تناسبه، وأكِّد له أنك ستستمع إليه مهما حدث.
إذا كنت بحاجة لطرح أسئلة فاجعلها مفتوحة، مثل ماذا حدث بعد ذلك؟، احصل على معلومات تفصيلية وكافية منه، وتعرف على الوضع الحقيقي، وكم عدد المرات التي تعرض فيها للتحرش وكيفيته ومكانه ووقته، فحينما يُسمح للطفل بالتعبير الحر يساعده ذلك على التخلص من المشاعر السلبية التي تسمح له بالانطلاق والتفريغ؛ ما يخفف من وطأة المشكلة على نفسه.
صدِّق طفلك، وأخبره بذلك، حتى لو بدا لك بدايةً أن ما يتفوه به غير واقعي أو لا معنى له. بعد معرفتك لما حدث ابذل ما بوسعك حتى تمد الطفل بالراحة وتنفض عنه الضيق والجزع اللذين لم يفارقانه منذ أن تعرّض للموقف، وذلك بإظهار الحب له، وعدم سؤاله عن سبب عدم إخبارك بالأمر في وقت مبكر، حتى لا يلوم ذاته1213.
أبلِغه مدى تفهمك لما تعرض له وأنه كان ضحية، وتقديرك لمشاعره الخائفة، مع التأكيد على أنه هو الذي يهمك، وأنك ستعاقب من تعرض له، وستعمل على حمايته. علِّمه كيف يتصرف مستقبلا، حدِّثه عن مدى شجاعته وأنه قد فعل الشيء الصحيح بالتحدث معك.
قد يطلب منك طفلك التعهد بعدم إخبار أي شخص آخر، لا تقطع وعودا يصعب الوفاء بها، يمكنك القول إنك ستبذل قصارى جهدك للحفاظ على سلامته؛ ما قد يعني أنك ستحتاج إلى التحدث إلى أشخاص آخرين، ولكنك ستخبره بما ستفعله.
أَبعِد الطفل عن الشخص الذي قام بالتحرش، واحمِه منه، وذلك بإخطار الشرطة أو هيئة مختصة. وإذا كان المتحرش يعمل في مكان يوجد فيه أطفال أو على احتكاك معهم، حذِّر الإدارة التي يعمل لديها من أجل حماية الأطفال الآخرين، وذلك بعد التأكد التام من أنه هو من قام بالتحرش. أما في حال اكتشفت أو شككت بأن طفلك قد تعرض للاعتداء الجنسي من قبل أحد أفراد الأسرة، فجد طريقة لإدارة مشاعرك، حتى تتمكن من التركيز على خلق بيئة آمنة لطفلك خالية من الأذى والحكم واللوم.
إن كانت هناك شكوك بإصابة الطفل بجروح أو رضوض، فخذ الطفل لإجراء فحص طبي ولتقديم العلاج اللازم له، ويجب عرضه على المختص النفسي لعلاج ما يسمى بتفاعل ما بعد الصدمة، وللتغلب على مشاعر الخوف والقلق التي يصاب بها الطفل بعد الاعتداء عليه، ولإعادة التأهيل النفسي للطفل بعد أن اختلط لديه مفهوم الجنس والحب، وبعد فقدانه الثقة في نفسه؛ حتى تتلاشى لديه الأعراض التي رافقته.
تواصَل مع خط الأطفال الخاص ببلدك، على سبيل المثال الأردن 110، وفي السعودية 1098، وفي مصر خط نجدة الطفل الخاص بالمجلس القومي للطفولة والأمومة 16000، أو الهيئات الحقوقية لحماية الطفل، أو قدم بلاغا في مركز الشرطة.
يتحاور كل من د. عصام سمير، الحائز على دكتوراه في علم النفس، والمحامية والناشطة الحقوقية لبنى دواني النمري بشأن ما يتحتم أن يعيه الآباء عند تعاملهم مع أبنائهم، كعدم إكراههم على وصال من لا يطمئنون إليهم، والإبقاء على مساحات مفتوحة من العطف والتفاهم بينهما. إلى جانب ضرورة توعية الأطفال عن أجسادهم دون كلفة أو حرج، والحديث عن الحدود الفاصلة التي لا يمكن لأي أحد أن يتخطاها؛ ليدركوا ما هو التحرش وكيفية التصدي له.
اعرِض على صغارك كتبا وأفلاما توعوية حتى لا يقعوا في تلك التجربة مجددا على جهالة، وحتى لا يشعروا بالعزلة أو الانفصال أو الدونية، حتى يدركوا أن ذلك قد يحدث لأي أحد في أي مرحلة عمرية، للذكور والإناث على حد سواء.
إليك فيلما قصيرا، وكتابا مُصوَّرا، تُفسِّر بسرد قصصي بصري عدة محاور تفصيلية تخص التحرش، مثل ما هو اللمس الآمن كالذي يصدر عن الأم والأب وغير الآمن الذي لا يبعث على الراحة، أكان صادرا عن غرباء كانوا أم أصدقاء.
خط أحمر إصدار دار الساقي بيروت
| https://www.aljazeera.net/sukoon/2022/11/21/%d9%83%d9%8a%d9%81-%d8%a3%d8%b9%d8%b1%d9%81-%d8%a5%d8%b0%d8%a7-%d9%85%d8%a7-%d9%83%d8%a7%d9%86%d8%aa-%d8%b7%d9%81%d9%84%d8%aa%d9%8a-%d9%82%d8%af-%d8%aa%d8%b9%d8%b1%d8%b6%d8%aa | 2022-11-21T08:09:19 | 2024-05-30T09:55:49 | أبعاد |
|
85 | بحثًا عن التفاحة الحمراء.. سلجوق بَيْرَقْدار مهندس المُسيَّرات الطامح لتغيير العالم | يوصف سلجوق بأنه “أبو المسيّرات التركية المقاتلة”، فتأثيره لم يقتصر على تطوير الطيران المسيّر داخل تركيا، بل أصبحت شركته رائدة في تصدير أقوى المسيّرات عالميا، فما قصة سلجوق، وكيف وصل لهذه المكانة؟ | بدأتُ لقائي الطويل مع المهندس سلجوق بيرقدار بطلب شخصيٍّ، وهو أن يتجنَّب الحديث في الأمور التقنية المعقَّدة، فأنا شاعرٌ مهتم بالشؤون السياسية والإستراتيجية، ضعيف الفهم للأمور التقنية، وحينما بدأ مدرِّسي المصري في السنة الأولى الإعدادية -الأستاذ مجدي ذكره الله بخير- يتحدث أمامي بلغة رياضية، في مدينة النعمة الموريتانية النائية، ويرسم رموزا رياضية على السبورة، لم أفهم شيئا مما قال، فهربتُ من المدرسة الإعدادية بعد شهرين فقط من الدراسة فيها.. ولولا أن يسر الله لي التوجه إلى العلوم الاجتماعية والإنسانية، بعد سنين من الانقطاع عن الدراسة الرسمية، لربما كان ذلك آخر عهدي بالعلم والتعلُّم. وقد وعدني سلجوق بمراعاة هذه الصفحة المحرجة من تاريخي الشخصي، ووفَّى بوعده على أحسن وجه.
يوصف سلجوق بأنه أبو المسيَّرات التركية المقاتلة، ويقارنه كثيرون بالمبتكِر الأميركي الشهير ستيفْ جوبز، وبرجل الأعمال الصناعي الأميركي إيلون ماسك. فهو شاب متوقِّد الذكاء، صَلبُ العزيمة، واضح الرؤية، قويُّ الانتماء. حمَل همَّ الاستقلال التكنولوجي لبلاده في مجال الصناعات الدفاعية، وتركَّز جهده على صنف حسَّاس من التكنولوجيا العسكرية، هو المسيَّرات العسكرية، وهي إحدى السِّهام الأساسية التي تشير إلى مآلات الحروب في المستقبل. وقد انتزع سلجوق بمنجزاته في هذا المضمار مكانة خاصة في تاريخ الابتكار الصناعي العسكري، وأسهم في وضع تركيا على خريطة الدول الرائدة في هذا المضمار، وجعل منها مصدِّرا للإنتاج العسكري للعديد من دول العالم، بكل ما يترتب على ذلك من حضور دبلوماسي، ومكانة سياسية، ومكاسب اقتصادية.
وهذه رحلتي الخاصة مع هذا المهندس والمبتكر المتميز. وقد استمدَّ هذا النص مادَّته الأساسية من لقاء طويل وحديث متدفق -دام ساعات عِدَّة- مع سلجوق في مكتبه بشركته بايكار في ضواحي إسطنبول، ثم من عدد وافر من المصادر التي تناولت تاريخ الشركة، ومنتجاتها، والمغزى الإستراتيجي لما حققته وما تسعى إلى تحقيقه، بالنسبة لتركيا، وبالنسبة لفنِّ الحرب بشكل عام. وقد شمل الحديث مع سلجوق جوانب شخصية من حياته، مثل جذور عائلته، وبيئته الاجتماعية، ونشأته الأولى، وذكريات طفولته، وما اكتسبه من والده، ومن عائلته بشكل عام، من صفات، مرورا بدراسته في تركيا والولايات المتحدة، ومشاركته مع والده في مشاريعه التصنيعية، ثم حمْله إرثَ والده بعد رحيله، ونقْله ذلك المجهود نقلة نوعية. وقد انتهى الحوار الطويل بنقاش قضايا الإستراتيجية مثل موقع تركيا ودورها الإقليمي والدولي، ومسائل فلسفية مثل العلاقة بين العلم والإيمان والضمير.
بين بحيرتيْ شكمجة في مدينة إسطنبول، يفترش مبنى شركة بايكار الذي التقيتُ فيه المهندس سلجوق مساحة فسيحة، وهو مُصمَّم على نمط عصري فريد، ويشمل مكاتب البحث والتطوير، وورشات التصنيع، وقاعاتِ عرضٍ واسعة تضم أصناف المسيَّرات التي تنتجها الشركة. ومن الواضح أن المبنى صُمِّم ليكون بيئة مريحة للعمل، بما يضمه من مسابح، وصالات رياضية، ونواد اجتماعية، ومؤسسات صحية. ويعمل في الشركة آلاف الموظفين، من بينهم 2300 مهندس، ينتمون إلى ثلاثة عشر فرعا من فروع الهندسة، وغالبيتهم من الشباب، حيث معدَّل أعمار العاملين في الشركة لا يتجاوز 28 عاما.
وفي مكتبه الزجاجي الفسيح، رحب بي المهندس سلجوق بيرقدار بحفاوة وود، وكان أثناء حديثنا يراقب طائراته المسيَّرة على شاشات بجانب مكتبه، وهي تحلِّق في رحلات تجريبية -فيما يبدو- وقد ظهرت على الشاشات معلومات عن ارتفاع كل منها وسرعتها. وهو يحدِّق في تلك الشاشات من وقت لآخر، ويقطع الحديث بجملة أو جملتين أحيانا، تعليقا على تلك الرحلات. وفي زاوية المكتب سبورة دوَّن عليها ما يبدو أنه مُعطيات ومعادلات رياضية، بدت لي طلاسمَ فلم أفهم منها شيئا على الإطلاق
لم يكن صدفةً أن اختار المهندس سلجوق بيرقدار اسم التفاحة الحمراء Kızıl Elma لدُرَّة الصناعة العسكرية التي تنتجها شركته بايكار، وأن يعلن عنها في الذكرى المئوية لتأسيس الجمهورية التركية. وهي أحدث جيل من الطائرات المسيَّرة التي صمَّمها هو وفريقه. وليست التفاحة الحمراء بالمسيَّرة العادية، بل هي طائرة مقاتلة ذات قدرة هائلة على المناورة، وبمميزات شبَحِية تجعل من العسير على الرادات اكتشافها، فضلا عن قدرتها على الإقلاع والهبوط الآلي على مدارج قصيرة. ويعتقد سلجوق أن طائرة التفاحة الحمراء تمثل مستقبل الطيران في العالم. فنحن لم نعد أتباعا لأرباب الصناعات في هذا المضمار، بل أصبحنا شركاء في صناعة التاريخ كما قال لي.
وللتفاحة الحمراء -كرمز ثقافي- مكانة خاصة عند الأتراك، فهي ترمز إلى الريادة بين الأمم. وقد تردَّد صدى هذا الرمز الثقافي في الأدب التركي والثقافة الجماهرية التركية المعاصرة. ففي مطالع القرن العشرين نشر الشاعر وعالم الاجتماع التركي ضياء غوك ألب 1875-1924 ديوان شعر بعنوان التفاحة الحمراء، مستلهِما هذا الرمز العتيق في الثقافة الشعبية التركية. وكتب ضياء في إحدى قصائد الديوان إن غايتنا في هذا العالم الفاني هي الوصول إلى التفاحة الحمراء. فاقتطاف التفاحة الحمراء هو التتويج النهائي للمسار التاريخي التركي خلال أكثر من ألف عام، بمحطاتها الفارقة التي تضمَّنت ملاحمَ تاريخية، منها معركة ملاذ كرد 1071م، وفتح القسطنطينية 1453م، ثم معركة جناق قلعة 1915-1916، وحرب التحرير الوطني 1918-1923م، وأخيرا ملحمة 15 يوليو 2016 التي أفشلت الانقلاب العسكري على الديمقراطية التركية. ومن طريف المصادفات أن انطلاق طائرة التفاحة الحمراء يأتي بالتزامن مع الذكرى المائوية لوفاة الشاعر ضياء غوك ألب، صاحب ديوان التفاحة الحمراء الذي توفي عام 1924.
وقد أصبح ضياء غوك ألب بدواوينه الشعرية الثلاثة التفاحة الحمراء، والحياة الجديدة، والضوء الذهبي، من أكثر الشعراء الوطنيين شعبية في تركيا. وهو شاعر الرئيس رجب طيب أردوغان المفضَّل، وصاحب الأبيات الشعرية الشهيرة التي سُجن أردوغان بسببها قبل أكثر من عَقدين من الزمان، في مهزلة سياسية وقانونية تدل على ضيق أفق النخبة العلمانية المتحكِّمة آنذاك، وهي قول ضياء المآذن رماحنا، والقباب خوذاتنا، والمساجد ثكناتنا، والمؤمنون جنودنا. وقد أشار الرئيس أردوغان إلى رمز التفاحة الحمراء في خطاباته أكثر من مرة، ومن ذلك قوله مخاطبا الشباب الأتراك عام 2017 سوف نبني تركيا معكم عام 2023. أما التفاحة الحمراء المستقبلية فهي تركيا عام 2053 حينما نكون قد تركنا أمانة كل شيء بأيديكم. وهو يشير بعام 2023 إلى الذكرى المئوية الأولى لتأسيس الجمهورية التركية، وبعام 2053 إلى الذكرى المئوية السادسة لفتح إسطنبول.
وقد اختلف المؤرخون والكتَّاب في تفسير الدلالة الرمزية للتفاحة الحمراء لدى الأتراك الأقدمين، فمنهم من جعلها تعبيرا رمزيا عن الطموح لفتح مدينة القسطنطينية، ومنهم من رآها إشارة إلى السقوف الطينية الحمراء السائدة في المدن الأوروبية العتيقة التي استهدفها العثمانيون بالفتح في أوج اتساع إمبراطورتيهم، ومنهم من يعتبر التفاحة الحمراء رمزا للكرة الأرضية، فهي -طبقا لهذا التفسير- تعبير رمزي عن الطموح إلى القيادة والريادة العالمية. والظاهر أن جاذبية هذا الرمز تكمن في غموضه ودلالاته المفتوحة، فهو يرمز إلى كل ما طمح إليه الأتراك من أهداف ظاهرة أو مُضْمَرة خلال مسارهم التاريخي الطويل. وتحت مظلة هذه الدلالات المفتوحة دخلت طائرة التفاحة الحمراء العسكرية المسيَّرة، فهي أبلغ تعبير عن هذا الرمز الثقافي في تركيا اليوم.
سألتُ المهندس سلجوق بيرقدار ماذا يعني له رمز التفاحة الحمراء؟ ولماذا استلهم هذا الرمز الثقافي التركي في تسمية دُرَّة منتجاته العسكرية، طائرة التفاحة الحمراء المسيَّرة؟ وإذا كانت التفاحة الحمراء ترمز للغاية البعيدة المنال، فهل هو يرى أن تركيا قد حققت هذه الغاية من خلال تصنيعه لطائرات التفاحة الحمراء المقاتلة؟ أم أن التفاحة الحمراء غاية لا تُدرك، والمهم هو السعي إليها؟
فذهب إلى أن فكرة مسيَّرة التفاحة الحمراء ظلت تختمر في عقله منذ أن بدأ مع والده بحوثا تجريبية لتصنيع مسيَّرة صغيرة لا يزيد حجمها على ستة كيلوغرامات. لكن هذا الحلم لم يتحقق إلا بعد نحو عشرين عاما من التطوير والجهد الدائب الذي لا يعرف الكلل أو الملل. ولأن التفاحة الحمراء غاية مفتوحة، فيجب أن يكون الطموح إليها أفُقًا مفتوحا، والسعي إليها سعيًا دائبًا، بحيث يتحول السعي غاية في ذاته. ولذلك فإن النجاح في تصنيع طائرة التفاحة الحمراء مجرد محطة على الطريق، ستليه محطات أخرى ذات صلة بغزو الفضاء وغيره من مشروعات. وقد ذكَّرني حديث المهندس سلجوق بطرف من أشعار جلال الدين الرومي 1207-1273، دفينِ مدينة قونية التركية التي كانت عاصمة الإمبراطورية السلجوقية، حيث يقول الرومي واصِل السير. لا توجد وِجْهة نهائية، فلا تحاول رؤية الغاية من بعيد.
في شمال شرق تركيا حيث تنتاب التضاريسَ نزعة للعلوّ، فتمتد اليابسة المُطلّة على البحر الأسود لمصافحة السماء، ترجع جذور أسرة المهندس سلجوق بيرقدار. وكان جده لطفي رئيس صيادًا، قويَّ الشكيمة، فضوليًّا، ذا روح مغامرة. وكان يأخذ معه أبناءه وأحفاده في رحلات بحرية لصيد السمك. وقد هاجرت الأسرة إلى حيّ غريبجه في إسطنبول، الذي يكاد يكون قطعة مستعارة من منطقتهم الأصلية، إذ إن هذا الحي من مدينة إسطنبول أشبه ما يكون ببلدة صغيرة من بلدات البحر الأسود. فقد جمع الحي بين الطبيعة الجبلية والساحلية، وتجمَّع فيه عدد من المهاجرين الغرباء من شتّى مناطق الأناضول. وربما يكون ذلك سبب تسمية الحي غريبجه التي تعني الغريب.
في ذلك الحي ولد سلجوق عام 1979، لأسرة محافظة اجتماعيا، عميقة الحاسَّة الوطنية سياسيا، وفيها صلابة وشجاعة. والمعنى الاشتقاقي لاسم العائلة له دلالة خاصة، إذ تعني كلمة بيرق باللغة التركية العَلَم، وطبقا لكتاب المعجم الموسوعي للمصطلحات العثمانية التاريخية لمؤلفه الدكتور سهيل صابان، فإن لفظ بيرق كان يُطلق في الأصل عند أتراك آسيا الوسطى على قِطع الأقمشة المختلفة الألوان والأبعاد، الممنوحة للأبطال الذي أظهروا بسالة في الحرب، أما لفظ بيرقدار ويُنطق تاء بالتركية فمعناه حامل العلَم.
ويبدو أن الطبيعة تركت بصمتها على شخصية سلجوق وعائلته، فمن البحر استلهم في طفولته ثقافةَ الكفاح، وروح المغامرة والمخاطرة. كما أنه متعلق تعلُّقا عميقا بمنطقة طرابزون، وهي منطقة معروفة بثقافة العمل والجِدِّ، وبتقاليد أهلها العريقة، المنقوعة في القيَم الاجتماعية الإسلامية.
سألت سلجوق لماذا لم يفقد الأمل بعد أن تحطَّمت طائراته المسيَّرة عدة مرات في تجاربه الأولى، بل أصرَّ على تكرار المحاولات وتحسينها، حتى وصل إلى ما يطمح إليه من إتقان. فمن أين له بهذه العزيمة وهذا الإصرار؟ فأشار إلى صلابة والده الذي كان قدوته في هذا المضمار. ثم إلى ثقافة ساحل البحر الأسود ذي التضاريس الجبلية الوعرة. فالناس في تلك المنطقة اعتادوا صعود الجبال لزراعة الشاي وقطفه، وخوض غمار البحر لاصطياد السمك. فثقافة أهل طرابزون ثقافة كفاحية كما يقول سلجوق، لأنها تستلزم مصارعة الأمواج العاتية، وتسلُّق القِمم العالية، وهي الثقافة التي لقَّنها إياه أبواه منذ الطفولة. وهو مقتنع اقتناعا عميقا بأن الإيمان يحرِّك الجبال، وبأن الضغط يعلِّم الصبر، والصبر يقود إلى النجاح، والتحديات تجعل الإنسان أقوى. كما يؤمن بأنك إذا أردت نتائج استثنائية فعليك أن تعمل بطريقة استثنائية. وكأنما يؤمن سلجوق بحكمة الشاعر الروسي ألكسندر بوشكين 1799-1837 القائلة إن الضرب يكسِّر الزجاج، ولكنه يبلِّط الحديد.
وإذا كان لكل إنسان ذكرياتٌ خاصة يستبقيها من عهد الطفولة، وهي تشكِّل وعيه وطموحه المستقبلي، فإن سلجوق لا يزال يحتفظ بذكريات باقية من طفولته، تركتْ أثرها في قلبه وعقله. وقد سألتُه عن ذكريات الطفولة ذات الأثر الباقي في حياته، فذكر منها أن والده المهندس أوزدمير كان شَغوفا بالطيران، وكان يأخذه معه أحيانا -وهو لا يزال في الثامنة من عمره- إلى دروسه للتدريب على الطيران. وفي إحدى تلك الزيارات ركب سلجوق الطائرة مع المدرِّب، فانطبع في ذاكرته الشَّغف بالطيران منذ ذلك اليوم. ومن ذكرياته الباقية أيضا أن والده جلب له مرة مجسَّم طائرة، بعد رحلة له إلى اليابان.
تخرجتْ والدة سلجوق جَنان من كلية الاقتصاد بجامعة إسطنبول، وعمِلت مبرمجة كمبيوتر في بنك التنمية الصناعية التركي فترة من الوقت، وكانت صارمة في أمر دراسة أبنائها الثلاثة خَلوق وسلجوق وأحمد. فكانت تعينهم في دراستهم الابتدائية والثانوية، وتضغط عليهم ليجتهدوا ويتفوقوا في الدراسة. أما والد سلجوق، أوزدمير بيرقدار 1949-2021، فكان مهندسا موهوبا، شَغُوفا بعلم الهندسة، وفضوليا للغاية كما حكى لي ابنه سلجوق. وكان ذا شخصية صلبة، عظيمة الثقة في ذاتها، لا تعرف الاستسلام للصعاب، وتأنف من ضَعف الثقة في الذات الذي ظهرت أعراضه على بعض النخب التركية المتغرِّبة. كما كان أوزدمير شَغُوفا بعمله، لا يعرف الملل أو الكلل. وقد تربَّى سلجوق قريبا من والده، واتخذه قدوة في هذه الأمور. كما جمع بين الوالد والولد شغَفٌ عميق بصناعة الطيران، والتحليق إلى الأعالي، بمعناه الحقيقي والمجازي.
وقد تخرَّج أوزدمير من كلية الهندسة الميكانيكية بجامعة إسطنبول التقنية عام 1972 بشهادة الماجستير، متخصصا في المحركات ذات الاحتراق الداخلي، ثم دشَّن مشاريع صناعية طموحة، في وقت لم تكن في تركيا بِنية تحتيَّة صناعية راسخة. ففي منتصف الثمانينيات أسَّس شركة بايكار ماكينا الصناعية للإسهام في صناعة السيارات وغيرها من الصناعات الثقيلة. ثم اتجه بعد ذلك وجهةَ الطيران، فكان أشهر مشاريعه وأقربها إلى قصتنا، شركة بايكار، التي تولى ابنه سلجوق إدارة أمورها التقنية، وأنتجت في حياة أوزدمير جيلين من الطائرات المسيَّرة. وتلك هي البذور التي سقاها سلجوق ورعاها بعد رحيل والده، حتى استوتْ على سُوقها، وأصبحت من درر الصناعة العسكرية في عَالم اليوم.
وسرعان ما تلاقى شغف الأسرة بالطيران، وانتماؤها الوطني الصلب، مع حاجات الجيش التركي إلى فتح ثغرات إستراتيجية في هذا المضمار، تُعينه في التغلب على العوائق والتحديات. وفيما بين العامين 2005-2009 دخل أوزدمير في شراكة مع الجيش التركي لتصنيع مسيَّرات بيرقدار الصغيرة التي سدَّت ثغرة مهمة في عمليات الجيش الاستطلاعية. وبدأ الجيش التركي استخدام هذه المسيَّرات منذ عام 2007. ثم تطورت العلاقة بين الشركة والمؤسسة العسكرية التركية إلى آفاق أرحب. وكانت مسيَّرات بيرقدار الصغيرة الاستكشافية فتحا مبينا بالنسبة للجيش التركي، لأنها مكَّنته من استكشاف المناطق الجبلية الوعرة، دون مخاطرة بأرواح جنوده.
كان أوزدمير شجاعا جَسورا، لا يتردد في المخاطرة بالسفر إلى المناطق الجبلية الوعرة على الحدود، من أجل اختبار المسيَّرات الاستطلاعية التي صنَّعتها شركته للجيش التركي، ومراقبة أدائها في الميدان. وكان سلجوق وخلوق يصحبان والدهما في تلك الرحلات الخطرة. وأحيانا يسافر سلجوق من مدينة بوسطن في الولايات المتحدة -حيث كان يدرُس- إلى تلك المناطق الحدودية النائية من تركيا، لمشاركة والده وأخيه اختبار أداء المسيَّرات، وتطبيق ما كان يتعلمه في معهد ماساشوستس للتكنولوجيا MIT تطبيقا حيًّا في الواقع الميداني. وبهذه الشجاعة والالتحام بجنود الجيش في الميدان اقتنعت قيادة الجيش التركي بأن أوزدمير وأبناءه نمط خاص من الشركاء الملتزمين، الذين يمكن الاعتماد عليهم حقا، وليسوا مجرد رجال صناعة عاديين يبحثون عن الربح وجمع المال.
رسمت كلمات المهندس أوزدمير بيرقدار مسار ابنه من بعده، حين قال سيستمر عملنا دون كلل، وبكل ذرة من كياننا، إلى أن يحقق بلدنا هدفه، بالتحول إلى دولة رائدة في صناعة الطيران المسيَّر. وتلك رسالة شاركه فيها ابنه سلجوق في حياته، وتابعها بعد وفاته. ففي عام 2021 توفي المهندس أوزدمير، تاركا وراءه ذكرى طيبة، ومشروعا صناعيا إستراتيجيا سيغير تاريخ تركيا بكل تأكيد، وربما سيغير تاريخ الحروب أيضا. وقد حملت عدد من المؤسسات العلمية والصناعية اسم أوزدمير، اعترافا بفضله، وتخليدا لذكراه.
ترك أوزدمير لأبنائه بيئة عائلية متدينة ومتماسكة، يترابط أفرادها برباط وثيق، ويجمع بينها التوجه إلى التخصص العلمي، والابتكار الصناعي، مع نجاح باهر في عالم المال والأعمال. ولا تزال ملامح هذه البيئة العائلية واضحة في أسرة سلجوق، فوالدته جنان لا تزال تعمل مع أبنائها في الشركة حتى اليوم. وحينما توسَّع المحيط العائلي لسلجوق عام 2016، بزواجه من سُميَّة أردوغان، ابنة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، لم تتغير البيئة العائلية كثيرا. ذلك أن أسرة أردوغان ترجع جذورها إلى منطقة البحر الأسود أيضا، فهي في الأصل من مدينة ريزه القريبة من مدينة طرابزون.
ويجمع بين الأسرتين -إضافة إلى الجذور الجغرافية- الاعتزاز بالهوية الإسلامية، والحاسَّة الوطنية العميقة، والقرب من مدرسة نجم الدين أربكان، والحرص على النهوض بتركيا، وانتزاع مكانة لائقة بها على الساحة الدولية. كما يجمع بين سلجوق وسمية أنهما خريجان من جامعات أميركية، فقد تخرجت سمية من جامعة إنديانا الأميركية متخصصة في علم الاجتماع والسياسة، ولها مساهمات في نشاط المنظمات الإسلامية الأميركية. وكانت دراستها في الولايات المتحدة اضطرارا، لا اختيارا، بسبب منع الحجاب الإسلامي في الجامعات التركية، رغم أن والدها كان رئيس الوزراء آنذاك
بدأ سلجوق دراسته الابتدائية في مدرسة تركية، ثم أكمل الإعدادية والثانوية في مدرسة روبرت الأميركية في إسطنبول، وهي مدرسة نخبوية خاصة، تخرَّج منها عام 1997، وكان متفوقا دائما في مادتي الرياضيات والفيزياء. ثم كان تعامله مع الكمبيوتر في البيت، والبدء في البرمجة وهو لا يزال في السابعة من عمره، من الأمور التي حبَّبت إليه التخصص في الهندسة الإلكترونية. وقد ظهرت لديه مواهب تطبيقية في هذا المضمار في عمر مبكر، منها أنه صنع -وهو لا يزال في سن المراهقة- آلة تسكب عليه الماء حينما يرنُّ المنبِّه، من أجل إيقاظه لصلاة الفجر.
وفي جامعة إسطنبول التقنية درس سلجوق الهندسة الإلكترونية والاتصالات، وكان يعمل -بالتوازي مع ذلك- في شركة والده، ويحاول أن يطبق ما يدرسه في الجامعة، فاعتاد على ترجمة المعارف النظرية إلى منجزات عملية. ثم رحل لإكمال الدراسات العليا بجامعتين عريقتين في الولايات المتحدة هما جامعة بنسلفانيا، ومعهد ماساشوستس للتكنولوجيا. فحصل على شهادة الماجستير في كل من الجامعتين، الأولى عام 2004، والثانية عام 2006. وكانت رسالته بجامعة بنسلفانيا عن التنسيق بين أسراب الطائرات المسيَّرة، أما رسالته بمعهد ماساشوستس فكانت بعنوان مناورات الإنزال التحكُّمي للطائرات المسيَّرة. وهي تقدِّم طريقة مبتكرة لإنزال المسيَّرات في ظروف جوية صعبة، وأماكن غير اعتيادية، مثل الحيطان وسقوف المنازل، وتسييرها بطريقة عمودية إقلاعا وهبوطا.
وقد نوقشت الرسالة في شهر فبرايرشباط 2006، وبدأ سلجوق صفحة إهداء الرسالة بشكر الله عز وجل على نعمه التي لا تُحصى، ثم شكر أستاذه المشرف أريك فيرون، وعددا من أصدقائه بالجامعة، وشكر جمعية الطلاب المسلمين في معهد ماساشوستس MAS-MIT لما تركت في نفسه من أثر عميق، وختم الإهداء بشكر والده ووالدته على محبتهما ودعمهما اللذين لا يمكن تعويضهما.
وكان طيلة مدة دراسته في حوار مفتوح مع والده أوزدمير فيما يمكن تفعيله في شركة العائلة من مشاريع تكنولوجية، بناء على دراساته تلك. وتأسيسا على تلك الحوارات شكَّل مع والده عام 2003 فريقا صغيرا، لتصميم مشروع طائرة مسيَّرة صغيرة. فكانت تلك هي البذرة الأولى لما سيتحقق من إنجازات فيما بعد.
تفوَّق سلجوق في دراساته العليا في جامعة بنسلفانيا ومعهد ماساشوستس، وقرَّبه نبوغُه من أساتذة أميركيين متميزين في مجال تكنولوجيا الطيران المسيَّر، وهو مجال علمي وصناعي كان لا يزال طريًّا يومها. فشاركه الأستاذة الأميركيون في مشاريع بحثية مشتركة. ومن هؤلاء جورج باباس من جامعة بنسلفانيا، وأريك فيرون من معهد جورجيا للتكنولوجيا، وهو المشرف على رسالة سلجوق بمعهد ماساشوستس للتكنولوجيا.
وتوَّجَ سلجوق مسيرته الجامعية بنشر أبحاث علمية رصينة، شارك ببعضها في مؤتمرات علمية متخصصة في تكنولوجيا الطيران، وتركزت هذه الأبحاث على تكنولوجيا المسيَّرات، والخوارزميات المتعلقة بها، وطرائق التحكم فيها، والتنسيق بين أسرابها. وقد تعاون معه في بعض تلك الأبحاث متخصصون أتراك، منهم إسماعيل لاز أوغلو من جامعة كوجْ، وتولغا بويوكيازي من الجامعة ذاتها. كما شاركه أخوه المهندس خَلوق بيرقدار بعضَ أبحاثه.
ويبدو خَلوق أقرب أفراد العائلة من سلجوق من حيث الخلفية الدراسية والاهتمام المهني، فهما فَرسَا رِهانٍ في ميدان الصناعة العسكرية، وكلاهما يكمِّل الآخر. فخَلوق مهندس ورجل أعمال موهوب، وهو الرئيس التنفيذي لشركة بايكار، ومتولِّي أمورها الإدارية والمالية، بينما يتولى سلجوق إدارتها التقنية. تخرج خَلوق من جامعة الشرق الأوسط التقنية في إسطنبول، متخصصا في الهندسة الصناعية، ثم أكمل دراسته العليا في جامعة كولومبيا الأميركية في مجال الهندسة المالية. وقد حصل على ميداليات من عدة دول، خصوصا تلك التي استوردت مسيَّرات بيرقدار.
وبالجملة يمكن القول إن سلجوق لم يكن خلال دراساته بالولايات المتحدة طالبا عاديا، غاية طموحه أن يحصل على شهادة جامعية يتباهى بها، أو وظيفة يعيش بها. بل كان طالبا ذا همٍّ ورسالة أجلَّ وأكبرَ من ذلك بكثير.
لفت نظري وجود كتب كثيرة منثورة على طاولات أمام مكتب سلجوق، واستغربتُ أن بعض تلك الكتب لا علاقة لها بالتكنولوجيا أو الطيران، بل هي تتناول مراحل من تاريخ الدولة العثمانية والحضارة الإسلامية، وسِيَر بعض العظماء في التاريخ الإسلامي. لكن ذلك الاستغراب سرعان ما تلاشى بعد حديثي الطويل مع سلجوق. فقد تكشَّف لي أن الرجل يملك ذاكرة تاريخية طريَّة، تحتوي على اعتزاز عميق بمنجزات الحضارة الإسلامية وثمارها العلمية، وبرواد صناعة الطيران في تركيا المعاصرة ومنجزاتهم.
سألتُ سلجوق كيف وجد في التراث العلمي للحضارة الإسلامية ملهِما له؟ ولماذا يدعو إلى استلهام ذلك التراث العلمي واتخاذه زادا للمستقبل؟ وما هي القدوات العِلمية والعَمَلية التي يعتز بها، ويراها ملهما له في حياته ومنجزاته؟ فأجاب بأن أعظم ملهم له -وللإنسانية جمعاء- هو الرسول محمد صلى الله عليه وسلم، ثم خلفاؤه الراشدون أبو بكر وعمر وعليٌّ وعثمان رضي الله عنهم، فسِيَر حياتهم ومبادئهم الأخلاقية نورٌ يشعُّ علينا كل حين.
كما ذكر في سياق القدوة العِلمية بديعَ الزمان الجَزَري 1136-1206م لأنه أول مهندس صنع آلات يمكن اعتبارها روبوتات بمعنًى من المعاني، مضيفا أنا أنتمي إلى مدرسة الجزري الفكرية، لأني متخصص في الروبوتات. وقد سمَّى سلجوق السيارة الطائرة التي يطوِّرها منذ سنين باسم جزَري، وهي مشروع رائد في مجالات السيارات الطائرة، يعتمد على تقنيات الذكاء الاصطناعي. وتمتاز هذه السيارة بخفتها ومرونتها ومتانتها، وهي تعمل ببطارية كهربائية قابلة للشحن، وتُقلِع أفقيًّا، فضلا عن كونها مصمَّمة طبقا لشروط التكنولوجيا الخضراء التي لا تلوِّث البيئة.
وتهدف شركة بايكار من وراء تصنيع سيارة جزري الطائرة إلى حل معضلات أساسية في المدن الكبرى، مثل التقليل من الازدحام. كما تهدف إلى تسريع المهمات التي لا تقبل التأخير، مثل تسليم الدواء وغيره من الأمور المستعجلة إلى طالبيها في الوقت المناسب، والإسهام النوعي في عمليات البحث والإغاثة في المناطق الوعِرة التي يصعب وصول السيارات العادية إليها. وتصلح سيارة جزَري الطائرة للاستخدام العسكري، أداةً لإمداد الجنود أو إغاثتهم في المنطق النائية.
أما الجزري الذي يعتز سلجوق بيرقدار بالانتماء لمدرسته فهو مهندس ومخترع مسلم عاش في بلاط أسرة الأراتقة التركمانية التي حكمت مدينة القدس نيابة عن السلاجقة، ثم انتقلت إلى منطقة الجزيرة الفراتية، وبنت دولة هناك، تركزت سلطتها في مدينة ماردينْ بجنوبيِّ شرق تركيا حاليا، حيث حكمت تلك المنطقة لأكثر من ثلاثة قرون 1108-1410م. واشتهر حكم الأراتقة بوفرة الأوقاف، كالمدارس والمساجد والزوايا، ولهم تاريخ مجيد في مقاومة الحروب الصليبية والاجتياح المغولي للعالم الإسلامي. وقد زار الرحالة المغربي محمد ابن بطوطة 1304-1375م مدينة ماردين في ختام حكم الأراتقة، ووصفها في كتاب رحلته الشهير بأنها من أحسن مدن الإسلام، وأبدعها، وأتقنها، وأحسنها أسواقًا.
وفي هذه البيئة نشأ بديع الزمان الجزري، وهو من عباقرة المهندسين في التاريخ الإسلامي والإنساني، ومن أوائل من صمموا الآلات ذاتية الحركة باستخدام انسياب الماء. ومنها الساعات، وآلات الريّ وتصريف الماء. وتعتبر أفكاره أساسا للعديد من أوجه النهضة الصناعية المعاصرة. وبفضل عبقريته الهندسية، ومخترعاته الكثيرة، ارتقى الجزري إلى منصب كبير المهندسين في بلاط الأراتقة. وقد ضمَّن العديدَ من مخترعاته الصناعية في كتابه الجامع بين العلم والعمل النافع وشرحَها شرحا وافيا برسوم توضيحية بديعة. وقد استلهم كثير من الغربيين أفكار الجزري في عصر النهضة، حيث درسه المهندس والنحات الإيطالي ذو الشهرة العالمية ليوناردو دافنشي 1452-1519، واستفاد منه كثيرا.
وضمن استلهام الماضي المجيد أسس سلجوق شركة متخصصة في تكنولوجيا الفضاء عام 2022، تحمل اسم فرغاني، نسبة إلى عالم الفلك التركي أحمد بن كثير الفرغاني الذي يرجع أصله إلى فرغانة في أوزبكستان اليوم، وقد عاش في بغداد خلال القرن الثالث الهجري، وكان من ألمع علماء الفلك في بلاط الخلفية العباسي المتوكل 820-861م، وألَّف كتبا علمية بالعربية منها كتاب الحركات السماوية وجوامع علم النجوم . كما يُعتَقد أنه صمم مقياسا لمعرفة منسوب مياه النيل.
كما اسلتهم سلجوق العبرة من رواد التصنيع العسكري الأتراك المعاصرين. ومن هؤلاء رجل الأعمال والسياسي نوري ديميراغ 1886-1957، والطيار العسكري وجيهي هوركوس 1896-1969. فقد أسَّس نوري شركة رائدة لصناعة الطيران عام 1936، ونجح في صناعة أول طائرة تركية. لكن المشروع توقف بعد الحرب العالمية الثانية، ضمن التزامات تركيا لحلفائها الغربيين. أما وجيهي فقد صنَّع طائرات في ثلاثينيات القرن العشرين، وبذل جهودا مضنية لتأسيس صناعة طيران وطنية في تركيا، لكن جهوده تلاشت بسبب التثبيط الداخلي والخارجي.
فليس غريبا أن تُشيد شركة بايكار في رؤيتها المنشورة على موقعها الإلكتروني بتراث كل من نوري ديميراغ ووجيهي هوركوس، وتعتبر مسيرتها استئنافا لجهودهما الرائدة، يسعى للبناء على تلك الجهود الموءودة، لتحقيق نهضة راسخة ودائمة في مجال الطيران العسكري. وقد بنى سلجوق بيرقدار منجزاته على استخلاص العبرة من تجربة أولئك الرواد، والتأكد من عدم وأد جهوده، كما وُئِدتْ جهودهم من قبل. ولذلك يتردد في أحاديثه الإصرار على إزالة الحواجز ... حتى لا نفشل كما فعلنا في الماضي، وضرورة التأكد من أن التاريخ لن يعيد نفسه. ذلك أن تركيا لم تصل إلى هذه المستوى من الابتكار في عالم المسيَّرات العسكرية إلا بعد تجارب متعثرة ومخيِّبة للآمال.
لم تبالغ مجلة فورين أفيرز الأميركية إذ كتبت مرة إن برنامج المسيَّرات التركية وُلد من رحِم الإحباط من المورِّدين الأجانب. فقد بدأ تطوير سلجوق ووالده للمسيَّرات العسكرية في بيئة إستراتيجية حساسة بالنسبة لتركيا حيث تراجعت الثقة بينها وبين حلفائها الأميركيين الذين اعتادت شراء السلاح منهم، كما أن المحيط الإقليمي طوَّق تركيا بأزمات سياسية وحرائق عسكرية عديدة، مما فرض على تركيا إعادة النظر في عقيدتها الإستراتيجية بشكل شامل.
وقد بدأ تراجع الثقة في الحلفاء الغربيين تدريجيا منذ أمد بعيد، وكانت الحرب الأهلية في قبرص عام 1974 هي البداية، حينما فرضت الولايات المتحدة حظرا على بيع السلاح لتركيا على مدى ثلاثة أعوام، لأنها تدخلت عسكريا لحماية القبارصة الأتراك من الإبادة على أيدي القبارصة اليونانيين، أو الضمِّ القسري إلى دولة اليونان. فكانت تلك العقوبات من أقرب حلفاء تركيا إليها درسا مريرا، فَهِمَ الساسة الأتراك منه أن الاستقلال في مجال التصنيع العسكري هو المدخل إلى استقلال القرار السياسي والإستراتيجي.
وحين أصبحت الولايات المتحدة رائدة صناعة المسيَّرات العسكرية في تسعينيات القرن العشرين حاولت تركيا استيراد المسيَّرات منها، لكن الأميركيين رفضوا بيعها مسيَّرات متقدمة، تلبِّي حاجاتها الأمنية، وربما تعمَّدوا حشر تركيا في الزاوية، ودفعِها إلى الاعتماد على إسرائيل في هذا الباب، إيثارا لإسرائيل على أنفسهم وعلى الغير، كما هو عادتهم. فلجأت تركيا إلى إسرائيل ابتداء من العام 2005، وأبرمت معها صفقة شراء مسيَّرات عسكرية إسرائيلية من نوع هيرون، في ظروف يحيط بها الكثير من الريبة وعدم الثقة.
فلم يكن الإسرائيليون في يوم من الأيام ناصحين لتركيا فيما يبيعونها من تكنولوجيا عسكرية بأثمان باهظة جدا. وقد عانت تركيا في تعاملها معهم في موضوع المسيَّرات العسكرية، حيث كانوا يتأخرون في تسليم المسيَّرات التي تشتريها منهم، حتى هددتهم بفرض عقوبات مالية عليهم بسبب الإخلال بشروط العقد. ثم تكشَّف للأتراك أن الاعتماد على الإسرائيليين خطر على الأمن الإستراتيجي التركي.
وقد صرَّح وزير الدفاع التركي الأسبق نور الدين جانيكلي بأن عشرًا من مسيَّرات هيرون التي باعتها إسرائيل لتركيا عام 2010 كانت تعاني من خلل فني. وقال الوزير لقد فعل الإسرائيليون ذلك عن قصد، لكيلا نستطيع استخدام تلك المسيَّرات. فقد خرَّب المهندسون الإسرائيليون نظام التجسُّس في المسيَّرات، ولذلك اكتشفنا أننا لا نقصف سوى الصخور، وأننا نخطئ أغلب أهدافنا. وزاد من سوء تلك الصفقة أن إسرائيل رفضت تزويد تركيا بقِطَع الغيار اللازمة لمسيَّرات هيرون. وعلَّقت تركيا الصفقة عامي 2008-2009 ردا على حرب الرصاص المصبوب الإسرائيلية على غزة آنذاك. ثم ساءت العلاقة العسكرية بين الطرفين بعد الهجوم الإسرائيلي على سفينة مافي مرمرة الذي قتل فيه الجيش الإسرائيلي عشرة من المواطنين الأتراك، كانوا في رحلة تضامن بَحْرية مع غزة.
وفي شهر أكتوبرتشرين الأول 2020 دفعت الحميَّة للأرمن الحكومةَ الكنَدية إلى منع تصدير الكاميرات التي كانت تستوردها شركة بايكار من كندا، وتستخدمها في صناعة مسيَّراتها، بعد إسهام تلك المسيَّرات في هزيمة أرمينيا، وإخراجها من الأراضي الأذربيجانية المحتلة. علما بأن العام التالي شهد حملة شعبية واسعة في كندا لشراء مسيَّرات TB2 ذاتها، من شركة بايكار ذاتها، لصالح الأوكرانيين، بعدما تبيَّنت فاعلية هذه المسيَّرات ضد الجيش الروسي في أوكرانيا.. في مثال صارخ على الازدواجية والتطفيف الغربي في هذا المضمار.
ويمكن القول إن امتناع الولايات المتحدة من بيع مسيَّرات عسكرية لتركيا، وغدر إسرائيل بالأتراك في صفقة المسيَّرات التي باعتهم إياها، وسعْي دول غربية أخرى إلى التضييق على تركيا في هذا المجال، إضافة إلى ذاكرة حظر السلاح في السبعينيات.. كلها كانت نِعمًا عظيمة على تركيا، إذ دفعت هذه المواقف تركيا إلى التصميم على إنتاج مسيَّراتها الخاصة، والتخلي عن الاعتماد على الآخرين في استيراد هذه التكنولوجيا العسكرية، بعدما تبيَّن أن الحلفاء الغربيين ليسوا أوفياء، وأن بعض من كانت تركيا تستورد منهم -مثل الإسرائيليين- لا يُؤمَن جانبهم، ولا يمكن الثقة فيهم.
وهنا برزت أسرة بيرقدار على الساحة، وظهر سلجوق، كأحد أبرز المخترعين في تركيا وفي العالم، في مجال المسيَّرات العسكرية. ففي ظروف الشد والجذب مع الإسرائيليين بشأن طائراتهم المسيَّرة التي لم تستفد منها تركيا كثيرا، طورت شركة بايكار بقيادة أوزدمير وولديه سلجوق وخَلوق، مسيَّرات تكتيكية صغيرة وفعالة لصالح الجيش التركي بين عامي 2005 و2007، ثم طورت الشركة بعد ذلك مسيَّرات أخرى أكبر حجما، وأكثر فاعلية، مثل مسيَّرة TB2 التي دخلت في خدمة الجيش التركي عام 2014. وهي أولى المسيَّرات التركية تصديرا إلى الخارج، حيث اقتنتها قطر ثم أوكرانيا في البداية، وتكثَّف الطلب عليها منذ ذلك الحين إلى اليوم.
طورت بايكار بعد ذلك جيل TB3 من المسيَّرات المقاتلة. وفي عام 2019 أكمل سلجوق وفريقه مشروع طائرات آكينجي، وهو جيل من المسيَّرات المقاتلة أكثر تطورا من الجيل السابق، لديه قدرة على هجوم جو-جو، وهجوم جو-أرض. وهو مزود بذخائر ذكية موجَّهة بالليزر. ثم جاءت طائرة التفاحة الحمراء لتكون درَّة تكنولوجيا المسيَّرات العسكرية التركية.
لا تتحقق نهضة في مجال التصنيع العسكري دون بيئة سياسية مواتية. ومن أهم شروط هذه البيئة الدعم السياسي الذي يحُوط التصنيع العسكري برعايته، والحكمة السياسية التي تصونه من الوأد على أيدي الأعداء المتربِّصين، والبِنْية التحتية العلمية التي تضمن ازدهار البحث والتطوير.
بدأ تاريخ أسرة بيرقدار السياسي مع نشاط والد سلجوق، أوزدمير، في حزب الرفاه ذي الخلفية الإسلامية، الذي أسَّسه رئيس الوزراء التركي الأسبق نجم الدين أربكان 1929-2011 مع ثُلَّة من أصحابه عام 1983. وقد جمع بين الرجلين الالتزام العميق بقيم الإسلام، والإصرار الشديد على إحداث نهضة في الصناعات الثقيلة في تركيا. وقد ترك اهتمام أربكان بالصناعة بَصْمته في أسرة بيرقدار، من حيث الحرص على تحقيق الاستقلال الصناعي لتركيا فأربكان كان يدفع بتركيا في اتجاه الصناعات الثقيلة، وكان ذلك أحد أهدافه السياسية، فقد كان يريد لتركيا أن تكون مستقلة القرار، من خلال إصلاحات في مجال الصناعات الثقيلة. وكان لفكرة الاستقلال الصناعي هذه أثرها في تفكير والدي حين كان منخرطا في السياسة ضمن حزب الرفاه كما قال لي سلجوق.
ومن الواضح أن المهندس سلجوق على وعي تام بأهمية البيئة السياسية، فهو يرى أن النجاح في التصنيع العسكري لا يتم إلا في بيئة سياسية مواتية، وأن التحديات السياسية التي تواجه رواد التصنيع العسكري قد تكون أصعب أحيانا من المشكلات التقنية التي اعتادوا التعاطي معها يوميا. ومن حسن حظ شركة بايكار أنها وجدت بيئة سياسية مواتية لمشاريع التصنيع العسكري خلال حكم حزب العدالة والتنمية، وقيادة الرئيس أردوغان، الحريصة على رعاية المشاريع الصناعية الرائدة التي تضمن لتركيا استقلال قرارها الإستراتيجي، وتحرُّرها من الارتهان للحلفاء الغربيين الذين يريدونها تابعة لا شريكة لهم.
ومن الواضح كذلك أن شركة بايكار ومسيَّراتها العسكرية ليست الوحيدة التي حظيت برعاية القيادة التركية. إذ يوجد في تركيا اليوم عدد وافر من شركات التصنيع العسكري التي تعتمد على رعاية الدولة، دون إغفال لدور القطاع الخاص في هذا المضمار. ويتضح هذا الأمر من توسع معرض الصناعات الدفاعية التركية SAHA EXPO الذي ينتظم في إسطنبول منذ عام 2015، إذ يظهر التطور والاتساع المطَّرد في الصناعات العسكرية التركية في كل موسم جديد من هذا المعرض السنوي. وفي زيارتي للمعرض خلال انعقاده هذا العام ما بين 22 و26 أكتوبرتشرين الأول الماضي 2024 وجدتُ أن نحو 1400 شركة صناعية عسكرية تشارك في المعرض بمنتجاتها.
وقد تداولت مراكز دراسات غربية ادعاءات عن مجاملات سياسية لشركة بايكار على حساب شركات تركية منافسة، بسبب علاقة سلجوق العائلية بالرئيس أردوغان، ومن هذه المراكز مرصد المسيَّرات التابع لوزارة الدفاع الفرنسية، الذي أطنب في هذه المزاعم في دراسة طويلة له بعنوان صناعة المسيَّرات التركية صدرت في شهر يوليوتموز 2024. ويمكن اعتبار ما ذكره مركز مرصد المسيَّرات الفرنسي جزءا من الحرب الدعائية الفرنسية ضد استقلال تركيا في مجالات صناعة الدفاع، إذ يتضح من هذه الدراسة الفرنسية -وهي صادرة من جهة رسمية- أن فرنسا متضايقة جدا من خسارة نفوذها الاستعماري في دول غرب أفريقيا، الذي كان التسليح والتدريب من أهم مظاهره. وعموما فإن الإمبراطوريات الشائخة المحالة إلى التقاعد تكون طويلة اللسان أحيانا، تعويضا عن مجدها الآفل.
وقد كشفت دراسة مرصد المسيَّرات الفرنسي عن قلق فرنسي عميق من علاقات تركيا ببلدان فيها نفوذ تقليدي فرنسي حسب تعبير الدراسة، التي سمّت من هذه الدول مالي والنجير وبوركينافاسو والمغرب وتونس وتشاد وجيبوتي، كما تبيَّن من الدراسة أن الفرنسيين متضايقون بشكل غريب من كون تركيا حريصة على التضامن السياسي مع الدول الإسلامية، وعلى تقوية الروابط التجارية والعسكرية معها، وأن المسيَّرات التركية غالبا ما تباع لدول تربطها روابط دينية وثقافية بتركيا حسبما ورد في التقرير.
وقد اطلعتُ على عدد لا بأس به من منشورات مراكز الدراسات الغربية، خصوصا الأميركية والبريطانية والفرنسية، عن المسيَّرات التركية التي تصنعها شركة بايكار، فوجدتُ أن هذه الدراسات، ومثلها وسائل الإعلام الغربية، لا تخلو من الحَنَق السياسي والتحيز الديني، في تناولها لهذا الموضوع. فحين قاتلتْ مسيَّرات بيرقدار في أذربيجان سمَّاها الإعلام الألماني المسيَّرات القاتلة، وحين قاتلت في أوكرانيا سمَّاها الإعلام ذاته سلاح الأمل ولا يزال كتَّاب غربيون يروجون مقولة أن تركيا لا تستطيع الاستغناء عن التكنولوجيا العسكرية الغربية، فهم يعجزون عن استيعاب انتقال تركيا من زبون إلى منافس في هذا المضمار، ويشككون في سعيها للاستقلال في مجال الصناعات العسكرية. بينما يسعى أعضاء من الكونغرس الأميركي إلى تعويق إقبال العديد من الدول على شراء المسيَّرات التركية، بدعاوى وذرائع متهافتة، وهاجسهم الحقيقي هو أن مسيرات بيرقدار سحبت البساط من تحت المسيرات الأميركية والإسرائيلية في مناطق عديدة من العالم.
والحقيقة أن تاريخ شركة بايكار يدل على معاناتها أكثر من مرة من تباطؤ البيروقراطية الرسمية في تركيا في تنفيذ العقود المتفق عليها مع الدولة، وكثيرا ما اشتكى سلجوق في أحاديثه الإعلامية من تلك البيروقراطية الثقيلة الظِّل. كما أن الرئيس أردوغان -برحابة رؤيته- دعَم عشرات الشركات الأخرى، ضمن رؤية إستراتيجية وطنية شاملة، رفعت تركيا إلى مصافِّ الدول ذات القوة العسكرية الضاربة، والقدرة على تصدير السلاح لدول أخرى عديدة. وفي هذا السياق يأتي اعتزاز الرئيس أردوغان بمنجزات صهره سلجوق وشركة بايكار في هذا المضمار، شأنه شأن الملايين من الأتراك الذين يرون في هذه المنجزات مصدر فخر واعتزاز وطني، ونافذة مضيئة على المستقبل.
لكن العلاقة العائلية بين الرئيس وصهره لم تكن لتمرَّ دون مشاغبات الإعلام. ولذلك سألتُ سلجوق هل هو راضٍ عن الدعم السياسي لمشاريعه الصناعية مقارنة مع الرواد الذين سبقوه ولم تنجح مشاريعهم؟ وهل تمثِّل له هذه العلاقة له نوعا من الرأسمال السياسي المفيد لمشاريعه التكنولوجية، أم أنها تتحول عبئا سياسيا عليه أحيانا، خصوصا حين تثير الصحافة المعارضة أو مراكز الدراسات الأجنبية المعادية الشكوك حولها؟ فأجاب بأن الحكومة التركية تدعم كل الابتكارات التكنولوجية والمبادرات التكنولوجية في البلاد دون تمييز بينها، وأن الاتهامات في هذا السياق لا قيمة لها، وهي لا تستحق أن يأخذها مأخذ الجدِّ، وأن قدوته في هذا السبيل هو الخليفة الراشد أبو بكر الصديق، الذي كان يرفض أن تُؤثَر إبلُه على إبل غيره بمكان خاص في المرعى. وهو يشير هنا إلى فكرة أرض الحِمَى في التاريخ، وهي أرض كان يحتكرها الملوك والسلاطين لأنفسهم دون عامة الشعب، وقد رفض أبو بكر الصديق فعل ذلك تقيُّدا بالحديث النبوي الناس شركاء في ثلاثة في الكلأ والماء والنار.
ويكفي من ضعف الاتهامات لشركة بايكار بالاعتماد على التمويل الحكومي التركي والمجاملات العائلية أن 90 من دخل الشركة يأتي من صادراتها إلى الخارج. وهو أمر لا يكاد يوجد نظير له في شركات التصنيع العسكري.
وهنا سألتُ سلجوق هل يخشى من تأثير التغيرات السياسية والتقلبات الانتخابية على هذه المشاريع التي رصد لها حياته وجهده، وهل يفكر في الانخراط في السياسة بشكل عملي، كما انخرط فيها قبله نوري ديميراغ منتصف القرن العشرين؟ فأجاب بأنه ليس لديه طموح لتولي مناصب سياسية، لكنه مهتمٌّ بالمقاصد السياسية الكبرى، والمصالح الوطنية العليا، وبأن لديه رسالة أوْقَف حياته عليها، وأهدافًا فرَّغ وقته لتحقيقها، منها طائرة التفاحة الحمراء المسيَّرة، وبعض المشاريع ذات الصلة بالفضاء التي تنفذها شركة فرغاني لتكنولوجيا الفضاء، وهي شركة أسَّسها عام 2022، وتولى رئاستها التنفيذية، إلى جانب مهماته الأخرى العديدة. وتعتزم شركة فرغاني بناء نظام يتضمن 100 قمر صناعي ينطلق الأول منها هذا العام، وتوسيع برنامج الفضاء الخاص بها ليشمل نظاما عالميا لتحديد المواقع خاصا بتركيا، رغم أنه لا توجد سوى بلدان قليلة فقط في العالم لديها أنظمة مماثلة، وهي نظام GPS الأمريكي، وغاليليو الأوروبي، وغلوناس الروسي، وبايدو الصيني. ولذلك فإن أولوية سلجوق السياسية هي الإسهام في تحقيق الاستقلال التكنولوجي لتركيا، وسيطرتها على سمائها.
ومن المؤكد أن سلجوق لا تنقصه الكاريزما، ولا الشعبية في المجتمع، وهما أهم شرطين للنجاح في اقتحام الفضاء السياسي، لكن السياسة بمعناها الحزبي الضيِّق ليس من أولويات المهندس، بل القيادة بمعناها الكلي الواسع. وهو يرى أن بعض الناس يمكن أن يكونوا قادة دون أن يكونوا سياسيين، ويضرب مثلا على ذلك بالملاكم الأميركي الشهير محمد علي كلاي 1942-2016، الذي يقول سلجوق إنه لم يكن ملاكما عاديا، فالملاكمون العاديون هم أولئك الذين هزمهم محمد علي في الحلَبة. فلَكَمات محمد علي الحقيقية -في رأي سلجوق- ليست تلك التي وجَّهها إلى أجساد منافسيه الرياضيين، وصفَّق له كل العالم من أجلها، بل هي تلك التي وجَّهها المظلومون والمستضعفون من خلاله إلى وجه الاستعمار والإمبريالية، إشارةً إلى موقف محمد علي الرافض للحرب الأميركية على فيتنام. كان محمد علي كان صاحب رسالة، أما الملاكمة فكانت مجرد وسيلة بالنسبة له حسب تعبير سلجوق. فمحمد علي كان قائدا عظيما، لكنه لم يكن سياسيا، وهذا النوع من القادة هم الذين يرى فيهم سلجوق قدوة وإلهاما.
في مطلع شهر مارسآذار عام 2022 انتشرت أغنية أوكرانية على الانترنت انتشار النار في الهشيم، تمجِّد كلماتها مسيَّرات بيرقدار التركية. وهي من كلمات وتلحين الجندي الأوكراني تاراسْ بوروفوك. ومما ورد في كلمات الأغنية
جاءتنا الخراف لتعيد بناء الدولة القديمة
ولدينا راع لهذه الخراف
هو بيرقدار...
جاءوا بكل جيوشهم ومعداتهم وصواريخهم القوية
ولدينا تعليق من كلمة واحدة
بيرقدار
ولم تكن أوكرانيا هي الدولة الوحيدة التي برهنت فيها مسيَّرات بيرقدار على كفاءتها، بل ظهرت هذه الكفاءة أيضا في ليبيا خلال التدخل التركي لصالح الحكومة الشرعية في طرابلس ضد تمرد الجنرال خليفة حفتر، وفي إثيوبيا ضد المتمردين التيغراي، وفي شمال سوريا في عملتي درع الفرات وغصن الزيتون.
لكن النجاح الذي بهر العالم بسرعته وفاعليته هو أداء مسيَّرات بيرقدار خلال استعادة أذربيجان لأراضيها في إقليم قره باغ من الاحتلال الأرمني الذي دام ثلاثة عقود. فقد أبْلتْ هذه المسيَّرات في أذربيجان بلاء حسنا، ومنحت الأذربيجانيين تفوقا نوعيا، ساعدهم على استعادة أرضهم المحتلة بسهولة ويسر. وقد ورد في بعض التقارير أن مسيَّرات بيرقدار دمرت ما لا يقل عن 185 دبابة أرمنية في تلك الحرب، فضلا عمَّا دمرته من مدفعية وأنظمة دفاعية.
وبسبب هذا الأداء الفعال لمسيرات بيرقدار، تزاحمت دول كثيرة على طلب اقتنائها، وأصبحت شركة بايكار من أهم مصدِّري التكنولوجيا العسكرية، وتضاعفت صادراتها في مدة وجيزة. ومنحت مسيَّرات بيرقدار تركيا سمعة كبيرة على المستوى العالم كله، وفتحت لها آفاقا واسعة من العلاقات الدبلوماسية والتعاون السياسي والعسكري، فيما سمَّته دراسة لمؤسسة البحوث السياسية والاقتصادية والاجتماعية SETA في تركيا إستراتيجية المسيَّرات، وسمَّاه مقال بمجلة فورين أفيرز الأميركية دبلوماسية المسيَّرات.
لقد غيرت المسيَّرات العسكرية طبيعة الحرب في الأعوام الأخيرة، وأحدثت طفرة في الشؤون العسكرية، فأصبحت الجيوش الصغيرة التي تملك مسيَّرات قادرة على إرباك الجيوش الكبيرة واستنزافها. ومن الميزات التي جعلت المسيَّرات تغير من طبيعة الحرب جمْعها بين مهمتين أساسيتين في الوقت ذاته، وهما الاستطلاع والقتال، وتقليلها خسائر المهاجِم لأنها طائرات من دون طيار تدار عن بعد بطريقة آلية، وتقليلها الخسائر الجانبية للحرب بشكل عام نظرا لدقة تسديدها إلى أهدافها، وقدرتها على القتال في أماكن وعرة دون مخاطرة بحياة الجنود، وتقديمها صورة حية عن ميدان القتال مما يسهِّل الحركة والمناورة، وقدرتها على التملص من رصد الرادارات نظرا لصغر حجمها ورشاقتها، وسهولة استخدامها لأنها لا تحتاج بنية لوجستية معقَّدة أو تدريبا معقًّدا.
وامتازت مسيَّرات بيرقدار العسكرية التركية عن المسيَّرات التي تصدِّرها الدول الغربية بميزات أخرى لا تقل أهمية منها أن ثمنها رخيص جدا مقارنة مع المسيَّرات الغربية، فهو يكون عادة في حدود الثلث أو النصف من ثمن المسيَّرات الأميركية، مما جعل الدول الفقيرة قادرة على اقتنائها. ومنها أن المسيَّرات التركية مجرَّبة في الميدان في أكثر من ساحة ملتهبة، وأن صيانتها سهلة، ونقلَها سهل، فمسيَّرات بيرقدار TB2 مثلا -وهي أكثر المسيَّرات التركية مَبيعًا- يمكن نقلها بأي شاحنة عادية. ومنها أيضا أن شراء المسيَّرات التركية ليس مصحوبا بشروط سياسية وقانونية معقَّدة، من النوع الذي تفرضه الدول الغربية على مشتري سلاحها، وأنها لا يصحبها تدخُّل في الشؤون الداخلية للدول المشترية، ولا يسعى مصنِّعها إلى التجسس على مشتريها، كما فعلت إسرائيل مع تركيا.
لقد برهنت مسيَّرات بيرقدار على كفاءة عالية مقارنة بالمسيَّرات التي تصنِّعها الدول الغربية. أما على مستوى الإقليم فقد أبدت الصناعة التركية تفوقًا واضحا على نظيرتها الإيرانية في صناعة المسيّرات. فحين تحطمت المروحيّة الإيرانية التي كانت تقل الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي، ووزير خارجيته حسين أمير عبد اللهيان في شهر مايو الماضي. قضى الإيرانيون ساعات طوالا بحثًا عن حطام الطائرة الرئاسية، فلما استيأسوا، ناجوا الترك، طالبين منهم المساعدة. فكلف الجيش التركي إحدى طائرات آكنجي المسيَّرة التي كانت في أجواء تركيا بالمهمة، وحين اعترض الإيرانيون على دخول المسيَّرة المسلحة أجواءهم، انطلقت مسيَّرة آكنجي أخرى غير مسلَّحة إلى إيران، وحوَّمت فوق المنطقة الجبلية على الحدود الأذربيجانية الإيرانية، لتبعث بإحداثيات الطائرة المتحطمة إلى الحكومة الإيرانية، ثم ترسم صورة العلم التركي خلال عودتها، توقيعًا وختْمًا على انتهاء رحلة مظفَّرة.
وقد اشترت عشرات الدول مسيَّرات بيرقدار، وكانت دولة قطر سبَّاقة إلى شرائها. فهي أول دولة استخدمت قواتها مسيَّرات بيرقدار الصغيرة عام 2012، ثم اشترت مجموعة من طائرات TB2 عام 2018، فكانت أول مستورد لها من خارج تركيا. ومما يرغِّب في شراء مسيّرات بيرقدار أن تركيا مستعدة لمشاركة بعض الدول الشقيقة والصديقة جوانب من تكنولوجيا المسيَّرات، من خلال إشراكها في إنتاجها. وقد أعلنت وزارة الدفاع السعودية يوم 6 أغسطسآب 2023 التوصل إلى اتفاق مع شركة بايكار لـتوطين صناعة الطائرات المسيَّرة بيرقدار آكينجي والأنظمة المكوِّنة لها داخل المملكة. وهذا النمط من التعاون على قدر كبير من الأهمية، لأنه يوثِّق العلاقات بين الشعوب الشقيقة، ويساعد الدول المشترِية على اكتساب خبرة التصنيع والاكتفاء الذاتي مستقبلا، وهو خروج على المألوف من سياسات التصنيع العسكري الغربي، التي تحرص على الاحتكار، وحرمان المشترين من اكتساب خبرة الإنتاج العسكري، لكي يظلوا معتمدين عليها إلى الأبد.
ولا تكشف شركة بايكار عن جميع زبنائها في هذا المضمار، ولذلك فإني لم أسأل سلجوق عن عدد زبناء الشركة وهوياتهم، لأسباب مفهومة. لكن المعلومات المتاحة في وسائل الإعلام ومراكز الدراسات التركية والغربية المهتمة بهذا الموضوع تذكر أن الدول التي اشترت مسيَّرات بيرقدار تصل إلى ثلاثين دولة على الأقل، ومنها من الدول العربية قطر، والسعودية، والإمارات، والكويت، والعراق، وليبيا، والمغرب، وجيبوتي، والصومال. ومن الدول الإفريقية غير العربية مالي، والنيجر، وبوركينا فاسو، وإثيوبيا، والتوغو، ونيجيريا، ورواندا. ومن الدول الآسيوية أذربيجان، وتركمانستان، وقرغيزستان، وطاجيكستان، وباكستان، وبنغلاديش، والمالديف. ومن الدول الأوروبية أوكرانيا، وبولندا، وفنلندا، وليتوانيا، ورومانيا، وألبانيا، وكوسوفا. وهذه دول مهمة لتركيا لأنها جزء من الحدود الشرقية لحلف الناتو.
فشركة بايكار هي أكبر شركات المسيَّرات دخلا في العالم منذ ثلاث سنين متعاقبة. وهي تتفوق في هذا ثلاثة أضعاف على الشركة التي تليها في الترتيب، وهي شركة جنرال آتوميكس General Atomics الأميركية. وطبقا لتقرير نشره مركز الأمن الأميركي الجديد CNAS في شهر سبتمبرأيلول الماضي، فقد حصدت تركيا 65 من دخل مبيعات المسيَّرات في العالم منذ عام 2018، مقارنة مع الصين التي حصدت 26، والولايات المتحدة التي حصدت 8 فقط. فلا عجب أن بدأ التقرير بالقول إن الأيام التي كانت فيها أميركا وإسرائيل تسيطران على سوق المسيَّرات أصبحت من الماضي البعيد. علما بأن 60 من هذا الدخل التركي من تصدير المسيرات مصدره شركة بايكار.
ومع ذلك أكد لي سلجوق أن الشركة لا تبيع مسيَّراتها لكل دولة تطلبها، بل هي قد رفضت بالفعل بيعها لعدد من الدول فنحن لا نبيع من أجل المال فقط كما قال. ولم يكشف لي عن هوية تلك الدول التي رفضوا بيعها مسيَّراتهم لأسباب مفهومة. لكن يُلاحظ كثافة الحضور الإفريقي بين الدول المستورِدة لمسيَّرات بيرقدار، وهو أمر مهم ضمن الإستراتيجية التركية لتوثيق العلاقات مع الدول الإفريقية، عبر وسائل عديدة، منها الاستثمار، والتعاون الأكاديمي، وتصدير السلاح.
ويجب ألاَّ ننسى هنا أن دولا أخرى اشترت مسيَّرات عسكرية تركية غير مسيَّرات بيرقدار، خصوصا مسيَّرة العنقاء ومسيَّرة آق سنقر، ومن هذه الدول الجزائر، وتونس، وكازاخستان، وتشاد، وأنغولا، وماليزيا، وإندونيسيا. وهذان الصنفان من المسيَّرات ليسا من صنع شركة بايكار، بل من صنع شركة الصناعات الفضائية التركية TAI، وهي الشركة التي استهدفها هجوم إرهابي مؤخرا، في مظهر آخر من مظاهر استهداف النهضة التركية في مجال الصناعات الدفاعية.
من الأمور التي تهم سلجوق كثيرا المشاركة في بناء عالم أكثر إنصافا في مجال التكنولوجيا، بما فيها التكنولوجيا العسكرية. وهو يرى أنْ ليس من الإنصاف كون الميزانية العسكرية لدولة واحدة الولايات المتحدة مساوية لميزانيات جميع دول العالم الأخرى، ولا من الإنصاف أن تحتكر بضع شركات ثريَّة منصات التواصل الاجتماعي، ومحركات البحث على الإنترنت. فالبشرية بحاجة اليوم إلى بيئة تكنولوجية عادلة، وقواعد منصفة للمشاركة في ثمرات الثورة التكنولوجية. وبهذا يمكن القول إن سلجوق بيرقدار من دعاة الديمقراطية التكنولوجية. وقد ذكَّرتني كلماته في هذا المضمار بمقولة الرئيس أردوغان التي لا يفتأ يرددها، وهي أن العالم أكبر من خمسة، إشارة إلى الاختلال في النظام الدولي الناتج عن احتكار خمس دول لحق النقض الفيتو في مجلس الأمن الدولي، وهي دول ينتمي بعضها -مثل فرنسا وبريطانيا- إلى قوى الماضي لا إلى قوى المستقبل، بحسب وصف المفكر السياسي السنغافوري كيشور محبوباني.
وقد كانت تجارب الدول العربية في التصنيع العسكري حاضرة في ذهني وأنا أحاور المهندس سلجوق بيرقدار. وهي مساعٍ كانت غايتها تحقيق الاستقلال الإستراتيجي، والتحرر من أثقال السطوة الغربية، لكن جميع تلك المساعي انتهت موءودةً قبل نُضجها، وتهشَّمت في عنق الزجاجة، بسبب الوهَن الداخلي، والتعويق الخارجي، وضعف العزائم الوطنية، ونقص الحكمة السياسية. فكانت تلك التجارب المخيبة للآمال تمُرُّ كالشريط المشوَّش المتقطِّع في ذاكرتي، وكانت تلحُّ على خاطري صورة العلماء العرب والمسلمين الذين قُتلوا غِيلةً وغدرًا في العصر الحديث، والصناعات العسكرية التي دُمِّرت أو فُكِّكتْ، سعيًا لوأد أي نهضة في هذه الأمة. وآخر ذلك تفكيك مشاريع التصنيع العسكرية العراقية، بعد أن قطعت شوطا بعيدا من الإنجاز.
فكان السؤال الذي يكبر في ذهني لحظة بعد لحظة أثناء الحوار مع سلجوق هو كيف سمحتْ دول عربية كبرى، بوأد جهودها في التصنيع العسكري، واغتيال علمائها، وتفكيك مصانعها، قبل أن تحقِّق الحصانة الإستراتيجية التي تضمن لها الاستقرار والاستمرار؟ وكيف سمحت إيران باغتيال خيرة علمائها النوويين على أيدي الموساد الإسرائيلي؟ وكيف أُجبِرتْ باكستان على الانحناء أمام الابتزاز الغربي، فوضعتْ رائد برنامجها النووي عبد القدير خان 1936-2021 تحت الإقامة الجبرية في خواتيم حياته، وهو الذي يستحق أن يرفعه الناس في باكستان وفي جميع العالم الإسلامي على رؤوسهم؟
فسألتُ المهندس سلجوق كيف لتركيا أن تتجنب ظاهرة التهشيم في عنق الزجاجة التي تكررت مع دول أخرى في منطقتنا؟ وهل يعتقد أن لتركيا بجهودها الماضية والحالية قد ضمنت لنفسها مسيرة إلى المستقبل في مجال الصناعات الدفاعية لا عودة منها إلى الوراء؟ وبماذا ينصح الشعوب والنخب السياسية العربية لتحقيق نهضة مستمرة في الصناعات العسكرية، وعدم تكرار الانكسار في عنق الزجاجة؟ وكيف يمكن للدول الإسلامية تحقيق التوازن بين الاستقلال في الصناعات العسكرية، وضرورة التحالف والتعاون مع بعض القوى الدولية التي لا تريد للعالم الإسلامي نهضة أو استقلالا؟
فأجاب بأن الثقافة التكنولوجية يجب أن تتجذَّر في أعماق المجتمع، لضمان استمرار النهضة الصناعية في أي بلد. وبذلك تصبح التكنولوجيا مُلْكا مشاعا للمجتمع كله، وثقافة منطبعة في أذهان الجميع، وليست منحصرة في ثلة من المتخصصين، أو في نخبة علمية محدودة. فالثقافة العلمية الضاربة الجذور في أعماق المجتمع لا يمكن اقتلاعها في رأي سلجوق. وهو يستدل على ذلك بتاريخ ألمانيا المعاصرة فقد قُصِفتْ ألمانيا خلال الحرب العالمية الثانية حتى عادت إلى العصر الحجري. لكنها سرعان ما استعادت مسيرتها العلمية والتكنولوجية، لأن الثقافة الصناعية كانت متجذرة في شعبها وفي مؤسساتها، كما يقول.
ويبدو أن سلجوق يعوِّل على مبدأ الديمقراطية التكنولوجية، بمعنى نشر الثقافة العلمية والصناعية في جميع طبقات المجتمع، فهذا هو الذي يحقق الحصانة المستقبلية للمشاريع الرائدة التي يقودها. ومن أهم وسائله في تحقيق ذلك مهرجان تكنوفيست TEKNOFEST الذي تمول شركة بايكار نصف ميزانيته، ومؤسسة فريق تركيا للتكنولوجيا T3 التي تمولها الشركة بالكامل.
أما مهرجان تكنوفيست فهو تجمُّع سنوي ضخم لتكنولوجيا الفضاء والطيران في تركيا، ويُعتبر أكبر مهرجان من نوعه في العالم، وهو ينتظم كل عام منذ انطلاقته الأولى عام 2018، وقد شهد إقبالا واسعا في السنوات التالية، حتى وصل عدد زواره عام 2024 أكثر من 10 ملايين زائر من جميع ولايات تركيا الإحدى والثمانين. ويهدف المهرجان إلى نشر الثقافة العلمية والصناعية، وتشجيع الشباب ذوي المواهب على عرض أفكارهم وابتكاراتهم في مجالات التكنولوجيا المتقدمة، مثل صناعة الطيران المسيَّر، والذكاء الاصطناعي، وصناعة الصواريخ، والروبوتات.. واستقطاب هؤلاء الطلاب الموهوبين الجادِّين للشركات الصناعية التركية، وتمويل مشاريعهم.
كما يضم المهرجان فعاليات علمية، وحوارات ثقافية، ومسابقات شبابية، وعروضا جوية، وقد بلغ عدد الطلاب الذين قدّموا طلبات المشاركة في منافسات تكنوفيست عام 2024، مليونا و600 ألف طالب وطالبة. ويرى سلجوق أن مجرد حضور الأطفال مع أسرهم، ولمسهم الطائرات المسيَّرة بأيديهم الصغيرة، مكسب في ذاته. فقد علَّمته طفولته أن بعض ذكريات الطفولة لا تُنسى، وأنها هي التي تشكل شغف الإنسان واهتمامه حين يكبر.
وأما مؤسسة فريق تركيا للتكنولوجيا T3 فاسمها اختصارٌ لِكلمات ثلاث، تبدأ كل منها بحرف التاء في تسميتها الإنكليزية Turkish Technology Team، وهي أكبر مؤسسة مانحة للطلاب في تركيا، وقد أسسها سلجوق عام 2016، وهو رئيس مجلس إدارتها، وحددت المؤسسة لنفسها رسالة هي دمج الشباب، والناس من كل الأعمار، في مسار التطور التكنولوجي.. باعتبار الرأسمال البشري المتعلِّم هو حَجَر الزاوية في تحقُّق الاكتفاء الذاتي لأي مجتمع أو دولة في مجال التكنولوجيا. ولدى المؤسسة مبادرات كثيرة في مجال التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي. وهي تقدِّم كل عام آلاف المنح الدراسية للطلاب المتميزين في هذه المجالات، وقد منحت 5000 طالب وطالبة من جميع الولايات التركية عام 2024.
ويؤمن سلجوق بأن استنبات التكنولوجيا وتوطينها يحتاج تغييرا شاملا في أعماق ثقافة المجتمع. وهو يرى أن الإدارة الوطنية للفضاء والطيران الأميركية ناسا لم تنجح هذا النجاح الباهر إلا لأنها دخلت وعي الجمهور الأميركي، وأصبحت جزءا من الثقافة الشعبية الأميركية. فتمليك التكنولوجيا للشعوب هو الذي يحصِّن المشاريع التكنولوجية الرائدة ممن يكيدون لها، ويريدون وقف إنتاجها أو إعاقة تطويرها. كما يذهب سلجوق إلى أن التغيير لا يكون من الأعلى للأسفل فقط -رغم أهمية القادة العظماء- وإنما يجب أيضا أن يوجد تغيير من الأسفل إلى الأعلى، بحيث يكون ضاربا بجذوره في أعماق المجتمع، ومتجسِّدًا في مؤسسات صلبة راسخة، لا تهزها الظروف العابرة، ولا تقتلعها الزوابع السياسية.
وهو يسمِّي هذا المنحى من العمل المتجذِّر في قيَم الشعب وثقافته الثورة الصامتة، ويقول إنه وشركاءَه يسعون إلى تحقيق هذا النمط من الثورة داخل تركيا. وقد لفت نظري تعبير الثورة الصامتة على لسان المهندس سلجوق. فهذا المفهوم الذي صاغه المفكر السياسي الأميركي رونالد إنغلهارت 1934-2021 في مطلع السبعينيات من القرن العشرين، وجَد طريقه إلى الفضاء العام في تركيا، وقد استخدمه الرئيس أردوغان في مقابلة له مع قناة الجزيرة قبل عَقدين من الزمان، واعتبر التعليم هو البند الأول من بنود الثورة الصامتة.
لم يكن الحديث عن التفاحة الحمراء والتصنيع العسكري التركي ليكتمل دون وضعه في سياق التاريخ العسكري والجغرافيا السياسية. فمنذ نحو ألف ومائتيْ عام ألَّف الكاتب العربي الكبير عمرو بن بحر الجاحظ 776-869م رسالته مناقب الترك، وهي من أقدم النصوص العربية عن الأتراك، وفيها بسط الجاحظ القول في وصف براعة الجنود الأتراك في الرماية من فوق ظهور الخيل، وهي تقنية عسكرية لم تكن معروفة في المنطقة قبلهم. ويقول الجاحظ إن التركي يرمي الطير والوحش... والناس... ويرمي... مُقبلاً ومُدبراً، ويَمنةً ويَسرةً، وصُعُداً وسُفْلاً، وهو يصيب بسهمه وهو مُدبر، كما يصيب به وهو مُقبل. وأمام انبهار الجاحظ ببراعة الفرسان الأتراك في الرماية من فوق ظهور الخيل توصَّل إلى خلاصة طريفة، هي أن للتركي أربع أعين عينان في وجهه، وعينان في قفاه وربما يصلح حديث الجاحظ هنا عن الفارس التركي في العصر العباسي وصفا مجازيا لمسيَّرات بيرقدار اليوم، في سرعتها، ورشاقتها، ودِقَّتها.
وقد تذكرتُ نص الجاحظ عن التركي ذي الأعين الأربع وأنا أفكر في الجغرافيا السياسية المحيطة بتركيا اليوم، وقد جعلت منها دولةً متعددة الأبعاد الجيوستراتيجية، وفرضت عليها النظر المتوازي إلى أكثر من اتجاه، والتعامل المتوازي مع أكثر من معضلة. فموقعُ تركيا عند تلاقي الشرق والغرب، وتداخلُها التاريخي والجغرافي مع العالم العربي والبلقان وآسيا الوسطى والقوقاز وأوروبا الغربية، وقربها من البحار الملوَّنة الحيوية الأسود والأبيض والأحمر، ومن المضايق البحرية الإستراتيجية، وتأثُّرها بالصراعات المتاخمة لها في سوريا وفلسطين وأوكرانيا، وانخراطها في الصراع على موارد شرق المتوسط من الطاقة.. كلها أمور تستلزم توازناتٍ دقيقةً، ونظراتٍ عميقةً إلى تداخل المساحات الرمادية. وتزداد أهمية هذه التوازنات مع انزياح مراكز القوة على المستوى الدولي اليوم، خصوصا صعود الصين، وصحوة روسيا، وتراجع النفوذ الغربي التقليدي.. مما دعوناه في دراسة سابقة شروق الشرق وغروب الغرب.
فربما يكون قدَر الأتراك أن يظلوا ينظرون بأربع أعين، بل لعلهم يحتاجون اليوم ثماني أعين، لا أربعا فقط. وفي هذا السياق يقول سلجوق إن منطقة الأناضول، والشرق الأوسط بشكل عام، هي مهد الحضارة البشرية، وفيها بدأ تاريخ الزراعة والصناعة، ومنها تمددت الحضارة الإنسانية إلى آفاق الأرض. وهي منطقة تقع في مركز العالم. فلا عجب أن تكثَّفت في هذه المنطقة التحديات والمخاطر، وتراكمت الفرص والإمكانات.. فسلجوق مدركٌ لحساسية المكان، وما يترتب عليه من خطر ومن إمكان.
وقد ظهرت مسيَّرات بيرقدار في خِضمِّ هذه التداخلات والتشابكات، فأثارت ردود فعل متباينة بتباين أثرها. فحين استُعملت هذه المسيَّرات في أوكرانيا ضد الجيش الروسي حصلت تركيا على ثناءٍ عطِرٍ من حلفائها الغربيين في الناتو، وحين استُعملت في تحرير الأراضي الأذربيجانية من الاحتلال الأرمني أخذت الحميَّةُ حلفاءَ تركيا الغربيين، وثارت ثائرتُهم، وعَلتْ أصواتهم المستنكرة فلا يمكن فصل مسيَّرات بيرقدار عن تشابكات الجغرافيا السياسية، إذ إن تصدير السلاح يعني مشاركة غير مباشرة في صراعات عسكرية، وهو أمر لا يتم طبعا دون تراخيص رسمية من الدولة، تخضع لمواءمات دبلوماسية، وتقدير إستراتيجي، إلى جانب شِقِّها التجاري المحض.
ولعل المثال الأوضح على هذه التعقيدات هو تصدير مسيَّرات بيرقدار TB2 إلى أوكرانيا، ودورها في الحرب الروسية الأوكرانية. فمن الواضح أن تركيا مرتبطة بمصالح إستراتيجية مع الدولتين اللتين تجاورانها من الشمال على ضفة البحر الأسود، وأنها لا تريد التورط في مواجهة مع روسيا جرَّاء استخدام الأوكرانيين للمسيَّرات التركية. فروسيا دولة عظمى تعيش اليوم حالة انبعاثٍ وإثباتٍ للذات، ولتركيا لديها مصالح حيوية، ليس أقلَّها شأنا استيراد تركيا كمية ضخمة من الغاز الروسي، وبعض التكنولوجيا الدفاعية الروسية، ثم الوجود الروسي في سوريا عند خاصرة تركيا، وكون روسيا تبني محطة آكويو Akkuyu الضخمة للطاقة النووية في ولاية مرسين التركية، وهي أول محطة نووية تركية. ولذلك رفضت تركيا بشكل قاطع المشاركة في أي عقوبات اقتصادية غربية ضد روسيا بعد غزوها أوكرانيا.
فعلاقة تركيا بروسيا علاقات مركَّبة استطاع الطرفان صيانتها وتطويرها رغم الخلاف بينهما في مواقف جوهرية. ولم يؤد بيع تركيا مسيَّرات بيرقدار لأوكرانيا إلى قطيعة مع موسكو، وهذا دليل واضح على متانة هذه العلاقة وتعقيدها في الوقت ذاته. وقد نجح الطرفان في تجنُّب الصِّدام بينهما في ساحات أخرى ملتهبة، مثل ليبيا وسوريا وأرمينيا، رغم تناقض رؤيتهما وسياستهما في البلدان الثلاثة.
وفي هذا السياق سألتُ سلجوق كيف تحافظ تركيا على هذا التوازن الدقيق بين روسيا وأوكرانيا مع تصدير مسيرات بيرقدار لأوكرانيا؟ فأجاب بأن اتفاقات شركته مع أوكرانيا سابقة على اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية بفترة طويلة، وأن الشركة لا مناص لها من الالتزام بتلك الاتفاقيات، خصوصا أن الأوكرانيين ليسوا هم من غزوا الأرض الروسية، بل روسيا هي التي غزت بلادهم، إضافة إلى أن الأوكرانيين كانوا يقدمون بعض الخدمات المهمة لشركة بايكار، فهم شركاء لها في تصنيع محركات طائرات التفاحة الحمراء وطائرات آكينجي. وعلى كل حال فهو يؤكد أن الشركة لا تبيع المسيرات لأوكرانيا من أجل إسعاد الناتو، بل التزامًا بمواثيق يتعين عليها الالتزام بها.
ويبدو أن تعقيدات العلاقات بين تركيا وروسيا تجعل استمرار التعاون بين شركة بايكار وأوكرانيا أمرا صعبا. فطبقا لدراسة أصدرها المعهد الملكي للخدمات المتحدة RUSI -وهو مؤسسة بحثية بريطانية- فإن مسيَّرات TB2 التي أبلت بلاء حسنا في بداية الحرب الروسية الأوكرانية، اختفت من أجواء أكرانيا تماما لمدة عام كامل، ما بين سبتمبر 2022 وسبتمبر 2023 لأسباب مجهولة. كما تضاربت التقارير الإعلامية -نفيا وإثباتا- حول تراجع شركة بايكار عن تأسيس مصنع لتصنيع مسيَّرات بيرقدار في أوكرانيا. ولا يمكن فصل هذا الموضوع -في رأينا- عن التوازنات الدقيقة في علاقة تركيا بكل روسيا وأوكرانيا.
ما كنت لأضيع فرصة اللقاء مع سلجوق بيرقدار -وأنا المهتم بفلسفة الدين- دون أن أسأله عن قضايا العلم والإيمان والضمير في عصرنا. فأمطرته بأسئلة كبرى في هذا الموضوع، منها ما هي الطريقة التي صالح بها بين شِقَّيه العلمي والإيماني، وهل هو يرى أن التكنولوجيا والتقدم العلمي يمكن أن يخدم الإسلام في العالم المعاصر؟ وكيف يرى مستقبل البشرية في ضوء ثورة الذكاء الاصطناعي؟ وهل ستتفوق الآلة على الدماغ البشري مستقبلا؟ وهل سيضيِّق الذكاء الاصطناعي الفجوة بين البشر أم سيوسِّعها؟ وهل ستنتهي الحياة البيولوجية وتبدأ حياة غير بيولوجية على الأرض كما يتوقع البعض؟ وباختصار هل نحن نشهد اليوم نهاية التاريخ البشري أو بداية تاريخ جديد للبشرية؟
يعتقد سلجوق أن مفتاح الأمر هنا هو الاعتراف بأن الإنسان أشرفُ المخلوقات، فالثورة الصناعية الحديثة منحت البشر قدرات هائلة، لكن التطور في الآلة الصناعية كان أسرع من التطور الاجتماعي والأخلاقي، وهذه مفارقة ظهرت منذ بداية الثورة الصناعية قبل عدة قرون، وهي لا تزال موجودة اليوم. وقد ذكَّرني حديث سلجوق هنا بأطروحة الفيلسوف الفرنسي جان جاك روسو 1712-1778 عن دور العلوم والفنون في تدهور الأخلاق، وهي أطروحة فاجأت المجتمع الفرنسي في منتصف القرن الثامن عشر، في لحظة كانت فكرة التقدم ذات بريق آسر. كما ذكَّرني بما كتبه المفكر الجزائري مالك بن نبي 1905-1973 عن تخلُّف الضمير عن العلم في الحضارة الغربية المعاصرة.
ولا يزال السؤال عن العلاقة بين التطور العلمي والتطور الأخلاقي سؤالا ملحًّا اليوم، بل هو يزداد إلحاحا وأهمية، في عصر الإنترنت والذكاء الاصطناعي، ويزداد الخوف من عدم قدرة البشر على التكيف الاجتماعي والأخلاقي مع هذه الثورة الصناعية الجديدة. ويخشى سلجوق من أن هذا الأمر قد يؤدي إلى استقطابات حادَّة في المستقبل بين الأفراد، وبين الجماعات البشرية، وهذا أمر بدأت أعراضه بالفعل على منصات التواصل الاجتماعي، وهو يشير إلى عجزنا عن التكيف الاجتماعي مع التكنولوجيا الجديدة. وليست المسيَّرات العسكرية المزوَّدة بالذكاء الاصطناعي ببعيدة عن هذه التساؤلات الأخلاقية الكبرى، فحين تنوب الآلة عن الإنسان في اتخاذ قرارات تتعلق بالموت والحياة، يصبح السؤال الأخلاقي أكثر إشكالا وإعضالا.
وهذا يقودنا في رأي سلجوق- إلى أسئلة جوهرية مثل ما هو الإنسان؟ وما هي التكنولوجيا؟ وما هي غاية كل منهما؟ فيجب في رأيه أن تكون غاية التكنولوجيا هي خدمة الإنسانية بأسرها، لا تجميع القوة والسلطة في أيدي بعض الأفراد أو بعض الدول. فصناعة الإذاعة والطائرة -مثلا- كان يُفترض أن تكون الغاية منها التقريب بين مكونات الأسرة الإنسانية، لكن حين أسيء استخدام هاتين الوسيلتين كانت النتائج مدمِّرة. على أن البشر قد صنعوا من الآلات ما يكفي لتدمير الحياة البشرية ذاتها منذ أمد بعيد، كما يقول سلجوق في إشارة إلى السلاح النووي- لكن ذلك لا يُعفينا من واجب المحافظة على إنسانية الإنسان ومكانته العالية في سلَّم المخلوقات.
فالإنسان ليس آلة ولا وسيلة، ولا يحق لنا التقليل من قيمته، والمبالغة في قيمة التكنولوجيا، فالآلة مهما يكن ذكاؤها تظل وسيلة في نهاية المطاف، كما أن الحقيقة الإنسانية تظل أعمق من أي حقيقة تكنولوجية. نعم.. ربما تصبح بعض الآلات أشدَّ ذكاء منا، وربما تهزمها الآلة في لعبة الشطرنج، وقد تستطيع الآلة تقليد أعظم الأعمال الفنية. لكن هذه الآلة لا ضمير لها ولا إحساس كما يقول سلجوق.
أما في قضية الإيمان فهو يرى أن هذا الكون البديع الذي نعيش فيه ناطق بوجود الخالق وكرمه ورحمته. ويبقى للإنسان أن يختار الاعتراف بذلك أو التنكّر له. على أن التنكر للوقائع الصلبة لا ينفي وجودها. فإذا تنكر الإنسان لفضل أمه عليه -مثلا- فإن ذلك لا يغير من حقيقة فضلها عليه. فالإيمان فعل إرادي يتعلق بالاعتراف بوجود الخالق وأفضاله علينا، كما أن الكفران بهذه الأفضال فعل إرادي أيضا، لكنه لا يغير من حقيقة تلك الأفضال، لأن حياتنا ناطقة بها. وقد ذكّرتني الطريقةُ التي يطرح بها سلجوق قضية الإيمان بطريقة الفيلسوف وعالم النفس الأميركي ويليم جيمس 1842-1910 في كتابه إرادة الاعتقاد.
ولم يكن الحديث عن العلم والإيمان والضمير ليكتمل دون تناول طوفان الأقصى، وما كشفه من فقر الضمير لدى الإسرائيليين وداعميهم الأميركيين. وكان حديث سلجوق إليَّ عن غزة مفعما بالمرارة والغضب، فهو لا يُخفي تعاطفه وتضامنه مع أهل غزة، وقد تبرَّعت شركته بايكار بعشرة ملايين دولار للعمل الإنساني في غزة، وهو أكبر تبرع من شركة خاصة لقضية غزة حتى الآن، ومع ذلك فهو يقول إن هذا المبلغ ليس بشيء في حقِّ غزة. كما تبرعت شركته أيضا قبل ذلك بمبلغ 162 مليون دولار لضحايا الزلزال في تركيا. وفي سياق حديثه عن طوفان الأقصى تساءل بغضب لماذا لا نُجنِّب الأطفال -على الأقل- هذه الإبادة؟ فهذه الفظائع لا مثيل لها في التاريخ، باستثناء فظائع فرعون وهتلر
وكان سلجوق نشر منذ شهور مقالا على موقع الجزيرة نت بعنوان لأجل عالم عادل قِفْ مع فلسطين، يعبر فيه عن تضامنه مع أهل غزة، ويدافع فيه بقوة عن حق الفلسطينيين في العدالة، وحق أطفال غزة في الحياة الكريمة، مستذكرا أيام دراساته في معهد ماساشوستس للتكنولوجيا قبل عشرين عاما، وكيف كان يومها ناشطا مع مجموعة من الطلاب لرفع مستوى الوعي حول النضال الفلسطيني، وعبَّر عن سعادته بأن الاحتجاجات على الفظائع في غزة اجتاحت الولايات المتحدة وأوروبا، بما في ذلك أعرق الجامعات في العالم، مثل هارفارد، ومعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، وكولومبيا، وغيرها. وهكذا يجب أن يكون الوقوف في وجه الظلم دائما فنحن لسنا مجرد مراقبين سلبيين، بل نحن مشاركون نشطون في تشكيل النسيج الأخلاقي لمجتمعنا كما يقول. وقد استشهد سلجوق في مقاله بقطعة شعرية تقول
ما أعرفه هو أن الحياة
تعني القتال تحت سماء صافية..
من أجل الأطفال.
وختمه بالقول إن الفلسطينيين يؤدون واجبهم بالمقاومة. إننا جميعًا بحاجة إلى التغيير. كلنا، وليس مجرد حفنة من الناس الذين يدافعون عن العدالة في فلسطين.
وقد ربط سلجوق محنة غزة بحالة العبودية العقلية والأخلاقية التي تعيشها النخب الأميركية والغربية، وحالة انعدام الضمير لديها في علاقتها بالإسرائيليين. فهو يرى أن قدرة الإنسان على التفكير المستقل هي ما يميزه عن بقية المخلوقات الأرضية، وأن رسالة الأنبياء، وجهود خِيرة العقول البشرية، تركَّزت عبر التاريخ على تحقيق الاستقلال العقلي والأخلاقي للإنسان، وما كانت التحوُّلات العميقة التي أحدثها هؤلاء الأفذاذ إلا بخروجهم على المألوف العقلي، وتحدِّيهم للمعايير السائدة حسب تعبيره، وبذلك غيَّروا مصائر البشرية، وارتقوا بها إلى مراتب من الحضارة أنبلَ وأعدلَ.
لكنه يرى أن النخب الغربية المتحكمة في العالم اليوم فقدت استقلالها العقلي والأخلاقي، فبينما يعظ هؤلاء بقية شعوب العالم بضرورة تبنِّي النظام الديمقراطي واحترام كرامة الإنسان، يقفون خمسين مرة مصفقين لقادة أجانب سفَّاحين، يقتلون الأطفال تحت سمع وبصر العالم. وأسوأ السجون العقلية -كما يقول- هي أن يسجُن الإنسان نفسه، كما فعل أعضاء الكونغرس الأميركي في تصفيقهم لسفَّاح يقتل الأطفال وأمَّهاتهم، ويرددون دعايته مثل الببغاوات بشكل غير عقلاني على الإطلاق، حفاظا على كراسيِّهم في الكونغرس فهذا وضع أسوأ حتى من وضع الدول الدكتاتورية، حيث يصفِّق الناس عادةً لقادة من بني جلدتهم وبني وطنهم، أما في الولايات المتحدة فهم يصفقون لسفَّاح يقود دولة أجنبية
فهذا بؤس كونيٌّ كما يصفه سلجوق، وهو تلوُّث أخلاقي خطير على مصائر البشرية. والفارق بين العبودية القديمة والعبودية الجديدة هو أن العبيد في الماضي لم يكونوا راضين عن استعبادهم، أما عبيد إسرائيل من النخب الأميركية والغربية اليوم فهم خاضعون للعبودية عن طيب خاطر. فأنَّى للإنسان أن يفكر بحرية إذا كان هو السَّجين والسجَّان؟ وقد ذكَّرني حديث المهندس سلجوق هنا -مرة أخرى- بقول الشاعر جلال الدين الرومي لماذا تبْقَى في السجن والباب مفتوح على مِصْراعيْه؟
أعتقد أن سؤال الرومي ليس موجَّهًا اليوم للنخب الأميركية وحدها، رغم أنها تنازلت عن ضمائرها بالفعل في علاقتها بإسرائيل. ولكنه موجَّه أيضا لنخب العالم الإسلامي التي تخلَّت عن عزائمها، ورضِيتْ بالدُّون. وهنا تظهر أهمية المهندس سلجوق بيرقدار ومشروعه، فهو سهم من السِّهام المرشدة إلى مستقبل أعزَّ وأعدلَ. وهذا المستقبل لم يعد حلما غائما، بل أصبح في المتناول، وبدأت بشائره العملية تلوح في الأفق.
فقد كشفت الأعوام القليلة الماضية عن مفارقة تاريخية تستحق التأمل فبعد اندلاع الحرب بين روسيا وأوكرانيا مطلع عام 2022 بدأت أوكرانيا تستورد مسيَّرات بيرقدار التركية، وبدأت روسيا تستورد مسيَّرات شاهد الإيرانية. وقد تكون مساهمة المسيَّرات التركية والإيرانية في الحرب الروسية الأوكرانية مساهمة رمزية، بالنظر لحجم تلك الحرب وضخامة الأسلحة المستخدَمة فيها، لكن دلالتها التاريخية والإستراتيجية أكبر بكثير من أثرها العسكري. فلأول مرة في العصر الحديث تندلع حرب في أوروبا، ويستورد المتحاربون فيها أسلحتهم من دول العالم الإسلامي، فهذه سابقة لم تحدث منذ قرون.
وتدل هذه السابقة التي كشفتها حرب أوكرانيا على تحول تاريخي، وانزياح تدريجي للقوة، لا تخطئه عين المتأمل البصير. وإذا كان الأتراك والإيرانيون قد قطعوا أشواطا بعيدة على طريق التصنيع العسكري والاستقلال الاستراتيجي، فإن إخوانهم وجيرانهم العرب قادرون على ذلك أيضا، إذا استعادوا ثقتهم في ذاتهم، وعزائمهم السياسية، واستثمروا طاقتهم الكامنة، وإمكانَهم المهدَر، بتخطيط رصين، وحاسة إستراتيجية.
إن قصة البحث عن التفاحة الحمراء قصة لا نهاية لها، لأنها قصة الطموح إلى القوة العزة والكرامة، قصة أمة عظيمة تبحث عن مكانها اللائق بين الأمم، بعد أن عاشت مدة مديدة في مهانة واستباحة. وإذا كان الصينيون أفلحوا في الخروج مما يدعونه قرن المهانة 1840-1949 الذي أذاقهم فيه المستعمرون الغربيون واليابانيون صنوف الإذلال، ثم بدأوا خلال العقود الأربعة الماضية صعودا مدهشًا، فحريٌّ بالأمة الإسلامية اليوم أن تخرج من مهانتها المستمرة منذ الحرب العالمية الأولى قبل قرن وربع قرن، وأن تبني لنفسها مناعة ومكانة بين القوى الفاعلة في هذا العالم الذي لا يرحم المغفَّلين ولا المتبطِّلين. ألم يقل الشاعر الفيلسوف محمد إقبال منذ نحو مائة عام إن الدين من غير قوة مجرد فلسفة؟ | https://www.aljazeera.net/politics/2024/12/15/%d8%a8%d8%ad%d8%ab%d8%a7-%d8%b9%d9%86-%d8%a7%d9%84%d8%aa%d9%81%d8%a7%d8%ad%d8%a9-%d8%a7%d9%84%d8%ad%d9%85%d8%b1%d8%a7%d8%a1-%d8%b3%d9%84%d8%ac%d9%88%d9%82 | 2024-12-15T10:49:05 | 2024-12-24T08:28:10 | أبعاد |
|
86 | سلوكيات تفعلها وتدمر حياتك كيف تتوقف عن إيذاء نفسك؟ | عدو لنفسك؟ قد تراه أمرا سخيفا، إن كان المرء يرغب في شيء ما فلِمَ يمنع نفسه من الحصول عليه؟ لكن لسوء الحظ وحسنه في آنٍ واحد أن عقولنا لا تعمل على هذا المنوال البسيط. | قد تجد نفسك عالقا في نمط ما متكرر في حياتك، قد يكون هذا النمط على المستوى العاطفي، كعلاقة سيئة تلو الأخرى، أو على المستوى السلوكي، مثل فشل خططك بالتوقف عن التدخين وانتكاستك والعودة إلى التدخين بعد إقلاع دام مدة طويلة، أو لعلك تعرضت خلال الأشهر الأخيرة لقرارات فصلك من العمل من مؤسسات متعددة كنت لتوّك قد بدأت العمل فيها، أو العودة لعادة ما سيئة كنت قد نويت التخلص منها للأبد.
تتفاوت حدّة سلوكيات التدمير الذاتي ما بين إيذاء نفسك جسديا أو الإفراط في تناول الوجبات السريعة أو حتى السهر لوقت متأخر مع حتمية الاستيقاظ مبكرا للعمل، تسأل نفسك لِمَ يحدث هذا لي باستمرار وعلى نفس الشاكلة والترتيب؟ كأنك تعيش كابوسا متكررا وكأنه مشهد متكرر من حياتك سبق لك مشاهدته Deja Vu. إن بدا لك هذا فخا مألوفا فإنك في الحقيقة تؤدي دور عدو لدود لذاتك، تدمر نفسك ببساطة عبر أنماط سلوكية متكررة يعرفها علماء النفس بأنها سلوكيات التعطيل الذاتي، وهي سلوكيات متنوعة لها أسبابها المختلفة، سنتعرف إليها في هذا المقال، وسنعينك على التخلص منها عبر خطوات وتوصيات عملية يوصي بها خبراء علم النفس والسلوك.
الأمر المشترك في أنماط التدمير الذاتي، فِخاخه وسلوكياته، هي أنها تعيقك عن تحقيق أهدافك، لكنه يظهر في صور واضحة وصريحة أو سلوكيات يصعب تمييزها. تدمير الذات ببساطة هو أن تقف في وجه نفسك، تمنعها، تحبسها في ماضيها، أو تعيق طريق تقدمها نحو مستقبل تتمناه، سواء أكان علاقة عاطفية أو وظيفة أحلامك أو الحصول على ترقية أو الوصول إلى وزنك المثالي أو رعاية صحتك أو الإقلاع عن عادة سيئة أو فعل أي شيء تراه يستحق جهد السعي في سبيله.
عدو لنفسك؟ قد تراه أمرا سخيفا، إن كان المرء يرغب في شيء ما فلِمَ يمنع نفسه من الحصول عليه؟ لكن لسوء الحظ وحسنه في آنٍ واحد أن عقولنا لا تعمل على هذا المنوال البسيط. عقولنا وسلوكياتنا معقدة ومتداخلة، وإلا ما كان قد كرس آلاف أو ملايين من الناس حياتهم في دراستها ومحاولة فهمها، الإجابة الأكيدة أن العقل الإنساني ليس مادة سهلة الفهم، لذا فأحيانا نفعل أشياء تخالف رغباتنا، ومن هنا يأتي تدميرنا لذواتنا، كلنا نفعله بوعي أو دون وعي مهما بلغت درجة ذكائنا. ليس السؤال الصحيح هو إن كنا نفعله أو لا، بل الأهم هو كيف نوقفه، لأنه يزداد قوة مع الوقت إن لم نتعرف عليه ونتحكم فيه، لأنها في النهاية معركة تخوضها مع ذاتك1.
بين يديك مهمة كبيرة، تعرف أنها ستتطلب وقتا ومجهودا، وأنت تريد تأديتها على أحسن وجه لأنها تعني لك الكثير في المستقبل أو لتصل إلى الخطوة التي تليها، لكنك تقرر أن تبدأ غدا، ثم يمر الغد وتنشغل بصغائر الأمور، فتقرر البدء من بعد الغد، ويأتي ويمضي حتى تنجز المهمة قبل موعدها بأيام في حالة من الضغط العصبي، فلا تُرضيك النتيجة أبدا، وتندم على ما أضعته -متعمدا- من وقت. المماطلة هي أشهر وأوضح طرق التدمير الذاتي، تحديدا مع كل فرص التشتيت التي تحيط بيننا اليوم. جميعنا قد نصف أنفسنا بأننا مماطلون، لكن الأمر يتجاوز كوننا نؤجل شيئا ما مرة تلو المرة، بل هي طريقة لإعاقة أنفسنا.
تأتي الحجة الشهيرة لمنطقة المماطلة بأن تقول أعمل أفضل تحت الضغط، أُظهِر أحسن ما لدي حين يكون الوقت محدودا، لكنها حجج لتسويغ سلوكنا المتكرر، وللاستناد إليه في المرة القادمة التي نكرر فيها الدائرة، ونضطر لإنجاز مهمة ما في اللحظة الأخيرة دون أن يفوتنا موعد التسليم. السؤال هو كيف تكون المماطلة تدميرا ذاتيا رغم أن المهمات تُنجَز وتُسلَّم؟ حين تؤدي مهماتك وفق قواعد المماطلة فإنك دائما تنتج الحد الأدنى، لأنك تمنع نفسك من أن تحظى بوقت كافٍ تُنجز فيه المهمة وتحسِّنها، تُضيف إليها، تراجعها، وهكذا، بل إن إنجاز المهمة قبل موعد التسليم فورا يجردك من فرصة تطوير نفسك وشحذ مهاراتك.
تضيّع وقتك في المماطلة على أمور غير مهمة ولا منفعة منها تصفح وسائل التواصل، ألعاب الفيديو، مشاهدة التلفاز، ولا تتطلب منك جهدا، فقط لتتجنب بشكل عام أداء المهمة الأساسية. خلال هذه العملية، تكوّن فكرة داخلية عن نفسك بأنك شخص غير منتج يضيع وقته بلا فائدة ولا هدف، قد يتشكل هذا التصور داخليا بلا وعي منك، ما سيؤثر على باقي أبعاد حياتك وثقتك في نفسك. تمنحك المماطلة إيماناثقة مغلوطة بقدرتك على إنجاز المهمات في أقل قدر ممكن من الوقت، بمعنى أنك تنجزها لأنك أجلتها يوما بعد يوم، فتقتنع في نهاية المطاف أن هذه هي الطريقة الوحيدة التي يمكنك أن تنجز بها أي شيء. تفرض هذه الفكرة نفسها وتشجعك على أن إنجاز مهماتك قبل موعدها هو أمر ليس منطقيا1.
تكون لمن يتوق إلى الكمال صور مسبقة ومفصَّلة لكل شيء، لكيفية سير الأمر، لصورته النهائية، لتفاصيله الداخلية الدقيقة، بطريقة غير مرنة لا ترضخ لواقع الحياة. قد يكون القدر اليسير من هذا المنظور مفيدا وعمليا في كثير من الأحيان، لكن حين تخرج الأمور عما كان مُخطَّطا لها، قد يعزف المرء عن إتمام الأمر كله من الأساس، لأن تفصيلا واحدا خالف المفروض، أو حتى لا يحاول مرة أخرى.
يخلق السعي المفرط للكمال دائرة مفرغة تقول إما الكل، وإما لا، يرى المرء الصورة بالأبيض والأسود، أي لون دخيل يدفعه لرفضها تماما، مثلا أنت تخطط للسفر إلى وجهة أحلامك، وعندك فندق مفضل وخطة للأماكن التي تودّ زيارتها، وفجأة عرفت أن الفندق ليست به غرف متاحة، وأن أحد المطاعم التي تود زيارتها مغلق، فتقرر إلغاء الزيارة من بابها دون الأخذ بالاعتبار أنه من الصعب الحصول على فرصة مواتية لتحقيق حلمك، ولا تحاول العثور على فندق آخر يقدم الخدمات ذاتها أو أي حل آخر.
ينتج من هذا المنطلق سلوك التجنب، ما دمتَ غير واثق بنسبة 100 في نجاحك في طلب الوظيفة الشاغرة فأنت لن تختبر حظك وتتقدّم إليها من الأساس، لأن كل شيء ينبغي أن يكون مثاليا. ولأن واقع الحياة يحتّم على أن لا يسير كل شيء كما المتوقع بالضبط، فهو بهذه الطريقة يتجنب كل شيء، الفرص والأهداف والأحلام، بمنطق أن وضعه ليس مثاليا بعد. يأتي مع هذا كذلك جلد الذات وتقريعها على الفشل في تحقيق الأهداف، والتركيز على النتيجة السلبية مما حدث بدلا من السلوك الذي المُتّبَع أو الإنجازات التي حُقِّقت فعلا. وسطَ هذه الدائرة المفرغة من التخطيط والعجز عن الوصول وجلد الذات، تتأثر نظرة المرء لنفسه واحترامه لذاته وإيمانه بها12.
المُفرِط في التفكير هو من يُرهق الأمور بحثا وتحليلا، هو شخص لا يضع الأشياء في سياقها المنطقي الطبيعي، بل يخلق سياقا معتمدا على افتراضات سلبية على الأغلب، ويتصرف بناء عليه. لنفترض مثلا أن شريكك في العلاقة ألغى موعدا بينكما متذرّعا بانشغاله، في حالة كنتَ ممن يفرطون في التفكير، لن ترى الأمر انشغالا فحسب، بل قد يؤول بك عقلك إلى أنه ملّ من لقائك وهذه طريقته للتعبير عن ملله منك، وأنك شخص قبيح ومزعج ولا تستحق الحب من الأساس، ولو كان العكس صحيحا لَمَا ألغى موعده معك. التفسير المكثف لسلوكيات بسيطة مثل إلغاء موعد أو كلمة عفوية أو ما شابه، يدفعك للعيش في عالم تحكمه السلبية والقلق والرغبة في الأخذ بزمام الأمور، قد تستمر بسؤال صديقك إن كان غاضبا منك مرارا وتكرارا لكونه لا يردّ على رسائلك بسرعة، فتتسبب بإزعاجه فقط لتطمئن.
يقف تحليلك العميق المفترض عدوا أمام نفسك، ويجعلك مركزَ كل شيءٍ بطريقةٍ سلبية، فلا تقتنع فعلا بأن إلغاء الموعد كان من باب الانشغال، بل من باب الحط من قدرك، وقد تفترض أن تحليلك واستنتاجك صائب فتتخذ قرارا متهورا، أو يدفعك للتقليل من قيمتك ويُضعف ثقتك بنفسك لأن معظم الاستنتاجات، إن لم يكن كلها، تكون سلبية، فتستبق الأحداث بهذه السلبية وتقرر قطع العلاقة أو تجنب الشخص دون قصد، لقناعتك بأن وجودك غير مُرحَّب به في حياته، تخلق نبوءة محقِّقة لذاتها، أي تسلك سلوكا يحوِّل تصوراتك الزائفة إلى حقائق واقعة. وبذلك فالإفراط في التفكير لا يحثك على التصرف بصدق فيما سيأتي، بل بالتصرف بناء على الإدراك الذي تصورته وأضفته إلى الموقف، مثل أن تفترض بناء على نبرة شخص تقابله لأول مرة بأنه يكرهك، دون أن تضع في الاعتبار أنها قد تكون نبرته الطبيعية أو أنه يمر بيوم سيئ، أو أنه مرتبك مثلك، فتتصرف بناء على ظنك الذي قد يُفضي إلى تحويل الافتراض إلى واقع2.
قد تسمع أطنانا من المديح عن شخصك وخصالك الطيبة في العمل أو الجامعة، لكنها تذهب أدراج الرياح حين تختار أن تصدِّق الصوت الناقد اللاذع في دماغك. لست مجنونا إن سمعت أصواتا في رأسك، كل واحد لديه صوت أفكاره، قد يُملي عليك بأن الأحرى ألّا تتقدم إلى تلك الوظيفة لأنك لست مستعدا، أو أنك كنت أحمقَ البارحة خلال العرض الذي قدمته في الاجتماع ومؤكدٌ أن الجميع يضحكون على مستواك الرديء. تتجاهل الدليل القاطع بأن كل شيء سار على ما يرام، وتقطع وعدا بينك وبين نفسك بألّا تقدّم عروضا أخرى وأنك ستُحافظ على صمتك.
يحدث تدمير الذات ببطء في حالة نقد الذات، فأنت تُثبط عزيمة نفسك كل يوم بناء على تصورات خاطئة قد تنبع من الإفراط في التفكير، قد تُمنطِق هذا الصوت بأنه يدفعك للتحسين من نفسك كي تُقدم أفضل ما عندك في المرات القادمة، لكنه في الواقع يُقيّد رغبتك في الإقدام على أي شيء، لأنك تعرف أنك ستلوم نفسك بشدة بعدها أيا كانت النتيجة، ومع مرور الوقت تقل ثقتك بنفسك وبقدرتك على فعل أي شيء، وتظل حبيس هذا الصوت. قد يدفعك كذلك لمقارنة نفسك بتصورات كوَّنتها عمن حولك، أو عن نجاحاتهم، دون الالتفات لاختلاف الظروف والفرص، وتنظر لنفسك نظرة من لم يفعل أي شيء في حياته، وتفقد إيمانك بنفسك13.
كيف أصحح هذه السلوكيات؟
الخطوة الأولى لتقويض سلوكيات التدمير الذاتي هي تتبع أنماطه وفهم كواليسها. قد تكون هناك أنماط متشابكة، مثل الإفراط في التفكير سعيا إلى الكمال، لكن لا تهدر وقتك وطاقاتك وأنتَ تحاول تجويد الأشياء وتحسينها إذ أحيانًا يكون الإنجاز مُقدّمًا على الجودة المطلقة. قد تكون ممن يماطلون في أعمالهم لكنك لا تَقسُ في توبيخ نفسك على النتيجة، بل تقطع وعودا صادقة بألّا يتكرر الأمر دون تفكير مطول وسلبي فيما حدث. من المهم أن تطرح على نفسك أسئلة محورية لفهم السلوك السلبي لماذا أماطل؟ هل أخاف الفشل فيما أفعل لذا أتجنبه؟ هل أنتقد ذاتي لأكمل مسيرة والدَيَّ في انتقادي وأنا صغير على كل شاردة وواردة؟ أن تحدد الأسباب يعني أن تفهم ذاتك أكثر، أن تُرتب أفكارك وتُراقب تصرفاتك وتضع نفسك تحت الدراسة والتحليل، ربما تلاحظ أن السلوك مستعصٍ إصلاحه بنفسك، وقتها تتوصل إلى أنك بحاجة إلى مساعدة من المختصين.
الكتابة ستساعدك على تحديد النمط، اسرد مواقف متشابهة، وحدد السلوك أو القرار المشترك الذي اتخذته وقتها، مثلا إن استقلت من أكثر من وظيفة عقب تقييم سلبي دون أن تحاول تحسينه فيما بعد، أو إن كنت تؤمن فعلا بأنك تعمل بأفضل أداء وأنت تحت ضغط العمل والوقت. ليس من السهل الاعتراف بأنك السبب في إعاقة طريقك، لن تسارع إلى هذا الاستنتاج، بل ربما ستحاول تجنبه، لذا ابحث عن العوامل البارزة المشتركة عندما لا تجري الأمور على ما يرام4.
يُعيق تدمير الذات -كما شرحنا- أهدافك، لكن إن عدت خطوة إلى الوراء فلن تميز أنك تُعيق نفسك بنفسك سوى إن كان هناك هدف تسعى إليه وتجد نفسك مقيدا أو عالقا عن الوصول إليه. إن عجزت عن تسمية هدف محدد السفر، العمل في الخارج، الاستقلال، الزواج... فلن تقدر على تمييز أين بالضبط تُعيقك العادات والسلوكيات التي ذكرناها. في الواقع، غالبا ما تكون أنت السبب الرئيسي الذي يمنعك عن نيل ما تريد، لذا، كي تفهم الجانب المعادي لذاتك من ذاتك، فعليك أن تبحث وتفكر مليّا فيما ترغب فيه.
بعد أن كتبت الطرق التي تعيق بها نفسك، والأسباب التي ترى أنها تحثّك على السلوك، اكتب خطة معاكسة، على سبيل المثال، أنك هربت من لقاء شخص يروقك إيمانا منك بأنه سيرفضك، وكررت هذا التصرف أكثر من مرة مع أشخاص مختلفين، والنمط واحد، يعجبك، تعجبه، تفكر كثيرا في الأمر فتهلع وتتجنب لقاءه حتى ينتهي الأمر من تلقاء نفسه. صُغ خطة معاكسة، أنك لن تُثقل نفسك بالتفكير وستسبح مع التيار مرة، وتجرب أن تمنح نفسك والشخص والعلاقة فرصة. إن لم تحصل على الدرجة المرجوة في امتحان ما، فاكتب ما فعلت، أجلت الاستذكار حتى موعد الامتحان بيومين، ثم لم يكفِ الوقت ففزعت واستسلمت، الخطة المعاكسة هو أن المادة ثقيلة، وأنك ستُقسمها لأجزاء صغيرة على الفترة السابقة للامتحان. رغم أهمية الوعي بالسلوكيات الخاطئة وأنماطها لدينا، فإن الأساس لكسر الدائرة المفرغة هي الخروج منها بسلوك معاكس، ما من مخرج آخر14.
تنبع معظم السلوكيات المدمرة للنفس من قلة الثقة بالنفس وتدني احترام الذات، لذا فإنه منطلق طبيعي، بل ومطلوب، أن نبدأ علاج هذه السلوكيات بعلاج جذرها. اِبنِ، مستعينا بالمنطق، جدارا تستند إليه ثقتك بنفسك. يسهل على الإنسان رؤية عيوبه وتضخيم شأنها، وتَصعُب عليه ملاحظة ميزاته، لكنك -بالطبع- حققتَ أشياء في حياتك، حتى وإن لم تكن ملحوظة أو مادية، يظل الإنجاز تقدما على نسخة سابقة من ذاتك، بالطبع تتحلى بخصال حسنة كثيرة وتتمتع بمهارات كثيرة، لكنك على الأغلب تُلقي بالا لما لا تتقنه أكثر مما تتقنه.
لست وحدك من يُمعن النظر في سلبياته ويحاسب نفسه على أخطائه دون مبالاة بما يُحققه ويثابر عليه. عدِّد خصالك الحسنة يوميا، الخصال الثابتة المكتسبة التي لا تتطلب منك جهدا، التفاصيل الصغيرة التي تحبها في ذاتك، مثل لون عينيك أو بشرتك الصافية، أو حتى ذوقك في الموسيقى الذي يلقى استحسان من حولك دائما، أو طبيعة شعرك، أظافرك المنمقة، ركز على ما تُحب. إن رأيت تجعيدا أسفل عينيك فركّز على الصورة الأكبر المليئة بالتفاصيل الجميلة التي تستحق استحسانك.
ثم انتقل للمهارات العملية أو القدرات، قد تكون قدرات جسدية، أو مواهب فنية، أو مهارات في شخصك أو وظيفتك؛ اكتبها بالتفصيل، قد تكون قادرا على الركض لمسافات طويلة، أو الغناء بصوت عذب، قد تكون مستمعا جيدا، يعرف كيف يُنصت لأصدقائه ومساعدتهم برأيه، قد تكون متحدثا لبقا أمام الجموع، قد تكون قارئا ماهرا يمكنه التهام كتاب في يومين أو ثلاثة، قد تكون هناك أشياء كثيرة عليك أن تقرّ بها وتفخر بنفسك لأجلها، تساعدك الكتابة في الإجابة عن سؤال ماذا لديَّ لأفخر به؟ توضح لك مواطن قوتك، وتعزز ثقتك بنفسك1.
العادات الذرية جيمس كلير
عنون جيمس كلير كتابه بـالعادات الذرية لأن الذرة هي المكون الأصغر للكتلة، والكتلة هي العادة التي نرغب في تكوينها، خطوة بخطوة ويوما بيوم حتى نصل إلى إنجازنا المرجو ونكمل حياتنا بصحبتها. لا تبدأ العادات الحسنة التي تشكل سلوكياتنا من تلقاء نفسها، بل بتنفيذها وتعزيز وجودها على مهل في حياتنا. رغم أن كلير ليس متخصصا في الصحة النفسية، لكن كتابه يعتمد على قصص وتجارب مبرهنة بأسلوب سلس وشيق لكسر أنماط سلبية تؤذي حياتنا.
1 The Self-Sabotage Behavior Workbook, by Dr. Candice Seti, First Edition, Ulysses Press, 2021. 2 Seven Self-Sabotaging Things Perfectionists Do, Alice Boyes, Psychology Today, 2018. 3 Are You Your Own Worst Enemy Ahona Guha, Psychology Today, 2021. 4 How to Stop Self-Sabotaging Ahona Guha, Psychology Today, 2021. | https://www.aljazeera.net/sukoon/2023/3/6/%d8%b3%d9%84%d9%88%d9%83%d9%8a%d8%a7%d8%aa-%d8%aa%d9%81%d8%b9%d9%84%d9%87%d8%a7-%d9%88%d8%aa%d8%af%d9%85%d8%b1-%d8%ad%d9%8a%d8%a7%d8%aa%d9%83-%d9%83%d9%8a%d9%81-%d8%aa%d8%aa%d9%88%d9%82%d9%81 | 2023-03-06T12:47:00 | 2024-05-30T09:54:28 | أبعاد |
|
87 | إستراتيجية الصين لتغيير العالم.. قراءة في عقل الرئيس شي جين بينغ | هذه المادة المترجمة عن مجلة فورين أفيرز الأميركية تحاول فهم ما يدور في عقل شي جين بينغ الرئيس الصيني الأقوى منذ مؤسس الجمهورية ماو تسي تونغ، وما يعنيه الصعود لبلده والدول الغربية والعالم بأسره. | في عالم بدأ اسم الصين فيه يتردد كثيرا كمنافس رئيسي على زعامة النظام الدولي، اقتصاديا وسياسيا وعسكريا، تزايد اهتمام الصحف والمجلات الغربية بهذا البلد في محاولة لفهم محركاتها وتوجهاتها على المستويات كافة.
وفي هذا الإطار، تأتي المادة المترجمة من مجلة فورين أفيرز لتقدم وجهة نظر غربية عن الصين، عبر النظر في المنطلقات الفكرية التي تشكل تصور رئيسها شي جين بينغ عن العالم، وكيف تؤثر هذه التصورات والمبادئ في الطريقة التي تعمل فيها الصين داخليا وخارجيا. ويحاول الكاتب في هذه المادة أن يفحص فكر الرئيس الصيني، وينبه السياسيين الأميركيين إلى أهمية النظر والتدقيق في فكر شي كمحاولة لصناعة أرضية فهم أكثر دقة تخدم المعارف والسياسة الأميركية.
لم يبخل علينا العالم الغربي في عصر ما بعد الحرب الباردة بنظرياته الكُبرى عن التاريخ والعلاقات الدولية. لربما تغيَّرت الظروف وتغيَّر اللاعبون منذ الحرب الباردة، لكن الدراما الجيوسياسية العالمية لا تزال باقية، إذ تتنافس نظريتا الواقعية والليبرالية في العلاقات الدولية من أجل تفسير سلوك الدول وتوقُّعه، ويتجادل الأساتذة حول ما إن كُنا نشهد نهاية التاريخ أم صراعَ حضارات أم شيئا مختلفا بالكُليَّة. وليست مفاجأة أن السؤال الذي يغوي الجميع بالتحليل هو صعود الصين تحت قيادة الرئيس شي جين بينغ، والتحدي الذي تُشكِّله بلاده للقوة الأميركية. بينما نفَّذ شي مناورته السياسية من أجل ترسيخ سلطته أثناء المؤتمر الوطني العام العشرين للحزب الشيوعي الصيني في أكتوبرتشرين الأول 2022، ونجح في تأمين فترة رئاسية ثالثة غير مسبوقة منذ وفاة الزعيم الصيني ماو تسي تونغ، سعى المُحللون الغربيون حثيثا لأجل فهم الرؤية التي تُحرِّك الرجل وطموحاته من أجل الصين.
ومع ذلك، غاب إلى حد كبير عن تلك المساعي الغربية لفهم الرئيس الصيني نوعٌ مهم من الأدبيات، وهي الماركسية-اللينينية نسبة إلى كارل ماركس وفلاديمير لينين. ويبدو ذلك غريبا لأن الماركسية-اللينينية هي الأيديولوجيا الرسمية في الصين منذ عام 1949، إلا أن تجاهلها مُتفهَّم بالنظر إلى أن مفكري الغرب اعتادوا منذ وقت طويل النظر إلى الشيوعية بوصفها أيديولوجيا مَيِّتة واقعيًّا، حتى في الصين. وكيف لا وقد نحَّى دِنغ شياوبينغ، زعيم الحزب الشيوعي السابق، العقيدة الماركسية اللينينية لسلفه ماو في نهاية سبعينيات القرن الماضي، وانحاز إلى ضرب من ضروب رأسمالية الدولة.
لقد لخَّص دِنغ أفكاره حول هذه المسألة بصراحة لافتة أمام الحاضرين في مؤتمر كبير للحزب الشيوعي الصيني عام 1981 قائلا دعونا نتخلَّص من النظرية والتنظير. وبعدئذ سار على دربه الرئيسان جيانغ زَمين وهو جينتاو اللذان خلفاه في المنصب، حيث وسَّع الرجلان بسرعة من دور السوق في الاقتصاد المحلي الصيني، وتبنَّى كلاهما سياسة خارجية عظَّمت مشاركة الصين في النظام الاقتصادي العالمي الذي تقوده الولايات المتحدة.
لقد كتب شي نهاية مفاجئة لهذا النمط من الحُكم البراغماتي غير الأيديولوجي، واستبدل به شكلا جديدا من الوطنية الماركسية التي ترسم اليوم مضمون وملامح سياسة الصين واقتصادها وسياستها الخارجية. ولا يبني شي محض قلعة نظرية في الهواء من أجل تسويغ القرارات التي يتخذها الحزب الشيوعي الصيني لاعتبارات أخرى أكثر عملية، بل إن الأيديولوجيا في عصر شي هي التي تقود السياسات وليس العكس.
لقد دفع شي بالسياسة نحو اليسار اللينيني، وبالاقتصاد نحو اليسار الماركسي، وبالسياسة الخارجية نحو اليمين القومي، وأعاد التأكيد على نفوذ الحزب الشيوعي الصيني وسيطرته على كل مجالات السياسات العامة والحياة الخاصة، وبثَّ الحياة في الشركات المملوكة للدولة، ووضع قيودا جديدة على القطاع الخاص. وبالتزامن مع ذلك، أذكى شي القومية بانتهاج سياسة خارجية أشد حزما، يدعمها إيمان ماركسي بأن التاريخ منحاز إلى الصين بشكل لا رجعة فيه، وأن عالما مُرتكِزا إلى القوة الصينية يُفضي إلى نظام دولي أكثر عدلا. باختصار، ودون ذرة مبالغة، يُمثِّل صعود شي عودة الإنسان الأيديولوجي.
إن هذه التحوُّلات الأيديولوجية ليست مجرد عودة إلى عصر ماو، إذ أن رؤية شي أكثر تعقيدا من رؤية ماو، فهي تمزج الأيديولوجيا العقائدية القُح بالبراغماتية التكنوقراطية. لعل تصريحات شي عن التاريخ والقوة والعدالة تثير لدى المستمع الغربي شعورا بكونها غير ذات أهمية أو تأثير، ولكن الغرب يُلقي بنفسه في التهلكة إنْ تجاهل رسائل شي الأيديولوجية. فمهما كانت درجة التجريد والغرابة في أفكار الرجل، إلا إنها ذات أثر هائل على مضمون السياسة والدبلوماسية الصينية في أرض الواقع، وبالتبعية على بقية العالم ما دام صعود الصين مُستمرا.
إن العدالة في صف الحزب الشيوعي الصيني.
شي جين بينغ
مثله مثل كل الماركسيين اللينينيين، يبني شي فكره استنادا على المادية التاريخية وهي رؤية للتاريخ تُركِّز على حتمية التقدُّم من خلال الصراع الطبقي المستمر والمادية الجدلية وهي رؤية للسياسة تُركِّز على طبيعة التغيُّر حين تصطدم قوى عديدة ببعضها حتى تظهر تسوية من ثنايا صراعها. في كتاباته المنشورة، يُطبِّق شي المادية التاريخية كي يصنع للثورة الصينية موقعا من التاريخ العالمي، وذلك في سياق تتحرَّك فيه الصين نحو مرحلة متطورة من الاشتراكية بالتزامن مع تدهور النُظُم الرأسمالية.
وعبر منظور مادي جدلي، يُظهِر شي أجندته بوصفها خطوة إلى الأمام في صراع محموم بين الحزب الشيوعي الصيني مع خصومه الرجعيين داخل الصين وهم القطاع الخاص المُغتَر بنفسه، والمنظمات المدنية المتأثرة بالغرب، والحركات الدينية وخارج الصين مُمثلا في الولايات المتحدة وحلفائها.
تبدو تلك المفاهيم غامضة ومُبهَمة لمن هُم خارج الصين، إلا أن نُخَب الحزب الشيوعي وكبار المسؤولين الصينيين يأخذونها على محمل الجد، وكذلك أساتذة العلاقات الدولية الذي يقدمون مشورتهم للحكومة الصينية. إن كتابات شي النظرية المنشورة أوسع نطاقا بكثير من كتابات أي زعيم صيني منذ مؤسس الجمهورية ماو، وفي الوقت نفسه، يعتمد الحزب الشيوعي الصيني على نوعية المشورة الإستراتيجية والاقتصادية التي عادة ما تُوجِّه النظم السياسية الغربية.
ولكن في داخل النظام الصيني، لا تزال الماركسية-اللينينية هي المنبع الرئيس لرؤية تضع الصين في كفة التاريخ الراجحة، وتُظهِر الولايات المتحدة بوصفها بلدا يصارع سكرات الموت الحتمي لنظامه الرأسمالي، ويُستنزَف بسبب تناقضاته السياسية الداخلية، ومن ثمَّ يتجه إلى السقوط لا محالة. وهذه -في نظر شي- هي النهاية الحقيقية للتاريخ.
بعد خمسة أشهر فحسب على تعيينه أمينا عاما للحزب الشيوعي، ألقى شي خطابا أمام المؤتمر المركزي للأيديولوجيا والدعاية عام 2013، وهو تجمُّع لكبار قادة الحزب في بكين. ولم يُنشَر محتوى الخطاب في حينه، لكنه سُرِّب بعد ثلاثة أشهر ونشرته صحيفة تشاينا ديجيتال تايمز. ويقدم لنا الخطاب صورة ناصعة لمعتقدات شي السياسية الدفينة، حيث يستغرق الرجل في الحديث عن مخاطر التدهور الأيديولوجي الذي أدى إلى انهيار الشيوعية السوفيتية، ودور الغرب في إذكاء الانقسامات الأيديولوجية داخل الصين.
إن تفكُّك أي نظام سياسي يبدأ عادة من الأيديولوجيا. ويُمكن للاضطراب السياسي وتغيُّر النظام أن يحدث في يوم وليلة، لكن التطوُّر الأيديولوجي عملية طويلة الأمد، فما إن تُخترَق المتاريس الأيديولوجية حتى تتهاوى بقية الدفاعات، هكذا تحدَّث شي مُحذِّرا مُستمعيه، ومُطمئنا إياهم في الوقت ذاته إلى أن العدالة في صفِّ الحزب الشيوعي الصيني، قبل أن يحُثَّهم على ألا يتراجعوا أو يخجلوا، وأن يتكلموا دون مواربة في التعامل مع الدول الغربية، التي يكمُن هدفها على حد وصفه في منافستنا في ساحات المعارك من أجل الظفر بقلوب الناس والجماهير، ثم إسقاط قيادة الحزب الشيوعي الصيني والنظام الاشتراكي في الصين.
وقد أكَّد شي أيضا سيطرة الحزب على جيش التحرير الشعبي، والشرطة الشعبية المُسلحة، وجهاز الرقابة والأمن السيبراني المركزي الصيني. وأخيرا، طرح شي عام 2019 حملة تثقيفية داخل الحزب عنوانها لا تنسَ هدف الحزب الأصلي، وأبقِ المهمة في ذهِنك. ووفقا للوثيقة الرسمية التي أعلنت المبادرة، كان الهدف منها أن يتحصَّل أعضاء الحزب على تعليم نظري، وأن يُصبَغوا بصبغة الحزب الأيديولوجية والسياسية.
على النقيض من تلك التحرُّكات السريعة والمباشرة نحو الانضباط اللينيني في السياسة الداخلية، تبلور التحوُّل نحو الماركسية التقليدية في السياسة الاقتصادية تحت حُكم شي بشكل أكثر تدرُّجا. لطالما كانت الإدارة الاقتصادية من اختصاص التكنوقراطيين الذين يخدمون في مجلس الدولة والحكومة الإدارية في الصين، كما أن اهتمامات شي الشخصية وقعت ضمن تاريخ الحزب والأيديولوجيا السياسية والإستراتيجيات الكُبرى، أكثر منها في تفاصيل الإدارة الاقتصادية والمالية.
ولكن بينما تزايدت سيطرة جهاز الحزب على الملفات الاقتصادية للدولة، فإن السجالات بشأن السياسات الصينية والدور النسبي للدولة والسوق باتت أيديولوجية أكثر من ذي قبل. يُضاف إلى ذلك أن شي فقد ثقته في اقتصاديات السوق بعد الأزمة المالية العالمية عام 2008، وأزمة الصين المالية الداخلية عام 2015، التي أشعلها انفجار فقاعة سوق العقارات، وأفضت إلى انهيار حوالي 50 من قيمة الأسهم الصينية قبل أن تستقر الأسواق في الأخير عام 2016.
ولذا فإن مسار السياسات الاقتصادية الصينية تحت رئاسة شي، من الإجماع على إصلاحات السوق إلى تبني زيادة تدخُّل الدولة والحزب، أخذ يتبلور بشكل متفاوِت، ومُتنازَع حوله، ومتناقِض في بعض الأحيان. فقبل أقل من ستة أشهر من خطاب شي المذكور سابقا عن الأيديولوجيا والدعاية عام 2013، تبنَّت اللجنة المركزية للحزب الشيوعي وتضم بضع مئات من قيادات الحزب العُليا وثيقة إصلاحية لافتة بخصوص الاقتصاد، وكان عنوانها هو القرار.
وقد أوضحت الوثيقة سلسلة من الإجراءات المتعلقة بالسياسات، تتيح للسوق أن يلعب الدور الحاسم في توزيع الموارد داخل الاقتصاد. غير أن تنفيذ الخطة تباطأ حتى توقف عام 2015، بالتزامن مع حصول الشركات المملوكة للدولة على تريليونات الدولارات في صورة استثمارات من صناديق توجيه الصناعة بين عامي 2015 و2021، وهو تدفق نقدي هائل من الدعم الحكومي أعاد الدولة الصينية إلى قلب السياسات الاقتصادية.
أعلن شي في المؤتمر العام التاسع عشر للحزب الشيوعي عام 2017 أن الحزب سيمضي إلى الأمام، وأن التحدي الأيديولوجي الأساسي أمامه هو تصحيح التنمية غير المناسبة وغير المتوازنة التي وُلِدَت أثناء فترة الإصلاح والانفتاح بعد تغيير السياسات الذي دشَّنه دِنغ في نهاية السبعينيات. وفي خطاب لم يلق الانتباه الكافي، ونشرته دورية الحزب الأيديولوجية عام 2021، تحدَّى شي فعليًّا تعريف دِنغ لما أسماه المرحلة الابتدائية من الاشتراكية، وكان اعتقاد دِنغ هو أن الصين تحتاج إلى تحمُّل انعدام المساواة لفترة طويلة قبل أن تحقق الرفاهة للجميع. وعوضا عن ذلك، أعلن شي انتقالا أسرع إلى مرحلة أعلى من الاشتراكية، وقال إنه بفضل عقود من العمل الدؤوب، فإنها مرحلة تؤسس لنقطة انطلاق جديدة للصينيين.
رفض شي إذن نهج دِنغ المُتدرِّج، ورفض فكرة أن الصين محكوم عليها بأن تواجه مستقبلا ضبابيا عِماده التنمية المنقوصة وانعدام المساواة بين الطبقات. فعن طريق الالتزام الجاد بالمبادئ الماركسية، تعهَّد شي بأن الصين يمكن أن تحقق المجد الوطني والمساواة الاقتصادية الأكبر في مستقبل ليس ببعيد. ويتحقق ذلك بالاعتماد على لجان الحزب وزيادة نفوذها على الشركات الخاصة، بحيث تلعب دورا أكبر في اختيار الإدارات العُليا للشركات واتخاذ القرارات المصيرية لمجالس الإدارات. وبينما تشرع الدولة الصينية في الاستحواذ على أسهم في الشركات الخاصة، فإنها تُشجِّع أيضا رواد الأعمال الناجحين على الاستثمار في الشركات المملوكة للدولة، مازجة بين الدولة والسوق أكثر وأكثر.
من جهتهم، سيتعيَّن على مسؤولي التخطيط الاقتصادي في الحزب الشيوعي الصيني أن يُصمِّموا اقتصادا مُزدوَج الدماء، تصبح الصين بموجبه مكتفية ذاتيا في معظم القطاعات الاقتصادية، في حين تصبح اقتصادات العالم أكثر اعتمادا على الصين. وقد أرسى شي نهجا لحل مسألة التفاوت في توزيع الدخول عام 2020 عُرف باسم أجندة الرخاء المشترك، بموجبها يصبح لزاما على الأغنياء أن يعيدوا توزيع أموالهم طواعية لصالح برامج مدعومة حكوميا من أجل تقليص تفاوت الدخول. بحلول نهاية عام 2021، بدا جليا أن عصر الإصلاح والانفتاح الذي دشَّنه دِنغ شارف على الانتهاء، وحلَّت بدلا منه عقيدة اقتصادية جديدة مرتكزة للدولة.
نسيان التاريخ خيانة، فهو موجود في الحقيقة موضوعيًّا، وهو خير كتاب.
شي جين بينغ
صاحبت قفزة شي نحو السياسة اللينينية والاقتصاديات الماركسية تبنِّيه لنسخة أكثر شراسة من القومية، وتعزيز حضور الصين في الخارج بديلا عن الحذر التقليدي وتجنُّب المخاطر الذي انتهجته الصين في السابق وكان عِماد السياسة الخارجية أثناء عصر دِنغ. وقد ظهر تقدير شي لأهمية القومية في وقت مُبكر من مسيرته السياسية، حيث قال في خطاب له عام 2013 في الغرب، هناك من يقول إن الصين يجب أن تُغيِّر الدعاية التاريخية خاصتها، وألا تنتج دعاية من الأصل عن تاريخ المهانة الوطنية فيها. ولكنني أرى أننا لا يجب أن ننصاع لهذا المطلب، فنسيان التاريخ خيانة. والتاريخ موجود في الحقيقة موضوعيًّا، وهو خير كتاب، والأمة التي لا ذاكرة تاريخية لها لا مستقبل لها.
بعد تعيين شي أمينا عاما للحزب الشيوعي عام 2012 مباشرة، أخذ الرجل اللجنة الدائمة للمكتب السياسي للحزب، المُعيَّنة حديثا حينئذ، في جولة لتفقُّد معرض الطريق إلى الإحياء بمتحف الصين الوطني، وهو معرض لتوثيق غدر القوى الإمبريالية الغربية واليابان أثناء استعمارهم الصين في النصف الثاني من القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين، والرد البطولي للحزب الشيوعي الصيني أثناء هذه الفترة، التي يُسميها الحزب قرن المهانة الوطنية The Century of National Humiliation.
على مدار العقد الماضي، بات مفهوم الإحياء العظيم للشعب الصيني في القلب من رؤية شي القومية، ويتلخَّص هدف الرجل في أن تصبح الصين القوة العالمية والآسيوية الأولى بحلول عام 2049 بالتزامن مع حلول الذكرى المئوية لتأسيس جمهورية الصين الشعبية. وقد حدَّد شي منذ سبع سنوات عددا من المؤشرات الكمِّيَّة التي يجب أن تصل إليها بلاده بحلول عام 2035 في الطريق إلى تحقيق هدفها النهائي، ومنها أن تصبح اقتصادا متقدما من المستوى المتوسط Medium-level Developed Economy، وأن تكون قد استكملت تحديث الدفاع الوطني والقوات المسلحة. ومن أجل تعريف رؤيته وصياغتها، طرح شي عددا من المفاهيم الأيديولوجية لاعتماد نهج شامل يجعل الصين قوة جديدة أكثر حزما وتأكيدا على حضورها.
أول هذه المفاهيم هو القوة الوطنية الشاملة Zonghe Guoli، الذي يستخدمه الحزب الشيوعي الصيني لخلق مؤشرات كمِّية لقوة الصين العسكرية والاقتصادية والتكنولوجية مُجتَمِعة ونفوذ سياستها الخارجية. ورغم أن المفهوم استُخدِم من قِبَل أسلاف شي، فإن شي كان حاسما بما يكفي للقول بأن قوة الصين نَمَت نُموًّا سريعا إلى درجة وصلت معها البلاد إلى الصفوف الأولى لقيادة العالم. وقد أكَّد شي أيضا على التحوُّلات السريعة في موازين القوى الدولية Guoji Liliang Duibi، وهو مفهوم يشير إلى المقارنات التي يستخدمها الحزب الشيوعي لقياس تقدُّم الصين في اللحاق بالولايات المتحدة وحلفائها.
علاوة على ذلك، يتضمَّن خطاب الحزب الشيوعي إشارات للتعددية القطبيةDuojihua المتنامية في النظام الدولي، مع تنامي القوة الصينية بشكل لا رجعة فيه. وأخيرا، أعاد شي استدعاء حكمة من حِكم ماو القديمة عن صعود الشرق وأفول الغرب Dongsheng Xijiang، وطوَّعها كي تشير إلى تجاوز الصين للولايات المتحدة.
لقد ظهر مديح شي العلني لقوة الصين الوطنية الصاعدة بصورة أوضح وأوسع مقارنة بسابقيه. ففي عام 2013، ألغى الحزب الشيوعي رسميًّا عقيدة الإرشاد الدبلوماسي التقليدية، التي ابتكرها دِنغ وتعود إلى عام 1992، والتي نصَّت على أن الصين يجب أن تُخفي قوتها ولا تتعجَّل ولا تُمسِك زمام القيادة. وقد استخدم شي تقرير المؤتمر العام للحزب عام 2017 لتوصيف كيف روَّجت الصين لقوتها الوطنية الاقتصادية والعلمية والتكنولوجية والعسكرية والشاملة، إلى حد باتت معه في مصاف قادة العالم، وأنه نتيجة قفزة غير مسبوقة في مكانة الصين الدولية، فإن الشعب الصيني، وبوضعية جديدة كُليًّا، يقف الآن شامخا في الشرق.
إن أكثر ما يشغل المتابعين القلقين لصعود الصين هو الكيفية التي تُرجِمَت بها تلك الديباجات الأيديولوجية إلى ممارسة عملية، فتصريحات شي العقائدية ليست نظرية فحسب، بل تنفيذية أيضا، وقد مهَّدت الطريق لطيف واسع من خطوات السياسة الخارجية التي اتخذتها الصين ولم يكُن يتخيَّلها أحد تحت حُكم أسلاف شي. لقد عكفت الصين على سلسلة من عمليات الاستصلاح البحري للأراضي في بحر جنوب الصين وهو استرداد أراضي مغمورة بالماء أو ردم جزء منها ثم ادعاء السيادة عليها، ثم حوَّلتها إلى حاميات خاصة بها، مُتجاهِلة ضمانات رسمية قدمتها في السابق بأنها لن تفعل.
ويُضاف إلى ذلك ما أجرته البلاد بقيادة شي من ضربات صاروخية بالذخيرة الحية حول الساحل التايواني على نطاق واسع، في محاكاة لعملية فرض حصار بحري وجوي على الجزيرة، وهي خطوة نأى عنها النظام الصيني في السابق رُغم قدرته على القيام بها. كما فاقم شي من صراعات الصين الحدودية مع الهند عبر المواجهات المتكررة على الحدود معها، وكذلك عبر تدشين طُرُق ومطارات جديدة، وغيرها من البنى التحتية ذات الاستخدامات العسكرية قرب الحدود الهندية. وأخيرا، تبنَّت الصين سياسة اقتصادية وتجارية جديدة تمارس فيها الإكراه بحق الدول التي تسيء إلى بكين وتقف عُرضة للضغط الصيني.
وقد أصبحت الصين أكثر شراسة في ملاحقة نُقَّادِها في الخارج، حيث أعلنت بكين في يوليوتموز 2021 عقوبات اقتصادية للمرة الأولى ضد أشخاص ومؤسسات في الغرب انتقدت الصين. وأتت العقوبات متسقة مع مبدأ دبلوماسية الذئب المُحارب، وهو مبدأ يُشجِّع الدبلوماسيين الصينيين على مهاجمة الحكومات المضيفة بصورة علنية ومتكررة، ويُعَد نقلة جذرية في الممارسة الدبلوماسية الصينية لم نشهدها منذ 35 عاما.
بموجب معتقدات شي الأيديولوجية، باتت الصين ملتزمة بهدف بناء نظام دولي أكثر عدلا وإنصافا على حد وصفه، وهو نظام يرتكز على القوة الصينية بدلا من الأميركية، ويعكس قِيَم أكثر اتساقا مع القِيَم الماركسية-اللينينية. ولذا، دفعت بكين من أجل إزالة أي إشارة إلى حقوق الإنسان العالمية في قرارات الأمم المتحدة، ودشَّنت عددا من المؤسسات الدولية ذات الارتكاز الصيني، مثل مبادرة الحزام والطريق، والبنك الآسيوي للاستثمار في البنية التحتية، ومنظمة شانغهاي للتعاون، وذلك لمنافسة المؤسسات ذات الهيمنة الغربية، واستبدالها في نهاية المطاف.
إن السعي الماركسي-اللينيني لعالم أكثر عدلا يرسم ملامح ترويج الصين لنموذج التنمية الوطني خاصتها في دول الجنوب العالمي بوصفه بديلا عن إجماع واشنطن الذي يحُث على تبني الحكم الديمقراطي والأسواق الحُرَّة. وقد قدَّمت الصين إمدادات جاهزة من تقنيات الرقابة ودورات التدريب الشُرَطية والتعاون الاستخباراتي لدول شتى، مثل الإكوادور وأوزبكستان وزِمبابوي، والتي تجاوزت نموذج الديمقراطية الليبرالية الغربي الكلاسيكي.
لقد ظهرت بوادر تلك التحوُّلات في السياسات الأمنية والخارجية الصينية بجلاء من ثنايا تحوُّلات مُبكرة في الخط الأيديولوجي لشي جين بينغ. فعن طريق استخدام ما يراه المُتلقي الغربي مُبهَما ومحضَ هُراء نظري، استطاع شي أن يُرسل إلى حزبه رسالة لا لَبس فيها مفادها أن الصين أقوى بكثير مما كانت عليه في أي وقت مضى، وأنه ينتوي استخدام تلك القوة لتغيير مجرى التاريخ.
الشعب الصيني يقف الآن شامخا في الشرق.
شي جين بينغ
يبلغ شي من العمر 70 عاما، ولا يبدو أنه عازم على التقاعد. وبوصفه ممارسا وتلميذا قديما للسياسة الصينية، فإنه يعلم تمام العِلم أنه إن ترك منصبه، سيكون عُرضة هو وأسرته للملاحقة ممن يخلفه في رئاسة الصين. ولذلك يُرجَّح أن يستمر الرجل في قيادة بلده حتى وفاته، رُغم أن مناصبه الرسمية قد تتغيَّر مع الوقت. وبالنظر إلى أن أمه تبلغ من العمر 96 عاما، وأن أباه عاش حتى بلغ 89 عاما، فإن عمرهما الطويل إن دلَّ على شيء، فإنما يدل على أن الرجل يُنتظر أن يبقى قائد الصين الأعلى حتى نهاية ثلاثينيات القرن الحالي.
ويواجه شي مخاطر ونقاط ضعف سياسية قليلة. صحيح أن عناصر من المجتمع الصيني يُمكِن أن تُبدي انزعاجها من الجهاز القمعي الذي بناه، ولكن تقنيات الرقابة الحالية تُمكِّن شي من السيطرة على الاحتجاج بطُرُق لم يكن ليتخيَّلها ماو أو الزعيم السوفيتي جوزيف ستالين.
ويُعبِّر شي عن ثقة متزايدة في الجيل القومي الصاعد في الصين، لا سيَّما النُخَب التي تلقت تعليمها داخل الصين لا خارجها، وشبَّت عن الطوق تحت قيادته وليس تحت حكم النظم الأكثر ليبرالية لمن سبقوه، وترى في نفسها حامي حمى ثورة شي السياسية. وسيكون من الحماقة بمكان أن نفترض بأن رؤية شي الماركسية-اللينينية ستتحطَّم تحت وطأة تناقضاتها الداخلية على المدى القريب، فالتغيير السياسي إن أتى إلى الصين يوما ما، سيصل إليها على الأرجح بعد وفاة شي وليس قبل ذلك.
بيد أن شي ليس في وضع آمن تماما، وقد يكون الاقتصاد ثغرته ونقطة ضعفه الأبرز. إن رؤية شي الماركسية لتوسيع سيطرة الحزب على القطاع الخاص، والدور المتنامي للشركات المملوكة للدولة والسياسة الصناعية، والبحث عن رخاء مُشترك عن طريق إعادة توزيع الثروات، كل ذلك سيؤدي إلى انكماش النمو الاقتصادي بمرور الوقت، لأن تراجع ثقة رجال الأعمال سيؤدي إلى تقلُّص الاستثمار في رأس المال الثابت الخاص ردا على تزايد المخاطر السياسية والتنظيمية، فما تمنحه الدول لهؤلاء يمكن أن تسحبه بسهولة في نهاية المطاف.
وينطبق ذلك بالتحديد على قطاعات التكنولوجيا والعقارات والتمويل، التي كانت مُحرك النمو المحلي الأساسي في الصين طيلة العقديْن الماضيَّيْن. أضِف لذلك أن جاذبية الصين للمستثمرين الأجانب قد تراجعت بسبب اضطراب سلاسل الإمداد وتأثير التوجُّهات الاقتصادية الجديدة القائمة على الاكتفاء الذاتي والقومية.
لقد أثارت حملة مكافحة الفساد الفزغ في صفوف نخبة رجال الأعمال داخل الصين، وكذلك الطبيعة الاعتباطية للنظام القضائي الخاضع لسيطرة الحزب، والعدد المتزايد من رُوَّاد قطاع التكنولوجيا الذي أفل نجمه بسبب توتر علاقاته السياسية بالنظام الحاكم. وعلاوة على نقاط الضعف هذه، ثمَّة أنماط بنيوية بعيدة المدى تؤثر على الصين، مثل تعدادها السكاني الذي يتزايد متوسِّط أعماره بسرعة، وحجم القوى العاملة المُنكمِش، ونمو الإنتاجية المنخفض، والمستويات المرتفعة من الديون التي تشترك فيها الدولة مع المؤسسات المالية الخاصة.
وبينما استطاع الحزب الشيوعي في يوم من الأيام بأن يتوقَّع متوسط نمو سنوي يتحرك حول 6 حتى نهاية عشرينيات القرن الجاري قبل أن يتباطأ إلى 4 طيلة الثلاثينيات، فإن بعض المحللين قَلِق الآن حيال غياب أي آلية لتصحيح أخطاء المسار الحالي، وما يستتبعه من اتجاه الاقتصاد إلى الركود في وقت قريب بنمو يبلغ 3 تقريبا في العشرينيات، يقِل بعدها إلى 2 في الثلاثينيات.
نتيجة لذلك، قد تدخل الصين في ثلاثينيات القرن الجاري وهي عالقة فيما يُسمَّى بـفخ الدخل المتوسط Middle-Income Trap، مع اقتصاد أصغر أو أكبر قليلا من اقتصاد الولايات المتحدة، وهي نتيجة لها آثار جسيمة بالنسبة لقادة الصين. إذا ما تداعت معدلات التوظيف ونمو الدخول، فإن ميزانية الصين ستعاني ضغوطا كبيرة تُجبر الحزب الشيوعي على الاختيار بين تقديم الرعاية الصحية والاهتمام بكبار السن وصرف المعاشات المُستحَقة من جهة، وبين مواصلة السعي من أجل أهداف الأمن القومي والسياسات الصناعية ومبادرة الحزام والطريق من جهة أخرى.
وفي غضون ذلك، فإن ثقل الصين وقدرتها على جذب بقية الاقتصاد العالمي سيصبح محل شك وتساؤل، ولذا فإن السجال حول ما إن كان العالم قد شهد بالفعل ذروة الصين لا يزال في بدايته، أما مصير نمو الصين على المدى البعيد فأمر لا يمكن البتُّ فيه اليوم.
إن قومية شي الشيوعية خطة أيديولوجية للمستقبل، وهي حقيقة الصين الغائبة عن كثيرين رُغم كونها على مرأى ومسمع الجميع، والحزب الشيوعي تحت قيادة شي يُقيِّم الظروف الدولية من خلال التحليل الجدلي، وهو لا يفعل ذلك بطُرُق مفهومة بالضرورة بالنسبة لمن هم خارج الصين.
على سبيل المثال، يرى شي في المؤسسات الغربية الجديدة التي تأسست لموازنة الصين، مثل الرُباعية Quad وهو اتفاق تعاون إستراتيجي بين أستراليا والهند والولايات المتحدة واليابان، وأوكوس AUKUS وهو اتفاق دفاع مشترك بين أستراليا وبريطانيا والولايات المتحدة؛ يرى فيها عدوانية إستراتيجية واتجاه أيديولوجي يُمكِن توقُّعه، ومن ثمَّ يحتاج من بكين إلى أشكال جديدة من الكِفاح السياسي والأيديولوجي والعسكري لمجابهته. ووفقا لرؤيته الماركسية-اللينينية، فإن انتصار الصين النهائي مضمون لأن القوى العميقة للحتمية التاريخية في صف الحزب الشيوعي الصيني، في حين يعاني الغرب من تدهور بنيوي. وستؤثر تلك الرؤية لا محالة على احتمالية نشوب صراع في آسيا.
منذ عام 2002 ولغة الحزب الشيوعي حول إيمانه بأن الحرب غير مُرجَّحة تظهر في الشعار الرسمي الذي يقول إن الصين لم تزل تتمتَّع بفترة فرصة إستراتيجية، وهو شعار أُريد له آنذاك التعبير عن أن خطر اندلاع صراع غربي مع الصين ضئيل في المستقبل القريب، ولذا بوسعها أن تسعى لتحقيق مكتسبات على مستوى الاقتصاد والسياسة الخارجية بينما تنشغل الولايات المتحدة في أماكن أخرى من العالم، وبخاصة في الشرق الأوسط الكبير وكانت الولايات المتحدة حينها في ذروة انشغالها بحربيْ أفغانستان والعراق بعد غزوهما عاميْ 2001 و2003 على الترتيب.
ولكن بعد أن صنَّفت واشنطن الصين رسميا بوصفها منافسا إستراتيجيا عام 2017، وبالتزامن مع الحرب التجارية الدائرة بين البلديْن، وأشكال فك الارتباط الاقتصادي المُتبادَلة بينهما وإن كانت انتقائية، وتعزيز التحالفات الأميركية مع أستراليا واليابان وكوريا الجنوبية وحلف الناتو؛ فمن المُرجَّح أن يُغيِّر الحزب الشيوعي الصيني استنتاجه التحليلي الرسمي حيال البيئة الإستراتيجية المحيطة به.
إن الخطر هنا هو أن المنهجيات الجدلية، والاستنباطات الثنائية التي تتمخَّض عنها، يُمكن أن تؤدي إلى استنتاج خاطئ حين يتم تطبيقها على أرض الواقع في عالم الأمن الدولي. ففي خمسينيات القرن العشرين، رأى الزعيم الصيني ماو إن الولايات المتحدة لا بد وأن تهاجم الصين بموجب تلك الجدلية كي تقضي على الثورة الصينية نيابة عن القوى الرأسمالية والإمبريالية.
ورُغم اندلاع الحرب الكورية وأزمتان في خليج تايوان أثناء ذلك العقد، لم يتبلور بالفعل هجوم أميركي على الصين. بل إن ماو لو لم يتبنَّ تلك الرؤية الأيديولوجية، لربما أمكن للانفتاح في علاقات الصين مع الولايات المتحدة أن يحدث قبل عشر سنوات من موعده حين فُتِح الباب بالفعل بزيارة الرئيس الأميركي ريتشارد نيكسون إلى الصين عام 1972، خاصة أن الخلاف الصيني-السوفيتي كان قد بدأ بعد عام 1959.
على نفس المنوال، يرى شي اليوم أخطارا مُحدقة على الجبهات كافة، ولذا يعكف على أمننة كل جوانب السياسات العامة والحياة الخاصة تقريبا في الصين، وما إن تتحوَّل تلك التصوُّرات عن الأخطار التي تحيط بالصين إلى استنتاجات تحليلية ورسمية وتُترجَم إلى داخل بيروقراطيات الحزب الشيوعي الصيني، حتى تبدأ المنظومة الصينية في التصرُّف والعمل وكأن الصراع العسكري قد صار حتميا. إن تصريحات شي الأيديولوجية تُشكِّل الكيفية التي يفهم بها الحزب الشيوعي، وأعضاؤه البالغ عددهم 100 مليون تقريبا، بلدهم ودورها في العالم، وهُم يأخذون تلك النصوص على محمل الجد، ولذا على بقية العالم أن يأخذها على محمل الجد أيضا.
إن تبنِّي شي للعقيدة الماركسية-اللينينية يجب أن يضع حدا لأي أفكار حالمة في الغرب حول إمكانية أن تقوم الصين بتحرير الاقتصاد والسياسة فيها، ويجب أن يوضِّح بشكل لا لَبْس فيه أن نهج الصين للسياسة الخارجية ليس مدفوعا فحسب بحسابات متغيِّرة عن الفرص والمخاطر الإستراتيجية، بل وبإيمان راسخ مفاده أن قوى التغيُّر التاريخي تدفع البلاد إلى الأمام بلا هوادة.
ويجب أن يدفع ذلك بواشنطن وشركائها إلى تقييم إستراتيجياتهم القائمة حيال الصين بشكل متأنٍ، كما يتوجَّب على الولايات المتحدة أن تُدرك أن الصين تُمثِّل اليوم المنافس الأكثر انضباطا سياسيا وأيديولوجيا الذي أمكن لها أن تواجهه طيلة مئة عام من هيمنتها الجيوسياسية، ويتحتَّم على صُناع الإستراتيجية الأميركية أن يتجنَّبوا إسقاط تجارب سابقة على التحدي الصيني، وألا يفترضوا بأن بكين ستتصرَّف بطرق تُعَد عقلانية بالضرورة من المنظور الأميركي أو تخدم المصالح الصينية المباشرة.
لقد ربح الغرب صراعه الأيديولوجي مع الاتحاد السوفيتي في القرن العشرين، ولكن الصين ليست الاتحاد السوفيتي، ويكفي أن اقتصادها اليوم ثاني أكبر اقتصاد في العالم كي نرى الفارق. ورُغم أن شي جين بينغ قد لا يكون نسخة من ستالين، فإنه في الوقت ذاته ليس ميخائيل غورباتشيف الزعيم السوفيتي الذي وضع حدًّا لنهج ستالين العقائدي وجعل السياسة السوفيتية أكثر براغماتية.
إن التزام شي بالعقيدة الماركسية-اللينينية ساعده في ترسيخ سلطانه الشخصي، إلا أن هذا الموقف الأيديولوجي نفسه خلق مُعضلات سيجد الحزب الشيوعي صعوبة في حلِّها، خاصة مع تباطؤ النمو الاقتصادي، الذي يثير علامات استفهام حول طبيعة العقد الاجتماعي القائم منذ وقت طويل بين الحزب والشعب الصيني.
أيًّا كان ما ستُسفر عنه الأحداث، فإن شي لن يرتدَّ عن أيديولوجيته، فهو عقائدي صميم، وهو أمر يضع الولايات المتحدة وحلفاءها أمام اختبار آخر، إذ أن انتصارهم في تلك الحرب الأيديولوجية التي تتكشَّف فصولها يوما بعد يوم أمام أعينهم، سيتطلَّب منهم العودة الجذرية إلى المبادئ التي تُميِّز النظم السياسية الديمقراطية الليبرالية. إن قادة الغرب بحاجة إلى الدفاع عن تلك المُثُل بالقول والفعل، ولذا يجب أن يصبح كل واحد منهم -مثله مثل شي جين بينغ- عقائديًّا صميما.
_____________________________
ترجمة نهى خالد
هذه المادة مترجمة عن فورين أفيرز، ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الجزيرة نت | https://www.aljazeera.net/politics/2024/7/11/%d8%b1%d8%ad%d9%84%d8%a9-%d9%81%d9%8a-%d8%b9%d9%82%d9%84-%d8%a7%d9%84%d8%b1%d8%a6%d9%8a%d8%b3-%d8%a7%d9%84%d8%b5%d9%8a%d9%86%d9%8a-%d8%a5%d8%b3%d8%aa%d8%b1%d8%a7%d8%aa%d9%8a%d8%ac%d9%8a%d8%a9 | 2024-07-11T06:54:44 | 2024-07-11T13:19:41 | أبعاد |
|
88 | كيف كسر محمد علي باشا شوكة علماء مصر؟ | لم يكن سقوط طبقة العلماء بسبب القوة العسكرية التي أصبح يتمتع بها محمد علي وشراء ذمم بعضهم فقط، ولكنه نجح في بث روح الشك والريبة في قلوب عامة الناس، فتفرق الجمع، وأصبح الباشا سيد البلاد بلا منازع. | في كتابه النخبة المدنية في القاهرة في أواخر العصور الوسطى يرصد المؤرخ الأميركي كارل بتري أوضاع العلماء في مصر المملوكية قبل انتقالها إلى السيادة العثمانية، من حيث شؤونهم التعليمية والاقتصادية ومواطنهم التي جاؤوا منها، وأدوارهم السياسية، ورؤية النخبة العسكرية الحاكمة المماليك لهؤلاء العلماء.
وسنرى أن العلماء أدّوا دور الوسيط بين الطبقة الحاكمة العسكرية المماليك وعامة الشعب؛ حيث شغلوا المناصب البيروقراطية والقانونية والتعليمية والدينية للدولة، وبالتالي كان لهم تأثير كبير في تحديد مسار البحث العلمي وكثير من القضايا العامة والسياسية الداخلية التي كان يلجأ فيها الناس إلى وساطة العلماء.
كما احتفظوا بالاستقلالية والسلطة الأخلاقية؛ فعلى الرغم من سيطرة النخبة العسكرية على البلاد، فقد تمكن كثير من العلماء النخبة المدنية كما يسميهم بتري من الحفاظ على استقلاليتهم، وتعزيز مصداقيتهم لدى الجمهور من خلال سيطرتهم على المؤسسات الدينية والتعليمية، وكان دورهم كحُماة للسنة محوريًّا؛ مما عزز من مكانتهم كمراجع أخلاقية في مواجهة نظام قاسٍ.
وكانت شؤون التعليم وحق إعطاء الشهادات العلمية حصرا فيهم؛ فالعلاقة بين الطلاب وأساتذتهم هامة للغاية في تكوين النخبة العلمية، ومن خلال الشهادات العلمية الإجازات، التي تُمنح بعد تقييم قدرة الطالب على استيعاب النصوص الشرعية وتفسيرها بشكل صحيح، كان يُعترف بأن الطالب صار عالِما. هذه الشهادات كانت تعكس قدرة العلماء على الحفاظ على التعاليم التقليدية ونقلها إلى الأجيال القادمة.
ولا ننسى التأثير الثقافي والاجتماعي لهؤلاء العلماء؛ فعلى الرغم من أن العصور المملوكية تعتبر غير مستقرة ومليئة بالعنف والقلاقل، استطاعت النخبة المدنية تطوير إستراتيجيات للبقاء والاستمرار خلال هذه الفترات الصعبة. وقد عكس هذا الأداء المتفوق في مختلف المجالات المهنية مستوى عاليًا من التخصص والتأثير في المجتمع.
وقبل أن نعرّج على الآليات التي استطاع من خلالها محمد علي كسر شوكة العلماء، سنستعرض مكانة العلماء في الفضاء الاجتماعي والسياسي والشرعي بمصر خلال السنوات التي سبقت إمساك محمد علي لزمام السلطة.
وحين التحم العثمانيون بالمماليك في بلاد الشام ومصر، وبدأت الكفة ترجح لصالح العثمانيين بفضل انتصارهم في معارك مرج دابق والريدانية والصليبة ووردان، كان للعلماء دورهم البارز في هذه اللحظات المفصلية من تاريخ مصر؛ فقد وقف بعضهم في صف المماليك مثل الفقيه وخطيب جامع أحمد بن طولون شرف الدين يحيى بن العدّاس الذي ظل إلى آخر لحظة يحض جماهير الناس في مصر على دعم المماليك وقيادة السلطان طومان باي، وحين قبض عليه السلطان سليم الأول وكاد يفتك به، دافع عنه بقية العلماء والخليفة العباسي فاضطر السلطان العثماني إلى الإفراج عنه.
وفي خضم هذه الحرب وحين لاحت بوادر الصلح بين الفريقين -قبل أن تتعثر- عقد السلطان العثماني مجلسًا في قلعة القاهرة الجبل ودعا فيه قضاة المذاهب الأربعة والخليفة العباسي، وهو أول مجلس بالقلعة يحضره العلماء والخليفة بعد الفتح العثماني، كما حضر هذا المجلس عدد من الوزراء العثمانيين فعرض السلطان العثماني على المجلس قضية طومان باي، كما نرى عند المؤرخ ابن إياس في بدائع الزهور.
يُظهر تاريخ ابن إياس -الذي يرصد السنوات العشر الأولى من حكم العثمانيين في مصر- مكانةُ وموقف العلماء المصريين والأزهريين منهم خاصة في مقاومة أشكال الظلم والاستبداد؛ فقد أمر السلطان العثماني بتعيين الأمير المملوكي خاير بك الجركسي واليا على مصر، وكان خاير بك في نظر المماليك والعلماء شخصية مجرمة سفاكة للدماء، خائنة للمبادئ، متعدية على الأموال والأنفس.
وقد أراد الجركسي أن يبرئ سُمعته أمام السلطان سليم بكتابة محضر يوقّع عليه القضاة الأربعة بأنه كان يسير في الرعية بالعدل والإحسان فزجره القضاة أمام المبعوث العثماني قائلين نكتب خطوط أيدينا على شيء باطل ثم يبلغ الخُنكار السلطان العثماني خلاف ذلك، فنخشى على أنفسنا منه عندما نذكر أن مصر في غاية العدل والأمن والرخاء... وهذا باطل لا يجوز فبُهت ملك الأمراء خاير.
وسنرى هذه الشدّة أيضا لدى الفقيه شمس الدين محمد اللقاني المالكي الذي وقف أمام خاير بك معترضا على الضرائب التي فرضها على عقود الزواج، قائلا له يا ملك الأمراء قد أبطلتُم سُنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وصرتم تأخذون على زواج البنت البكر ستين نصفًا، وعلى زواج الثيّب ثلاثين نصفًا، ويتبع ذلك أجرة الشهود ومقدمي الوالي وغير ذلك، وهذا يخالف الشرع الشريف، وقد عقد رسول الله على خاتم فضة وعلى ستة أنصاف فضة، وعقد على آية من كتاب الله.
لم يقتنع خاير بك بنصيحة اللقاني المالكي، وأخبره أن هذا القرار قادم من إسطنبول قائلا الخُنكار أمر بهذا وقال امشوا في مصر على اليسَق القانون العثماني، فصاح به شخص من طلبة العلم يُقال له عيسى المغربي قائلا هذا يسق الكفر، فحنق منه ملك الأمراء وأمر بتسليمه إلى الوالي قائد الشرطة ليعاقبه... ثم طال المجلس بين ملك الأمراء ومشايخ العلم في الأزهر. وحين انفض الجمع دون قرار، ورجع الفقهاء إلى القاهرة ثارت ثورة الأهالي على خاير بك، ولهجت الألسنة بذمه، وقامت انتفاضة كبرى ضده، أغلقوا فيها المساجد إعلانا للعصيان المدني.
عند ذلك اضطر خاير بك إلى استرضاء الشيخ اللقاني قائلا لا تؤاخذ ملك الأمراء فإنه لم يكن يعرفك. وأرسل معه مئتي دينار وأربع بقرات وُزّعت كلها على طلبة العلم بالأزهر. ويُعلق ابن إياس على هذه الحادثة بقوله قصد بذلك أن يسترضي العلماء والفقهاء الذين لم يرضوا بأفعاله الشنيعة؛ ليمحو هذا بذلك.
وعندما جاء سليمان باشا الخادم واليا على مصر من قبل السلطان سليمان القانوني، تعدى هذا الوالي في حكمه، واشتهر بالظلم والعسف، والتنكيل والأخذ بالظنّة، وقد أصدر قرارا بإنشاء اليهود معبدًا في قلب القاهرة، ولكن كبار علماء الأزهر مثل ناصر الدين اللقاني المالكي وناصر الدين الطبلاوي وابن عبد الحق السنباطي وضياء الدين بن الجلبي وشهاب الدين الرملي وغيرهم تصدوا له، وأجبروه على هدم هذا المعبد، بل ألف بعضهم رسائل علمية في الرد عليه، أشهرها ما كتبه الشيخ زين الدين إبراهيم بن نجيم الحنفي ت 975هـ1567م.
أبعد من ذلك، شارك العلماء المصريون في إسقاط ولاة ظلمة في مصر مثل أحمد باشا سنة 930هـ1523م، في المقابل، فإنهم عملوا على تثبيت حكم آخرين مثل مصطفى باشا سنة 1032هـ1622م حين رأوا فيه صلاحًا، فأرسلوا للسلطان مراد الرابع في إسطنبول الذي أقرّهم على هذا الاختيار، وسنراهم يشاركون في خلع موسى باشا سنة 1040هـ1630م، وكان لهم في هذا الكلمة المقدَّمة والرأي الأول كما يروي مؤرخو ذلك العصر؛ لأنه صادر أموال الناس بدون أسباب شرعية، وثبت اختلاسه للمال العام، وسفكه للدماء المعصومة بغير وجه حق وبالظنون والإشاعات، بل بدأ الطمع في أموال الأوقاف وإخراج النظارات من أصحابها ومعظمهم من العلماء ليسندها لأتباعه، وشرع يهدد الأمن العام في مصر حين قتل قائدا عسكريا عثمانيا اسمه غيطاس بك طمعا في الأموال التي جمعها لحملة الدولة العثمانية ضد الصفويين.
عند ذلك اجتمع رأي العلماء والقضاة ورجال الأزهر مع المعارضين العسكريين لسياسة هذا الوالي المتغطرس، وحاصروا القلعة، وسدوا كل الطرق المؤدية إليها، واتخذوا من جامع السلطان حسن المواجه لقلعة القاهرة مقرا لهذه الحركة، ثم قرروا عزل موسى باشا وتعيين حسن باشا الدفتردار قائم مقام بديلا عنه، وقرر المجتمعون من علماء الأزهر وقادة الفرق العسكرية العثمانية والمملوكية في مصر أن يكتبوا للسلطان في إسطنبول ثلاث رسائل بالتركية والعربية، قرأها السلطان والصدر الأعظم وأقروا ما جاء فيها بعزل موسى باشا.
ومن اللافت أن الأزهر كان مأوى للأمراء المظلومين والمغلوبين في صراعاتهم البينية وكان علماء الأزهر وفقهاؤه يتدخلون عند السلطة للفصل بينهم، وإحقاق الحق لأصحابه، ففي 1071هـ1660م وقع صراع بين أهم فريقين من فرق المماليك الفقّارية والقاسمية، وقد اتجه 26 أميرًا منهزما إلى الجامع الأزهر يقصدون الاحتماء فيه، ويذكر مؤرخ تلك الواقعة إبراهيم الصوالحي العوفي في كتابه تراجم الصواعق في واقعة الصناجق أن هؤلاء المنهزمين الهاربين كانوا مظلومين.
ولهذا السبب عقد العلماء اجتماعا في الأزهر في 17 ربيع الأول 1071هـ الموافق نوفمبرتشرين الثاني 1660م برئاسة شيخه سلطان المزاحي وتناولوا في المجلس موضوع الأمراء والعسكريين المحتمين به، وانتهى الاجتماع إلى تشكيل وفد للقاء والي مصر العثماني وقتها إبراهيم باشا الدفتردار، وقالوا إن قرار الديوان مطاردتهم وإخراجهم من القاهرة وقطع رواتبهم والاستيلاء على أملاكهم ظلم وتعدٍّ، ويجب علينا إبلاغ أولي الأمر باتباع القواعد الشرعية كما أمر الله تعالى ورسوله.
وعلى إثر ذلك عقد الوالي وكبار الأمراء من العثمانيين والمماليك اجتماعهم في اليوم التالي وصدر قرارهم بالعفو والصفح عن الأمراء المطاردين المحتمين بالجامع الأزهر وذلك امتثالا لما رآه السادة العلماء الفضلاء، وقد أصر العلماء على تسجيل هذه الإجراءات بصورة رسمية، فأوعزوا إلى قاضي القضاة بكتابة مذكرتين بالإجراءات الشرعية التي يجب اتخاذها مع الأمراء والعسكريين المحتمين بالأزهر، وأُرسلت هاتان المذكرتان إلى الوالي والقائم مقام لتنفيذهما.
وفي عام 1148هـ1735م جاء من إسطنبول قرار من السلطان العثماني ورد فيه إبطال مرتبات الأولاد والعيال، ومنها إبطال التوجيهات، وإن المال يُقبض إلى الديوان ويصرف من الديوان، وإن الدفاتر تبقى بالديوان ولا تنزل بها الأفندية إلى بيوتهم، كما يروي الجبرتي في تاريخه. فلما قُرئ ذلك قال القاضي العثماني في القاهرة أمر السلطان لا يُخالف ويجبُ إطاعته.
وكان حاضرا في هذا المجلس الشيخ سليمان المنصوري، مفتي الحنفية وشيخهم في الجامع الأزهر حينئذ، ولم يقبل هذه المراسيم التي جاءت من إسطنبول لأن فيها تعديًا على الشرع والأوقاف وحقوق العباد، ولندع الجبرتي يروي ما قاله قال الشيخ سليمان المنصوري يا قاضي الإسلام هذه المرتبات فِعل نائب السلطان، وفعل النائب كفعل السلطان، وهذا شَيء جرت به العادة في مُدة الملوك المتقدمين، وتداولته الناس وصار يُباع ويشرى، ورتبوه أوقفوه على خيرات ومساجد وأسبلة ولا يجوز إبطال ذلك، وإذا بطل بطلت الخيراتُ، وتعطلت الشعائر المرصد لها ذلك، فلا يجوز لأحد يؤمن بالله ورسوله أن يُبطل ذلك، وإن أمر ولي الأمر بإبطاله لا يُسلم له ويُخالف أمره؛ لأن ذلك مخالف للشرع، ولا يسلم للإمام في فعل ما يخالف الشرع ولا لنائبه.
فلما سمع القاضي العثماني ذلك سكت ولم يعقّب، فقال الباشا والي مصر العثماني هذا يحتاج إلى المراجعة. يعلق محمد جلال كشك في كتابه ودخلت الخيل الأزهر على هذه الواقعة اللافتة بأن هذه المرافعة الدستورية للشيخ المنصوري كافية وحدها لكشف زيف كل ما يُكتب عن الدور التحضيري والتنويري الذي أدّته الحملة الفرنسية أو الاستعمار الغربي في المفاهيم السياسية بالعالم الإسلامي، ويقول هل هناك حكم بعدم دستورية مرسوم سلطاني أوضح وأجرأ وأكثر دقّة من هذا الحكم الذي أصدره الشيخ المنصوري، فأسكت به القاضي، بل وألزم الباشا أن يقول إن الأمر يحتاج لمراجعة.
ويكمل جلال كشك قائلا هذا المبدأ الخطير الذي يعلنه الشيخ المنصوري ببساطة في مواجهة نائب السلطان، والذي يُسقط الشرعية عن أي مرسوم سلطاني يخالف الشريعة أي يخالف الدستور أُقر في سنة 1735م أي قبل سقوط الباستيل واندلاع الثورة الفرنسية بأكثر من نصف قرن، قبل أن يفكر أي عقل غربي في القارة الأوروبية بجواز معارضة الملوك فضلا عن أن يجرؤ على إعلان ذلك في مواجهة السلطة وبمثل هذا الوضوح والتحدي.
ويتضح دور علماء الأزهر ومشايخه في ظل الحملة الفرنسية التي قادها نابليون في أواخر القرن الثامن عشر الميلادي، ومدى الوعي الكبير الذي بثّه العلماء، وقيادتهم الروحية للأمة في ثورتي القاهرة الأولى والثانية، وتنظيمهم للعمليات العسكرية والثورية بين عامة الناس؛ الأمر الذي جعل نابليون ينتقم منهم بإقحام الخيول الفرنسية في الأزهر، وتحويله إسطبلا، قبل أن يضطر إلى الانسحاب والخروج تحت ضغط من علمائه وشيوخه.
وفي السنوات التي أعقبت خروج الفرنسيين من مصر سنة 1801م جرت الكثير من المياه في البلاد، مع قدوم القوات الألبانية الأرناؤوط بقيادة محمد علي باشا وقوات عثمانية أخرى وبقائها في مصر، فضلا عن عودة قوات المماليك من الصعيد، واصطدام هذه العناصر الثلاثة سياسيا وعسكريا، الأمر الذي أحدث اضطرابات سياسية جمة. وقد خلص علماء الأزهر وكبار المشايخ ونقيب الأشراف أن محمد علي وفرقته الألبانية هم الأقدر على ضبط الأمور، لذا قرر الجميع اختيار محمد علي واليا على مصر على خلاف ما أراده السلطان العثماني وقتئذ.
يقول الجبرتي حول ذلك وانتصر محمد علي بالسيد عمر مكرم النقيب والمشايخ والقاضي وأهل البلدة والرعايا... تم له الأمر بعد المعاهدة والمعاقدة والأيمان الكاذبة على سيره بالعدل وإقامة الأحكام والشرائع، والإقلاع عن المظالم، ولا يفعل أمرا إلا بمشورته العلماء، وأنه متى خالف الشروط عزلوه وأخرجوه.
قبل السلطان العثماني مرغمًا اتفاق جماهير المصريين وعلى رأسهم العلماء على ولاية محمد علي، وقد أراد أن ينحني للعاصفة مؤقتا حتى تهدأ، ولهذا السبب في العام التالي سنة 1806م أرسل واليا جديدا اسمه موسى باشا، وقرر تعيين محمد علي مكانه في سلانيك باليونان، إذ أدرك العثمانيون ومن ورائهم الإنجليز مطامح ومطامع محمد علي في مصر.
حين نزل موسى باشا في الإسكندرية أرسل محمد علي إلى السيد عمر مكرم نقيب الأشراف وكبار علماء الأزهر ممن آزروه وجعلوه واليا على مصر وعرفهم بصورة الأمر الوارد بعزله وولاية موسى باشا، قائلا لهم اعملوا فكركم ورأيكم، وقد سوّق إليهم أن الباب العالي يتآمر عليهم ويريد عودة المماليك من جديد، وأن ما يحدث بإيعاز من البريطانيين حلفاء المماليك.
والحق أن الأمر لم يكن يستدعي إعمال فكر من المشايخ، فقد اتفق محمد علي في اجتماعه المنفرد مع عمر مكرم على الخطة التي ارتضاها هو للخروج من المأزق، وكانت تتلخص في كتابة مُذكّرة عرضحال إلى السلطان سليم الثالث على لسان المشايخ، ووضع محمد علي خطوطها الرئيسية بنفسه وأرسلها إلى شيخ الأزهر وقتها عبد الله الشرقاوي وأمروا المشايخ بتنظيم العرضحال وترصيعه ووضع أسمائهم وختومهم عليه ليرسله الباشا إلى الدولة فلم تسَعهم المخالفة. وظاهر من كلام الجبرتي أن المشايخ لم يكن لهم دخل في هذا العرضحال سوى الترصيع والتنميق والتوقيع.
كان السبب الرئيسي الذي جعل مجموعة كبيرة من المشايخ ينقادون لأفكار محمد علي أنه ربطهم بمصيره، فقد وزّع عليهم أملاك المماليك في القرى، وكانت تُدر عوائد سنوية كبيرة، وكان خلع محمد علي من ولاية مصر وعودة المماليك يعنيان نزع هذه الثروات من أيدي كبار العلماء ممن ارتضوها، وسنرى أن هذا المال المتدفق كان سببا في نجاح الباشا في ضرب بعضهم ببعض فيما بعد.
ورغم هذا العرضحال أصر الباب العالي الذي كان يمثّله القبطان باشا في الإسكندرية على تنفيذ الأوامر القادمة من إسطنبول، وأرسل قائد البحرية العثمانية رسالة جديدة إلى كبار المشايخ في مصر مثل الشيخ السادات وعمر مكرم وعبد الله الشرقاوي، فلما وصلت هذه الرسائل اجتمع معهم محمد علي من جديد وسألهم عنها، فقال الشيخ الشرقاوي ليس لنا رأي، والرأي ما تراه ونحن الجميع على رأيك، فقال لهم في غد أبعث إليكم صورة تكتبونها في رد الجواب.
في النهاية، استطاع محمد علي بواسطة كبار العلماء والمشايخ الذين كانوا يتصدرون الرأي العام ويوجّهونه من الإسكندرية إلى أسوان أن يفلت من العزل عن ولاية مصر، وأن يعود موسى باشا من حيث جاء، ولما فشل مخطط البريطانيين في عزل محمد علي وإعادة حلفائهم المماليك بزعامة محمد بك الدفتردار، كان سبيلهم لذلك القيام بحملة عسكرية مثل حملة نابليون من قبل، وهي الحملة التي عُرفت باسم حملة فريزر سنة 1807م، وقد أفشلها الشعب المصري في رشيد، والمقاومة الباسلة التي اضطرت الإنجليز إلى الانسحاب من البلاد.
خلال تلك الحقبة 1805 1807م استفاد محمد علي باشا من الدعم الكبير الذي يتلقاه من العلماء والمشايخ في الأزهر سياسيا وماليا. على الجانب السياسي، نجح في إفشال مخططات الباب العالي والبريطانيين لعزله، وأما الشق المالي فيتمثل في أن العلماء كانوا يعطونه شرعية لجمع الأموال والضرائب التي يريدها للإنفاق على الجنود وتحصين القاهرة ومن ثم تقوية مركزه، فضلا عن حرب جيوب المماليك الهاربين في الصعيد.
وبعدما تأكد من ثبات مركزه الداخلي وانصراف السلطان العثماني عنه رأى أن مشاركة العلماء له في الحكم أو الشورى التي ألزموه بها أمست معوّقا له عن الاستقلال والانفراد بالسلطة وتقوية مركزه، وكان أول قراراته لتقليم أظافر العلماء إبطال الامتيازات المالية التي كانت تعود عليهم من الأراضي الزراعية التي أُعطيت لهم، أو التي يسميها الجبرتي بـمسموح المشايخ، كما يقول في تاريخه لما انقضى هذا الأمر هزيمة حملة فريزر واطمأن خاطره، وخلص له الإقليم المصري... فأول ما بدأ به أنه أبطلَ مسموح المشايخ والفقهاء.
بعد ذلك، شرع الباشا في فرض الضرائب على العلماء وأهل الحرف والصنائع، ثم تمادى في فرض الضرائب على الأطيان والمتاجر، وحين طلعوا إليه في القلعة ينصحونه بتخفيض الضرائب عن كاهل المصريين لامهم بأنهم شركاؤه في أخذ الضرائب من الفلاحين الذين يعملون في أراضيهم التي التزموا بها، أي التي أقطعهم إياها، ولم يملك العلماءُ سوى الانسحاب أمام محمد علي، وخرجوا من عنده متخاذلين، وقد ازدادوا وهنا على وهن، كما يقول الجبرتي.
وأمام هذه المظالم المالية والضرائب المرهقة وتجرؤ الباشا على الاستيلاء على الأراضي الموقوفة على المساجد والعلماء وطلبة العلم بحجة عدم وجود وثائق لها، وتضرر الناس والفلاحين، اجتمع العلماء واتفقوا على الوقوف ضده، والكتابة للباب العالي لإسقاطه، عندها أرسل الباشا سكرتيره الخاص ديوان أفندي الذي هددهم وأخافهم ونصحهم بالاجتماع بمحمد علي في القلعة، ولكن المشايخ وعلى رأسهم عمر مكرم قالوا لا نذهب إليه أبدا ما دام يفعل هذه الفِعال، فإن رجع عنها وامتنع عن إحداث البدع والمظالم عن خلق الله رجعنا إليه وتردّدنا عليه كما كنّا في السابق؛ فإننا بايعناه على العدل لا على الظلم والجور.
ظل محمد علي يُفكّر مليًّا في تفريق العلماء واستطاع بالفعل شراء ذمم بعضهم. أما الشرفاء وعلى رأسهم الشيخ عمر مكرم فكان مصيرهم القبض عليهم والنفي. وهكذا تمكن من القضاء على طبقة العلماء وإضعاف تأثيرها في الشؤون السياسية والعامة. ولم يكن سقوط طبقة العلماء بسبب القوة العسكرية التي أصبح يتمتع بها محمد علي وشراء ذمم بعضهم فقط، ولكنه نجح في بث روح الشك والريبة في قلوب عامة الناس، فتفرق الجمع، وأصبح الباشا سيد البلاد بلا منازع لا سيما بعد مذبحة القلعة ضد المماليك سنة 1811م.
بعد قرابة مئة عام من هذه الحوادث، وقف مفتي الديار المصرية الشيخ محمد عبده متأملا في حال المصريين بعد الحكم المطلق والفردي لمحمد علي وأبنائه، وقضائه على طبقة العلماء سياسيًّا، والحجر عليهم داخل أروقة الأزهر فقط، فكتب يقول ما الذي صنع محمد علي؟ لم يستطع أن يُحيي، ولكن استطاع أن يُميت. كان معظم قوة الجيش معه، وكان صاحب حيلة بمقتضى الفطرة.. فأخذ يستعين بالجيش، وبمن يستميله من الأحزاب، على إعدام كل رأس من خصومه، ثم يعود بقوة الجيش وبحزب آخر على مَن كان معه أولًا، وأعانه على الخصم الزائل، فيمحقه.. وهكذا، حتى إذا سُحقت الأحزاب القوية، وجَّه عنايته إلى رؤساء البيوت الرفيعة، فلم يدع منها رأسًا يستتر فيه ضمير أنا واتخذ من المحافظة على الأمن سبيلًا حجة لجمع السلاح من الأهلين، وتكرر ذلك منه مرارًا حتى فسد بأسُ الأهالي، وزالت مَلَكة الشجاعة منهم، وأجهَز على ما بقي في البلاد من حياة في أنفس بعض أفرادها، فلم يبقَ في البلاد رأس يعرف نفسه حتى خلعه من بدنه أو نفاه مع بقية بلده إلى السودان فهلك فيه.
ويختتم ملاحظاته قائلا أخذ يرفع الأسافل ويعليهم في البلاد والقرى حتى انحطَّ الكرامُ، وساد اللئام، ولم يبقَ في البلاد إلا آلات له يستعملها في جباية الأموال وجمع العساكر بأية طريقة، وعلى أي وجه.. فمَحق بذلك جميع عناصر الحياة الطيبة من رأي وعزيمة واستقلال نفسي؛ لتصير البلاد المصرية جميعها إقطاعًا واحدًا له ولأولاده، على أثر إقطاعات كثيرة كانت لأمراء عدة. | https://www.aljazeera.net/politics/2024/7/12/%d9%84%d8%a7-%d8%b9%d9%84%d9%85%d8%a7%d8%a1-%d9%81%d9%8a-%d8%ad%d8%b6%d8%b1%d8%a9-%d8%a7%d9%84%d8%a8%d8%a7%d8%b4%d8%a7-%d9%83%d9%8a%d9%81-%d9%83%d8%b3%d8%b1-%d9%85%d8%ad%d9%85%d8%af | 2024-07-12T10:12:13 | 2024-07-12T10:41:54 | أبعاد |
|
89 | لعبة العداءات السياسية.. لماذا لا يحب ماكرون نتنياهو؟ | لا تعد غزة، وفلسطين بأسرها، على أهميتها الجيوسياسية سوى مسرح للمناورات التكتيكية الفرنسية، أما بيروت فهي المكان الذي يهم باريس حقا، وهي كلمة السر في توتر العلاقات بين نتنياهو وماكرون. | انتصارنا هو انتصار لكم، وانتصاركم هو انتصار لنا، هذه معركة الحضارة اليهودية المسيحية ضد البربرية
في يوم الخميس 30 مايوأيار الماضي، خرج بنيامين نتنياهو، رئيس الحكومة الإسرائيلية المتهم حاليا بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية حسب المحكمة الجنائية الدولية، في لقاء متلفز على شاشة القناة الفرنسية الأولى تي إف 1 وأختها الصغرى إل سي إي. كان اللقاء أشبه ما يكون بخطاب جماهيري وجهه بيبي للشعب الفرنسي على مدار 30 دقيقة غرد خلالها منفردا، في أول خروج إعلامي له على منبر فرنسي منذ أحداث السابع من أكتوبرتشرين الأول 2023.
جاء اللقاء في توقيت حساس، بعد أن صار اسم نتنياهو الأكثر ترددا في أروقة المحكمة الجنائية الدولية، قبل أن تصدر مذكرة اعتقال بحقه من المحكمة بعد ذلك بأشهر.
خلال اللقاء، لعب نتنياهو ببراعة على الحبال التي يعرفها جيدا، وفي مقدمتها خطر الإرهاب الإسلامي الذي يهدد فرنسا وإسرائيل معا وفق زعمه، كما أشار إلى أن التصعيد القانوني ضده لا يستهدف شخصه، ولكنه يستهدف دولة إسرائيل، مرددا قِطَعا من الدعاية الإعلامية الإسرائيلية الشهيرة حول حق الدولة اليهودية في الدفاع عن نفسها ضد خصومها الذين يحيطون بها.
تحدث بيبي أمام الفرنسيين أيضا عن الجهود المزعومة التي بذلتها حكومته من أجل إيصال المساعدات للشعب الغزي المنكوب برا وبحرا وجوا، مدعيا أنه يعتبر مقتل مدني فلسطيني واحد أمرا مريعا، وأن الجيش الإسرائيلي يحرص على حياة المدنيين الفلسطينيين حرصه على حياة جنوده.
وبالتزامن، كان طرفا من الرد على نتنياهو حاضرا في نفس اللحظة التي ألقى فيها خطابه، عندما تجمع المئات من المتظاهرين أمام مقر قناة تي إف 1 للاحتجاج على إعطاء الكلمة لرجل يُشهد له بإراقة الدماء بلا رادع لتحقيق أهدافه السياسية وضمان البقاء في السلطة، كما يتهمه سياسيون في إسرائيل نفسها.
في 21 نوفمبرتشرين الثاني الماضي، جاء النبأ الذي لم يتوقع أكثر المتفائلين أن يصدر يوما ما مذكرة اعتقال أصدرتها المحكمة الجنائية الدولية بحق بنيامين نتنياهو ووزير دفاعه آنذاك يوآف غالانت بتهمة ارتكاب جرائم ضد الإنسانية وجرائم حرب، في علامة على أن الجريمة الإسرائيلية باتت أكبر وأكثر بشاعة من أن تتجاهلها أعين العالم رغم تواطؤ قواه الكبرى على دعم الإبادة الصهيونية في غزة على مدار أكثر من عام.
كانت فرنسا إحدى تلك الدول التي دعمت حرب نتنياهو الإجرامية منذ اليوم الأول، ليس لأن الرئيس الفرنسي ماكرون يحب نتنياهو والمسؤولين الإسرائيليين ربما يكون العكس أقرب للصحة، لكن لأن أوروبا قاطبة ترى دعم إسرائيل قدرا مقدورا.
غير أن حكم الجنائية وضع باريس في موقف محرج، حيث بات يتعين عليها الالتزام بقرار المحكمة بحكم عضويتها في نظام روما الأساسي، ما دفعها للإعلان على استحياء في بلاغ لوزارة خارجيتها دعمها للقانون الدولي، دون أن تؤكد بشكل واضح وصريح في أنها ستقدم على اعتقال نتنياهو أو غالانت إن هما وطئا ترابها، وهو موقف تراجعت عنه باريس لاحقا مؤكدة بشكل لا لبس فيه أن نتنياهو يتمتع بالحصانة من الاعتقال نظرا لأن إسرائيل نفسها ليست عضوا في نظام روما الأساسي.
أيام قليلة فصلت بين الموقفين الفرنسيين، لكن مياها كثيرة جرت خلالها. كان موقف فرنسا الأول، المتردد بين التزامها النظري بالقانون الدولي والتعقيدات العملية المرتبطة بهذا الالتزام، بمثابة تجلٍّ لمقاربة تعتمدها باريس منذ مدة، تقوم على اتباع سياسة شد الحبال مع تل أبيب، وتعني تقديم الدعم مع بعض التحفظات التي تتجاهلها إسرائيل غالبا، وهو النمط الذي ينعكس أيضا على العلاقة الشخصية بين إيمانويل ماكرون وبنيامين نتنياهو، والتي يمكن وصفها بأنها مرتبكة في أدنى الأحوال.
ففي يوم 24 أكتوبرتشرين الأول، خرج ماكرون عن بروده المعتاد حينما انتقد نتنياهو قائلا إن الدفاع عن الحضارة لا يكون بنشر الهمجية في كل مكان، وذلك خلال مؤتمر دولي هدفه المعلن هو دعم سيادة الشعب اللبناني بالتزامن مع الحرب الإسرائيلية، وقد جاءت تعليقات ماكرون في معرض رده على تصريحات لرئيس الوزراء الإسرائيلي وصف خلالها الحرب على غزة ولبنان بأنها حرب الحضارة ضد الهمجية.
لم تكن تلك التصريحات سوى حلقة في سلسلة من الانتقادات الماكرونية المبطنة والمعلنة ضد نتنياهو، بدأت بالتلويح بفرض حظر على توريد الأسلحة المستخدمة في الحرب إلى إسرائيل، ووصلت ذروتها بانتقاد عدم التزام إسرائيل بمقررات الأمم المتحدة، رغم أن الدولة العبرية تأسست بقرار من الأمم المتحدة إشارة إلى قرار تقسيم فلسطين عام 1947، في تعريض نادر لقائد غربي بالطريقة التي تأسست بها الدولة الصهيونية على أرض فلسطين، استدعى ردا حادا من نتنياهو زعم فيه أن إسرائيل تأسست بدماء مقاتليها الأبطال في حرب الاستقلال ومنهم ناجون من المحرقة التي شارك فيها نظام فيشي في فرنسا.
على كل حال، كان مؤتمر دعم لبنان أقرب إلى محاولة فرنسية يائسة لاستعادة دورها في الصراع المحتدم حاليا في منطقة الشرق الأوسط، بيد أنه، ولسوء حظ الفرنسيين أو لربما لسوء عملهم، أخفق في تحقيق أهدافه، حيث لم يحضر من الدول الـ54 المدعوين إلى باريس إلا ممثل حكومي واحد، وكان على رأس قائمة الغائبين أنتوني بلينكن، وزير الخارجية الأميركي الذي فضّل الذهاب إلى الدوحة بحثا عن اختراق في المفاوضات بين إسرائيل وبين حركة المقاومة الإسلامية حماس.
حاولت باريس التقليل من شأن عدم حضور بلينكن، مؤكدة أن السبب هو الأجندة المزدحمة لوزير الخارجية الأميركي، فيما تشير تقارير صحفية إلى أن عدم حضور السفير الأول لأميركا يأتي لعدم رغبة واشنطن في تزكية تحركات باريس، في الوقت الذي تزعم فيه الدوائر المحيطة بماكرون أن فرنسا هي الدولة الوحيدة التي تحرص على التواصل المباشر مع جميع الأطراف للوصول إلى اتفاق حقيقي وواقعي.
منذ وصوله إلى كرسي الرئاسة في عام 2017، حاول ماكرون العودة ببلاده إلى الشرق الأوسط بعد انحسار دورها أمام تغول الأميركيين والبريطانيين وحتى الروس والصينيين، حنينا إلى تلك الأيام التي كانت فرنسا تبصم فيها على حضور في القاهرة ودمشق وبيروت. لذلك حاول الرئيس الفرنسي أكثر من مرة التحليق فوق المشكلات الداخلية التي يعاني منها لبنان، البلد الشرق أوسطي الأقرب لقلب فرنسا، والذي استُقبل فيه ساكن الإليزيه قبل أعوام استقبال الفاتحين من طرف شريحة من الشعب كفرت بسياسييها تماما، وباتت تنتظر المدد من أي شخص، وإن كان المحتل القديم.
بعد السابع من أكتوبرتشرين الأول 2023، ضاعف ماكرون من تحركاته الدبلوماسية، وحاول خطف الأضواء حينما تطوع لاقتراح إنشاء تحالف دولي ضد حماس، يشبه التحالف الذي تم تشكيله لمحاربة تنظيم الدولة، بعدها أعلن عن عدة خطوات أخرى تأرجحت يمينا ويسارا بغير هدى، منها إرسال المساعدات الطبية لغزة، والعمل على الاعتراف بدولة فلسطينية، ثم محاولة التوصل لاتفاق وقف إطلاق نار لمدة 21 يوما بعد اشتعال جبهة لبنان، ثم مؤتمر لجمع التبرعات، لكن كل هذه المحاولات لم تلقَ صدى واسعا، ولم تسعفه في الحصول على ما يريد، وأظهرت أن باريس فقدت الكثير من قوتها الخارجية، حتى في معاقلها التقليدية.
لقد مثّل طوفان الأقصى على وجه الخصوص تحديا غير مسبوق لسياسة فرنسا. فمنذ انطلاقة الطوفان، حرصت باريس على إظهار كافة ملامح الدعم الرسمي والشعبي للاحتلال الإسرائيلي، وتحزبت وسائل إعلامها لرثاء الإسرائيليين وشيطنة الفلسطينيين. لقد كان الجو العام في فرنسا بعد السابع من أكتوبر شبيها حد التطابق بما عاشه العالم بعد 11 سبتمبر، حيث هيمن عليه صوت واحد هو صوت السردية الصهيونية التي جرّمت أي تعاطف مع غزة وسكانها وليس مع المقاومة الفلسطينية فقط.
هذا التصهين في السردية السياسية سرعان ما بدأت تظهر مثالبه بعد تكشف الحقائق الدموية للحرب الإسرائيلية تباعا إلى درجة لم يعد من الممكن السكوت عنها، هذه الدماء يبدو أنها أصابت عين السياسة الفرنسية بالضباب، إلى درجة أنه لا أحد بات يعرف ما الذي يفكر فيه إيمانويل ماكرون وفريقه، المحاصر بين اليسار الذي كان يرى الرئيس ضليعا في جرائم الإبادة التي ترتكبها تل أبيب، وبين اليمين الكلاسيكي، وأقصى اليمين الذي واصل اعتناق السردية الصهيونية على قاعدة العداء المشترك للعرب والمسلمين، والذي بات يرى أن ماكرون لا يدعم إسرائيل بما يكفي، بل إنه ربما يكون متعاطفا مع الفلسطينيين.
في زيارة له لكندا في سبتمبرأيلول الماضي، كانت صافرات الاستهجان تنتظر الرئيس الفرنسي من طرف مؤيدين للقضية الفلسطينية، حينها سيلتفت ماكرون نحو أحد الصحفيين قائلا له الناس يهاجمونني كثيرا، لكنهم لا يعرفون أبدا كيف أقاتل بكل ما أوتيت من قوة حتى تتحسن الأمور.
قبلها في مارسآذار 2024، ولكن في مرسيليا الفرنسية هذه المرة، كان المشهد أكثر رومانسية حينما توجهت سيدة له بالكلام متوسلة إليه بأن يفعل أي شيء لحماية الأطفال من الموت الذي يواجهونه في فلسطين، ليجيبها بأنه سيفعل كل ما يمكن القيام به من أجل الوصول إلى اتفاق لوقف إطلاق النار. وما بين المشهدين، يستغرب ماكرون والمقربون منه من عدم الاعتراف بالدور الكبير الذي يقوم به الرئيس الفرنسي لوقف الحرب في غزة وفي لبنان، وفق ما أسرّ أحد المقربين منه لموقع القناة الأولى الفرنسية.
الخلاصة هي أنه لا أحد فهم تماما أو رضي عن سياسة ماكرون تجاه حرب غزة، بمن فيهم إسرائيل ورئيس وزرائها بنيامين نتنياهو. على العكس تماما، اختار نتنياهو ماكرون ليكون الدمية التي يوجه إليه ضربات الاستياء من عدم الحصول على ما يكفي من الدعم الغربي لحربه، وقد تجلى ذلك كثيرا عقب تصريحات ماكرون السابق الإشارة إليها حول نشأة إسرائيل، وتغريدة نتنياهو حادة اللغة على منصة إكس واستحضار دور نظام فيشي الموالي للنازية.
يخبرنا هذا الاشتباك اللفظي بحقيقة واضحة، وهي أن ماكرون لا يحب نتنياهو كثيرا، والعكس صحيح أيضا. في الواقع، يبدو أنه لا أحد في الغرب يحب شخص نتنياهو، بمن فيهم -للمفارقة- دونالد ترامب نفسه، وفق ما ذكره صهره جاريد كوشنر ضمن شهادته على فترة مقامه في البيت الأبيض. لكن الخلاف بين نتنياهو وبين ماكرون تجاوز الغرف المغلقة، وخرج إلى العلن متجاوزا الأعراف الدبلوماسية التي تحاول فرنسا الالتزام بها كثيرا للحفاظ على صورتها الخارجية.
في تقرير لها تناول العلاقة الشخصية بين الرجلين، تقول صحيفة هآرتس الإسرائيلية إن كلّا من بنيامين نتنياهو وإيمانويل ماكرون تمكنا من العودة بالعلاقات الفرنسية الإسرائيلية 30 عاما إلى الوراء. العلامة الأكبر لهذه الردة كانت تلويح الرئيس الفرنسي بحظر تصدير الأسلحة لإسرائيل، صحيح أن جيش الاحتلال لا يعتمد على التسليح الفرنسي، حيث لا تتجاوز قيمة الصادرات الفرنسية لجيش الاحتلال 30 مليون دولار، وهو رقم ضئيل للغاية مقارنة بالمدد غير المنقطع الذي تقدمه الولايات المتحدة، إلا أن ذلك التلويح وحده لا يخلو من دلالة رمزية قوية.
تقول هآرتس إن العبرة لا تتعلق بكمية الأسلحة التي تتحصل عليها إسرائيل، ولا بالقيمة المادية لهذه الأسلحة، فالأمر متجاوز لذلك لأن فرنسا هي عضو دائم في مجلس الأمن، كما أن صوتها الدبلوماسي مسموع وإن بات اليوم أكثر خفوتا من ذي قبل. والأهم من ذلك هو أن الموقف الذي يلوح به ماكرون يستند إلى سابقة تاريخية، حينما أعلن شارل ديغول حظر تصدير الأسلحة لإسرائيل على خلفية حرب عام 1967، ما تسبب في برود كبير في علاقات الطرفين، ودفع إسرائيل للاستغناء عن طائرات ميراج الفرنسية والاعتماد بشكل حصري على الأسلحة الأميركية في العقود اللاحقة.
سيستمر الموقف الفرنسي المتردد تجاه إسرائيل حتى ولاية الرئيس الفرنسي فاليري جيسكار ديستان الذي كان متحفظا على اتفاقية السلام التي وقعتها تل أبيب من القاهرة في زمن أنور السادات. ومع وصول جاك شيراك إلى الحكم، الذي كان يصنف من قبل البعض صديقا لياسر عرفات لدرجة أنه استقبله للعلاج في مستشفى في باريس قبل وفاته ويرى القضية بعيونه كما يقول مقربون منه، لم تكن الأمور أفضل كثيرا لإسرائيل، ولا أدل على ذلك من مقطع فيديو شهير للرئيس الفرنسي الأسبق وهو يتلاسن مع مجموعة من رجال الشرطة الإسرائيليين داخل مدينة القدس التي كان يرفض الاعتراف بالسيادة الإسرائيلية عليها.
لا يعني ذلك أن فرنسا نبذت إسرائيل تماما في زمن شيراك وقبله، فمن المؤكد أنها كانت أقرب لإسرائيل منها للفلسطينيين بفارق شاسع، لكن الساسة الفرنسيين في ذلك الوقت لم يعتنقوا الرواية الصهيونية تماما. لكن كل ذلك سيتغير تماما مع وصول نيكولا ساركوزي، الرجل القادم من اليمين الفرنسي الذي لم يتردد يوما في إبداء تقاربه الشديد مع رؤى إسرائيل وسياساتها، وهو ما سار عليه خليفته فرانسوا هولاند رغم كونه محسوبا على اليسار.
مؤخرا سيلتقي الرجلان ساركوزي وهولاند بجانب ماكرون في اصطفاف ثلاثي رئاسي جاء للترحيب بفريق كرة القدم الإسرائيلي خلال مباراته أمام منتخب الديوك في باريس الشهر الماضي. في البداية، كان ماكرون يعتبر الاختيار المثالي والرجل المناسب تماما لاتباع مسار سلفيه، لكن الرئيس الفرنسي الحالي، غير المتوقع تماما، اختار التأرجح بين مسار ساركوزي-هولاند وبين النموذج الشيراكي، مقتبسا -للمفارقة- ذات الملاسنات مع الشرطة الإسرائيلية في القدس الشريف باعتبارها إرثا سياسيا فرنسيا.
لكن على خلاف شيراك، يدافع ماكرون كثيرا عن إسرائيل علنا بلا غضاضة، ولا يمكن إحصاء عدد المرات التي أشاد بها في كلماته، وعدد المكالمات التي أكد فيها للإسرائيليين أن أمن إسرائيل هو من نفس قيمة أمن فرنسا بالنسبة إليه، ويكأنه يحاول إثبات أمر ما أو على الأرجح إخفاء حقيقة ما بهذه التأكيدات، هذه الحقيقة هي الخلاف الذي لم يعد من الممكن إخفاؤه مع رئيس الوزراء الإسرائيلي.
يتقاسم ماكرون ونتنياهو الكثير من الملامح والتحديدات الشخصية، فهما متشابهان حد التنافر، ماكرون، وحسب عدد من التحليلات النفسية التي تناولت شخصيته، هو شخص لا يؤمن بوجود حدود أو ضوابط أخلاقية ثابتة تلجم رغباته وطموحاته الشخصية، فهو يؤمن بقدرته المطلقة تماما على فعل أي شيء لأنه مميز واستثنائي، كما أنه يمكن اكتشاف معالم النرجسية الخفية لدى الرئيس الفرنسي على مستوى قراراته السياسية.
فعلى سبيل المثال لا الحصر، وبعد أن أتت الانتخابات البرلمانية الأخيرة باليسار على قمة النتائج، لم يُعِر ماكرون أي انتباه لذلك، وضرب بأصوات الفرنسيين عُرض الحائط، وشكّل حكومة جديدة خالية من رموز اليسار الذين خاضوا الحملات الانتخابية.
على الجانب الآخر، نجد بنيامين نتنياهو، الذي يعيش على وقع نسخته الخاصة من جنون العظمة ويجر خلفه إسرائيل لتتبع أحلامه ومخاوفه وهواجسه. لم يتقن نتنياهو قط حرفة كما أتقن التجارة بالدم والمعاناة والخوف، لذلك فإنه انتقى كلماته بعناية شديدة يوم السابع من أكتوبر حينما اتصل بالرئيس الأميركي جو بايدن قائلا له لقد تعرضنا هذا الصباح لأسوأ هجوم منذ الهولوكوست، لم يكن الوصف بريئا، بل كان استدعاء متعمد لتبرير أي رد فعل عنيف تجاه الفلسطينيين.
يؤكد بيبي، الجندي الفاشل وخبير التسويق البارع والسياسي الذي تحوم حوله شبهات الفساد، أنه لا يمكن بحال الوقوف أمام خططه الدموية في غزة وهو الذي أعلن كثيرا بالقول أو الفعل أنه لا يعبأ بالقانون الدولي وقيوده، كما يرى أن مصيره الشخصي ومصير إسرائيل متحدان بشكل لا ينفصم، مجسدا أعلى درجات الاستحقاقية المرضية كما يصفها المختصون، لذلك لم يُخفِ نتنياهو قط امتعاضه من كل رئيس غربي لا يجاري رغباته الجامحة، سواء كان اسم هذا الرئيس باراك أوباما أو إيمانويل ماكرون، القائد الغربي الأبرز الذي تجرأ على انتقاد نتنياهو علنا طوال أكثر من عام على الحرب.
في يوم 16 أكتوبرتشرين الأول 2023، وخلال اتصال هاتفي بين نتنياهو وماكرون، احتج الأخير على الضربات الإسرائيلية الضارية والتي تثقل الفاتورة الإنسانية في غزة، كما عبر الرئيس الفرنسي عن قلقه الكبير من الوضع في الضفة الغربية بسبب العنف الكبير ضد المدنيين وارتفاع وتيرة الاستيطان في تحدٍّ واضح لقرارات الأمم المتحدة.
وفي الكواليس والغرف المغلقة، لم يكن ماكرون يخفي امتعاضه الكبير وحنقه الأكبر على بنيامين نتنياهو، وتقول تقارير صحفية إن الرئيس الفرنسي أسرَّ لمقربين منه بأن تحركات الإسرائيليين تجعلهم يخرجون شيئا فشيئا عن دائرة المواقف التي يمكننا دعمها من طرف الإليزيه. ليس هذا فقط، بل إن الإعلام الفرنسي أورد معلومات مفادها أن الثقة شبه منعدمة بين الرئيس الفرنسي ورئيس الحكومة الإسرائيلية، مشبها إياها بالعلاقة بين ماكرون والرئيس الروسي فلاديمير بوتين.
يتحرج ماكرون كثيرا من الجرائم الإسرائيلية الحالية على ما يبدو، ويعد هذا مدخلا رئيسيا لفهم موقفه المتأرجح بين دعم إسرائيل والتنديد بالمبالغات الإجرامية لحكومة نتنياهو. رغم أن الإعلام الفرنسي والسياسيين على السواء -باستثناء بعض اليسارـ ما زالوا يعتبرون أن إسرائيل لها الحق في الدفاع عن نفسها، وأن عشرات الآلاف من الأطفال والنساء والأبرياء ما هي إلا خسائر جانبية مبررة خلال هذه العملية.
وجاء حكم الجنائية الدولية بتوقيف نتنياهو وغالانت ليضرب قلب المعضلة السياسية الماكرونية، ويضع فرنسا وأوروبا بأكملها في حرج أكبر في الوقت الذي يضرب فيه فلاديمير بوتين القارة العجوز بضراوة غير مسبوقة. وعلى عكس أميركا التي تبجحت بمهاجمة المحكمة الجنائية وأفعالها، تخشى أوروبا أن سلوكا مماثلا مع إسرائيل سوف يصب في النهاية في مصلحة روسيا التي لن تفوت الفرصة -غير مخطئة في ذلك- من أجل تسليط الضوء على معايير العدالة المزدوجة التي يتبناها الغرب.
بالنسبة لفرنسا تحديدا، ربما يلحق مثل هذا التصرف ضررا لا يمكن إصلاحه بسمعتها، حيث سيعد نكوصا عن التزامها التاريخي في المحاكمات الدولية الكبرى، مثل دعم المحكمة الجنائية الدولية في محاكمة قادة يوغوسلافيا السابقة إثر الجرائم المرتكبة في البوسنة والهرسك، ومحاكمة المسؤولين عن الإبادة الجماعية في رواندا، ودعم الجهود الدولية لمحاسبة مرتكبي الجرائم في دارفور، وهو ما يعني أن دعم إسرائيل المتواصل سوف يأتي محملا بفاتورته الخاصة من التبعات.
أبعد من ذلك، هناك مصالح براغماتية تماما تجعل إيمانويل ماكرون راغبا في تحجيم سلوك إسرائيل في أدنى الأحوال، وكلمة السر هنا هي لبنان. فبعد كل شيء، لا تعد غزة، وفلسطين بأسرها، على أهميتها الجيوسياسية سوى مسرح للمناورات التكتيكية الفرنسية، أما بيروت فهي المكان الذي يهم باريس حقا، وهي للمفارقة البلد الذي اختار نتنياهو توسيع دائرة النيران إليه، وهو ما لم يعجب الإليزيه كثيرا.
في يوم 11 أكتوبرتشرين الأول، سيصعّد ماكرون غضبه تجاه إسرائيل خلال اجتماع لقادة مجموعة دول ميد 9 التي تضم دول الاتحاد الأوروبي المطلة على البحر المتوسط، قائلا إنه من غير المقبول أبدا أن يستهدف الجيش الإسرائيلي قوات الأمم المتحدة الموجودة في لبنان، مشيرا إلى قصف جيش الاحتلال المقر الرئيسي لليونيفيل في رأس الناقورة، وهو واحد من الاستهدافات الإسرائيلية المتكررة للمواقع التابعة للقبعات الزرقاء.
وأردف ماكرون مؤكدا أن الوصول إلى اتفاق لوقف إطلاق النار في غزة وفي لبنان بات ضروريا للجميع، وبات ملحّا لتحرير أسرانا. في نفس الخطاب سيبرر الرئيس الفرنسي موقفه بشأن مسألة إيقاف تصدير الأسلحة لدولة الاحتلال برغبة باريس في عدم انتشار العنف في المنطقة، حيث سيقول في هذا الصدد بعض المسؤولين الحاضرين هنا قاموا أيضا بمنع إرسال الأسلحة إلى مسرح الأحداث، هذا هو السبيل الوحيد لمنع تصاعد العنف في المنطقة.
كانت كرة الثلج قد بدأت في التدحرج بقوة على الجبهة اللبنانية منذ اغتيال حسن نصر الله وقيادات حزب الله نهاية سبتمبرأيلول الماضي لتصنع فجوة ضخمة بين إسرائيل وفرنسا. لقد تيقن ماكرون أن نتنياهو كان يخدعه طوال الوقت، تاركا إياه يسعى على قدم وساق، في حين يخطط هو لإشعال الحرب أكثر وأكثر بل وتوسيعها إلى لبنان رغم علمه بأهميتها بالنسبة لباريس.
لذلك، عندما صدرت مذكرة الاعتقال في حق نتنياهو، خرجت فرنسا بموقف غير حاسم في محاولة لتكديس أوراقها لانتزاع تنازلات من نتنياهو في الملف اللبناني، والضغط على إسرائيل لقبول فرنسا وسيطا في الاتفاق بجانب الولايات المتحدة.
لذلك، بمجرد أن لاحت بوادر الاتفاق اللبناني في الأفق، نكصت فرنسا على عقبيها مصرحة في بلاغ لوزارة الخارجية أن بنيامين نتنياهو سيتمتع بحصانة الدول غير الأطراف في المحكمة الجنائية الدولية، ومؤكدة أن فرنسا تعتزم مواصلة العمل بشكل وثيق مع نتنياهو لتحقيق السلام والأمن للجميع في الشرق الأوسط، بما يتناقض رأسا مع الإعلان السابق حول احترام نظام العدالة الدولية.
لم يكن هذا التراجع حبا في نتنياهو، ولكنه مناورة سياسية حتى تتمكن باريس من تتويج مسعاها في الوصول لاتفاق وقف إطلاق نار في لبنان، وهو ما لم يكن رئيس الحكومة الإسرائيلية ليقدمه لماكرون مجانا ودون مقابل، والأهم أنه عودة لنقطة الأساس في العلاقات الفرنسية-الإسرائيلية والأوروبية-الإسرائيلية بشكل عام. فإسرائيل هي ابنة أوروبا وأمها وصديقتها، وما سوى ذلك مجرد جمل اعتراضية وإشارات رمزية لا تزن كثيرا في أوقات الحسم، سواء صدرت عن جاك شيراك أو إيمانويل ماكرون. | https://www.aljazeera.net/politics/2024/12/6/%d8%b9%d8%af%d8%a7%d8%a1-%d9%85%d8%ba%d9%84%d9%81-%d8%a8%d9%88%d8%af-%d8%a3%d8%b5%d9%81%d8%b1-%d9%84%d9%85%d8%a7%d8%b0%d8%a7-%d9%84%d8%a7-%d9%8a%d8%ad%d8%a8-%d9%85%d8%a7%d9%83%d8%b1%d9%88%d9%86 | 2024-12-06T13:10:43 | 2024-12-06T13:31:13 | أبعاد |
|
90 | ليلة ضرب تل أبيب.. كيف تمكن الحوثيون من بناء سلاح مسيرات هجومي في أقل من 10 سنوات؟ | بالنسبة لجماعة أنصار الله الحوثي فإن المسيرات هي رأس حربة سلاحها الجوي، ومن ثم فإنها تعمل على تطويره بكل السبل الممكنة، واستخدامه بأكثر الأساليب فاعلية، وقد كان قصف تل أبيب مؤشرا واضحا على تطورها | في صباح الجمعة 19 يوليوتموز، أعلنت جماعة أنصار الله الحوثي في اليمن أنها استهدفت تل أبيب بطائرة مسيرة قادرة على التخفي عن الرادار، وأسفر الهجوم عن تفجير أحد المباني وقتل شخص واحد مع وقوع عدد من الإصابات.
توعدت إسرائيل بالرد على الضربة، مؤكدة أنها لا تستبعد قصف أهداف داخل اليمن، وفي هذا السياق أفادت إذاعة الجيش الإسرائيلي أن المسيرة لم تُعتَرض لعدم تصنيفها هدفا معاديا.
من جهة أخرى، قال المتحدث العسكري باسم الحوثيين يحيى سريع إن سلاح الجو المسير للجماعة استهدف تل أبيب بمسيرة جديدة من طراز يافا، قادرة على تجاوز المنظومات الاعتراضية، ولا تستطيع الرادارات اكتشافها.
مضيفا أن تل أبيب تقع في مدى أسلحة الجماعة، وستكون هدفا رئيسيا لها، وأن القوات المسلحة اليمنية تعلن منطقة يافا المحتلة منطقة غير آمنة، وستكون هدفا أساسيا في مرمى أسلحتنا، وإننا سنقوم بالتركيز على استهداف جبهة العدو الصهيوني الداخلية والوصول إلى العمق.
وبالنسبة للطائرة المسيرة يافا، فقد أعلنت بعض المصادر الإسرائيلية أنها تشبه إحدى مسيرات سلسلة صماد، التي يمتلكها الحوثي، وأشارت التقديرات الإسرائيلية إلى أن الطائرة المسيرة قطعت نحو 2000 كيلومتر، وسلكت مسارات جديدة لتضليل أنظمة الرصد التابعة للجيش.
وطبقا لصحيفة يديعوت أحرونوت فإنّ معلومات إسرائيلية تفيد بأنّ المُسيرة حلقت في مسارات غير معتادة مقارنة بالمرات السابقة، وهذا أثر سلبا على أنظمة الكشف والرصد التابعة للجيش الإسرائيلي.
وبحسب التقديرات الإسرائيلية فقد تم تصميم رأس الطائرة الحربي المتفجر الذي يزن بضعة كيلوغرامات بما يتلاءم مع رحلة طويلة متوقعة، وقدر وزن المُسيرة بنحو 10 كيلوغرامات، وقد سارت 10 ساعات تقريبا أثناء رحلتها من اليمن إلى تل أبيب.
ومن المعروف أن جماعة أنصار الله الحوثي في السنوات العشر الماضية تتحرك بثبات في اتجاه بناء ترسانة من المسيرات المتطورة، مقدرة أن ارتفاع حصيلتها من هذا السلاح سيعزز من أوراقها الإستراتيجية في المنطقة. لذا فالمسيرات بالنسبة لها سلاح وجودي، وليس مجرد تشكيل من تشكيلات مسلحة.
وفي هذا السياق، تتنوع المسيرات الحوثية من حيث المهام والاستخدام، فمن مسيرات الرصد والاستطلاع إلى أسراب القتال وصولا إلى المسيرات الانتحارية، مثل طائرات صماد بأنواعها. وهذه الأخيرة ترقت في التطور التقني من صماد-1 إلى صماد-2 إلى صماد-3 إلى صماد-4، وكلها أجيال من المسيرات منوعة القدرات والمهام.
رحلة التطور هذه تفتح الباب واسعا لفهم مقدار ما حصل من تحديث داخل تقنية المسيرات، وكذلك المتوقع حدوثه لترسانة المسيرات التابعة للحوثيين.
فقد كانت صماد-1 تُستخدم في المقام الأول للاستطلاع والمراقبة، وطُرحت عام 2017، مع مدى وصل إلى 150-200 كيلومتر فقط، بعدها في 2018 جاءت صماد-2، وكانت مجهزة بكاميرات بصرية لجمع المعلومات الاستخبارية، إلى جانب زيادة مدى طيرانها إلى ما يقرب من 1000 كيلومتر، حيث يمكنها حمل رؤوس حربية متفجرة صغيرة لتوجيه ضربات دقيقة، بوزن نحو 40-50 كغم شاملا الحمولة المتفجرة.
تلا ذلك صماد-3 المزودة بمهام هجومية بعيدة المدى مع قدرات مراقبة متقدمة، مع قدرة طيران امتدت لمدى يصل إلى 1500 كيلومتر، ومجهزة بكاميرات بصرية وكاميرات تعمل بالأشعة تحت الحمراء للعمليات النهارية والليلية مع تكنولوجيا متقدمة لنقل البيانات، كل ذلك دون تحميل إضافي في الوزن الذي لا يتعدى 50-70 كغم شاملا الحمولة.
وأخيرا أُعلن في عام 2021 عن صماد-4، التي تؤدي مهام مزدوجة بين الاستطلاع والعمليات الهجومية، ومن المحتمل أنها تمتلك ميزة التخفي مع مدى يصل إلى 2000 كيلومتر.
يُمثِّل نموذج صماد حالة تفسيرية لتراكم خبرة العمل في تقنية المسيرات عند الحوثيين، وكيف انتقلت من المراقبة بوصفها وظيفة أساسية إلى مهام أكثر تقدما وتنوعا، وقد مكَّنت الترقيات في المدى والحمولة وأنظمة الملاحة هذه المسيرات من إجراء عمليات استطلاع وهجمات بدقة وتأثير متزايدين.
أعلن الحوثيون كذلك عن وعيد التي يبلغ مداها 2500 كيلومتر. بشكل خاص، تشبه وعيد المسيرة الإيرانية شاهد 136، وصُمِّمت لمهاجمة أهداف أرضية من مسافة بعيدة، وهي تعمل بوصفها مسيرة انتحارية، فما إن تصل إلى الهدف حتى تفجر نفسها فيه، وإطلاقها يكون على دفعات تتكون من خمس مسيرات أو أكثر لإرباك الدفاعات الجوية عن طريق استهلاك مواردها.
تتميز المسيرة وعيد بطول يبلغ نحو ثلاثة أمتار ونصف، وعرض يصل إلى نحو مترين ونصف، وهي مزودة بجناح على شكل مثلث قصير، مندمج في جسم الطائرة المركزي، وتحتوي المسيرة في مقدمتها على رأس حربي يُقدَّر وزنه بـ30-50 كغم، بينما يقع المحرك في الجزء الخلفي من جسم المسيرة ويُدار بمروحة دافعة ذات شفرتين.
أما الدور الرئيس لهذه المسيرة فيتعلق بمهاجمة الأهداف الأرضية الثابتة، التي تكون إحداثياتها معروفة، وهي غير فعالة ضد الأهداف المتحركة.
لكن كيف تمكَّن الحوثيون من تطوير سلاح المسيرات الخاص بهم بهذه السرعة؟ الإجابة هي خطوط التوريد الفعالة التي تتقاطر على الحوثي منذ سنوات.
فخلال ضربات جماعة أنصار الله السابقة، وثَّقت مؤسسة أبحاث تسليح الصراعات عددا من المسيرات التي أُسقطت أثناء تلك العمليات، وتوصل التقرير الخاص بالمؤسسة إلى أن مسيرة قاصف-1 التي استُخدمت في مجموعة من تلك المهام تشبه مسيرات أبابيل الإيرانية، ولكنها تبدو أصغر.
لكن التقرير رغم ذلك رجح أن المسيرة لم تُصنع في إيران، بل جمعت محليا، حيث بُني الإطار الخارجي للمسيرة بشكل أوّلي، أضف إلى ذلك أن أجزاء جسم المسيرة حملت أرقاما مكتوبة بخط اليد، مما يشير إلى أنها من إنتاج ورش محلية، بحسب التقرير.
وقد ربط هذا التحقيق بين قدرة الحوثيين على تجميع المسيرات، ورصيدهم التقني في صناعة العبوات الناسفة.
وبدراسة عدد من المسيرات من طراز صماد، توصلت المؤسسة إلى استنتاج مفاده أن طرق صناعة المكونات والأجزاء الموجودة في المسيرات التابعة للحوثيين مماثلة في كثير من الحالات لتلك المستخدمة في تصنيع العبوات الناسفة، التي يمتلكون فيها رصيدا كبيرا، إضافة إلى أن بعض مكوناتها تتشابه مع أجزاء تقنية تعرف بها المسيرات الإيرانية.
ما يعني أنه حتى رغم اعتماد الحوثيين على تكنولوجيا إيرانية، فإنهم يمتلكون بالفعل خبرة على التصنيع المحلي بدأ العمل عليها ربما من 2015.
لتأكيد ذلك، أثبت فريق من الخبراء التابعين للأمم المتحدة أن أحد نماذج صاروخ بركان قد جُمِع على الأرجح في اليمن، وأن صاروخ كروز قدس-1 لا يعتمد على أي تصميم موجود، بل على تصميم صاروخ كروز كلاسيكي عام، وربما هُرِّب من الخارج ثم عبر الهندسة العكسية صُنِّعَ في اليمن، ويبدو من دراسة الصواريخ والمسيرات الإيرانية أن نسبة التصنيع المحلي في الأخيرة تبدو أكبر بفارق واضح.
هناك إذن ثلاثة طرق تمكَّن خلالها الحوثيون من تطوير إمكاناتهم في سلاح المسيرات بسرعة، أولها هو نقل التكنولوجيا والخبرة اللازمة لتطوير المسيرات، ثم التدريب اللازم للتصنيع والتشغيل، لكن هذا وحده ليس كافيا، بل هناك التصنيع المحلي وهو الطريق الثاني، حيث أنشأ الحوثيون قدرات تصنيع محلية لتجميع المكونات المستوردة وتصنيع أجزاء معينة من المسيرات.
سمح ذلك للحوثيين بالحفاظ على ترسانتهم من المسيرات رغم التقييد الدولي على خطوط الملاحة بكل طرقها، لأن التصنيع المحلي يُمكِّن من إنتاج كميات أكبر، كما يسهل بالنسبة للحوثي تهريب القطع الإلكترونية الصغيرة الدقيقة الخاصة بالمسيرات، لأنها عادة تُستخدم لأغراض عامة ولا يوجد حظر عليها، كما سمحت الخبرات الناشئة محليا بتطوير الطريق الثالث وهو الهندسة العكسية وهي عملية يتم فيها تفكيك المسيرات وغيرها من الأجهزة لاستخراج معلومات تصميمها، ومن ثم يعاد إنتاجها، سواء بدراسة مسيرات أُرسلت إلى الحوثيين أو تلك التي استولوا عليها من المعارك السابقة، لتعزيز فهمهم وتكرار تكنولوجيا المسيرات.
إلى جانب ما سبق، فإن الحوثيين أبدوا درجة متقدمة في تكتيكات حرب المسيرات، ويمتلك برنامجهم سمتين أساسيتين، الأولى هي الضربات بعيدة المدى، حيث يركز الحوثيون برنامجهم التطويري بالكامل على نقطة المدى، وكما لاحظنا في تطوير المسيرات يمكن أن نلاحظ الأمر نفسه في تطوير الصواريخ، ولنتأمل خط سير زمنيا قصيرا من 2015 حينما أعلن الحوثيون عن إصدار صواريخ قاهر-1 وقاهر-إم 2، وهي تنضم إلى عائلة من صواريخ أرض-جو السوفيتية من النوع سامز في 755 المعدلة، لمهام الهجوم الأرضي، يمكن لهذه الصواريخ أن تصل إلى 250-400 كم.
أما صواريخ بركان 1 فأُعلِن عنها في 2016، بمدى يصل إلى 800 كيلومتر، تلاها بركان 2 إتش الذي كُشف عنه في 2017، وهو صاروخ باليستي قصير المدى ربما يكون مشتقا من صاروخ قيام الإيراني، وفي سبتمبرأيلول 2023 عُرِضَ نموذج آخر يبلغ مداه 1000 كيلومتر، وأُطلق عليه اسم عقيل.
ومنذ 2019، أعلن الحوثيون عن امتلاكهم صواريخ بركان 3، ويتخطى حاجز 1200 كيلومتر، واستخدمته قوات الحوثيين لأول مرة في 1 أغسطسآب 2019، وتلا ذلك الإعلان عن صاروخ طوفان الذي يُعتقد أنه شارك في الضربة على الاحتلال إبان طوفان الأقصى، وهو صاروخ باليستي متوسط المدى بين 1350-1900 كيلومتر، برأس حربي متفجر وزنه يقترب من طن كامل.
تعمل الصواريخ الباليستية على مبدأ بسيط وهو إطلاقها في مسار قوسي، يخرج خارج الغلاف الجوي ثم يعود مجددا إلى الأرض لضرب الهدف، في مسار محدد مسبقا ما يسهّل التنبؤ بمساره واعتراضه.
وعلى خلاف الصواريخ الباليستية، تعمل صواريخ كروز ويمتلك الحوثي نسخا منها مثل قدس بمدى يتخطى 1650 كيلومترا على توجيه ضربات دقيقة على مسافة بعيدة، وهي قادرة على الطيران على ارتفاعات منخفضة لتجنب كشفها بواسطة الرادار، ويمكن تجهيزها برؤوس حربية تقليدية أو نووية، والميزة الأكبر أنه يمكن توجيهها أثناء العملية، فتتجنب تتبع الرادار.
تنوع المنتجات الهجومية الجوية هو هدف أساسي لدى الحوثي، ويمثل الميزة الثانية لبرنامجهم بعد العمل على المدى، وهي التركيز على العمليات المشتركة، وربما استُخدم هذا التكتيك بالفعل في الضربة الأخيرة، حيث أفادت بعض المصادر أن القوات الأميركية أسقطت عدة مسيرات وصاروخا باليستيا قبل ضرب تل أبيب، وقد رُصد وجود هذا التكتيك في أكثر من عملية، منها العمليات التي تلت طوفان الأقصى في السابع من أكتوبر.
عمليات الأسلحة المشتركة هي أسلوب قتالي يسعى إلى دمج الأسلحة القتالية المختلفة لتحقيق تأثيرات تكاملية متبادلة، حيث تضرب الأسلحة المشتركة الخصم بعدة أذرع في وقت واحد، فمثلا يمكن استخدام الطائرات المسيرة لمهاجمة رادارات الدفاع الجوي في المراحل الأولى من هجوم كبير، هنا ستتحول قدرات الدفاع الجوي الأخرى لصد هجوم المسيرات، لكن تليها ضربات صاروخية باليستية وأخرى بصواريخ كروز، فلا تتمكن الدفاعات من صدّها جميعا، خاصة مع اختلاف تكتيكات عمل كلٍّ منها.
وعادة ما تعمل المسيرات نفسها في أسراب تكتيكية يمكن أن تشتت قدرات أنظمة الدفاع الجوي وتتجاوز حدود قدرتها على الصدّ، وتعطل الاتصالات والخدمات اللوجستية. وعلى سبيل المثال، ففي سيناريو الحرب، سيعمل فريق من المسيرات على تدمير أنظمة الدفاع الجوي وتمهيد الطريق لسلسلة من المسيرات الأخرى للتوغل في أراضي العدو، في حين تقوم فرقة ثالثة من المسيرات بالاستطلاع ودراسة الضربة.
في دراسة صدرت في 2022، يوضح جيمس روجرز، أستاذ الدراسات الحربية بجامعة جنوب الدنمارك، أن هذه الهجمات المشتركة تهدف إلى التغلب على دفاعات الخصم بطريقة متطورة من الناحية التكتيكية والتقنية، ويشير روجرز إلى أنه في حال التمكن من إيقاف تلك الهجمات الآن، فإنه في مرحلة ما، ومع وقوع مسيرات أكثر تقدما في أيدي جهات مثل الحوثيين، وقدراتهم على إعادة إنتاجها أو ابتكار الجديد منها، سيكون من الصعب جدا إن لم يكن من المستحيل مواجهة تلك الهجمات.
هذا بالضبط هو أحد أهم الأسباب التي دفعت الحوثيين منذ البداية للتركيز على حرب المسيرات، فالفرصة لتطويرها مفتوحة تماما مع زيادة توافر تكنولوجيا المسيرات التجارية، ومنظومات تحديد الموقع الجغرافي، وتطبيقات التحكم في نشر المسيرات، وأجهزة إرسال واستقبال التردد القابلة للتعديل.
يفتح ذلك الباب لاستيراد وتطوير تكنولوجيا، رخيصة نسبيا وسهلة في الحصول عليها، باتت يوما بعد يوم تُمثِّل تحديا للتفوق الجوي للطائرات المقاتلة في حرب غير متكافئة ضد جيش متقدم في العدد والعتاد.
بالنسبة لجماعات مثل الحوثيين، فإن هدف الاستثمار في المسيرات مختلف عن قدرات الجيوش التقليدية، فالأخيرة تستثمر في المسيرات بوصفها جزءا من سلاحها الجوي الذي تُمثِّل المقاتلات قمة هرمه، أما بالنسبة للحوثيين فإن المسيرات هي قمة سلاحها الجوي، ومن ثم فإنها تعمل على تطويره بكل السبل الممكنة، واستخدامه بأكثر الأساليب فاعلية.
ويوضح روجرز في دراسته أن ذلك ليس إلا خطوة أولى، فيوما بعد يوم ستزيد من مرونة أنظمة المسيرات وقابليتها للأتمتة، أي أن تصبح مستقلة وقادرة على التعامل بشكل منفصل عن وحدة التحكم البشرية بصورة كاملة أو شبه كاملة، ويعتقد روجرز أنه بحلول عام 2040 فإن الجماعات مثل الحوثيين أو حزب الله أو غيرها ستتمكن من أتمتة مسيراتها، بالنظر إلى التطور المحتمل للذكاء الاصطناعي وخوارزميات التعلم الآلي، الأمر الذي يفتح الباب بدوره إلى مرحلة تهديدات المسيرات كاملة الطيف، ما يعني أن المسيرات التي تمتلكها جماعات كتلك لن تكون جوية فقط، بل أرضية وبحرية.
يعي المخططون العسكريون ذلك في عدة جبهات مثل الحوثيين أو حزب الله، وكلٌّ منهم يستخدم ما هو متاح من تكنولوجيا وأدوات، سواء بالابتكار المحلي أو الاستيراد من الأصدقاء، ليحقق أقصى استفادة ممكنة من سلاح المسيرات، وهو يعلم أن طريقها للتطوير مفتوح تماما. ولذا فإن النجاح الجزئي الذي حققته الضربة الأخيرة على تل أبيب ليس إلا خطوة أولى في خط سير طويل. | https://www.aljazeera.net/politics/2024/7/20/%d9%84%d9%8a%d9%84%d8%a9-%d8%b6%d8%b1%d8%a8-%d8%aa%d9%84-%d8%a3%d8%a8%d9%8a%d8%a8-%d9%83%d9%8a%d9%81-%d8%aa%d9%85%d9%83%d9%86-%d8%a7%d9%84%d8%ad%d9%88%d8%ab%d9%8a%d9%88%d9%86-%d9%85%d9%86 | 2024-07-20T11:25:27 | 2024-07-24T06:41:45 | أبعاد |
|
91 | كيف تكون أكثر شجاعة وإقداما على التجارب والأفكار الجديدة؟ | لماذا نخشى من التجارب الجديدة؟ وكيف نصير أكثر شجاعة وإقداما على الحياة، بطريقة تزيد من ممكناتنا الشخصية ومن طاقاتنا الذاتية؟ | في يومك المعتاد تمضي، الروتين نفسه لا جديد، تشعر بالراحة ولربما بالسعادة أيضا، تسأم من هذا الروتين أحيانا وتقول في نفسك إلى متى؟، لكنك اعتدت، وأصبح هذا الروتين بمثابة منطقة الراحة الخاصّة بك Comfort zone. تتصفح الجوال كعادتك، يرن الهاتف أو يصدر صوت رسالة، يقولون إنك حصلت على فرصة عمل، تغمرك السعادة، ثم تتبدد ويحل محلّها التفكير بأن كل روتين حياتك سينقلب، وتريد أن تكون أكثر شجاعة لفعل ذلك ولتجرب شيئا جديدا، لكن كيف؟
هو الأمر ذاته في نهاية كل عام وبداية عام آخر، تجوب المكتبات بحثا عن مفكرة سنوية، رغم أن لديك غيرها الكثير في المنزل، لكن عاما جديدا يريد شيئا جديدا. تكتب في المفكرة كل الأشياء التي تريد فعلها في العام الجديد، تكتب أدق التفاصيل، وتسرح بخيالك ثم تعود لتكتب، تتوقف عن الكتابة هنيهة، يحدّثك شعور ما بداخلك ويقول أنا خائف من التجربة، تعود لترى كل ما كتبت ويدور في بالك الكثير من الأسئلة كيف يكون شكل كل تجربة جديدة؟ ماذا لو فشلت؟ كيف أملك الشجاعة؟
حسنا، نساعدك في هذا المقال على أن تكون أكثر إقداما على التجارب الجديدة الإيجابية بشجاعة وثقة، عبر استعراض آراء المختصّين من علم النفس والإرشاد النفسي، نفسّر لك فيها لماذا نخشى من التجارب الجديدة، وكيف نصير أكثر شجاعة وإقداما على الحياة، بطريقة تزيد من ممكناتنا الشخصية ومن طاقاتنا الذاتية.
إذا لم يشعر الناس بالخوف، فلن يكونوا قادرين على حماية أنفسهم من التهديدات الحقيقية والمخاوف المعفولة التي تتهدّدهم في تجاربهم اليومية. الخوف هو ردّ فعل طبيعي لمواجهة المخاطر الجسدية والمعنوية التي تُحيط بالبشر خلال مراحل حياتهم1، وبطبيعة الحال كانت بعض العصور أكثر خطرا بالنسبة إلى البشر من عصور أخرى، خصوصا تلك العصور التي واجه فيها الرجال والنساء الموت بشكل منتظم ومتكرّر.
ينحاز البشر تلقائيا إلى الحياة الآمنة، وإن كانت مملّة ومُكرّرة، يميل الناس إلى خلق مظهر من مظاهر النظام في حياتهم، وينجذبون نحو هذا النظام بغض النظر عما إذا كان ذلك مفيدا لهم أم لا. لقد اقتنع البشر بعد مرورهم بآلاف الأحداث والتغيّرات في تاريخهم بأن أفضل طريقة للبقاء هي بخلق الأنظمة وجعل الحياة مألوفة تسير وفق نمط واضح ومحُدد، ولهذا صاغ الإنسان الأشياء المرتبطة بالنظام الخطط، القادة، البروتوكلات، النظام المعيشي... إلخ كي يجعل الحياة أكثر منطقية وأكثر قابلية للعيش وأكثر أمانا، وقد أشار شخصية الجوكر في فيلم باتمان The Dark Knight إلى هذه المفارقة الساخرة حين قال لا أحد يشعر بالذعر عندما تسير الأمور حسب الخطة ، حتى لو كانت الخطة مرعبة
إنه لأمر مثير للسخرية أن جزءا من دماغنا يحب الخوف وفقدان السيطرة، إننا حين نعيش حياة آمنة لفترة طويلة سرعان ما نسعى لاستفزاز شعور الخوف وإثارته عبر تجارب المغامرة والخطورة، إذ تجني مدن الملاهي كثيرا من المال لقاء وضع الناس في طريق الخوف، ونحن في الحقيقة نحب ذلك، ندفع لقاء ذلك أموالنا وننتظر ساعات في الطابور لنجرّب لعبة مخيفة ولنستمتع بسريان هرمون الأدرينالين في أجسادنا، ذلك الهرمون الذي يتحفّز عند الشعور بالخطر وما يعرف باستجابة الفر والكر.
الخوف سر مخادع، نحن نحبه ونكرهه في الوقت ذاته، نحن بحاجة إليه، وبدونه لن نحقق أي شيء مهم، إذا لم يكن لدينا خوف، فلن نتمكن أبدا من تحرير القوة الكامنة في داخلنا ولن نتمكّن من صياغة شجاعتنا التي نكتشفها بوصفها مكافأة للتجارب الخطيرة والمقلقة. لذلك فالخوف سلاح ذو حدين، لكننا المسؤولون عن توجيهه لنا، إما أن نجعله يأسرنا ونغدو له محكومين، وإما أن نجعله طريقا ومحفزا لنكتشف كم يوجد بداخلنا سوبرمان حقيقي وشجاع يستطيع أن يجرّب أو يحاول على الأقل.
يمكن تعريف الشجاعة على أنها الاختيار والاستعداد لمواجهة الألم أو الخطر أو عدم اليقين، أو تخطي حدث ما أو خوض تجارب جديدة2. كلمة شجاعة، في شكلها الأول، هي التحدث الواعي بما يفكر فيه المرء وإفصاحه عن كل ما في قلبه. بمعنى آخر، الشجاعة ليست غياب الخوف أو القلق، بل مقاومة الخوف وتجربة السيطرة على انفعالاتنا دون هروب ودون جُبن، وهو ما ينمو مع كثرة التجارب وإصرارنا على إبقاء أنفسنا في أوضاع غير مريحة كي نختبر ذواتنا ونسمح لها بالاتساع تحت ظروف مقلقة تدفعنا تلقائيا للانسحاب. والشجاعة في صيغتها النهائية هي النقطة التي تصير عندها مبررات مواجهة الموقف أقوى من الخوف الذي يعيقك.
عموما، نحتاج -نحن البشر- أن نُدرّب أنفسنا على أن نكون أكثر انفتاحا على التجارب التي لم نألفها، وعلى الأفكار التي لم نعتدها، وهذا لا يعني بالضرورة أن نتخلى عن معتقداتنا وأفكارنا الأولية، بل على العكس، يتيح لنا الانفتاح على التجارب الجديدة اختبار مدى أصالة أفكارنا، وكثيرا ما تبرز الجوانب المشرقة في معتقداتنا الأصيلة والأولية حين نضعها موضع المقارنة مع الأفكار المقابلة وحين نختبرها في ظل ظروف غير تلك التي نشأت فيها، بل أيضا قد تجعلنا أكثر تمسكا بها وأكثر إيمانا بها لأننا نراها أفكارا قوية وصالحة حتى لدى ثقافات أخرى ومختلفة، في الوقت الذي تتسع فيه ثقافتنا وآفاقنا. وإليك هاتين الخطوتين الأساسيتين اللتين من شأنهما أن تجعلاك أكثر شجاعة على المستوى الذهني والفكري
في مثل هذه المحادثات لا تتردد بإبداء عدم اتفاقك مع الأفكار المطروحة باحترام، ولكن استمع حقا لرد الشخص المقابل بذهن متفتح، وبالمثل، عند قراءة أو مشاهدة شيء ما متحيزا ضع في عين الاعتبار وجهة النظر هذه، لا يعني هذا أن تُغيّر من رأيك بالضرورة، لكن اقضِ شيئا من الوقت متفكّرا بالمسألة بموضوعية ونزاهة دون شعورك بأي ضغط أو إلحاح بأنّك يجب أن تتبنى هذه الفكرة، وبالمقابل دون شعورك بأي ضغط بأنك يجب أن تعارض هذه الفكرة وأن تقوّضها وتنتقدها. درّب نفسك على صياغة موقف مضاد من باب التمرين الذهني، حتى وإن لم تكن فعلا مقتنعا بالموقف المعارض للفكرة المطروحة. قد يكون هذا صعبا في البداية، لذا امنح نفسك الوقت الكافي لتكون أكثر ذكاء، وتخيل نفسك وأنت تناقش المشكلة مع شخص أكثر ذكاء.
يساعدك هذا الاطّلاع على استنتاج الكثير من التصوّرات المختلفة وإدراك العالم من منظور متعدّد ومختلف، كما يمكنك القراءة عن مؤهلات معلم المساق ومراجعة وَصْف المقرر الدراسي ومرجع المنهج الدراسي، والاستزادة من القراءات المطلوبة التي يقترحها وصف المادة، ولا تتردد في طرح سؤال يعكس موقفا مختلفا باحترام ولباقة.
في كثير من الأحيان، يفترض الناس أنك إما وُلدت شجاعا وإما لست كذلك، وفي حين أنه من الصحيح أن بعض الناس قد يكونون أكثر استعدادا لإظهار الشجاعة، فإن هذا لا يعني ضياع فُرَصك في أن تكون شجاعا إذا لم تكن قد وُلدت بهذه الاستعدادية من قبل3. في الحقيقة، من الأفضل اعتبار الشجاعة عضلة قابلة للتمرين، وبينما قد يولد بعض الأشخاص بعضلات محددة أكثر من غيرهم، فإن كل شخص لديه القدرة على تحسين عضلاته الشجاعة من خلال التدريب والممارسة المناسبين. لذلك فإن أفضل طريقة كي تصير شجاعا هي أن تقوم بأفعال شجاعة في المواقف القادمة.
من المهم إدراك أن الخوف ليس بالأمر السيئ، بل على العكس تماما، ففي بعض المواقف يكون الخوف استجابة صحّية، على سبيل المثال يُحفِّز الخوف جهازك العصبي وغرائز البقاء المُصمّمة للحفاظ على سلامتك، لهذا السبب قد تشعر بالخوف عندما يقترب منك شخص غريب في زقاق مظلم أو قد تشعر بالخوف أثناء الإعصار، وهو خوف صحّي يدفعك للتصرف والاحتياط والحذر. وبدلا من الافتراض بأن الخوف أمر سيئ، انظر إليه بوصفه فرصة لمعرفة المزيد عن ذاتك، واسْعَ لفهم نفسك ولماذا قد تكون خائفا من الخروج من منطقة الراحة الخاصة بك. إذا قمت بأخذ الوقت الكافي لتسمية خوفك وفهم سبب وجوده، فسوف تكتشف فكرة أفضل عن مصادر خوفك وعن كيفية التغلب عليها، وهو ما سيدفعك إلى أن تكون شجاعا في المرات القادمة.
في الواقع، تُظهر الأبحاث أن التعبير عن مشاعرك المزعجة والخائفة والقلقة وصياغتها في كلمات يساعد على كبح ردود أفعالك السلبية الناجمة عن الخوف4. بالإضافة إلى أن التعبير عن مخاوفك لا يجعلك ضعيفا، بل لعله يجعلك أكثر شجاعة، إذ ليس من السهل الاعتراف بضعفك والإفصاح عن مخاوفك. لذلك إن كنت قادرا على الاعتراف بمخاوفك، فأنت على بعد خطوة واحدة من أن تكون شجاعا.
عندما يتعلق الأمر بعيش حياة مليئة بالشجاعة، فمن المفيد أن تبدأ بتحديد ما تجيده واستحضار المواقف والأماكن التي نجحت فيها، إذ تُُظهر الأبحاث أن الأشخاص الذين يتعرفون على نقاط قوتهم ويراجعون المواقف التي نجحوا فيها ويحلّلونها يشعرون في غالب الأمر بالسعادة ويحظون بنسب أقل من الاكتئاب، والأكثر من ذلك أنهم يصيرون بعد فترة أكثر مرونة نفسية5.
بالإضافة إلى ذلك، فإن معرفة ما تجيده يساعد على تعزيز ثقتك بنفسك، ما يزيد من احتمالية إقبالك على التجارب الجديدة بشجاعة. وبالمثل، عندما تكون واثقا من قدراتك، فأنت أكثر استعدادا للانخراط في التجارب الجديدة حين تتاح لك الفرصة. يجب أن ننوّه هنا إلى أنه من الطبيعي أن تستحضر عيوبك ونقاط ضعفك عند خوفك من خوض تجربة جديدة، لكن القيام بذلك يقلل من مدى شعورك بالشجاعة، لهذا السبب، من المهم أن تستحضر -بالوقت نفسه- ما تجيده وما تحترف فعله بصفتها طريقة لبناء ثقتك بنفسك وشجاعتك.
عندما يتعلق الأمر بالشجاعة، من المفيد أن تمارس تمرينا ذهنيا لتخيّل سيناريوهات مختلفة للموقف، ليس فقط أن تتخيّل أسوأ شيء يمكن أن يحصل إذا ما قرّرت المخاطرة، ولكن من المهم أن تتخيّل أيضا ماذا سيحدث إذا لم تتصرف على الإطلاق. في كثير من الأحيان تكون المقارنة بين النقيضين هي كل ما تحتاج إليه لتجاوز مخاوفك، لأنك ستكتشف في معظم الأوقات أن أسوأ شيء يمكن أن يحدث هو في حقيقته ضرر هامشي وضئيل يمكن إصلاحه وردّ اعتباره لاحقا. لذلك إذا سمحت لنفسك بالتمرن على تخيل سيناريوهات مختلفة بانتظام، فسوف تبني مناعة ضد الخوف، أو على الأقل ستمنع الخوف من أن يسيطر على أفكارك مع مرور الوقت.
يمكنك أيضا إنشاء سيناريوهات أخرى لمواقف لم تحصل بعد، مثل أن تتخيل نفسك تُقدِم على فعل شيء تخافه وتخشاه. تخيل كيف ستتعامل مع كل سيناريو محتمل، بما في ذلك كيف يمكنك الرد لفظيا أو فعليا، وأحيانا بإمكانك أن تتخيّل كيف ستستفيد من الموارد والعلاقات المتاحة بين يديك وتستعين بها لتجاوز الموقف الذي يُربكك. كل هذه التدريبات هي طريقة ناجعة وفعّالة يمكنك من خلالها التدرب على الشجاعة دون الحاجة إلى بذل مجهود مستنزف أو مُربِك.
عندما تَدَع الخوف يمنعك من القيام بشيء ممتع، أو حينما تسمح للخوف بأن يَحُول بينك وبين السعي وراء شيء مُحدّد تريده، وحين يتكرّر سلوك إحجامك وانسحابك عن كل ما ترغب بتحقيقه بشكل مُتكرّر ولفترة طويلة من عمرك؛ فإن هذا يعني أنك لم تسمح لنفسك بأن تعيش بهويتك الحقيقية قط، أو بالأحرى كنت تعيش حياة ليست جديرة بالعيش حقا. وإذا كنت ترغب في تغيير هذا الجانب من حياتك، فسوف يتطلب الأمر أن تكون جادا بالتخلي عن هذا الجانب المظلم في حياتك.
يتطلب بناء عضلات شجاعتك دفع نفسك للخروج من منطقة الراحة الخاصة بك. قُم بهذه الخطوة بالتدريج وبشكل مدروس، اختر بعض المواقف والأمور التي تجعلك مرتبكا وتشعر بعدم الارتياح دون أن تكون المخاطرة والمخاسر في هذه المواقف كبيرة. على سبيل المثال، تدرّب على أن تكون شجاعا من خلال التغلب على مخاوف صغيرة، مثل مقابلة أشخاص جدد، أو تناول الطعام بمفردك في مطعم قبل أن تتعامل مع شيء مثل تولي زمام المبادرة في مشروع. ابدأ على نطاق صغير، يمكنك التعود على الشجاعة دون خوض قدر كبير من المخاطر في البداية، وبالتدريج ستصل في النهاية إلى النقطة التي يمكنك فيها تحمل مخاطر أكبر.
في بعض الأحيان يشعر الناس بالخوف أو يشعرون أنهم يفتقرون إلى الشجاعة لمجرد أنهم يشعرون بالتشوّش والإرباك من المجهول، لذلك إذا وجدت أنك تشعر بالارتباك والتشوّش، فابحث عن طرق لتخفيف التوتر، ومارس الآليات المدروسة والمثبتة علميا للتعامل مع الخوف، إذ من الصعب أن تشعر بالشجاعة عندما تكون متوترا.
ابحث عن طرق لتقليل التوتر في حياتك، ولا تنسَ الاعتناء بنفسك عن طريق ممارسة التأمّل والاسترخاء والتنفّس البطني العميق وإزاحة الضغط. في بعض الحالات، قد يعني ذلك أخذ إجازة قصيرة أو إجازة من العمل تشتد الحاجة إليها، فالجميع يحتاج إلى استراحة بين الحين والآخر، لذا إذا شعرت بالإرهاق الشديد من التفكير في محاولة أن تكون أكثر شجاعة، فقد يكون عليك أولا تقليل التوتر في حياتك، وعدم إغراق نفسك بالتفكير الزائد.
عندما نتعامل مع أمر يصعب علينا القيام به أو لا نجرؤ حتى على القيام به، يميل كثير من الأشخاص إلى التقليل من شأن ذاته بسرعة، لكن تذكر دوما بأنك بشر ومن الطبيعي أن تشعر بالخوف والارتباك، وتذكّر أن الأهم دائما المحاولة وإن كانت النتيجة هي الفشل، لذا قدّر دائما محاولاتك وانتصاراتك وتجاربك السابقة وإن كانت صغيرة، عندما تعرف قدر نفسك جيدا فإن الثقة بنفسك ستزداد، وكلما ازدادت الثقة نَمَت بداخلك الشجاعة في مواجهة تحديات وتجارب جديدة وصنع انتصارات أخرى.
في الأوقات التي نواجه فيها مهمة مخيفة، ننتقل مباشرة إلى إقناع أنفسنا بأننا لن نستطيع النجاح، هذا يُعرَف بانحياز السلبية، وهو الميل التلقائي لرؤية الأمور السلبية بشكل أكبر مما هي عليه في الواقع. وإذا سمحنا لهذا الهاجس غير الواقعي بالسيطرة على تفكيرنا، فقد يظهر هذا الاستنتاج على هيئة أعراض جسدية، لذلك قد نشعر بأننا لا نستطيع حتى التحرك بشكل صحيح.
في معظم الحالات نحن قادرون بالفعل، لكننا نكون خائفين من العواقب المتخيلة، وأسرى لاحتمالات كارثية متوهّمة لا يصادق عليها الواقع، على سبيل المثال نحن قادرون تماما على أن نسأل زوجتنا أو رئيسنا أو زميلنا عن شيء مهم بالنسبة إلينا وعن سؤال يجول في أذهاننا، لكن خوفنا من ردّ فعل الشخص هو ما يمنعنا من الإفصاح عن هواجسنا وتساؤلاتنا، وهذا الخوف المتوهّم قصة أخرى لا علاقة له بما يجري على الواقع بالضرورة، لذلك كثيرا ما يُقال في علم النفس الإدراكي بأننا نعاني في أذهاننا أكثر مما نعاني على أرض الواقع
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المصادر | https://www.aljazeera.net/sukoon/2023/3/28/%d9%83%d9%8a%d9%81-%d8%aa%d9%83%d9%88%d9%86-%d8%a3%d9%83%d8%ab%d8%b1-%d8%b4%d8%ac%d8%a7%d8%b9%d8%a9-%d9%88%d8%a5%d9%82%d8%af%d8%a7%d9%85%d8%a7-%d8%b9%d9%84%d9%89 | 2023-03-28T11:36:30 | 2024-06-06T11:56:06 | أبعاد |
|
92 | خمسة أسباب تفسر قوة حزب الله الصاروخية | يعتبر حزب الله الصواريخ سلاحًا أساسيا في مواجهاته مع جيش الاحتلال؛ ولذا فقد استثمر في تحديثها بشكل كبير خلال السنوات الأخيرة، فما هي أسباب قوة المنظومة الصاروخية لحزب الله؟ | في توقيت مبكر من صباح اليوم، أطلق حزب الله ما يزيد عن 300 صاروخ باتجاه إسرائيل إضافة لعدد من المسيرات، فيما وصفه الحزب في بيان رسمي بوصفه المرحلة الأولى من الرد على اغتيال جيش الاحتلال للقياديّ في الحزب فؤاد شكر في نهاية يوليوتموز داخل الأراضي اللبنانية.
وأضاف حزب الله أن الهجوم الجوي بدأ باتجاه هدف عسكري إسرائيلي نوعي سيعلن عنه لاحقا، وقال إن هذا الهجوم يأتي في إطار الرد الأولي على استشهاد القائد فؤاد شكر. وأكد الحزب أنه استهدف مواقع وثكنات جيش الاحتلال ومنصات القبة الحديدية في شمالي فلسطين المحتلة بعدد كبير من الصواريخ، وقال إن عملياته ستأخذ وقتا، وبعد ذلك سيُصدر بيانا تفصيليا بشأن مجرياتها وأهدافها.
لم تكن هذه الحادثة استثناءً في الزخم الصاروخي للحزب، إذ وفي وقت سابق، وتحديدا في صباح الـ12 من يونيوحزيران الماضي، ذكرت إذاعة الجيش الإسرائيلي أن أكثر من 100 صاروخ أطلقت من جنوب لبنان باتجاه مدينتَي صفد وطبريا ومحيطهما خلال دقائق معدودة، وقال جيش الاحتلال الإسرائيلي إن دفاعاته اعترضت عددا من الصواريخ لكن بعضها سقط في مواقع عدة؛ مما تسبب في نشوب عدد من الحرائق، وأصدر توصيات لسكان المدن الإسرائيلية بالتجهز في أي وقت لدخول الملاجئ.
بالنسبة لحزب الله، تمثل الصواريخ سلاحًا أساسيا في إستراتيجيته العسكرية؛ ولذا فقد استثمر في تحديثها بشكل كبير خلال السنوات الأخيرة، الأمر الذي أصبح يمثل تهديدًا أقلق جنرالات الحرب في تل أبيب.
في الواقع، كانت هناك خمسة أسباب محددة يرى خبراء الحروب أنها دفعت ترسانة حزب الله الصاروخية إلى هذا المستوى الذي يؤهّلها لأن تكون تهديدًا حقيقيًّا لدولة الاحتلال، على الرغم من تفوّق جيشها الواضح في العدة والعتاد.
إطلاق رشقة صواريخ من جنوب لبنان باتجاه الجليل الأعلى حرب_غزة فيديو pic.twitter.com1zTg2uz9Fy
الجزيرة فلسطين AJA_Palestine June 12, 2024
حاليًّا، يمتلك حزب الله صواريخ يتجاوز مداها 300 كيلومتر، مثل صاروخ فاتح 110 ونسخه المختلفة، وهي صواريخ يمكنها الوصول إلى العمق الإسرائيلي، وضرب أهداف إستراتيجية محددة. ويبدأ مدى صواريخ حزب الله من 10 كيلومترات لصواريخ بركان وفلق، ويرتفع ليصل إلى 40 كيلومترا فأعلى حتى حدود 100 كيلومتر لصواريخ مثل فجر 3 و5 ورعد 2 و3، وأخيرا تظهر صواريخ مثل خيبر 1 وزلزال 2 وغيرها من الصواريخ التي يزيد مداها على مئة كيلومتر.
امتلاك نسخ من الصواريخ متنوعة في مداها إلى هذا الحد يوفر لحزب الله العديد من المزايا التكتيكية، بما في ذلك تنويع الأهداف، إذ إن الصواريخ القصيرة المدى مفيدة لاستهداف المنشآت العسكرية القريبة والمناطق الحدودية والتهديدات المباشرة، والصواريخ المتوسطة المدى تسمح بضرب المدن الكبرى والبنية التحتية والأهداف العسكرية البعيدة، والصواريخ الطويلة المدى قادرة على ضرب أهداف إستراتيجية في عمق إسرائيل، بما في ذلك المراكز الحضرية الكبرى التي تمتلك قواعد عسكرية وبنية تحتية حيوية.
أضف إلى ذلك أن استخدام مزيج من أنواع الصواريخ ومداها المختلف في ضربات منسقة يمكن أن يؤثر سلبا على أنظمة الدفاع الصاروخي لجيش الاحتلال الإسرائيلي. فعلى سبيل المثال، يمكن لوابل من الصواريخ القصيرة المدى أن يشبع الدفاعات؛ مما يسمح للصواريخ الأطول مدى أن تخترق التحصينات بسهولة أكبر. كما أن القدرة على إطلاق الصواريخ من نطاقات مختلفة يسمح لحزب الله بتكييف تكتيكاته بناءً على تطور الوضع الميداني.
إن مجموعة من الصواريخ المتنوعة المدى تسمح لحزب الله بتوزيع منصات إطلاق الصواريخ على مساحة واسعة، وهذا يجعل من الصعب على قوات الخصم جيش الاحتلال في هذه الحالة تحديد مواقع الإطلاق وتدميرها في وقت واحد، أضف إلى ذلك أن امتلاك مدى متنوع من الصواريخ يتيح لحزب الله في النهاية درجة من السيطرة على سلّم التصعيد، ولهذا أهمية سياسية كبيرة.
وإلى جانب تحسين وتنويع مدى الصواريخ، عمل حزب الله على امتلاك وتطوير صواريخ موجهة بدقة، ويعد ذلك أحد أهم التطورات التي تم تضمينها في ترسانة حزب الله الصاروخية مؤخرا. تشير تقديرات عسكرية أن لدى ترسانة حزب الله -التي تتراوح بين 120 و200 ألف صاروخ- مئات من الصواريخ الدقيقة الموجهة ذات القدرة التدميرية العالية؛ ولذلك فسيضطر جيش الاحتلال الإسرائيلي إلى تكريس جانب كبير من منظومته الدفاعية لحزب الله إذا ما قامت الحرب، بحسب ما أشار أكثر من خبير عسكري إسرائيلي.
الصواريخ الموجهة بدقة هي أسلحة متقدمة يمكن توجيهها نحو الهدف بعد إطلاقها، حيث يتم التحكم فيها أثناء الرحلة بواسطة أنظمة توجيه مختلفة بما في ذلك نظام التموضع العالمي، ويتكون نظام الصواريخ الموجهة النموذجي من عدة أجزاء أهمها مكونات الاستهداف التي تعمل على تحديد الهدف وضربه بدقة، ونظام التوجيه للتحكم في مسار الصاروخ، ونظام الطيران، والمحرك، والرأس الحربي المتفجر.
كذلك يعمل حزب الله حاليًّا على إضافة أنظمة توجيه إلى الصواريخ غير الموجهة التي يمتلك منها عشرات الآلاف؛ من أجل تحويلها إلى صواريخ دقيقة، ويمثل ذلك في حد ذاته نقلة كبرى في ترسانته، ويعزز كونه قوة عسكرية تمتلك أساليب قتالية تنتمي إلى نطاق الحرب غير النظامية، وأسلحة دقيقة متقدمة مع هيكلة مركزية تضعه في جانب الحرب النظامية.
أضف إلى ذلك أن جانبا من قدرة حزب الله على محاربة خصم أقوى في العدة والعتاد يتعلق باستخدام تكتيكات مرنة، فمثلا مع حملة قصف جوي على منطقة ما تتمكن القوات المدافعة من التخفيض السريع في استخدام نقاط التفتيش وحركات القوات على الأرض واستخدام الهواتف المحمولة، ويمكن للقوات أن تتخذ تشكيلات عدة في وقت قصير بناء على المعلومات المتاحة.
في هذا السياق يصمم حزب الله منصات إطلاق للصواريخ لها أربع سمات تشكل نقاط قوتها، الأولى أنها متنقلة، يمكن تحريكها وإعادة وضعها بسرعة؛ مما يجعل من الصعب على قوات الخصم تعقبها واستهدافها، والثانية أنها مرنة، يمكن استخدامها في مختلف التضاريس، والثالثة أنه يمكن إخفاؤها وإخفاء مواقع تخزينها، والمزية الرابعة أن تدريب القوات وطبيعة المنصات يسمحان بالانتشار السريع لإطلاق الصواريخ والقذائف، وهو أمر بالغ الأهمية من الناحية العسكرية للهجمات المفاجئة أو الاستجابات السريعة.
يمكن لبعض صواريخ حزب الله الحديثة أن تحمل رؤوسًا حربية كبيرة؛ مما يزيد من قدرتها التدميرية. نعرف مثلا أن نسخًا من صاروخ زلزال النوعين 1 و2 يمكنها حمل ما يصل إلى 600 كيلوغرام من المواد المتفجرة، وبعض الصواريخ التي يمتلكها حزب الله مثل سكود بي وسي ودي يمكنها حمل رؤوس حربية متفجرة بوزن أكبر، وهذه القدرة مثيرة لقلق أعدائه بشكل كبير.
مؤخرًا أعلن حزب الله استخدام صاروخ بركان، وهو صاروخ رخيص الثمن بضعة مئات من الدولارات، قصير المدى وبسيط التركيب، لكن يمكنه حمل رأس حربي ثقيل يصل وزنه إلى 500 كيلوغرام، والميزة الأخرى أنه يمكن تحميل الرأس الحربي لصاروخ بركان بمتفجرات بأوزان مختلفة تبدأ من 60 كيلوغرامًا؛ مما يسمح بالمرونة حسب الهدف وطبيعة العملية. والواقع أنه برأس حربي يزن 100 كيلوغرام، فإن صاروخ بركان قادر على إحداث دمار في نطاق قطره 150 مترًا من مركز الضربة.
كما بات حزب الله يمتلك صواريخ ذات رؤوس حربية متخصصة لها علاقة بمهام محددة مثل الرؤوس الحربية الخارقة للدروع، على سبيل المثال، صاروخ كورنيت الموجه المضاد للدبابات برأس حربي قادر على اختراق الدروع التي يصل سمكها إلى 12 سنتيمترًا إلى جانب صواريخ أخرى لنفس الغرض. وعلاوة على ما سبق، يمتلك حزب الله نسخا من الصاروخ الروسي المضاد للسفن بي-800 أونيكس الذي يمكنه حمل رأس حربي خارق للدروع يصل وزنه إلى 250 كيلوغرامًا، ويشكل هذا الصاروخ تهديدا كبيرا للسفن البحرية.
تشير عدد من التقديرات العسكرية، أن حزب الله يمتلك ما يزيد على 2000 طائرة مسيّرة متعددة المهام، وهذه المسيّرات تتوافق تماما مع سمات المرونة العسكرية التي يرغب فيها حزب الله، إذ يمكن تخصيصها للعمل في نطاقات مختلفة من الهجوم والدفاع بحمولات وأجهزة مختلفة، بما في ذلك أجهزة الاستشعار والكاميرات والأسلحة، وهذا التنوع يجعلها مناسبة لمجموعة واسعة من التطبيقات.
الأهم من ذلك أن المسيّرات يمكنها العمل في منظومة متكاملة مع الصواريخ بما يشبه حرب الأسلحة المشتركة، وهو أسلوب قتالي يسعى إلى دمج الأسلحة القتالية المختلفة للجيش لتحقيق تأثيرات تكاملية متبادلة. فمثلا في المراحل الأولى من هجوم شامل يمكن للمسيّرات استنزاف قدرات الدفاع الجوي الإسرائيلي في منطقة ما، تليها ضربات صاروخية فلا تتمكن الدفاعات من صدها جميعا، خاصة مع اختلاف تكتيكات عمل كل منها.
ويعمل حزب الله أيضا على تحسين قدراته في الحرب الإلكترونية، بما في ذلك أساليب التشويش والخداع لحماية أنظمته الصاروخية وتعطيل دفاعات جيش الاحتلال، الأمر الذي يؤثر بقوة في منظومات الدفاع الجوي الإسرائيلية، ولا تزال تلك النطاقات بحاجة إلى المزيد من التطوير، لكن يعتقد أنه في مرحلة ما ستتمكن صواريخ حزب الله من إشباع منظومات الدفاع مثل القبة الحديدية واختراق تحصيناتها لتحقيق ضربات مؤثرة.
لا يقتصر الأمر إذا على تكنولوجيا الصواريخ، بل بطبيعة المعركة التي يديرها طرف اتجاه آخر، حتى لو كان هذا الطرف أضعف من الناحية التقنية، وتظل السمة الرئيسية للنجاح في إدارة المعارك هي المرونة، فكلما كنت أكثر مرونة أصبحت قدرتك على التكيف مع المتغيرات أفضل، وذلك في جانب منه هو أساس المعركة الجيدة، في أي حرب. | https://www.aljazeera.net/politics/2024/6/22/100-%d8%b5%d8%a7%d8%b1%d9%88%d8%ae-%d9%81%d9%8a-%d8%b9%d8%af%d8%a9-%d8%af%d9%82%d8%a7%d8%a6%d9%82-%d8%ae%d9%85%d8%b3%d8%a9-%d8%a3%d8%b3%d8%b1%d8%a7%d8%b1-%d8%aa%d9%81%d8%b3%d8%b1-%d9%82%d9%88%d8%a9 | 2024-06-22T11:50:10 | 2024-08-25T09:04:39 | أبعاد |
|
93 | هل أنت ضحية الآخرين، أم ضحية تفكيرك غير الناضج؟ | لا شك بأنك قلت لأحدهم يوما ما أن يكف عن لعب دور الضحية، أو أنك شاهدت فيلما يتماهى أبطاله مع دور الضحية وأثار ذلك استياءك.. لكن لماذا يثير انزعاجنا تمثّل أحدهم دور الضحية بدلا من التعاطف معه؟ | لعلّه يُعجبك أن تقرأ بين الحين والآخر على منصّات التواصل الاجتماعي اقتباسًا يخبركَ بأنّك إنسان جيّد، لم يُقدّره الجميع، أو أن تشارك عبارة تجعلكَ أكثر اطمئنانًا لوضعكَ الحالي، فأولئك الذين رحلوا من حياتك هُم الذين خسروك طبعًا، أمّا أنتَ فلَم تخسر أيّ شيّء، الراحلون هُم الأشرار، والخذلان يأتيك من الجميع، لكنّك أنتَ لا تخذل أحدًا ولا تُسيء إلى أحد. وقد تصادف في حياتكَ أشخاصًا تعرف سوءهم لا ينفكّون عن مشاركة صور وفيديوهات عن الغدر والخيانة وأذى البشر، بالرغم من أنّك تعرف جيدًا أنّهم هُم أنفسهم قد تسبّبوا بإيذاء غيرهم، فهل يَعون ذلك أم أنّهم مَعميّون تمامًا عن رؤية أنفسهم؟ فإذا كان الجميع ضحايا غدر الجميع وأذيّتهم، فمَن المُذنب فينا إذًا؟
لا شك أيضًا بأنك قلت لأحدهم يوما ما أن يكفّ عن لعب دور الضحية، أو أنك قرأت رواية أو شاهدت فيلما أو مسلسلا يتماهى أبطاله مع دور الضحية وأثار ذلك استياءك؛ فهم أشخاص يدّعون حدوث كل ما هو سيئ لهم، يفسرون كل حدث على أن المقصود به هو أذيّتهم على الدوام، أشخاص معصومون من الخطأ، وهم ليسوا مسؤولين عما يقومون به بسبب كل الأذية التي تعرضوا لها ومروا بها في ما مضى.
من هنا، تنبّه علماء النفس لنمط عامّ في بعض الشخصيات أشبه بأبعاد شخصية تلازم أصحابها، يَرون أنفسهم كضحايا على الدوام، ويُحبّون أن يُعرّفوا أنفسهم وأن يفهموها بوصفهم ضحايا لصدمة نفسية أو لاضّطهاد اجتماعي، بالرغم من جدّية قضايا بعضهم وبالرغم من أنّ جزءًا غير يسيرٍ منهم، هُم ضحايا لاضطّهاد حقيقي، لكن حيرة العلماء كانت باتّخاذ وضعية الضحية لفترة طويلة بعد زوال الاضّطهاد وأحيانًا تبنّي شخصية الضحية من قِبَل أولئك الذين لَم يتعرّضوا لأيّ اضطهاد حقيقي بالأساس.
لكن لماذا يثير انزعاجنا تمثّل أحدهم دور الضحية رغم أنه يُفترض بنا التعاطف معهـا بدلا من ذلك؟ للإجابة عن هذا السؤال لا بد أولا من إقامة تفريق مهم بين مفهومين مفهوم الضحية Victim، ومفهوم عقلية الضحية Victimhood Mindset.
قبل الشروع بالإجابة عن هذا السؤال، وقبل الدخول في تحليل عقلية الضحايا وجوانبها النفسية بحسب ما يقوله لنا علم النفس وخبراء التحليل النفسي، من الضروري التنويه أنّ هذا المقال لا يهدف إلى التقليل من أيّ معاناةٍ مر بها شخص ما، وإنما يهدف إلى محاولة الفهم وفتح نقاش جادّ حول جدوى تبني الثنائيات التي تقسم البشر إلى ضحايا وجلادين، ومدى تأثيراتها على النضج النفسي لدى الأشخاص.
يشير مفهوم الضحية إلى الشخص الذي مارس عليه آخرون مظلمة ما، أما مفهوم عقلية الضحية فهو ميل الشخص إلى رؤية نفسه باعتباره ضحية على الدّوام، أي كأنها تتحول إلى هُويّة، لا إلى حالة مؤقتة متعلقة بحدث ما تعرّض له هذا الشخص. وتشير الأبحاث إلى أنه ليس هنالك تلازم ضروري بين الأمرين، فمن الممكن تطوير عقلية الضحية دون أن يكون الشخص ضحية لأي نوع من أنواع المظالم، كما أنه من الممكن، في المقابل، أن يكون الشخص ضحية بالفعل لمظلمةٍ تعرض لها في الماضي، دون أن يطوّر عقلية الضحية.
تقترح بعض الدراسات التي أجراها باحثون في علم النفس أن ميل الشخص إلى رؤية نفسه باعتباره ضحية على الدوام تمثل أحد أهم المؤشرات على امتلاكهـا عقلية الضحية. أجرى هؤلاء الباحثون 8 دراسات مختلفة، وقاموا بدراسة واختبار ما أسموه هم بـTendency for Interpersonal Victimhood، وهو ما يمكن ترجمته للعربية بـالميل لتبني دور الضحية في العلاقات الاجتماعية.
ومن الجدير بالذكر أنه على الرغم من أن هذه الدراسات أجريت على المستوى الفردي، فإن بعض المراجعات تقترح وجود كثير من التشابهات والتقاطعات على المستويين الفردي والجمعي، وسنشير إلى ذلك في موضعه. يعرّف هؤلاء الباحثون المَيل لتبنّي دور الضحية بأنّه شعور دائم لدى الشخص بكونه ضحية في مختلف أنواع علاقاته وتفاعلاته الاجتماعية، وهو ينطوي على 4 أبعادٍ تثبت وجودها باستمرار لدى من يمتلكون عقلية الضحية، فما هذه الأبعاد؟
السعي المستمر من أجل نيل الاعتراف بكون المرء ضحية يعتبر هذا الأمر، بوجه عام، ردّ فعل نفسيا طبيعيّا لدى من اختبروا صدمة أو تعرضوا لمظلمة ما، إذ إن تعرّضنا للصدمة Trauma يهدم افتراضاتنا عن العالم الذي نعيش فيه باعتباره مكانا عادلا وأخلاقيا، ومن ثم فإن نيل الاعتراف بكون الشخص ضحية لمظلمة ما، يساعده على استعادة ثقته باعتقاده بأن هذا العالم مكان منصف وعادل للعيش فيه. كما تظهر الأبحاث بأن رؤية من ارتكبوا المظلمة بحق هذا الشخص يتحملون مسؤولية أفعالهم ويظهرون شعورا بالذنب، هو أمر مهم علاجيا للتعافي من الصدمة أو الأذيّة.
النخبويّة الأخلاقية Moral Elitism يرى من يمتلكون عقلية الضحية أنفسهم باعتبارهم متفوقين أخلاقيا على سواهم من الأشخاص، ويتم تطوير هذا النوع من الحس بالنقاء الأخلاقي كنوعٍ من آليات الدفاع النفسي في سبيل حفاظ المرء على صورته عن ذاته باعتبارها صورة إيجابية. وعلى الرغم من أن قسمة العالم إلى نوعين فقط من الأشخاص إما ملائكة وإما شياطين قد يساعد على حماية المرء من المعاناة وحماية تصوراته عن ذاته، فإن ذلك في نهاية المطاف سيمنع النضج النفسي لدى الشخص وتطوير رؤية مركّبة تستوعب الذات والعالم في جميع تعقيداتهما.
قلة التعاطف تجاه الآخرين يشعر من يمتلكون عقلية الضحية بأنهم ليسوا ملزمين بالتعاطف مع غيرهم، فهم منشغلون إلى حدّ بعيد بمعاناتهم الشخصية إلى درجة تجعلهم يُغفلون ألم ومعاناة الآخرين، حيث تشير الدراسات إلى أن من يمتلكون عقلية الضحية يرون أنهم قد عانوا بما فيه الكفاية بما يعفيهم من مسؤولية الاهتمام والتعاطف مع معاناة غيرهم. وعلى المستوى الجمعي، وجدت الدراسات أن الاهتمام والتركيز الزائد على مظلومية جماعة ما مثل طائفة أو قبيلة أو غير ذلك يقلل من احتمال تعاطف أفراد هذه الجماعة مع خصومها وقابليّتها لتحمل الذنب الجماعي لما قامت به من أذية تجاه هؤلاء الخصوم. كما تظهر بعض الدراسات التي أجريت حول ما يسمى بـعقلية الضحية التنافسية أن أفراد الجماعات الذين يخوضون نزاعات عنيفة يميلون إلى تضخيم حجم معاناتهم وتضحياتهم وإلى التقليل من حجم معاناة الآخرين أو حتى إنكارها، وهو ما قد يؤدي إلى ما يسميه الباحثون بـأنانية الضحية.
الاستدعاء المستمر لمظالم الماضي يميل من يمتلكون عقلية الضحية إلى اجترار مظالمهم القديمة والحديث عنها باستمرار بدل البحث عن حلول ممكنة لهذه المظالم؛ ما يقلل فرصة مغفرة ما حدث من خلال زيادة دوافع السعي من أجل الانتقام. وعلى المستوى الجمعي، تميل الجماعات أيضا إلى القيام بالشيء نفسه. على سبيل المثال، فإن المواد التي تتناول محرقة الهولوكوست قد ازداد انتشارها بكثرة في السنوات الأخيرة، في المناهج الدراسية الإسرائيلية كما في الخطابات السياسية. وعلى الرغم من أن الإسرائيليين الحاليين ليسوا ضحايا مباشرين لمحرقة الهولوكوست، فإنهم لا يكفّون عن إثارة الموضوع في كل حين خوفا من أن يتكرر الأمر مرة أخرى. ووفقا لنتائج استبيان أُجري عام 2009 على سكان إسرائيل من البالغين، فإن ما نسبته 98.1 من المشاركين أقرّوا بأن تذكر محرقة الهولوكوست يعتبر بالنسبة إليهم قاعدة توجيهية في حياتهم. في الحقيقة، ووفقا لأقوالهم، فإنهم يعتبرون ذلك أهم من الشعور بكونك جزءا من الشعب اليهودي، الشعور بكونك جزءا من المجتمع الإسرائيلي، العيش في إسرائيل، أو حتى امتلاك عائلة.
تؤثر العقلية التي يطورّها المرء -أيا كانت- على الطريقة التي يفهم ويتذكر بها المرء الموقف الذي تعرض له. في مقالة له بعنوان تفكيك عقلية الضحية يُشير عالم النفس سكوت كوفمان إلى وجود 4 انحيازات إدراكية أساسية تميّز ميل الشخص إلى رؤية نفسه باعتباره ضحية، وهي كالتالي
يميل من يمتلكون عقلية الضحية إلى المبالغة في إعطاء الإهانة الموجهة إليهم حجما أكبر من حجمها الحقيقي، كما يميلون أيضا إلى توقّع أنهم سوف يكونون ضحايا محتملين لمظلمة جديدة في المستقبل. فعلى سبيل المثال، وجدت دراسة أن أولئك الذين يمتلكون عقلية الضحية يميلون إلى الاعتقاد بأنه لو تم تعيين مدير جديد في مكان عملهم، فإنه سيحاول التقليل من النظر إليهم بعين الاعتبار وسيظهر رغبة أقل في مساعدتهم، حتى قبل أن تتسنى لهم مقابلة هذا المدير الجديد.
يميل أولئك الذين يمتلكون عقلية الضحية إلى نسبة نوايا سيئة إلى الطرف الذي مارس عليهم مظلمتهم، على الرغم من أنه قد لا يكون ذلك صحيحا، بل من الممكن أن يكون العكس من ذلك تماما هو الصحيح. كما تظهر الدراسات بأن مشاعرهم تجاه المظلمة التي وقعت عليهم تكون أكثر حدة وأطول مدة مقارنة بغيرهم. وعلى المستوى الجمعي، وجدت إحدى الدراسات بأن من ينتمون إلى جماعة مضطهدة من قبل أعداء مختلفين ينظرون إلى الأشخاص من الجماعات المغايرة لهم بأنهم أشخاص عدائيون تجاه جماعتهم، وأنهم يمتلكون نوايا حاقدة تجاههم، خصوصا عندما يتم تذكيرهم بالمظلمة التي أُلحقت بهم تاريخيا.
تظهر ذاكرة الذين يمتلكون عقلية الضحية سهولة أكبر من غيرهم في استرجاع مشاعرهم السلبية، من خلال استعادة كلمات ذات حمولة سلبية، مثل خيانة، غضب، خيبة أمل... إلخ، بينما لا يتذكرون المشاعر والتجارب الإيجابية بالقدر نفسه. وعلى المستوى الجمعي، فإن الجماعات تظهر ميلا أكبر لتذكر الأحداث التي أثرت بها عاطفيّا، بما في ذلك الأحداث التي وقعت فيها الجماعة ضحية لجماعة أخرى.
تظهر الدراسات أن من يمتلكون عقلية الضحية يظهرون ميلا أقل لمسامحة الآخرين إذا قاموا بإهانتهم، كما أنهم بدلا من التجاهل يُظهرون رغبة وميلا أكبر لارتكاب سلوك انتقامي. يقترح الباحثون أن حاجة من يمتلكون عقلية الضحية إلى اعتراف الآخرين بمعاناتهم وكونهم ضحايا يعد واحدا من التفسيرات المحتملة لهذا الانحياز. وعلى المستوى الجمعي، وجدت الأبحاث ارتباطا بين الشعور الجمعي بكون جماعة ما ضحية لمظلمة ما، وبين الميل المتدني للمغفرة والرغبة الكبيرة في الانتقام عند هذه الجماعة.
على المستوى الفردي، تلعب العديد من العوامل دورا في صناعة عقلية الضحية، بما فيها كون المرء فعلا ضحية لمظلمة ما، لكن الأبحاث تُظهر أن نمط التعلّق العاطفيّ القلِق Anxious Attachment Style يُعتبر عاملا مهما جدا في تطوير عقلية الضحية؛ حيث يعتمد الأفراد ذوو نمط التعلّق العاطفيّ القلِق على قبول الآخرين واعترافهم المستمر بجدارة معاناتهم. ينبع هذا السعي المستمر لكسب اعتراف الآخرين بمعاناتهم من شكوكهم المستمرة حول قيمتهم الاجتماعية.
ويفسر الباحثون هذا الارتباط بين نمط التعلّق العاطفيّ القلق وبين امتلاك عقلية الضحية بأن ميل المرء لرؤية نفسه باعتباره ضحية على الدوام يوفر له إطارا يستطيع أن يبني من خلاله علاقاته غير الآمنة Insecure مع الآخرين؛ ما يوفّر له فرصة جذب انتباه الآخرين وتعاطفهم، وفي الوقت نفسه يوفّر له ذلك اختبار مشاعره السلبية والتعبير عنها من خلال هذه العلاقات. للمزيد حول نمط التعلّق العاطفيّ القلِق، انظر هنا
أما على المستوى الجمعي، فقد لاحظ الباحثون أن اعتقادات الضحية يمكن اكتسابها كما يمكن اكتساب أي اعتقاد إنسانيّ آخر، ويتم ذلك من خلال عدة وسائل، منها برامج التعليم، والبرامج التلفزيونية، ووسائل التواصل الاجتماعي. وهكذا يمكن لنا فهم كيف يطوّر الإسرائيليون الذين يعيشون اليوم عقلية الضحية من خلال تبنّيهم سردية محرقة الهولوكوست، على الرغم من أنهم لم يتعرضوا لها بشكل مباشر، وإنما من خلال تلقينهم إيّاها في المدارس والجامعات والخطابات السياسية الإسرائيلية. كما يمكننا كذلك فهم دور بعض السياسات والأطراف السياسية التي تطوّر خطابا كاملا تحديدا في الغرب بناء على عقلية الضحية، مثل خطابات سياسات الهوية والصّوابية السياسية وغيرها.
من الصعب علينا أحيانا أن نعترف لأنفسنا ولمن حولنا بأنّنا نتصرّف وفقا لعقلية الضحية وأنّنا نرى أنفسنا كذلك، خصوصا أن امتلاكنا لعقلية الضحية يغرقنا في تصوّراتنا الذاتيّة عن أنفسنا وعن العالم من حولنا بما يحجب عنّا حقيقة ما نفعل. لتعرف ما إذا كنت تمتلك عقلية الضحية، اقرأ الجمل الآتية، وقيّم مدى انطباقها عليك
ولتوضيح طريقة تفكير وسلوك من يمتلكون عقلية الضحية، لنأخذ مثالا عن نور وزوجها أحمد
نور وأحمد مسافران في نهاية الأسبوع الحالي إلى بلد آخر لأخذ إجازة من العمل. قامت نور بتوضيب جميع حقائب السفر وترتيب باقي الأمور، وطلبت من أحمد فقط أن يحجز سيارة أجرة لتوصلهما إلى المطار. في يوم سفرهما، يذكر أحمد لنور بأنه تبيّن أن الموعد الذي ستصل فيه سيارة الأجرة متأخر جدا، وأن موعد الطائرة سيفوتهما بسبب ذلك. يعتذر أحمد لنور، عن هذه الفوضى، وكثيرًا ما أخبرها بأنّ الأمر قد اختلط عليه وأنّه قد كان مُشتّت الذهن ولم يُدرك الأوقات بطريقة دقيقة فحجز موعدا غير مناسب، وطلب منها أن تتواصل هي مع شركة سيارات الأجرة لتعديل الموعد، لأنه لا يستطيع القيام بذلك نظرا لانشغاله بأمر آخر ملحّ ولا يمكن تأجيله.
استشاطت نور غضبا واستاءت كثيرا، وبدلا من أن تهاتف الشركة لتعديل موعد سيارة الأجرة، قررت ألا تفعل شيئا. بقيت نور حتى الساعات الثلاث الباقية قبل وصول سيارة الأجرة تستشيط غضبا وتبني في مخيلتها سرديتها الخاصة عن كونها ضحية لمخططات زوجها للتحكم بها وتخريب عطلتها التي نالتها هي عن استحقاق. من وجهة نظر نور، فإن عدم تغيير أحمد موعد سيارة الأجرة وعدم حجز موعد مناسب منذ البداية هو قرار اتخذه هو للحدّ من سعادتها وقدرتها على نيل ما تريده. تقرر نور المجازفة وانتظار سيارة الأجرة لتأتي في موعدها مع علمها بأن احتمال أن تفوتها الطائرة وتضيع الرحلة التي خططت لها بسبب ذلك هو احتمال كبير، كل ذلك في سبيل أن تحافظ على سرديتها الخاصة بها عن كونها ضحية لقرار زوجها بعدم تغيير موعد سيارة الأجرة.
ما الذي لا تستطيع نور إدراكه في هذه القصّة؟
تنبع عقلية الضحية في حالة نور من عدم قدرتها أو من كونها لا تريد أن تتحمل مسؤولية قراراتها واحتياجاتها، فبغض النظر عن القرار السيئ الذي اتخذه زوجها بشأن اختيار موعد غير مناسب أو تغيير الموعد المتأخر لسيارة الأجرة، بدلا من أن تقوم هي بتصحيح ذلك وهو ما لم يكن ليأخذ منها أكثر من اتصال هاتفي واحد مع شركة سيارات الأجرة، قررت نور أن تستنفد كامل طاقتها في مناكفة زوجها لأنه كما تتخيل هي وفقا لسرديتها أراد أن يمنعها من أن تخرج في عطلة وأن تحصل على ما تريد. فعلى الرغم من أن زوجها لم يتصرف بشكل ملائم، ولم يكن قراره صائبا، فإن عزو هذه النوايا له باعتباره يريد منعها من أن تكون سعيدة ليس سلوكا صائبا أيضا، فهو قد قام بذلك نتيجة خطأ عفويّ لأنه لم يُعطِ اهتماما كافيا للموضوع.
إن بناء تصوراتك عن ذاتك وعن العالم من حولك من خلال حدثٍ ما كنت الضحية فيه، سيمنعك حتما من تجاوز محنتك، والتفكير بشكل سليم بشأن ماضيك ومستقبلك، وتطوير علاقات صحية مع نفسك ومع من حولك.
إن خطر عقلية الضحية على المدى البعيد يتمثل في نزع فاعلية الأفراد باعتبارهم أفرادا يتحملون مسؤولية أفعالهم وقادرين على اتخاذ قراراتهم بأنفسهم واختيار مصائرهم، وليسوا مدفوعين -فقط- بكونهم ضحايا لمظلمة حقيقية أو متخيّلة.
وكما أنه يمكننا اكتساب عقلية الضحية، يمكننا كذلك تطوير عقلية نماء نفسيّ تدفعنا إلى الاستفادة من خبراتنا السابقة، الجيدة منها والسيئة، لنجعل من أنفسنا أشخاصا أفضل، دون الغرق في تصوّر أنفسنا كضحايا لا أكثر، بما يشتمل عليه ذلك من مشاعر سلبية مختلفة.
مما لا يمكن إنكاره أن هناك شرّا في العالم، وهناك أشخاصا يرتكبون المظالم، وهناك ضحايا، ولكن هناك على الجهة الأخرى أيضا خيار فرديّ حرّ نستطيع اتّخاذه بين أن نكون أحرارا ونتجاوز آلامنا ومظلومياتنا نحو فاعليتنا بوصفنا بشرا قادرين، وبين أن نرى أنفسنا كضحايا لا أكثر، نتوسّل الآخرين والنظام -الاجتماعي أو السياسي- القائم لكي يتعامل معنا كضحايا إلى الأبد.
تاليًا سنذكر بعض الخطوات التي تساعد على تجنب الوقوع في فخ عقلية الضحية
حدّد ما الذي يهمك وما الذي تريده، وافعل ما بوسعك للحصول عليه. لا تضيّع وقتك في اللوم أو الغضب من أولئك الذين لا يريدون ما تريده أنت، ولا تنتظر من أحد أن يفعل لك ما تريده.
إذا لم تكن تريد القيام بشيءٍ ما، ولست في حاجةٍ للقيام به أصلا، فلا تقم به. تذكر أنك تمتلك احتياجات مثلك مثل غيرك.
إذا بدأت في حالة من اللوم، سواء لوم نفسك أو حظك أو الآخرين أو الكون، فتوقّف عن ذلك فورا، وحوِّل انتباهك عن هذه الأفكار.
قبل أن تدخل في حالة لوم وبناء سردية جديدة عن كونك ضحية أحدهم، حاول البحث عن منبع شعورك بالعجز الذي يولّد كل هذه السيناريوهات.
عندما تبدأ في لوم الحياة أو الآخرين بسبب معاناتك، فأنت في الحقيقة ترهق نفسك بدلا من مساعدتها. بلعبك دور الضحية فأنت تكثّف شعورك بالألم؛ فعندما تتقمص هوية الضحية فأنت الآن لست تعاني فقط بسبب ما حدث لك، وإنما أيضا تعاني لأنك لا تحصل على ما يحصل عليه الآخرون، بسبب سوء حظّك وتآمر الجميع عليك للنيل منك.
عندما تمتلك عقلية الضحية، فإنك تتصور العالم بأسره يدور حولك وحول ألمك. تجنّب ذلك. اعترف بمعاناتك بلطفٍ ولين، ثم فكر كيف تستطيع مساعدة إنسان آخر. على الرغم من أن ذلك قد يبدو منافيا للبديهة، فإنه كلما كنت فاقدا للشيء أكثر، احتجت أن تعطيه بشكل أكبر. أن تكون لطيفا مع غيرك هو أفضل ترياق لشعورك بالشّفقة على نفسك.
عندما تمتلك عقلية الضحية فإن كامل تفكيرك ينصب على معاناتك، تحديدا ما لا تستطيع الحصول عليه. اقلب المعادلة، فكر في شيء يهمك، شيء تستمتع به وتستطيع الحصول عليه. فكر فيما تمتلك بدلا من التفكير فيما لا تمتلك.
شعورك بأنك ضحية يحجب عنك قدرتك على التغيير، فأنت تقنع نفسك بأنك لا تستطيع فعل أي شيء لتغيير ظروفك، في حين أن ذلك ليس صحيحا في معظم الأحيان. فكر فيما تستطيع فعله لتغيير ذلك، حتى لو بدا ذلك مستحيلا لك.
عندما تستمع إلى الآخرين، حاول أن تستمع إليهم بنيّة فهم ما يحاولون قوله. توقف عن التفكير فيما تريد فعله بخصوص ما يقولونه، أو التفكير فيما يعنيه لك ما يقولونه. استمع وحسب.
عندما تلعب دور الضحية، فإنك تقرر أن تحمل ضغينة وتستشيط غضبا بشأن المظلمة التي وقعت عليك. بدلا من أن تسمّم أفكارك بمحاولة الثأر لنفسك، حاول أن تتفهّم غيرك وتصفح عمّن ظلمك إذا كان ذلك ممكنا.
| https://www.aljazeera.net/sukoon/2022/9/26/%d9%87%d9%84-%d8%a3%d9%86%d8%aa-%d8%b6%d8%ad%d9%8a%d8%a9-%d8%a7%d9%84%d8%a2%d8%ae%d8%b1%d9%8a%d9%86%d8%8c-%d8%a3%d9%85-%d8%b6%d8%ad%d9%8a%d8%a9-%d8%aa%d9%81%d9%83%d9%8a%d8%b1%d9%83-%d8%ba%d9%8a%d8%b1 | 2022-09-26T10:23:51 | 2024-05-30T10:00:27 | أبعاد |
|
94 | الأعصاب الفولاذية.. لماذا لا يعرف المقاومون الاكتئاب؟ | يرى خبراء الطب النفسي أن ردود أفعال المقاومين والمقاتلين في ميادين الحرب ونقاط الاشتباك تعطي ملمحا مهما حول الشعور الطبيعي الذي يتمتع به هؤلاء الأسوياء في اتجاه تحقيق الذات. | مَن يثور لا يكتئب، ومَن يكتئب فهو عاجز عن الثورة أو محروم منها، والابتلاع المتواصل للغضب والحنق يتحول بعد فترة إلى اكتئاب، كما أشار إلى ذلك الأستاذ في علم النفس مصطفى حجازي.
في الحرب الإسرائيلية على غزة، وفي سياق الصراع الإعلامي بين الأطراف المتحاربة، كان أحد مرتكزات الدعاية الإسرائيلية قائما على توصيف الفلسطينيين بأبناء الظلام، في مقابل أبناء النور، وغيرها من الأوصاف التي تدور في ذات الفلك، وتلك شيطنة معتادة في إطار الحروب.
لكن دلالات هذه التوصيفات تتجاوز معناها المباشر، فيصبح أبناء الظلام هم الهمج، وأبناء النور هم أبناء الحضارة، ثم نترك لك فهم أبعاد ما يعنيه ذلك من نزع لأنسنة الشعب الواقع تحت الاحتلال، والمقاومة التي تدافع عن أرضها وشعبها أمام المحتل. بالتأكيد لم تخترع آلة الدعاية الإسرائيلية هذه المفاهيم، ولا تلك التوصيفات، بل لها جذور ضاربة في التاريخ، تُبعث في سياقات وحروب وأزمنة مختلفة.
على جانب آخر من ثنائية النور والظلام، يشير حقل علم النفس التحرري إلى مفاهيم معاكسة تماما لتلك المعاني التي تبعثها آلة الدعاية الإسرائيلية، فالتأقلم مع واقع مأزوم ومريض بالأساس وعدم الشعور بالتوتر حياله قد يكون مؤشرا على وضع ليس سَويًّا وغير صحي للذات.
ومن ناحية أخرى وبحسب ما يقول الطبيب النفسي الجزائري فرانز فانون، فإن إقبال الأفراد على تصرفات وسلوكيات عنيفة وثائرة في ظل الاستعمار ينبغي ألا يُفسَّر بوصفه نتيجة لجنون عقلي أو بوصفه استثارة حادة لنظامهم العصبي، بل بوصفه نتاجا مباشرا للوضع الاستعماري نفسه، ورد فعل على القمع.
يرى عدد من خبراء الطب النفسي أن ردود أفعال المقاومين والمقاتلين في ميادين الحرب ونقاط الاشتباك تعطي ملمحا مهما حول الشعور الطبيعي الذي يتمتع به هؤلاء الأسوياء في اتجاه تحقيق الذات، وكونهم فاعلين في رد الإهانة والعنف لمُسببيه الرئيسيين.
تماما كما فعل عدنان أبو ستة الذي قفز فرحا وهو يصرخ ولعت عقب نجاحه باستهداف إحدى الآليات العسكرية التابعة لجيش الاحتلال الإسرائيلي التي أكلت في طريقها عشرات الأبرياء من المدنيين العزّل.
يُوصَف الاكتئاب بحسب مدرسة فرويد في التحليل النفسي بأنه عنف مُوجَّه نحو الذات، فحين يتعرض الإنسان لقهر وتسلط من مصدر خارجي، وعند عجزه عن رد هذا القهر والعنف المُوجهين إليه ومنع نفسه عن المقاومة الفورية، يقوم المقهور باستدخال طاقة القهر هذه إلى داخله.
وجريًا على مبدأ حفظ الطاقة الفيزيائي القائل إن الطاقة لا تفنى ولا تُستحدث من العدم ولكن تتحول من شكل إلى آخر، فإن الإنسان يقوم بتحويل طاقة القهر الخارجية إلى طاقة توتر داخلية يستهلكها بتدمير ذاته عبر لوم نفسه والحط من شأنه والشعور بالذنب وفقدان القيمة، بل وحتى تشكيل صورة مُشوهة عن الذات مما يؤدي إلى انخفاض المزاج الانفعالي للفرد وتراجع حافزيته وفاعليته، الأمر الذي يؤول في نهاية المطاف إلى عجزه عن أداء وظائفه اليومية وعدم مقدرته على التلذذ بالحياة اليومية، وهذا أول طريق الاكتئاب.
لكن ما الذي سيحدث إذا لَم نكتئب؟ تقول النظرية إن العنف المُحتجز في الذات سيُصرَف باتجاهات مختلفة، أحدها كبت مشاعر القهر وتخزينها كطاقة، ومن ثم الانفجار في لحظة ضاغطة ما، غالبا ما يكون هذا الانفجار في وجه الأشخاص الخطأ، أو تتحول الطاقة المحتجزة إلى عنف نحو الذات، وقد تودي به في النهاية إلى ظلمة الانتحار.
وهذا ما يحدث في هذا السياق، فحين لا تُسعفنا اللغة ولا تُسعفنا قنوات التعبير المتاحة، وحين نشعر بالإحباط وانعدام جدوى الكلمات، وحين نشعر بانسداد ممكنات الواقع، فإننا نجد أنفسنا في لحظة انفجار عنفي مادي وسلوكي عشوائية، لأنها الطريقة الأخيرة التي نملكها لفرض ما نُريد قوله على الواقع المأزوم، والوسيلة المتاحة لجذب انتباه أولئك الذين تجاهلوا كلماتنا لوقت طويل.
لكن تحويل القهر إلى عنف مُوجه للخارج هو الشيء الوحيد الذي لا يرغب المُستَعمِر أو الظالم في رؤيته. من هنا تأتي تدخلات الطب النفسي الغربي لعقلنة شعور المرء بالتناقضات والمظالم والإحباط، وهنا تحديدا يجري العمل على فتح مسارات لتفريغ المكبوت وتحرير طاقة القهر عبر قنوات مسالمة وممكنة، وإيهام المظلوم بضرورة التسامي على مشاعر الغضب وتحويلها إلى طاقة لرفع الإنتاجية في العمل أو تحسين الأداء العلمي والتعليمي. وهذا بُعد آخر يجدر التنويه إليه، إذ إن العلاج النفسي في كثير من الأحيان لا يخدم سوى غاية واحدة هي إعادة الذات لعجلة الإنتاج الرأسمالي واسترجاع كفاءتها الإنتاجية، بدلا من التعطل بفعل الاكتئاب أو القلق الحاد.
تكتسب مفاهيم علم النفس طابعا ساخرا حين تتحدث عن المعاناة النفسية للأشخاص الذين يعيشون في مناطق خاضعة لنهب البنك الدولي وصندوق النقد الدولي.
يوجينيا تساو، كتاب الإمبريالية الصيدلانية والتجارة العالمية للعلاج النفسي1
في عام 2008، مرت منطقة فيداربا الهندية الريفية بصدمة نفسية هائلة، فقد كانت تسجل حالة انتحار كل 8 ساعات، والضحية دائما ما يكون أحد المزارعين.
عاشت منطقة فيداربا التي تقع في وسط ومركز شبه القارة الهندية قرونا طويلة حياة ريفية مستقرة، وكانت تشتهر بزراعة القطن وفول الصويا، ولم تعرف المرض النفسي بصيغته المفاهيمية السائدة اليوم.
حتى سبعينيات القرن الماضي، كانت الحياة الزراعية تعتمد على البذور المحلية، قبل أن تدخل في زمن الانفتاح الرأسمالي، وتسمح الحكومة الهندية بدخول استثمارات غربية كبرى إلى السوق المحلي تُعنى بالصناعات الزراعية الحديثة والمعدلة وراثيا لتواكب العرض والطلب للسوق العالمي.
اجتاحت الشركات الأجنبية السوق، وارتفعت أسعار البذور، فاندفع المزارعون للاقتراض، لترتهن حياتهم للائتمانات والقروض، ثم تعمقت حاجتهم إلى المبيدات لزيادة فرص النجاح وتغطية سبل العيش الكريم، ومع تقلبات الأسواق، وغياب شبكات الأمان الاجتماعي، والتعثر في السداد، وإثر كل ذلك دخل الكثير من أبناء هذه المنطقة في تلك الأجواء الانتحارية.
لم تكن فيداربا المنطقة الانتحارية الزراعية الوحيدة في الهند، إذ يُقدر عدد المنتحرين بين المزارعين بفعل أسباب العجز الاقتصادي بـ 200,000 حالة انتحار خلال السنوات العشر الواقعة بين الأعوام 1997-2007. وهذه الظاهرة الانتحارية ليست خاصة أو محصورة في الهند وحدها، وإنما تشمل منطقة آسيا والمحيط الهادئ، إذ وبحسب الدراسات التي فحصت حالات شبيهة، ترتبط 87 من حالات الانتحار بين المزارعين في هذه المناطق بأسباب متعلقة بالديون والعجز عن تغطية تكاليف الزراعة بالممارسات الحديثة.
أرسل رئيس ولاية أندرا براديش فِرقا من الأطباء النفسيين لزيارة المزارعين وتقديم جلسات علاج نفسي للتقليل من تلك الظاهرة، المدهش أن الحكومة الهندية بمعونة التفسيرات النفسية توصلت إلى العلاج الناجع، وتساءلت لماذا لا يكون هناك خلل جيني دفع هؤلاء الفلاحين إلى الانتحار؟
لاحِظ خلل جيني لا خلل اقتصادي وسياسي، وأطلقت على إثر ذلك دراسة بحثية في عام 2007 عنوانها التحقيق في الارتباط الجيني بموجة انتحار المزارعين في فيداربا. وهكذا، وبقرار سياسي، تم تجاهل المعاناة الناجمة عن استباحة سياسات البنك الدولي للمجتمع الهادئ، وذهبت إلى التحقيق في السجل الجيني للفلاحين والبحث عن سر العطب الذاتي الكامن في ذواتهم وفي أصلاب أجدادهم من منظورَيْ الطب النفسي وعلم الوراثة.
من المثير للاهتمام أيضا أن تعرف موقف المنظمات الدولية والهيئات العالمية من هذه الجريمة الممنهجة الموصوفة بالانتحار، فقد ناشدت حركة الصحة النفسية العالمية MGMH وطالبت البنك الدولي لزيادة التمويل لتدخلات الصحة النفسية في البلدان منخفضة ومتوسطة الدخل.
يا لها من مفارقة ساخرة أن تناشد الجهة نفسها التي شكلت أوضاع الهيمنة والاستعمار الاقتصادي على الشعوب بأن تُسعف ضحايا القهر الاقتصادي والسياسات النيوليبرالية للدولة، وبدلا من أن تكون المطالبة بإيقاف جذور المشكلة، تذهب نحو ضخ المزيد من الترطيبات النفسية والروحية، حتى تتكيف مع المعاناة الاقتصادية، لأن مشهد الانتحار مزعج للسادة في الغرب محتكر الثروة والطب النفسي.
الالتفاتة المهمة هنا هي أن فلاحي فيداربا لم يُطوروا نموذجا مُقاوِما لسياسات الشركات الكبرى والرأسمالية المتوحشة. كان وما زال أمام المزارعين خيارات عدة لتشكيل حالة نضالية خاصة بفلاحي المناطق الهندية، بدءا من استدعاء الموروث المقاوِم الذي خلقه زعيم ثورة المنبوذين في الهند، المهاتما غاندي، ومرورا بالمقاطعة والإضرابات العامة، بالإضافة إلى سلسلة من الحراكات المدنية التي تؤول عادة إلى تغيير شروط الشركات الكبرى وتحسين أوضاع الفلاحين وأحوالهم الاقتصادية.
ثمة شواهد عدة للفرضية الأساسية هنا بأن مَن يكتئب لا يثور، ومَن يثور لا يكتئب، إذ تُعطينا دراسات الانخراط المدني والمشاركة السياسية علاقة واضحة حول أثر النضال السياسي والمدني في زيادة الكفاءة الذاتية للأفراد وشعورهم بأنهم مُؤثرون في واقعهم وظروفهم، ومن ثم تقليص معدلات الاكتئاب لدى الناشطين منهم. وهكذا، فأمام أي واقع قهري ثمة نموذجان يُمكن تخليقهما نموذج المُتلقي السلبي للقهر والمستسلم له الذي ينتهي بالاكتئاب والانتحار، ونموذج إيجابي نشط، يجابه القهر ويناور مرتكبيه ويسعى جاهدا لتغيير الشروط المفروضة عليه، فيعزز من مناعته النفسية ويشعره بالفاعلية الذاتية ويقيه الوقوع في شراك الاكتئاب.
في حياتنا شيء يُجنِّن.. وحين لا يُجَنُّ أحد، فهذا يعني أن أحاسيسنا مُتبلدة وأن فجائعنا لا تَهزُّنا، فالجنون عند بعض منا دلالة صحية على شعب مُعافى لا يتحمل إهانة، ودلالة على أن الأصحاء لم يحتفظوا بعقولهم لأنهم لا يحسون، بل احتفظوا بعقولهم لأنهم يعملون، أو لأنهم سوف يعملون، على غسل الإهانة.
ممدوح عدوان، مُقدمات دفاعًا عن الجنون
قد لا نستطيع فهم المرض العقلي دون الأنثروبولوجيا والدراية باختلاف الثقافات، وكذلك دون فهم حياة التهميش والمعاناة الاقتصادية والسياسية التي تعيشها الدول النامية والفقيرة، لن تفلح الحبوب والمهدئات في حل المشكلة، فالأمر يحتاج إلى حل أعمق.
تبدأ المشكلة مع تسطيح المعاناة النفسية للأفراد من خلال نزع الأعراض المَرَضية للإنسان عن السياق الذي تنتج فيه هذه الأعراض، فحين يُغلَق باب النقاش حول الأوضاع السياسية للبلاد، وحين يُتجاهَل التحليل النقدي للسياق السياسي والاقتصادي الذي تحدث فيه حالات الانتحار والاكتئاب، يؤدي هذا كله إلى تشويه التشخيص السريري التقليدي، الذي يجعل الأفراد المصابين بالاضطرابات النفسية ينظرون إلى أنفسهم كما لو أنهم السبب الوحيد والأوحد في العِلل الاجتماعية التي يواجهونها. تُختَزَل أسباب المعاناة النفسية للأفراد بوصفها اختلالا كيميائيا للدماغ، أو بوصفها تشوهات إدراكية لدى المريض ينجم عنها قراءة سلبية للواقع، وتحتاج إلى تصحيح وتوجيه علاجي كي يكون الفرد أكثر إيجابية ومعافى من أمراضه النفسية. لكن وراء هذا التشخيص الخاطئ استعمار ذهني ونفسي لأخصائيي الصحة النفسية، لكنه استعمار مخدر نائم، بوهم الحيادية، حيث يُنتَزع السياق السياسي للاضطهاد والعنف من بيئة المريض لدواعي المهنية الطبية، بحجة الالتزام بالتعليمات والإرشادات المهنية، التعليمات ذاتها التي صاغتها الأُمم نفسها التي فرضت الأوضاع الاستعمارية وغير الإنسانية على باقي الشعوب حول العالم.
لكن من المهم في هذا السياق التمييز بين الأشخاص المصابين باضطرابات نفسية نتيجة خلل جوهري على المستوى العصبي والنفسي ويحتاجون إلى علاج نفسي مُتخصِّص مفيد وفعال، وبين ردود الفعل الطبيعية للأفراد على الانتهاكات السياسية التي تحدث يوميا بسبب الاحتلال الإسرائيلي مثلا، التي ينبغي ألا تُفهَم إلا بوصفها معاناة جماعية نتيجة اضطهاد ممنهج مُوجه نحو الذات.
على سبيل المثال، تتبنى المنظمات الدولية التي تقدم خدمات الصحة النفسية في الحالة الفلسطينية وفي حالة الإغاثة الإنسانية لضحايا النظام السوري نهجا يرتكز على عدم التسييس، وإبعاد أي طابع سياسي تفسيري، وهو ما قد يؤدي في النهاية إلى إيذاء الضحايا أكثر من نفعهم، وأحيانا يقود ذلك إلى رفضهم الاستمرار بالعملية العلاجية.
لو تخيلنا ضحية من حلب عاشت التدمير ويوميات البراميل المتفجرة، فطبيعي أن تدفع تلك الأهوال الشخص المقهور نحو تبني قناعة جذرية تجاه النظام السياسي القاهر. عند هذه النقطة تحديدا، إذا حاول الأخصائي النفسي استدعاء مفهوم التشوهات الإدراكية، وتصوير الأمر للضحية بأنه يتبنى قناعات غير واقعية تحت وطأة الاكتئاب أو الصدمة النفسية، حينها سينحرف النقاش العلاجي عن المبررات الواقعية لهذه المواقف النفسية، وسيكون من المُسيء أخلاقيا أن يُطمئن المريض مع نظرات تملؤها الشفقة قائلا أنتِ تعتقدين خذلانك لأنكِ مُكتئبة فحسب، بعد العلاج سيكون لكِ رأي مختلف. هنا تحديدا تتجاوز الحيادية حدود المهنية الباردة إلى التوطؤ الطبي مع المستعمر أو الحاكم المُستبد، حتى لو لم يُدرك المعالج ذلك، فنحن نتحدث هنا عن الأثر القائم من اتجاه الخطاب.
كذلك بالمثل حين تُفصِح ضحية خلال جلسة علاجية عن حقدها وتحاملها على النظام الإسرائيلي الذي دمر منزل عائلتها ودفعها نحو التهجير، فإن النموذج العلاجي يُوصِي بأن يُركز المُعالِج النفسي على تصحيح التشوهات التصورية بعدم شخصنة مصادر المعاناة وعدم أخذها بمحمل شخصي، وعدم التفكير فيها بمنطق ثنائي محض يحصر ما يجري من حوادث على أرض الواقع ضمن منطق إماأو أو ما يُسمونه أحيانا التفكير المحصور بلونين الأبيض والأسود.
وقد تصح هذه التوصية العلاجية لمواطِن غربي يعيش في دولة ديمقراطية وتعرض أثناء ذهابه للعمل لاعتداء عشوائي من أحد السائقين المتهورين، حينها يجب أن يُوصي المعالج النفسي بعدم شخصنة الأمور، وأن ما جرى لَم يكن سوى اعتداء عشوائي يُعبِّر عن تهور السائق نفسه.
لكن عدم الشخصنة تفقد مبرراتها حين تكون الذات هي موضوع الاضطهاد في حالة الاحتلال أو في حالة التطهير العرقي أو الاضطهاد السياسي لجماعة ما، حيث تكون الذات مُستهدفة بشكل مُتعمد ومقصود فقط لمجرد كونها ذاتًا تنتمي إلى جماعة بعينها.
وإذا تحركنا من مستوى قهر إلى آخر فسنجد أن القهر الفلسطيني قهر مُركب، وأن صدمة الفلسطينيين النفسية ليست كأي صدمة، بحسب ما تقول دكتورة سماح جبر، رئيسة وحدة الصحة النفسية في وزارة الصحة الفلسطينية والأستاذة المساعدة لـلطب النفسي والعلوم السلوكية في جامعة جورج واشنطن، في حوار أجرته مع موقع عرب 48. ترى الدكتورة سماح أن الضربات النفسية التي تبطش الفلسطيني المحتل متعددة الطبقات، فهناك الصدمات الفردية التي تتسبب بها الإصابات الجسدية أو السجن أو التعذيب، والصدمات الجماعية التي تولد شعورا مجتمعيا بالخوف مثل حروب الإبادة الصهيونية على قطاع غزة، أو مشهد قتل الصحافية الفلسطينية شيرين أبو عاقلة.
وتشرح كيف تعجز النماذج الطبية الغربية عن فهمنا تماما، فبعض السلوكيات التي قد تُصوَّر في سياقات أخرى بوصفها سلوكيات هيستيرية أو مَرَضية، تجدها في سياق الفلسطينيين تتحول إلى سلوكيات صحية وقائية، مثل قناعة الفتيات بأن عليهن ارتداء حجابهن قبل النوم تحسبا لأي اقتحام قد يحدث في أي لحظة، هذا ليس جنونا ارتيابيا، بل هو قائم على أساس واقعي بعد أن رأين -على سبيل المثال- والدتهن تُعتَقلُ من قلب دارها ليلا.
إن وجود الصدمة النفسية بجميع أشكالها لدى جماعة ما وانتشارها بينهم بالجُملة لا يدل على إشكال نفسي لدى الذوات، بقدر ما يدل على وجود واقع يفتقر إلى مقومات العَيش أساسا. وحين يكون هذا هو واقع الحال، فإن العلاج النفسي للأفراد ينبغي ألا يكون تدخلا سريريا لكل فرد على حِدَة، ولكن ينبغي أن تُضاف إليه طبقات من التحليل الاجتماعي والسياسي يدفع نحو تحقيق واقع مَعيش للأفراد تُحقق فيه كرامة الناس وحرياتهم ولا يتعرض فيها الأفراد لتجارب الاضطهاد أو الإذلال أو الإساءة أو العدوان والعنف. فالنموذج العلاجي المطلوب هو النموذج الذي يأخذ السياق الاجتماعي والسياسي للمرضى على محمل الجد دون أن يتجاهل المشكلة النفسية الفردية، وهو النموذج الذي ينشد ربط الانقسام بين المقاربات النفسية والاجتماعية السياسية الفردية، وهي السبيل لترجمة المعاناة الخاصة إلى معاناة عامة تحت الأوضاع الاستعمارية.
نحن نروي لأنفسنا القصص كي نعيش، إن وضع الصعوبات التي نمر فيها ضمن سياق أكبر عبر أذهاننا وخيالنا، يحولها من آلام ومعاناة إلى مَرْهَم فعال كي نتعافى من جراحنا.
مارك مارياني، ما لا يقتلنا.. يصنعنا مَا نُصبِح عليه بعد المأساة والصدمة
خلال التعرُّض لحدث مؤلم وصادم، يركز جسد الإنسان على البقاء على قيد الحياة فحسب، هذه هي أولويته الوحيدة. نتيجة لذلك، يؤجِّل أداء بقية الوظائف غير العاجلة، مثل الهضم أو تكوين الذكريات وتثبيتها. يعتقد العلماء أن اضطراب ما بعد الصدمة يتطور حين يُكوِّنُ الدماغ ذكريات منقوصة لحدث أليم مر الإنسان به؛ لأن تفاصيل جسدية وعاطفية مثل الذعر والخوف من السهل أن يتذكرها. لكن التفاصيل الأخرى، الأهم، مثل سياق الحدث ومكانه وزمانه، سيحيط بها الغموض. وبدون هذا السياق، لا يعرف الدماغ ما عليه فعله بهذه الذكرى، أين يضعها؟ وبسبب هذا الارتباك قد يربط ذكريات الحوادث الأليمة بتفاصيل حسية عشوائية مثل أغنية أو رائحة ما. يشعر المصاب بأن الذاكرة عائمة في رأسه، وفي حالة تأهب دائمة، حذرا من أي شرارة تُشعل فتيل صدمته. هنا يأتي دور العلاج السردي، إذ يُساعد بشكل أساسي على تنظيم الذهن.
بدلا من تذكر الحدث ثم محاولة تذكر التفاصيل والمُصاب في حالة ارتباك وضغط، العلاج السردي يبدأ من بناء السياق أولا. يحكي المصاب قصته من البداية، وبعدها تُوضَعُ الأحداث الأليمة في الفجوات الفارغة، كأن المصاب مع معالجه يُكملان رقعة بازل هائلة.
تساعد هذه الطريقة العقل على تثبيت الذكريات الأليمة في أوقات وأماكن محددة، فتتحول إلى شيء يخص الماضي فحسب، وليست مأساة دائمة الحضور في أفق الذهن. فيمَ ستفيد هذه الطريقة مقاومة أهل غزة؟ ربما بعد انتهاء الحرب، حين يتمكنون من سرد ذواتهم بهذه الطريقة، فإن ذكرياتهم ستحاصر في سردية واحدة وسياق واحد، ما يُجرد الحرب من قوتها، ويظل الصمود فكرةً ومبدأً ومنطلقًا هو الأساس لهذه الصدمات. ليست سردية الأشخاص بالضرورة سرديات صحيحة، وفهم سرديات الأشخاص لا يعني تبريرها بالضرورة، لكن يعني أن نفهم السياقات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية التي تنشأ في ظلها السرديات.
ربما لا يُدرك الفلسطينيون هذا، لكنهم يؤسِّسون سردا خاصا بهم مع كل عدوان يتعرضون له، ليس سردا علاجيا ممنهجا بالضرورة، لكنه يحافظ على تماسك مجتمعهم كله، مثل مبادرة نحن لسنا أرقاما، إذ تقوم المبادرة على الطمس الذي يتعرض له الفلسطينيون الذين يعيشون تحت الاحتلال وفي مخيمات اللاجئين، لأنه حين يتحدث العالم عنهم فإنه لا يذكرهم سوى بوصفهم أرقاما، عدد القتلى والجرحى أو الذين يعتمدون على المساعدات. لكن، كما يُذكر على موقع المبادرة، الأرقام مجردة من الإنسانية، ولا تؤدي إلى شيء سوى تخدير المتلقي ورؤيته للفلسطينيين أرقاما، تحديدا مع تكرارها وارتفاعها بوتيرة سريعة.
وُلِدت فكرة هذه المبادرة عام 2014 على يد الصحفية الأميركية بام بيلي، استوحت بام فكرتها خلال عملها مع الحقوقي الفلسطيني أحمد الناعوق. خلال العدوان الإسرائيلي ضد الفلسطينيين في صيف عام 2014، قُتل أيمن، شقيق أحمد البالغ من العمر 23 عاما، بصاروخ إسرائيلي. غرق أحمد في اكتئاب حاد، ظن أنه لا شيء سينقذه منه أبدا. التقى بام في هذه الفترة من حياته، وشجعته على الاحتفاء بذكرى أخيه من خلال كتابة قصة عنه. درس أحمد الأدب الإنجليزي، لذا كانت فكرة بام منطقية ومتقاطعة مع اختصاصه، وربما تساعده فعلا. كُتِبت القصة على مدار ثلاثة أشهر، ونُشرت في النهاية، وتحقق أمل بام؛ تحسن أحمد وبدأ يخرج من اكتئابه. أرادت بام أن تعمَّ الفائدة، وهذه هي طريقة العلاج السردي، إيجاد قصة، إيجاد معنى، إيجاد صوت مسموع، إكمال الرواية الشخصية حتى وإن انهارت كل لحظة.
إن كان من صمود للشعب الفلسطيني والمقاومة، فهو لا شك يكمن في التفاصيل الحميمية لثقافة الفلسطينيين أنفسهم، في حكايا جداتهم، وفي إرثهم وقصصهم عن ذواتهم، وفي إنتاجهم لأبطالهم واحتفائهم بالمقاومين من أبنائهم، إذ تُشير دراسات عدة إلى أن المجتمعات والأفراد الذين يحظَون بصورة ذهنية عن أبطالهم هُم أقدر على تجاوز الأزمات والتعافي من الكوارث والحروب، وكذلك كل رأس المال الاجتماعي الذي تحمله الشعوب الصامدة من نسيج مجتمعي متكافل يحرص على رواية قصصه وبطولاته ويعتني أفراده بعضهم ببعض. | https://www.aljazeera.net/sukoon/2024/6/5/%d9%84%d9%85%d8%a7%d8%b0%d8%a7-%d9%84%d8%a7-%d9%8a%d8%b9%d8%b1%d9%81-%d8%a7%d9%84%d9%85%d9%82%d8%a7%d9%88%d9%85%d9%88%d9%86-%d8%a7%d9%84%d8%a7%d9%83%d8%aa%d8%a6%d8%a7%d8%a8-%d9%88%d9%85%d9%86-2 | 2024-06-05T06:44:29 | 2025-01-14T11:30:24 | أبعاد |
|
95 | ما العلاقة بين الإلحاد والطب النفسي؟ | إذا كان للتدين تأثيرا إيجابيا على الأفراد، فلماذا ما زالت الصورة النمطية حول الطبيب النفسي الملحد منتشرة حتى اليوم؟ وهل هي حقيقية أم أنها مستمدة من الصراع القديم بين الطب النفسي والأديان؟ | محمود يسري، باحث حقوقي يعمل في قسم الشرق الأوسط بواحدة من أكبر منظمات الدفاع عن حقوق الإنسان في العالم. يعتمد عمل يسري على توثيق الانتهاكات الحقوقية التي تحدث في بعض الدول العربية، لذلك فعلى مدار سنوات عمله، تحدّث مع ضحايا عدد من الحروب الإسرائيلية على قطاع غزة، بالإضافة لحديثه مع معتقلين سياسيين تعرضوا لتعذيب بشع، أو أطفال اضطروا للهجرة وحدهم عبر البحر، أو نساء تعرضن للاغتصاب من قبل وكلاء تابعين لنظام سياسي أو مليشيا مسلحة.
يؤمن محمود يسري بأهمية عمله، ويراه جزءًا ضمن قناعاته الأخلاقية والتزامه الديني، لكن بعد فترة من ممارسة عمله، تزايد شعوره بإحباط غير مفسر، تطور مع الوقت ليصبح أكثر انعزالا وأشد انكبابًا على عدد من العادات الضارة، مثل تناول المنبهات والتدخين بشراهة، ما دفعه لمشاركة مشاعره مع بعض زملائه في العمل.
أحد الزملاء نصح يسري بزيارة طبيب نفسي ومعرفة ما المشكلة، لكنه لم يكن مستعدًا لتقبل حاجته لطبيب نفسي بعد. وكان يتذكر ما سمعه كثيرًا عن تعارض العلاج النفسي مع الإيمان بالله، أو التدين بشكل عام، لذلك تأخر كثيرًا في لقاء طبيب نفسي.
لكن خلال أشهر، عندما استيقظ في منتصف إحدى الليالي يبكي بلا سبب واضح، قرر التواصل مع طبيبة نفسية رشّحتها له المنظمة الحقوقية التي يعمل بها.
في الجلسة الأولى، وبعدما تحدث محمود يسري مع الطبيبة عن طبيعة عمله ونشأته في أسرة متدينة، وكيف أنه يشعر بالعجز لعدم قدرته على مساعدة ضحايا الانتهاكات في العالم، وقبل نهاية الجلسة بقليل، قالت له الطبيبة أدرك تمامًا ما تتحدث عنه، وظنّي أن هذا العجز ناتج عن إحساس بالذنب، أتعرف ما أصل الإحساس بالذنب؟، وقبل أن يجيب يسري تابعت الطبيبة الدين. وأنهى جلسة العلاج النفسي مع الطبيبة، ولم يعد لزيارة أي طبيب نفسي بعدها لوقت طويل.
قصة محمود يسري ، كما رواها بنفسه للجزيرة نت، تشير إلى التوتر المبرر من علاقة الطب النفسي وعلم النفس بالعامل الديني، إذ إحدى أكثر الأفكار شيوعًا حول العلاج النفسي أن الإيمان نقيض للمرض النفسي، وأكثر من ذلك أن المُعالج يوضح للمريض -بشكل أو بآخر- أن عليه ترك إيمانه خارج غرفة العلاج. تدفع تلك الفكرة العديدين إلى تجنب طلب المساعدة المختصة، بما يُعزز تلك الصورة بشكل أكبر.
هذه الصورة هي ما يهدف هذا التقرير إلى بحثها، حيث نؤسس للعلاقة المتذبذبة من ناحية تاريخية بين الدين والطب النفسي، ومنها إلى ارتباط الإلحاد بالأطباء والأخصائيين النفسيين. كما يحاول التقرير الإجابة عن سؤال هل يمكن للطبيب النفسي غير المؤمن تقديم مساعدة فعّالة لمريض مؤمن؟
لا يمكن القول إن العلاقة بين الإيمان والطب النفسي كانت واضحة على الدوام، لكنها ظلت تتطور إلى أن استطاع العلماء بناء تصور مكتمل عن تفاعل العامل الديني مع الصحة النفسية. فغالبًا ما تجاهل الطب النفسي الغربي البعد الديني والروحاني في الصحة النفسية، كما وُصف التدين في الأوساط العلمية بأنه آخر محرمات الطب النفسي، بينما كانت النظرة الدينية للعديد من الاضطرابات النفسية مثل اضطرابات الذهان والفصام على أنها أرواح شيطانية يجب طردها من الجسد، دون اعتبار السياقات والحلول العلاجية الممكنة.
لكنْ في العقود القليلة الماضية، بدأ يتزايد الاهتمام بالإيمان والتدين وتأثيرهما على الرفاه النفسي. فقد وجدت دراسة إحصائية زيادة ملحوظة بين عامي 1999 و2013 في الدراسات التي تبحث العلاقة بين الطب النفسي والأديان، حيث بلغ عددها أكثر من 30 ألف دراسة.
في هذا السياق، نجد زخمًا جيدًا من الدراسات التي تُخبرنا عن الأثر الإيجابي الذي يُحدثه التديّن في حياة الفرد على العديد من المستويات. فعلى المستوى النفسي، يرتبط التدين بمعدلات أقل من اضطرابات الاكتئاب، واضطرابات القلق والتوتر، ومعدلات أقل من الانتحار، وذلك عند مقارنة تلك النسب لدى المتدينين مع غير المتدينين.
وعلى المستوى الاجتماعي، فإن الروابط الاجتماعية التي تنشأ بين الأفراد المتدينين تمنحهم شعورًا بالدعم من مجتمعهم، والتي بدورها تُعد أحد أهم العوامل ذات التأثير الإيجابي على الصحة النفسية.
يمتد هذا الأثر حتى على مستوى الصحة الجسدية، إذ رُبط الالتزام بالعديد من الشعائر والطقوس الدينية بتحسن في مستويات ضغط الدم. كما أن المتدينين هم الأكثر التزامًا بالامتناع عن تعاطي المواد المخدرة والكحوليات والتدخين وغيرها السلوكيات المضرّة، وبالتالي يكونون أكثر صحة جسدية من الآخرين.
بالنظر إلى الأدلة السابقة، نطرح الإشكالية الرئيسية في هذا المقال إذا كان للتدين كل هذا التأثير الإيجابي على الأفراد، فلماذا إذن ما زالت الصورة النمطية حول الطبيب النفسي الملحد منتشرة حتى يومنا هذا؟ وهل هي حقيقية أم أنها مُستمدة من الصراع القديم والعلاقة المتوترة بين الطب النفسي والأديان؟
حتى نُجيب عن هذا السؤال بشكل مُنصف، لا بدّ أن نعرض للإحصائيات التي درست الارتباط بين الإلحادالتدين والطبّ النفسي.
وهنا نجد بالفعل حضورًا للإلحاد بين ممارسي هذا المجال، ففي دراسة مسحية نُشرت عام 2007، وقارنت بين الأطباء النفسيين ومُقدمي الرعاية الصحية من التخصصات الأخرى في الولايات المتحدة، وُجد أنهم أقل ميلًا إلى التعريف عن أنفسهم بميول دينية، وأكثر ميلًا نحو اعتبار أنفسهم روحانيين ولكن غير متدينين إذ نجد فروقًا في تعريف التديّن والروحانية رغم بعض نقاط التشابه.
وكانت إحدى المفارقات التي وجدتها الدراسة أن مقدمي الرعاية الصحية من المتدينين كانوا أقل ميلًا من الأطباء غير المتدينين إلى إحالة المرضى على الأطباء النفسيين.
نجد أيضًا أن هذه العلاقة بين الطب النفسي والإلحاد تُصبح أكثر وضوحًا إذا ما قارنا الطب النفسي مع الاختصاصات الطبية الأخرى، حيث وجدت دراسة أجريت على مجموعة من العاملين في القطاع الطبي بنسب متفاوتة من الاختصاصات الطبية، أن غالبيتهم يؤمنون بوجود الله، ووصف نصفهم أنفسهم بالمتدينين مقابل 11 فقط من الملحدين الذين لا يؤمنون بوجود الله، و12 من اللاأدريين الذين لا يعرفون إذا كان الله موجودًا أم لا.
لكن الجدير بالذكر هُنا أن النسبتين الأخيرتين كانتا الأكثر ارتباطًا بالأطباء النفسيين، بمعنى أنهم أكثر من صَنفوا أنفسهم ملحدين أو لاأدريين، وذلك بالرغم من أنهم شكلوا ما نسبته 2.3 فقط من عينة الأطباء الذين أُجريت عليهم الدراسة.
لكن هذه الإحصائيات تبقى جزءًا من الإجابة، فلا يمكن القول إن الإلحاد كظاهرة، يرتبط بالمجال الطبي والطب النفسي فقط، بل يمتد هذا الرابط ليشمل المجالات العلمية المختلفة. فقد وجدت دراسة استقصائية على أعضاء الجمعية الأميركية لتقدم العلوم؛ أن العلماء بمختلف مجالاتهم وتخصصاتهم أقل ميلا إلى التدين أو الإيمان بمستويات تصل قرابة النصف، وذلك مقارنة بالأفراد خارج تخصصات العلوم البحتة والتطبيقية.
كانت النسب مثلًا متقاربة مع تخصصات العلوم الطبيعية الأخرى كعلم الأحياء، والكيمياء والفيزياء وغيرها. ووجدت دراسة أخرى النتائج نفسها فيما يتعلق بكون الأفراد الذين يتخصصون في العلوم هم بالفعل أقل تدينًا، لكن هذا الترابط -بحسب نتائج الدراسة- لا يعني أن من يدرس العلوم يصبح بالضرورة غير متدين، بل إن أولئك الذين يأتون من خلفيات غير متدينة أو ينشؤون في أسرة غير متدينة بالأساس؛ هم أكثر من يميل إلى اختيار تخصصات معينة.
الدين يمتلك كل شيء الوحي، النبوءات، حماية الحكومة له، أعلى درجات الكرامة والسمو، والأكثر من ذلك -الامتياز الذي لا يُقدر بثمن- وهو أن يحفر معتقداته وتعاليمه في ثنايا العقل في سن مبكرة من الطفولة حتى تكاد تُصبح أفكارًا راسخة
حتى نشرح مواقف الأطباء النفسيين من الإيمان والتديّن، يمكننا استخدام نموذج الشخصيتين الأشهر في هذا المجال وهما سيغموند فرويد، وهو الاسم الأكثر ارتباطًا بظاهرة الإلحاد في مجال الطب النفسي، وكارل يونغ، الذي اختلف معه في شتى مواضيع ومجالات الطب وعلم النفس، ولم تقتصر خلافاتهما حول الإيمان والتدين فقط.
اشتهر سيغموند فرويد -الذي يُعتبر أول من أسس مدرسة التحليل النفسي Psychoanalysis- بعدائه الواضح للدين والتدين، حيث نشر العديد من الأفكار التي تُشبّه الدين ومظاهره وممارساته بأمراض واضطرابات نفسية، فهو عنده نوع من أنواع العصاب الجماعي Collective neurosis، ووهم ابتدعه الإنسان بسبب تقديسه الفطري لنموذج الأب بمعنى أن الإله هو ما يقارب مفهوم الأب لدى الإنسان، والعديد من التشبيهات والأفكار الأخرى التي تخلص في معناها إلى أن الأديان هي مجرد آلية دفاع مُخترعة.
دُحضت العديد من تلك الأفكار في الأوساط العلمية اليوم، بيد أنه لا يمكن إنكار أن هذا المنظور ومن تبناه -سواء من مؤسسات أو باحثين أو أطباء- سيطر على توجهات هذا المجال وإنتاجاتها لعقود طويلة.
على النقيض من فرويد، فإن الإيمان بالنسبة للطبيب والمحلل النفسي كارل يونغ؛ ارتبط مباشرة بسعي الفرد لإيجاد معنى للحياة، وليس الدين سوى إحدى تلك المحاولات.
بالنسبة لفرويد، لن يصمد الدين مطولًا أمام العقل والتجربة العلمية، وكان يأمل قدوم مستقبل يتجاوز العلم فيه الدين، ويحل العقل محل الإيمان بالله. أما بالنسبة ليونغ، فإن الرفاه النفسي للفرد لا يتحقق بشكل كامل إلا عندما ترتبط ذاته الواعية بأساس ديني يمنحها ما اعتبره نظاما داخليا. كما اعتمد أسلوبَ الرمزية في تفسيره للعديد من القصص والأحداث الدينية وإسقاطاتها على الواقع. لكنّ المفارقة؛ أنه عندما سُئل إن كان مؤمنًا أم لا، لم تكن إجابته قطعية بالإيجاب.
في عام 1995 نُشرت ورقة بحثية بعنوان لماذا يتجاهل الأطباء النفسيون الدين؟، وناقشت أهم الأسباب التي وسّعت الفجوة بين الطب النفسي والأديان بشكل عام. وكانت أهمّ هذه الأسباب؛ المادية الطبية Medical Materialism، إذ نتيجةً للتقدم الطبّي في مجال الأمراض النفسية وتحديدًا في سياق ربط الاضطرابات النفسية بأسباب عضوية -والذي يُعدّ تقدمًا إيجابيًا في مُجمله- فقدت العوامل الدينية والأخلاقية حضورها في الطب النفسي بوصفها مُسببات رئيسية للاضطرابات، فأصبح المادي والملموس هو المسبب الحقيقي، أما العوامل النفسية فهي مجرد آثار جانبية ونتائج للمسبب المادي.
إضافة إلى ذلك، ناقشت الورقة العلاقة بين مشاعر الذنب الناتجة عن عوامل ومفاهيم دينية، حيث أشارت إلى أن دراسات عديدة وجدت أن الأفراد الذين ينتمون إلى مجتمعات أكثر تدينًا يواجهون مشاعر الذنب بشكل أوضح وأكبر من غيرهم خلال نوبات اكتئابهم.
لا تُقدم هذه التفسيرات إجابة مباشرة وقطعية على الرابط بين الإلحاد والأطباء النفسيين، فهي في أحسن الأحوال قد تُفسر ابتعاد الطبيب النفسي عن استخدامه للدين في سياق دوره كطبيب ومُعالج للمريض، بمعنى أن الطبيب النفسي قد يكتسب المعرفة الكافية التي تجعله يُفضل تجاهل الاعتبارات الدينية في المواضع التي قد تُؤثر سلبًا على علاج المريض أو تزيد من انتكاس حالته. لكن لماذا يتعدى استبعاد الدين مساحة العلاج إلى مساحة الطبيب الشخصية؟
من جهة أخرى، فإن أحد التفسيرات الحديثة الممكنة للصورة النمطية حول الطبيب النفسي الملحد هو القصور في منظومة التدريب والعلاج التي يتلقاها المعالج النفسي.
إذ تُخبرنا دراسة أجريت في عام 2016 أن ما نسبته 80 من المعالجين النفسيين لم يتلقوا التدريب الكافي حول دمج القضايا الدينية والروحانية في مسار العلاج، وفي بعض الأحيان لم يتلقوا أي تدريب على الإطلاق. كما أن غالبية الدراسات التي أجريت في دول غربية مثل الولايات المتحدة وبريطانيا وكندا، وجدت أن التحيز ضد الدين في مساحات الطب النفسي ما زال ملحوظا.
بالمقابل، نجد أن هناك اهتمامًا متزايدًا واتجاهًا نحو فهم أفضل للتدين في مجال الطب النفسي، ويظهر ذلك في التوصيات المتعددة لإدخال الدين في النموذج الأشهر والأهم في فهم الاضطرابات النفسية والتعامل معها، وهو النموذج البيولوجي-النفسي-الاجتماعي بمعنى أن يصبح الدين بُعدًا رابعًا في النموذج الذي ينظر للاضطرابات من خلال المنظور البيولوجي، والنفسي، والاجتماعي.
كما أن الأدبيات الموجودة تُخبرنا عن الأثر الإيجابي الحاضر مُسبقًا لهذا الاتجاه، حيث خلصت إحدى الدراسات إلى أن التدخلات العلاجية المصممة بحيث تتلاءم مع خلفية المريض الدينية والثقافية؛ تؤثر إيجابيا على تحسن حالته وسرعة شفائه.
نستنتج إذًا أنه لا وجود لعلاقة سببية مباشرة تجعل مَن يختص في الطب النفسي على وجه التحديد ملحدًا كما هي الصورة السائدة، بل يُمكن القول إن العلاقة المتذبذبة تاريخيًا بين الطب النفسي والتديّن، أدت إلى قصور مؤسسي في أخذ الدين بجوانبه المختلفة بعين الاعتبار في مجال الطب النفسي، وهذا بدوره هو ما ساهم في نشر الصورة النمطية التي تضع الطبيب النفسي في قالب إلحادي يرفض الدين والتديّن جملة وتفصيلًا.
لعل أحد أهم الأسئلة التي تهمّ من يلجأ إلى العلاج النفسي هي التي تتعلق بالدين في سياق المعاناة التي يمر بها. فالمؤمن يُفضل أن يتم أخذ خلفيته الدينية بعين الاعتبار من قبل المعالج، والعكس صحيح كذلك، أي أن غير المتدين قد يُفضل معالجًا غير متدين لتخوفه من الأحكام التي قد تُطلق عليه مثلًا.
لكن قد تتفاجأ حين تعرف أن هذا التخوف لا يقتصر بالضرورة على المريض وحده، ففي مقال نشرته طبيبة نفسية عام 2015، طرحت في عنوانه السؤال ذاته الذي يؤرق المرضى هل يُمكنني كطبيبة نفسية لا تؤمن بالإله تقديم الرعاية للمرضى المؤمنين؟.
تؤكد الطبيبة في مقالها أن هناك بالفعل فجوة بين حاجة المرضى إلى دمج خلفياتهم الدينية والروحانية في مساقات العلاج، وبين التدريب الذي يتلقاه المعالج. فبحسب خبرتها والتدريب الذي تلقته، تُخبرنا أنه قد يسأل المعالج النفسي المريض عمّا إذا كان متدينًا أم لا، لكن الإجابة لا تؤثر على مسار وخطة العلاج بأي شكل كان.
ولا تزال تتصاعد أصوات وتوصيات طبية حول أهمية تغيير سُبل التعامل مع كل ما هو ديني أو روحاني في الطب النفسي، بالإضافة إلى أخذ خطوات جادة من قبل المعالج النفسي تشمل الدراية بالخلفية الروحانية والدينية للمريض، واحترام ودعم معتقدات المريض. لا يعني ذلك بالضرورة أن على الطبيب أن يدعم ويشارك المريض في معتقده، إلا إذا كان واضحًا للمعالج أنها تؤثر سلبيا على المريض، كأن تزيد من معاناته أو تكون أساسًا لها.
قد لا يستطيع مقال واحد أن يقدم إجابات قاطعة حول العلاقة المتقلبة بين الدين والطب النفسي. لكن ربما يلعب هذا التقلّب دورًا في شكل وجودة الرعاية الصحية النفسية المقدمة للمرضى، والمساحة التي يُمكن ويجب على المختصين البحث فيها، ومحاولة فهم الإشكاليات المتعلقة بها.
___________ اسم مستعار. | https://www.aljazeera.net/sukoon/2025/1/18/%d8%a7%d9%84%d8%a5%d9%84%d8%ad%d8%a7%d8%af-%d9%88%d8%a7%d9%84%d8%b7%d8%a8-%d8%a7%d9%84%d9%86%d9%81%d8%b3%d9%8a-%d9%85%d8%a7-%d8%a7%d9%84%d8%b9%d9%84%d8%a7%d9%82%d8%a9 | 2025-01-18T15:44:52 | 2025-01-24T12:43:06 | أبعاد |
|
96 | لماذا لا يفهمني الآخرون؟ عن إساءة الفهم وكيف نتجنّبها | لا شكّ بأن شعور المرء بأنه قد أسيء فهمه من أكثر المشاعر التي تتسبّب بمعاناة الأشخاص، لما تعرّضهم له من ضغوطات، وما تتطلّبه من جهدٍ لإصلاح المواقف.. فلماذا قد لا يفهمنا الآخرون؟ | لقد عانيت بما فيه الكفاية من سوء الفهم ومن العزلة التي يقع فيها المرء عندما يقول شيئا ولا يفهمه الناس من حوله
كارل يونغ، بتصرّف طفيف
لا بد أنك تذكر هذا الموقف جيدا
جالسٌ أنت في حضرة مجموعة من الأشخاص، تقول شيئا ما بعفوية ولا تلقي له بالا، تظن بأن كل شيء على ما يرام، حتى تنظر من حولك، فترى الجميع متجهّمين وينظرون إليك شزرا وكأنك قلت شيئا مريعا، تسألهم لماذا ينظرون إليك على هذا النحو، فيجيبون بأنه من الأحرى بك أن تستمع مجددا لما قلته لتوّك، تفكر قليلا بما قلته ثم تكتشف ما حدث؛ لقد أساؤوا فهمك لم تستطع أن توصل إليهم ما أردت قوله بالشكل الصحيح، تبدأ بالاعتذار وتوضيح ما أردت قوله، تحاول أن توصل رسالتك بأفضل شكل ممكن وأن ترفع اللبس عن أي سوء فهم محتمل، يهدأ الناس من حولك بعد أن اتّضحت لهم الصورة، ولكنك حتى بعد أن عدت إلى منزلك بقيت تتساءل هل ما زال هنالك من لم يفهم قصدي؟
في الحقيقة لست وحدك من يعاني من ذلك، جميعنا نمرّ بمثل هذه المواقف ونشعر بالإحراج؛ ما يتسبب بشعورنا بالقلق، وربما بالغضب. لا شكّ بأن شعور المرء بأنه قد أسيء فهمه من أكثر المشاعر التي تتسبّب بمعاناة الأشخاص، لما تعرّضهم له من ضغوطات، وما تتطلّبه من جهدٍ لإصلاح المواقف.
ورغم أن هذا التساؤل حول مدى فهم الآخرين لنا يكون مرتبطا في العادة بموقف معيّن أسيء فيه فهم المرء، فإنه قد يكون لدى البعض تساؤلا يوميّا لماذا لا يفهمني الناس في العموم؟ ألا أستطيع إيصال أفكاري بالشكل المطلوب؟ هل العيب فيّ أم في الآخرين؟ ولكن قبل التطرّق إلى سبب عدم فهم الآخرين لنا، يجب علينا أن نجيب عن سؤال أكثر أهمية لماذا من المهم أن يفهمنا الآخرون أصلا؟
في الحقيقة فإنّنا، بصفتنا أشخاصا، تهمّنا جدا تصورات الآخرين عنا، ونسعى دوما إلى أن يرانا الآخرون تماما كما نرى أنفسنا، وفقا لما تقوله نظرية التحقق الذاتي Self Verification، وذلك بغض النظر عما إذا كانت هذه الصورة التي نرى بها أنفسنا إيجابية أو سلبية، فأولئك الذين يجدون أنفسهم محبوبين من قبل الآخرين يرغبون في أن يراهم الآخرون كذلك، وأولئك الذين يجدون أنفسهم مكروهين من قبل الآخرين يرغبون في أن يراهم الآخرون كذلك أيضا رغم أن ذلك قد يبدو منافيا للبديهة.
يجعل هذا التحقق الذاتي أي تأكيد الآخرين لتصوراتنا عن أنفسنا العالمَ بالنسبة إلينا أكثر منطقية، وأكثر تماسكا، وأكثر قابلية للتنبؤ، كما أنه يساعد على جعل التفاعلات الاجتماعية أكثر سلاسة؛ فمن خلال تصوراتي عن الآخرين، أستطيع توقع تصرفاتهم تجاهي وفهمها، ومن خلال تصورات الآخرين عني، يستطيعون هم توقع تصرفاتي تجاههم وفهمها أيضا في مواقف معينة. كما أظهرت نتائج دراسة من جامعة ڤيرجينيا أُجريت على مجموعة من الطلاب ارتباطا بين الشعور بأن الآخرين يفهمون ما نريد وبين الشعور بالرّضا، بل وتعرّضا أقل للأمراض الجسدية أيضا.
يولّد هذا الشعور بالفهم شعورا بالانتماء؛ ما ينمّي علاقات أكثر صحية، حيث وجدت الدراسات أن من يمتلكون شعورا بالانتماء يكونون أكثر سعادة وأقل عرضة للقلق والاكتئاب والشعور بالعجز والوحدة.
وفي وقتنا الحالي، ولأسباب ثقافية وسياسية أكثر منها نفسية، فإنه من المفهوم أن يتحرّز الناس جيدا في كل ما يقولونه ويفعلونه، وأن يحاولوا إزالة اللبس عن كل سوء فهم محتمل، فليس غريبا أن يتسبب تعليق بسيط قاله أحدهم بعفوية تامّة ولم يقصد به الإساءة إلى أحد بأن يُطرد من عمله، وأن يقاطعه أصدقاؤه، أو أن تُنهى مسيرته في حال كان شخصية معروفة.
ولكن، من أين ينبع سوء الفهم هذا كله؟ هل يتطلب فهمنا كل هذا الجهد بالفعل؟
يكمن السبب الأساسي وراء سوء الفهم في أننا بصفتنا أشخاصا -وفقا للأخصائية في علم نفس الاجتماع هايدي جرانت- أكثر صعوبة على الفهم مما نظن. يتنافى ذلك بالطبع مع الاعتقاد الشائع لدى كثيرين بأننا واضحون للغاية فيما نقوله ونفعله، وبأن الآخرين يفهموننا مثلما نريد تماما. يسمّي علماء النفس ذلك الاعتقاد بـوهم الشفافية Illusion of Transparency، وهو الميل إلى المبالغة في تقدير مدى قدرة الآخرين على معرفة ما نفكر به وما نشعر به وما نظنه.
في تجربة عن وهم الشفافية أجراها باحثون في علم النفس، طُلب من المشاركين في التجربة أن يخبروا الجمهور عددا من الجُمل الصادقة والجمل الكاذبة، ومن ثم أن يحاولوا التنبؤ إلى أي حد يستطيع الجمهور أن يكتشف أكاذيبهم. أظهرت النتائج بأن المشاركين اعتقدوا بأنهم قاموا بتسريب عدد من الأدلة يساعد الجمهور على اكتشاف أكاذيبهم أكثر مما قاموا به بالفعل؛ ما جعلهم يعتقدون بأن الجمهور يعرف أكاذيبهم، رغم أن ذلك غير صحيح.
يمكننا أن نقول بشكل عام إن صعوبة فهمنا ترجع بشكل أساسي إلى 3 أسباب محورية، وسنقوم تاليا بشرحها والتفصيل فيها
رغم أن ذلك قد يبدو اختزاليا بعض الشيء، فإن محاولة فهم الأشخاص لبعضهم بعضا تشبه في جزء كبير منها محاولة حل مسألة فيزيائية، فعندما نحاول حل مسألة فيزيائية فإن أول ما نبحث عنه هو المعطيات التي نستطيع من خلالها تكوين فهم معين للمسألة، ومن ثم تقديم حل ممكن لها. وإذا لم تكن المعطيات كافية، فإن فهمنا للمسألة سيكون قاصرا بالتأكيد، ومن ثَم لا بد للإجابة أن تكون غير صحيحة. ينطبق الأمر كذلك على التفاعلات الاجتماعية بين الأشخاص، فعندما يحاول شخص ما فهم ما تقوله أو تفعله، فإنه لا يستطيع القيام بذلك إلا من خلال المعطيات التي يمتلكها عنك وهي ما تقوم أنت بتزويده بها، وإذا لم تكن المعطيات كافية نتيجة تقصير منك، أو لظرف معين، فإنّه لا بد من وقوع سوء الفهم.
تتمثل المعطيات التي يمتلكها الآخرون عنك في الآتي فقط
في حين تتمثل المعطيات التي تمتلكها أنت عن نفسك في الآتي
ينبع سوء الفهم إذن في هذه الحالة من عدم امتلاك الآخرين معطيات كافية عنك، فما يمتلكونه عنك من معطيات وهو ما يتشكل من خلاله فهمهم لك أقل بكثير مما تمتلكه أنت من معطيات عن نفسك وعن الموقف الذي تمر به.
يخضع كل ما نقوله ونفعله لتأويلات الآخرين وتفسيراتهم، سواء أردنا ذلك أم لا. ولنتجنب سوء الفهم المحتمل من قبل الآخرين، يجب علينا أن نعي ونأخذ بعين الاعتبار قنوات التأويل التي تمر من خلالها أقوالنا وأفعالنا، لتخرج بالشكل الذي يفهمه به الآخرون. تتمثل قنوات التأويل هذه في الآتي
1- الصور النمطية Stereotypes تلعب الصور النمطية دورا كبيرا في تشكيل فهم الآخرين لما نقوله ونفعله، فالصور النمطية وفقا للجمعية الأميركية لعلم النفس هي مجموعة من التعميمات الإدراكية مثل التصوّرات والتوقعات ... إلخ عن الصفات والخصائص التي تتسم بها مجموعة من الأشخاص أو فئة اجتماعية ما. وبما أننا ننتمي إلى مجموعة ما ونُصنَّف ضمنها إثنية، طائفة دينية، قبيلة، طبقة اجتماعية، حزب سياسي... إلخ، فلا بد للآخرين من أن يحاولوا فهم ما نقوله ونفعله من خلال تصوراتهم عن هذا الانتماء، رغم أن هذه التصورات قد تكون خاطئة ببساطة؛ ما يتسبب بسوء الفهم. ومن ثَم لا بد أن تكون واعيا بالدور الذي تلعبه الصور النمطية في تشكيل فهم الآخرين لك.
2- افتراضات الآخرين عنك Assumptions يمتلك الآخرون عنك عادة بعض الافتراضات التي لا يدعمها دليل أو إثبات، وقد تلعب دورا كبيرا في تشكيل فهمهم لك، رغم احتمال خطئها الكبير؛ ما يتسبب بسوء الفهم. مثلا، إذا افترض أحدهم أنك لا تحب شخصا ما، فسيكون هنالك احتمال كبير بتفسير كل ما تقوله عن هذا الشخص باعتباره دلالة على عدم محبتك له، رغم أن ما تقصده قد يكون العكس من ذلك تماما.
3- تجارب الآخرين السابقة معك لا بد أنك سمعت من قبل بالمثل الشائع بأن الانطباعات الأولى تدوم، مع الأسف فإن هذا صحيح، وقد تلعب هذه الانطباعات دورا كبيرا في تشكيل فهم الآخرين لك وتوقعاتهم لتصرفاتك أيضا. ولذلك فإنه من المهم أن تترك انطباعا أوليا جيدا لدى الآخرين عنك لتجنب سوء الفهم للمزيد حول ذلك، انظر هنا. ينطبق الأمر كذلك على تجارب الآخرين السابقة معك، فإذا لم تكن تجاربهم معك إيجابية من قبل، فعلى الأغلب أنهم لن يتوقعوا منك نوايا جيدة فيما تقوله وتفعله؛ ما يتسبب بسوء الفهم.
4- مشكلات الآخرين أنفسهم رغم أن مشكلات الآخرين هي أمر يخصهم وحدهم ولا علاقة لك بها، فإنها قد تؤثر على الطريقة التي يفهمها بك الآخرون.
5- سياق الفهم يؤثر السياق الذي تحدث فيه التفاعلات الاجتماعية كثيرا على فهم الآخرين لك، فقد تتصرف على غير طبيعتك مع أحدهم بسبب ظرف ما، ولا يأخذ الآخرون ذلك بعين الاعتبار، فيتسبب ذلك بسوء فهمهم لك.
لا تعود جميع أسباب سوء الفهم إلى الآخرين أو الظروف، فقد تكون بعض المسببات ناتجة منك بشكل مباشر، سواء كان ذلك بإرادتك أم لا. سنلخص فيما يلي بعض الأسباب المحتملة لتعرّضك المستمر لسوء الفهم
1- الخوف من الحميمية Fear of Intimacy ينتج هذا الخوف من عدم قدرتك على بناء مستوى جيد من الثقة بينك وبين الآخرين، ومن إصرارك المستمر على إبعاد كل من يحاول التقرب منك، نتيجة اعتقادك بأن الآخرين سيهجرونك لا محالة. يتسبب هذا الخوف بشكل مباشر في سوء فهم الآخرين لك، فكيف تتوقع منهم فهمك بالشكل الصحيح وأنت تحاول إبعادهم عنك باستمرار؟
2- الخوف من أحكام الآخرين قد يضطرك خوفك من حكم الآخرين عليك إلى أن تُخفي الكثير من الأشياء التي تساعد على فهمك بالشكل الصحيح؛ ما يؤدي إلى تشوش الصورة لدى الآخرين، ومن ثَم فهمك بشكل خاطئ.
3- عدم الثقة بالآخرين قد يكون سبب ذلك ترعرعك بين مجموعة من الأشخاص الذين لم تستطع أن تثق بهم، أو أنك تعرضت لأذى عاطفي أو جسدي في صغرك. يتسبب ذلك في عدم رغبة الآخرين في الاستثمار في فهمك بشكل صحيح، لأنك لا تثق بهم من الأساس.
4- كونك شخصا اعتماديّا Codependent يعني ذلك سعيك المستمر لنيل رضا الآخرين وموافقتهم؛ ما يضطرك إلى تزييف نفسك إلى درجة لا تعود فيها تفهم حتى أنت ماذا تريد، فما بالك بالآخرين؟
5- ضعف مهارات التواصل كأن تقول أشياء تناقض نفسها، أو عكس ما تريد قوله، أو أن تقول أشياء لا تؤمن بها لترضي غيرك -ربما- أو لتكون لبقا؛ ما يعني أنك شخص اعتمادي.
6- نقص التعاطف مع الآخرين Lack of Empathy إذا لم تستطع أن تتعاطف مع غيرك، فلن تستطيع فهمهم أو تكوين علاقات معهم، ومن ثَم كيف تتوقع منهم أن يفهموك بشكل صحيح؟
ولكن، إذا كانت جميع هذه العوامل تدخل في معادلة الفهم، فكيف يمكننا أن نسيطر عليها ونتجنب أن يساء فهمنا؟
سنذكر تاليا بعض الخطوات التي من شأنها أن تساعدك على تجنب سوء الفهم
حاول أن تصغي إلى نفسك وأنت تتحدث إلى الآخرين، كرر الجملة في رأسك وتخيل وَقْعها عليهم قبل أن تقولها، هل سيفهم الآخرون ما تريد قوله بالشكل الصحيح؟ هل تقول أشياء عكس ما تقصد وتعطي انطباعا خاطئا عمّا تريد؟ قد يساعدك أيضا أن تسجل محادثاتك مع الآخرين، استمع إليها وحاول أن تجد أين حدث سوء الفهم، واعمل على تجنب ذلك في المستقبل.
تلعب لغة جسدك وتعابير وجهك دورا مكافئا -إن لم يكن أكبر- لكلماتك وأفعالك. افرد ذراعيك وأرِح كتفيك عندما تتحدث مع أحدهم، حافظ على التواصل البصري بينك وبين الآخرين، وحافظ على ابتسامة لطيفة.
قد تؤدي بنا بعض المشاعر إلى تبني موقف لا أحد يفهمني. إذا أحسست بأنك على وشك تبني هذا الموقف، تريّث قليلا وفكّر مليّا، خُذ نفسا عميقا واسأل نفسك هل أساء الآخرون فهمي بالفعل أم أنني مستاء من شيء آخر، أنهم مثلا لا يوافقونني فيما أقول؟ ألا يحتمل أنني أشعر بذلك لأنني مررت بيوم سيئ؟ حاول أن تنظر إلى الأمور من منظور الآخرين، وابحث عن الطرق التي حاولوا بها فهمك بشكل صحيح.
كلما فهمت نفسك أكثر استطعت أن توصل ما تريد بشكل أوضح، ومن ثَم يستطيع الآخرون فهمك بشكل أفضل. اكتب قائمة بما تحب وتكره، بما تريد وما لا تريد، ما يجعلك تشعر بالسعادة وما يعكر مزاجك. حين نتمرّن مع أنفسنا بالتعبير عمّا نُريده بوضوح وبصياغة أفكارنا بطرُق مُتعددة عبر الكتابة والتدوين، فإنّ هذا من شأنه أن يُسهّل مَهمّة إيصال أفكارنا للآخرين وسيسهّل عليهم فهمها واستيعابها لأنّها أفكار ومشاعر واضحة في عقلنا بالأساس.
قد يؤدي شعورك الدائم باعتبارك غير مفهوم من قبل الآخرين إلى أن تشفق على نفسك، وأن تتحول مِن ثَم إلى ضحية الآخرين في نظرك. تجنّب الوقوع في ذلك الفخ، وتحمّل مسؤولية أن تجد أشخاصا يفهمونك وأن توصل ما تريد قوله بالشكل الصحيح.
قد يكون من الصعب على البعض أن يفهموك من أول مرة، ولكن في المقابل فكّر فيما يفعلونه من أجلك هل يستمعون إليك؟ هل يبذلون جهدهم لفهم ما تريد؟ هل يحاولون دوما مساعدتك؟ ليس من الضروري أن يفهمك الآخرون دوما، ولكن من الجيد أن تقدّر محاولتهم وبذلهم الجهد لفعل ذلك.
إذا أساء أحدهم فهمك، اسأل نفسك كيف كُنتَ ستتصرف معهم لو لم يسيؤوا فهمك؟ وتصرّف بناء على ذلك. قد يريحك ذلك ويخفف من الضغط الذي تشعر به بسبب سوء الفهم، كما أنه قد يغيّر من تصرفات الآخرين معك أيضا، حين يرونكَ تُعطيهم دائمًا حُسن النيّة وتُعطي الأولوية لحُسن الفهم.
حاول أن تفهم غيرك قبل أن تطلب من الآخرين أن يفهموك، اسأل نفسك هل تصغي لما يقولونه بالفعل؟ أم أنّك ترى شفاههم تتحرّك فحسب بينما تحاول أن تُلصِق بهم ما تتوقّعه منهم في عقلك؟ هل تتقبل آراءهم وتتعامل معها بجدية، أم أنك تقاطعهم دوما لتظهر لهم أنك مررت بمثل ما مروا به من قبل؟ هل تحرم نفسك من أن تتعلّم شيئًا جديدًا عن الآخر لأنّك تعتقد أنّكَ تعرفه جيدًا وأنّك تعرف ما سيقوله بطبيعة الحال؟
لا تتوقع من الآخرين أن يفهموك تماما مثلما تفهم نفسك؛ أنت وحدك من يستطيع ذلك. عليكَ أن تتفهّم أنّ كل شخص تقابله في حياتك إنّما مرّ بظروفٍ وسياقات مختلفة عنكَ أنتَ، فلا هُو تلقّى نفس النوع من الرعاية الذي تلقيّته أنتَ في طفولتك، ولا هو اختبر نفس التجارب الي مررتَ أنتَ بها، بل إن بعضهم من المحتمل أنّه قد تعرّض لإهمال عاطفي أو تعنيف منزلي أو غياب أحد مُقدِّمي الرعاية خلال طفولته مّما حرمه أن يطوّر أيّة مهارات تواصلية سليمة.
قبل أن تطلب من الآخرين فهمك، يجب عليك أن تدرك داخليا أنك جدير بالفهم. حسّن من تقديرك لذاتك، ابدأ بملاحظة ما هو مميز وجيد فيك، وإذا أبدى أحدهم تعليقا مادحا لك اقبله ولا تنكره ودع مشاعر عدم الارتياح تتدفّق إلى داخلك بهدوء.
تقترح الأخصائية في علم نفس الاجتماع هايدي جرانت سؤالا فعالا تستطيع سؤاله لأصدقائك المقربين، وهو من شأنه أن يوضح لك كيف يستقبل الآخرون أقوالك وأفعالك. السؤال هو
أكمل الجملة الآتية لو لم أكن أعرفك جيدا، لظننت أنك ... .
بهذه الكيفية ستستطيع أن تعرف كيف يستقبل الآخرون أقوالك وأفعالك، خصوصا أولئك الذين لم تتسنَّ لهم الفرصة ليعرفوك جيدا. ولكن من المهم ألا تشعر بالإهانة من إجابات أصدقائك، وإنما استخدمها وسيلةً لتحسين طرق تفاعلك مع الآخرين من حولك.
| https://www.aljazeera.net/sukoon/2022/11/13/%d9%84%d9%85%d8%a7%d8%b0%d8%a7-%d9%84%d8%a7-%d9%8a%d9%81%d9%87%d9%85%d9%86%d9%8a-%d8%a7%d9%84%d8%a2%d8%ae%d8%b1%d9%88%d9%86%d8%9f-%d8%b9%d9%86-%d8%a5%d8%b3%d8%a7%d8%a1%d8%a9 | 2022-11-13T11:52:10 | 2024-05-30T09:48:20 | أبعاد |
|
97 | التفكير ضد وائل حلاق.. هل الدولة المستحيلة.. مستحيلة حقا؟ | لعل من أكثر النقود شيوعا التي وُجِّهت إلى كتاب “الدولة المستحيلة” ما يقال عن تصوير حلَّاق المثالي للمجتمع والسياسة في الحضارة الإسلامية بما يخالف كونها حضارة إنسانية.. التفاصيل بهذا التقرير. | أنتَ الآن أمام الجزء الثاني من مادة هل الدولة المستحيلة.. مستحيلة حقا؟، وفي حال لم تكن قد اطّلعت على الجزء الأول من المادة الذي يسعى للتفكير مع وائل حلاق عبر الاطّلاع على مصادره التأسيسة ومباعث تساؤلاته، فإننا ندعوك لقراءتها عبر الرابط التالي، ومن ثم العودة لقراءة هذا الجزء الذي يرمي للتفكير ضد وائل حلاق.
لعل من أكثر النقود شيوعا التي وُجِّهت إلى كتاب الدولة المستحيلة ما يقال عن تصوير حلَّاق المثالي للمجتمع والسياسة في الحضارة الإسلامية بما يخالف كونها حضارة إنسانية لها ما لها وعليها ما عليها، وبما يخالف واقعها الذي نجده في مصادرها التاريخية. وربما كان هذا النقد ناتجا بالأساس عن عدم استيعاب فكرة النطاق المركزيالنموذج التي يُلِح عليها حلَّاق عبر الكتاب بوصفها الإطار النظري الأساسي الذي يعمل من خلاله على محاولة بيان ماهية الشريعة وفاعليتها الاجتماعية. وكما بيَّنا في القسم الأول فإن النطاق المركزي معنيّ أساسا بتبيان القيم الأساسية في ثقافة ما، وكيف تتمظهر في ممارسات معتنقيها، بما يجعلها مقياسا تُقاس عليه هذه الممارسات من حيث اقترابها مما تعتقد هذه الثقافة صحّته قيميا أو مفارقتها له.
والحق أن أي نقد يمكن أن يُوجَّه لحلَّاق هنا يجب أن يُوجَّه أساسا لفكرة الإطار المركزيالنموذج نفسها بوصفها إطارا نظريا تاريخيّا صالحا للاشتغال من عدمه. ويمكن تلخيص إمكان نقد النموذج عند حلَّاق في مدخل أساسي هو عدم قدرة النموذج على التأريخ لنفسه، أي التأريخ لمدى نماذجيته في التاريخ الحقيقي، بكلمات أخرى متى كان هذا النموذج نماذجيّا بالصورة التي يلفيه عليها حلَّاق، ومتى تراجع عن نماذجيته تلك، وكيف ولماذا؟
إن أحد أوجه تأثُّر حلَّاق الواضحة بجينو هي رؤية جينو الدائرية للتاريخ؛ تأثُّرا بمدرسة الفيدانتا الروحية الهندية. لقد وجد حلَّاق في هذه الرؤية الدائرية للتاريخ الإنساني أساسا يمكن أن يبني عليه نموذجا بديلا للنموذج الخطِّي الذي افترضته الحداثة أو فرضته إيمانا منها بعقيدة التقدُّم، وبديلا أيضا للنموذج الاعتباطي للتاريخ الذي أفادته ما بعد الحداثة من أصولها النيتشوية.
في عام 1931، وكان جينو قد وصل لتوه إلى مصر حيث أقام إلى آخر حياته، حصلت معركة فكرية ومساجلة على صفحات مجلة المعرفة بين جينو الذي أصبح عبد الواحد يحيى، وبين الأستاذ محمد فريد وجدي المفكر والإصلاحي الإسلامي المصري شركسي الأصل. كان موضوع هذه المعركة الروحانية الحديثة وسُبل دراستها وفهمها. في نهاية مقاله الأخير ضمن هذه المساجلة عبَّر الشيخ عبد الواحد يحيى بفصاحة عن رؤيته تلك للزمن قائلا ولسنا كما يظننا الأستاذ فريد بك وجدي نعيش في زمن غير زمننا لأن زمننا يختلف عن زمن الغربيين. فبينما يحلم هؤلاء بـ التقدُّم حتى يستيقظوا على صوت إحدى الكوارث نعرف أن العهد الذهبي كان في الحق عند ابتداء التاريخ البشري؛ إذ أُعطيت كل المعرفة للإنسان في المبدأ ثم أخذت تختفي عنه تدريجيّا بتوالي العصور وتنتقل رويدا من عالم الروح إلى عالم المادة.
هذا العصر الذهبي عند جينو قريب للغاية مما يسميه عبد الوهاب المسيري 1938-2008 اللحظة النماذجية. وتعريف المسيري للحظة النماذجية يشرح لنا بالضبط طبيعة استعمال حلَّاق لفكرة الإطار المركزيالنموذج؛ إذ يرى المسيري أن اللحظة النماذجية مفهوم يؤكد الاختلاف الجوهري بين الواقع وبين النموذج، فالنموذج لا يتحقَّق في الواقع بصورة كلية وإنما تظل هناك مسافة، لكن اللحظة النماذجية هي اللحظة التي يقترب فيها النموذج من التحقُّق الكامل في الواقع.
لقد وجد حلَّاق في تصور جينو للزمن منفذا يمكن النفاذ منه إلى حقيقة التصور الإسلامي للتاريخ، وهو تصور دائري أيضا لكنه يختلف عن تصور جينو في ارتباطه بفاعلية الإنسان في التاريخ نفسه. إن تلك الفاعلية ليست مرتبطة بالزمن نفسه؛ لأنه مجرد معطى محايد، لكن ما يمنحه المعنى هو حركة الإنسان نفسه فيه ومقصدها، ورغم أن النصوص الشرعية تؤكد دوما تناقص منسوب الخيرية والعدالة العام كلما ابتعدنا عن عصر النبوة، فإنها أيضا تحفظ للإنسان الحر حقه في الصلاح أو الفساد الاقتراب أو الابتعاد عن النموذج الذي تحقق في اللحظة النبوية والراشدة اللذين سيُحاسب عليهما يوم القيامة.
لقد أكَّد الصوفي الكبير وشيخ الأزهر الأسبق العلَّامة الشيخ عبد الحليم محمود 1910-1978 فيما كتبه عن جينو في كتابه قضية التصوف أن السبب الرئيس في تحوُّله إلى الإسلام كان رغبته في الاعتصام بنص مقدس محفوظ لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ووجد هذا في القرآن. يشبه هذا كثيرا ما رواه عبد الوهاب المسيري في سيرته عن عودته إلى الإسلام في أوائل الثمانينيات؛ لأنه وجد فيه الرؤية الكونية الوحيدة التي تحفظ للإله استقلاله عن الطبيعة والإنسان عبر عقيدة التوحيد.
يُشكِّل عنصرا الإله المنفصل عن الإنسان والطبيعة والنص المقدس المحفوظ غير المحرَّف الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه معنى دائرية التاريخ قيميّا، وبالتالي إمكانية استخراج نماذجنطاقات مركزية تُمثِّل القيم الأساسية التي ينبغي للإنسان أن يتمثَّلها ويمتثل لها خلال حركته في التاريخ. مع ذلك تبقى مشكلة النموذج النظرية الأساسية هي عدم قدرته على التأريخ لنفسه لكونه أساسا مركبا نظريا يهدف لاستجلاء القيم الأساسية في كل ثقافة إنسانية، وعلى ذلك فهو مكتفٍ بذاته ولا يُدلِّل إلا على ذاته، ولا يمكن الاستدلال عليه إلا من داخله. وبذا تكون مشكلته الأساسية هي إغفاله لتاريخ الحركة الإنسانية الواقعية في مقابل تركيزه على ما يجب أن تكون في واقعها، مُسلِّطا الضوء على ما وافقها من ممارسات في الواقع، ومتجاهلا -بدرجة أو بأخرى- ما خالفها.
لا يمكن القول إن حلَّاق لا ينتبه لتلك المعضلة، لكنه لا يوليها الأهمية المناسبة في كتاب الدولة المستحيلة، وإن أشار إليه عرضا في أكثر من موضع في كتاب الشريعة. لكن أحد أظهر دلائل عدم إيلائه تلك المسألة الأهمية الكافية هو نفس ما أسماه ديمقراطية نموذج الحكم الإسلامي تاريخيّا عبر هيمنة الشريعة بوصفها الجهاز التشريعي الأساسي. لقد هيمنت الشريعة بالفعل، لكن افتقارها عادة إلى القوة القاهرة التي امتلكها الملوك والسلاطين المسلمون أدّى إلى إشكالات سياسية ضخمة عاناها المسلمون عبر تاريخهم، وأدّت بفقهائهم وأصولييهم إلى التنظير اضطرارا لحكم التغلُّب.
ويبدو هنا -في المقابل- أن شميت قد أفاد كثيرا من علمانيته؛ إذ أدّى رفضه لنظرية تقاسم السلطة الليبرالية غير الديمقراطية، مع علمه بانعدام قدرة البرلمانات على الحكم بما هو ليس مجرد اقتراح إجراءات عامة أو إصدار أحكام قضائية بل اضطلاع بتلك الإجراءات وقدرة على تنفيذ تلك الأحكام؛ لافتقارها إلى القوة القاهرة إلى تكريسه السلطات كافة في يد صاحب السيادة. هنا تبدو نظرية تقاسم السلطة، وإن كانت غير ديمقراطية كما بيَّن شميت بالفعل، أهون الشرَّين. وتلك مشكلة لا يُقدِّم لها نموذج حلَّاق حلًّا؛ لأنه نموذج تقييمي أكثر منه تفسيري، كما بيَّنا.
يُصرِّح حلَّاق في الفصل الأول من الدولة المستحيلة بوجوب أن يضرب المسلمون صفحا عن تاريخهم الحديث والمعاصر المئتي عام الأخيرة ونماذج الحكم الحديثة التي عاشوا في ظلالها في هذه الفترة الطويلة، لتشويهها الشريعة وحصرها إياها في النطاق الخاص لأحكام الأسرة والطقوس التعبدية. ونحن إذ لا نخالف حلَّاق في النتيجة النهائية التي ذهب إليها من تشويه الشريعة خلال تلك الحقبة الطويلة وهدم بنيانها المعرفي والمؤسساتي، فإننا لا نستطيع منع نفسنا من طرح السؤال التالي ما البديل الذي يُقدِّمه حلَّاق للمسلمين لكي يتخلّوا عن الشريعة كما عرفوها وتشكّلت تصوراتهم عنها في العصر الحديث؟، والذي هو تصور مشوّه لا ريب. البديل الذي يُقدِّمه حلَّاق على الحقيقة هو مجرد رؤية تاريخية لنموذج أخلاقي قد يكون صحيحا على مستوى النظر، لكن تعتريه مشكلات ضخمة إذا ما نُظر إليه تاريخيّا.
إنه نموذج يفتقد صراحة للتاريخ. ولعل هذا أيضا هو أحد مواضع تأثُّر حلَّاق بجينو، ففي القسم الثاني من كتاب الشرق والغرب يُقدِّم جينو خطة لما يمكن تسميته بـ تصفية الحداثة عن طريق تواصل متخيَّل بين النخب الفكرية في الغرب ومثيلتها في الشرق، يهدف إلى نقل المعارف الأخلاقية الشرقية إلى الغرب؛ إصلاحا للحداثة. هذه الدعوة التي لعلنا لا نُجافي الحقيقة كثيرا إن وصفناها الآن بالساذجة، وإن أمكن تفهُّمها في سياق أنها كُتبت منذ ما يقرب من ١٠٠ عام، يُردِّد حلَّاق صداها بوضوح في نهاية كتاب الدولة المستحيلة؛ إذ يدعو إلى تفاعل خلَّاق بين المفكرين المسلمين ونظرائهم الغربيين فيما يخص ضرورة جعل الأخلاقي النطاق المركزي، ويسهموا معا في إعادة تشكيل الأخلاقيات الحديثة. وقد همَّ حلَّاق نفسه بأول خطوة في هذا التواصل بكتابه الضخم الذي ألّفه عن فيلسوف الأخلاق المغربي الدكتور طه عبد الرحمن، وصدر مؤخرا بالإنجليزية والعربية1.
ولعله يجدر بنا هنا أن نسلِّط الضوء أكثر على أخطر عيوب النموذجالإطار المركزي، وهو ما لخّصناه آنفا في القول بعدم قدرته على التأريخ لنفسه، وافتقاره إلى التاريخ بشكل عام. النموذجالإطار المركزي هو في جوهره تأويل لثقافة ما؛ تبيانا لقيمها الأساسية. وبوصفه تأويلا فإنه يتّجه أول ما يتّجه إلى النصوص المركزية المؤسسة لتلك الثقافة محل التأويل ليستخرج منها ما يعدُّه قيمها الأساسية. ثم يتّجه فيما بعد إلى واقع ممارسة أهل هذه الثقافة، فينظر فيها ليستخرج منها ما يوافق تأويله الأول. إن هذا الاتجاه يُكرهه لا محالة على التركيز على نوع الممارسات المتسق مع القيم الأساسية المستخرجة من تأويل النصوص الأساسية، مع تجاهل غيرها بدرجة كبيرة.
ولا يفلح النقد الذي وجَّهه حلَّاق إلى نطاق شميت المركزي اعتمادا على أركيولوجيا المعرفة عند فوكو في علاج هذا الإشكال بصورة تامة؛ ذلك أن أركيولوجيا فوكو ورغم توسيعها نطاق شميت نسبيا بالشكل الذي يستعملها به حلَّاق، فإنها في جوهرها مقلوب نطاق شميت المركزي؛ حيث تعتمد اعتمادا شبه كلي على الممارسات الواقعية بوصفها بنى من السلطة تُشكِّل النصوص المركزية المؤسِّسة. وبالتالي فهي صورة أخرى من جدل النص والواقع، ولعلها تصلح أكثر ما تصلح لدراسة جينالوجيا العلوم المعاصرة، بينما يشهد التاريخ أن حركة الإنسان فيه أوسع وأكثر تعقيدا من جهة دوافعها وأهدافها وتفاصيلها من أن تُحصر في نصوص وضعية مهما كانت مركزيتها وأهميتها.
مع ذلك، لا يمكن التخلي عن النموذج بوصفه إطارا نظريّا أساسيّا في العلوم الإنسانية؛ لأن الثقافة مكوّن أساسي من مكوّنات إنسانية الإنسان، بل لعلها المكوّن الأساسي لها والفاصل الحقيقي بين الإنسان وسائر المخلوقات الأخرى في الطبيعة. كما أن النموذج يكتسب أهمية خاصة حين يُدرس به حالة تاريخية كحالة الإسلام؛ لعنصرين أساسيين يتوفران في الإسلام ولا يتوفران في غيره، ونقصد بهما عقيدة التوحيد والقرآن. ولعل من نافلة القول هنا التأكيد أن حضارة الإسلام هي حضارة قائمة على النص ومن خلاله، وبَنَت كل معارفها على أساس منه. إن التوحيد الإسلامي المباين لكل العقائد الحلولية الأخرى الذي أعاد المسيري إلى الإسلام، والنص المقدس الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه الذي اعتصم به جينو فتحوَّل إلى الإسلام، هما ما يُكسبان النموذج عند حلَّاق بوصفه إطارا نظريّا أهميته الخاصة في الدراسة الإنسانية.
يجيب القرآن عن جميع الأسئلة الأساسية التي يحتاج إليها الإنسان أصله ومآله ومعنى حياته، ويمنحه الإيمان بالله المباين لكل مخلوقاته وصاحب السيادة المطلقة عليها أساسا واضحا من الحرية الأخلاقية المسؤولة لمسيرته في هذا العالم، ويكتمل النموذج بتطبيقه العملي المسجَّل في سنة الرسول -صلى الله عليه وسلم- وسيرته مع أصحابه، والمنقولة إلى جميع المسلمين الراغبين في التأسّي بها والسير على نهجها إلى نهاية العالم بالأسانيد الصحيحة المثبتة. هذه العناصر الثلاثة الأساسية المتوفرة التي تُشكِّل عماد الإسلام هي النموذج الذي أراد حلَّاق تبيان آثاره السياسية والاجتماعية تحديدا عبر المسيرة التاريخية لما أسماه الحكم الإسلامي، وليس الدولة الإسلامية. لكن من جديد نعود ونقول إن هذا التبيان مرتبط أساسا بسطوة ذلك النموذج وحضوره في حياة المسلمين، وتلك مسألة مرتبطة حتما بسعيهم لتمثُّله والعمل بمقتضاه، لا بصحة النموذج الأساسي من عدمه.
وهنا يسعنا القول اختصارا إن التاريخ يحضر دوما كنقيض للنماذج القائمة على المعرفة الوضعية، لكنه في النموذج القائم على المعرفة الربانية فهو عامل إثراء وإغناء. تقودنا تلك النقطة تحديدا إلى مقارنة ضرورية بين رؤية حلَّاق الإصلاحية التي أشرنا إليها في عجالة آنفا ورؤية مفكر إسلامي معاصر هو سيد قطب. ثمة نقطة اتفاق أساسية مضمرة بين قطب وحلَّاق وهي انقطاع الصلة بين الشريعة بوصفها النطاق المركزي الأخلاقي والواقع منذ فترة بعيدة، وأن هناك حاجة مُلِحّة إلى إعادة تأسيس تلك الصلة. ورغم أن قطب وحلَّاق يختلفان نسبيّا في تحديد أسباب حدوث تلك القطيعة؛ إذ يردّها حلَّاق -تقليديا- للحقبة الكولونيالية التي قضت على ما سبقها من ترتييات مؤسسية للشريعة وسنرى في الموضع المناسب كم أن هذه الرؤية إشكالية في ذاتها، تبدو نظرة قطب أكثر شمولا واتساعا؛ إذ يردّها لغبش التصورات الكونية لدى متأخّري المسلمين، وتقاعسهم عن القيام بواجب الدعوة إلى الله، مما حوَّل علوم الشريعة الأساسية -حسبما يرى- إلى آلة نظرية سجالية فقدت وظيفتها الواقعية بتخلّي المسلمين عن واجب الدعوة إلى الله كما فعل أسلافهم.
وربما يعود ذلك الاختلاف بين قطب وحلَّاق في تعيين أسباب حدوث تلك القطيعة إلى اختلاف همّهما المبدئي ونقطة انطلاقهما؛ فقطب ينطلق من همٍّ دعوي إصلاحي، لذلك يسعى دوما للقضاء على الأسباب الذاتية لهذا التخلُّف عن حقيقة الدين كما اعتقدها، بينما ينطلق حلَّاق من همٍّ بحثي أكاديمي لا يهتم بالحركة في الواقع بقدر ما يهتم بالاتساق النظري، وكلاهما مفيد في حدوده بالطبع. ولكن هذا يُوضِّح لماذا نجد دوما لدى حلَّاق مسحة من تقديس الأوضاع السابقة على الحقبة الكولونيالية، بينما يهاجمها قطب بلا مواربة بوصفها دركة انتهى إليها التاريخ الإسلامي.
تقودنا النقطة السابقة إلى الاتفاق الأول الذي قرّرناه بين سيد قطب ووائل حلَّاق بخصوص انقطاع الصلة بين الشريعة والواقع، وهنا نلحظ اتفاقا آخر مضمرا بينهما يتعلّق باستحالة العودة إلى أوضاع ما قبل الحداثة والكولونيالية، لكنهما يختلفان مرة أخرى في أسلوب معالجتهما لذلك الاتفاق. ويمكن ردّ اختلافهما هنا كذلك إلى اختلاف منطلقاتهما. فبينما وجد حلَّاق الأكاديمي ضالّته في التأسيس النظري للأخلاق عند الدكتور طه عبد الرحمن، وهو تأسيس نظري بلا مشروع عملي، أصرّ قطب في المقابل على أخلاق نضالية قائمة على التلقّي عن الوحي والسعي في الأرض بما يتضمّنه ذلك من أبعاد سياسية واقتصادية واجتماعية، إلخ. ومن المهم هنا الإشارة إلى أن مؤلفات قطب الأخيرة لم تحتوِ أبدا على أي تنظير يخص دولة إسلامية، بل على العكس تنفير من ذلك التوجُّه كله، وهو في هذا يوافق حلَّاق في ضرورة نقض الأدبيات السياسية الإسلاموية المعاصرة -لكنه كما بيَّنا آنفا- يجترح طريقا مختلفة تماما لعلاج الخلل فيها.
ولعلنا بهذا الاستطراد والمقارنة التي عقدناها بين قطب وحلَّاق ورؤيتهما التاريخية للفساد الذي عمَّ عالم الإسلام في العصر الحديث وإمكانات إصلاحه قد وصلنا إلى أحد أهم النقود المعاصرة التي وُجِّهت إلى عمل حلَّاق في كتابَيْ الشريعة والدولة المستحيلة، وهو كتاب سياسات تقنين الشريعة النُّخب المحلية، والسلطة الاستعمارية، وتشكُّل الدولة المسلمة لأستاذ السياسة والقانون في جامعة كامبردج عِزَّة حسين، والذي صدر عن مطبعة جامعة شيكاغو في عام 2016، وصدرت ترجمته العربية أوائل عام 20192.
ينتمي كتاب سياسات تقنين الشريعة إلى تقليد نظري نشأ في جامعة كامبردج في النصف الثاني من الستينيات في خضم الجدل حول إعادة كتابة التاريخ الهندي في الحقبة الكولونيالية عقب نهاية الحكم الإمبراطوري البريطاني للهند في أغسطسآب ١٩٤٧. ينطلق هذا التقليد من محاولة إعادة سرد تاريخ الهند الكولونيالية من منظور النخب الهندية؛ الصراع والتعاون بينها تحديدا على تمثيل الأمة الناشئة حديثا وحكمها، في مقابل السلطة الكولونيالية البريطانية. ويرفض هذا التقليد، الذي تأسَّس على يد المؤرخ البريطاني أنيل سيل، الرؤية التاريخية الكولونيالية التقليدية التي تذهب إلى أن الكولونيالية البريطانية -رغم كل شيء- جلبت إلى الهند الرأسمالية والمؤسسات التعليمية والأفكار السياسية الحديثة مثل المواطنة وحكم القانون، فهي بالتالي خيِّرة القصد والأثر.
وترى في المقابل أن القومية الهندية الحديثة لم تنبثق من هذه الأفعال الكولونيالية، بل من مركب الصراع الذي خاضته النخب التقليدية الهندية فيما بينها من جانب، وفيما بينها وبين السلطة الإمبراطورية البريطانية، والتعاون معها كذلك في سبيل تحصيل موارد السلطة والقوة من جانب آخر. وعلى ذلك فقد كان انخراط النخب الهندية في المؤسسات الكولونيالية البريطانية ليس مجرد قبول للقيم الليبرالية البريطانية، أو إذعانا من طرف واحد للقوة العسكرية البريطانية، بل لأن الانخراط في هذه المؤسسات الحديثة التي شكَّلت الدولة الهندية الحديثة، والتي تم تخيُّل القومية الهندية الحديثة على أساسها، وفَّر لها من موارد السلطات والامتيازات ما لم يكن متوفرا لها قبل الحقبة الكولونيالية، وما لم يكن ليتوفر لها لولا الكولونيالية.
من هنا، يقف هذا التقليد البحثي نظريا ليس فقط في مقابل الرؤية التاريخية الكولونيالية سالفة الذكر، ولكن أيضا في مقابل رؤية أخرى مضادة للرؤية الكولونيالية أيضا ولكنها تستلهم الإبستمولوجيا الكولونيالية نفسها وتحاول تقليدها في تخيُّل قومية هندية حديثة نشأت في مقابل السلطة الكولونيالية دون تدخُّل منها، ومثَّلت الأمة الهندية وصارعت في سبيل نيلها حريتها بواسطة زعمائها من المناضلين التاريخيين أمثال غاندي وجواهر لال نهرو وغيرهم.
لهذا تتكوّن المادة التاريخية الأساسية للكتاب من البحث في الأرشيفات الرسمية الكولونيالية والمحلية التي يظهر فيها بوضوح صوت النخب المحلية، ويظهر فيها كذلك ذلك المركب من الصراع والتعاون الذي خاضت غماره النخب المحلية والنخب الكولونيالية البريطانية على السواء في سبيل تحقيق مصالح كل طرف، من خلال صراعات سياسية وعسكرية حدثت، ومفاوضات تمت، واتفاقات أُبرمت، وطُبِّقت أو نُقضت، ومحاكمات أُجريت وأسهمت في صعود نخب معينة، وانهيار سلطة وامتيازات نخب أخرى، وتمثيلات مركبة من رموز محلية تقليدية وكولونيالية حديثة لسلطة النخب الحاكمة في الدول الجديدة عُرضت على شعوبها، ورسّخت من خلالها شرعيتها.
يُوسِّع الكتاب من استعمال ذلك التقليد النظري سالف الذكر في دراسة حالتين أخريين بخلاف الحالة الهندية التي نشأ عنها، وهما الحالتان الماليزية والمصرية. ويُوسِّعه كذلك خارج مجاله النظري الأساسي، وهو التاريخ؛ لكي يُستعمل في دراسة القانون وتاريخ تقنين الشريعة في العصر الحديث من خلال منح النخب التي قنَّنت الشريعة، خدمة لمصالحها في الهيمنة والسيطرة، صوتا تُعبِّر به عن نفسها ومصالحها. باختصار يتقصَّى هذا الكتاب بشكل مفصَّل، وعبر منهجية مقارنة، السيرورة التاريخية لما رآه حلَّاق عسفا لغويا أصاب المفاهيم الإسلامية الأساسية، وهي السيرورة التي أدٍت بـ الشريعة إلى أن تتحوَّل إلى قانون.
يمكن لقارئ كتاب الشريعة أن يلحظ بسهولة كيف يتحوَّل حلَّاق في القسم الثالث من الكتاب، وفي أجزاء كثيرة من الدولة المستحيلة إلى مُنظِّر ما بعد كولونيالي تقليدي. إنها معادلة بسيطة من الدرجة الأولى؛ لقد حطّمت الكولونيالية، ضمن ما حطّمت في المجتمعات المسلمة المبتلاة بها، البنيان المعرفي والمؤسساتي للشريعة، وبالتالي لا وجود للشريعة في العصر الحديث، وما يتبقى أمامنا والحال هذه إلا أن ندرس تاريخ البغي الكولونيالي على عالم المسلمين من منظور شبه مانوي ينقسم العالم فيه إلى فسطاطين؛ فسطاط الظالمين، وفسطاط المظلومين.
لقد كانت إحدى أهم غايات كتاب سياسات تقنين الشريعة هو وضع هذه الرؤية للتاريخ الإسلامي الحديث على طاولة النقاش، وإخضاعها لمبضع التشريح والتمحيص؛ ذلك أن المؤلفة اعتمدت على ثروتها التاريخية والوثائقية الضخمة، لكي تمنح النُّخب التي قنَّنت الشريعة صوتا، وتبيّن الأهداف التي أرادت تحقيقها، ومدى نجاحها في ذلك. كما أظهرت المؤلفة كيف خدمت عملية تقنين الشريعة ومركزتها مصالح نخب محلية بعينها اتفقت مع غايات السلطة الكولونيالية ومصالحها، وصعدت بها إلى أعلى سُلَّم السلطة والثروة، وكيف أخفتت ظهور نخب أخرى -علماء الشريعة مثلا- أو أجبرتها على تغيير نظرتها إلى نفسها ودورها.
على أن أثمن ما يُقدِّمه هذا الكتاب هو تأريخه لعملية نشوء الفصل بين المجالين العام والخاص في العالم المسلم المبتلى بالكولونيالية البريطانية من خلال المقارنة التي يعقدها بين مالايا ماليزيا الحالية والهند ومصر. وهو الأمر -أي الفصل بين المجالين العام والخاص- الذي يعدُّه طلال أسد لا غنى عنه في عملية تشكُّل الدولة الحديثة. بعبارة أخرى يُقدِّم هذا الكتاب تأريخا لسيرورة علمنة المجال القانوني الإسلامي ومآلاتها في سياق تقاسمه بين النُّخبتين الكولونيالية والمحلية، والتي أفضت إلى معضلة مركزة القانون الإسلامي، وتقسيمه إلى نطاقين؛ يختص أولهما بشؤون التجارة وجباية الضرائب والإنتاج المادي، ويقتصر الآخر على الأمور الدينية الثقافية من الشعائر وأحكام الأسرة والمواريث وخلافه.
إن جوهر ما يطرحه هذا الكتاب هو ضرورة الدراسة التاريخية الصلبة للقانون الإسلامي بوصفه منتجا تاريخيّا ظهر في ظرف تاريخي محدد هو الظرف الحديث بما اعتمل فيه من مكونات أساسية، هي الاستعمار والتحديث والدولة والرسملة والعلمنة، شريطة ألا تصدر هذه الدراسة عن مقولات سابقة بقدر ما تصدر عن قراءة متأنية في مصادره ووثائقه ودوافع فاعليه وظروفهم. وعلى هذا فالقانون الإسلامي، كما تؤكد المؤلفة، ليس الشريعة كما عُرفت تاريخيّا، بل هو منتج آخر مختلف مُؤلَّف من ظلالها المدمجة في سلطة الدولة الحديثة، ومجابهة الاستعمار، والرغبة التي سادت العالم الإسلامي كله في الحقبة محل الدراسة في النهوض والإصلاح.
لا ينبع تميُّز أطروحة هذا الكتاب من كونه دراسة مقارنة فحسب، بل من كونه لم يفصل الحالات الثلاث محل الدراسة عن بعضها ولو على مستوى الدرس، إلى درجة أنه سيكون بمقدور القارئ بسهولة تتبُّع الأفكار ومناهج الحكم التي كانت تتحرك رفقة الموظفين الاستعماريين والمفكرين الإصلاحيين المسلمين عبر المحيط الهندي طيلة القرون الثلاثة الأخيرة. فالرؤى والخبرات التي راكمها الموظفون الاستعماريون البريطانيون في الهند في القرن الثامن عشر حول ماهية الإسلام وحكم الشريعة وضرورة الفصل بين الجوانب الدينية وغير الدينية وإمكانية تمسيح الإسلام انتقلت معهم من هند القرن الثامن عشر إلى مصر القرن التاسع عشر.
يذهب حلَّاق إلى أن المسلمين المعاصرين يواجهون قدرا من عدم الانسجام بين تطلُّعاتهم الأخلاقية والثقافية، والواقع الأخلاقي للعالم المعاصر، وهو واقع لا بدَّ لهم من العيش فيه، وإن كانوا لم يصنعوه بأنفسهم. لقد كان الاحتلال الكولونيالي للدول المسلمة من قِبل القوى الأوروبية كارثة حاقت بنظام الشريعة. ويُشخِّص وائل حلَّاق هذه التوليفة التي شملت التقنين والتقييد والبقرطة في الحقبة الحديثة بوصفها كولونيالية قانونية عمَّت أرجاء العالم المسلم وأفضت إلى موت الشريعة بنيويّا. وبحسب حلَّاق وغيره، فإن الشريعة قد أرست بمؤسَّساتها وكوادرها وسياقاتها الثقافية والاجتماعية نموذجا معرفيّا كاملا. وقد مثَّل الحفاظ على حرفية القانون الإسلامي في ميدان قوانين الأسرة وبعض القضايا المتعلقة بالمواريث ومراعاة الشعائر بما يستقيم مع النصوص الأصلية بطبيعة الحال -دون بنية تحتية معرفية لتعزيز التعليم، والشرح، والسجال، والتفسير- إيذانا بموت الشريعة في الدولة الحديثة.
وقد أسهمت الحقبة الكولونيالية في إفقار القانون الإسلامي بقدر كبير دون ريب، وأدَّت إلى تجريف سلامته المعرفية، وتجريد علمائه من مسؤولياتهم ومهابتهم. في عمله الأصيل الشريعة النظرية، والممارسة، والتحولات، يُقدِّم حلَّاق تحليلا للدولة بحسبانها مجالا للسلطة وللصراعات التي أثارتها المواجهة بين نظامين مختلفين جذريّا الدولة الحديثة المستورَدة3 بواسطة الكولونيالية الأوروبية والقانون الإسلامي. ويؤكد حلَّاق أن الإنتاج الكولونيالي لـ التهجين القانوني -عناصر من الشريعة تُرجِمَت، وقُنِّنت، وجُمِّدت لأغراض كولونيالية تتعلّق بالهيمنة والاستئصال- قد صنع شَرَكا لم تستطع النُّخب المسلمة المحلية الفكاك منه ما عدُّوه قانونا مجحفا للاحتلال، كان الأداة الوحيدة، الشرعية والمتاحة، التي يمكنهم استغلالها في مماحكة محتلِّيهم. وبحسب حلَّاق، حازت القيمة الرمزية والمحورية لـ قانون الأسرة الإسلامي موقعها في الهوية الذاتية المسلمة، ليس لأنها انبنت في وعي المسلمين كحيِّز يجب عليهم إظهار نوع من الحساسية حياله؛ بل لأنها مثَّلت كذلك... آخر حصون الشريعة التي قُيِّض لها النجاة من ويلات التحديث.
لكن السبر الأعمق الذي قامت به حسين لهذه التغيُّرات في الهند ومالايا ومصر أن النُّخب المحلية لعبت أدوارا حاسمة، أكثر منها داعمة، في إعادة تعريف القانون الإسلامي خلال الحقبة الكولونيالية؛ إذ لم تكن الحداثة موجة متسقة اكتسحت العالم الإسلامي، وإنما تألّفت من تسلسل أطوار شاركت فيها النُّخب المحلية -التي كان معظمها دون ريب محاصرا بإمكانات الدولة الكولونيالية وجهازها الإداري وعنفها- في تأسيس قانون الأسرة بوصفه القانون الإسلامي، وقانونا إسلاميّا تتجلَّى فيه مأسسة الشريعة، واستخرجوا من وضعهم الجديد معاني وخطابات جديدة حول ما يمكن، وما يجب، أن يكونه القانون الإسلامي.
إن المسألة المحورية عند حلَّاق هي أن هذا التحوُّل قد دمَّر نظاما معرفيّا، وأن الشريعة لم يكن لها أن تعمل على هذا النحو في غياب دينامية حيَّة بين المؤسَّسات الإسلامية، والمحاكم، والنصوص، والقضاة، والعلماء. ودونما انتقاص من الفاعلية التي أضفاها هذا الزعم القوي سلفا على المباحث المتصلة بالشريعة والدولة، تقترح حسين أن صراعا طويل الأجل قد اكتنف نظام الشريعة المعرفي، للموازنة بين إملاءات السلطة الدنيوية والحكم اليومي من جهة، والصرامة الجزائية للعلم القانوني الإسلامي والمطالب الأخلاقية للمسلمين العاديين من جهة أخرى.
وعوضا عن قراءة عدم الانسجام الذي يُشخِّصه حلَّاق بوصفه إخمادا لنظام الشريعة، تقترح حسين سبيلا ربما يكون أكثر جدوى من الناحية التحليلية، وهو التفكير على أساس تعدُّد الأصوات، أي إن تحولات القانون الإسلامي عبر السيرورة الكولونيالية أدَّت إلى تمثيل الدولة المسلمة لنفسها من خلال عدد من الأنماط اللغوية الرمزية، وطرحها لسلطتها ومصداقيتها في قالب متعدِّد اللغات لجمهور متعدِّد المشارب.
ويمكن إيجاز النقود التي قدَّمتها حسين لرؤية حلَّاق في نقاط ثلاث
أولا الإقرار بوجود سياسات للقانون الإسلامي، وبأن الصراعات حول السلطة الشرعية والهيمنة كانت حلقة الوصل بين المؤسَّسات والوسطاء والأفكار التي شكَّلت جميعا إطار عمل القانون الإسلامي على امتداد تاريخه الماضي والحالي. وترى حسين أن ثمَّة فارقا بين هذه الرؤية للقانون الإسلامي بوصفه منتَجا للسياسة ومسرحا لها، وتلك التي تعدُّه أمرا إلهيّا ملزما، أو مخزونا يستوعب الثقافة والتقاليد الإسلامية الراسخة. إن التمييز بين النهج الإلهيِّ المفروض على المسلمين بوصفه ضابطا للسلوك القويم الشريعة، وتمظهراته في التجربة التاريخية والسياسية والاجتماعية والقانونية للمسلمين، هو أمر على قدر كبير من الأهمية. وذلك بالطبع على النقيض من نموذج حلَّاق الذي وإن كانت فائدته النظرية الكبيرة لا تُنكر فإن افتقاره الدائم للبُعد التاريخي يضعفه على الدوام.
ثانيا لا تنفصم السياسة المؤسَّسية للقانون الإسلامي المعاصر عن الظروف التاريخية التي رسمت معالمها؛ كذلك فإن من الضروري هنا -بحسب حسين- التشديد بداية على أنه لم تقم أية دولة بتطبيق شامل للقانون الإسلاميالشريعة على الإطلاق طوال حِقب التاريخ الإسلامي الممتدة، وأن العلاقة بين الشريعة والفقه من جهة والدولة من جهة أخرى تخلَّلتها -دوما- مفاوضات حول الحدِّ الفاصل بين مجال النفوذ المعلَن لمضامين الشريعة ومؤسَّساتها وكوادرها وبين علاقتها بسلطة الدولة وهيمنتها. وإبَّان الصدام مع الكولونيالية، حدثت مفاوضات بين النُّخبتين المحلية والكولونيالية، تتعلَّق بمساحات القانون ومضامينه وكيفية إنفاذه في المسائل التي تخصُّ الإسلام والمسلمين بما يعود بالفائدة على الطرفين. وفي خضمِّ عملية وضع القوانين التي تُحدِّد أُطر الحياة الإسلامية، والدين، والعلاقة مع الدولة، أسهمت هذه النُّخب في إعادة صياغة جذرية للقانون الإسلامي المتمحور حول الأسرة، والأحوال الشخصية، والهوية الإثنية، والمجال الخاص في الدولة الناشئة. لقد صِيغ القانون الإسلامي، وفُكِّك ثم أُعيدت صياغته مجدَّدا، من خلال سلسلة من السَّيْرورات السياسية، وكانت هذه السيرورات عينها قد تشكَّلت وأُعيد تشكيلها على يد المؤسَّسات القانونية والشخصيات الفاعلة والأحكام القانونية.
ثالثا على الرغم من التفاوت الجليِّ في ميزان القوة خلال الحقبة الكولونيالية، فإن النُّخب المحلية لعبت أدوارا حيوية في صياغة القانون الإسلامي. إن التغيُّر الجذري في الشريعة الإسلامية -تقنينها وقصرها على مجال القانون الشخصي والأُسَري- في الدولة المسلمة الحديثة بدأ في الدولة الكولونيالية، ومع ذلك لا يمكن عدُّه ببساطة فرضا أملاه المستعمِرون، بل هو حصيلة تفاعلات مركبة ومفاوضات تمت بين النُّخب المحلية والمسؤولين الكولونياليين. وقد أسفرت عملية التفاوض بين النُّخب المحلية والكولونيالية عن تحوُّل الشريعة الإسلامية إلى نظام مقنَّن وخاضع لسيطرة الدولة، مقصور على ميدان القانون الشخصي والأُسَري، وأضحت الدولة هي الفيصل في أمر الإسلام والهوية المسلمة، وصارت النُّخب المسلمة نخبَ الدولة.
أسلفنا القول إن غاية تلك المادة لم تكن الجواب عن سؤال استحالة الدولة الإسلامية، بل البحث في شروط صحته من عدمها. كما أسلفنا أن توقيت صدور الترجمة العربية للكتاب قد ألحق ضررا كبيرا باستقباله عربيّا؛ إذ تنمّط استقباله في نمطَيْ القبول الكامل بأطروحته أو الرفض المطلق لها. وترسَّمت حدود استقباله تبعا لخطوط الفصل الأيديولوجي التقليدية ليس بين الإسلاميين العرب بعامة والعلمانيين منهم، بل بين أشكال عدة من الطيف الأيديولوجي الإسلامي نفسه؛ فقَبِلَه مثقفو الجهاديين وأثنى عليه غالبهم بوصفه نقدا جذريّا لأطروحة الإخوان المسلمين المحدَثين فيما يتصل بالعلاقة بين الدولة والإسلام، وأوهامهم حول الدولة الحديثة الإسلامية، رغم أن مضمون الكتاب يُوجِّه النقد الجذري نفسه للتصورات اللا سياسية للجهاديين المحدَثين. ومن جهة أخرى رفضه مثقفو الإخوان المسلمين من منطلق ما تصوروا أنه سبّ لأصنامهم وآبائهم وتسفيه لأحلامهم فيما يتعلق بالمسائل نفسها.
وكان مما زاد من حِدّة استقبالهم للكتاب أن هزيمة يوليوتموز 2013 القاصمة كانت لا تزال ماثلة في الأذهان، وعائقا أمام التفكير الهادئ في أطروحة الكتاب. وعقب وفاة الدكتور محمد مرسي المأساوية تكرّر السجال نفسه؛ فقد انتقده بعض الجهاديين بوصفه طاغوتا لم يسعَ جديّا إلى تطبيق الشريعة، بينما سعى بعض الإخوان أو القريبين منهم إلى إنصافه من خلال إبراز بعض الشهادات على إسراعه بتكوين بعض اللجان غير ذات الصفة أو الاختصاص للعمل على مشروع قانوني يهدف إلى تطبيق الشريعة. وبين هذا وذاك ضاعت الأسئلة الحقيقية ولم تسترعِ اهتمام أحد فضلا عن أن تُبحث بجدية.
لم يكن هدف هذه المادة هو السعي إلى الجواب عن سؤال استحالة الدولة الإسلامية؛ ليس لمجرد أنه سؤال لا مجال له ولا محل إلا في الإطار النظري الأكاديمي فحسب، ولكن بالأساس لأن الخضوع للأسئلة النظرية الأكاديمية بوصفها أسئلة حقيقية عملية كان موضع الخلل الأساسي الذي أدّى بالاستقبال العربي للكتاب أن يكون على هذه الدرجة من السوء، بل ويجوز القول انعدام المسؤولية. لا ينبغي للأسئلة النظرية الأكاديمية أن تُحدِّد أسئلة الواقع أو تفوقها أهمية، إن أهميتها تكمن فقط في إضاءة السبل إلى التحديد الدقيق لأسئلة الواقع، وما يمكن أن تُسهم به في إيفائها أجوبتها. | https://www.aljazeera.net/culture/2020/4/5/%d8%b6%d8%af-%d8%ad%d9%84%d8%a7%d9%82 | 2020-04-05T12:09:00 | 2024-10-15T02:10:56 | أبعاد |
|
98 | هل تجتمع الصين والهند في قارب واحد ضد ترامب؟ | في أكتوبر/تشرين الأول الماضي، أعلنت الهند والصين عن اتفاق لحل أزمة النزاع الحدودي التي امتدت لعقود، فما أبعاد هذا الاتفاق، وهل يمكن أن يكون بوابة لتفاهمات أوسع في ظل قدوم إدارة أميركية جديدة؟ | رغم أن الصين والهند قد جمعتهما المشاركة في تأسيس مجموعة بريكس BRICS، عام 2009، والتي يُنظر لها منذ ذلك التاريخ بوصفها تحالفا يسعى لكسر الهيمنة الأميركية والغربية وتحقيق التعددية في بنية النظام العالمي سياسيا واقتصاديا، فإن ذلك لم يضع حدا لتاريخ طويل من العلاقات المتوترة بين البلدين اللتين يسكنهما حوالي 35 من سكان العالم.
فثمة صراع جيوسياسي محتدم يدور بين البلدين على النفوذ في جنوب آسيا، حتى بات سؤال التقارب مع الصين أو الهند يرسم أهم خطوط التنافس السياسي الداخلي في دول المنطقة، ويجعلها محل تجاذب واستقطاب بين البلدين الكبيرين ومشروعاتهما السياسية والأمنية. فضلا عن نزاع حدودي استمر منذ ستينيات القرن الماضي، وصل إلى حد التصادم العسكري بين البلدين في عدة محطات، وظل طوال هذه العقود يهدد دائما بإمكانية نشوب حرب واسعة بينهما. ولكن مؤخرا، في أكتوبرتشرين الأول الماضي، أعلن البلدان بشكل متزامن عن اتفاق لحل أزمة النزاع الحدودي.
جاء هذا الاتفاق قبل وقت قليل من دخول الرئيس الأميركي المنتخب، دونالد ترامب، للبيت الأبيض، المرتقب في 20 ينايركانون الثاني الجاري، وفي ظل تعهداته بفرض تعريفات جمركية ضخمة تصل إلى 60 على واردات السلع الصينية لبلاده منذرا بحرب تجارية طاحنة بين البلدين في عهده الجديد.
ومع هذه الحرب التجارية المنتظرة ربما يكون توجه الصين لتحسين علاقاتها مع الهند مبررا في إطار سعيها لتأمين أسواق مستقرة مفتوحة لسلعها في سنوات ترامب القادمة، لا سيما أن الصين تُعد الشريك التجاري الأول للهند، حيث بلغت قيمة التجارة الثنائية بينهما 118.4 مليار دولار عام 2023.
وإذا كان هذا هو الدافع الأساسي للصين؛ فلماذا بادرت الهند أيضا بإقرار الاتفاق في هذا التوقيت، رغم إمكانية الانتظار حتى يأتي دونالد ترامب ويضيق الخناق على الصين فتزداد التنازلات الممكنة؟ وهل يمكن أن يؤدي الاتفاق إلى ما هو أبعد من مجرد التقارب المبدئي ويصل إلى مراحل أخرى من تطوير العلاقات في المستقبل؟ وليس ثمة شك في أن إجابة تلك الأسئلة ستكون بالغة الأهمية في فهم ماذا يمكن أن تنطوي عليه السنوات القادمة من تحولات في علاقات القوى الكبرى في العالم.
شهد أغسطسآب 2023، حدثا جوهريا في مسار النزاع الحدودي بين البلدين، حيث أصدرت الصين نسختها من خريطتها القياسية في هذا العام، وقد ظهرت فيها منطقة أكساي تشين وولاية أروناتشال براديش، الغنية بالموارد الواقعة شمال شرق الهند، بضمن حدود الصين، وهو الأمر الذي احتجت عليه الهند بشدة.
ويرجع تاريخ النزاع على المنطقة إلى عام 1959، حين اقترحت الصين إقامة خط حدودي يُطلَق عليه خط السيطرة الفعلية، باعتباره آلية مؤقتة لتسوية الخلاف الحدودي بين الدولتين، لكن ومع مضي 7 عقود لم يجر ترسيم الحدود الصينية الهندية في ظل اختلاف موقف الدولتين بشأن تحديد مكانها وطولها.
حيث تسيطر الصين على 38 ألف كيلومتر مربع من منطقة أكساي تشين، التي تزعم الهند أنها جزء من إقليم لاداخ التابع لها، بينما تصر الصين أنها كانت جزءا من الإمبراطورية الصينية القديمة. كما تقول الصين إن 90 ألف كيلومتر مربع من الأراضي التي تقع حاليا في ولاية أروناتشال براديش الهندية هي جزء من التبت، لتكون تلك المنطقة بمثابة أطول حدود متنازع عليها في العالم، بحسب وصف مجموعة الأزمات الدولية.
وقد تسبب هذا النزاع الحدودي في توترات وصلت إلى حد اندلاع الحرب بين البلدين في ستينيات القرن الـ20، وخلال العقد الأخير تكررت المناوشات المسلحة في المنطقة الحدودية في أعوام 2013 و2014 و2017 و2021 و2020 و2022. كان أخطرها ما حدث في منطقة لاداخ في عام 2020، إذ أسفرت الاشتباكات عن مقتل 20 هنديا و4 صينيين، كما أدت إلى حدوث انتكاسة كبيرة في العلاقات بين الدولتين، فقيدت الهند تدفق الاستثمارات الصينية، وحظرت في بلادها أكثر من 250 تطبيقا طورته شركات صينية، ورفعت الضرائب بشكل كبير على شركات الاتصالات الصينية، وطردت الصحافيين الصينيين، وقد ردّت الصين بالمثل، وجرى تعليق الرحلات الجوية المباشرة للركاب بين البلدين.
وقد حدث هذا على الرغم من أن البلدين كانا قد اتفقا عام 1988 على التفاوض لإنهاء النزاع بالطرق السلمية وفصل هذه القضية عن العلاقات الثنائية بينهما، ولكن استمرت الدوريات التي يقوم بها كلا الجيشين فيما يرى أنها مناطق تابعة له تؤدي إلى مناوشات متكررة، كما أن صعود الصين الكبير خاصة مع مطلع القرن الـ21 قد لعب دوره في تشجيعها على ممارسة ما تعتقد أنه سيادتها بشكل أوضح في تلك المناطق.
لكن شيئا ما قد تغير بشدة في الشهور الأخيرة، لينتج عنه انفراجة وتطور ملحوظ في العلاقات السياسية بين البلدين، فجاء اتفاق أكتوبرتشرين الأول ليمنح الهند القدرة مرة أخرى على تسيير دورياتها على طول الحدود المتنازع عليها، ضمن دوريات مشتركة من البلدين، وستنسحب على إثر ذلك آلاف القوات الهندية والصينية المنتشرة في مواقع متقدمة على الحدود، ومن ثم يعود المشهد إلى ما كان عليه قبل نزاع عام 2020.
إضافة إلى هذا؛ كان الاجتماع الودي الثنائي الذي جمع بين رئيس وزراء الهند، ناريندرا مودي، والرئيس الصيني، شي جين بينغ، لأول مرة منذ 5 سنوات، أثناء انعقاد قمة البريكس في قازان بروسيا بعد يومين من الاتفاق. وقد قال مودي على حسابه على موقع إكس بعد الاجتماع إن العلاقات بين الصين والهند مهمة لشعبي البلدين ولتحقيق السلام والاستقرار الإقليمي والعالمي، وإن الثقة المتبادلة والاحترام المتبادل سيوجهان العلاقات الثنائية بين البلدين، وقد دفع هذا الاجتماع صحيفة الإيكونوميست البريطانية للتعقيب عليه بالقول إن شي جين بينغ ومودي قد أصبحا صديقين.
وإن كان واقع الأمر يفيد بأن كلمة صديقين كانت أكبر مما حدث، فإن الدولتين على الأقل قد وجدتا طريقا مبدئيا لتحسين علاقتيهما.
وسرعان ما بدأ المسؤولون الصينيون يعربون أيضا عن أمنياتهم في أن يصلح الاتفاق سريعا ما تضرر في السنوات الماضية، بحيث تُستأنف الرحلات الجوية المباشرة بين البلدين، وتُخفَّف القيود المفروضة على تأشيرات المواطنين الصينيين المسافرين للهند، وأن يُرفع الحظر المفروض على التطبيقات الصينية، وتعود العلاقات الثقافية ويعود الصحافيون الصينيون للعمل في الهند.
ومع ذلك؛ فإن هذا الاتفاق لا يُرجح أن يؤدي للتوصل إلى حل نهائي للأزمة الحدودية التي بلغت عمرا مديدا، وإنما أقصى ما يمكن أن يؤدي إليه هو سحب الصراع عدة سنوات للوراء ليعود إلى ما قبل اندلاع أزمة عام 2020.
بالنسبة للصين؛ فإن دوافع الإسراع في الاتفاق تبدو مُتفهمة تماما. حيث تمثل الصادرات الصينية المتجهة للولايات المتحدة الأميركية حوالي 15 من إجمالي الصادرات الصينية بحسب بيانات عام 2023 وفقا لـيورو نيوز، وفي ظل وعود ترامب بفرض التعريفات الجمركية فإن حصيلة هذه الصادرات مهددة تماما بالتوقف، ولذا يبدو أن الصين تهيئ لنفسها أسواقا أخرى بديلة، وفي سبيل ذلك تسعى لتهدئة صراعاتها الأقل أولوية حتى تستعد لمواجهة الحرب التجارية الأميركية المحتملة.
وفي سياق أوسع؛ فإن الاقتصاد الصيني الذي لا يزال يعاني من تداعيات أزمة فيروس كورونا بات في وضع يجعله في أمسّ الحاجة للأسواق وفرص الاستثمار الجديدة، إذ يواجه عدة مشكلات معقدة ومزمنة أبرزها تباطؤ الاقتصاد المحلي وانهيار أسعار العقارات في السنوات الأخيرة، بالإضافة لمشكلة القيود المفروضة على السلع الصينية في الغرب، بحسب شركة النشرات الاستخبارية الدولية جيوبوليتكال مونيتور.
أما من جانب الهند؛ فإن دوافعها المحتملة متنوعة ولكن يعود أغلبها إلى الاقتصاد أيضا، فالحدود المستقرة وتحييد جبهة الصين، ولو مؤقتا، سيعطي للهند الفرصة لتكثيف جهودها على مواجهة تحدياتها الاقتصادية. وبحسب مجلة فورين بوليسي الأميركية؛ فإن الهند تحتاج بشدة إلى المنتجات الصينية مثل المعادن والمكونات الصيدلانية والآلات والأجهزة الكهربائية، إذ تعد الصين أكبر مصدر للسلع الصناعية والمواد الخام للهند.
وقد ظهرت مؤشرات تفيد بأن مجتمع رجال الأعمال الهندي ومنهم على سبيل المثال تكتل الشركات الهندية متعددة الجنسيات مجموعة أداني، كان قد مارس ضغوطا هائلة على مودي لدفعه للتصالح مع الصين، وما يتبع ذلك من رفع القيود التي فُرضت بعد نزاع عام 2020 على الاستثمارات والتأشيرات، فالشركات الهندية وخاصة العاملة في القطاعات التي تعتمد على التكنولوجيا الصينية تنظر دائما للاستثمارات والشراكات الصينية باعتبارها ضرورية لتوسيع القطاع التصنيعي في الهند.
وهنا تكمن المفارقة؛ إذ إن جزءا من مجتمع الأعمال الهندي يحتاج للعلاقات الاقتصادية القوية مع الصين كي يوفر الوسائل اللازمة لتوسيع أعماله التي سوف تؤهله فيما بعد لاستغلال الحرب التجارية المتوقعة ضد الصين من جانب الولايات المتحدة الأميركية، فيحتل هو الموقع الشاغر المتوقع أن تتركه السلع الصينية بعد رفع التعريفات الجمركية على الصين، في حين تحتاج الصين للعلاقات القوية مع الهند لتوفير سوق آمن لمنتجاتها أثناء الحرب التجارية المتوقعة، في حين يبدو أنه فرصة لكلا الطرفين ولكن في الوقت نفسه محفوفة بالمخاطر.
وإلى جانب الاقتصاد؛ يبدو أيضا أن رئيس الوزراء مودي يسعى لتسويق الاتفاق سياسيا باعتباره انتصارا تاريخيا يحافظ على الحدود الوطنية ويعيد للهند ممارسة مظاهر السيادة على أراضٍ كانت قد حُرمت منها في السنوات الأخيرة، خاصة أن مودي كان يُتهم من طرف المعارضة كثيرا في السنوات الأخيرة بالتفريط في تلك الأراضي لصالح الصين.
بحسب معهد بروكينغز الأميركي، فإن الخطابات التي صدرت عن الطرفين بعد التوصل لاتفاق الحدود توضح مدى اختلاف أولويات الصين والهند وتضارب أهدافهما من التصالح والتقارب، فالشيء الوحيد الذي اتفقت عليه بياناتهما، بحسب المعهد، كان فقط تأكيد التوصل لاتفاق بشأن الحدود، أما دلالات الاتفاق وما يمكن أن يُبنى عليه في المستقبل فقد كان محل تباين بينهما.
فقد كانت الخطابات الصادرة عن الهند تؤكد على ضرورة تتويج الاتفاق باتفاق آخر نهائي بشأن الحدود واعتبار أن الالتزام بالاتفاق الجاري هو الأولوية القصوى التي يمكن أن يليها تعاون أوسع مع الصين، في المقابل ركزت الصين في خطاباتها على أن التعاون الواسع مع الهند لا يجب أن تعيقه مسألة الحدود، وأنه لا ينبغي للخلافات المحدودة أن تعرقل العلاقة الأوسع.
وثمة اختلاف آخر كبير في إبراز مدى التنسيق السياسي بين البلدين، ففي حين أشارت الهند إلى أن الزعيمين الصيني والهندي قد اتفقا في اجتماعهما على أن العلاقات المستقرة والودية بين بلديهما ستساهم في ترسيخ عالم متعدد الأقطاب وآسيا متعددة الأقطاب، تجاهلت الصين عبارة آسيا متعددة الأقطاب وذكرت فقط اتفاقهما على ترسيخ عالم متعدد الأقطاب، ويمثل هذا واحدا من المشاكل الكبيرة التي تشوب علاقة البلدين، وتسهم في تضارب المصالح على المدى البعيد في الكثير من الأحيان، حيث تُظهر الصين رغبة واضحة في أن تصبح هي وحدها القطب المهيمن في آسيا، وهو ما لا ترضاه الهند.
ويبدو أن المعطيات بالنسبة لصانع القرار الهندي تحمل الكثير من التناقضات في داخلها، فمن ناحية تتخوف الهند بشدة من الطموحات السياسية الصينية في آسيا وتزايد نفوذها في جنوب آسيا ومنطقة المحيطين الهندي والهادي بالإضافة إلى علاقة الصين شديدة المتانة بباكستان التي وصلت بحسب تعبير أحد المسؤولين الصينيين إلى وصف باكستان باعتبارها بالنسبة للصين أشبه بإسرائيل بالنسبة للولايات المتحدة الأميركية بحسب مجلة فورين أفيرز، كما أن الكثير من المحللين في الهند ينتظرون أن تتربح بلادهم من وراء الحرب التجارية التي سيشنها ترامب في حين يصعد للسلطة، لكن من ناحية أخرى يضغط مجتمع رجال الأعمال في الهند على مودي من أجل التقارب مع الصين للاستفادة من التكنولوجيا والاستثمارات الصينية.
وثمة جانب آخر لا يمكن تجاهله، وهو أن الرؤية الهندية للمستقبل مع ترامب يشوبها بعض من عدم التفاؤل، فذكريات الهند مع ترامب في المرة الأولى لم تكن خالية من الأضرار التي لحقت بالاقتصاد الهندي بسبب سياساته الاقتصادية، إذ كان سجله حافلا بالاحتكاكات التجارية مع نيودلهي بحسب تعبير مجمع تفكير لوي إنستيتيوت بسيدني.
وفي عام 2019 فرض ترامب تعريفات جمركية على الصلب والألومنيوم القادمين من الهند، وألغى المعاملة التفضيلية للهند التي استمرت لعقود بمسوغ أن الهند لم توفر إمكانية الدخول الأميركي لأسواقها بشكل منصف ومعقول، ومن ثم فالهند تنتظر ترامب بعين آملة في الاستفادة من التعريفات على الصين من جهة وعين أخرى متخوفة مما يمكن أن يفعله ترامب هذه المرة مع الهند ذاتها، والذي قد يتضمن الضغط على نيودلهي بقوة لصالح شركات التكنولوجيا الأميركية وهذا يجعلها تفكر في أن حل مشاكلها مع الصين ربما يجعلها في موقف أفضل في حال اضطرت لمواجهة سياسة اقتصادية عدوانية من ترامب.
وعلى جانب آخر، تشير العديد من التحليلات الاقتصادية إلى أن ما ستكسبه الهند من التعريفات الجمركية الضخمة المتوقع فرضها على الصين ربما ستصبح مكاسب قصيرة المدى في حال سمحت الصين بإضعاف قيمة اليوان بشكل كبير أمام الدولار، فضلا عن إمكانية أن يصل ترامب والصين إلى صفقة ما بينهما.
وما يزيد الصورة تعقيدا هو ارتفاع تكاليف المعيشة في الهند مؤخرا بصورة كبيرة، حيث إن التغيرات المناخية قد أدت إلى ارتفاع أسعار المواد الغذائية لمستويات غير مسبوقة، وهذا يزيد الضغوط على الطبقات الفقيرة، التي يُتهم مودي دائما بأنه أهملها لصالح نخبة رجال الأعمال.
في نهاية المطاف، تبدو الصين واضحة بشأن أهدافها فهي تريد تعظيم تعاونها الاقتصادي مع الهند كي تستعد لحرب ترامب التجارية المنتظرة وتريد أن تنحي الخلافات السياسية بعيدا عن عرقلة التعاون الاقتصادي مع نيودلهي، ولكن على الجانب الآخر يبدو أن المعطيات على طاولة صانع القرار في الهند متناقضة بشكل محير. ومن ثم فإن الوجهة النهائية لمحاولات التقارب بين نيودلهي وبكين ستتدخل في حسمها الكثير من العوامل التي ستتشكل خلال الأشهر القادمة، وعلى رأسها الطريقة التي سيتعامل بها الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترامب مع نيودلهي. | https://www.aljazeera.net/politics/2025/1/15/%d9%87%d9%84-%d9%8a%d8%af%d9%81%d8%b9-%d8%aa%d8%b1%d8%a7%d9%85%d8%a8-%d8%a7%d9%84%d8%b5%d9%8a%d9%86-%d9%88%d8%a7%d9%84%d9%87%d9%86%d8%af-%d8%a5%d9%84%d9%89-%d8%a7%d9%84%d8%a7%d8%aa%d9%81%d8%a7%d9%82 | 2025-01-15T11:04:51 | 2025-01-22T13:06:22 | أبعاد |
|
99 | ماذا تعرف عن السيبراني المرتزق الذراع القذر للشركات والدول؟ | مصطلح “المرتزقة السيبرانيين” يشير إلى مجموعة متنوعة من الشركات التي تعمل بمجال الأمن الإلكتروني وتطور وتبيع أجهزة ومعدات وخدمات إلكترونية لأغراض اختراق أجهزة الضحايا. | نحن الآن في عام 2013، يجلس الحارس الخاص كارلو باسيليو على مقعده في شقته الفاخرة بهوليوود، مفكرا بعمق تحت ضغوط العمل المتزايدة، لكنها ليست ضغوط عمل كتلك التي نذكرها في سيرتنا الذاتية بالطبع، لأن رئيسه، رائد الأعمال رايان بلير، يطالبه بالوصول إلى ملفات ومواد تضر بسمعة شركة منافسة لشركتهم، وسط سيل من القضايا والمحاكم بينهما.
باسيليو لم يصل إلى أي شيء. لذا، قرر اللجوء إلى صديق قديم، ناثان موسر، كان يعرفه منذ أيام الحرب في أفغانستان مع شركة الجنود المرتزقة الأميركية الشهيرة بلاكووتر Blackwater، والذي يعمل محققا خاصا في وادي السيليكون. وصل موسر إلى شقة باسيليو بعدها بأيام ومعه حقيبة من القماش مليئة بمعدات المراقبة.
عرض موسر على باسيليو عدة أجهزة إلكترونية، بما فيها أجهزة تنصت إسرائيلية الصنع يمكن إخفاؤها في السقف أو خلف أجهزة التلفزيون. وفي أثناء هذا العرض برز اسم إحدى الخدمات الجديدة، أخبره موسر أنه يعرف مخترقا هاكر هنديا يمكنه اختراق البريد الإلكتروني لمنافسيه، وبهذا يمكنه سرقة ما يريد من معلومات. هنا انتبه باسيليو جيدا للكلام، لأنه لم يكن على علم بهذا النوع من أعمال التجسس.
حصل موسر على الوظيفة بمبلغ قدره 10 آلاف دولار شهريا، وانتقل للعمل في شركة رائد الأعمال رايان بلير، وهي شركة فيزالوس ViSalus، التي كانت قد رفعت سلسلة قضايا ضد مجموعة من البائعين ممن انتقلوا للعمل مع الشركة المنافسة أوشن أفينو Ocean Avenue.
وبحلول فبرايرشباط عام 2013، اخترق الشاب الهندي خبير الأمن الإلكتروني، سوميت جوبتا، حسابات البريد الإلكتروني للمديرين التنفيذيين لشركة أوشن أفينو، وأرسل لقطات شاشة وكلمات مرور إلى أصدقائه في شركة فيزالوس. عند اكتشاف عملية التجسس، رفعت أوشن أفينو دعوى قضائية فيدرالية ضد منافستها فيزالوس بتهمة الابتزاز والقرصنة، ثم قررت الشركتان تسوية الدعوى بشروط لم يُعلن عنها.
لكن تلك التسوية لم تنهِ القصة، وبعدما وصل الأمر إلى مكتب التحقيقات الفيدرالي، وفي فبرايرشباط عام 2015، أُلقى القبض على باسيليو وموسر، واعترفا في النهاية بارتكاب الجرائم الإلكترونية الخاصة باختراق شركة أوشن أفينو. انتهت هنا بالطبع قصة الصديقين، لكن بالنسبة للشاب الهندي جوبتا تلك كانت البداية فحسب
بعد أسابيع قليلة من عملية الاختراق التي نفذها لصالح شركة فيزالوس، وتحديدا في مايوأيار عام 2013، سجل سوميت جوبتا شركة جديدة باسم بيلتروكس BellTroX، وبدأ في تكوين فريق من المرتزقة السيبرانيين لينفذ عمليات اختراق مشابهة لصالح محققين وشركات ورجال أعمال آخرين.
تلك القصة كانت نتيجة تحقيق استقصائي أجرته وكالة رويترز العام الماضي، أشارت فيه إلى 35 قضية قانونية منذ عام 2013 حاول فيها مخترقون هنود الحصول على وثائق من شركات أو أشخاص في قضايا داخل المحاكم، عبر سرقة كلمات المرور لحسابات البريد الإلكتروني. هذا النوع من الاختراقات منتشر حاليا بصورة أكبر، وهو ما تنفذه مجموعات تُعرف بالمرتزقة السيبرانيين.
أما الحال اليوم فيبدو أنه يزداد تعقيدا وتشابكا مع تطور تقنيات التجسس والاختراق، وما جرى في لبنان مؤخرا من تفجير أجهزة النداء البيجر كانت مؤشرا واضحا على مخاطر الأجهزة التقنية. ورغم عدم ترجيح عامل اختراق الأجهزة سيبرانيا، إلا أنه هذه المخاوف أعادت طرح المخاطر السيبرانية إلى السطح، وعن هشاشة البنى التقنية مع إمكانية اختراقها وتوظيفها كأدوات تخريب وتدمير.
مصطلح المرتزقة السيبرانيين يشير إلى مجموعة متنوعة من الشركات التي تعمل بمجال الأمن الإلكتروني وتطور وتبيع أجهزة ومعدات وخدمات إلكترونية لأغراض اختراق أجهزة الضحايا. يتكون عملاء تلك الشركات غالبا من الحكومات والأجهزة الأمنية أو بعض الشركات التي ترغب في الحصول على ورقة ضغط ضد شركة منافسة كما رأينا في القصة السابقة.
خلال السنوات الأخيرة، انفجر سوق المرتزقة السيبرانيين، حتى إن بعض التقديرات تشير إلى وصول قيمته أكثر من 12 مليار دولار عالميا. هذا النمو كان مدفوعا، في جزء كبير منه، بسبب الحكومات التي تسعى إلى الوصول بسهولة إلى الأدوات والخدمات المتطورة لعدد من أغراض التجسس الإلكتروني فيما يشبه ميدان حرب سيبرانية جديد، والأهداف المعلنة هي محاربة الإرهاب والعصابات الإجرامية الكبيرة.
مثلا أشارت مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي إلى 74 حكومة على الأقل تعاقدت مع هذه الشركات، بين أعوام 2011-2023، لتحصل على برمجيات التجسس وتقنيات التحقيقات الجنائية الرقمية.
دولة الاحتلال الإسرائيلي هي أكبر مصدر لهذا النوع من الشركات والبرمجيات الخاصة بالتجسس، إذ اشترت 56 حكومة، من أصل 74 حكومة، تلك البرمجيات والتقنيات الرقمية من شركات مقرها إسرائيل أو على صلة بها، مثل الشركة التي اشتهرت منذ أعوام قليلة إن إس أو غروب NSO Group، التي طورت برمجية التجسس الشهيرة بيغاسوس Pegasus.
تلجأ الأنظمة والحكومات الاستبدادية لاستخدام المرتزقة السيبرانيين غالبا لاستهداف الصحفيين ونشطاء حقوق الإنسان والمعارضين السياسيين للحكومة. كما كشفت ميتا، في تحقيق نشرته عام 2021، أن مجموعات المرتزقة السيبرانيين استخدموا منصات فيسبوك وإنستغرام لاستهداف نحو 50 ألف شخص في أكثر من 100 دولة حول العالم.
تركز مجموعات المرتزقة السيبرانيين على تقديم خدمة، أو ربما خدمتين، للعملاء فيما يخص عمليات التجسس الإلكتروني، لكن هناك بعض المجموعات التي ظهرت مؤخرا وطورت من نموذج عمل هذا المجال أكثر، ومن أشهرها كانت مجموعة أطلس للاستخبارات Atlas Intelligence Group.
اشتهرت مجموعة أطلس خلال العام الماضي، وكانت تعلن عن خدماتها على العديد من قنوات تطبيق تليغرام الشهيرة في هذا السوق، بجانب قنواتها الخاصة على التطبيق. استهدفت هجمات المجموعة دولا مختلفة من العالم، مثل الولايات المتحدة وباكستان ودولة الاحتلال الإسرائيلي وكولومبيا وغيرها.
تشير شركة الأمن الإلكتروني سايبرنت Cyberint إلى أن ما يجعل مجموعة أطلس فريدة من نوعها، بالمقارنة بالمجموعات الأخرى في هذا المجال، هو تجنيدها للمرتزقة السيبرانيين لتنفيذ مهام محددة جزءا من حملات هجومية أكبر لا يعرفها سوى المسؤولين الكبار داخل المجموعة.
في معظم الحالات، غالبا ما تقوم المجموعات بتجنيد أشخاص يتمتعون بإمكانيات محددة وسيضطرون لإعادة التعامل معهم، وهنا يشارك الجميع في حملة الهجوم السيبراني، بمعنى أن الجميع يعرف ما الذي يحدث في الهجوم بالتحديد. لكن في حالة مجموعة أطلس، يبدو أن المسؤولين وقائد المجموعة فقط هم مَن يعرفون تحديدا تفاصيل حملة الهجوم كاملة، ولهذا يلجأون لاستئجار مرتزقة لتنفيذ مهام مختلفة، في أثناء مراحل الحملة، عبر قناتهم على تطبيق تلغرام.
على سبيل المثال، تعرض المجموعة فرصة تنفيذ مهمة واحدة كمهام الهندسة الاجتماعية واختراق البريد الإلكتروني وغيرها، كما يبدو أنهم يجندون مجموعة مختلفة من المرتزقة لكل حملة هجوم. هذا التكنيك يمنحهم مزيدا من السرية لعملياتهم وهجماتهم الإلكترونية.
التهديدات والهجمات الإلكترونية تتطور بوتيرة أسرع من أي وقت مضى، إذ لم تعد الجرائم الإلكترونية محصورة في نطاق ذلك الهاكر المنفرد المتخفي في مكان غامض ما، لكنها تحولت إلى جريمة منظمة.
تقدم الشركة عدّة خدمات في هذا المجال، مثل هجمات الحرمان من الخدمة الموزعة DDOS، وهي من أشهر الهجمات الإلكترونية عموما، يقوم فيها المهاجم بإغراق خادم إحدى الشركات بطلبات المرور لمنع المستخدمين من الوصول إلى الخدمات والمواقع المتصلة بهذا الخادم.
خدمة أخرى شائعة في هذا المجال هي عمليات تسريب البيانات، ويبدو أن مجموعة أطلس لا تركز على مجال أو منطقة واحدة بعينها، بل تستهدف أي شيء قد يملك قيمة للمشترين المحتملين لهذه البيانات. مثلا، نشرت المجموعة قواعد بيانات مسربة للبيع بداية من سعر 15 يورو، وهي قواعد بيانات من مختلف أنحاء العالم، ومن مجالات مختلفة مثل التعليم والتمويل والجهات الحكومية والتصنيع والتكنولوجيا.
وإذا نظرنا إلى الصورة الأكبر، فسنجد أن التهديدات والهجمات الإلكترونية تتطور بوتيرة أسرع من أي وقت مضى، إذ لم تعد الجرائم الإلكترونية محصورة في نطاق ذلك الهاكر المنفرد المتخفي في مكان غامض ما، لكنها تحولت إلى جريمة منظمة، لا تستهدف فقط الأشخاص العاديين، لكن أهدافها أكبر بكثير.
يُعد اقتصاد الجريمة الإلكترونية اليوم من أكبر الاقتصادات نموا في العالم، ويتوقع تقرير لشركة سايبر سيكيورتي فينشرز Cybersecurity Ventures أن تتضاعف تكاليف أضرار الجرائم الإلكترونية العالمية بنسبة 15 سنويا على مدار السنوات القليلة المقبلة، لتصل إلى نحو 10.5 تريليونات دولار سنويا بحلول عام 2025، بعد أن وصلت إلى 3 تريليونات دولار في عام 2015.
بهذا أصبحت الجريمة الإلكترونية مربحة للغاية لمجموعات الاختراق والهاكرز عالميا، وعليهم دائما البحث عن أساليب جديدة للوصول إلى هذه الأموال الضخمة، ولهذا تتطور أساليب المرتزقة السيبرانيين باستمرار.
في غضون ذلك، تتجه بعض الدول حاليا أكثر فأكثر للاعتماد على مجموعات المرتزقة السيبرانيين لتحقيق أهدافها، حتى أصغر البلدان يمكنها شراء خدمات التجسس الرقمي، مما يمكنها من إجراء عمليات وهجمات معقدة، مثل التنصت الإلكتروني، التي كانت في يوم من الأيام حكرا على القوى الكبرى مثل الولايات المتحدة وروسيا.
كما يمكن للشركات التي ترغب في معرفة أسرار المنافسين، أو تهديدهم والاستيلاء على معلومات حساسة لاستخدامها ضدهم في المحاكم، أن تطلب أيضا تلك الخدمات الاستخباراتية مقابل دفع الثمن، كأنهم يدخلون إلى متجر يعرض أجهزة تجسس مخصصة من وكالة الأمن القومي الأميركي أو الموساد الإسرائيلي، وغيرهما من أجهزة الاستخبارات العالمية. | https://www.aljazeera.net/politics/2024/9/19/%d8%a7%d8%af%d9%81%d8%b9-%d8%a7%d9%84%d9%85%d8%a7%d9%84-%d9%84%d8%aa%d8%ae%d8%aa%d8%b1%d9%82-%d8%ae%d8%b5%d9%85%d9%83-%d9%85%d9%86-%d9%87%d9%85-%d8%a7%d9%84%d9%85%d8%b1%d8%aa%d8%b2%d9%82%d8%a9 | 2024-09-19T17:51:49 | 2024-10-15T00:16:52 | أبعاد |
|
100 | الصقر الليبرالي.. قصة أنتوني بلينكن الذي يضع إسرائيل أولا | يبدو بلينكن في هذه الأيام موظفا مؤدبا ولطيفا بتعبير صحيفة “بوليتيكو” الأميركية، لا يريد أن يُغضِب أصدقاءه، ولا يبدو واعيا بتغير العالم من حوله وموقع الولايات المتحدة الجديد منه. | قبل أيام، خرج وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن ليبدي تفاؤلا بشأن التقدم في المفاوضات بين إسرائيل وحركة المقاومة الإسلامية حماس. هذه المرة كان التفاؤل الأميركي مستندا على المقترح الذي قدمته إدارة بايدن الأسبوع الماضي لسد الفجوات، ومن ثم موافقة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو على ذلك المقترح الذي يشمل استمرار بقاء جيش الاحتلال في معبر رفح ومحور نتساريم، رغم معارضة مصر وحماس معا.
فبعد أشهر من التصريحات حول الضغط الأميركي على نتنياهو لعقد صفقة، جاء مقترح الإدارة الأميركية ليوضح موقف الوسيط، فإثر هذا المقترح نقلت صحيفة تايمز أوف إسرائيل عن مسؤولين عربيين أن المقترح عزز مواقف نتنياهو وأوصل المفاوضات إلى طريق مسدود.
أما صحيفة يديعوت أحرونوت فقالت إن بلينكن ارتكب خطأ كبيرا عندما أعلن عن قبول نتنياهو بالمقترح الأميركي ونقل الكرة إلى ملعب حماس، إذ حرص بلينكن على إظهار تفاؤله لاعتبارات سياسية تخص الحزب الديمقراطي... وحكم على الصفقة بالإعدام.
يأتي هذا الموقف ليُعبِر عن الوسيط الأميركي الذي يمثِله بلينكن بعد ما يزيد على 10 أشهر من حرب الإبادة، وليؤكد موقفه الأول حين سارع بعد أحداث السابع من أكتوبرتشرين الأول لزيارة إسرائيل، للقول إنه لم يأتِ بصفته وزيرا لخارجية الولايات المتحدة، بل بصفته يهوديا فرَ جده من القتل. لكن ما الذي يجعل بلينكن يُبدي كل هذا الدعم غير المشروط لإسرائيل؟ وكيف يمكن أن نفهم مواقف وزير الخارجية الأميركي؟ وهل يمكن اعتباره وسيطا حقا؟
لم يكن العالم قد تخطى تماما آثار وباء كورونا كوفيد-19 عندما قررت جامعة جورجتاون الأميركية في العاصمة واشنطن أن تُقيم احتفالها بالخريجين بمشاركة شخصية، وبلا تباعد، وبحضور إحدى أهم الشخصيات السياسية الأميركية، وزير الخارجية أنتوني بلينكن.
وفي 21 مايوأيار 2022، وبينما كان خريجو الجامعة المرموقة يتسلمون شهاداتهم ويسلمون على بلينكن، ظهر عدد من الطالبات والطلاب يرتدون الكوفيات الفلسطينية، ويحملون صور الصحفية شيرين أبو عاقلة، التي كانت قوات الاحتلال الإسرائيلي قد قتلتها قبل ذلك بـ10 أيام أثناء تغطيتها لاقتحام مخيم جنين. ووسط هؤلاء، مرت خريجة بملامح عربية تلوح بالعلم الفلسطيني في هدوء، لتتسلم شهادة تخرجها، وبينما كان بلينكن يمد يده ليصافحها مهنئا، أشاحت بوجهها عنه، وتمتمت بكلمات بدت غاضبة وهي تهز رأسها يمنة ويسرة، سحب بلينكن يده سريعا في إحراج ظاهر لم تخفف منه ابتسامته التي لم تفارق وجهه، قبل أن يعود الحفل إلى مجراه، ويعود بلينكن إلى مكتبه في مقر وزارة الخارجية.
لا شك أن بلينكن، الذي كان قد أكمل عامه الـ60 قبل شهر واحد، فكر لاحقا فيما حدث، فقد انتشر مقطع الفيديو الذي تتجاهله فيه الطالبة انتشار النار في الهشيم. لكن الأرجح أنه لم ير فيما حدث سوى رد فعل غاضب سيخفت مع الوقت، ولعله ابتسم في قرارة نفسه لحفاظه على رباطة جأشه المعهودة التي سمحت له بأن تمر اللحظة سريعا وبأقل خسائر ممكنة.
لكن ما لم يعرفه بلينكن أن الطالبة لم تكن سوى نوران الحمدان، الفلسطينية الأميركية، التي درست العلوم السياسية والاقتصاد في أحد أفضل برامج الدراسات الدولية في العالم، قبل أن تنخرط في دراسة الماجستير في الدراسات العربية.
كانت نوران تحمل صورة أبو عاقلة وقد كُتب عليها بالإنجليزية مقاومة حتى العودة والتحرير، وقالت لاحقا إنها لم تخبر بلينكن غير أنها تطالب بتحقيق مستقل في استشهاد شيرين أبو عاقلة، وهي المواطنة الأميركية كذلك، وأن على الولايات المتحدة أن توقف كل الدعم لإسرائيل. لم تكن نوران تتحدث بدافع لحظة غضب عابرة كما أمل بلينكن، فقبل أشهر قليلة من حفل التخرج، كانت نوران تتحدث في محاضرة من تنظيم النادي الطلابي للعدالة لفلسطين، وفي نهاية المحاضرة قالت نوران كلمة دفعت الجميع للتصفيق بحرارة وأمل إنني أعلم يقينا أننا سنشهد تحرير فلسطين في حياتنا، وسيكون ذلك قريبا.
لم يكن تعامل بلينكن مع الموقف الذي تعرض له في جامعة جورجتاون استثناء، فمسيرته الدبلوماسية الطويلة تشهد بـ لطفه، لكنها أيضا تشهد بتأخره كثيرا في تقييم الأمور على حقيقتها، فتجاهله لمقتل صحفية تحمل جنسية بلاده لأن القاتل إسرائيلي، كان لا بد أن يؤدي إلى ما هو أفدح كثيرا. ولهذا نرى أن أزمة بلينكن الكبرى لا تكمن في صياغة سياسات لطيفة، لا تُغضب أصدقاء الولايات المتحدة المارقين، بل في اضطراره التعامل مع تداعيات سياساته اللطيفة تلك، التي عادة ما تقوده إلى ترك الولايات المتحدة في وضع إستراتيجي وتكتيكي أسوأ كثيرا مما وجدها عليه.
والحقيقة أن صعود أنتوني بلينكن على رأس الدبلوماسية الأميركية لم يكن مفاجئا، فقد أتى الرجل من عائلة يهودية عريقة في المجال. فقد كان عمه سفيرا للولايات المتحدة في بلجيكا، في الوقت الذي كان فيه أبوه سفيرا في المجر، كما أن زوج أمه لاحقا عمل مستشارا للرئيس جون كينيدي، وخدم كذلك مستشارا مع عدد من رؤساء فرنسا. بلينكن يتحدث فرنسية لا يعيبها إلا لكنة أميركية بسيطة يصعب ملاحظتها، فبعد طلاق والديه، انتقل بلينكن مع أمه وزوج أمه، صامويل بيسار، المحامي الأميركي البولندي الذي نجا من المحرقة النازية لليهود، إلى فرنسا ليدرس في بعض المدارس الثانوية المرموقة في باريس.
نشأة بلينكن جعلته معروفا بهواه الأوروبي، فلن تخطئ توجهاته وانحيازاته في أي قضية كبرى، من التغير المناخي إلى برنامج إيران النووي مرورا بالحرب الروسية الأوكرانية، فدوما يُصرح الرجل بأولوية التنسيق مع حلفاء الولايات المتحدة الأوروبيين.
عاد بلينكن إلى الولايات المتحدة في منتصف الثمانينيات ليدرس في جامعة هارفارد، قبل أن يدرس القانون في جامعة كولومبيا، ولينتقل لاحقا للسياسة، كما عمل في حملات انتخابية رئاسية في الثمانينيات، وبدأت علاقته بوزارة الخارجية مساعدا فيما كان يُعرف بـمكتب الشؤون الأوروبية والكندية، وانضم لاحقا إلى إدارة بيل كلينتون حيث عمل مساعدا ومستشارا في مجلس الأمن القومي حتى بداية عام 2001 وتولي جورج بوش الابن رئاسة الولايات المتحدة.
لفترة محدودة، انضم بلينكن بصفته باحثا إلى مركز الدراسات الإستراتيجية والدولية سي إس آي إس، وفي 2002، انضم بلينكن إلى مجلس الشيوخ بصفته مديرا لموظفي الحزب الديمقراطي في لجنة العلاقات الخارجية التابعة للمجلس، التي كان يترأسها السيناتور جو بايدن.
السياسة بالنسبة لبلينكن ليست مشروع نجاح شخصي فقط، بل هي مشروع عائلي أيضا. في الثاني من مارسآذار عام 2002، وقف أنتوني بلينكن في حفل زفافه أمام حشد من الحضور وقال رافعا كأسه هذا نخب 40 مليونا من الأميركيين الذين صوتوا لبيل كلينتون في الانتخابات الرئاسية، فمِن غيرهم لم يكن لهذا الزواج أن يتم.
قبل ذلك بـ7 سنوات، كان بلينكن قد التقى زوجته المستقبلية إيفان ريان في البيت الأبيض، فقد كان يكتب خطابات مجلس الأمن القومي، في حين كانت ريان تنظم جدول مواعيد السيدة الأولى حينها، هيلاري كلينتون.
عندما تزوجا، قرر بلينكن وريان أن يجعلا زواجهما متعدد الخلفيات أيضا، فقد شارك في عقد الزواج حاخام يهودي من طرف بلينكن، وقس كاثوليكي من طرف ريان. أتت ريان من خلفية سياسية إلى حد ما، فقد عمل جدها 10 سنوات رئيسا لجهاز الخدمة السرية المكلف بحماية الرئيس الأميركي ونائب الرئيس وأسرتيهما، وبعض الشخصيات مثل مرشحي الرئاسة والرؤساء السابقين، وكبار الشخصيات الأجنبية التي تزور الولايات المتحدة. تعرض الرئيس الأسبق جون كينيدي للاغتيال خلال فترة تولي ريان الجد لمنصبه في جهاز الخدمة السرية.
ومنذ 2002، لم يفارق بلينكن بايدن تقريبا، فقد صحبه في لجنة العلاقات الخارجية حتى عام 2008، وعندما انتُخب بايدن على بطاقة باراك أوباما نائبا للرئيس، لم ينتظر طويلا إلى أن انتقل إلى البيت الأبيض مستشارا للأمن القومي لنائب الرئيس. وفي الفترة الرئاسية الثانية لأوباما بعد إعادة انتخابه، أصبح بلينكن، حسب سيرته الذاتية الرسمية التي وفرتها وزارة الخارجية الأميركية، مساعدا لوزير الخارجية، ونائبا لمستشار الأمن القومي في إدارة أوباما. لذلك، عندما اختاره بايدن مرشحا لوزارة الخارجية الأميركية بعد 4 سنوات من السياسات الخارجية المضطربة لدونالد ترامب، حصل بلينكن سريعا على ثقة مجلس الشيوخ بأغلبية 78 صوتا مقابل 22 في المجلس ذي الغالبية الجمهورية.
لكن لماذا يصوت الجمهوريون لصالح أنتوني بلينكن بأغلبية مريحة بعد معركة انتخابية شديدة الشراسة بين ترامب وبايدن؟ لعل الأمر يرتبط بوجود بلينكن السابق في مجلس الشيوخ بصفته مستشارا للجنة العلاقات الخارجية، فهو وجه مألوف، لكن الإجابة الأشد وقعا تكمن في مواقف بلينكن السابقة وشخصيته.
إذا جاز لنا تصنيف السياسيين الأميركيين إلى صقور وحمائم، وإلى محافظين وليبراليين، فعادة ما يُنظر إلى رموز الحزب الجمهوري باعتبارهم من الصقور المحافظين، في حين يقدم الديمقراطيون أنفسهم باعتبارهم من الحمائم الليبراليين. أما أنتوني بلينكن، فيمكن اعتباره صقرا ليبراليا. يعارض بلينكن الجمهوريين، لكن هل هذا يعني أنه يعارض كل سياسات الحزب الجمهوري؟ في الحقيقة، يبدو بلينكن متفقا مع الصقور الجمهوريين ودعاة الحرب، ليس في بعض السياسات فحسب، بل كلها غالبا.
فمثله في ذلك مثل بايدن، كان بلينكن من أشد المؤيدين للحرب الأميركية على العراق، وكذلك كل الحروب الأميركية والتدخلات العسكرية، ومعظمها في المنطقة العربية، خلال العقدين الماضيين. فقد دعم التدخل العسكري الأميركي في ليبيا وسوريا، وكذلك لا يختلف موقفه تجاه الصين أو روسيا عن مواقف معظم الجمهوريين، من حيث السعي لإثبات الهيمنة الأميركية بلا كثير نظر للقوى الصاعدة في العالم.
وبحسب بعض المعلقين، فإن هذا الموقف يأتي، جزئيا، بسبب أن بلينكن من ذلك الجيل من الدبلوماسيين والسياسيين الأميركيين الذين لم يضطروا للتعامل مع الاتحاد السوفياتي، فمنذ تخرجه في جامعة هارفارد عام 1988، لم يعرف بلينكن عن العالم إلا أنه أحادي القطب، وهذا ما لا يمكن التعامل معه بوصفه حقيقة واقعة في الوقت الحالي ولسنوات مضت.
أما العلاقة مع إسرائيل، فتلخصها كلمات بلينكن في زيارته الأولى لإسرائيل بعد بدء حرب الإبادة على غزة في أعقاب هجوم طوفان الأقصى في السابع من أكتوبرتشرين الأول 2023، حين قال إنني لا أقف أمامكم بصفتي وزير خارجية أميركا فحسب، بل بصفتي يهوديا، وأكمل الدبلوماسي اللطيف قائلا لقد هرب جدي من اضطهاد اليهود في روسيا، ونجا زوج أمي من محارق النازية، وتابع ملتفتا إلى نتنياهو إنني أعرف الألم الذي تسببت فيه مذبحة حماس شخصيا، لا ليهود إسرائيل فحسب، بل لليهود في العالم كله، وهو الأمر الذي علقت عليه صحيفة جيروزاليم بوست بالقول إن بلينكن يرى تدمير المجتمعات اليهودية في جنوب إسرائيل مستوطنات غلاف غزة بالعين نفسها التي يرى بها الهولوكوست.
ربما لم يكن بإمكان أي صقر جمهوري، ولا حتى دونالد ترامب، أن يقدم دعما لنتنياهو مثل ذلك الذي قدمه بلينكن وإدارة بايدن، ولعل ذلك أهم الأسباب التي رآها الجمهوريون مسبقا وشجعتهم على منحه الثقة في مجلس الشيوخ بمجرد اقتراح اسمه لوزارة الخارجية.
لم يكن 25 مايوأيار 2021 يوما جيدا للدبلوماسية الأميركية في جنوب شرق آسيا، فقد اجتمع وزراء خارجية رابطة دول جنوب شرق آسيا آسيان في أول اجتماع افتراضي لهم مع وزير الخارجية الأميركي الجديد أنتوني بلينكن. وبعد انتظار دام نحو ساعة، علموا أن خللا فنيا من شأنه أن يمنع بلينكن من المشاركة في المكالمة، التي كان من المقرر أن ينضم إليها من طائرته أثناء توجهه إلى الشرق الأوسط.
لكن بعد بضعة أسابيع، طارت المجموعة نفسها من وزراء رابطة دول جنوب شرق آسيا إلى الصين ليستمتعوا بمعاملة خاصة للغاية بعد أن فُرشت لهم السجادة الحمراء، ونُظم اجتماع شخصي مثمر وخالٍ من الفوضى والمشكلات التقنية مع وزير الخارجية الصيني وانغ يي، ولم يكن صعبا على أي مراقب رصد الفرق الكبير بين الحادثتين.
فرغم أن جنوب شرق آسيا يُعد إحدى أهم مناطق الاشتباك بين الولايات المتحدة والصين على الساحة العالمية، لم يظهر أمام الدول الآسيوية إلا التردد الأميركي المستمر الذي أبرزه الوضوح الصيني والحسم في القضايا، والاستقبال الحافل الذي شهده وزراء تلك الدول في بكين.
وهنا تبرز إحدى أكبر مشكلات بلينكن، فالمواقف الأميركية الضعيفة على الساحة الدولية ليست بسبب انعدام المعرفة أو الخبرة لدى رأس الدبلوماسية الأميركية، بل لأنه موظف ملتزم من الدرجة الأولى. فقبل عام واحد من تعيينه وزيرا للخارجية، كتب بلينكن مقالا في معهد بروكنغز للسياسات يعارض فيه سياسة الرئيس السابق دونالد ترامب التي يقول فيها أميركا أولا.
في مقاله عدد بلينكن 4 أركان تقوم عليها السياسة الأميركية المثالية، لكن المتابع للسياسة الخارجية الأميركية مع بلينكن يدرك البون الشاسع بين ما يعتبره سياسة مثالية وبين ما يسير عليه في قيادته لوزارة الخارجية.
فمثلا، يقول بلينكن إن أول أعمدة السياسة الخارجية المسؤولة هي أن تكون الدبلوماسية وقائية لمنع الأزمات من الحدوث أو تحجيمها قبل خروجها عن السيطرة، ويؤكد أن الدبلوماسية وحدها لا تكفي، فيجب أن يصحبها الردع العسكري. ونظرة سريعة على الدبلوماسية الأميركية خلال الأعوام الأخيرة، في مواقف مثل اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية، وحرب الإبادة الإسرائيلية على غزة، تجعلنا ندرك أن الولايات المتحدة قد فشلت في الوقاية من أي أزمة كبرى، بل وأخفقت تماما في منع تدهور الأوضاع، وأعطت الضوء الأخضر لاستمرار الجرائم الإسرائيلية التي تجاوزت حدود فلسطين المحتلة إلى لبنان وسوريا والعراق واليمن وإيران.
كذلك يؤكد بلينكن أن المؤسسات الدولية التي صُممت بعد الحرب العالمية الثانية جعلت من الحكمة استخدامها، وبالتالي فإن السياسة المثالية تقتضي الاستعانة بهذه المؤسسات النقدية والاقتصادية والعدلية.
لكن الإخفاق الأميركي، بل ما يراه كثيرون تواطؤا من الخارجية الأميركية في فرض عقوبات على المؤسسات الدولية الداعمة للفلسطينيين، مثل الأونروا، أو حتى دعم إسرائيل بوصفها دولة مارقة على الفرار من المسؤولية الدولية والقانونية أمام محكمة العدل الدولية، أو مجلس الأمن الدولي، كلها تؤكد أن بلينكن استبدل بشعار أميركا أولا شعار إسرائيل أولا، لا سيما مع الضرر المتحقق من هذا الدعم على علاقة الولايات المتحدة بالعالم وموقفها في المستقبل.
يبدو بلينكن في هذه اللحظة موظفا مؤدبا ولطيفا بتعبير صحيفة بوليتيكو الأميركية، لا يريد أن يُغضِب أصدقاءه، ولا يبدو واعيا بتغير العالم من حوله وموقع الولايات المتحدة الجديد منه. لذلك، فإن السياسة الخارجية الأميركية تحت بلينكن تبدو معبرة بصدق عن اللحظة الأميركية الحالية، فشل متعدد الأوجه، يغلف بهدوء ظاهر، ويخفيه قوة عسكرية قاهرة. لكن إلى متى يمكن أن يستمر الوضع على تلك الحال؟ | https://www.aljazeera.net/politics/2024/8/27/%d8%a7%d9%84%d8%b5%d9%82%d8%b1-%d8%a7%d9%84%d9%84%d9%8a%d8%a8%d8%b1%d8%a7%d9%84%d9%8a-%d9%82%d8%b5%d8%a9-%d8%a3%d9%86%d8%aa%d9%88%d9%86%d9%8a-%d8%a8%d9%84%d9%8a%d9%86%d9%83%d9%86 | 2024-08-27T03:06:25 | 2024-10-15T02:14:37 | أبعاد |
Subsets and Splits